تعليقات
ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة كتاب الإجارة
القارئ: وهي بيع المنافع وهي جائزة في الجملة لقول الله تعالى (قَالَتْ
إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) الآيتين وقول الله تعالى (فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ) ولأن الحاجة إلى المنافع
كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز عقد البيع على الأعيان وجب أن يجوز عقد
الإجارة على المنافع.
الشيخ: استدل المؤلف رحمه الله على جواز الإجارة بالنص والقياس فالنص صريح
وهو قوله تعالى (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) وقوله
(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ) وأما القياس فهو أن
يقال إن الناس في حاجة إلى المنافع كما هم في حاجة إلى الأعيان فلما جاز
بيع الأعيان وجب أن يجوز بيع المنافع.
القارئ: وتنعقد بلفظ الإجارة والكرى لأنه لفظ موضوع لها وفي لفظ البيع
وجهان أحدهما تنعقد به لأنها صنف منه والثاني لا تنعقد به لأنها تخالفه في
الاسم والحكم فلم تنعقد بلفظه كالنكاح.
الشيخ: الظاهر أنها تصح بلفظ البيع إذا أضيف إلى المنافع بأن يقول بعت عليك
منافع هذا البيت لمدة سنة فلا مانع في أن نقول إنها إجارة صحيحة لأن هذا هو
الذي يدل عليه هذا العقد.
فصل
القارئ: وتجوز إجارة الظئر للرضاع والراعي لرعاية الغنم للآيتين.
الشيخ: قوله (الآيتين) هما قوله تعالى (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ) هذا في راعي الغنم وقوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ) هذا في الظئر أي المرضعة، والمعنى أنه يجوز أن
نستأجر امرأة ترضع هذا الطفل لأن الله نص على الجواز فقال الله تبارك
وتعالى (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) وسبحان الله إن
تعاسر الزوج والزوجة في إرضاع الطفل فإن الله تعالى سوف يجعل له من يرضعه
من غير أمه ولهذا أكد هذا الحكم فقال (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) وفي هذا
بشارة لمن عنده طفل وتعاسر مع أمه أن الله سيجعل له فرجاً وسترضع له امرأة
أخرى وفي عصرنا الحاضر والحمد لله هناك فرج آخر وهو الحليب الصناعي.
القارئ: واستئجار الدليل ليدل على الطريق
لأنه ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا رجلا رجل من بني
الديل هادياً خريتا والخريت الماهر بالهداية وهو على دين كفار قريش وأمناه
فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما
صبيحة ليال ثلاث فارتحلا) رواه أحمد والبخاري.
الشيخ: في هذه القصة جواز استئجار غير المسلم وائتمانه وفيها أيضاً الأخذ
بقوله لأن هذا الرجل مشرك ويدلهما في أخطر طريق بالنسبة لهما وهو طريق
الهجرة لأن قريشاً تطلب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر حتى
جعلت لمن أتى بهما مائتين من الإبل فيستفاد منه أنه يجوز أن يستأجر الإنسان
طبيباً كافراً لدوائه وهو أحد الأدلة التي استدل بها من يرى أنه يقبل قول
الطبيب في أن لا يصوم الإنسان وأن لا يصلي قائماً وأن لا يركع وأن لا يسجد
إذا كان الطبيب ثقة ولو كان كافراً وهو القول الراجح والعمل عليه الآن.
القارئ: وإجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقاء عينها
دائماً قياساً على المنصوص عليه وتجوز إجارة النقود للتحلي والوزن واستئجار
شجر ليجفف عليها الثياب والغنم لتدوس الزرع والطين لأنها منفعة مباحة يجوز
أخذ العوض عنها في غير هذه الأعيان فجاز فيها كالبيع.
الشيخ: قوله (إجارة النقود للتحلي) هل يتحلى بالنقود؟ الجواب نعم يُتحلَّى
بها وهو معروف عندهم في السابق وأدركنا شيئاً من ذلك فتنظم الدنانير في
قلادة وتحلى بها المرأة وقوله (والوزن) هل يوزن بالنقود؟ الجواب نعم يوزن
بها وأدركنا هذا أيضاً يقول لك مثلاً وزن الريال بكذا وكذا، قوله (واستئجار
شجر ليجفف عليها الثوب والغنم لتدوس الزرع والطين) الغنم تدوس الزرع وذلك
بأن ينشر الزرع وتمشي عليه حتى يتميز الحب من العصر وقوله (والطين) المقصود
به الحرث وذلك بأن تمشي عليه حتى تلينه بأظلافها.
القارئ: ولا يجوز عقدها على مالا نفع فيه
مثل أن يستأجر للزرع سبخة لا تنبت أو لا ماء لها يكفي فإن كان لها ماء
معتاد كماء العيون والأنهار والمد بالبصرة والمطر في موضع يكتفي به جاز وإن
كانت الأرض على نهر تسقى بزيادته كالنيل والفرات وتسقيها الزيادة المعتادة
جازت إجارتها لأن الغالب وجودها فهي كالمطر لغيرها وإن كان لا يسقيها إلا
زيادة نادرة فاستأجرها بعد الزيادة صح لأنها معلومة وإن استأجرها قبلها لم
يصح لأنه لا يعلم وجودها فهي كبيع الطير في الهواء وإن استأجرها ولم يذكرها
للزارعة وكانت تصلح لغيرها صح وإن لم تصلح لغيرها لم يصح لأن نفعها معدوم
وإن غرقت الأرض فاكتراها لزرع مالا ينبت في الماء كالحنطة وللماء مغيض يمكن
فتحه فينحسر الماء ويمكن زرعها صح لأنه يمكن زرعها بفتحه كما يمكن سكنى
الدار بفتحها وإن علم أنه ينحسر عادة صح لأنه يُعلم بالعادة إمكان الانتفاع
فإن لم يُعلم هل ينحسر أو لا لم يصح لما ذكرنا وإن اكترى أرضاً على نهر
تغرق بزيادته المعتادة لم يصح لأنه غير منتفع بها عادة فإن كانت بخلاف ذلك
صح.
الشيخ: الشرط الذي ذكره المؤلف هنا مهم فيشترط أن يعقد الإجارة على شيء
يمكن أن ينتفع به فإن لم يمكن لم تصح لأن ذلك من إضاعة المال وقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن إضاعته، وضرب المؤلف لهذا أمثله مثل أراضي لا يمكن
أن يأتيها النهر والمطر فيها قليل فكيف يستأجرها للزرع؟ أما لو أستأجرها
وأطلق وهي تصلح للزرع وغيره فهذا لا بأس به والأمثلة التي ذكرها المؤلف وهي
واضحة.
فصل
القارئ: ولا يجوز عقد الإجارة على المنافع
المحرمة كالغناء والنياحة والزمر ولا إجارة داره لمن يتخذها كنسية أو بيت
نار أو يبيع فيها الخمر ونحوه لأنه محرم فلم تجز الإجارة لفعله كإجارة
الأمة للزنا ولا يجوز استئجار رجل ليكتب له غناء أو نوحاً أو شيئاً محرماً
لذلك ولا يجوز استئجاره ليحمل خمرا ليشربها لذلك وعنه فيمن حمل خنزيراً أو
ميتة لنصراني أكره أكل كرائه ولكن يُقضى له بالكراء وإذا كان لمسلم فهو أشد
قال القاضي هذا محمول على أنه استأجره ليريقها أما للشرب فمحظور لا يحل أخذ
الأجرة عليه.
الشيخ: هذا الفصل مهم جداً وهو أن جميع
المنافع المحرمة لا يجوز أخذ الأجرة عليها فمثلاً في الغناء لو استأجر
رجلاً يغني له غناء حراماً لم يجز وذلك لأن الغناء ليس كله حراماً لكن
المقصود هنا الغناء المحرم فلا يجوز لقول الله تعالى (وَلا تَعَاوَنُوا
عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَان) وهذا وقوع في التعاون على الأثم والعدوان
فلا يصح لأن كل ما نهى الله عنه بعينه فإن العقد عليه لا يصح، قوله
(والنياحة) وذلك بأن يستأجر نساء ينحن على ميته فهذا لا يجوز لأن النياحة
ملعون فاعلها فإذا استأجر نساءً تنوح على ميته فقد استأجرهن على عمل محرم،
قوله (الزمر) يعني الزمر بالمزمار كالموسيقى وشبهها فهذا أيضاً لا يجوز أخذ
الأجرة عليه، قوله (ولا إجارة داره لمن يتخذها كنيسة) وذلك بأن يستأجرها
النصارى ليتخذوها كنيسة يتعبدون لله تعالى فيها فهذا حرام أيضاً، ولو
استأجر دكاناً ليكون بقالة ومن مواد البقالة الدخان فهل يجوز أو لا؟ الجواب
إن شرط عليه أن لا يدخل فيه الدخان جاز وإلا فلا لأن هذا العقد جمع في صفقة
واحدة بين ما يجوز التأجير عليه ومالا يجوز، قوله (أو بيت نار) وذلك بأن
يجعلها بيت نار للمجوس يتعبدون لله فيها، قوله (أو يبيع فيها الخمر ونحوه
لأنه محرم فلم تجز الإجارة لفعله كإجارة الأمة للزنا) إجارة الإماء للزنا
حرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن مهر البغي) لكن لو استأجرها
للزنا وزنى بها أيقام عليه الحد أو لا؟ الجواب قال بعض أهل العلم أنه لا
يقام عليه الحد لأن هذه شبهة وقال آخرون بل يقام عليه الحد لأن تركه يؤدي
إلى أن يستأجر النساء ليزني بهن ثم يقول إن الحد لا يقام عليه، قوله (ولا
يجوز استئجاره ليحمل خمراً ليشتربها لذلك) أي لهذه العلة، قوله (وعنه فيمن
حمل خنزيراً أو ميتة لنصراني أكره أكل كرائه ولكن يقضى له بالكراء) الإمام
أحمد رحمه الله إذا قال أكره فهو للتحريم لأنه من ورعه لا يطلق التحريم إلا
فيما ثبت
تحريمه وأما ما لم يثبت فإنه يتورع فيقول
أكره وعلى هذا فهو يرى تحريم أكل الكراء لمن حمل خنزيراً أو ميتة لنصراني
فيرى الإمام أن أكله حرام، ولكن هل يرى أن لا يؤخذ من النصراني شيء؟ الجواب
لا بل يرى أنه يطالب بالكراء لأننا لو قلنا لهذا الرجل الكراء عليك حرام
يكون النصراني قد كسب وجمع بين العِوضِ والمُعوَّضِ لأن متاعه حمل إليه
والأجرة أسقطناها عنه وعلى هذا فنوجه هذه الرواية بأن يُأخذ الكراء من هذا
النصراني ولكن لا يأكله بل يتصدق به وهذا التوجيه متمشي على القواعد
الشريعة لأن تركه للنصراني يكون جمعاً له بين العوض والمُعوَّض ثم فيه
سخرية من النصراني بأن يلعب على ذقون المسلمين فنأخذ منه الأجرة ونقول
للرجل الذي حمل الخنزير والميتة هذا لا يطيب لك لأنه عوض منفعة محرمة وعليك
أن تتصدق به وكذلك أيضاً نقول مثل هذا في الربا إنسان مثلاً أعطى البنك
مائة ألف على أن يعطيه في كل مائة عشرة ريالات ثم تاب فهل نقول لا تأخذ من
البنك شيئاً؟ الجواب لا، بل نقول خذ منه لكن لا تحل لك لأنها أُخِذت بكسب
محرم بل تصدَّقْ بها، ثم هل تقبل الصدقة من الربا؟ الجواب نقول نعم تقبل
للتخلص منه فتقبل منه التوبة لا الصدقة لأنه لم يملكه حتى يتصدق به والمهم
أن الرواية عن الإمام أحمد متمشية تماماً على القواعد الشرعية وعليه فنقول
لو حمل خمراً لشخص فإنه لا يجوز لكن يقضى له بالأجرة ويتصدق بها، وأما حمل
القاضي رحمه الله هذا على أنه استأجره ليريقها فهذا لو فُرِضَ أي أنه
استأجره ليريقها فإن الإجارة صحيحة والأجرة حلال لأن هذا استئجار لإتلافها
لا لشربها لكن هذا الحمل من القاضي عفا الله عنه بعيد جداً من مراد الإمام
أحمد رحمه الله.
القارئ: وإن استأجر حجاماً ليحجمه جاز (لأن
النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره صاعين من طعام وكلم
مواليه فخففوا عنه) متفق عليه قال ابن عباس ولو كان حراماً ما أعطاه أجره
ويكره للحر أكل أجره لقول النبي صلى الله عليه وسلم (كسب الحجام خبيث وقال
أطعمه عبدك أو خادمك) وقال القاضي لا تصح إجارته لهذا الحديث.
الشيخ: الحجامة لا شك أنها دواء والذي يعتادها لا يمكن أن يصبر عنها والذي
لم يعتدها يمكن أن يصبر بدونها وعلى كل حال نقول الحجام هل له أن يأخذ
الأجرة أو لا، وهل استئجاره للحجامة جائز أو لا؟ الجواب احتجم النبي صلى
الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم
يعقد مع الحجام شيئاً حراماً ولهذا قال ابن عباس لو كان حراماً لم يعطه
وصدق رضي الله عنه ولكن كيف نجمع بين هذا الحديث الصحيح المتفق عليه وبين
قول النبي صلى الله عليه وسلم (كسب الحجام خبيث) نقول جمع بينهما بعض
العلماء وقال إنه هنا جهتين جهة للمحجوم فهذا لا يكره ولا يحرم عليه أن
يعطي الحجام أجره وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والجهة الأخرى جهة
الحاجم فإنه يقال له تَنَزَّه عنها لأن أخذ الأجرة عليها دناءة ولذلك أكثر
ما يكون الحجامون من الأرقاء وأشبهاهم فينبغي أن يترفع الإنسان عنها فيكون
المراد بالخبث في قوله (كسب الحجام خبيث) ليس الخبث الشرعي لكنه الخبث
العرفي أو الخبث بمعنى الرديء كما قال الله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وهذا جمع حسن، وهو أحسن مما لو جمع الإنسان
بينهما فقال كسب الحجام إذا تعينت عليه الحجامة خبيث لأنه إذا تعينت عليه
الحجامة يجب عليه إنقاذ المريض فأحياناً الذين اعتادوا الحجامة يغشاهم الدم
حتى يسقطوا صرعى وحينئذ يتعين على العارف بالحجامة أن يحجمهم فإذا أخذ
الأجرة على هذا فهو خبيث خبث تحريم لأنه يجب عليه إنقاذه.
السائل: لماذا لا يكون عمل الحجام مثل
الطبيب لأن الطبيب يداوي الناس ويأخذ الأجرة فكذلك الحجام؟
الشيخ: لأن عمل الحجام عوض عن استخراج دم، ثم هو كما قلنا أنه خبيث عرفاً
ودناءة وليس خبيث شرعاً وحينئذ لا نقول إنه مكروه.
السائل: هل التبرع بالدم يكون مثل الحجامة؟
الشيخ: لا، التبرع بالدم من الإحسان إلى الغير فإذا وجدنا مريضاً محتاجاً
إلى دم ووجدنا شخصاً آخر يوافق دمه دم هذا المريض لأن الدماء تختلف وقال
الأطباء إن أخذ الدم من هذا وإعطاءه المريض لا يضر بالصحيح شيئاً فإنه لا
شك أن هذا من الإحسان أن يتبرع الإنسان لأخيه.
السائل: ما هو الفرق بين من أجر محلاً لشخص وفعل فيه محرم أو باع فيه محرم
وبين من أجره بيتاً للسكن ففعل فيه محرم؟
الشيخ: الفرق بينهما نقول إذا استأجر شخص من آخر داره ليجعلها كنيسة فهذا
حرام لأن المنفعة التي استأجر من أجلها البيت منفعة محرمة وإذا استأجر هذا
البيت ليسكنه لكن فعل فيه محرم فهذا أصل العقد فيه حلال.
السائل: وإن أجره له على أنه دكان وباع فيه الدخان فما هو الحكم؟
الشيخ: إذا علمنا بالعرف المطرد أن أصحاب البقالات لابد أن يكون عندهم دخان
فحينئذ يشترط عليه ألا يبيع الدخان في الدكان.
فصل
القارئ: ولا تجوز إجارة الفحل للضراب لما روى ابن عمر رضي الله عنه (أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل) أخرجه البخاري ولأن المقصود
منه الماء الذي يخلق منه الولد وهو محرم لا قيمة له فلم يجز أخذه عوضه
كالدم.
الشيخ: إجارة الفحل للضِّرَاب ثبت النهي
عنها لما فيها من قطع المروءة بين الناس ولأن هذا الجمل إما أن يتضرر
بالضِّرَاب أو لا يتضرر فإن تضرر بالضِّرَاب فليمنعه أصلاً من الضِّرَاب
وإن كان لا يتضرر فلا يمنعه، لكن بعض الناس يقول أنا لا أريد أن أعوِّدَ
الجمل الضِّرَاب أو الحمار النَّزْوَ لأنِّي إذا عَوَّدْتُهُ ذلك صار صعب
الشكيمة متى رأى أنثى ذهب يركض إليها وترك صحابه فيقول أنا لا أدعه يضَّرَب
إلا بفلوس، نقول هذا لا يجوز وإما أن تمنع ولك المنع ولا أحد يقول لابد أن
تبذل عسب الفحل وإما أن لا تمنع ولكن بدون عوض.
القارئ: ولا يجوز إجارة النقود ليجمل بها الدكان لأنها لم تخلق لذلك ولا
تراد له فبذل العوض فيه من السفه وأخذه من أكل المال بالباطل وكذلك استئجار
الشمع للتجمل به أو ثوب ليوضع على سرير الميت لا يجوز ذلك.
الشيخ: كل هذه لا تجوز لأنها لا داعي لها ولا مصلحة فيها للإنسان فمثلاً
استأجر النقود والمقصود بالنقود الدراهم والدنانير فهو استأجر النقود من
أجل أن يُجمِّل بها دكانه فيصفها مثلاً على سقف الباب حتى يقول الناس إن
هذا الرجل غني فيُجمِّل بها الدكان فهذا لا يجوز كما علل المؤلف رحمه الله
بأنها (لم تخلق لذلك) يعني أنها لم تُصنع لهذا وإنما صنعت للتداول والوصول
بها إلى الحاجات من بيع أو إجارة وقال المؤلف أيضاً (ولا تراد له فبذل
العوض فيه من السفه وأخذه من أكل المال بالباطل) ثم قال المؤلف (كذلك
استئجار الشمع للتجمل به) نقول استئجار الشمع مشكل لأنه لا يمكن أن ينتفع
به إلا بعد تلفه لأن الشمع يذوب ويضمحل لكن لو فُرِضَ أنه استأجر شمعاً
يصفها مثلاً على الدكان حتى يقول الناس إن هذا الدكان دكان واسع فيه الشموع
وما إلى ذلك، فنقول كل شيء لا يراد وإنما هو للفخر والخيلاء فإنه لا يجوز
استأجره.
فصل
القارئ: ولا يجوز عقد الإجارة على ما تذهب
أجزاءه بالانتفاع به كالمطعوم والمشروب والشمع ليسرجه والشجر يأخذ ثمرته
والبهيمة يحلبها لأن الإجارة عقد على المنافع فلا تجوز لاستيفاء عين كما لو
استأجر ديناراً لينفقه إلا في الظئر تجوز للرضاع لأن الضرورة تدعو إليه
لبقاء الآدمي ولا يقوم غيرها مقامها.
الشيخ: لا يجوز استئجار شيء لا يمكن الانتفاع به إلا بإتلافه مثل الشمع
فإذا استأجر شمعاً لأجل أن يوقده فهذا لا يجوز وحتى لو أنه اشترى الشمع
وقال اشتري الحبة مثلاً بعشرة ريالات وما ذاب بالإحراق فهو بقسطه من الثمن
فقال الفقهاء إن هذا حرام أيضاً لأنه لا يدرى ما الذي يبقى فالشمعة الطويلة
مثلاً إذا اشتراها وقال إني اشتريها منك بعشرة ريالات على أن ما بقي منها
أرده عليك بقسطه من الثمن فهذا لا يجوز لما فيه من الجهالة فيما يبقى وعلى
هذا فلا طريق إلا أن يشتري الشمع شراء باتاً وما بقي فهو له وما تلف فهو
عليه، لكن بعض العلماء يقول إنه لا بأس بأن يستأجر الشمعة ليشعلها لأن ما
يحصل من الإضاءة بمنزلة المنفعة فإذا استأجر هذه الحبة مثلاً بعشرة ريالات
ليشعلها فلا بأس، ثم ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يجوز استئجار البهيمة
ليحلبها لأن المستأجر الآن هو اللبن ولا يمكن استيفاؤه إلا بإتلافه ولكن
هذا القول ضعيف جداً، أولاً: أنه لا دليل على المنع والأصل في المعاملات
الإباحة.
ثانياً: أن هذه العين وهي اللبن عين يخلفها عين أخرى فإذا حلب جاء بدلها
حليباً فهذه الأعيان التي تُخْلَفُ ويأتي بدلها شيء آخر تعتبر كالمنافع.
ثالثاً: أن الله عز وجل أجاز أن تستأجر
المرأة لتُرْضِع الطفل فقال الله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وأيُّ فرق بين لبن المرأة ولبن الشاة لكن
الفقهاء قالوا لأن حرمة الآدمي أعظم ولو منعنا استئجار المرأة _ وتسمى
الظئر وهي المرضع _ لو منعاه لتلفت بذلك نفس آدمي وهذا ليس كتلف البهيمة،
والعجب أن بعض الفقهاء قال إن المعقود عليه في الظئر هو حملها للطفل ووضعه
على فخذيها وإلقامه الثدي وهذه منافع وليس المعقود عليه هو اللبن لكن، يقال
لهم لو جاءت عجوز قد غار لبنها وقالت أنا سأعمل لهذا الصبي هذا العمل فأضعه
على فخذي وألقمه الثدي الذي لن يجد فيه شيئاً وأعطوني أجراً على ذلك فهل
ستعطى الأجرة كالظئر أو لا؟ الجواب أننا لا نعطيها ولا شك لأن المعقود عليه
في الظئر هو اللبن وهذه الأعمال إنما هي أعمال للوصول إلى استيفاء المنفعة
والكل يعرف أن المقصود هو اللبن فنقول إذا جاز الاستئجار في الظئر وهي
المرضعة مع أن لبنها يشربه الطفل فكذلك استئجار الحيوان لأخذ لبنه ولا فرق
وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والقاعدة
عندنا أن الأعيان التي يَخلُف بعضها بعضاً يجوز عقد الإجارة عليها، وهنا
مسألة وهي استئجار النخل لثمره مثل أن يستأجر شخص هذا الحائط كل سنة بعشرة
آلاف والثمر له أي للمستأجر وصاحب النخل ليس له إلا عشرة آلاف فهل يجوز أو
لا؟ المؤلف يقول لا يجوز والصحيح أنه جائز لأن هذا يشبه الاستئجار على
الرضاعة، ولأن فيه راحة لصاحب البستان وللمستأجر لأن المساقاة على هذا
النخل يكون فيها إشكال في التصرف وفي ضمانها وعند القسمة وأما التأجير فليس
فيه أي شيء فيقول المستأجر لصاحب البستان استأجرته منك كل عام بعشرة آلاف
فأعطيك عشرة آلاف ولي ثمره، وهذه المسألة فيها خلاف فالمذهب أنه لا يجوز
لأنه يؤدي إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحه والصحيح أنه جائز وقد فعله أمير
المؤمنين عمر
رضي الله عنه _ في تضمين حديقة أسيد بن
الحضير رضي الله عنه حيث كان له غرماء فضمَّنه _ أي ضمَّن الحديقة شخصاً
يدفع كل سنة كذا وكذا والثمرة له.
فصل
القارئ: ولا تجوز إجارة ما يسرع فساده كالرياحين لأنه لا يمكن الانتفاع بها
مع بقاء عينها دائما فجرت مجرى المطعوم فإن كانت مما تبقى عينه دائماً
كالعنبر جازت إجارته للشم لما تقدم.
الشيخ: ذكر المؤلف هنا منفعة مقصودة وصورة المسألة استأجر إنسان عنبراً
وجعله مثلاً في الحجرة أو في مجلس الرجال من أجل رائحته فلا بأس به لأنه لا
يتلف شيء من أجزائه.
فصل
القارئ: وما يختص فاعله أن يكون من أهل القربة وهم المسلمون كالحج وتعليم
القرآن ففيه روايتان إحداهما يجوز الاستئجار عليه لقول النبي صلى الله عليه
وسلم (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) رواه البخاري وأباح أخذ الجعل
عليه ولأنه فعل مباح فجاز أخذ الأجرة عليه كتعليم الفقه والثانية لا يجوز
لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص (واتخذ مؤذناً لا يأخذ
على أذانه أجرا) رواه أبو داود ولأنه لا يقع إلا قربة لفاعله فلم يجز أخذ
العوض عليه كالصلاة فأما الاستئجار لتعليم الفقه والشعر المباح فيجوز لأن
فاعله لا يختص أن يكون من أهل القربة فجاز كبناء المساجد وفي إجارة المصحف
وجهان بناءً على بيعه.
الشيخ: هذا فصل مهم فالأشياء التي لا تقع
إلا قربة ويشترط أن يكون فاعلها مسلماً هل يصح أخذ الأجرة عليها أو لا؟
الجواب إذا كان نفعها متعد فلا بأس وإن كان غير متعد فلا، فلو قال شخص لآخر
استأجرني لأصلِّ لك فهنا لا يصح لأن الصلاة لا تكون للغير، وأما إذا كان
نفعاً متعدياً كتعليم القرآن والآذان والحج ففي ذلك روايتان عن أحمد رحمه
الله رواية أنه لا بأس به واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
(إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ولأن هذا المستأجر عمل عملاً يحتاج
إلى الأجرة عليه، وأما إذا أردتُ أن أستأجر رجلاً يقرأ القرآن ويكون ثوابه
لي فإنه لا يجوز لأن قراءة القرآن لا تقع إلا قربة وبهذا نعرف ضلالة هؤلاء
القوم الذين يستأجرون القراء أيام موت القريب من أجل أن يقرؤوا فإن هذا
محرم من وجهين الوجه الأول أنهم أغروا هذا القارئ أن يقرأ بعوض والوجه
الثاني إضاعة المال لأن هذا القارئ لا ثواب له وإذا لم يكن له ثواب لم
ينتفع الميت بذلك فالميت لا ينتفع بالفلوس وإنما ينتفع بالثواب وهذا القارئ
ليس له ثواب فيكون ذلك من باب إضاعة المال، ولكن لو أتينا إلى شخص وقلنا
أقرأ على هذا اللديغ فقال لا أقرأ إلا بكذا فهل يجوز هذا أو لا؟ الجواب
يجوز لأن نفعه متعد وهذا قد وقع من الصحابة رضي الله عنهم وأقره النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم حين بعث بعثاً فنزلوا على قوم فاستضافوهم ولكن
القوم كانوا بخلاء قالوا ارجعوا وراءكم ما عندنا لكم ضيافة فتنحوا ناحية
وسلط الله على سيدهم عقرباً فلدغته وكانت شديدة فجعل الرجل يتقلب كأنه في
مقلاة فقالوا اسألوا هؤلاء القوم لعل فيهم قارئاً يقرأ فجاءوا إلى الصحابة
فقالوا هل فيكم من راق فإن سيدنا قد لُدِغَ قالوا نعم فينا راقٍ لكن لا
يقرأ إلا بكذا وكذا من الغنم فقالوا نعطيكم ما شئتم فذهبوا وجعل أحدهم يقرأ
على هذا اللديغ بسورة الفاتحة حتى قام كأنما نَشِطَ من عقال، فالأمر بيد
الله عز وجل والله سبحانه وتعالى يقول
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً
مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) فقام الرجل كأنما نَشِطَ من عقال
وأعطوهم الجُعل، فهؤلاء قالوا ما نقرأ إلا بجُعل لأن هذا عمل متعد، لكن
أشكل الأمر على الصحابة رضي الله عنهم أن يأكلوا منها وكأنهم تحرجوا حتى
قدموا على النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم وأخبروه فقال (كلوا _أو قال_
خذوا واضربوا لي معكم بسهم) وطَلَبُهُ صلى الله عليه وسلم أن يُضْرَب له
بسهم لزيادة الطمأنينة في نفوس الصحابة ولا شك أن الفعل يزيد الإنسان
طمأنينة أكثر فقال (خذوا واضربوا لي بسهم).
فهذا الفصل فيما يصح الأجرة عليه من أعمال
القُرب ضابطه أن ما يختص بالفاعل لا يجوز أخذ العوض عنه كما لو استأجر
شخصاً يصلي فقال صلِّ عني وسأعطيك على كل ركعة درهماً، فهذا لا يجوز ولا
إشكال فيه لأنَّ نفعه لا يتعدى بل هو قاصر على من فعله فهذا الذي استأجره
لن يستفيد من عمله شيئا فالصيام أو الحج لا تدفع الأجرة فيه أما ما كان
متعدياً كتعليم القرآن فإن تعليم القرآن لا شك أنه من القُربِ قال النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) لكن إذا استأجر
شخصاً يعلمه القرآن ففيه خلاف والصحيح أنه جائز لأن التعليم متعدٍّ لا يختص
بالمعلم بل يتعدى إلى المتعلم، أما الحج ففيه روايتان كما قال المؤلف رحمه
الله فمن العلماء من قال يجوز الاستئجار للحج بمعنى أنه يجوز أن تعقد عقد
إجارة مع شخص أن يحج لك وهذا إن كان فريضة فإنه لابد من شروط وهو أن يكون
هذا المستأجر عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله وإن كان نافلة فهو لا يشترط أن
يكون عاجزاً لكن قد اختلف العلماء رحمهم الله في جواز الاستنابة في نفل
الحج والقول بأنه لا يجوز الاستنابة في نفل الحج قول قوي لأننا نقول لهذا
الذي يريد أن يقيم غيره يحج عنه نفلاً نقول إن كنت قادراً فحج وإلا فلا تحج
لأن هذه عبادة، لكن في وقتنا الحاضر بالنسبة للحج لا يجد شخص أحداً يحج عنه
إلا بأجرة فتجد مثلاً يكون بينهما عقد فيقول استأجرتُ فلاناً يحج عني
الفريضة أو يحج عن أبي أو أمي أو ما أشبه ذلك.
وخلاصة البحث أن ما كان نفعه متعدياً جاز
أخذ الأجرة عليه وما لم يكن فإنه لا يجوز أن تؤخذ الأجرة عليه لكن يجوز
المكافئة فتقول مثلاً يا فلان حج عني ثم إذا رجع تكافئه أو تقول مَنْ يحج
عني بكذا فتكون جَعَالةً، وأما قوله رحمه الله (وفي إجارة المصحف وجهان
بناءً على بيعه) نقول هل بيع المصحف جائزٌ أو لا؟ الجواب: المذهب أن بيعه
حرام وأن من استغنى عنه وجب عليه بذله لغيره ولا يصح البيع أيضاً لكن هذا
القول ضعيف فما زال المسلمون يتبايعون المصاحف وما يروى عن عبد الله بن عمر
(وددت أن الأيدي تقطع في بيعه) أي المصحف فهذا محمول على ما إذا وجبت
إعارته فإنه إذا وجبت إعارته فإنه لا يجوز بيعه لكن هذا نادر خصوصاً في
عهدنا والحمد لله الآن المصاحف كثيرة ولا يمكن أن نقول للناس لا تبيعوا،
فالصواب جواز بيع المصحف وصحة العقد على بيعه وكان الناس فيما سبق لورعهم
نسمعهم ونحن صغار يقول من يشتري البطاعة والبطاعة هي الجلد الذي يكون على
المصحف، والمسألة ليست من باب الخداع لكنه من باب الورع ولكن على كل حال
الصواب أن بيع المصحف وشرائه وتأجيره للقراءة فيه جائز ولا بأس به.
فصل
القارئ: قال بعض أصحابنا لا يجوز إجارة المشاع لغير الشريك إلا أن يؤجراه
معاً لأنه لا يمكنه تسليم حصته إلى المستأجر إلا بموافقة الشريك وقال أبو
حفص يجوز لأنه يصح بيعه ورهنه فصحت إجارته كالمفرد.
الشيخ: هذه المسألة وهي إجارة المشاع قد
يتردد فيها الإنسان فمثلاً هذه عمارة بين رجلين كل واحد له نصفه فأجَّر
أحدهما نصيبه على صاحبها فهذا جائز لا إشكال فيه ويكون الشريك مالك للمنفعة
أي منفعة العمارة كلها فبالنسبة لنصيبه يملك العين والمنفعة وبالنسبة لنصيب
شريكه يملك المنفعة دون العين هذا لا إشكال فيه لكن إذا أجر أحد الشريكين
شخصاً آخر فهل يصح هذا أو لا؟ المؤلف يقول رحمه الله (قال بعض أصحابنا)
وظاهر كلامه في مثل هذا السياق أنه يجوز ويُنَزَّلُ المستأجر منزلة المؤجر
في استيفاء المنفعة وهذا أقرب إلى الصواب فإذا قال قائل هل يملك الشريك
الشفعة؟ فالجواب الشفعة إنما تجب فيما إذا انتقل ملك العين، وأما الإجارة
ليس فيها انتقال ملك عين بل ملك منفعة فقط، لكن في قول آخر في الإجارة تثبت
بها الشفعة.
فصل
القارئ: ولا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي نص عليه لأن علياً رضي الله عنه أجر
نفسه يهودياً يسقي له كل دلو بتمرة وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فلم
ينكره وأكل أجرته ولا يؤجر نفسه لخدمته لأنه يتضمن إذلال المسلم للكافر فلم
يجز كبيعه إياه ويتخرج الجواز لأنه عاوضه عن منفعة فجاز كإجارته لعمل شيء.
الشيخ: هل يجوز للإنسان أن يكون أجيراً عند
كافر؟ الجواب نقول أما إذا كان العمل مستقلاً فلا بأس كما لو استأجره
الكافر ليعمل له بيتاً أو يصنع له مصنعاً وما أشبه ذلك، وعمل الناس اليوم
على هذا فإن كثيراً من الشركات رؤساءها كفار، وأما إذا كان لعمل مباشر لهذا
الكافر بمعنى أن يكون خادماً له مباشراً فذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يجوز
لأن في ذلك إذلالاً للمسلم وهذا صحيح أن فيه إذلال فكيف تكون خادماً للكافر
قد يقول لك في يوم من الأيام يا فلان هات الحذاء ضعها أمامي أو يقول مثلاً
هات مفتاح السيارة وإذا تباطأ انتهره وهذا فيه إذلال للمسلم فالصواب أن
العمل الخاص لا يجوز للمسلم أن يكون أجيراً فيه لكافر أما العمل العام فلا
بأس.
فصل
القارئ: والإجارة على ثلاثة أضرب إجارة عين معينة كالدور وموصوفة في الذمة
كبعير للركوب وعقد على عمل في الذمة كخياطة ثوب وحمل متاع لأن البيع يقع في
عين حاضرة وموصوفة ومقدر معلوم كقفيز من صبرة فكذلك الإجارة.
الشيخ: الإجارة على ثلاثة أقسام: المعينة والموصوفة في الذمة وعمل في
الذمة، فالمعينة بأن يقول أجرتك هذا البيت أو أجرتك هذه السيارة أو أجرتك
هذا المتاع فهذا عقد على عين معينة، والموصوفة كأجرتك بعيراً أو سيارة إلى
مكة أو إلى المدينة فهذا جائز فأنا لم أعين السيارة ولكن جعلتها موصوفة في
الذمة، وعلى عمل في الذمة كخياطة الثوب وحمل متاع فهذه ثلاثة أضرب.
القارئ: فإن كانت الإجارة لعين معينة اشترط معرفتها برؤية أو صفة إن كانت
تنضبط بالصفات كالحيوان فإن لم تنضبط كالدار والأرض فلابد من رؤيتها كما
يشترط ذلك في البيع.
الشيخ: إذا كانت الإجارة لعين معينة اشترط
معرفتها برؤية أو صفة قوله (برؤية) وذلك بأن يشاهد البيت الذي يستأجره
للسكنى أو (بصفة) إن كانت تنضبط بالصفة والذي ينضبط بالصفة كالحيوان ونقول
نحن الآن بدله كالسيارة وأما الدار والأرض فلا يمكن أن تنضبط فأنا لو بقيت
أصف شقة من الشقق أكثر من ساعة أو ساعتين فإنك لا تتصورها، ثم إن البيوت
أيضاً والشقق تختلف باختلاف الراحة النفسية وانشراح الصدر ولذلك لا يجوز
تأجير البيوت إلا بعد رؤيتها فلو قال عندي لك شقة تشتمل على غرفتين ومجلس
ومطبخ وفيها نوافذ كذا وكذا فأنت الآن تصورتها تصوراً إجمالياً فإنه لا يصح
عقد الإجارة عليها حتى تذهب وتنظر إليها.
القارئ: وفي استئجار عين لم يرها ولم توصف له وجهان بناءً على بيعها.
الشيخ: الوجه الأول أنه يجوز وللمشتري خيار الرؤية إذا رآها فإذا قلنا
بجواز بيع العين الموصوفة قلنا بجواز إجارة العين الموصوفة ثم للمستأجر
الخيار إذا رأى، وهذا قول جيد وفيه منفعة للناس وتوسيع عليهم.
القارئ: ويشترط معرفة المنفعة فإن كان لها عرف كسكنى الدار لم يحتج إلى
ذكرها لأنها لا تكترى إلا لذلك فاستغني عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق في موضع
فيه نقد معروف وإن اكترى أرضاً احتاج إلى ذكر ما يكتري له من غراس أو بناء
أو زرع.
الشيخ: قوله (فإن كان لها عرف كسكنى الدار) سُكنى الدار معروف فيقول
استأجرت الدار لأسكنه ومعروف أن السكن يكون بأن يسكن فيه هو وأولاده وما
أشبه ذلك لكن لو استأجرها للسكنى وجعلها معرض للتجارة فللمؤجر أن يمنعه
ويقول له: إن السكنى غير كونها معرض للتجارة.
القارئ: لأنها تكترى لذلك كله وضرره يختلف
فوجب بيانه فإن أجرها للزرع مطلقاً صح وله زرع ما شاء لأنه يجوز أن
يستأجرها لأعظم الزرع ضررا فإذا أطلق العقد تناوله بإطلاقه ودخل فيه ما
دونه وإن قال لتزرعها ما شئت فهو أولى بالصحة لتصريحه بذلك وإن اكتراها
لزرع معين فله زرعه ومثله في الضرر ودونه لأن الزرع إنما ذكر لتقدير منفعة
الأرض فلم يتعين كما لو اكترى للسكنى كان له أن يسكن غيره وإن قال لتزرعها
أو تغرسها لم يصح لأنه لم يعين أشبه ما لو باعه أحد هذين العبدين وإن قال
لتزرعها وتغرسها ما شئت صح وله ما شاء منهما لأنه جعلهما له فملكهما كالنوع
الواحد.
فصل
القارئ: وإن اكترى ظهراً للركوب اشترط معرفته برؤية أو صفة لأنه يصح بيعه
بهما وذكر المهملج والقطوف من الخيل لأن سيرهما يختلف ومعرفة ما يركب به من
سرج أو غيره لأنه يختلف بالمركوب والراكب ولا يحتاج إلى ذكر الذكورية
والأنوثية لأن التفاوت بينهما يسير وقال القاضي يفتقر إلى معرفته
لتفاوتهما.
الشيخ: ذكر المؤلف أنه لا يشترط ذكر الذكورة والأنوثة فلا يختلف الجمل
والناقة في ذلك، والصحيح أنه يختلف اختلافاً عظيماً ولهذا لا شك أن قول
القاضي هو الصواب وأنه لا بد من ذكر الذكورة والأنوثة لأن الجمل صعب ومتعب
والناقة أسهل وأذل منه وهذا إذا استأجره للركوب والسفر فإذا استأجر لابد أن
يقول ذكر أو أنثى أما لو أن الإنسان أراد أن يحمل عليه شيئاً فلا شك أن
الجمل أفضل لأنه أقوى.
القارئ: ولابد من معرفة الراكب برؤية أو صفة ذكره الخرقي لأن الصفة تكفي في
بيع مثله وقال الشريف لا يجزئ فيه إلا الرؤية لأن الصفة لا تأتي عليه.
الشيخ: الغالب أن هذا يُتسامح فيه لأن الفرق بين الرجال من جهة الجسم في
الغالب قليل.
القارئ: ولابد من معرفة المحامل والأغطية
والأوطئة والمعاليق كالقدر والسطيحة ونحوهما إما برؤية أو صفة أو وزن وإن
اكترى ظهراً لعمل في مدة كالحراثة والدياس والسقي والطحن اشترط معرفة الظهر
بالتعيين أو بالصفة لأن العمل يختلف باختلافه وإن استأجره على عمل معين
كحراثة قدر من الأرض ودياس زرع معين وطحن قفزان معلومة لم يحتج إلى معرفة
الظهر لأنه لا يختلف ويحتاج في الطحن إلى معرفة الحجر وفي السقي إلى معرفة
البئر والدولاب لأنه يختلف وإن اكترى لحمل متاع لم يحتج إلى ذكر جنس الظهر
لعدم الغرض في معرفته ويشترط معرفة المتاع برؤية أو صفة فيذكر جنسه من حديد
أو قطن أو نحوه لأن ضرره يختلف وقدره بالوزن إن كان موزونا أو بالكيل إن
كان مكيلا لأن البيع يصح بكلا الطريقتين.
الشيخ: أيهما أهون في الحمل الحديد أو القطن؟ الجواب الواقع أن كل واحد
أحسن من الثاني من وجه فمن جهة القطن يكون كبير فيتعب الناقة في مقابلة
الهواء ولا سيما إذا كان متحرك فتتعب جداً لأنه يصطدم بالحمل وتتكلف وأما
الحديد فصغير الحجم، وأما من جهة الاتكاء على الظهر فالحديد أشد وأما القطن
فيكون منبسطاً على جميع الظهر فيكون أهون ولذلك لابد أن يذكر نوع المحمول.
مسألة: كل من أعد نفسه للعمل من وَرَّاش أو غَسَّال أو كَنَّاس أو غيرهم لا
بأس أن تَعقِد معه بدون أن تُحَدِّدَ الأجرة وله أجرة المثل وذلك لأنه قد
أعد نفسه لهذا العمل.
مسألة: المستأجر يضمن إذا حَمَّلَ البعير فوق طاقته بل وإذا حَمَّلَه فوق
ما يتعارف الناس عليه وإن كان يطيقه فإنه يعتبر متعدياً وعليه الضمان بكل
حال.
القارئ: وإن ذكر وزن المكيل فهو أحصر وإن
دخلت الظروف في وزن المتاع استغني عن ذكرها وإن لم تدخل وكانت معروفة لا
تختلف كثيراً صح من غير تعيينها لأن تفاوتها يسير وإن اختلفت كثيراً اشترط
معرفتها بالرؤية أو الصفة لذلك ولو اكترى ظهراً ليحمل عليه ما شاء لم يصح
لأنه يدخل في ذلك ما يقتل البهيمة وإن شرط أن يحمل عليها طاقتها لم يصح
لأنه لا ضابط له.
فصل
القارئ: وإن استأجر راعياً مدة صح لأن موسى عليه السلام أجر نفسه لرعاية
الغنم ثماني سنين ويشترط معرفة الحيوان لأن لكل جنس تأثيراً في إتعاب
الراعي ويجوز أن يكون على معين وعلى موصوف في الذمة فإن كان على موصوف في
الذمة اشترط ذكر العدد لأن العمل يختلف به وإن استأجر ظئراً اشترط معرفة
الصبي بالتعيين لأن الرضاع يختلف به ولا تأتي عليه الصفة وإن استأجر رجلاً
ليحفر له بئراً أو نهراً اشترط معرفة الأرض لأن الغرض يختلف باختلافها
ومعرفة الطول والعرض والعمق لأن الغرض يختلف بذلك كله وإن استأجره لبناء
حائط اشترط ذكر طوله وعرضه وعلوه وآلته من لبن أو طين أو غيره لأن الغرض
يختلف بذلك كله وإن استأجره لضرب لبن اشترط معرفة الماء والتراب والطول
والسمك والعرض والعدد وعلى هذا جميع الأعمال التي يستأجر عليها فإن كان في
ما يختلف فيها الغرض ما لا يعرفه رجع فيه إلى أهل الخبرة به ليعقد على شرطه
كما لو أراد النكاح من لا يعرف شروطه رجع إلى من يعرفه ليعرِّفه شروطه وإن
عجز عن معرفته وكَّل فيه من يعرفه ليعقده.
الشيخ: إذا كنتَ لا تعرف الشيء وَكِّل مَنْ يعرف وهو بالنسبة لك مجهول
وبالنسبة للوكيل معلوم وهذه من الحيل الجائزة فإذا أراد أن يبيع عليَّ متاع
في بيتي وأنا لا أعرفه فإنني أُوَكِّلُ إنساناً وأقول له وَكَّلْتُك يا
فلان بأن تشتري لي المتاع الذي عند هذا الرجل فيذهب الوكيل ويطلع عليه
ويعرفه.
فصل
القارئ: ويشترط معرفة قدر المنفعة لأن
الإجارة بيع والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر ولمعرفتها طريقان أحدهما
تقدير العمل كخياطة ثوب معين والركوب أو حمل شيء معلوم إلى مكان معين
والثاني تقدير المدة كسكنى شهر فإن كانت المنفعة لا تتقدر بالعمل كالتطيين
والتجصيص فإن مقدراه يختلف في الغلظ والرقة وما يروي الأرض من الماء يختلف
باختلاف الأرض واحتياجها إلى الماء وما يشبع الصبي في الرضاع يختلف باختلاف
الصبيان والأحوال والسكنى ونحوها فلا يجوز تقديره إلا بالمدة لتعذر تقديره
بالعمل وما يتقدر بالعمل كاستئجار الظهر للحرث والحمل والطحن والدياس
والعبد للخدمة جاز تقديره بالعمل فإن شرط تقديره بالعمل والمدة فقال
استأجرتك لتحرث لي هذه الأرض في شهر لم يصح لأنه إن حرثها في أقل من شهر أو
فرغ الشهر قبل حرثها فطولب بتمام ما بقي كان زيادة على المشروط وإن لم يتمم
كان نقصا وعن أحمد ما يدل على الصحة لأن الإجارة معقودة على العمل والمدة
مذكورة للتعجيل فجاز كالجعالة.
الشيخ: قوله (لم يصح) نقول هذه الرواية غير
صحيحة ولا شك أنها غير صحيحة وعليها العمل الآن فأنت تستأجر هذا الرجل يبني
لك البيت وتذكر أوصاف البناء فتقول في خلال ستة أشهر فالمذهب أنه لا يجوز
أن يجمع بين تقدير المدة والعمل لأنه مشكل إن انتهى العمل قبل المدة بقي
باقي مدة ليس له أجرة وإن تمت المدة قبل انتهاء العمل بقي باقي العمل ليس
له أجرة فيقولون إنه لا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل، والصحيح
الرواية الثانية عن أحمد وهي التي عليها العمل اليوم أنه يجوز الجمع بين
تقدير المدة والعمل فأقول لهذا المقاول خذ هذا البيت ابنه لي في ستة أشهر
وأُقدِّرُ العمل كل متر بكذا وكذا وهذا الذي عليه عمل الناس، الآن لكن هنا
طريقةٌ الآن يستعملها بعض الناس يقول إذا انتهت المدة ولم تنجز العمل فعليك
خصم لكل شهر كذا أو لكل يوم كذا فهل يجوز هنا أو لا؟ هذا نرى أنه فيه تفصيل
إذا قَدَّرَ مدة يمكن أن ينقضي فيها العمل فلا بأس وإذا قَدَّرَ مُدَّةً
إنجازُ العمل فيها يعتبر نادراً فإنه لا يجوز لأنه مخاطرة، ونضرب لذلك
مثلاً فنقول: هذا بيت أعطيته المقاول وجعلت المدة سنة ومثل هذا البيت يمكن
أن يبنى في سنة بدون مشقة فقلت له إن انتهت المدة ولم تكمل البناء فعليك
خصم، فهذا جائز ولا بأس به لأن الفائدة من الخصم هو أن ينجز العمل في خلال
المدة المقدرة، أما لو قلت ابني لي هذا البيت في خلال ستة أشهر فإن انتهت
المدة فعليك خصم كل يوم كذا أو كل شهر كذا فهذا لا يجوز لأن هذا غرر فإنني
إذا أعطيته إياه في مدة ستة أشهر ستكون أجرته أكثر مما أعطيته إياه في سنة
وحينئذ إما أن يكون غانماً إن أنهى العمل في المدة المحددة وإما إن يكون
غارماً إن لم ينه العمل في المدة المحددة وعلى هذا فلابد من هذا التفصيل
وهو أنه إذا حدد مدة يمكن إنجاز العمل فيها على وجه معتاد فهذا لا بأس أن
يقول إن انتهت المدة ولم تنجز العمل فعليك خصم لأن الأجرة ستكون معتادة
وأما إذا قَدَّرَ مدة لا يمكن أن يوجد فيها
إلا على وجه نادر فهنا لابد أن تزيد الأجرة وحينئذ يكون إما غانماً وإما
غارماً إذا تأخر وخصم عليه.
القارئ: ويشترط فيما قدر بمدة معرفة المدة لأنها الضابطة للمعقود عليه فإن
قدرها بسنة أو شهر كان ذلك بالأهلة لأنها المعهودة في الشرع فوجب حمل
المطلق عليها فإن كان ذلك في أثناء شهر عد باقيه ثم عد أحد عشر شهراً
بالهلال ثم كمل الأول بالعدد ثلاثين يوما لأنه تعذر إتمامه بالهلال فكمل
بالعدد وحكي فيه رواية أخرى أنه يستوفي الجميع بالعدد لأنه يجب إتمام الشهر
مما يليه فيصير ابتداء الثاني في أثنائه وكذلك ما بعده.
الشيخ: هناك قول ثالث أصح مما ذكره المؤلف وهو أنه يعتبر بالأهلة حتى الشهر
الذي عقد في أثنائه يعتبر بالأهلة فإذا عقد في ستة عشر والمدة سنة فإنه
تنتهي في خمسة عشر من الشهر الذي هو آخر السنة حتى لو كان أكثر السنة تسعة
وعشرون يوماً أَشْهُرُهَا، فَثَمَّ إذاً ثلاثة أقوال القول الأول: أن يكمل
جميع الشهور بالعدد ثلاثين يوماً والثاني: عكسه وهو أن يكملها بالأهلة وهذا
هو الصحيح والثالث: أن يكملها بالأهلة إلا الشهر الذي وقع العقد في أثنائه
فيكمل بالعدد.
القارئ: وإن عقد على سنة رومية وهي ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع وهما
يعلمان ذلك جاز وإن جهلاها أو أحدهما لم يصح لأن المدة مجهولة عنده والحكم
في مدة الإجارة كالحكم في مدة السلم على ما مضى فيه.
الشيخ: الظاهر أن الاختلاف اليسير مثل ثلاثمائة وخمسة وستين يوم وربع أنه
يتسامح فيه فكوننا نحرر ثلاثمائة وخمسة وستين يوم وربع فإنه أمر صعب فينبغي
التسامح في هذا الشيء.
فصل
القارئ: وتجوز الإجارة مدة لا تلي العقد
مثل أن يؤجره شهر رجب وهو في صفر سواء كانت فارغة أو مؤجرة مع المستأجر أو
غيره لأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز عليها مفردة كالتي تلي
العقد ويحتاج إلى ذكر ابتدائها لأنها أحد طرفي المدة فاحتيج إلى معرفتها
كالانتهاء فإن كانت تلي العقد فابتداؤها منه ولا يحتاج إلى ذكرها لأنها
معلومة.
الشيخ: وإن أطلق فهل يحكم بابتداء السنة الهجرية أو من العقد؟ الجواب
ابتداؤها من العقد وعلى هذا فيكون ابتداء المدة من العقد فيما إذا أطلق أو
شرط أنها من العقد أما إذا قال ابتداؤها من شهر معين لا يلي العقد فلا بأس.
فصل
القارئ: فإن قال أجرتكها كل شهر بدرهم فالمنصوص أنه صحيح وذهب إليه الخرقي
والقاضي لكن تصح في الشهر الأول بإطلاق العقد لأنه معلوم يلي العقد وأجرته
معلومة وما بعده يصح العقد فيه بالتلبس به ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي
كل شهر لأن علياً رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة
وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه وذهب أبو بكر وجماعة من
أصحابنا إلى بطلانه لأن العقد على كل الشهور وهي مبهمة مجهولة فلم يصح كما
لو جعل أجرتها في الجميع شيئاً واحدا.
الشيخ: الصواب الصحة بلا شك فإذا قال كل شهر بعشرة صح ذلك، ومتى دخل في
الشهر لزم إتمامه ولهذا ينبغي إذا أراد المؤجر أن يفسخ العقد أن يخبره قبل
تمام الشهر ليكون المستأجر على بصيرة فمثلاً لو قال أجرتك كل شهر بعشرة
ريالات فدخل الشهر لزم هذا الشهر ولا يجوز للمؤجر ولا للمستأجر أن يفسخ
الإجارة إلا برضى الطرفين، فإذا كان عند المؤجر وهو صاحب الملك نية أن ينهي
عقد الإجارة فإنه إذا بقي عشرة أيام أو نحوها فليخبره ويقول له إن هذا آخر
شهر، وذلك ليستعد المستأجر فيستأجر محلاً آخر غير هذا.
فصل
القارئ: ويشترط في صحة الإجارة ذكر الأجرة
لأنه عقد يقصد فيه العوض فلم يصح من غير ذكره كالبيع ويشترط أن تكون معلومة
لذلك ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع وفيه وجه آخر لابد من ذكر
قدره وصفته لأنه ربما انفسخ العقد ووجب رد عوضه بعد تلفه فاشترط معرفة قدره
ليعلم بكم يرجع كرأس مال السلم وقد ذكرنا وجه الوجهين في السلم.
الشيخ: قوله (وفيه وجه آخر لابد من ذكر قدره وصفته) هذا وجه جيد وهو أنه
لابد من معرفة القدر لأنه ربما تنفسخ الإجارة بخلاف البيع فالبيع يجوز أن
أقول اشتريت منك هذا البيت بهذه الصبرة من الدراهم وإن كنا لا نعلم قدرها
لأن البيع يتم بالعقد والإيجاب والقبول وكل واحد من البائع والمشتري يأخذ
ما آل إليه وينتهي لكن الإجارة ليس كذلك فاشتراط معرفة القدر أمر جيد.
القارئ: وتجوز بأجرة حالة ومؤجلة لأن الإجارة كالبيع وذلك جائز فيه فإن
أطلق العقد وجبت به حالة ويجب تسليمها بتسليم العين لأنها عوض في معاوضة
فتستحق بمطلق العقد كالثمن وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة استحق
استيفاء الأجرة عند انقضاء العمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اعطوا
الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ولأنه أحد العوضين فلزم تسليمه عند تسليم
الأجر كالبيع وإن شرطا تأجيلها جاز إلا أن يكون العقد على منفعة في الذمة
ففيه وجهان أحدهما يجوز لأنه عوض في الإجارة فجاز تأجيله كما لو كان على
عين والثاني لا يجوز لأنه عقد على ما في الذمة فلم يجز تأجيل عوضه كالسلم.
الشيخ: الظاهر أنه يجوز التأجيل لأن السلم عين بعين وهذا عين بمنفعة
فالظاهر أنه لا بأس أن يقول استأجرتك على أن تبني لي هذا الحائط بعشرة آلاف
مؤجلة.
فصل
القارئ: ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه
وكسوته سواء جعل ذلك جميع الأجرة أو بعضها لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (رحم الله أخي موسى أجر نفسه ثماني سنين على طعام بطنه وعفة فرجه) رواه
ابن ماجة ولأن العادة جارية به من غير نكير فأشبه الإجماع فإن قدر الطعام
والكسوة فحسن وإن أطلق جاز ويرجع في القوت إلى الإطعام في الكفارة وفي
الملبوس إلى أقل ملبوس مثله ولأن لذلك عرفاً في الشرع فحمل الإطلاق عليه.
فصل
القارئ: وإذا استوفى المنفعة استقرت الأجرة لأنه قبض المعقود عليه فاستقر
بدله كما لو قبض المبيع وإن سلم إليه العين مدة يمكن الاستيفاء فيها استقرت
الأجرة عليه لأن المعقود عليه تلف تحت يده فأشبه تلف المبيع تحت يده وإن
عرض عليه العين ومضت مدة يمكن الاستيفاء فيها استقرت الأجرة لأن المنافع
تلفت باختياره فأشبه تلف المبيع بعد عرضه على المشتري وإن كان العقد على
عمل في الذمة لم تستقر الأجرة إلا باستيفاء العمل لأنه عقد على ما في الذمة
فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه وإن كان العقد فاسداً لم يستقر
ببذل التسليم كما لا يستقر ببذل المبيع ويجب باستيفائها لأنه استوفاها
بشبهة عقد وإن قبض العين ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها ففيه روايتان
إحداهما لا يجب شيء لأنه عقد فاسد على منفعة لم يستوفها فلم يجب العوض
كالنكاح والثانية يجب أجر المثل لأن البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل
فكذلك الإجارة.
الشيخ: الظاهر أنه تجب الإجارة لا سيما إذا كانا جاهلين بفساد العقد أما
إذا كانا عالمين بفساده فينبغي أن نأخذ الأجرة من المستأجر لأننا لو
تركناها له لزم أن يكون له العِوَضُ المُعَوَّضُ ثم نجعل الأجرة في بيت
المال ولا نردها إلى المؤجر لأننا لو رددناها إلى المؤجر لكان هذا مقتضي
للصحة والعقد غير صحيح، وهكذا كل عقد فساد يتعامل به الطرفان مع العلم
بفساده فإنهما لا يُمَكَّنَانِ من تنفيذه.
فصل
القارئ: ويجوز أن يكتري الرجلان ظهراً
يتعاقبان عليه وأن يكتري الرجل عقبة يركب في بعض الطريق إذا كان ذلك معلوما
لأنه يجوز العقد على جميعه فجاز على بعضه كالزمان فإن كان في طريق فيه عادة
في الركوب والنزول جاز العقد مطلقا وحمل على العادة كالنقد في البيع وإلم
يكن فيه عادة اشترط بيان ما يركب لأنه غير معلوم فوجب بيانه كالثمن وإن
اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما لأنهما تساويا في الملك فقدم أحدهما
بالقرعة كما في القسمة.
فصل
القارئ: إذا دخل حماماً أو قعد مع ملاح في سفينة فعليه أجرتهما وإن لم
يعقدا معه إجارة لأن العرف جار بذلك فجرى مجرى الشرط كنقد البلد وكذلك إن
دفع ثوبه إلى خياط أو قصار منتصبين لذلك أو مناد أو رجل معروف بالبيع
بالأجر ليبيعه فلهم أجرة أمثالهم لذلك وإن دفع كتاباً إلى رجل ليحمله إلى
صاحب له بأجر فحمله فوجد صاحبه غائبا فله الأجر للذهاب لأنه فعل ما استأجره
عليه وللرد لأنه بإذنه تقديرا إذ ليس سوى رده إلا تضييعه وقد علم أنه لا
يرضى تضييعه فتعين رده.
الشيخ: لو استأجرتُ رجلاً يؤدي الكتاب إلى صاحبٍ لي في مكة وذهب إلى مكة
بالكتاب ولم يجد الرجل فماذا يصنع؟ نقول إن كان هناك ثقةٌ يمكن أن يجعله
وديعة عنده حتى يعود الرجل فليفعل وإلا وجب عليه أن يرجع به وله الأجرة
ذاهباً بالعقد وراجعاً بالعرف لأنه لو لم يرجعه ووضعه عند عتبة بابه لعُدَّ
مفرطاً فالمؤلف رحمه الله لم يذكر إلا الصورة الثانية وهو أن يرجع به لكننا
نقول قبل الرجوع إذا وجد ثقة فإنه يجب أن يجعله عنده ويقول يا فلان هذا
لفلان إذا جاء فسلِّمُه إياه.
فصل
القارئ: إذا آجره مدة تلي العقد لم يجز شرط
الخيار لأنه يمنع التصرف فيها أو في بعضها فينقص عما شرطاه وفي خيار المجلس
وجهان أحدهما لا يثبت لذلك والثاني يثبت لأنه يسير وإن كانت لا تلي العقد
ثبت فيها الخياران لأنها بيع ولا مانع من ثبوته فيها وكذلك إن كانت على عمل
في الذمة أو على منفعة عين في الذمة ثبتا فيها ذلك والله سبحانه وتعالى
أعلم.
مسألة: هي خيار المجلس هل يثبت في الإجارة أو لا؟ الجواب نقول تقرر عندنا
أن الانتفاع بالمستأجر يكون من حين العقد فهل يكون فيه خيار مجلس أو لا
الصواب أنه يكون فيه خيار مجلس وذلك لأن الإجارة عقد معاوضة على منفعة فهي
كالبيع والمجلس يسير، لكن هل يصح فيه خيار الشرط؟ ذكر المؤلف أن في هذا
التفصيل إن كان ابتداء المدة بعد انتهاء مدة الشرط فلا بأس وإن كان قبل
انتهاء مدة الشرط لم يصح مثال ذلك أجَّرَكَ صاحب البيت بيته سنة ابتداءً من
رمضان ونحن الآن في جمادى الآخرة ولكنه قال لي الخيار إلى دخول شعبان، فهل
هذا يجوز أو لا؟ الجواب أن هذا جائز لأن مدة الخيار تنتهي قبل الشروع في
مدة الإجار، مثال آخر إذا قال أجرتك هذا البيت لمدة سنة ابتداءً من شهر رجب
على أن لي الخيار لمدة شهر، ونحن الآن في الخامس عشر من شهر جمادى الآخرة
فهل هذا يجوز أو لا؟ الجواب لا يجوز لأن مدة الإجارة تبتدئ قبل انتهاء مدة
الخيار فتكون الإجارة لازمة وغير لازمة لأنها تبدأ في شهر رجب والخيار
سيمتد إلى نصف رجب تكون الإجارة لازمة وغير لازمة وهذا تناقض وهذا هو
المذهب والصحيح أنه يصح خيار الشرط ولو على مدة تبتدئ قبل انتهاء مدة الشرط
فإن لزمت الإجارة فلا إشكال وإن لم تلزم فما بين مدة الشرط والفسخ يُقدَّرُ
بأجرة المثل ويلغى الأجر الذي اتفقا عليه وهذا هو فائدة كون خيار الشرط
يمتد إلى دخول وقت التأجير ففائدته أنه إذا فسخ ألغيت الأجرة التي اتفقا
عليها ووجب لصاحب البيت أجرة المثل.
باب
ما يجوز فسخ الإجارة وما يوجبه
القارئ: وهي عقد لازم ليس لواحد منهما فسخها لأنها بيع فأشبهت بيوع الأعيان
إلا أن يجد العين معيبة فيملك الفسخ بما يحدث من العيب لأن المنافع لا يحصل
قبضها إلا بالاستيفاء فهي كالمكيل يتعيب قبل قبضه فإن بادر المكتري إلى
إزالة العيب من غير ضرر يلحق المستأجر كدار تشعثت فأصلحها فلا خيار
للمستأجر لعدم الضرر وإلا فله الفسخ فإن سكنها مع عيبها فعليه الأجرة علم
أو لم يعلم لأنه استوفى جميع المعقود عليه معيباً مع علمه به فلزمه البدل
كالمبيع المعيب إذا رضيه وإن كان العقد على موصوف في الذمة فرد بعيب لم
ينفسخ العقد ويطالب ببدله فإن تعذر بدله فله الفسخ لتعذر المعقود عليه كما
لو وجد بالسلم عيباً فرده.
الشيخ: العلماء أخذوا من هذا النص من كلام المؤلف رحمه الله أن الإجارة من
باب العقود اللازمة التي لا يملك أحدهما الفسخ فيها إلا برضى الآخر وهذا هو
العقد اللازم، والعقود ثلاثة أنواع عقد جائز من الطرفين وعقد لازم من
الطرفين وعقد جائز من طرف دون الآخر، فالجائز من الطرفين كالوكالة، واللازم
من الطرفين كالبيع، والجائز من طرف دون الآخر كالرهن فالرهن من قِبَلِ
الراهن لازم ومن قِبَلِ المرتهن جائز لأن المرتهن له أن يفسخ الرهن ويقول
أنا لا أريد رهناً فنقول لا بأس والرهن من حقك وأما الإجارة فهي من العقود
اللازمة فلا يملك أحدهما الفسخ إلا برضى الآخر أو بوجود سبب يبيح الفسخ،
لكن بقي أن يقال إنه إذا حدث العيب بعد العقد فللمستأجر الفسخ لأن المنافع
تملك شيئاً فشيئا بخلاف البيع فإنه إذا باع شيئاً ثم حدث به عيب بعد انقطاع
زمن الخيارين فإنه لا يمكن الرد لأن البيع يقع على العين وقد استلمها سليمة
فما حدث من العيب بعد ذلك فعلى ملك المشتري.
القارئ: والعيب ما تنقص به المنفعة كانهدام
حائط الدار وتعيبه وانقطاع ماء بئرها أو تغيره أو انقطاع ماء الأرض أو نقصه
وتغير الظهر في المشي وعرجه الفاحش وربضه وكونه عضوضاً أو جموحاً.
الشيخ: قوله (عرجه الفاحش) ظاهره أن غير الفاحش ليس بعيب ولكن قد يقال إنه
عيب إذا حدث له عرج لأن الإنسان قد يرحم هذه البهيمة إذا حصل بها عرج ولا
ترتاح نفسه لركوبها أو تحميلها فيكون هذا عيباً يمنع من استيفاء المنفعة مع
انشراح الصدر أما العرج الذي يكون لعارض ونعرف أنه سيزول مثل أن تعرج
البعير لأنه أصابها شوكة مثلاً فهذا ليس بعيب أما العرج العضوي فينبغي أن
يقال إن العرج اليسير والكثير من العيب الذي يبيح الفسخ لمستأجر الدابة.
القارئ: وضعف بصر الأجير في الخدمة ومرضه فأما كون الظهر خشن مشي فليس بعيب
لأن المنفعة فيه كاملة وإن اختلفا في العيب رجع فيه إلى أهل الخبرة.
الشيخ: ماذكره المؤلف فيه نظر فكون الظهر أي المركوب خشن المشي هذا ليس
بعيب نقول فيه تفصيل: إذا كان شيئاً معتاد فهذا ليس بعيب أما إذا كان
شديداً فلا شك أنه عيب لأنه يفرّقُ بين الجمل الصعب والجمل السهل وبين
الحمار الصعب والحمار السهل فيقال في هذا إذا كان خشناً يمنع من كمال
الاستيفاء فهو عيب وإن كان مما جرت العادة بمثله فليس بعيب.
فصل
القارئ: وإن تلفت العين في يده انفسخت الإجارة كما لو تلف المكيل قبل قبضه
وإن تلفت قبل مضي شيء من المدة فلا أجرة عليه لأنه لم يقبض شيئاً من
المعقود عليه وإن تلفت بعد مضي شيء منها فعليه من الأجرة بقدر ما استوفى
ويسقط بقدر ما بقي فإن كان أجرها في بعض المدة أكثر قسمت على القيمة.
الشيخ: قوله (قسمت على القيمة) أي لا على
الزمن فمثلاً إذا استأجر هذا البيت لمدة سنة بعشرة آلاف لكن يكون في المدة
زمن موسمي ومن المعلوم أن الزمن الموسمي ستكون الإجارة فيه أكثر فهنا لا
نقدرها بالزمن فلا نقول إذا أنهدم الجدار بعد مضي نصف سنة عليه نصف الأجرة
لا تقول هذا بل ننظر إلى القيمة ونقدِّر كما قال المؤلف رحمه الله وهذا هو
العدل.
القارئ: وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة لم تنفسخ بالتلف وله البدل
كما لو تعيب.
فصل
القارئ: إذا اكترى أرضاً للزرع فانقطع ماؤها أو داراً فانهدمت انفسخ العقد
في أحد الوجهين لأن المنفعة المقصودة منها تعذرت فأشبه تلف العبد والآخر لا
ينفسخ لأنه يمكن الانتفاع بها كالسكنى في خيمة أو يجمع فيها حطباً أو متاعا
لكن له الفسخ لأنها تعيبت.
الشيخ: الفرق بين القولين واضح فالقول الأول تنفسخ الإجارة سواء اختار أو
لم يختار والقول الثاني أنه على اختياره إن شاء فسخ الإجارة وإن شاء أبقاها
وينبغي أن يقال إذا كان إبقاؤها يكون فيه منفعة للمستأجر خُيِّرَ أما إذا
لم يكن فيها منفعة للمستأجر فإن إبقاؤها إضاعة مال لأنه سوف تُستوفى الأجرة
منه كاملة وهذا إضاعة مال لا فائدة فيه.
القارئ: وإن ماتت المرضعة انفسخت الإجارة وعن أبي بكر لا تنفسخ ويجب في
مالها أجر رضاعة والمذهب الأول لأن المعقود عليه تلف فأشبه تلف عبد الخدمة.
الشيخ: لا شك أن المذهب هو الصواب فإذا ماتت المرضعة فإنه تنفسخ الإجارة
ولا نقول يلزم أن تستأجر امرأة وتؤخذ من الأجرة التي تم عليها العقد.
القارئ: وإن مات المرتضع انفسخ العقد لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه لأن
غيره لا يقوم مقامه لاختلافهم في الرضاع ولذلك وجب تعيينه ولو استأجر رجلاً
ليقلع ضرسه فبرئ أو ليكحل عينه فبرأت أو ليقتص له فمات المقتص منه أو عفي
عنه انفسخ العقد لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ كما لو تعذر
بالموت.
الشيخ: إذا مات المرتضع قبل تمام المدة
انفسخ العقد ولا تقول المرضعة هاتوا لي صبياً بدله لأن هذا متعذر أحياناً
والتساوي بين الطفلين متعذر أيضاً فتنفسخ الإجارة، وكذلك الضرس إذا اكترى
شخصاً يقلع ضرسه ثم برئ تنفسخ الإجارة فلو قال هذا الذي قلتَ له اقلع
الضرس: أنا سأقلع الضرس على كل حال، قلنا لا تملك هذا لأنه من المعلوم أنه
إنما أستأجره لقلع الضرس الذي يؤلمه فكأن هذا مشروطاً في العقد أنه استأجره
ليقلع له الضرس لأنه يؤلمه فإذا برئ فلا حاجة لذلك.
القارئ: وإن استأجر للحج فمات.
الشيخ: قوله (فمات) أي مات المستأجر.
القارئ: ففيه وجهان أحدهما تنفسخ الإجارة لأنه تعذر الاستيفاء بموته أشبه
موت المرتضع والثاني لا تنفسخ ويقوم وارثه مقامه كما لو كان المستأجر دارا
وإن لم يمت لكن تلف ماله لم تنفسخ الإجارة لأن المعقود عليه سليم.
السائل: إذا خاف صاحب الضرس من ألم القلع بعد أن حجز موعداً عند الطبيب
وخصص له الطبيب العيادة لذلك فهل تنفسخ الإجارة؟
الشيخ: لا، الإجارة لازمة فإما أن يعطي الطبيب الأجرة وإن لم يقلعه له وإلا
قلعه.
مسألة: الراجح أنه إذا استأجر شخصاً يحج له ثم مات هذا الأجير فإنه تنفسخ
الإجارة.
فصل
القارئ: فإن غصبت العين المستأجرة فللمستأجر الفسخ لأن فيه تأخير حقه فإن
فسخ فالحكم فيه كالفسخ بتلف العين وإن لم يفسخ حتى انقضت المدة خير بين
الفسخ والرجوع على المؤجر بالمسمى ويرجع المؤجر على الغاصب بأجر المثل وبين
إمضاء العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل لأن المنافع تلفت في يد الغاصب
فأشبه ما لو أتلف المبيع أجنبي وإن كان العقد على موصوف في الذمة طولب
المؤجر بإقامة عين مقامها فإن تعذر فله الفسخ لأن فيه تأخير حقه
فصل
القارئ: فإن أجر نفسه ثم هرب أو اكترى
عيناً ثم هرب بها فللمستأجر الخيار بين الصبر والفسخ لأن فيه تأخير حقه
فأشبه ما لو اشترى مكيلاً فمنعه قبضه وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة
استؤجر من ماله من يعمله كما لو هرب قبل تسليم المسلم فيه فإن لم يكن
فللمستأجر الخيار بين الفسخ والصبر إلى أن يقدر عليه فيطالبه بالعمل كما لو
تعذر تسليم المسلم فيه وإن كانت الإجارة على مدة انقضت في هربه بطلت
الإجارة لأنه أتلف المعقود عليه فأشبه ما لو باعه مكيلاً فأتلفه قبل تسليمه
فصل
القارئ: وإن أجر عبده ثم أعتقه لم تنفسخ الإجارة لأنه عقد على المنفعة فلم
تنفسخ بالعتق كالنكاح ولا يرجع العبد بشيء لأن منفعته استحقت بالعقد قبل
العتق فلم يرجع ببدله كما لو زوج أمته ثم أعتقها ونفقته على سيده لأنه يملك
بدل منفعته فهو كالباقي على ملكه.
فصل
القارئ: وإن أجر عيناً ثم باعها صح البيع لأنه عقد على المنفعة فلم يمنع
البيع كالنكاح ولا تبطل الإجارة قياساً على النكاح وإن باعها من المستأجر
صح لذلك وفي الإجارة وجهان أحدهما تبطل لأنها عقد على المنفعة فأبطلها ملك
الرقبة كالنكاح فعلى هذا يسقط من الأجرة بقدر ما بقي من المدة والثاني لا
تبطل لأنه عقد على الثمرة فلم تبطل بملك الأصل كما لو اشترى ثمرة شجرة ثم
ملك أصلها.
الشيخ: الصحيح أنه لا تنفسخ الإجارة إذا
باعها على أجنبي، مثال ذلك رجل أجر بيته لمدة سنة ثم باعه قبل تمام السنة
فالإجارة باقية ولكن ما الذي يستحقه المشتري من الأجرة نقول يستحق من
الأجرة بقدر ما بقي من المدة فإذا كان قد مضى نصف المدة استحق من الأجرة
نصفها وهل يقدر بالزمن أو يقدر بالقيمة؟ الجواب ينبني على ما سبق أنه يقدر
بالقيمة، وقد يفرق بين هذا وبين ما سبق بأن هذا المشتري ملكها على ما بقي
من زمن الإجارة فسواء كان الموسم قد مضى أو بقي فليس له إلا مقدار الزمن
فقط، أما إذا باعها على المستأجر فهذا قد يقال إنه ورد ملك أقوى على ملك
أضعف فيبطله وبناءً على ذلك لا يستحق المؤجر الأول من الأجرة إلا إلى وقت
عقد البيع عليه، وإذا قلنا لا تنفسخ فإن الذي اشترها يدفع الأجرة للذي باع
عليه فمثلاً استأجر بيتاً بعشرة آلاف ريال وفي أثناء المدة اشتراه فالآن
ورد على هذا البيت عقد بيع على عقد إجارة وأيهما أقوى؟ الجواب عقد البيع
أقوى لأنه يملك به المنفعة والعين، فهل نقول لمَّا ورد العقد الأقوى على
الأضعف أبطله وحينئذ لا يستحق الذي باع البيت شيئاً أو نقول إن هذا العقد
الذي هو البيع ورد على عين قد مُلِكت منفعتها قبل عقد البيع فلا تبطل
الإجارة المذهب أنها لا تبطل سواء كان المشتري نفس المستأجر أو غيره وبناءً
على ذلك يستحق الذي أجرها بقية الأجرة.
القارئ: ومتى وجد المستأجر عيباً ففسخ به رجع على المؤجر لأن عوض الإجارة
له فالرجوع عليه وإن كان المستأجر هو المشتري فكذلك إن قلنا لا تنفسخ
الإجارة وإن قلنا تنفسخ لم يرجع على أحد.
فصل
القارئ: ولا تنفسخ الإجارة بموت المتكاريين ولا موت أحدهما لأنه عقد لازم
فلا يبطل بموت المتعاقدين مع سلامة المعقود عليه كالبيع.
الشيخ: في مسألة موت المتكاريين يقوم وارث كل واحد منهما مقامه فإن كان
الميت هو المؤجر قام ورثته مقامه وإن كان المستأجر فكذلك.
القارئ: وإن أجر عيناً موقوفة عليه ثم مات
ففيه وجهان أحدهما لا تبطل لأنه أجر ماله إجارته شرعا فلم تبطل بموته كما
لو أجر ملكه ولكن يرجع البطن الثاني في تركة المؤجر بأجر المدة الباقية إن
كان قبضها لأن المنافع لهم فاستحقوا أجرتها والثاني تبطل فيما بقي من المدة
لأننا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره فإن المنافع بعد موته لغيره بخلاف
المالك فإن ورثته إنما يملكون ما خلفه وما خرج عن ملكه بالإجارة في حياته
غير مخلف فلم يملكوه والأمر إلى من انتقل إليه الوقف في إجارته أو تركه
فعلى هذا يرجع المستأجر على المؤجر بأجرة بقية المدة وإن أجر الولي الصبي
أو ماله مدة فبلغ في أثنائها ففيه وجهان أيضا كهذين.
الشيخ: مسألة الوقف الصحيح أن الإجارة لا تنفسخ فيه لأننا لو قلنا بهذا
ترتب على ذلك مفسدة مثال ذلك رجل وُقِّفَ عليه هذا البيت ثم أجره ثم مات
وانتقل إلى البطن الثاني فهل نقول إن الإجارة تنفسخ أو نقول الإجارة باقية؟
إن قلنا بأنها تنفسخ صار فيه إشكال وإن قلنا إنها باقية فعلى الأصل لكن
ينبغي أن يقيد هذا بما إذا أجر البطن الأول مدة يغلب على الظن أنه يبقى
فيها أما لو أجر مدة طويلة فلا شك في الانفساخ مثاله مستحق الوقف له من
العمر تسعون سنة فأجر الوقف تسعين سنة فعلى هذا التقدير سيبقى مستحق الوقف
مائة وثمانين وهذا في الغالب لا يكون فيقال في مثل هذا إذا أجر فإن الإجارة
تنفسخ بموته لأننا نعلم أو يغلب على ظننا أنه لا يستحق بقية المدة ولهذا
نقول يحرم على الموقوف عليه أن يؤجر الموقوف مدة طويلة إلا إذا تعطلت
منافعه ولم يقبل أحد أن يستأجره إلا مدة طويلة فهذا لا بأس أن يؤجر والعمل
عندنا على هذا أنه إذا احتاج العقار الموقوف إلى الإيجار مدة طويلة فإنه لا
بأس أن يؤجره الموقوف عليه مدة طويلة.
باب
ما يلزم المتكاريين وما لهما فعله
القارئ: يجب على المكري ما يحتاج إليه من التمكين من الانتفاع كمفتاح الدار
وزمام الجمل والقتب والحزام ولجام الفرس وسرجه لأن عليه التمكين من
الانتفاع ولا يحصل إلا بذلك وما تلف من ذلك في يد المكتري لم يضمنه كما لا
يضمن العين وعلى المكري بدله لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفي المكتري
المنفعة فأما ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع كالحبل والدلو والمحمل والغطاء
والحبل الذي يقرن به بين المحملين فهو على المكتري لأن ذلك يراد لكمال
الانتفاع فأشبه بسط الدار.
الشيخ: الصحيح في هذه المسألة أنه يلزم كل واحد منهما ما اقتضاه العرف سواء
وافق ما قاله المؤلف أو لا، لأن الاطِّراد العرفي كالاشتراط اللفظي ومعلوم
أن الناس في الوقت الحاضر وفي السابق يختلف عرفهم عما قاله المؤلف رحمه
الله.
فصل
القارئ: وعلى المكري رفع المحمل وحطه ورفع الأحمال وسوق الظهر وقوده لأن
ذلك العادة فحمل العقد عليه.
الشيخ: التعليل الذي ذكره المؤلف هو المهم قال (لأن ذلك العادة) يعني هو
العادة فيحمل العقد المطلق على ما اعتاده الناس ولهذا نقول هذا الذي ذكره
المؤلف في الفصل الثاني إنما يكون إذا كانت العادة أن المكري يمشي مع
المكتري أما إذا اكراه الجمل وأعطاه إياه فإن المكري لا يلزمه هذه الأشياء
لأن المكري في بيته وليس هو مع المكتري حتى نلزمه بهذه الأشياء.
القارئ: وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض لأنه لا يمكن فعله راكبا
وليس ذلك عليه للأكل والنفل لأنه ممكن على الظهر.
الشيخ: قوله (وليس ذلك عليه للأكل والنفل) نقول له أن يقول أنزلني للأكل
لأن الأكل على البعير غير ممكن أم النفل فتصح صلاة النفل على البعير فلو
قال أنزلني أريد أن أوتر فله أن يقول له أوتر على البعير لأن ذلك ممكن.
القارئ: وعليه أن يبرك الجمل للمرأة والمريض والضعيف.
الشيخ: قوله (للمرأة والمريض والضعيف) نقول
والقوي هل يقال له اقفز من على السنام! الفقهاء رحمهم الله أحياناً يذكرون
أشياء عجيبة لكن نقول عليه أن يُبَرِّكَ البعير لكل من ركبه من قوي وضعيف
ورجل وامرأة ولابد من هذا فلو فرضنا أن هذا القوي يستطيع أن يقفز إلى الأرض
من على البعير وهو قائم فهل يستطيع الركوب عليه وهو قائم؟ هذا أمر صعب
ولهذا لا أحد يركب البعير وهي قائمة إلا صاحب البعير فهو الذي يستطيع أن
يضع رجليه على رُكَبِ البعير ثم على الرقبة ثم على الظهر.
القارئ: وإن كانت الإجارة على تسليم الظهر لم يكن عليه شيء من ذلك.
الشيخ: هذا هو المراد إذا كان على تسليم الظهر فليس على صاحبه شيء لأن الذي
يتولى الأمور هو المكتري.
القارئ: فأما أجرة الدليل فإن كانت الإجارة على تحصيل الراكب في البلد فعلى
المكري لأنه من مؤنة التحصيل وإن كانت على تسليم الظهر أو على مدة فهو على
المكتري لأن الذي على المكري تسليم الظهر وقد فعل وعلى المكري تسليم الدار
فارغة الحش والبالوعة لأنه من التمكن فإن امتلأ في يد المكتري فعليه كسحه
لأنه ملأه فكان عليه إزالته كتنظيف الدار وعلى المكري إصلاح ما انهدم من
الدار وتكسر من الخشب لأنه من التمكين وإذا استأجر ظئراً للرضاع وشرط
الحضانة وهي خدمة الصبي وغسل خرقه لزمها وإن لم يشترطه عليها لم يلزمها إلا
الرضاع لأنهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى فلم تلزم إحداهما
بالعقد على الأخرى وعليها أن تأكل وتشرب ما يَدِرُّ به اللبن ويصلح به
وللمكتري مطالبتها به لأنه من التمكين ويضر الصبي تركه.
فصل
القارئ: وعلى المكري علف الظهر وسقيه لأنه
من التمكين فإن هرب وترك جماله رفع الأمر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال
بالعلف فإن لم يجد له مالا اقترض عليه فإن اقترض من المكتري أو أذن له في
الإنفاق عليها قرضاً جاز لأنه موضع حاجة وإن كان في الجمال فضل عن المكتري
باعه وأنفق منه فإذا رجع الجمال أو اختلفا في النفقة فالقول قول المنفق
لأنه أمين إذا كانت دعواه لقدر النفقة بالمعروف وما زاد لا يرجع به لأنه
متطوع فإن أنفق من غير إذن الحاكم مع إمكانه وأشهد على ذلك فهل يرجع به على
وجهين بناءً على من ضُمِنَ دينه بغير إذنه وإن لم يجد من يشهده فأنفق ففي
الرجوع وجهان أصحهما يرجع به لأنه موضع ضرورة فأشبه ما لو أنفق على الآبق
في رده وإذا وصل دفع الجمال إلى الحاكم ليوفي المنفق نفقته منها ويفعل في
سائرها ما يرى الحظ فيها لصاحبها من بيعها وحفظ ثمنها أو بيع بعضها وإنفاقه
على باقيها.
فصل
القارئ: وليس على المكتري مؤنة رد العين لأنها أمانة فلم يلزمه مؤنة ردها
كالوديعة ويحتمل أن يلزمه لأنه غير مأذون له في إمساكها بعد انقضاء مدتها
فلزمه مؤنة ردها كالعارية.
الشيخ: ما ذكره المؤلف يرجع فيه إلى العرف، وعلى كال حال ليس هناك الآن
دواب تؤجر وإنما في محيطنا الآن توجد السيارات فهل يلزم المكتري الذي
يستأجر السيارة ويذهب بها إلى مكة ثم يرجع، هل يلزمه إذا رجع أن يوصل
السيارة إلى صاحبها أو أنه يوقفها عند بابه هو ويقول لصاحبها تعال لتأخذها؟
الجواب إن كان هناك عرف بَيِّنٌ عُمِلَ به وإلا فالأول أي أنه لابد أن ترد
العين إلى المكان الذي أخذت منه.
فصل
القارئ: وللمكتري استيفاء المنفعة بالمعروف
لأن إطلاق العقد يقتضي المتعارف فصار كالمشروط فإذا استأجر داراً للسكنى
فله وضع متاعه فيها لأنه متعارف في السكنى ويترك فيها من الطعام ما جرت
عادة الساكن به لذلك وليس له جعلها مخزناً للطعام لأنه غير متعارف وفيه ضرر
لأن الفأر تنقب الحيطان للوصول إليه ولا يجوز أن يربط فيها الدواب ولا يطرح
فيها الرماد والتراب لأنه غير متعارف به وإن اكترى قميصاً ليلبسه لم يكن له
أن ينام فيه ليلاً وله ذلك نهاراً لأن العادة الخلع لنوم الليل دون النهار.
الشيخ: كلام المؤلف فيه نظر لأن الله قال (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ
مِنَ الظَّهِيرَةِ) فكثيرٌ من الناس عند النوم سواء في الليل أو في النهار
يخلع الثياب الملبوسة ويلبس الثوب الخاص بالنوم ولهذا القاعدة التي أشار
إليها المؤلف أولاً يجب أن تكون هي مناط الحكم وهو العادة.
القارئ: وليس له أن يتزر به لأنه يعتمد عليه أكثر من اللبس.
الشيخ: قوله (ليس له أن يتزر به لأنه يعتمد عليه أكثر من اللبس) نقول هو لا
بد أن يجلس عليه لكن هم يقصدون أنه إذا اتزر به صار كل القميص في الأسفل
فيعتمد عليه أكثر واعتماده عليه أكثر يوجب أن يتمزق سريعاً.
القارئ: وله أن يرتدي به في أحد الوجهين لأنه أخف والآخر ليس له ذلك لأنه
غير المتعارف في لبس القميص.
الشيخ: الارتداء به أخف لأنه لا يجلس عليه فالقميص هو مثل الثوب الآن فإنه
إذا ارتداه صار لا يتكئ عليه عند الجلوس فهو أخف لكن يقول المؤلف ليس له
ذلك لأنها لم تجر العادة به، ولكن ربما يحتاج إليه الإنسان فمثلاً في
الطائرة إذا أراد أن يُحْرِمَ وردائه وإزاره مع العفش في جوف الطائرة وهو
يريد أن يحرم فهل يحرم وعليه القميص أو ماذا يصنع؟ نقول يحرم لكن يخلع
القميص ويجعله رداء إذا كان معه سراويل وإذا لم يكن معه سراويل جعله
إزاراً.
القارئ: وإن اكترى ظهراً في طريق العادة
السير فيه زمناً دون زمن لم يسر إلا فيه لأنه المتعارف وإن كانت العادة
النزول للرواح وكان رجلاً قوياً ففيه وجهان أحدهما يلزمه ذلك لأنه المتعارف
والثاني لا يلزمه لأنه اكترى للركوب في جميع الطريق فلم يلزمه تركه في
بعضه.
الشيخ: قوله (للرواح) يعني للمراوحة أي أنه مرة يركب ومرة يمشي، فهل يلزمه
أن يمشي أو نقول هو حر إن شاء رَاَوَحَ وإن شاء بقي راكباً دائماً؟ الجواب
نقول فيه الوجهان كما قال المؤلف رحمه الله.
القارئ: وإن اكتراه إلى مكة لم يجز أن يحج عليه لأنه زيادة وإن اكتراه ليحج
عليه فله الركوب إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى مكة وهل له أن يركبه عائداً
إلى منى فيه وجهان أحدهما لا يجوز لأنه قد حل من الحج والثاني له ذلك لأنه
من تمام الحج.
الشيخ: لا شك أن الوجه الثاني هو المتعين فلا نقول له إذا نزلت وطفت طواف
الإفاضة والسعي، اخرج من مكة إلى منى ماشياً لأن هذا لا يصح.
فصل
القارئ: وله ضرب الظهر وكبحه باللجام وركضه برجله للمصلحة لأن النبي صلى
الله عليه وسلم ضرب جمل جابر حين ساقه ولأنه لا يتوصل إلى استيفاء المنفعة
إلا به فملكه كركوبه وإن شرط حمل أرطال من الزاد فله إبدال ما يأكل لأن له
غرضاً في أن يشتري الزاد من الطريق ليخفف عليه حمله فملك بدله كالذي يشرب
من الماء.
السائل: هل للمكتري أن يضرب الجمل ضرباً شديداً؟
الشيخ: حرام عليه وذلك لوجهين الوجه الأول أنه إيلامٌ للجمل بدون حاجة
والثاني أنه تصرفٌ في ملك الغير لم يؤذن له به شرعاً ولا عرفاً.
السائل: إذا كان الجمل له فهل له أن يضربه ضرباً شديداً؟
الشيخ: حتى لو كان له فإنه لا يجوز أن يضربه ضرباً شديداً بدون حاجة.
فصل
القارئ: وله أن يستوفي النفع المعقود عليه
ومثله ودونه في الضرر ولا يملك فوقه ولا ما يخالف ضَرَرُهُ ضَرَرَهُ لأنه
يأخذ فوق حقه أو غير حقه فإن اكترى ظهراً في طريق فله ركوبه إلى ذلك البلد
في مثله ودونه في الخشونة والمسافة والمخافة ولا يركبه في أخشن منه ولا
أبعد ولا أخوف وإن اكترى أرضاً للغراس والبناء فله زرعها لأنه أقل ضررا وإن
استأجرها لأحدهما لم يملك الآخر لأن ضرر كل واحد منهما يخالف ضرر الآخر وإن
استأجرها للزرع لم يغرس ولم يبن لأنهما أضر منه وإن استأجرها لزرع الحنطة
فله زرعها وزرع ما ضرره كضررها أو أدنى كالشعير والباقلاء ولا يملك زرع
الدخن والذرة والقطن لأن ضررها أكثر.
الشيخ: كيف يكون ضرر الأرض وهي أرض سواء زرعت هذا أو هذا؟ الجواب قالوا لأن
الدخن يفسد الأرض ويُذهبُ طعمها فيكون ضرره أكثر من ضرر الحنطة والبر وما
أشبه ذلك، ويرجع في مثل هذه الأمور إلى أهل الخبرة.
القارئ: وإن اكترى ظهراً ليحمل عليه قطناً لم يجز أن يحمل عليه حديدا لأنه
أضر على الظهر لا جتماعه وثقله وإن اكتراه للحديد لم يحمل عليه قطناً لأنه
أضر لتجافيه وهبوب الريح فيه وإن اكتراه ليركبه لم يحمل عليه لأن الراكب
يعين الظهر بحركته.
الشيخ: هل يتحرك الراكب على البعير؟ الجواب نعم وهذا أمر مشاهد فهو يُعين
الظهر أي المركوب بحركته هذه.
القارئ: واكتراه للحمل لم يملك ركوبه لأن الراكب يعقد في موضع واحد والحمل
يتفرق على جنبيه وإن شرط ركوبه عُرْياً لم يركب بسرج لأنه زيادة وإن شرط
ركوبه بسرج لم يركبه عُرياً لأنه يضر بظهر الحيوان والعارية كالإجارة في
هذا لأنها تمليك للمنفعة فأشبهت الإجارة.
الشيخ: قوله (لأنها تمليك للمنفعة) هذا فيه نظر لأن العارية إذن في
الانتفاع فهي أقل من الإجارة ولذلك يجوز للمستأجرأن يؤجر ولا يجوز للمستعير
أن يؤجر أو يعير، فالعارية إذن في الانتفاع وليست تمليك للمنفعة.
السائل: لو اكترى دابة فهل له أن يُركِبَ
غيره أو أن يُرْدِفَ معه أحد على الدابة؟
الشيخ: أمَّا أن يردف فلا وأمَّا يُرْكِبَ غيره فلا بأس إذا كان لا يلحق
الظهر أي المركوب ضرر إما لسوء تصرفه فيها وإما لكونه أثقل من الأول.
فصل
القارئ: وله أن يستوفي المنفعة بنفسه وبمثله فإن اكترى داراً فله أن يسكنها
مثله ومن هو دونه في الضرر ولا يسكنها من هو أضر منه وإن اكترى ظهراً يركبه
فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه لما ذكرنا في الفصل قبله.
الشيخ: قوله (ومن هو أخف منه) هذا ليس على إطلاقه لأنه يجب أن ننظر كيف
يعامل البعير لأنه قد يكون ثقيل كبير الجسم لكن لا يؤذي البعير وقد يكون
خفيفاً صغيراً لكن يضرب البعير أو الحمار وهذا شيء مشاهد فينبغي أن
يُقَيَّد فقوله (ومن هو أخف منه) نقول بشرط أن لا يكون ضرره على الظهر أكثر
من ضرر الثقيل.
القارئ: فإن شرط أن لا يستوفي غير المنفعة بنفسها ولا يستوفي مثلها ولا
دونها ولا يستوفيها بمثله ولا بدونه صح الشرط لأنه يملكه المنافع فلا يملك
إلا ما مَلَّكهُ ويحتمل أن لا يصح لأنه ينافي مقتضى الإجارة ولا يبطل العقد
لأن الشرط لا يؤثر في حق المؤجر فلغى وبقي العقد على مقتضاه.
الشيخ: قوله (إن شرط أن لا يستوفي غير المنفعة بنفسها) الشارط هو المؤجر
وقوله (ولا يستوفي مثلها ولا دونها ولا يستوفيها بمثله ولا بدونه) ثم قال
(صح) أي صح الشرط، لكن هذا القول ضعيف والصواب ما ذكره أخيراً أنه لا يصح
الشرط لأننا إذا قلنا إن المستأجر ملك المنفعة فلماذا يُضَيَّقُ عليه ويقال
له لا تستوفي المنفعة لا بنفسك ولا بغيرك ولا بمثلك ولا بدونك فلهذا
الاحتمال الأخير الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو الصحيح.
فصل
القارئ: وله أن يؤجر العين لأن الإجارة
كالبيع وبيع المبيع جائز فكذلك إجارة المُستأجَر ويجوز أن يؤجرها للمؤجر
وغيره كما يجوز بيع المبيع للبائع وغيره فإن أجرها قبل قبضها لم يجز ذكره
القاضي لأنها لم تدخل في ضمانه فلم تجز أجارتها كبيع الطعام قبل قبضه
ويحتمل الجواز لأن المنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين فلم يؤثر قبض العين
فيها ويحتمل أن تجوز إجارتها للمؤجر لأنها في قبضه ولا تجوز من غيره لعدم
ذلك.
الشيخ: الصحيح أنه يجوز للمُستأجِر أن يُؤجِرَ العين غيره لكن بشرط أن يكون
مثله أو أقل منه ضرراً، أما لو أجرها لمن هو أشد منه على العين المؤجرة
فإنه لا يجوز.
القارئ: وتجوز إجارتها بمثل الأجرة وزيادة كالبيع برأس المال وزيادة وعنه
إن أحدث في العين زيادة جازت إجارتها بزيادة وإن لم يفعل لم يؤجرها بزيادة
لأن (النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن) فإن فعل تصدق
بالزيادة وعنه يجوز بإذن المالك ولا يجوز بغير إذنه والمذهب الأول.
الشيخ: الأقوال في المسألة ثلاثة:
القول الأول: المذهب وهو أنه يجوز أن يؤجرها بأكثر مما أستأجرها فمثلاً
يستأجرها بمائة ويؤجرها بمائتين وهذا القول هو الراجح لأنه ربما يستأجرها
في زمن الرخص وتزيد الأجرة فيؤجرها بالزائد وأما حديث (نهى عن ربح ما لم
يضمن) فالمراد ما لم يدخل في ضمانه من الأعيان وأما ما دخل في ضمانه فلا
بأس على أن الحديث مختلف في صحته وفي معناه.
والقول الثاني: أنه إن أحدث في العين زيادة زادت بها الأجرة فلا بأس مثل أن
يكون هذا البيت الذي استأجره جعل فيه مانع من الحر أو من البرد أو جعل على
فرجاته كساءً يمنع من الحر أو البرد فلا بأس بالزيادة وإلا فلا.
القول الثالث: أنه إذا كان بإذن المالك فلا
بأس وأما بغير إذنه فلا يجوز وهذا القول في الحقيقة له وجهة نظر لأنه إذا
أجرها بأكثر بدون إذن المالك صار في نفس المالك شيء ولهذا نقول هذا القول
قوي جداً لكن إذا وجد سبب الزيادة مثل أن زادت الأجور فإنه لا بأس بذلك لأن
المالك في هذه الحال لا يتأثر ولا يندم، وقوله (فإن فعل تصدق بالزيادة) هذا
على القول الثاني لكن هل يتصدق بها تخلصاً منها أو تقرباً بها؟ الجواب
يتصدق بها تخلصاً منها.
فصل
القارئ: فإن استوفى أكثر من المنفعة بزيادة متميزة مثل أن اكترى إلى مكان
فجاوزه أو ليحمل قفيزاً فحمل اثنين لزمه المسمى لما عَقَدَ عليه وأجرة
المثل للزيادة لأنه استوفى المعقود عليه فاستقر المسمى ولزمته أجرة الزيادة
كما لو اشترى قفيزاً فقبض اثنين وإن كانت الزيادة لا تتميز كرجل اكترى
أرضاً ليزرع حنطة فزرع دخناً فكذلك قال أحمد رضي الله عنه ينظر ما يدخل على
الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير فيعطى رب الأرض فأوجب المسمى
وزيادة لأنه لما عين الحنطة تعلق العقد بما يماثله في الضرر فصار مستوفياً
للمعقود عليه وزيادة كالتي قبلها وقال أبو بكر عليه أجرة المثل للجميع لأنه
عدل عن المعقود عليه إلى غيره فلزمته أجرة المثل كما لو زرع غير الأرض ولرب
الأرض منع المستأجر من زرع الأرض فإن زرع فحكمه في ذلك حكم الغاصب على ما
سيأتي.
الشيخ: إذا زاد على ما عقد عليه مثل أن
استأجر السيارة من عنيزة إلى الرياض فسار عليها إلى الدمام فله الأجر
المسمى الذي اتفقا عليه أولاً من عنيزة إلى الرياض، وأما من الرياض إلى
الدمام فله فيه أجرة المثل سواء كانت أكثر مما سمي أو أقل وذلك لأن الأجرة
المسماة إنما كانت على شيء معين فالزيادة عليه زيادة بلا عقد وإذا كانت
زيادة بلا عقد لزم فيها أجرة المثل أما إذا لم تتميز كرجل أستأجر أرضاً
لزراعة حنطة فزرعها دخناً وقد سبق لنا أن الأرض تفسد بزراعة الدخن أكثر من
فسادها بزراعة الحنطة فهل نقول إن العقد يبطل بالكلية ويجب أجرة المثل أو
نقول يقدر ما بين نقص الأرض بزراعة متفقا عليه ونقصها بما زاد ويعطى الفرق؟
المسألة كما ذكر المؤلف فيها قولان للعلماء والظاهر أنه إذا زرع دخناً بدل
الحنطة أنه يلغى العقد الأول ويحكم له بأجرة المثل بشرط أن لا تكون الأجرة
التي اتفقا عليها أولاً أكثر من أجرة المثل فإن كانت أكثر أُلْزِمَ بها
وذلك مثل أن تكون أجرة الأرض نقصت حسب النظر العام وأنها إذا زرعت دخناً
تكون بأقل مما اتفقا عليه بزراعة الحنطة فنقول يجبر المستأجر على دفع ما
اتفقا عليه أولاً.
مسألة: إنسان قال لشخص استأجر لي بيتاً بعشرة آلاف فوجد له بيتاً على الوصف
الذي يريده الموكِّل بسبعة آلاف فهل يجوز له أن يستأجره هو ثم يؤجره
لموكله؟ الجواب لا يجوز، وكذلك إن وكَّله بشراء سلعة فقال اشتر لي السلعة
الفلانية بمائة ريال فوجدها بسبعين فهل نقول إنه يجوز له أن يشتريها بسبعين
ويأخذ من ذلك الذي وكَّله مائة؟ الجواب لا يجوز لأنه إنما اشتراها لموكِّله
وكذلك في الإجارة.
فصل
القارئ: فإن اكترى أرضاً للزرع مدة فليس له
زرع مالا يستحصد فيها لأن عليه تسليمها فارغة عند انتهائها وهذا يمنع ذلك
وللمالك منعه من زرعه لذلك فإن فعل لم يجبر على قلعه في المدة لأنه مالك
لمنفعة الأرض فإذا انقضت ولم يحصد خير المالك بين أخذه ودفع نفقته وبين
تركه بالأجرة لأنه تعدى بزرعه فأشبه الغاصب وإن كان بقاؤه بغير تفريط إما
لشدة برد أو قلة مطر ونحوه فعلى المؤجر تركه بالأجرة لأنه زرعه بحق فكان
عليه المسمى للمدة وأجرة المثل للزائد لا غيره.
فصل
القارئ: فإن اكتراها مدة ليزرع فيها زرعاً لا يكمل فيها وشرط قلعه في أخرها
صح العقد والشرط لأنه قد يكون له غرض صحيح فيه وإن شرط تبقيته حتى يكمل فسد
العقد لجهل المدة ولأن شرط تبقيته تنافي تقدير مدته وللمؤجر منعه من الزرع
لأن العقد فاسد فإن زرعه لزم إبقاؤه بشرطه لأنه زرعه بإذن المالك وإن أطلق
العقد صح لأن الانتفاع بالأرض في هذه المدة ممكن فإذا انقضت والزرع باق
احتمل أن يكون حكمه حكم المفرط لزرعه في مدة الإجارة مالا يكمل فيها واحتمل
أن يكون حكمه حكم غير المفرط لتفريط المؤجر بإجارة مدة لا يكمل فيها.
فصل
القارئ: وإن استأجرها للغراس مدة جاز وله
الغرس فيها ولا يغرس بعدها لأن العقد يقتضي التصرف في المدة دون ما بعدها
فإن غرس فانقضت المدة وكان مشروطاً عليه القلع عند انقضائها أخذ بما شرطه
ولم يلزمه تسوية الحفر لأنه لما شرط القلع مع علمه بأنه يحفر الأرض كان
راضيا وإن لم يكن شرط القلع لم يجب لأن تفريغ المستأجر على حسب العادة
والعادة ترك الغراس حتى ييبس وللمستأجر قلع غرسه لأنه ملكه فإن قلعه لزمه
تسوية الحفر لأنه حفرها لتخليص ملكه من ملك غيره بغير إذنه وإن لم يقلعه
فللمؤجر دفع قيمته ليملكه لأن الضرر يزول عنهما به أشبه الشفيع في غراس
المشتري وإن أراد قلعه وكان لا ينقص بالقلع أو ينقص لكنه يضمن أرش النقص
فله ذلك لأن الضرر يزول عنهما به وإن اختار إقراره بأجرة مثله فله ذلك لأن
الضرر يزول عنهما به ولصاحب الشجر بيعه للمالك ولغيره فيكون بمنزلته لأن
ملكه ثابت عليه فأشبه الشقص المشفوع والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا.
السائل: مر معنا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن ربح ما لم يضمن)
وهناك مسألة حاصلة عند كثير من الناس وهي أن يأتي مثلاً الزبون ويطلب من
البائع سلعة معينة بعدد كبير مثلاً ألف كرتون من هذا النوع لكن البائع ما
عنده إلا عشرة كراتين فيذهب البائع للمصنع ليحضر الكمية المطلوبة فالمشتري
عنده الآن ثلاث حالات إما أن يدفع قيمة البضاعة قبل أن يستلمها أو أن يعطيه
مثلاً عربون أو أن البائع يأتي بناءً على ثقة بينهما ثم يشتريها منه فما هو
الحكم في هذه الصورة؟
الشيخ: في مثل هذا البائع والمشتري يعقدان على الموجود والباقي يكون عقد
على ما في الذمة كالسلم فيعقدان على الموجود بما يتفقان عليه والباقي يكون
سلماً فيسلم المشتري للبائع الثمن ويقول هذه مثلاً ألف ريال بألف كرتون
تأتي بها بعد شهر أو بعد شهرين بحسب ما يتفقان عليه.
باب
تضمين الأجير واختلاف المتكاريين
القارئ: الأجير على ضربين خاص ومشترك فالخاص هو الذي يؤجر نفسه مدة فلا
ضمان عليه فيما يتلف في يده بغير تفريط مثل أن يأمره بالسقي فيكسر الجرة أو
بكيل شيء فيكسر الكيل أو بالحرث فيكسر آلته نص عليه أو بالرعي فتهلك
الماشية بغير تفريطه.
الشيخ: الأجير الخاص هو الذي استؤجر على مدة معينة، وقوله (فلا ضمان عليه)
وذلك أن هذا الأجير الخاص بمنزلة الوكيل فإذا كان بمنزلة الوكيل فالقاعدة
أن الوكيل لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط فإذا استأجر الشخص نفسه على عمل ما
فهذا أجير خاص فإذا تلف الشيء تحت يده بلا تعدي ولا تفريط فلا ضمان عليه
ووجه ذلك أنه بمنزلة الوكيل فهو مؤتمن.
القارئ: والمشترك الذي يؤجر نفسه على عمل فظاهر كلام الخرقي أنه يضمن ما
تلف بعمله ونص عليه أحمد رضي الله عنه في حائك دفع إليه غزل فأفسد حياكته
يضمن والقصار ضامن لما يتخرق من مده ودقه وعصره وبسطه والطباخ ضامن لما
أفسد من طبخه لما روى جلاس بن عمرو أن علياً رضي الله عنه كان يضمن الأجير
ولأنه قبض العين لمنفعته من غير استحقاق فكان ضامناً لها كالمستعير وقال
القاضي وأصحابه إن كان يعمل في ملك المستأجر كخياط أو خباز أخذه إلى داره
ليستعمله فيها فلا ضمان عليه ما لم يتعد فيه مثل أن يسرف في الوقود أو
يلزقه قبل وقته أو يتركه بعد وقته فيضمن لأنه أتلفه بعدوانه ومالا فلا ضمان
عليه لأنه سلم نفسه إلى صاحب العمل فأشبه الخاص وإن كان العمل في غير ملك
المستأجر ضمن ما جنت يده لما ذكرناه ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه لأنها
أمانة في يده فأشبه المودع وإن حبسها على أجرتها فتلفت ضمنها لأنه متعد
بإمساكها إذ ليست رهناً ولا عوضاً عن الأجرة.
الشيخ: الأجير المشترك هو الذي قُدِّر نفعه
بالعمل وعمله عام فكل مَنْ أتاه عَقَدَ معه الأجرة مثل الغسال والخياط
والنجار وما أشبه ذلك فإذا أعطيته مالي يعمل فيه ما اتفقت أنا وإياه عليه
فإنه ضامن لأنه استؤجر على عمل شيء ولم يتقدم به، ولا فرق بين أن يكون في
بيت المستأجر أو في دكانه أو ما أشبه ذلك والصحيح أنه لا ضمان عليه إلا إذا
تعدى أو فرط وإذا لم يتعد ولم يفرط فإنه لا ضمان عليه، فإذا قُدِّر أنك
أتيتَ إلى خباز وأعطيتَه العجين ليخبزه وفرط وترك النار حتى احترق فعليه
الضمان فإن حصل مثلاً حريق ولم يتمكن من ضبطه فإنه لا ضمان عليه، ولكن هل
يستحق الأجرة أو لا يستحقها؟ الجواب إن كان قبل العمل فإنه لا يستحقها وإن
كان بعد العمل فلا يستحقها أيضاً لأنه لم يسلم ما استؤجر عليه فنقول له لا
لك ولا عليك، وأظن أن فيها قول آخر أنه يستحق الأجرة إذا كان قد عمل ما
استؤجر عليه لأنه أتى بما يجب عليه ولم يفرط فيه ولم يتعد فلا ضمان عليه
فإن كان كما ظننت فهذا القول أقوى، ثم قال رحمه الله (وإن حبسها على أجرتها
فتلفت ضمنها) هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله والصواب أنه لا ضمان عليه
فإذا كانت الأجرة حالَّة وقال له الخياط لا أعطيك الثوب الذي استأجرتني
أخيطه لك حتى تسلم الأجرة، ففي هذه الحال إذا تلف الثوب فلا ضمان عليه لأنه
معذور فربما يعطيه الثوب ويذهب ولا يرجع لكي يعطيه الأجرة وهذا يقع فالصواب
أنَّ حبس ما استؤجر على أجرته جائز وأنه لو تلف بلا تعد ولا تفريط فلا ضمان
عليه.
السائل: بعض المغاسل يكتبون على الفاتورة أنه إذا لم يحضر صاحب الملابس
خلال مدة معينة لكي يأخذ ملابسه فإنه يحق لهم التصرف فيها؟
الشيخ: لا بأس به فهم يكتبون على الفاتورة
نحن سوف نغسله لك أو نخيطه لك لكن إذا تأخرت عن المدة المقررة نصف شهر أو
شهر فإن لنا أن نبيعه ونأخذ أجرتنا فهنا إذا وافق صاحب الملابس على هذا
الشرط فلا بأس لأنه هو الذي اختار ذلك إلا إذا ثبت أنه تأخر لعذر لكن ما
دام أنهم اتفقوا على ذلك فالمسلمون على شروطهم وهذا شرط فيه مصلحة لأنه لو
لم يُقَلْ بجوازه لتكدست الثياب عند الغسال أو عند الخياط ثم ماذا يصنع بها
وهو ليس على استعداد أن يذهب بها إلى القاضي في المحكمة ويقول له خذ
والقاضي كذلك ربما لا يكون على استعداد لقبولها.
السائل: أحياناً الغسالون يخطئون في التصرف فيعطي الثوب لغير صاحبه ويبقى
عنده الثوب الآخر فماذا يجب عليه في هذه الحال؟
الشيخ: إذا أخطأ فعليه الضمان لأن هذا من تصرفه وأما الثوب الثاني الذي أخذ
صحابه بدله فإنه يبقى عنده حتى يرجع صاحبه فإن يأس منه ولم يعرفه فإنه
يبيعه ويتصدق بقيمته.
فصل
القارئ: ولا ضمان على المستأجر في العين
المستأجرة إن تلفت بغير تفريط لأنه قبضها ليستوفي ما ملكه منها فلم يضمنها
كالزوجة والنخلة التي اشتراها ليستوفي ثمرتها وإن تلفت بفعله بغير عدوان
كضرب الدابة وكبحها لم يضمن لأنها تلفت من فعل مستحق فلم يضمنها كما لو
تلفت تحت الحِمْلِ وإن تلفت بعدوان كضربها من غير حاجة أو لإسرافه فيه ضمن
لأنه جناية على مال الغير وإن اكترى إلى مكان فتجاوزه فهلك الظهر ضمنه لأنه
متعد أشبه الغاصب وإن هلك بعد نزوله عنه وتسليمه إلى صحابه لم يضمنه لأنه
برئ بتسليمه إليه إلا أن يكون هلاكه لتعب الحمل فيضمنه لأنه هلك بعدوانه
وإن حَمَلَ عليه أكثر مما استأجره فتلف ضمنه لذلك وإن اكترى دابة ليركبها
فركب معه آخر بغير إذن فتلفت ضمنها الآخر كلها لأن عدوانه سبب تلفها فضمنها
كمن ألقى حجراً في سفينة موقرة فغرقها وإن تلفت الدابة بعد عودها إلى
المسافة ضمنها لأن يده صارت ضامنة فلم يسقط عنه ذلك إلا بإذن جديد ولم
يوجد.
فصل
القارئ: ولو قال لخياط إن كان هذا يكفيني قميصاً فاقطعه فقطعه فلم يكفه
ضمنه لأنه إنما أذن له في قطعه بشرط الكفاية ولم يوجد وإن قال هو يكفيك
قميصاً فقال اقطعه فقطعه فلم يكفه لم يضمنه لأنه قطعه بإذن مطلق.
فصل
القارئ: ومن أجر عيناً فامتنع من تسليمها فلا أجرة له لأنه لم يسلم المعقود
عليه فلم يستحق عوضه كالمبيع إذا لم يسلمه وإن سلمه بعض المدة ومنعه بعضاً
فقال أصحابنا لا أجرة له لأنه لم يسلم ما تناوله العقد فأشبه الممتنع من
تسليم الجميع ويحتمل أن يلزمه عوض ما استوفاه كما لو باعه مكيلاً فسلم إليه
بعضه ومنعه من باقيه.
الشيخ: ينبغي أن يقال إن في ذلك تفصيل فإن
منعه لعذر استحق ما بقي وإن منعه عدواناً فإنه لا يستحق لكن هل يَسُوغ
للمستأجر أن يستعملها فيما بقي وهو يعلم أن صاحبها لا يستحق الأجرة؟ الجواب
هذا قد يقال إن فيه نظر إلا إذا كان استأجرها لعمل معين وفوَّته عليه فهنا
له أن يستأجرها فيما بقي ولا شيء عليه.
القارئ: وإن أجر نفسه على عمل وامتنع من إتمامه فكذلك وإن أجره عبده فهرب
أو دابته فشردت في بعض المدة فله من الأجرة بقدر ما استوفى من المدة لأن
الامتناع بغير فعله فأشبه ما لو مات وإن تلف الثوب في يد الصانع بغير
تفريطه فلا أجرة له فيما عمل لأنه لم يسلمه إلي المستأجر فلم يستحق عوضه
وإن تلف بتفريطه خير المالك بين تضمنيه إياه معمولاً ويدفع إليه أجرته وبين
تضمينه إياه غير معمول ولا أجرة له وإن استأجر الأجير المشترك أجيراً خاصاً
فأتلف الثوب فلا ضمان على الخاص ويضمنه المشترك.
السائل: إذا أعطى رجل الغسال ثوبه وهو من الصوف وقال اغسله فغسله بالماء
فانكمش وكان الواجب عليه أن يغسله بالبخار فحصل هنا تفريط من الجانبين فمن
جانب صاحب الثوب أنه لم يخبر الغسال أن يغسله بالبخار ومن جانب الغسال أنه
لم يسأل هل هذا الثوب يُغْسَل بالماء العادي أو البخار فما الواجب في هذه
الحالة؟
الشيخ: هذا يرجع للعادة فإذا كان من العادة أن الصوف يغسل بالبخار وهذا
غسله بالماء فإنه يضمن سواء شُرِطَ عليه غسله بالبخار أو لم يُشْرَط، لكن
الذي أعرفه أن الصوف بعضه يُغْسل بالبخار وبعضه بالماء فإذا كان بعضه
بالماء وبعضه بالبخار فلا بد أن يشترط صاحب الثوب أن يغسله له بالبخار.
فصل
القارئ: وإذا اختلف المتكاريان في قدر الأجرة أو المنفعة تحالفا لأنه عقد
معاوضة أشبه البيع ثم الحكم في فسخ الإجارة كالحكم في فسخ البيع لأنها بيع.
الشيخ: المشكل هنا أنه إذا تفاسخا فإن
المستأجر قد استوفى المنفعة وأما في البيع فإنه إذا تفاسخا رجعت السلعة إلى
البائع وأعطي المشتري الثمن لكن في الإجارة قد استوفى المنفعة، فيقال تفسخ
الإجارة ويستحق أجرة المثل لأن المنفعة تلفت تحت يد المستأجر ولم يتفقا على
قدر الأجرة بعد فيكون له أي لصاحب العين أجرة المثل.
القارئ: وإن اختلفا في العدوان فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم العدوان
والبراءة من الضمان وإن اختلفا في رد العين ففيه وجهان أحدهما القول قول
المؤجر لأن الأصل عدم الرد ولأن المستأجر قبض العين لنفسه أشبه المستعير
والثاني القول قول الأجير لأنه أمين فأشبه المودع.
الشيخ: في هذه المسألة ينبغي أن ينظر إلى حال الرجلين فمن كان حاله أقرب
إلى الاستقامة فالقول قوله ويعرف هذا بحال الشخص، والقاضي لابد أن يكون
عنده علم بأحوال الناس حتى يبني الأحكام على ما يعلمه منهم وقوله (ففيه
وجهان) نقول ما هو الذي يمشي على القاعدة الوجه الأول أم الوجه الثاني؟
الجواب الوجه الأول لأن كل من قبض العين لحظه فإنه لا يقبل قوله في الرد
إلا ببينة.
القارئ: وإن هلكت العين فقال الأجير هلكت بعد العمل فلي الأجرة فأنكره
المستأجر فالقول قوله لأن الأصل عدم العمل وإن دفع ثوباً إلى خياط فقطعه
قباء وقال بهذا أمرتني فلي الأجرة ولا ضمان علي وقال صاحبه إنما أمرتك
بقطعه قميصا فالقول قول الأجير نص عليه لأنه مأذون له في القطع والخلاف في
صفته فكان القول قول المأذون له كالمضارب ولأن الأصل عدم وجوب الغرم فكان
القول قول من ينفيه ويتخرج أن يقبل قول المالك لأن القول قوله في أصل الإذن
فكذلك في صفته ولأن الأصل عدم ما ينفيه فكان القول قوله فيه.
الشيخ: هذه المسألة تقع فأحياناً يقول
الرجل أعطيتك هذا القماش لتجعله قميصاً لكن الخياط جعله قباء وهنا نسأل ما
هو القباء؟ الجواب القباء هو نوع من اللباس صفته أنه يكون واسعاً مفتوحاً
من أعلى الجيب إلى أسفله وله أكمام واسعة، هذا هو القباء أحياناً يطرح على
الكتفين بدون أن تدخل الأكمام وأحياناً تدخل الأكمام فهنا هذا الخياط جعله
قباء ومالك القماش يقول إني أذنت لك أن تجعله قميصاً، فمن يقبل قوله؟ يقول
المؤلف رحمه الله إن القول قول الأجير وهو الخياط فالقول قوله ولا ضمان
عليه ويستحق الأجرة وعلل ذلك بقوله لأنه مأذون له في القطع والخلاف في صفته
فكان القول قول المأذون له كالمضارب ولأن الأصل عدم وجوب الغرم فكان القول
قول من ينفيه، لكن المؤلف ذكر أنه يتخرج أن يقبل قول المالك، وهذا بعكس
الأمر الأول الذي نص عليه الإمام أحمد لأن الإمام أحمد نص على أن القول قول
الأجير والمؤلف يقول يتخرج أن يكون القول قول المالك، لكن بماذا نعامل
الأجير إذا قلنا إنَّ القول قول المالك؟ الجواب نعامله بالضمان والثاني عدم
الأجرة هذا ما أراد المؤلف رحمه الله لكن ينبغي إذا قلنا إن القول قول
المالك أن يباع القباء ويعطى المالك الفرق بين قيمة القميص وقيمة القباء
فيزاد على قيمة القباء الفرق بينه وبين قيمة القميص لكي لا نظلم أحداً، ثم
إنه في أصل المسألة لا ينبغي أن نقول إن القول قول المالك مطلقاً ولا أن
نقول إن القول قول الأجير مطلقاً بل ننظر للقرينة إذا كان صاحب الثوب ممن
عادته لبس القباء فالقول قول الأجير وإذا كان من عادته أن يلبس القميص
فالقول قول المالك لأن هذه قرينة ويوجد الآن في بعض بلاد العالم يكون له
لباس خاص وهو القباء فالقباء هو لباس العلماء عندهم فإذا قال الأجير أنت
أمرتني أن أجعله قباء وقال صاحب القماش بل أمرتك أن تجعله قميصاً فالقول
قول الأجير، ثم هناك أيضاً دليل آخر وهو القماش فالقماش يختلف لأن قماش
القميص
غير قماش القباء فقماش القباء يكون غليظاً
وثخيناً والقميص بعكس ذلك، والمهم أن القول الراجح في هذه المسألة أن ننظر
للقرائن باعتبار الشخص أو باعتبار الثوب.
باب
الجعالة
القارئ: وهي أن يجعل جعلاً لمن يعمل له عملا من رد آبق أو ضالة أو بناء أو
خياطة وسائر ما يستأجر عليه من الأعمال فيجوز ذلك لقول الله تعالى
(وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) ولما روى أبو
سعيد أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حياً من أحياء
العرب فلم يقروهم فبيناهم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا هل فيكم من راق
فقالوا لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلا.
الشيخ: قوله في الحديث (أو تجعلوا لنا جعلاً) نقول (أو) هنا بمعنى إلا،
كقول القائل لأقتلن الكافر أو يُسلمَ والمعنى إلا أن يُسْلِم و (أو) تأتي
بمعنى إلا أن، وتأتي بمعنى إلى أن فإذا كانت للغاية فهي بمعنى إلى أن وإذا
كانت لغير الغاية فهي بمعنى إلا أن.
القارئ: فجعلوا لهم قطيع شياه فجعل رجل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل
فبرئ الرجل فأتوهم بالشياه فقالوا لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله صلى
الله عليه وسلم فسألوا فقال (وما أدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي منها
بسهم) متفق عليه ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك في رد الضالة ونحوها فجاز
كالإجارة.
الشيخ: هذا الحديث فيه آية من آيات الله عز
وجل، الصحابة رضي الله عنهم نزلوا على هذا الحي ولكن الحي لم يقوموا
بالضيافة والضيافة واجبة (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)
فتنحوا فسلط الله على سيدهم عقرباً لدغته فتألم منها فأتوا إلى الصحابة
فقالوا هل فيكم من راقٍ؟ قالوا نعم، لكنكم لم تقرونا _أي تضيفونا_ فلا نقرأ
إلا بجعل فجعلوا لهم جعلاً غنماً، فذهب أحدهم وجعل يقرأ عليه بفاتحة الكتاب
فقط فقام هذا اللديغ كأنما نُشِطَ من عقال وسبحان الله هذا من تأثير القرآن
لكن لا بد في نفع القراءة على المريض من ثلاثة أمور:
أولاً المحل القابل.
ثانياً أهلية الفاعل.
ثالثاً آلية القراءة.
أما قبول المحل أي بمعنى أن يكون المريض
قابلاً لهذه القراءة موقناً أنها سوف تنفعه، وأما أهلية الفاعل وذلك بأن
يكون عنده توكل على الله عز وجل وقوة وعزيمة واعتقاد بأن ذلك سينفع وأما إن
فعل ذلك للتجربة فهذا لا ينفع والثالث الآلية وذلك أن يكون ما يقرأ به مما
ورد في الكتاب والسنة أما إذا قرأ بأشياء لا يُعرف معناها كرموز وألغاز
فهذا لا ينفع ولا يجوز وإن نفع فهو بواسطة الشيطان وهنا سؤال وهو هل هذا
الرجل أعني سيد هؤلاء القوم هل هو قابل لهذه القراءة؟ الجواب قابل بلا شك
فهم يطلبون أحداً يقرأ عليه وكذلك الرجل الفاعل أي القارئ هو أهل لذلك لأنه
صحابي وقرأ على أساس أن القراءة سوف تنفع والآلية كذلك لا شك فيها لأن ما
قرأ به هو القرآن وهي الفاتحة وسبحان الله يعني قد يقول قائل ما العلاقة
بين المرض وبين الفاتحة؟ نقول العلاقة لأن الفاتحة أم القرآن فهي جامعة
لمعاني القرآن كله فلذلك صارت رقية مع أنك لو قرأت الفاتحة على لديغ قد
تقول ما العلاقة بين اللدغة وبين قراءة الفاتحة ولو قرأت مثلاً (وَلَهُ مَا
سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لكان هذا
مناسباً ووجه المناسبة هو ذكر السكون أو ما أشبه ذلك من الآيات التي تتناسب
مع المرض، لكن ما مناسبة الفاتحة للرقية؟ الفاتحة هي أم القرآن وهي السبع
المثاني ولا نظير لها في الكتب السابقة أبداً فلذلك كانت قرأتها على المرضى
شفاء بإذن الله عز وجل، ثم إن الصحابة رضي الله عنهم أشكل عليهم ما أخذوه
من الغنم وقالوا لا نأخذها حتى نسأل الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا من
ورعهم فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال (وما يدريك أنها رقية) وهذا
الاستفهام للتقرير يعني أنها رقية وأذن لهم بأخذ الجعل وقال أضربوا لي منها
بسهم وهذا هو العلم فهل هو بحاجة إلى أن يضرب له منها بسهم؟ الجواب لا،
لكنه سألهم لمصلحتهم هم لا لمصلحته هو وذلك لكي تطمئن نفوسهم لأن
التعليل بالفعل أشد تأثيراً من التعليل
بالقول وهذا كما أمرنا الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم أن نُصلِّيَ
عليه مع أنه ليس بحاجة لنا لكن هذا لأجل مصلحتنا نحن لأننا إذا صلينا عليه
وعلى آله وسلم مرة واحدة صلى الله علينا بها عشرة.
وفي هذا حديث أيضاً دليل على جواز أخذ الجعل على القراءة على المريض لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك فإن قال قائل كيف يجوز الأخذ على قراءة
القرآن؟ قلنا ليس هذا الجعل لقراءته القرآن فلم يقل للرجل اقرأ علينا
الفاتحة أو أقرأ علينا البقرة ونعطيك عشرة ريال مثلاً كل ذلك لم يُقَلْ، بل
هذا الجعل من أجل أنَّ علاجه بقراءة القرآن فشفاه الله عز وجل فَنَفعُ هذه
القراءة متعدي كما أنه يجوز أن تأخذ أجراً على تعليم القرآن وأما على قراءة
القرآن فلا يجوز فإذا أخذ الإنسان أجراً على قراءة القرآن فهذا حرام ولا
ثواب له وإذا أخذ أجراً على تعليم القرآن فهذا جائز ولا بأس به لأن الأجر
هنا على عمل متعدي وإذا أخذ عوضاً على قراءة القرآن على مريض فهذا جائز لأن
نفع ذلك متعدي فالمؤلف رحمه الله استدل بالحديث واستدل بالنظر وهو التعليل
لأن الحاجة تدعو إلى ذلك في رد الضالة ونحوها فجاز كالإجارة ورد الضالة هو
أن تعلن مثلاً من رد ضالتي فله كذا وكذا فهذا جائز فربما يردها عن قُرْبٍ
وربما يردها عن بُعْدٍ فنقول هو وحظه إن وجدها قريبة من البلد فهذا حظه وإن
وجدها بعيدة فهذا حظه ولو قُدِّرَ أن هذا الذي سمع بهذا الإعلان ذهب يطلب
وتعب وأتعب سيارته وفي النهاية وجدها شخص آخر فهل الأول الذي تعب في البحث
يستحق شيئاً؟ الجواب لا، لأنه ما تم المعقود عليه فالرجل قال من رد ضالتي،
وهذا لم يردها فيكون الله عز وجل قد قدر الرزق للذي ردها، ثم نقول أيضاً
هذا الذي ردها هل يستحق الجعل أو لا يستحق؟ الجواب إن كان الذي ردها عمل
العمل لردها بعد علمه بالجعل فله ذلك وإن كان قبل علمه فلا شيء له، لأنه لم
يعمل لأجل
العوض فقد تكون وقعت في يده وأخذها أو فعل
ذلك تبرعاً ومساعدة لصاحبه فهو لم يأت بها بناءً على العوض.
السائل: قد يأتي إمام إلى أهل حي فيصلي بهم فتجد أثر قراءته ظاهراً على
المصلين من خشوع وبكاء وقد يأتي إمام آخر إلى نفس أهل الحي فيصلي بهم لكن
لا تجد ذلك التأثر فما السبب في ذلك؟
الشيخ: على كل حال الخشوع له أسباب منها الأداء فبعض الناس أداءه للقرآن
الكريم يُخَشِّعُ الغير، ومنها أيضاً أنه إذا خشع الإمام فالغالب أن
المأمومين يتأثرون ويخشعون، ومنها استحضار المعنى في آيات توجب رقة القلب
فالآيات ليست على حد سواء فإذا قرأت مثلاً سورة ق أو قرأت سورة الواقعة لا
شك إنك تتأثر أكثر مما لو قرأت آية الدين مثلاً فهذه لها أسباب، ثم إن قسوة
القلوب الآن أكثر من قبل فالآن القلوب قاسية لأنه فتحت علينا الدنيا
وانهمكنا بها فصار الإنسان يدخل في صلاته ويفكر ويخرج منها وهو يفكر وهذا
لا شك أن له تأثير قوي.
السائل: قد يصاب الإنسان بألم ما فيقرأ على نفسه فيشفى في وقت قصير وقد
يصيبه نفس الألم فيقرأ عليه نفس القراءة ومع ذلك قد لا يشفى إلا في وقت
طويل فما سر ذلك؟
الشيخ: هذا معلوم لأن الأمر بيد الله عز وجل فما كل سبب يؤثر فالأسباب لا
تؤثر بنفسها قد يكون هناك مانع ما وقد يكون الله عز وجل أراد أن يدخر لهذا
الداعي ما هو خير وقد يكون الله عز وجل يريد أن يترقى هذا الذي أصابه المرض
إلى درجة الصابرين لأن الصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود ما يُصْبَرُ
عليه وانظر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ألم يكن يوعك كما يوعك الرجلان
مع أنه خير الله عز وجل ولكن هذا لأجل أن ينال درجة الصبر فهو نال عليه
الصلاة والسلام درجة الصبر على أقدار الله ونال درجة الصبر على طاعة الله
فقد يدعو الناس وهم يؤذونه ويحاربونه ويقتلون أصحابه وهو صابر على هذه
الدعوة، ثم الصبر على محارم الله وهو معروف.
القارئ: ويجوز عقد الجعالة لعامل غير معين
وعمل مجهول فيقول من رد ضالتي فله كذا للآية ولأن الحاجة داعية إليه مع
الجهل فجاز كالمضاربة ولا يجوز إلا بعوض معلوم لأنه عقد معاوضة فاشترط
العلم بعوضه كالإجارة.
الشيخ: قوله (فله كذا للآية) ماهي الآية؟ الجواب هي قوله تعالى (وَلِمَنْ
جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) فهو لم يعين العامل ولم يعين العمل لأنه لا
ندري ما يأتي به.
القارئ: فإن شرط مجهولاً فسد وله أجرة المثل لأنه عقد يجب المسمى في صحيحه
فوجبت أجرة المثل في فاسده كالإجارة.
فصل
القارئ: وهي عقد جائز لأنها تنعقد على مجهول فكانت جائزة كالمضاربة وأيهما
فسخ قبل الشروع في العمل فلا شيء للعامل وإن فسخه العامل قبل تمام العمل
فلا شيء له لأنه إنما يستحق بعد الفراغ من عمله وقد تركه وإن فسخه الجاعل
بعد التلبس به فعليه أجرة ما عمل العامل لأنه إنما عمل بعوض لم يسلم له وإن
تم العمل لزم العقد ووجب الجعل لأنه استقر بتمام العمل فأشبه الربح في
المضاربة وإن زاد في الجعل أو نقص منه قبل الشروع في العمل جاز لأنه عقد
جائز فجازت الزيادة فيه والنقصان قبل العمل كالمضاربة.
فصل
القارئ: ولا يستحق الجعل إلا بعد فراغه من العمل لأنه كذا شرط وإن جعل له
جعلاً على رد آبق فرده إلى باب الدار فهرب أو مات قبل تسليمه لم يستحق شيئا
لأنه لم يأت بما جُعِلَ الجعل فيه وإن قال من رده من مصر فله دينار فرده من
نصف طريقها أو قال من رد عَبْدَيَّ فله دينار فرد أحدهما فله نصف الدينار
لأنه عمل نصف العمل وإن رده من أبعد من مصر لم يستحق إلا الدينار لأنه لم
يضمن لما زاد شيئا وإن رده جماعة اشتركوا في الدينار لأنهم اشتركوا في
العمل فإن جعل لواحد في رده ديناراً ولآخر اثنين ولآخر ثلاثة فلكل واحد
منهم ثلث جعله.
الشيخ: كم يستحق كل واحد منهم؟ الأول له ثلث دينار والثاني ثلثا دينار
والثالث دينار كامل.
القارئ: وإن جعل لواحد منهم ثوباً فله ثلث
أجرة المثل لأنه عوض مجهول فاستحق ثلث أجرة المثل وإن جعل لواحد جعلا
فأعانه آخر فالجعل كله للمجعول له لأن العمل كله له فإن قال الآخر شاركته
لأشاركه في الجعل فللعامل نصف الجعل لأنه عمل نصف العمل ولا شيء للآخر لأنه
لم يشرط له شيء.
فصل
القارئ: ومن عمل لغيره عملاً بغير جعل فلا شيء له لأنه بذل منفعته بغير عوض
فلم يستحقه وإن التقط لقطة قبل الجعل ثم بلغه الجعل لم يستحقه لأنه وجب
عليه ردها بالتقاطها فلم يجز له أخذ العوض عن الواجب وإن التقطها بعد الجعل
ولم يعلم بذلك لم يستحقه لأنه تطوع بالالتقاط وإن نادى غير صاحب الضالة من
ردها فله دينار فردها رجل فالدينار على المنادي لأنه ضمن العوض وإن قال في
النداء قال فلان من رد ضالتي فله دينار فردها رجل لم يضمن المنادي لأنه لم
يضمن إنما حكى قول غيره.
الشيخ: إذا أنكر صاحب الضالة وقال أنا لم أقل أن من ردَّ ضالتي له دينار
وهذا المنادي كذب عليَّ، فهنا يضيع حقه على كلام المؤلف لأنه لم يحتط
لنفسه، ولكن نقول الذي يظهر أن هذا المنادي إذا كان موثوقاً فإنه يضمن لأنه
موثوق فيقال له أحضر الجعل الذي جعلت وارجع أنت على صاحب الضالة لأن
المنادي الذي قال: قال فلان من رد ضالتي فله كذا وثق الناس في قوله وذهبوا
يطلبون الضالة لأجل ثقتهم به فإذا أحضروها نقول له عليك الضمان لأنك رجل
ثقة والناس ما عملوا إلا بناءً على استحقاقهم لهذا الجعل ثم أنت ارجع على
صاحبك وهذا الأمر يكون فيما إذا أنكر صاحب الضالة أما إذا أقر فهنا وجب
عليه الجعل _ أي على صاحب الضالة _.
فصل
القارئ: وإن اختلفا في الجعل أو في قدره أو في المجعول فيه الجعل فالقول
قول المالك لأنه منكر ما يدعى عليه والأصل عدمه.
الشيخ: قوله (الأصل عدمه) وفي نسخة (الأصل معه).
فصل
القارئ: وإن رد آبقاً من غير شرط ففيه
روايتان إحداهما لا جعل له فيما ذكرنا والثانية له الجعل لأن ذلك يروى عن
عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ويروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل في الآبق إذا جاء به خارجاً من الحرم
دينارا ولأن في ذلك حثاً على رد الآبق وصيانة عن الرجوع إلى دار الحرب
وردتهم عن دينهم فينبغي أن يكون مشروعا وقدر الجعل دينار أو اثنا عشر درهما
لما رُوِّينَا ولأن ذلك يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما وعن أحمد رضي الله
عنه أنه إن رده من خارج المصر فله أربعون درهما وإن رده من المصر فله دينار
لأنه يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه وسواء كان ذلك كقيمة العبد أو أقل أو
أكثر فإن مات السيد استحق الجعل في تركته وما أنفقه على الآبق في قوته رجع
به على سيده سواء رده أو هرب منه في بعض الطريق.
الشيخ: الصحيح أن له عوضاً في رده للآبق، لكن تقديره باثني عشر ديناراً أو
الاختلاف بين المصر وغيره فيه نظر لأن ما روي عن الصحابة في هذا يمكن أن
يكون في ذلك الوقت هو أجرة المثل فقدروه بذلك لأنه أجرة المثل فالصواب أنه
يستحق لأن خطر الآبق ليس كغيره وعليه فهو يستحق العوض لكن يرجع في ذلك إلى
أجرة المثل وأما التقدير الوارد عن الصحابة فهذا لأنه كان في عهدهم يستحق
هذا القدر.
السائل: لوقال رجلٌ من ردَّ ضالتي (فله جائزة) ولم يعين ما هي هذه الجائزة
ومن المتعارف عليه عند أهل هذه البلاد مثلاً أن من رد الضالة فله عشر
قيمتها فهل إذا وجدها رجل ما وردها يستحق عشر قيمتها أم لا وهل هناك فرق
بين أن يقول فله (جائزة) أو فله (الجائزة)؟
الشيخ: نعم لو قال (فله الجائزة) فهنا يأخذ ما كان معروفاً وهو عشر القيمة
ولكنه قال (فله جائزة) فيرجع في ذلك إلى أجرة المثل.
باب
المسابقة
القارئ: تجوز المسابقة على الأقدام والدواب وبالسهام والحراب والسفن وغيرها
لما روى ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين
الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وبين التي لم تضمر من ثنية
الوداع إلى مسجد بني زريق) متفق عليه وسابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة
رضي الله عهنا على قدميه وسابق سلمة بن الأكوع رجلاً من الأنصار بين يديه
ومر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم يَرْبَعُونَ حجراً أي يرفعونه بأيديهم
ليعلم الشديد منهم فلم ينكر عليهم.
الشيخ: هذا النوع من المسابقة جائز وإن كان فيه شيء من اللهو لكن فيه مصلحة
وتمرين وإلا فلا شك أن المسابقة في هذه الأشياء يلهو بها الإنسان كثيراً
لكن فيها مصلحة وتمرين ومن ذلك ما يعرف الآن في لعب الكرة كرة القدم فهذه
فيها لهو لكن فيها تمرين وتنشيط للجسم فتكون من قسم المباح إلا أن يقترن
بها شيء محرم ككشف العورة والتنابز بالألقاب أو تكون على عوض فتكون حراماً.
القارئ: ولا يجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام لما روى أبو هريرة (أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لا سَبَقَ إلا في نصل أو خف أو حافر) رواه
أبو داود فتعين حمله على المسابقة بعوض جمعاً بينه وبين ما رُوِّينَا.
الشيخ: قوله (جمعاً بينه وبين ما رُوِّينا) يعني مما سبق في جواز المسابقة
فيه.
القارئ: والمراد بالحافر الخيل خاصة وبالخف الإبل وبالنصل السهام لقول
النبي صلى الله عليه وسلم (ليس من اللهو إلا ثلاث تأديب الرجل فرسه
وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله) ولأن غير الخيل والإبل لا تصلح للكر
والفر والقتال وغير السهام لا يعتاد الرمي بها فلم تجز المسابقة عليها
كالبقر والتراس.
السائل: إذا قال الجاعل أي صاحب الضالة من رد علي ضالتي فله كذا ثم إن صاحب
الضالة زهد فيها لكن أتاه رجل ورد ضالته فهل تلزمه الأجرة؟
الشيخ: نقول ما ذنب هذا الرَّاد وحتى لو
ردها مثلاً وهي على صفة رديئة بحيث يكون لصاحبها حينما جَعَلَ الجُعْل يظن
أنها على حالها حين فقدها فردها عليه الرجل وهي بصفة رديئة فليس له أن يقول
أنا جعلت الجعل ظاناً أنها على حالها الأول والآن قد هزلت، فنقول له أنت قد
جعلت جعلاً على عمل وقد قام به هذا الرجل، وإذا شئت فَقَيِّد وقل من رد
ضالتي على حالها فله كذا كما أنك تقيد في المكان فتقول من رد ضالتي من مكان
كذا وكما أنك تقيد في الزمان فتقول من رد ضالتي في خلال أربعة أيام فهنا
كذلك قيِّد.
السائل: إذا قال من رد ضالتي فله دينار فردها شخص وشاركه آخر في هذا العمل
فهل يستحق شيئاً؟
الشيخ: يستحق الطرفان ديناراً واحداً.
السائل: مامعنى (ليس من اللهو إلا ثلاث)؟
الشيخ: يعني ليس من اللهو مالا يكون باطلاً إلا ثلاثاً ويفسره اللفظ الآخر
(كل لهو يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة وذكر هذا) أو يقال إن المعنى
ليس من اللهو ما ينفع إلا ثلاث.
فصل
القارئ: والمسابقة بعوض جعالة فيه لأنه عقد على ما لا يعلم القدرة على
تسليمه فأشبه رد الآبق ولكل واحد منهما فسخها قبل الشروع في المسابقة وما
لم يظهر فضل أحدهما.
الشيخ: قوله (ومالم يظهر فضل أحدهما) يعني وبعدها ما لم يظهر فضل أحدهما
والمعنى أنه قبل أن يشرعا في المسابقة فلكل واحد منهما أن يفسخ فإن شرعا
فلكل واحد منهما أن يفسخ إلا إذا ظهر الفضل لأحدهما فإن المفضول لا يفسخ
كما يذكر المؤلف
القارئ: فإن ظهر فللفاضل الفسخ والنقصان
والزيادة ولا يجوز للمفضول لئلا يفوت غرض المسابقة فإنه متى بان له أنه
مسبوق فسخ وذكر القاضي وجهاً آخر أنها عقد لازم لأن من شرطها العلم
بالعوضين فكانت لازمة كالإجارة ويجوز بذل العوض من بيت المال ومن السلطان
ومن المتسابقين ومن آحاد الرعية لأنه إخراج مال لمصلحة فجاز من الجميع
كارتباط الخيل في سبيل الله فإن بذل العوض فيها تحريض على التعلم
والاستعداد للجهاد.
الشيخ: وعمل الناس الآن في المسابقات لا بأس به لأن العوض قد يكون من بيت
المال وقد يكون من السلطان من جيبه الخاص وقد يكون من أحد التجار أو
الشركات أو ما أشبهها فليس بلازم أن يكون من أحد المتسابقين.
القارئ: ومن شرط العوض كونه معلوماً لما ذكرنا في الجعالة.
فصل
القارئ: ولا تجوز المسابقة بين جنسين كالخيل والإبل لأن تفاضل الجنسين
معلوم فأما النوعان كالعربي والهجين والبُختي والعرابي فقال القاضي تجوز
المسابقة بينهما لأن الجنس يشملهما فأشبها النوع الواحد وقال أبو الخطاب لا
تصح لأنهما يختلفان في الجري عادة فأشبها الجنسين وكذا الخلاف في المنضالة
بنوعين من القسي كالعربي والفارسي وقوس الجرح وقوس النبل لذلك.
الشيخ: قوله (قوس الجرح) في النسخة التي معي قال (الجرخ) بالخاء وذكر في
الحاشية في النسخة التي معي قال العلامة البهوتي جرخ وهو الذي يرمي به
الروم وفي الألفاظ الفارسية المعربة الجروخ من أدوات الحرب، مشتقة من الجيم
المنقوطة بثلاث ومعناها الفلك وتطلق على جميع الآلات التي تدور (1).
السائل: العوض إذا كان من المتسابقين ألا يكون قماراً؟
__________
(1) ملحوظة: سأل الشخ الطلاب عن كيفية النطق بـ (چـ) التي هي منقوطة بثلاث
فأجاب أحد الطلاب أن نطقها يكون بين الشين والجيم، وأقره الشيخ رحمه الله
على ذلك وطلب الشيخ تصحيح الكلمة (الجرح) وجعلها بالخاء (الجرخ).
الشيخ: العوض من المتسابقين يكون قماراً
مباحاً وهذا وجه الاستثناء وأما اشتراط المحلل فسيأتي ذكر الخلا ف فيه
والصواب أنه لا يشترط.
السائل: ما حكم بذل العوض من غير أحد المتسابقين في المسابقات التي لا
يشترط فيها منفعة شرعية؟
الشيخ: الظاهر أنه لا بأس لأن الإنسان له أن يبذل ماله فيما يتفرج عليه
وهذا سوف يتفرج على المتسابقين ويعطيهم جائزة.
فصل
القارئ: ويشترط تعيين المركوبين لأن القصد جوهرهما وتعيين الراميين لأن
القصد معرفة حذقها ولا يعتبر تعيين الراكبين ولا القوسين لأنهما آلة
للمقصود فلم يعتبر تعيينها كسرج الدابة.
الشيخ: ما ذكره المؤلف قول ضعيف والصواب أنه يعتبر تعيين الراكبين لأن
الراكبين يختلف الجري باختلافهما فبعوض الناس يركب على البهيمة ويزجرها
لتسرع في المشي ولكنها نائمة لا يهمهما بل ويضربها ولا يهمها وبعض الناس
يركب فيزجرها ويحرك نفسه على ظهرها فتمشي وتهملج وهذا شيء شاهدناه لمَّا
كان الناس يركبون الإبل بل والحمير أيضاً نجد بعض الناس يركب ويزجر وينهر
والدابة نائمة لا تتحرك بل وإذا ضربها قد تصعب عليه ولا تمشي وبعض الناس
إذا ركب لا يحتاج إلى ذلك كله بل إذا أرادها أن تسرع حرك نفسه فكيف نقول مع
وجود هذا الفرق العظيم أنه لا يشترط تعيين الراكبين بل الصواب المقطوع به
أنه لابد من تعيين الراكبين، أما مسألة القوسين فهذا إذا كانا يختلفان
فلابد من تعيينهما وإن كانا لا يختلفان فلا بأس أن يقع العقد على قوس مجهول
ثم عند الرمي كل يرمي بقوسه.
القارئ: ويعتبر تحديد المسافة لحديث ابن عمر ولأنهما إذا أجريا إلى غير
غاية لم يؤمن ألا يسبق أحدهما حتى يعطبا أو أحدهما.
الشيخ: هذا صحيح فلا بد من تحديد غاية فلو أن رجلان تسابقا على فرسين ولم
يذكرا غاية وأشارا إلى جهة مكة ولم يعينا غاية فمتى يكون المنتهى قد يكون
مكة أو من وراء مكة فلهذا يقول المؤلف رحمه الله (لم يؤمن ألا يسبق أحدهما
حتى يعطبا أو أحدهما).
القارئ: ولا يجوز إجراؤهما إلا بتدبير
الراكبين لأنهما إذا جريا لأنفسهما، تنافرا ولم يمضيا إلى الغاية.
الشيخ: المعنى أنه لابد أن يكون لهما أمين يأذن لهما في الانطلاق ويمنعهما
عند انتهاء الغاية.
القارئ: ولا يجوز أن يستبقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام فهو السابق
لأن هذا لا ينضبط فإن الفرسين لا يقفان عند الغاية لِيُقَدَّرَ ما بينهما.
الشيخ: هذا صحيح لأنه مع الاندفاع قد يصل الإنسان إلى الغاية ولكنه
يتعدَّاها وانظر أنت إلى نفسك في المسعى عندما تسعى شديداً بين العلمين
فإنك إذا أردت أن تجعل الغاية هي حد العلم الأخضر الثاني فلا بد أن تنطلق
بسرعة زائدة أو تخفض من قبل أن تصل إلى الحد.
فصل
القارئ: وإذا كان الجعل من غيرهم فقال من سبق منكم فله عشرة صح فإن سبق
واحد فهي له لأنه سبق وإن سبق اثنان أو أكثر اشتركوا في السبق وإن جاء الكل
معاً فلا شيء لهم لأنهم لا سابق فيهم.
الشيخ: إذا جاءوا جميعاً فلا يستحقون شيئاً لأن صاحب الجعل قال هو لمن سبق
منكم، وإذا أتوا جميعاً فلا سابق بينهم وعليه فلا يستحقون الجعل ولو قالوا
له اعطنا الجعُل لنجعله أنصاف بيننا فهل يلزمه؟ الجواب لا يلزمه لأنه يقول
إنما أردت التشجيع.
القارئ: وإن جعل السبق للمصلي وحده أو فضله عن السابق لم يصح لأن كل واحد
منهم يجتهد أن لا يسبق فيفوت الغرض وكذلك إن جعل للسابق عشرة وللثالث أربعة
ولم يجعل للمصلي شيئاً لم يصح لأن من عدا السابق يجتهد أن لا يسبق صاحبه
وإن سوى بين السابق والمصلي ولا ثالث معهما لم يصح لفوات الغرض به وإن كان
معهما ثالث نقص عنهما صح.
الشيخ: قوله (السابق والمصلي) المصلي هو الذي يأتي بعد الأول والسابق هو
الأول فإذا جعل الجعل للمصلي فمعناه أن كل واحد يحب أن يتأخر.
القارئ: لأن كل واحد منهم يجتهد في أن لا
يكون الثالث وإن جعل للمجلي وهو الأول مائة وللمصلي وهو الثاني تسعين
وللتالي وهو الثالث ثمانين وللبارع وهو الرابع سبعين وللمرتاح وهو الخامس
ستين وللحظي وهو السادس خمسين وللعاطف وهو السابع أربعين وللمؤمل وهو
الثامن ثلاثين وللطيم وهو التاسع عشرين وللسكيت وهو العاشر عشرة وللفسكل
وهو الأخير خمسة صح لأن الغرض حاصل وكل واحد يجتهد في سبق الآخر لينال أعلى
من رتبته.
الشيخ: هذه ألقاب معروفة عندهم في السباق وهي ليست مسائل شرعية لكنها عرفية
على هذا الترتيب الذي ذكره المؤلف.
القارئ: وإن جعل جعل كل رتبة يشترك فيه جميع من بلغها احتمل أن يصح لذلك
واحتمل أن لا يصح لأنه قد يشترك في السبق جماعة وينفرد المصلي فيفضلهم
بكثرة ما جعل له فيفوت الغرض وإن قال من بلغ الغاية فله عشرة لم يكن ذلك
مسابقة لأن مقصود المسابقة التحريض على السبق وتَعَلُّمُ الفروسية وهذا
يفوت بالتسوية ولكنه جعالة محضة لأنه بذل العوض في أمر فيه غرض صحيح وكذلك
إن قال ارم عشرة أسهم فإن كانت إصابتك أكثر من خطئك فلك كذا أو قال إن أصبت
بهذا السهم فلك كذا صح ولم يكن مناضلة لذلك.
فصل
القارئ: وإن أخرج الجعل أحد المتسابقين جاز لأن فيهما من يأخذ ولا يعطي فلا
يكون قماراً فإن سبق من أخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من صاحبه شيئاً.
الشيخ: قوله (يأخذ ولا يعطي) المعنى أنه إذا سبق أخذ جعله ولا يعطي الآخر
شيئاً.
القارئ: وإن سبق الآخر أحرز الجعل لأنه سابق وإن جاءا معاً فالجعل لصاحبه
لأنه لا سابق فيهما وإن أخرجا معاً لم يجز لأنه يكون قمارا لأنه ليس فيهما
إلا من يأخذ إذا سبق ويعطي إذا سبق إلا أن يدخلا معهما ثالثاً يساوي فرسه
فرسيهما لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أدخل فرساً
بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد
أمن أن يسبق فهو قمار) رواه أو داود.
الشيخ: قوله (إلا أن يدخلا معهما ثالثاً)
هذا يسمونه المحلل والصحيح أنه ليس بشرط وأنه يجوز للمتسابقين فيما يجوز
فيه السبق أن يتسابقا وإن لم يكن محلل لأن هذا هو الفرق فالصواب أن المحلل
ليس بشرط.
القارئ: ولأنه مع وجود المحلل المكافئ فيهم من يأخذ ولا يعطي فيخالف القمار
فإن كان لا يكافئهما فوجوده كعدمه لأنه معلوم أنه لا يأخذ شيئا وسواء كان
المحلل واحداً أو أكثر والمسابقة بين اثنين أو حزبين لأن الغرض الخروج من
القمار وقد حصل على أي صفة كان فإذا تسابقوا فجاءوا معاً أو جاء المستبقان
معاً قبل المحلل أحرز كل واحد منهما سبقه ولا شيء للمحلل لأنه لم يسبق ولم
يسبق أحدهما صحابه وإن سبقهما المحلل أخذ سبقيهما لأنه سبقهما وإن سبق أحد
المستبقين وحده أحرز السبقين لسبقه ولم يأخذ من المحلل شيئا وإن سبق أحدهما
مع المحلل أحرز المستبق سبق نفسه لأنه غير مسبوق وكان سبق الآخر بينه وبين
المحلل نصفين لاشتراكهما في سبقه.
فصل
القارئ: وترسل الفرسان معاً من أول المسافة في حال واحدة ولا يجوز لأحدهما
أن يجنب مع فرسه فرساً يحرضه على العدو ولا يصيح به في وقت سباقه ولا يجلب
عليه لما روى عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا جلب ولا
جنب في الرهان) رواه أبو داود وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال (من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا) فإن استوى
الفرسان في طول العنق فسبق أحدهما برأسه فهو سابق وإن اختلفا في طول العنق
أو كانا بعيرين اعتبر السبق بالكتف فمن سبق به أو ببعضه فهو سابق ولا عبرة
بالعنق وإن عثر أحدهما أو ساخت قوائمه في الأرض أو وقف لعلة فسبقه الآخر لم
يحكم له بالسبق لأن سبقه إياه للعارض لا لفضل جريه
فصل
القارئ: وإن مات أحد المركوبين بطلت
المسابقة لأن العقد تعلق بعينه فأشبه تلف المعقود عليه في الإجارة وإن مات
الراكب لم تبطل لأنه غير المعقود عليه وللوارث أن يقوم مقامه وله أن لا
يفعل لأن العقد جائز ومن جعله لازماً ألزمه أن يقوم مقامه كالإجارة.
الشيخ: قوله (وإن مات الراكب لم تبطل لأنه غير المعقود عليه) هذا فيه نظر
ظاهر، فالمعقود عليه صحيح أنه هو الفرس مثلاً لكن لا شك أن للراكب تأثيراً
في عدوه وسبقه، فالذي يظهر أنه إذا مات الراكب بطلت المسابقة وأنه ليس
للوارث أن يقوم مقامه لأن الثاني قد يرضى أن يسابق الميت ولا يرضى أن يسابق
الوارث لكونه مثلاً أشد منه.
باب
المناضلة
القارئ: وهي المسابقة بالرمي وتجوز بين اثنين وحزبين لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه خرج على أصحاب له يتناضلون فقال (ارموا وأنا مع بني
فلان فأمسك الآخرون فقال مالكم فقالوا يا رسول الله كيف نرمي وأنت معهم
فقال ارموا وأنا معكم كلكم) رواه البخاري ولأنه إذا جاز على اثنين جاز على
ثلاثة كسباق الخيل.
الشيخ: في هذا دليل على ما ذكره المؤلف وهو جواز أن تكون المسابقة بين
جماعة وجماعة، وفيه أيضاً دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم فإنه لمَّا احتج عليه الفريق الثاني قال (أنا معكم كلكم) ولم يقل إذن
أخرج عنكم فيحرِمُ الجميع وإنما كان معهم كلهم حتى يكون مع الجميع ولو قال
إذن أخرج عنكم لرضي الآخرون لكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يريد أن
يحرم الأولين الذين قال لهم (أنا معكم) وهذا لا شك أنه من حسن خلقه صلوات
الله وسلامه عليه.
فصل
القارئ: ويشترط لصحتها شروط ثمانية أحدها
تعيين الرماة لأن الغرض معرفة الحذق في الرمي فلا يتحقق مع عدم التعيين
كسباق الخيل فإن عقد اثنان نضالاً على أن يكون مع كل واحد منهما ثلاثة لم
يصح لذلك وإن عقد جماعة نضالاً ليتناضلوا حزبين احتمل أن لا يصح لأن
التعيين لا يتحقق قبل التفاصل وقال القاضي يصح ويجعل لكل حزب رئيس فيختار
أحدهما واحداً ويختار الآخر آخراً كذلك حتى يتناضلوا فإن اختلفا في المبتدئ
منهما بالخيار أقرع بينهما ولا يجوز أن يقتسموا بالقرعة لأنها ربما وقعت
على الحذاق في أحد الحزبين ولا يجوز أن يجعل زعيم الحزبين واحداً لأنه قد
يميل إلى أحدهما فتلحقه التهمة ولا يجوز أن يجعل الخيرة في تمييز الحزبين
إلى واحد لذلك ولا يجوز أن يجعل إلى واحد والسبق عليه لأنه يختار الحذاق
فيبطل معنى النضال.
الشيخ: هذا الفصل المدار فيه على التهمة.
فصل
القارئ: الشرط الثاني تعيين نوع القسي لأن الأغراض تختلف باختلافها فقد
يكون الرامي أحذق بنوع منه بالنوع الآخر وإن لم يكن في البلد إلا نوع واحد
لم يحتج إلى التعيين لأن الإطلاق ينصرف إليه كالنقد.
الشيخ: قوله (كنقد) أي أنه لو تبايعوا بدرهم والبلد فيه دراهم متنوعة لكنها
متساوية في الرَّواج فالعقد صحيح ويعطى واحد منهما، أما لو كانت مختلفة
الرَّواج فلابد من التعيين.
القارئ: فإن عقدا على نوع فأراد أحدهما أن ينتقلا إلى غيره أو أن ينتقل
أحدهما لم يجز لما ذكرناه وإن عقدا على قوس بعينه فانتقل أحدهما إلى غيره
من نوعه جاز لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الأعيان وإن شرط عليه أن لا
ينتقل خرج على الوجهين فيما إذا شرط في الإجارة أن لا يستوفي المنفعة
بمثله.
فصل
القارئ: الشرط الثالث أن يرميا غرضا وهو ما
يقع فيه السهم المصيب من جلد أو ورق أو نحوه وإن قالا السبق لأبعدنا رميا
لم يصح لأن القصد بالرمي الإصابة لا الإبعاد فلم يجز أخذ العوض عن غير
المقصود والسنة أن يكون لهما غرضان في هدفين متقابلين يرميان من أحدهما
الآخر ثم يرميان من الآخر الأول فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كذلك
كانوا يرمون فروي عن حذيفة وابن عمر أنهما كانا يشتدان بين الغرضين إذا
أصاب أحدهما خصلة قال أنا بها في قميص رواه سعيد ويروى أن ما بين الهدفين
روضة من رياض الجنة والهدف اسم لما ينصب الغرض فيه.
الشيخ: الهدف هو شيء قائم كخشبة أو نحوها يجعل فيها ما يرمى إليه وأما
الغرض فهو الذي تقع فيه الرمية.
فصل
القارئ: الشرط الرابع أن يكون قدر الغرض معلوماً طوله وعرضه وانخفاضه
وارتفاعه لأن الإصابة تختلف باختلافه فوجب علمه كتعيين النوع.
فصل
القارئ: فإن أطلقا العقد حمل على إصابته أي
موضع كان من الغرض من أطرافه وعراه وغيرها وإن أصاب علاقته لم يحسب له لأن
العلاقة ما يعلق به والغرض هو المعلق وإن شرطا إصابة موضع من الغرض كالدارة
التي في وسطه أو الخاتم الذي في الدارة لم يحتسب بإصابة غيره ويستحب أن
يصفا الإصابة فيقولا خواصل وهو اسم للإصابة كيفما كانت أو خوارق وهو ما ثقب
الغرض أو خواسق وهو ما ثقبه وثبت فيه أو موارق وهو ما ثقبه ونفذ منه أو
خوارم وهو ما قطع طرفه فإن أطلقا الإصابة حمل على الخواصل والقرع كالخصل
فإن أصاب سهماً في الغرض قد غرق إلى فوقه حسب له لأنه لولاه لوقع السهم في
الغرض وإن كان السهم معلقاً بنصله وباقيه خارج من الغرض لم يحسب له ولا
عليه لأن بينه وبين الغرض طول السهم فلا يدري أكان يصيبه أم لا فإن أطارت
الريح الغرض فأصاب السهم موضعه حسب له وإن وقع في الغرض في الموضع الذي
انتقل إليه حسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ في الرمي وإنما أصاب بفعل الريح
وإن عرضت ريح شديدة لم يحسب له السهم في إصابة ولا خطأ لأن ذلك من أجل
الريح وإن كانت لينة حسب في الإصابة والخطأ لأنها لا تمنع وإن وقع السهم
دون الغرض ثم ازدلف فأصابه حسب خاطئا لأن هذا لسوء رميه وإن عرض عارض من
كسر قوس أو انقطاع وتر أو ريح في يده فأصاب حسب له لأن إصابته مع اختلال
الآلة أدل على حذقه وإن أخطأ لم يحسب عليه لأنه للعارض وقال القاضي لا يحسب
له لأنه لا يحسب عليه في الخطأ فلا يحسب له في الإصابة كما في الريح
الشديدة وإن انكسر السهم فوقع دون الغرض لم يحسب عليه لأنه لعارض وإن أصاب
بنصله حسب له لما ذكرناه وإن أصاب بغيره لم يحسب له وإن أغرق الرامي في
النزع حتى أخرج السهم من الجانب الآخر احتسب له وعليه لأنه لسوء رميه أخطأ
ولحذقه أصاب ولأن ما حسب عليه في الخطأ حسب له في الإصابة كغيره وإن مرت
بهيمة بين يديه وتشوش رميه لم يحسب عليه في الخطأ لأنه لذلك العارض وإن
خرقه وأصاب
حسب له لأن هذا لقوة نزعه وسداد رميه وإن
شرطا الخسق فأصاب الغرض وثبت فيه حسب له فإن سقط بعد لم يؤثر كما لو نزعه
إنسان وإن ثقب ولم يثبت ففيه وجهان أحدهما لا يحتسب له لأن الخاسق ما ثبت
ولم يوجد والثاني يحسب له لأنه ثقب ما يصلح له فالظاهر أنه لم يثبت لعارض
من سعة الثقب أو غلظ لقيه وإن مرق منه حسب له لأنه لقوة رميه وإن خدشه ولم
يثبت فيه لمناع من حجر أو غلظ الأرض فعلى الوجهين لكن إن لم يحسب له لم
يحسب عليه لأن العارض منعه وإن لم يكن مانع حسب عليه فإن اختلفا في العارض
وعلى موضع السهم وفيه مانع فالقول قول صاحب السهم وإلا فالقول قول رسيله
ولا يمين لأن الحال تشهد بصدق المدعي وإن لم يعلم موضع السهم ولم يوجد وراء
الغرض مانع فالقول قول رسيله لذلك وإن كان وراءه مانع فقال الرسيل لم يثقب
موضع المانع أو أنكر الثقب فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم ما يدعيه
صاحبه لكنه محتمل فأحلفناه لذلك وإن كان في الغرض خرق أو موضع بال فوقع
السهم فيه وثبت في الهدف وكان صلابته كصلابة الغرض حسب له لأنه لولا الخرق
لثبت في الغرض وإن لم يكن كذلك لم يحسب له ولا عليه لأننا لا نعلم هل كان
يثبت في الغرض أو لا؟ وإن ثبت في الهدف فوجد في نصله قطعة من الغرض فقال
الرامي هذا الجلد قطعه سهمي لقوته وقال رسيله بل هذه جلدة كانت منقطعة من
قبل فالقول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق والله أعلم.
الشيخ: قوله (لأن الأصل عدم الخسق) نقول الأصل السلامة فهذه القطعة لم
تنقطع إلا بالإصابة.
السائل: إذا كانت المسابقة في شيء مما يستعان به على الجهاد لكن لم يقصد
المتسابقان إطلاقاً التمرن والتدرب على الجهاد بل لمجرد التروح فقط فهل
تجوز وهل السَّبَقُ فيها جائز؟
الشيخ: لا بأس بذلك والسَّبَقُ فيها جائز لأن هذه الثلاثة لا بد أن تعينه
فلو حصل الجهاد أعانته.
السائل: بعض الناس يتاجرون بالمسابقة فهل هذا جائز؟
الشيخ: النصوص عامة لأن فوائد هذه على كل
حال حاصلة سواء نوى بها التجارة أو نوى بها الاستعانة على الجهاد أو نوى
بها التمرن مطلقاً أو أنهاهواية فالنصوص عامة والفائدة حاصلة بكل حال.
السائل: حتى لو كان في هذه المسابقة خسارة مال كما لو كان سباق في الرمي
فهنا سيخسر الرصاص الذي يطلق؟
الشيخ: هذا لا يضر فلا بد أن المتسابقين كل واحد منهما سيأتي بالعدة كاملة
ويخسر ما ينطلق من الرصاص وغيره.
فصل
القارئ: الشرط الخامس أن يكون مدى الغرض معلوماً مقدراً بما يصيب مثلهما في
مثله عادة لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد فاشترط العلم به كالنوع وإن
جعلاه قدراً لا يصيبان في مثله أو لا يصيبان إلا نادرا كالزائد على
ثلاثمائة ذراع لم يجز لأن الإصابة تندر في مثل هذا فيفوت الغرض.
الشيخ: قوله (لأن الإصابة تندر في مثل هذا) هذا من قبل أما الآن فيصيب
بأكثر من ثلاثمائة ذراع مضاعفاً لكن فيما سبق كان يعتمد على قوة الرامي
والرامي لا يبلغ سهمه إلى هذا إلا نادراً لكن في الوقت الحاضر يستطيع الرمي
إلى ثلاثة كيلو مثلاً مادام أنه يمكنه رؤيته.
فصل
القارئ: الشرط السادس أن يكون الرشق معلوما والرشق بكسر الراء عدد الرمي
لأن الحذق في الرمي لا يعلم إلا بذلك.
الشيخ: هذا الفصل لو يرجع فيه إلى كتاب الفروسية لابن القيم رحمه الله
يستفيد منه الطالب.
فصل
القارئ: الشرط السابع أن يكون عدد الإصابة معلوما كخمسة من عشرين ونحوها
ويعتبر أن يكون إصابة لا يندر مثلها فإن شرطا إصابة الجميع أو تسعة من عشرة
لم يصح لأن هذا يندر فيفوت الغرض.
الشيخ: هذا الشرط يقودنا إلى مسألة
يستعملها الناس الآن في مقاولات البناء فمثلاً يقول صالحب المال للمقاول
تبني لي هذه العمارة أو هذه الفيلا خلال أربعة أشهر وما زاد على ذلك يخصم
عليك كل يوم كذا وكذا فَلِطَمَعِ بعض المقاولين يوافق على هذا الشرط،
والعادة أن مثل هذه المدة لا يمكن أن تتم فيها عِمارةُ هذه الشقة أو الفيلا
فهذا الشرط لا يصح، أما لو جعل المدة مدةً معلومة أو مدةً يمكن فيها أن
ينتهي البناء فهذا لا بأس به أن يقول المدة ستة أشهر وما زاد خصم عليك، وفي
المسألة التي ذكرها المؤلف نقول إذا قدروا إصابة يندر مثلها فإنه لا يصح
فَمَنْ الذي يستطيع أن يصيب مثلاً ثمانية من عشرة؟ هذا نادر.
القارئ: ويستحب أن يبينا حكم الإصابة هل في مبادرة أو مُحَاطَّة والمبادرة
أن يقولا: من سبق إلى إصابتين أو نحوهما فهو السابق فأيهما سبق إليهما مع
تساويهما في الرمي فهو السابق فإذا رمى كل واحد عشرة فأصاب أحدهما إصابتين
دون الآخر فهو السابق ولا يلزم إتمام الرمي لأن المقصود قد حصل وإن أصاب كل
واحد منهما من العشرة إصابتين فلا سابق فيهما وبطل النضال لأن الزيادة على
عدد الإصابة غير معتد بها فإن رميا العشرين فلم يصب واحد منهما إصابتين أو
أصاباها معاً فلا سابق فيهما وأما المُحَاطَّة فهي إن يشترطا حط ما تساويا
فيه من الإصابة ثم من فضل صاحبه بإصابة معلومة فقد سبق.
الشيخ: الفرق بين المحاطة والمبادرة، المبادرة معناها أن من سبق ولو في نصف
العدد فهو السابق والمحاطة أن يقول نكمل العدد لأنك حتى وإن سبقتني وزدت
عليَّ فربما فيما بقي أكون أغلبك أو أكون أكثر منك أو أساويك فيبطل النضال،
فهذا هو الفرق بينهما، لكن إذا وصلا إلى حد لا يمكن للثاني أن يسبق فيه
فهنا تستوي المُحَاطَّة والمبادرة.
القارئ: فإن شرطا فضل ثلاث إصابات فرميا
خمسة عشر أصابها أحدهما كلها وأخطأها الآخر فالمصيب سابق ولا يجب إتمام
الرمي لعدم الفائدة فيه لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب المخطئ الخمسة الباقية
ويخطئها الأول ولا يخرج الثاني بذلك عن كونه مسبوقا وإن كان في إتمامه
فائدة مثل أن يكون الثاني أصاب من الخمسة عشر تسعة فإذا أصاب الخمسة
الباقية وأخطأها الأول لم يكن مسبوقا وجب إتمام الرمي فإن أطلقا العقد
انصرف إلى المبادرة لأن العقد على المسابقة والمبادر سابق ذكر هذا القاضي
وقال أبو الخطاب يشترط بيان ذلك في المسابقة لأن الغرض يختلف به فمن الناس
من تكثر إصابته في الأول دون الثاني فوجب اشتراطه كقدر مدى الغرض.
فصل
القارئ: الشرط الثامن التسوية بين المتناضلين في عدد الرشق والإصابة وصفتها
وسائر أحوال الرمي فإن تفاضلا في شيء منه أو شرطا أن يكون في يد أحدهما من
السهام أكثر أو أن يرمي أحدهما والشمس في وجهه أو يحسب له خاصل بخاسق أو لا
يحسب عليه سهم خاطئ لم يصح لأن القصد معرفة حذقهما ولا يعرف مع الاختلاف
لأنه ربما فضله بشرطه لا بحذقه وإن شرطا أن يحسب خاسق كل واحد منهما
بخاصلين أو يسقط القريب من إصابة إحداهما ما هو أبعد منها من رمي الآخر فمن
فضل بعد ثلاث إصابات فهو السابق صح لأنه لا فضل لأحدهما في عدد ولا صفة
وهذه نوع محاطة فصحت كاشتراط حط ما تساويا فيه.
فصل
القارئ: وإن كان الرماة حزبين اشترط كون الرشق يمكن قسمته عليهم إن كان كل
حزب ثلاثة وجب أن يكون له ثلث صحيح لأنه يجب التسوية بينهما في عدد الرمي
ولا يمكن إلا بذلك فوجب وإذا نضل أحد الحزبين صاحبه فالجعل بين الناضلين
سواء من أصاب ومن لم يصب ويحتمل أن يكون بينهم على قدر إصاباتهم لأنهم بها
يستحقون والجعل على المنضولين بالسوية وجهاً واحدا لأنه لزمهم بالتزامهم لا
بإصابتهم بخلاف الناضلين.
السائل: إذا تبرع شخص ما للمصارعة والمسابقة بالأقدام فهل هذا جائز؟
الشيخ: لا بأس إذا كان هذا مما يباح فلو أن
اثنين تسابقا على الأقدام وقال غيرهما من سبق منكما فله كذا فلا بأس وكذلك
في المصارعة لأن المصارعة لا بأس بها، أما الملاكمة فلا، لأن الملاكمة فيها
خطورة.
السائل: لو أن أحد المتسابقين قال _ من باب التحدي _ أعطيك خمسة إصابات
متقدمة أو قال أنا أرمي ووجهي للشمس وأنت وجهك لغير الشمس فهل هذا جائز؟
الشيخ: هذا لا يصح لأن المسابقة لابد فيها من التساوي وهذا ظلم ومغامرة.
السائل: حتى وإن كان المتسابق الأول راضي بذلك؟
الشيخ: حتى ولو رضي بذلك لا يصح وإذا كان راضي بهذا فنقول يعطيه الجعل
وينتهي الأمر ولا يتسابقون.
فصل
القارئ: فإن كان في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي بطل العقد فيه لأنها لا
تنعقد على من لا يحسن الرمي ويخرج من الحزب الآخر بإزائه كما إذا بطل البيع
في بعض المبيع بطل في ثمنه وهل يبطل العقد في الباقين على وجهين بناءً على
تفريق الصفقة فإن قلنا لا يبطل فلهم الخيار في الفسخ والإمضاء لأن الصفقة
تفرقت عليهم فإن اختاروا إمضاءه ورضوا بمن يخرج بازائه وإلا انفسخ العقد.
فصل
القارئ: ويرمي واحداً بعد الآخر لأن رميهما معاً يفضي إلى التنازع والجهل
بالمصيب فإن اتفقا على المبتدئ منهما جاز وإن كان بينهما شرط عمل به وإن
اختلفا ولا شرط بينهما قدم المخرج فإن كان المخرج غيرهما اختار منهما فإن
لم يختر أقرع بينهما وإذا بدأ أحدهما في وجه بدأ الآخر في الثاني تعديلاً
بينهما فإن شرطا البداية لأحدهما في كل الوجوه لم يصح لأنه تفضيل وإن فعلاه
بغير شرط جاز لأنه لا أثر له في إصابة ولا تجويد رمي ويرميان مراسلةً سهماً
وسهما أو سهمين وسهمين وإن اتفقا على غير هذا جاز لعدم تأثيره في مقصود
المناضلة.
فصل
القارئ: وإن مات أحد الراميين أو ذهبت يده
بطل العقد لأن المعقود عليه تلف فأشبه موت الفرس في السباق وإن مرض أو رمد
لم تبطل لأنه يمكن الاستيفاء بعد زوال العذر وله الفسخ لأن فيه تأخير
المعقود عليه فملك الفسخ كالإجارة وإن عرض مطر أو ريح أو ظلمة أخر إلى زوال
العارض وإن أراد أحدهما التأخير لغير عذر فله ذلك إن قلنا هي جعالة لأنها
جائزة وليس له ذلك إن قلنا هي إجارة ويكره للأمين مدح أحدهما أو زجره لأن
فيه كسر قلبه أو قلب صاحبه.
الشيخ: قوله (ويكره للأمين مدح أحدهما أو زجره) هذا صحيح فكونه يمدح أحد
الحزبين أو يزجر الثاني لا شك أنه ليس من العدل ولهذا جاء في الحديث (لا
جَلَبَ ولا جنب).
السائل: قول المؤلف (الأمين) ماذا يقصد به؟
الشيخ: الأمين هو الذي يراقب المتسابقين ويشبه الحكم عندنا في وقتنا
الحاضر.
باب
اللقطة
القارئ: وهي المال الضائع عن ربه وهي ضربان ضال وغيره فأما غير الضال فيجوز
التقاطه بالإجماع وهو نوعان يسير يباح التصرف فيه بغير تعريف لما روى جابر
قال (رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه
يلتقطه الرجل ينتفع به) رواه أبو داود ولا تحديد في اليسير إلا أنه ينبغي
أن يعفى عما رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث وشبهه وقال أحمد
رضي الله عنه ما كان مثل التمرة والكسرة والخرقة ومالا خطر له فلا بأس
ويحتمل أن لا يجب تعريف مالا يقطع فيه السارق لأنه تافه قالت عائشة رضي
الله عنها (كانوا لا يقطعون في الشيء التافه).
الشيخ: الذي يُقْطَعُ في السرقة هو ربع
دينار أو ثلاثة دراهم إذا كانت تقابل ربع الدينار وقيل مطلقاً يعني هل
النصاب الذي يتم به قطع يد السارق هل هو ثلاثة دراهم أو ربع دينار؟ الصواب
أنه ربع دينار وأن ثلاثة دراهم في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
تقابل ربع الدينار، والذي ذكره المؤلف وهو النوع الأول فإنه يملكه الإنسان
بمجرد التقاطه إلا إذا كان يعرف صاحبه فإنه لا يحل له أن يتصرف فيه بل يرده
إلى صاحبه أو يعلمه به مثل أن تجد في السوق شيئاً ساقطاً ولكن تعرف أنه
لفلان فإنه يجب عليك أن ترده له إما بإخباره فيأتي هو لأخذه وإما بإيصاله
إليه وكيف تعرف أنه لفلان الجواب إما أن أراه سقط منه وإما أن يكون قد
كَتَبَ عليه وإما أن أكون قد رأيته في يديه يكتب به مثلاً فالمهم أنه مقيد
بما إذا لم يعلم صاحبه فإن علم صاحبه وجب عليه أن يُبَلِّغهُ له.
السائل: الفلوس التي قد توجد ضائعة من أصحابها ما هو الضابط في قليلها وما
يلتقط منها؟
الشيخ: الظاهر أن هذا يختلف فقد كانوا في السابق الريال له قيمة عندهم ولا
يملك فقد كانوا في الأول يشترون بالريال شاة وما يطبخ معها فالشاة الواحدة
ربع ريال والجريش وما أشبه ذلك بثلاثة أرباع الريال أو بالعكس، أما الآن
فالريال ليس بشيء، ثم أيضاً لما كانت الفلوس كثيرة كانت الخمسين ريال لا
تهم أما الآن فيما أظن أنها تهم.
السائل: إذا كان الشيء زهيداً ولكن يغلب على ظن الإنسان أنه لو أعطاه صاحبه
قد يحتقره مثلاً كقطعة كيك أو قطعة حلوى فهل يجب إعطاه له؟
الشيخ: نحن قلنا ما دمت أنك تعرفه فإنه يجب عليك أن تُبَلِّغَهُ.
السائل: الشيء اليسير الذي لا تتبعه همة أوساط الناس قلنا إنه يملك بمجرد
أخذه فإذا أخذه وانتفع به ثم جاء بعد ذلك صاحب هذا الشيء فهل يجب أن يرده
عليه؟
الشيخ: لا يجب لأن الشارع ملكه إياه وهذا إذا كان لم يعلمه من قبل أي من
قبل أن يتصرف فيه، فلا يجب رده.
القارئ: والنوع الثاني الكثير فظاهر كلام
أحمد رضي الله عنه أن ترك التقاطه أفضل لأنه أسلم من خطر التفريط وتضييع
الواجب من التعريف فأشبه ولاية اليتيم واختار أبو الخطاب أن أخذه أفضل إذا
وجده بمضيعة وأمن نفسه عليه لما فيه من حفظ مال المسلم فكان أولى كتخليصه
من الغرق ولا يجب أخذه لأنه أمانة فلم يجب كالوديعة ومن لم يأمن نفسه عليه
ويقوى على أداء الواجب فيه لم يجز له أخذه لأنه تضييع لمال غيره فحرم
كإتلافه.
الشيخ: التفصيل الصحيح في هذا أن يقال إذا كان لا يأمن نفسه من التفريط
وعدم التعريف فالتقاطه حرام لأنه يعرض نفسه لأكل مال بالباطل، وإذا كان
يخشى أن يضيع على صاحبه مثل أن يكون حوله قطاع طريق أو ما أشبه ذلك
فَأَخْذُهُ واجب عليه، وإن لم يكن هذا ولا هذا فترك أخذه أفضل وهذا إنما هو
في غير مكة أما مكة شرفها الله فإنه لا يجوز أن يلتقطه إلا إذا كان
يُعرِّفُهُ، ولكن يُعرِّفُهُ إلى متى؟ الجواب إلى الأبد حتى إذا جاءه الموت
فإنه يكتب وصية بأني قد التقطت من مكة كذا وكذا فَعَرِّفُوا عليه، ولهذا
جعلت الحكومة وفقها الله أناساً في مكة يتلقون الأموال الضائعة حتى لا يتعب
الناس في تعريفها.
فصل
القارئ: إذا أخذها عرف عفاصها وهو وعاؤها ووكاءها وهو الذي تشد به وجنسها
وقدرها لما روى زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق فقال (اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها
سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوماً من الدهر
فادفعها إليه) متفق عليه نص على الوكاء والعفاص وقسنا عليهما القدر والجنس.
الشيخ: قوله (وقسنا عليه القدر والجنس) هذا
القياس فيه نظر لأن العفاص والوكاء يكفي إذ أنها مشدودة، وكانوا في الأول
يجعلون النقود في كيس صغير ويشدونه فإذا وجد الإنسان هذا الكيس فإنه لا
يلزمه أن يَحُلَّهُ وينظر ما فيه من النقود جنساً وقدراً بل يبقيه كما هو
مشدوداً على ما هو عليه ثم يُعرِّفه وإذا جاء صاحبه فإنه يستفصل منه.
القارئ: ولأنه إذا عرف هذه الأشياء لم تختلط بغيرها وعرف بذلك صدق مدعيها
أو كذبه وإن أخر معرفة صفتها إلى مجيء مدعيها أو تصرفه فيها جاز لأن
المقصود يحصل وقد جاء ذلك في حديث أُبَيٍّ ولا يحل له التصرف فيها إلا بعد
معرفة صفتها لأن عينها تذهب فلا يعلم صدق مدعيها إلا من حفظ صفتها.
الشيخ: إذا جاء إنسان يقول هذه النقود لي فلا بد أن يُسْأَل فيقال له ما هي
وما هو جنسها وما هو قدرها، لكن هل يلزم بأن يذكر رقمها؟ الجواب لا يلزم
بذلك لأن الناس الآن لا يهتمون بالرقم إنما يهتمون بالنوع والجنس لكن ربما
يلزم بأن يقول هل هي جديدة أو مستعلمة كثيراً أو مستعملة قليلاً لأن
الأوراق تختلف بالاستعمال القليل والكثير.
القارئ: ويستحب أن يشهد عليها نص عليه لما روى عياض بن حمار رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل
ولا يكتم ولا يغيب) رواه أبو داود ولأن فيه حفظها من ورثته إن مات وغرمائه
إن أفلس وصيانته من الطمع فيها ولا يجب ذلك لتركه في حديث زيد ولأنها أمانة
فلا يجب الإشهاد عليها كالوديعة.
الشيخ: قوله (لتركه في حديث زيد) يعني ترك ذكر الإشهاد ففي حديث زيد بن
خالد الجهني لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم أشهد عليه.
القارئ: قال أحمد رضي الله عنه ولا يبين في الإشهاد كم هي لكن يقول أصبت
لقطة.
الشيخ: ما ذكره المؤلف هنا صحيح وينبغي
أيضاً أن لا يُشْهِدَ إلا من هو ثقة لأنه لو أشهد غير الثقة لأمكن أن
يُعلمَ غيره ويقول له ادَّعِى أنها لك وأنا أكون شاهداً بأن الرجل أشهدني
على وجود هذه اللقطة.
فصل
القارئ: ويجب تعريفها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به ولأنه طريق وصولها
إلى صاحبها فوجب كحفظها ويجب التعريف حولاً من حين التقاطها متوالياً لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر به عند وجدانها والأمر يقتضي الفور ولأن
الغرض وصول الخبر وظهور أمرها وإنما يحصل بذلك لأن صاحبها إنما يطلبها عقيب
ضياعها ويكون التعريف في مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد وأوقات
الصلوات لأن المقصود إشاعة أمرها وهذا طريقه ويكثر منه في موضع وجدانها وفي
الوقت الذي يلي التقاطها ولا يعرفها في المسجد لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله تعالى
عليك فإن المساجد لم تبن لهذا) رواه مسلم.
الشيخ: لا يجوز أن ينشد الضالة في المسجد بل هو حرام وذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر من سمعه أن يَدْعُوَ عليه فيقول (لا ردها الله عليك)
ولكن هل يقول (فإن المساجد لم تبن لهذا) أو نقول إن هذا تعليل للحكم الشرعي
أي كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فليدعوا عليه بعدم وجودها لأن
المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت للصلاة؟ الجواب نقول يحتمل هذا وهذا، لكن
الأفضل أن يقولها حتى وإن كانت تعليلاً للحكم الشرعي فالأفضل أن يقولها من
أجل أن يطيب قلب المنشد لأن الغالب أنه لا ينشد أحد في المساجد إلا وهو
جاهل والجاهل لو تقول له لا ردها الله عليك بدون أن تقول له إن المساجد لم
تبن لهذا سيكون في قلبه شيء، وإذا رأيت أنه شوش حتى بعد أن قلت له إن
المساجد لم تبن لهذا فقل له يا أخي هكذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم.
القارئ: ويقول من ضاع منه كذا يذكر جنسها
أو يقول شيء ولا يزيد في صفتها لئلا يفوت طريق معرفة صاحبها.
الشيخ: هذا معلوم فلا يقول مثلاً من ضاع له الساعة الفلانية التي فيها
توقيتين أو فيها تاريخين ورباطها أو سيرها من جلد أو من حديد أو ما أشبه
ذلك، لأنه إذا وصفها بذلك فالكل سيقول هي لي، بل يقول من أضاع ساعةً أو
قلماً فيذكر شيئاً عاماً.
القارئ: وأجرة المعرف على الملتقط لأن التعريف عليه ولأنه سبب تملكها فكان
على متملكها قال أبو الخطاب إن التقطها للحفظ لصحابها لا غير فالأجرة على
مالكها يرجع بها عليه وقاله ابن عقيل فيما لا يملك بالتعريف.
الشيخ: مثل الإبل لا تملك بالتعريف والصواب أن أجرة الإنشاد على صاحبها فإن
لم يوجد فهي دخلت في ملك الملتقط ولا يحتاج أن نعطيه شيئاً، لكن إذا وجد
صاحبها فيكون على مالكها لأن هذا الإنشاد لمصلحة المالك فكيف يعمل هذا
الرجل لمصلحته وجزاه الله خيراً أنه لم يكتمها ثم مع ذلك نقول له إن الأجرة
عليك، هذا لا يستقيم، فالأجرة إذاً على المالك وهل للملتقط أن يحبسها على
أجرتها فيقول لمالكها لا أعطيك إياها حتى تسلمني الأجرة؟ الجواب: نعم لأن
هذه الأجرة لمصلحة العين فله أن يحبسها على أجرتها كما يحبس المبيع على
القول الراجح على ثمنه والله أعلم.
فصل
القارئ: فإذا جاء مدعيها فوصفها بصفاتها المذكورة لزم دفعها إليه لأمر
النبي صلى الله عليه وسلم به ولأنها لو لم تدفع بالصفة لتعذر وصول صاحبها
إليها لتعذر إقامة البينة فإن وصفها اثنان أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف
وسلمت إليه كما لو ادعى الوديعة اثنان وقال أبو الخطاب تقسم بينهما.
الشيخ: القول الأول أصح لأن هذه اللقطة
لواحد منهما بلا شك إذ أنها واحدة وكل واحد منهما يقول هي لي ولا طريق إلى
الوصول إلى الحق إلا بالقرعة فإن قال قائل ألا يمكن أن تكون هذه العين
مشتركة بينهما؟ فالجواب بلى يمكن، لكن هذا لم يثبت لأن كل واحد يدعي أنها
ملكه وحده وعلى هذا فلا طريق إلا القرعة بينهما.
مسألة: اللقطة إذا وصفها مدعيها وطابق وصفه وصفها وجب دفعها إليه وإذا لم
يصفها فإنه لا يقبل قوله إلا ببينة.
القارئ: وإن وصفها أحدهما وللآخر بينة قدم ذو البينة لأنها أقوى من الوصف
فإن كان الواصف سبق فأخذها نزعت منه وإن تلفت في يده فلصاحبها تضمين من شاء
منهما لأن الواصف أخذ مال غيره بغير إذنه والملتقط دفعه إليه بغير إذن
مالكه ويستقر الضمان على الواصف لأن التلف حصل في يده فإن ضمن لم يرجع على
أحد.
الشيخ: الصحيح أنه لا ضمان على الواجد لأن الواجد تصرف بمقتضى الشريعة
الإسلامية فكيف نضمنه!! فيقال لمن له بينة خاصم الرجل الذي وصفها وأخذها
أما أن نضمن من وجدها وقام بما يجب عليه فهذا قول ضعيف والصواب أنه إذا
تَحَرَّى وفعل ما جاءت به السنة فلا ضمان عليه.
القارئ: وإن ضمن الملتقط رجع عليه إلا أن يكون الملتقط دفعها إليه بحكم
حاكم فلا يضمن لأنها تؤخذ منه قهرا وإن أتلفها الملتقط فغرمه الواصف عوضها
ثم جاء صاحب البينة لم يرجع إلا على الملتقط لأن الواصف إنما أخذ مال
الملتقط ولم يأخذ اللقطة ثم يرجع الملتقط على الواصف.
الشيخ: قوله (يرجع الملتقط على الواصف) أي بما أخذ منه وهي القيمة التي عوض
بها عن اللقطة فإنه يأخذها.
فصل
القارئ: فإن لم تعرف دخلت في ملك الملتقط
عند الحول حكما كالميراث لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد (فإن
لم تعرف فاستنفقها) وفي لفظ (وإلا فهي كسبيل مالك) ولأنه كسب مال بفعل فلم
يعتبر فيه اختيار التملك كالصيد واختار أبو الخطاب أنه لا يملكها إلا
باختياره لأنه تملك مال ببدل فاعتبر فيه اختيار التملك كالبيع.
الشيخ: الظاهر أن قول أبي الخطاب أصح وهو أنها لا تدخل في ملكه إلا
بالاختيار، لأن الحديث ليس بواضح في وجوب دخولها بغير اختياره فقوله
(استنفقها) يعني لك أن تستنفقها وكذلك قوله (وإلا فهي كسبيل مالك) يعني في
جواز الانتفاع بها، فالظاهر أن قول أبي الخطاب أصح، ولكن إذا قال الملتقط
أنا لا أريدها فماذا يصنع بها؟ الجواب يدفعها إلى بيت المال وبذلك تبرأ
ذمته فإن لم يكن بيت المال منتظماً فإنه يتصدق بها كالمال المجهول مالكه
فيتصدق بها بالنية عن من هي له.
القارئ: والغني والفقير سواء في هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق
ولأنه تملك مال بعوض أشبه البيع.
فصل
القارئ: وما جاز التقاطه ووجب تعريفه ملك
به نص عليه أحمد رضي الله عنه في الصياد يقع في شبكته الكيس والنحاس يعرفه
سنة فإن جاء صحابه وإلا فهو كسائر ماله وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال أكثر
أصحابنا لا يملك غير الأثمان لأن الخبر ورد فيها ومثلها لا يقوم مقامها من
كل وجه لعدم تعلق الغرض بعينها فلا يقاس عليها غيرها وقال أبو بكر ويعرفها
أبدا وقال القاضي هو مخير بين ذلك وبين دفعها إلى الحاكم وقال الخلال كل من
روى عن أبي عبد الله أنه يعرفه سنة ثم يتصدق به والذي نقل عنه أنه يعرفها
أبداً قول قديم رجع عنه والأول أولى لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف ترى في
متاع يوجد في الطريق الميتاء أو في قرية مسكونة قال (عرفه سنة فإن جاء
صاحبه وإلا فشأنك به) رواه الأثرم وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عيبة
(عرفها سنة فإن عرفت وإلا فهي لك أمرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم).
الشيخ: العيبة تشبه الشنطة من جلد توضع فيها الثياب وكذلك أيضاً تطلق على
الوعاء الذي يجعل فيه التمر والطعام.
القارئ: ولأنه مال يجوز التقاطه ويجب تعريفه فملك به كالأثمان وقد دل الخبر
على جواز أخذ الغنم مع تعلق الغرض بعينها فيقاس عليها غيرها.
الشيخ: هذا هو الصواب بلا شك وهو أن اللقطة سواء من الأثمان أو من الأعيان
تُعَرَّفُ سنة فإن جاء صاحبها وإلا فهي للواجد، وعليه فنقول اللقطة تنقسم
إلى أقسام:
فالقسم الأول ما يملك بمجرد الالتقاط وضابطه أن لا تتبعه همة أوساط الناس.
والقسم الثاني ما يحتاج إلى تعريف سنة وبعده يملك.
والقسم الثالث الذي لا يملك بالتعريف ولا يجوز التقاطه وهو الإبل والضوال
التي تمتنع من صغر السباع، ثم ما بين ذلك فإنه يجوز التقاطه.
فصل
القارئ: ولقطة الحرم تملك بالتعريف في ظاهر
كلامه لظاهر الخبر ولأنه أحد الحرمين أشبه المدينة وعنه لا تملك بحال ويجب
تعريفها أبدا أو يدفعها إلى الحاكم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة
(لا تحل ساقطتها إلا لمنشد) متفق عليه.
الشيخ: قوله (وعنه لا تملك بحال ويجب تعريفها أبداً) نقول هذا أصح فإن لقطة
مكة لا تملك بأي حال من الأحوال ويجب تعريفها أبداً وقياسها على المدينة
قياس مع الفارق لأن حرم مكة أَوْكَدُ من حرم المدينة فالصواب أنها لا تملك
بحال، ولكن ماذا يصنع الإنسان إذا وجدها؟ نقول إذا كان لا يخشى عليها فإنه
يتركها حتى يجدها ربها لأن ربها إذا فقدها ذهب على إثرها يتحسسها، أما إذا
كان يخشى أن يلتقطها من لا يُعَرِّفُهَا فهنا يجب أن يأخذها ويسلمها إلى من
وكلهم الإمام أو نائبه في حفظها.
السائل: إذا أخذ شخص ما اللقطة ثم أراد أن يرجعها إلى مكانه الذي أخذه منها
فهل له ذلك؟
الشيخ: إذا أخذها فإنه لا يمكن أن يردها فإن ردها فهو ضامن على كل حال سواء
في مكة أو في غير مكة.
السائل: إذا التقط شخص ما لقطة من الحرم وهو قد جاء للعمرة ثم أخذها معه
إلى بلده، ثم علم في بلده بحكمها فماذا يفعل بها؟
الشيخ: يرسلها إلى الجهة المسؤولة في مكة وتبرأ بهذا ذمته.
السائل: هل لهذا الشخص أن يتصدق بها؟
الشيخ: لا يمكن ذلك، إلا إذا كانت المدة طويلة بحيث أنه يويئس من وجود
صحابها فهنا يتصدق بها في مكة لا في بلده لأن الصدقة في مكة أفضل من الصدقة
في بلده وهو قد وجدها في مكة فليكن ثواب الصدقة في مكة.
السائل: قال المؤلف عن اللقطة ولا يعرفها في المسجد واستدل بحديث (من سمع
رجلاً ينشد في المسجد ... الخ) فالحديث في نشدان الضالة والمؤلف استدل به
في التعريف فكيف ذلك؟
الشيخ: التعريف في المسجد قاسه العلماء على إنشاد الضالة في الحديث.
فصل
القارئ: واللقطة مع الملتقط قبل تملكها
أمانة عليه حفظها بما يحفظ به الوديعة وإن ردها إلى موضعها ضمنها لأنه
ضعيها وإن تلفت بغير تفريط لم يضمنها لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم (ولتكن وديعة عندك) ولأنه يحفظها لصاحبها بإذن الشرع أشبه الوديعة
وإن جاء صاحبها أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة لأنها ملكه وإن جاء
بعد تملكها أخذها أيضا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فإن جاء طالبها
يوماً من الدهر فأدها إليه) ويأخذها بزيادتها المتصلة لأنها تتبع في
الفسوخ وزيادتها المنفصلة بعد تملكها لملتقطتها لأنها حدثت على ملكه
فأشبه نماء المبيع في يد المشتري.
الشيخ: الزيادة المنفصلة إن كانت بعد تمام السنة فهي للمتلقط لأنها
دخلت في ملكه والزيادة المتصلة قبل تمام الحول فإنها لصاحبها وكذلك
المنفصلة، لكن هذا الملتقط قد يقول أنا تعبت على هذه البهيمة وخسرت
عليها وأنا حافظها لمالكها، فهل له شيء؟ الجواب نقول كلام الفقهاء
ظاهره أنه لا شيء له ولكن الصحيح أنه يعطى أجرة المثل أو سهم المثل،
وكذلك الزيادة المتصلة بعد تمام الحول ظاهر كلام المؤلف أنها لصحابها
ولا يأخذ الملتقط شيئاً والصواب أنه يأخذ وأن الزيادة المتصلة
والمنفصلة بعد تمام الحول تكون للملتقط وإذا ردها إلى صاحبها فإنه
يُعَوَّضُ عنها.
السائل: إذا أنفق على الشاة وهي لقطة بما يزيد على ثمنها فهل يرجع بما
أنفق عليها على صاحبها؟
الشيخ: هذا أصلاً لا يجوز فإذا التقط شاةً وظن أن الإنفاق عليها سيكون
أكثر من قيمتها فإنه يجب أن يبيعها بعد أن يَعْرِفَ أوصافها ويحفظ
الثمن فإن لم يفعل فهو ضامن ولا يرجع بشيء.
السائل: لكن لو قال مثلاً قد يأتي صاحبها اليوم أو غداً طالت عليه
المدة فهل يختلف الحكم؟
الشيخ: هو مفرط لأنه مادام يعرف أن هذه الشاة لا تساوي إلا مائتين
ويعرف أنها إذا بقيت إلى سنة ستأكل ما يساوي خمسة آلاف فإنه يجب عليه
أن يبيعها في الحال.
القارئ: فإن تلفت بعد تملكها ضمنها لأنها
تلفت من ماله وإن نقصت بعد التملك فعليه أرش نقصها.
الشيخ: هذه المسألة يُلغز بها فيقال إذا تلفت بعد تَمَلُّكِهِ إياها أي
بعد تمام الحول ضمنها على كل حال وإن تلفت قبل لم يضمنها إلا إذا تعدى
أو فرط والفرق بينهما أنها قبل تمام الحول على ملك صاحبها وهو أمين لا
يضمن إلا بالتعدي أو التفريط وأما بعد الملك فهو ملكها فعليه نقصها كما
أن له غنمها فعليه غرمها فيضمن بكل حال، لكن على قول أبي الخطاب الذي
صححناه لا يضمن إن بقيت فهي أمانة عنده إذا لم يختر التملك ثم نقول
كذلك إن اختار التملك أو قلنا بأنه يملكها قهراً ففي تضمينه إياها إذا
لم يتعد أو يفرط نظر لأن تملكه إياها إذا قلنا بأنه يملكها حكماً بغير
اختياره وإذا قلنا يملكها باختياره فقد استند إلى سبب شرعي للتملك فكيف
يضمن!! فالمسألة تحتاج إلى تحرير فيما إذا تلفت بلا تعدي ولا تفريط بعد
تمام الحول، لكن لو ذبحها بعد تمام الحول وجاء صاحبها يطلبها فهل يضمن
أو لا؟ الجواب يضمن لأنه أتلفها هو بنفسه
القارئ: وإن باعها أو وهبها بعد تملكها صح لأنه تصرف صادف ملكه فإن جاء
صاحبها في مدة الخيار وجب فسخ البيع وردها إليه لأنه يستحق العين وقد
أمكن ردها إليه وإن جاء بعد لزوم البيع فهو كتلفها لأنه تعذر ردها.
الشيخ: ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يضمنها بقيمتها ولكن الصواب أنه
لا يضمنها بقيمتها بل يضمنها بما باعها به لأنه باعها بيعاً شرعياً فهو
إنما باعها بعد التملك.
السائل: إذا وجد مالاً بلغ النصاب وحال عليه الحول هل يزكيه لصاحبها؟
الشيخ: إن لم يجد صحابها فالزكاة على الواجد وإن وجد صاحبها فعلى
صاحبها.
السائل: هل لهذا الواجد إذا أخرج الزكاة أن يتصرف فيها؟
الشيخ: يتصرف فيها لأن الزكاة واجبة بكل حال.
فصل
القارئ: الضرب الثاني الضوال وهي الحيوانات
الضائعة وهي نوعان أحدهما ما يمتنع من صغار السباع إما بقوته كالإبل
والخيل أو بجناحه كالطير أو بسرعته كالظباء أو بنابه كالفهد فلا يجوز
التقاطه لما روى زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم سئل عن ضالة الإبل فقال (ما لك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها
ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها) متفق عليه.
الشيخ: ما كان يمتنع من صغار السباع لا
يجوز التقاطه، وقوله (من صغار السباع) احترازاً من كبارها لأن كبار
السباع قد لا يمتنع منه أي حيوان لكن صغار السباع يمكن كالذئب والضبع
وما أشبهها فهذا يترك وهنا سؤال وهو ما الدليل على تحديد صغار السباع؟
الجواب نقول الدليل ليس فيه ضابط من السنة أي أنه لم يقل النبي صلى
الله عليه وسلم (ما يمتنع من صغار السباع فدعوه) لكن السنة جاءت بترك
الإبل فاستنبط العلماء رحمهم الله من ذلك أي من هذا المثال أن الإبل
تمتنع من صغار السباع كالذئب ونحوه والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
قال (مالك ولها) والاستفهام هنا للإنكار فأنكر عليه الصلاة والسلام أن
يتعرض لها وقوله (دعها) الأمر هنا للوجوب يعني اتركها قوله (فإن معها
حذاءها وسقاءها) (حذاءها) الخف (وسقاءها) البطن لأن الإبل تمشي ولا
يهمها شدة الحر في الرمضاء ولا شدة الحر في الظمأ لأنها إذا وردت الماء
ملأت بطنها وبقيت أياماً حتى في شدة الحر وقوله (ترد الماء) هذا
كالبيان والتعليل لقوله (سقاءها) وقوله (تأكل الشجر) بيان لقوله
(حذائها) فهي لوجود الخف وسعة البطن لا تتأثر وقوله (حتى يجدها ربها)
وذلك لأن الإبل تأوي إلى مأواها ولذلك أحياناً يبيع الرجل البعير التي
بقيت عنده مدة فإذا بها قد رجعت إليه وقوله عليه الصلاة والسلام (حتى
يجدها ربها) يستفاد منه أنه إذا كانت الإبل في مسبعة أو في قطع طريق
فإنها تؤخذ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما منع من أخذها
لترجع إلى ربها فإذا كنا نعلم أو يغلب على ظننا أنها لن تعود إلى ربها
لوجود قطاع الطريق أو لكون الأرض مسبعة سباعها كثيرة فحينئذ نلتقطها
بنية حفظها لصاحبها.
القارئ: وللإمام أخذها ليحفظها لأربابها
لأن للإمام ولاية في حفظ أموال المسلمين ولهذا كان لعمر حظيرة يحفظ
فيها الضوال فإذا أخذها وكان له حمى ترعى فيه تركها وأشهد عليها ووسمها
بسمة الضوال وإن لم يكن له حمى خلاها وحفظ صفاتها ثم باعها وحفظ ثمنها
لصاحبها لأنها تحتاج إلى عَلْف.
الشيخ: (عَلْفُ) العَلف يعني التعليف.
القارئ: فربما استغرق ثمنها وإن أخذها غير الإمام أو نائبه ضمنها ولم
يملكها وإن عرفها فإن دفعها إلى الإمام برئ من ضمانها لأنه دفعها إلى
من له الولاية عليها أشبه دفعها إلى صاحبها وإن ردها إلى موضعها لم
يبرأ لأن ما لزمه ضمانه لا يبرأ منه إلا برده إلى صاحبه أو نائبه
كالمسروق.
الشيخ: الإبل لا يجوز التقاطها فإذا التقطها فهو غاصب وإن ردها إلى
الإمام أو نائبه برئ منها.
السائل: أشكل علينا قول المؤلف في بيان اللقطة قال (أحدهما ما يمتنع من
صغار السباع _ ثم قال _ أو بنابه كالفهد) مع أن الفهد من السباع فكيف
ذلك؟
الشيخ: الفهد يملك فهو ليس كالكلب بل يملك ويباع ويشترى فإذا عرفنا أن
هذا الفهد أليف فإننا لا نتعرض له.
السائل: في هذا العصر لا توجد آبار لأن الناس يعتمدون على السيارات في
جلب الماء فهل لو وجدت إبلاً ضالة آخذها لأنها لن تجد ما تشربه أم لا؟
الشيخ: الاحتياط أن لا تأخذها في هذه الحال لأنه ربما ينزل الله المطر
فتشرب أو يأتي أحد ويسقيها احتساباً.
قصة ذكرها الشيخ حول بيان بموارد المياه.
الشيخ: الإبل حاسة الشم فيها قوية جداً فقد
ذكروا أن قوماً سافروا إلى أطراف الجزيرة مارين بمكان يسمى الدهناء
مقطعة فعطشوا وضلوا الطريق وكانوا ثلاثة عشر نفراً وصاروا يتساقطون من
ظهور الإبل ويموتون إلا واحد لم يأت أجله فربط نفسه ربطاً قوياً على
ناقته وتركها وهو يقول في نفسه هي سوف ترد الماء وأنا الآن لن أتحرك
وليس بي حراك فربط نفسه ثم إن الإبل وردت الماء فعلاً وهذا الرجل سبحان
الله أبقاه الله عز وجل حتى أنقذه الله على أيدي الذين يسقون فأنزلوه
من البعير فمرصوا له تمراً بالماء واسقوه قليلاً قليلاً لأنهم لو اسقوه
حتى يروى فإنه قد يموت من فوره بل اسقوه قليلاً أي يعطونه جرعة ويبقى
قليلاً ثم جرعة أخرى وهكذا حتى صحا فقالوا له ما العلم فقال العلم أنه
كان معي ثلاثة عشر كلهم هذه إبلهم والظاهر أنهم سقطوا وماتوا اتبعوا
الأثر فتبعوا الأثر. فوجدوهم سبحان الله كل واحد ساقط ميت. والقصد من
إيراد هذه القصة أن نعرف أن الإبل سبحان الله لها شم قوي تعرف به موارد
الماء ولذلك هذه الإبل في القصة ما وقفت إلا على المورد.
السائل: ما الضابط في السباع التي يجوز بيعها؟
الشيخ: كل ما ينتفع به يجوز بيعه إلا الكلب.
فصل
القارئ: النوع الثاني ما لا ينحفظ عن صغار السباع كالشاة وصغار الإبل
والبقر ونحوها.
الشيخ: قوله (ما لا ينحفظ) كان مقتضى التحرير أن يقول (ما لا يمتنع)
لأنه قال في بداية الفصل (أحدهما ما لا يمتنع) وهذا هو المراد بقوله
(ما لا ينحفظ) يعني مالا يمتنع.
القارئ: فعن أحمد رضي الله عنه لا يجوز التقاطها لأنه روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم (لا يؤوي الضالة إلا ضال) رواه أبو داود ولأنه حيوان
أشبه الإبل والمذهب جواز التقاطها لما روى زيد بن خالد أن النبي صلى
الله عليه وسلم سئل عن الشاة فقال (خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو
للذئب) متفق عليه وهذا يخص عموم الحديث الآخر ولأنه يخشى عليها التلف
أشبه غير الضالة.
الشيخ: الصواب في الاستدلال أن يقال (لا
يؤوي الضالة إلا ضال) يعني الضالة التي نُهي عن التقاطها وهي الإبل أو
يكون معنى (لا يؤوي) أي لا يجعلها في مكان ولا يُنْشِدُهَا وكلاهما
ظالم من يأخذ الإبل ومن يسكت عن الغنم وشِبهها وحينئذ لا نقول يخص عموم
الحديث الآخر بل نقول عام أريد به الخصوص والعام الذي أريد به الخصوص
لم يقصد شموله لعموم الأفراد من الأصل وحينئذ فنقول ليس هناك تخصيص لأن
هذه الصورة لم تدخل أصلاً في الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم (خذها
فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب وقوله (لك) وهذا يكون إذا أخذتها ولم
يأت صاحبها وقوله (أو لأخيك) أي صاحبها أو غيره لأنه قد يأتي آخر
ويلتقطها فأخيك هنا أعم من كونه صاحبها وقوله (أو للذئب) وذلك إذا لم
يأخذها أحد وقوله للذئب هذا مثال يعني الذئب أو شبهه من الكلاب
الضارية. وأيهما أفضل؟ الجواب الأفضل أنه إذا رأى أن بقاءها سبب
لهلاكها فهنا يأخذها وإلا فالأفضل تركها.
القارئ: وسوءا وجدها في المصر أو في مهلكة لأن الحديث عام فيهما ولأنه
مال يجوز التقاطه فاستويا فيه كالأثمان والعبد الصغير كالشاة في جواز
التقاطه لأنه لا ينحفظ بنفسه.
الشيخ: العبد الصغير كوننا نقتصر على جواز التقاطه فيه نظر لأن العبد
الصغير إذا كان مميزاً أو مراهقاً فإنه ربما يعطيك خبراً عن سيده وتعرف
سيده بخلاف الشاة وشٍبهها وأيضاً نقول الخطر من الفتنة على العبد
الصغير أشد من الخطر على الشاة لا سيما إذا كان هذا الغلام جميلاً فإنه
فتنة عظيمة فلذلك لا ينبغي أن يقال إنه مثل الشاة بل هو أشد حرمة
واحترماً.
القارئ: فأما الحمر فألحقها أصحابنا بالنوع الأول لأن لها قوة فأشبهت
البقر وظاهر حديث زيد إلحاقها بالغنم لأنه علل أخذ الشاة بخشية الذئب
عليها والحمر مثلها في ذلك وعلل المنع من الإبل بقوتها على ورود الماء
وصبرها بقوله (معها سقاءها) والحمر بخلافها.
الشيخ: المؤلف يقول رحمه الله إن أصحابنا
ألحقوها بالنوع الأول ولكن هو يميل إلى أنها تلحق بالشاة وهو الأقرب.
السائل: إذا وجد البهيمة في المصر، فكيف يلتقطها لأنه ربما تكون تسرح
في المصر بعلم صاحبها؟
الشيخ: هذا إذا علمنا أنها لقطة أما إذا علمنا أنها سارحة حتى لو كانت
في البر القريب من المصر تسرح إليه الغنم وتمشي وإذا كان آخر النهار
رجعت إلى أهلها فهي ليست لقطة لكن المقصود إذا علمنا أنها ضالة.
السائل: الحمر الوحشية هل هي كالحمر الأهلية؟
الشيخ: لا، لأن الحمر الوحشية تمتنع من السباع فهي صيد.
القارئ: ومتى التقط هذا النوع خُيِّرَ بين أكله في الحال وحفظه لصاحبه
وبيعه وحفظ ثمنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (هي لك أو لأخيك) ولم
يأمره بحفظها ولأن إبقاءها يحتاج إلى غرامة ونفقة دائمة فيستغرق قيمتها
فإن اختار إبقاءها وحفظها لصحابها فهو الأولى وينفق عليها لأن به
بقاءها فإن لم يفعل ضمنها لأنه فرط فيها وإن أنفق عليها متبرعاً لم
يرجع على صاحبها وإن نوى الرجوع على صاحبها وأشهد على ذلك ففي الرجوع
به روايتان بناءً على الوديعة وإن اختار أكلها أو بيعها لزمه حفظ صفتها
ثم يعرفها عاما فإذا جاء صاحبها دفع إليه ثمنها أو غرمه له إن أكلها
ولا يلزمه عزل ثمنها إذا أكلها لأنه لا يخرج من ذمته بعزله فلم يلزمه
كسائر ما يلزمه ضمانه وإن أراد بيعها فله أن يتولى ذلك بنفسه لأن ما
ملك أكله فبيعه أولى.
الشيخ: كثير من العوام يقول إن هذا النوع
من اللقطة إذا وجده الإنسان فله أن يأكله مجاناً لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (هي لك أو لأخيك أو للذئب) وهذا غلط لأن مُلْكَ صاحبها
باقٍ عليها فإذا أكلها ضمنها لصاحبها، أما الذئب فهذا يعني إذا تركها
لأنه إذا تركها أكلها الذئب وقوله (أو لأخيك) أعم من صاحبها والمعنى
لأخيك الذي يجدها من بعدك أو أخيك الذي هو صحابها وعلى كل حال فكما قال
الموفق رحمه الله هو مخير بين هذه الأشياء الثلاثة إبقاءها أو بيعها أو
أكلها، فإذا باعها حفظ الثمن وإذا أكلها ضمنها بالقيمة والثالث الإبقاء
والإبقاء أولى إلا إذا كان في ذلك ضرراً على صاحبها فمثلاً إذا كان
الناس في خصبة والربيع متوفر ومؤونتها سهلة فهنا إبقاءها أولى لأنها قد
تسمن وإذا كانت أنثى فقد تلد وأما إذا كان الأمر بالعكس المؤونة شديدة
والوقت جدب فهنا لا نقول بيعها أولى بل نقول بيعها متعين أو أكلها
ويضمن القيمة لأن إبقاءها مع الجدب سيجعل في الإنفاق عليها ضرر على
صاحبها.
القارئ: فإذا عرفها حولاً ولم تعرف ملكها إن كانت باقية أو ثمنها إن
باعها لأن حديث زيد يدل على ملكه لها لأنه أضافها إليه بلام التمليك
ولأنه مال يجوز التقاطه فيملك بالتعريف كالأثمان وعنه لا يملكها
والمذهب الأول.
الشيخ: الصواب أنه يملكها إذا تم الحول، ولكن كيف يُعَرِّفها، هل كل
يوم يعرفها؟ وأين يعرفها؟ فالسؤال الآن عن الزمان وعن المكان؟ نقول أما
الزمان فيعرفها بما جرت به العادة في أول التقاطها يعرفها كل يوم وإذا
طال الزمن يعرفها بعد عشرة أيام أو بعد نصف شهر وكلما بعد الزمن خف
التكرار أما في المكان فيعرفها في أقرب بلد إليه أو إذا كان بدو نازلون
في البر فيعرفها في أقرب أماكن البدو.
السائل: إذا أنفق على اللقطة فهل يرجع على صاحبها بما أنفقه عليها؟
الشيخ: إذا أنفق عليها بنية الرجوع فإنه
يرجع أما إذا كان بنية التبرع فلا يرجع، لكن إذا كان لم ينو تبرعاً ولا
رجوعاً إنما نوى حفظ هذه الشاة فإنه يرجع على صاحبها لأنه إنما انفق
عليها لحفظ مال صاحبها.
السائل: هل يشترط الإشهاد على ذلك؟
الشيخ: الإشهاد ليس بشرط.
السائل: هل يسقط التعريف إذا كان هناك أناس ظلمة يأخذون الضوال بغير
وجه حق؟
الشيخ: لا بد أن يعرفها فإذا عرفها وأتى هؤلاء الظلمة وأخذوها فهو في
حِلٍّ إلا إذا كان يقدر على مدافعتهم وهو لم يفعل.
فصل
القارئ: فإن التقط مالا يبقى عاما كالبطيخ والطبيخ لم يجز تركه ليتلف
فإن فعل ضمنه لأنه فرط في حفظه.
الشيخ: البطيخ معروف والطبيخ هو الطعام المطبوخ.
القارئ: فإن كان مما لا يبقى بالتجفيف كالبطيخ خير بين بيعه وأكله وإن
كان يبقى بالتجفيف كالعنب والرطب فعل ما فيه الحظ لصحابه من بيعه وأكله
وتجفيفه فإن احتاج في التجفيف إلى غرامة باع بعضه فيها وإن أنفقها من
عنده رجع بها لأن النفقة هاهنا لا تتكرر بخلاف نفقة الحيوان فإنها
تتكرر فربما استغرقت قيمته فلا يكون لصحابها حظ في إمساكها إلا بإسقاط
النفقة عنه وإن أراد بيعها فله البيع بنفسه لما ذكرنا في بيع الضوال
وعنه له بيع اليسير وأما الكثير فإنه يرفعه إلى السلطان والقول في
تعريفه وسائر أحكامه كالقول في الشاة.
فصل
القارئ: قال أحمد رضي الله عنه من اشترى سمكة فوجد في بطنها درة فهي
للصياد وإن وجد دراهم فهي لقطة لأنها لا تبتلع الدراهم إلا بعد ثبوت
اليد عليها وقد تبتلع درة من البحر مباحة فيملكها الصياد بما فيها فإن
باعها ولم يعلم بالدرة لم يزل ملكه عنها كما لو باع داراً له فيها مال
لم يعلم به.
فصل
القارئ: فإن وجد اللقطة اثنان فهي بينهما
لأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في الحكم وإن ضاعت من واجدها فوجدها
آخر ردها على الأول لأنه قد ثبت له الحق فيها فوجب ردها إليه كالملك
وإن رآها اثنان فرفعها أحدهما فهي له لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له) وإن رآها أحدهما فقال للآخر
ارفعها ففعل فهي لرافعها لأنه مما لا يصح التوكيل فيه.
الشيخ: قوله (وإن رآها أحدهما فقال للآخر ارفعها ففعل فهي لرافعها)
نقول ينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يكن للآمر السلطة في توجيه الأمر
إلى الآخر كالسيد يقول لعبده خذها وكإنسان يقول لخادمه خذها، لأن هذا
إنما أخذها خدمة لسيده ولم يأخذها لنفسه فينبغي أن يقيد كلام المؤلف
رحمه الله بهذا أما إذا كان اثنين متصاحبين ومرَّا بلقطة وقال أحدهما
للآخر خذها وليس له سلطة عليه فهنا لا شك أنها تكون للآخذ.
فصل
القارئ: فإن التقطها صبي أو مجنون أو سفيه صح التقاطه لأنه كسب بفعل
فصح منه كالصيد فإن تلفت في يده بغير تفريط لم يضمنها لأنه أخذ ماله
أخذه وإن تلفت بتفريط ضمنها ومتى علم وليه بها لزمه نزعها منه وتعريفها
لأنها أمانة والمحجور عليه ليس من أهلها فإذا تم تعريفها دخلت في ملك
واجدها حكما كالميراث.
السائل: قول المؤلف (فإن التقطها صبي أو مجنون أو سفيه صح التقاطه) ثم
قال (كالصيد) مع أن صيد المجنون لا يصح لأنه لا قصد له؟
الشيخ: إذا أخذ المجنون الصيد بيده حياً صح فعله.
السائل: قول أحمد رحمه الله (من اشترى سمكة فوجد في بطنها درة فهي
للصياد) كيف تكون للصياد مع أن الصياد صاد السمكة ولم يصد الدرة؟
الشيخ: لكن الصياد هو الذي أخذ السمكة بما فيها اللقطة وهو لو علم أن
فيها درة فهل سيبيعها بخمسة ريالات؟ الجواب لا.
فصل
القارئ: ويصح التقاط العبد بغير إذن سيده
لعموم الخبر ولما ذكرنا في الصبي ويصح تعريفه لها لأن له قولاً صحيح
فصح تعريفه كالحر فإذا تم تعريفها ملكها سيده لأنها كسب عبده ولسيده
انتزاعها منه قبل تعريفها لأن كسب عبده له ويتولى تعريفها أو اتمامه
وله اقرارها في يده عبده الأمين ويكون مستعيناً به في حفظها وتعريفها
ولا يجوز إقرارها في يد من ليس بأمين لأنها أمانة فإن فعل فعليه الضمان
وإن علم العبد أن سيده غير مأمون عليها لزمه سترها عنه وتسليمها إلى
الحاكم ليعرفها ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان وإن أتلفها العبد فحكم
ذلك حكم جنايته وإن عتق العبد بعد الالتقاط فلسيده أخذها لأنها كسبه.
السائل: البقرة إذا جاءت ضالة ودخلت في البهائم فهل الأولى أن يطردها
أو يتركها؟
الشيخ: إذا دخلت الشاة أو البقرة أو البعير في غنمه أو بقره أو إبله
فله أن يطردها لأنها لو بقيت مشكلة إذ أنها بقيت عنده لمدة أسبوع أو
نحو ذلك ألفت المكان ولم تذهب إلى صاحبها، لكن يبادر هو بطردها فإن
تركها فالجناية عليه.
السائل: إذا أشهد شاهدين وتركها مع بهائمه فهل له ذلك؟
الشيخ: إذا كان مما لا يجوز التقاطه كالإبل والبقر فإنه حرام عليه كما
في الحديث (لا يؤوي الضالة إلا ضال).
السائل: إذا طردها لكنها عادت وعجز عن فصلها عن بهائمه فماذا يصنع؟
الشيخ: إذا حاول طردها وعجز فلابد أن يبحث عن صحابها وينشدها وتكون
ضالة.
فصل
القارئ: والمكاتب كالحر لأن كسبه لنفسه والمدبر وأم الولد كالقن.
الشيخ: قوله (كالقن) القن هو العبد الخالص.
القارئ: ومن نصفه حر فلقطته بينه وبين سيده ككسبه فإن كانت بينهما
مهايأة لم تدخل في المهايأة في أحد الوجهين لأنها من الأكساب النادرة
فأشبهت الميراث والآخر تدخل لأنها من كسبه فهي كصيده وفي الهدية
والوصية وسائر الأكساب النادرة وجهان كاللقطة.
فصل
القارئ: والذمي كالمسلم للخبر ولأنه كسب
يصح من الصبي فصح من الذمي كالصيد والفاسق كالعدل لذلك لكن إن علم
الحاكم بهما ضم إليه أميناً يحفظها ويتولى تعريفها لأنها أمانة فلا
يؤمن خيانته فيها فإذا عرفها ملكها ملتقطها.
فصل
القارئ: ومن التقط لقطة لغير التعريف ضمنها ولم يملكها وإن عرفها لأنه
أخذها على وجه يحرم عليه فلم يملكها كالغاصب ومن ترك التعريف في الحول
الأول لم يملكها وإن عرفها بعد لأن السبب الذي يملكها به قد فات ولم
يبرأ منها إلا بتسليمها إلى الحاكم.
الشيخ: ظاهر كلام المؤلف أنه لو عَرَّفها في آخر الحول برئت ذمته ولكن
الراجح أنها لا تبرأ وأنه إذا أخرها عن أول وجودها فإنه ضامن لأن
صحابها إنما يطلبها في أول ضياعها منه فيكون مفرطاً ومعتدياً أيضاً.
فصل
القارئ: ومن ترك دابة بمهلكة فأخذها إنسان فخلصها ملكها لما روى الشعبي
قال حدثني غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (ومن وجد دابة قد عجز عنها أهلها فسيبوها
فأخذها فأحياها فهي له) ولأن فيه إنقاذاً للحيوان من الهلاك مع نبذ
صاحبه له فأشبه السنبل الساقط فإن كان مكانها عبداً لم يملكه لأنه في
العادة يمكنه التخلص وإن كان متاعاً لم يملكه لأنه لا حرمة له في نفسه.
الشيخ: الصواب في هذه المسألة أن من ترك
دابة ثم وجدها إنسان فإما أن يتركها عجزاً عنها أي نعلم أنه تركها
عجزًا لأن مثلها لا يترك زهداً فهذا لا يملكه آخذه ولكن لآخذها أجرة
المثل وأما إذا تركه لكونه ليس له به رغبة كما فعل جابر رضي الله عنه
حين أراد أن يسيب جمله فهذا لا بأس أن يملكه آخذه وكذلك يقال في المتاع
إذا علمنا أن صاحبه تركه رغبة عنه فهو لمن وجده، وإذا علمنا أنه تركه
عجزاً عن حمله وأن الغالب أنه يرجع ويحمله فهو لصحابه ومن ذلك ما يوجد
الآن في السيارات التي أصيبت بحوادث هل يجوز للإنسان أن يأخذ منها ما
يصلح من العدة لأن صاحبها تركها أو يقال في هذا تفصيل؟ الجواب يقال في
هذا تفصيل إذا علمنا أن هذه التي أصابها الحادث حادثها يسير وأن صاحبها
سيرجع فلا يجوز لأحد أن يأخذها أو يأخذ منها شيئاً أما إذا علمنا أنها
دامرة وأن صاحبها تركها ولا يريد الرجوع إليها فله أن يأخذ منها ما
يراه صالحاً.
باب
اللقيط
القارئ: وهو الطفل المنبوذ والتقاطه فرض على الكفاية لأنه إنجاء آدمي
من الهلاك فوجب كتخليص الغريق.
الشيخ: اللقيط هو الطفل المنبوذ أو الطفل الذي ضل عن أهله وهذا الثاني
يقع كثيراً لا سيما في مواسم الحج والعمرة لكن الذي يوجد في مواسم الحج
والعمرة لا يعتبر لقيطاً لأن هناك جهات معروفة مختصة تتلقى هؤلاء
الأطفال، لكن لو علمنا أنه قد سيبه أهله فحينئذ يكون لقيطاً وأما الطفل
الذي لا يستطيع أن يمشي فهذا لا شك أنه لقيط لأن الغالب أن أهله هم
الذين نبذوه وإن كان قد يقع أن يكون أهله فروا وعجزوا أن يحملوه فتركوه
عجزاً أو وضعوه في مكان ونسوا، والمهم أن التقاطه فرض كفاية لأنه إنجاء
معصوم من هلكه وقول المؤلف (إنجاء آدمي) فيه تساهل فالصواب والتعليل
المحرر أن يقول إنقاذ معصوم، لأن الآدمي غير المعصوم هذا لا يجب إنقاذه
بل يجب إهلاكه.
القارئ: وهو محكوم بحريته لما روى سنين أبو
جميلة قال (وجدت ملقوطا فأتيت به عمر رضي الله عنه فقال اذهب فهو حر
ولك ولاؤه وعلينا نفقته) رواه سعيد في سننه ولأن الأصل في الآدميين
الحرية.
الشيخ: قوله رضي الله عنه (ولك ولاؤه) فيه دليل على القول الراجح أن
أسباب الإرث لا تنحصر في الثلاثة المعروفة وهي النكاح والولاء والنسب،
فالولاء يكون ولاء العتق أو ولاء الالتقاط أو ولاء المحالفة وما أشبه
ذلك مما يعتبر مولاة إذا فقدت الثلاثة.
القارئ: ويحكم بإسلامه في دار الإسلام إذا كان فيها مسلم لأنه اجتمع
الدار وإسلام من فيها وإن وجد في بلد فيه كفار ولا مسلم فيه فهو كافر
لأن الظاهر أنه ولد كافرين وإن وجد في بلد الكفار وفيه مسلمون ففيه
وجهان أحدهما هو كافر لأنه في دارهم والثاني هو مسلم تغليباً لإسلام
المسلم الذي فيه.
الشيخ: ما قاله المؤلف صحيح ولكن ما هي دار الإسلام ودار الكفر فهل إذا
كانت هذه البلدة شعائر الإسلام فيها ظاهرة من آذان وصلاة جماعة وجمعة
وصيام وأعياد وكل شعائر الإسلام فيها ظاهرة لكن حكامها يحكمون بالقانون
عمداً وقصداً فهل نقول هذه بلاد إسلام أو بلاد كفر؟ نقول هي بلاد إسلام
لأن المظهر فيها مظهر إسلام وإذا قصَّر الحكام أو اعتدوا فإن ذلك لا
ينقلها إلى دار الكفر وأما ما هيمن عليه الكفرة فهي دار كفر وإن كان
يوجد فيها من يحكم بالإسلام، فهذا هو تعريف دار الإسلام فدار الإسلام
ما ظهرت فيها شعائر الإسلام وكان أهلها مسلمين بقطع النظر عن الحكام
والحكام لهم شأنهم وبه نعرف خطاء من يقولون في بلاد المسلمين التي يحكم
فيها حكامها بالقانون إنها بلاد كفر فهذه مسألة خطيرة.
بقي أن يقال إذا كان طفلاً وقلنا أنه كافر
لأنه في بلاد أهلها كفار فماذا يترتب لو قلنا إنه مسلم؟ الجواب يترتب
عليه أننا إذا قلنا إنه مسلم فمات هذا الطفل وجب أن يغسل ويكفن ويصلى
عليه ويدفن في مقابر المسلمين إن كان هناك مقابر مسلمين أو ينقل إلى
بلد آخر فيدفن في مقابر المسلمين وإذا قلنا إنه كافر انعكست الأحكام
وهذا بالنسبة لأحكام الدنيا أما بالنسبة لأحكام الآخرة فكما قال النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعائشة (الله أعلم بما كانوا عاملين)
فيمتحنون يوم القيامة والله أعلم بما كانوا عاملين.
فصل
القارئ: وما يوجد عليه من ثياب أو حلي أو تحته من فراش أو سرير أو غيره
أو في يده من نفقة أو عنان دابة أو مشدوداً في ثيابه أو ببعض جسده أو
مجعولاً فيه كدار وخيمة فهو له لأنه آدمي حر فما في يده له كالبالغ.
الشيخ: قوله (مجعولاً فيه كدار وخيمة) فيه نظر كبير لأن غالب اللقطاء
يوضعون في الدور الخربة وما أشبه ذلك أو قد يزضعون في المساجد فكيف
نقول إنها له!! حتى الذي حوله إذا كان مدفوناً طرياً فهو له وإن كان
مدفوناً قديماً فليس له ففي كلام المؤلف نظر ظاهر.
القارئ: وإن كان مطروحاً بعيداً منه أو قريباً مربوطاً بغيره لم يكن له
لأنه لا يد له عليه وكذلك المدفون تحته لأن البالغ لو جلس على دفين لم
يكن له وقال ابن عقيل إن كان الحفر طرياً فهو له لأن الظاهر أنه حفر
النابذ له.
الشيخ: الصواب كلام ابن عقيل أن ما تحته إن كان الحفر طريا فلا شك أنه
له وكأن الذي نبذه جعل الحفر تحته لئلا يشعر به أحد إذا مر حوله لأنه
لو كان الحفر قريباً منه شعر به من راءه فإذا كان تحته اختفى الحفر
بالطفل ولم يعلم به أحد.
القارئ: وإن وجد بقربه مال موضوع ففيه وجهان أحدهما هو له إن لم يكن
هناك غيره لأن الإنسان يترك ماله بقربه والثاني ليس هو له لأنه لا يد
له عليه.
الشيخ: الصحيح أنه ليس له إلا إذا دلت
القرينة على أنه له مثل أن يكون الذي حوله رضَّاعة طفل أوعلبة حليب وما
أشبه ذلك مما يدل على أنه له.
السائل: الذين يسمون البلدان التي يحكم بها الحكام بغير الشريعة بلاد
كفر ما مدى الولاء والبراء الذي يكون للإنسان معهم لأن كثير من هؤلاء
لو نوقش تجده ليس عنده علم ولو زدت في الكلام معه ربما تحصل فرقة ويحصل
نفرة في القلوب فمثل هذه المواقف هل علينا تركها وعدم النقاش فيها معهم
أم ماذا؟
الشيخ: أنا أرى أنه يبين الحق لأنه يترتب عليه إذا كانت بلاد كفر أن
نغزوها ونستحل نساءها وأهلها أو نوجب على أهلها أن أن يهاجروا منها
وسبحان الله!! بلد يؤذن فيه وتقام الجمعة والجماعة ويصام رمضان وكل
شعائر الإسلام فيها ظاهرة وأهلها مسلمون ثم نقول هي بلاد كفر بناءً على
أن ولاتها يحكمون بالقانون!! كيف ننسى العبادات الخمس التي ليست هي حكم
وكلها موجودة في هذا البلد وثابتة، ثم الحكم أيضاً ليس جميع القوانين
كلها مخالفة للشرع بل بعضها موافق للشرع.
السائل: هل نناقش هؤلاء في هذه المسائل؟
الشيخ: لابد أن نبين لهم ونقول لهم يا جماعة بيننا وبينكم كتاب الله
فهل تستحلون أن تغزوا هذه البلدة؟! لا يستطيعوا أن يقولوا ذلك، ثم نقول
هل لو مات أحد من هذه البلدة ترثونه من أقاربكم؟ إذاً هناك أشياء كثيرة
لأنه يَلْزَمُ من القول بأنها بلاد كفر، أن نُكفِّر من فيها إلا إذا
حاربوا السلطان الذي حكم بالقوانين.
السائل: إذا غلب على ظن المخاطب والداعي أن هؤلاء ليسوا أهل نقاش لأنهم
إما جهلة أو متعصبون لن يستجيبوا له ماذا يعمل؟
الشيخ: إن غلب على ظنه فإنه يقرر هو بنفسه ولا يجادلهم ويقرر الصواب
للحاضرين إن كان هناك حاضرين فيقرر لهم أن هذه ليست بلاد كفر.
السائل: بعض الذين يأتون بأطفال من الزنا يلقونهم بالثياب ويضعونهم في
المساجد فهل يقال عن هؤلاء أنهم ارتكبوا كبيرة؟
الشيخ: أصل الزنا كبيرة ولا يحل له أن ينبذ
هذا الطفل لأنه ربما لا يؤويه أحد فمثل هذا إذا كان في بلد يوجد فيه
حضانة ورعاية للأطفال فإنه يذهب إلى شخص أمين إذا كان لا يريد أن يتبين
أمره ويقول له خذ هذا وسلمه للحكومة.
فصل
القارئ: وينفق عليه من ماله لأنه حر فينفق عليه من ماله كالبالغ ويجوز
للولي الإنفاق عليه من غير إذن الحاكم لأنه ولي فملك ذلك كولي اليتيم
ويستحب استئذانه لأنه أنفى للتهمة.
الشيخ: قوله (ويستحب استئذانه) أي استئذان الحاكم.
القارئ: فإن بلغ واختلفا في النفقة فالقول قول المنفق.
الشيخ: القول قول المنفق إذا أمكن أما إذا لم يمكن فإن القول قول الصبي
أو يلغى قول هذا وهذا، ويُرجع إلى ما يقتضيه العرف فإذا اختلف اللقيط
بعد أن بلغ ومن التقطه في مقدار النفقة فالمؤلف يرى أن القول قول
المنفق لأنه مؤتمن وأمين وكل أمين فالقول قوله في مثل هذا الأمر، لكننا
نقول ما لم تكذبه العادة فإن كذبته العادة فلا قول له، فإذا قلنا إنه
لا قول له فهل يكون القول قول اللقيط أو نلغي قول اللقيط وقول المنفق
ونرجع إلى ما يقتضيه العرف؟ الجواب هذا الأخير لأنه أقرب إلى العدل
فنلغي قول الطفل الذي بلغ وقول المنفق ونرجع إلى ما يقتضيه العرف.
القارئ: وإن لم يكن له مال فنفقته في بيت المال لقول عمر رضي الله عنه
(وعلينا نفقته) ولأنه آدمي حر له حرمة فوجب على السلطان القيام به عند
حاجته كالفقير وليس على الملتقط نفقته لحديث عمر ولأنه لا نسب بينهما
ولا ملك فأشبه الأجنبي.
الشيخ: قوله (وليس على الملتقط نفقته لحديث
عمر ولأنه لا نسب بينهما) هذا ما لم نقل إن له ولاية إرث فإن قلنا إن
له ولاية إرث وتعذر بيت المال فإنه ينفق عليه واجده لأنه في النهاية
إذا مات هذا اللقيط فإنه يرثه واجده، فنقول كما أن لك غنمه فعليك غرمه،
أما إذا قلنا بالقول المشهور عند العلماء أنه لا توارث بين اللقيط
ولاقطه فحينئذ لا تجب عليه النفقة إلا على سبيل فرض الكفاية بحيث لم
يقم به أحد إلا هذا اللاَّقط.
القارئ: وإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال فعلى من علم حاله الإنفاق
عليه فرض كفاية لأن به بقاءه فوجب كإنقاذ الغريق فإن اقترض الحاكم ما
أنفق عليه ثم بان رقيقاً أو له أب موسر رجع عليه لأنه أدى الواجب عنه
وإن لم يظهر له أحد وُفِّيَ من بيت المال.
فصل
القارئ: فإن كان الملتقط أميناً حراً مسلما أقر في يده لحديث عمر رضي
الله عنه ولأنه لابد له من كافل والملتقط أحق للسبق وفي الإشهاد عليه
وجهان أحدهما لا يجب كما لا يجب في اللقطة والثاني يجب لأن القصد به
حفظ النسب والحرية فوجب كالإشهاد في النكاح.
الشيخ: لا شك أن الإشهاد أولى من عدمه لئلا يُظَنَّ في المستقبل أنه
ولده لا سيما إذا كان يدخل على البيت ويخرج فالقول بالوجوب قولٌ قوي
وهو أن يُشهد بأنه التقط هذا الطفل وأنه ليس من أولاده لئلا يظن في
المستقبل أنه من أولاده، وأما القياس الذي ذكره المؤلف ففيه نظر بل
يقال إنه يجب لئلا يُتهم أنه من أولاده وهو ليس منهم وقوله (لأن القصد
به حفظ النسب والحرمة فوجب) المؤلف لو قال (فوجب) وسكت لكان الكلام
صحيحاً لا غبار عليه لكنه قال (كالإشهاد في النكاح) فَذِكْره النكاح
قياس مع الفارق.
القارئ: وإن التقطه فاسق نزع منه لأنه ليس
في حفظه إلا الولاية ولا ولاية لفاسق قال القاضي هذا المذهب وظاهر قول
الخرقي أنه يقر في يده لقوله إن لم يكن من وجد اللقيط أميناً منع من
السفر به فعلى هذا يضم إليه أمين يشارفه ويشهد عليه ويشيع أمره لينحفظ
بذلك.
الشيخ: يؤخذ من هذا التقرير أن الأب إذا فارق أم الولد يعني له أولاد
من امرأته ففارقها وكان فاسقاً لا يصلي ويشرب الخمر ويحلق اللحية ويسبل
الثوب فإنه لا حضانة له ولا يمكن أن يقر المحمول بيد مثل هذا، وقد نص
على هذا الفقهاء رحمهم الله بأنه لا حضانة لفاسق فالحكم بأن الأب له
الحضانة مطلقاً فيه نظر، وهذا يقع كثيراً في بعض القضايا والواجب أن
الإنسان يتريث فمثلاً إذا اتمت البنت سبع سنوات قال بعض أهل العلم إنها
تنقل إلى أبيها مباشرةً ولكن نقول إذا كان الأب فاسقاً ولا يبالي وعنده
زوجة هي ضرة أمها ولا يخفى ما يحصل بين الضرات فيأتي بها عند زوجته ففي
هذه الحال لا شك أنه ضرر على البنت أنها تفقد حنان الأم وتأتي إلى شقاء
زوجة الأب وإذا كان لزوجة الأب أولاد فسوف تؤثرهم على هذه البنت فتبقى
مكسورة الخاطر دائماً وهذه مسائل يجب على القضاة والحكام أن لا يكونوا
ظاهريين فقط فيقولوا مثلاً بنت السبع سنين تنقل إلى أبيها مطلقاً، لا
فهذا غلط لأن المقصود من الحضانة هو حفظ الصبي وصيانته وتربيته وليس
المقصود إهلاكه ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن البنت تبقى عند أمها إلى
أن تبلغ وبعضهم قال إلى أن تتزوج، لأنه لا شك أنه لا أحد أشد حناناً من
الأم على ابنتها لكن إذا علمنا أن الأم ليست أهلاً للحضانة حينئذ
تُنْزَع منها.
القارئ: وليس لكافر التقاط محكوم بإسلامه لأنه لا ولاية لكافر على مسلم
فإن التقطه نزع منه وله التقاط المحكوم بكفره ويقر في يده لثبوت ولايته
عليه.
الشيخ: قول المؤلف بجواز إقرار اللقيط
المحكوم بكفره في يد الكافر فيه نظرٌ ظاهرٌ لقول النبي صلى الله عليه
وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)
فهذا الطفل مولود على الفطرة وإذا جعلناه عند هذا الرجل الكافر
يُكَفِّرَه مثله فالصواب أن الكافر مهما كان سواء كان كتابياً أو
نصرانياً أو مشركاً فإنه لا يقر بيده اللقيط بل ينزع منه.
القارئ: وليس للعبد الالتقاط إلا أن يأذن له سيده فتكون الولاية للسيد
والعبد نائب عنه
فصل
القارئ: فإن أراد الملتقط السفر به وهو ممن لم تختبر أمانته في الباطن
نزع منه لأنه لا يؤمن أن يدعي رقه وإن علمت أمانته باطناً فأراد نقله
من الحضر إلى البدو منع منه لأنه ينقله إلى العيش في الشقاء ومواضع
الجفاء وإن أراد النقلة إلى بلد آخر يقيم فيه ففيه وجهان أحدهما يقر في
يده لأنهما سواء فيما ذكرنا والثاني يمنع منه لأن بقاءه في بلده أرجى
لظهور نسبه.
الشيخ: ولا سيما إذا كان يريد أن ينقله إلى المدن من القرى لأن الغالب
أن القرى أشد محافظة من المدن أما إذا تساوى الأمران فله أن ينقله لأنه
قد يكون أحسن لهذا اللقيط أن يتولاه من التقطه فيحسن إليه.
السائل: كيف تعرف أمانة الشخص (أي أمانته في الباطن)؟
الشيخ: تعرف بمعاملاته ومصاحبته.
السائل: إذا كانت المصلحة في بقاء البنت مع أمها فهل تبقى معها حتى لو
تزوجت الأم؟
الشيخ: نعم ولو تزوجت فإذا رضي الزوج أي زوج الأم بأن تبقى حضانتها على
بنتها فلا مانع.
السائل: ذكر المؤلف أنه لا يجوز نقل اللقيط إلى البادية لأن فيه العيش
في الشقاء ومواضع الجفاء، لكن البادية فيها فوائد أخرى لأن بعض الناس
يرسلون أولادهم إلى البادية للنجابة.
الشيخ: الغالب على البادية الجفاء وشظف العيش والشقاء.
السائل: لكن لو قيل إن في ذلك فائدة في نشأة الطفل ونجابته؟
الشيخ: لا، مراعاة ما ذكر المؤلف أولى.
القارئ: وإن كان اللقيط في بدو فله نقله
إلى الحضر لأنه أرفق به وله الإقامة به في البدو وفي حلة لا تنتقل عن
مكانها لأن الحلة كالقرية وإن كان متنقلاً ففيه وجهان أحدهما يقر في
يده لأنه أرجى لكشف نسبه والثاني ينزع منه لأنه يشقى بالتنقل.
الشيخ: الأولى أن يُرجع في هذا إلى كل قضية بعينها فهذا هو الأولى
والتعليلات العامة التي ذكرها المؤلف قد يعارضها حوادث خاصة وعليه
فيقال إذا كان هذا الرجل الذي يتنقل مشفقاً على اللقيط حريصاً عليه لا
يفوته مصلحة فليكن معه ولو تنقل به، وإذا كان بالعكس وهو أنه إذا تنقل
به أضاعه فإنه ينزع منه.
فصل
القارئ: فإن التقطه موسر ومعسر قدم الموسر لأنه أحظ للطفل فإن تساويا
وتشاحا أقرع بينهما لقول الله تعالى (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ولأنهما تساويا
في الحق فأقرع بينهما كالعبدين بالعتق وإن ترك أحدهما نصيبه كفله الآخر
والرجل والمرأة في هذا سواء لأن المرأة أجنبية والرجل يحضنه بأجنبية
فهما سواء.
فصل
القارئ: فإن اختلفا في الملتقط وهو في يد أحدهما فالقول قوله وهل
يستحلف فيه وجهان وإن كان في يديهما قدم أحدهما بالقرعة وهل يستحلف على
وجهين وإن لم يكن في يد واحد منهما سلمه السلطان إلى من يرى منهما أو
من غيرهما لأنه لا يد لأحدهما وإن كان لأحدهما بينة قضي بها لأنها أقوى
فإن كانت لكل واحد منهما بينة قدم أسبقهما تاريخا لأنه يثبت بها السبق
إلى الالتقاط وإن تساويا وهو في يد أحدهما انبنى على بينة الداخل
والخارج وإن تساويا في اليد أو عدمها سقطتا وأقرع بينهما فقدم بها
أحدهما.
السائل: إذا وجد مع اللقيط مال كثير فإن بعض الناس قد يدعيه لأجل أخذ
هذا المال؟
الشيخ: إذا ادعاه ونحن نعلم أن بقاءه في يده ضرر على اللقيط نزعناه
منه.
السائل: ما معنى قول المؤلف (بينة الداخل والخارج)؟
الشيخ: هذه تأتينا إن شاء الله في باب
الدعاوي والبينات ولكن لنضرب لك مثلاً بها فإذا كان بيدك قلم وادعى
إنسان أن هذا القلم قلمه وأتى ببينة تشهد أنه قلمه وأنت أتيت ببينة
تشهد أنه قلمك فهنا الداخل أنت والخارج هو المدعي فمن يُقدم منكما أنت
أو المدعي؟ قيل يُقدم الذي في يده العين وهذا أحد القولين في المسألة
وقيل يُقدم الخارج لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي
وهذا أتى ببينة والذي في يده العين ليست في جهته بينة بل في جهته
اليمين فقط، لكن الصواب أن الذي بيده العين هو المقدم لأنه عنده بينة
ويد.
مسألة: إذا وطأ إنسان امرأة بشبهة وأتت بولد فهو ولده لكن في المسائل
الخفية وما يشابهها يرجع فيها إلى القضاة.
فصل
القارئ: وإن ادعى نسبه رجل لحقه لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه على أحد
فقبل كما لو أقر له بمال ويأخذه من الملتقط إن كان من أهل الكفالة لأن
الوالد أحق بكفالة ولده وإن كان كافراً لم يتبعه في الدين لأنه محكوم
بإسلامه بالدار فلا يزول ذلك بدعوى كافر ولا يدفع إليه لأنه لا ولاية
لكفار على مسلم ويثبت نسبه منه لأن الكافر كالمسلم في ثبوت النسب منه
ولا ضرر على أحد في انتسابه إليه.
الشيخ: إذا ادعى إنسان أن هذا اللقيط ولده فإنه يُتبع إياه.
القارئ: وإن كانت له بينة بولادته على فراشه ألحق به نسباً ودينا لأنه
ثبت أنه ابنه ببينة ذكره بعض أصحابنا وقياس المذهب أنه لا يلحقه في
الدين إلا أن تقوم البينة أنه ولد كافرين حيين لأن الطفل يحكم بإسلامه
بإسلام أحد أبويه أو موته وإن ادعت امرأة نسبه ففيها ثلاث روايات:
إحداهن يقبل قولها لأنها أحد الأبوين فثبت النسب بدعواها كالأب ويلحق
بها دون زوجها.
الثانية إن كان لها زوج لم تقبل دعواها لأنه يؤدي إلى أن تلحق بزوجها
نسب لم يقر به أو ينتسب إليه ما يتعير به وإن لم يكن قبل لعدم ذلك.
والثالثة إن كان لها إخوة ونسب معروف لم
تقبل دعواها لأن ولادتها لا تخفى عليهم وإن لم يكن قبلت والأمة كالحرة
إلا أننا إذا ألحقنا النسب بها لم يثبت رق ولدها لأنه محكوم بحريته فلا
يثبت رقه بمجرد الدعوى كما لم يثبت كفره.
فصل
القارئ: فإن ادعى نسبه رجلان ولأحدهما بينة فهو ولده لأن له حجة فإن
كان لهما بينتان أو لا بينة لهما عرض على القافة معهما أو مع عصبتهما
عند فقدهما فإن ألحقته بأحدهما لحق به لما روت عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم دخل مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال (ألم تري
أن مجززاً المدلجي نظر آنفاً إلى زيد وأسامة وقد غطيا رؤوسهما وبدت
أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض) متفق عليه فلولا أن ذلك حق
لما سر به النبي صلى الله عليه وسلم وإن ألحقته بهما لحقهما لما روى
سليمان بن يسار عن عمر رضي الله عنه في امرأة وطئها رجلان في طهر فقال
القائف قد اشتركا فيه فجعله عمر بينهما رواه سعيد وعن علي مثله قال
أحمد ويرثهما ويرثانه ونسبه من الأول قائم لا يزيله شيء قال ويلحق
بثلاثة وينبغي أن يلحق بمن ألحقته منهم وإن كثروا لأن المعنى في
الاثنين موجود فيما زاد فيقاس عليه وقال القاضي لا يلحق بأكثر من ثلاثة
وقال ابن حامد لا يلحق بأكثر من اثنين لأننا صرنا إلى ذلك للأثر فيجب
أن يقتصر عليه.
الشيخ: في حديث أسامة بن زيد وأبيه رضي
الله عنهما كان المشركون والمنافقون يشيعون أن أسامة ليس ولداً لزيد
لاختلاف ألوانهما وأهم شيء عندهم هو الطعن برسول الله صلى الله عليه
وسلم وإلا فهذا ليس بغريب والرجل الذي ولدت امرأته غلاماً أسود وهو
وزوجته أبيضان قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم له (لعله نزعه
عرق) لكن المشركون والمنافقون يريدون إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام
ولهذا سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة مجزز المدلجي لأن بني
مدلج أهل قافة يعرفون القافة فَسُرَّ بذلك كأنه حصل بينة فوق بينة
وكلما كثرت البيانات كان الثبوت أقوى، وفي هذا الحديث دليل على أن رسول
الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كغيره من البشر يُسَرُّ ويحزن فجميع
العوارض البشرية تلحق الرسول عليه الصلاة والسلام ولو لم يكفيك إلا هذه
الآية وهي قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى
إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لو لم يكن معك إلا هذه
الآية لكانت كافية (أنا بشر مثلكم) وإنما امتاز النبي صلى الله عليه
وسلم بالوحي فهذا الذي يمتاز به صلى الله عليه وسلم عن غيره أما بقية
الطبائع البشرية فهو كغيره، وفيه أيضاً دليل على العمل بالقافة وهي في
الأنساب واضحة جاءت بها السنة وقضاء الخلفاء الراشدين، لكن هل يعمل بها
في الأموال في هذا خلاف بين أهل العلم فقال بعضهم لا يعمل بها في
الأموال وإنما عُمل بها في الأنساب لتشوف الشارع إلى إثبات النسب بخلاف
الأموال ولكن القول الراجح بلا شك أنها أي القافة ثابتة في الأموال كما
هي ثابتة في الأنساب والأنساب يتفرع عليها أموال لأنه إذا حكمنا بأنه
ابنه مثلاً توارثا وحَرُمَ التناكح بين هذا الرجل وبنات الرجل الآخر
وما أشبه ذلك، فالصواب أن القافة معتبرة لكن لابد أن يكون القائف
مسلماً عدلاً مُجرَّباً بالإصابة فيها فإن لم يكن مسلماً فقد ذكر
الأصحاب رحمهم الله أنه لا يقبل،
وإن لم يكن عدلاً ذكروا أيضاً أنه لا يقبل
لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) ولكن في هذه المسألة نظر لأننا إذا حصلت لنا
الثقة من تقرير الكافر والفاسق فإننا نقبل ذلك بشرط أن يكون مُجرَّباً
بالإصابة في القافة ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر قول
المشرك في أخطر الأشياء وذلك حين هاجر من مكة استعمل رجلاً يقال له عبد
الله بن أريقط من بني الديل كان جيداً في معرفة الطرقات كما جاء في
الحديث (هادياً خريتاً) استأجره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ليدله إلى المدينة فهذا السفر خطير بل هو من أخطر الأسفار لأن قريشاً
تنقب عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه في كل مكان حتى جعلوا لمن
جاء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مائتين من الإبل ولكن النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم وثق بهذا الرجل وهو مشرك في هذا الأمر
الخطير لأن المدار على الثقة والآن يوجد من أطباء الكفار مثلاً من تثق
به أكثر من بعض أطباء المسلمين لمهارته ولأمانته في مهنته فهو لا يرجو
بذلك ثواب الآخرة لكن يرجو بذلك السمعة واستقامة المهنة، فالخلاصة أن
الصواب اعتبار القيافة في الأموال كما هي معتبرة في الأنساب.
القارئ: فإن لم توجد قافة أو أشكل عليهم أو
نفته عنهما أو تعارضت أقوالهم فقال أبو بكر يضيع نسبه لأنه لا دليل
لأحدهما فأشبه من لم يدع نسبه أحد وقال ابن حامد يترك حتى يبلغ ويؤخذان
بنفقته لأن كل واحد منهما مقر به فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل
طبعه إليه لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ولأن الطبع يميل إلى
الوالد مالا يميل إلى غيره فإذا تعذرت القافة رجعنا إلي اختياره ولا
يصح انتسابه قبل بلوغه لأنه قول يتعين به النسب وتلزم به الأحكام فلا
يقبل من الصبي كقول القائف وسواء كان المدعيان مسلمين حرين أو كافرين
رقيقين أو مسلم وكافر وحر وعبد لأن كل واحد منهم لو انفرد صحت دعواه
فإن ادعاه امرأتان وقلنا بصحة دعوتيهما فهما كالرجلين إلا أنه لا يلحق
بأكثر من واحدة لأنه يستحيل ولد من أنثيين وإن كانت إحداهما تسمع
دعوتها دون الأخرى فهي كالمنفردة به وإن ألحقته القافة بكافر أو أمة لم
يحكم برقه ولا كفره لأنه ثبت إسلامه وحريته بظاهر الدار فلا يزول ذلك
بظن ولا شبهة كما لم يزل بمجرد الدعوة.
السائل: إذا ألحق اللقيط برجلين فكيف يكون الميراث؟
الشيخ: لو مات أحد الرجلين عنه فقط ورث جميع ماله ولو مات عن ذي فرض
وهذا ورث جميع ماله وهما يرثانه ميراث أب فيقتسمان ميراث الأب ولو صار
له ابن أخذا السدس.
السائل: من المعلوم أن الطفل إنما يخلق من مني واحد فكيف نلحقه برجلين؟
الشيخ: الفقهاء يرون أنه يمكن أن يُخلّق الجنين من الماءين.
فصل
القارئ: فإن كان لامرأتين ابن وبنت فادعت كل واحدة أنها أم الابن احتمل
أن يعرض معهما على القافة واحتمل أن يعرض لبنهما على أهل الخبرة فمن
كان لبنها لبن ابن فهو ابنها وقد قيل إن لبن الابن ثقيل ولبن البنت
خفيف فيعتبر ذلك.
الشيخ: لا أدري عن صحة هذا وهو أنها إذا
جاءت ببنت صار لبنها خفيفاً وإن جاءت بابن صار لبنها ثقيلاً لا أدري عن
صحة هذا لكن لو نظرنا إلى أن الابن بوله خفيف يرش أي ينضح بالماء فقط
بدون غسل والجارية بالعكس لكان يقتضي ذلك أن يكون لبنها الذي يخلقه
الله للإبن خفيفاً ولكن مع ذلك أنا لا أبني على هذا شيئاً فلا أرجح
خلاف كلام المؤلف بل يرجع في هذا إلى الأطباء.
فصل
القارئ: والقافة قوم من العرب عرفت منهم الإصابة في معرفة الأنساب
وأشتهر ذلك في بني مدلج رهط مجزز وسراقة بن مالك بن جعشم ولا يقبل قول
القائف إلا أن يكون ذكراً عدلاً مجرباً في الإصابة لأن ذلك يجري مجرى
الحكم فاعتبر ذلك فيه قال القاضي يترك الغلام مع عشرة غير مدعيه ويرى
القائف فإن ألحقه بأحدهم سقط قوله وإن نفاه عنهم جعلناه مع عشرين فيهم
مدعيه فإن ألحقه بمدعيه علمت إصابته.
الشيخ: قول القاضي رحمه الله (سقط قوله) أي سقط قول المدعي وذلك بأن
يوضع الغلام مع عشرة غير المدعي فإنه يبعد عنهم فإذا قال القائف هو ابن
فلان فهنا يسقط قول المدعي لأن القائف الآن منعه عن المدعي، ويحتمل أن
قوله (سقط قوله) أي قول القائف لأن هؤلاء العشرة لم يدعوه فيسقط قوله
بمعنى أننا لا نعمل به لأن هؤلاء ما أدعوه وإن نفاه عنهم فقال كل هؤلاء
ليسوا من آباءه فإننا نجعله مع عشرين وفيهم مدعيه فإن ألحقه بمدعيه
عُلمت إصابته، وهذه كلها قرائن في الحقيقة وليست هي مُؤَكِّدات.
السائل: إذا قلنا إن المراد بقوله (سقط قوله) أي قول المدعي، وقد جعلنا
الغلام مع عشرة غير مدعيه فكيف يسقط قول المدعي؟
الشيخ: لأن القائف ألحقه بهؤلاء فكيف يكون لواحد من هؤلاء وللمدعى
أيضاً مع أن القائف لم يلحقه إلا بواحد من هؤلاء.
السائل: ألا يكون هناك اختبار للقائف فيبقى الغلام مع عشرة ثم يبقى مع
عشرين؟
الشيخ: هو اختبار للقائف إذا نفاه عنهم فيؤتى بالمدعي معهم ويجعلون
عشرين.
القارئ: وهل يكتفى بواحد فيه وجهان أحدهما
يكتفى به لأن النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز وحده لأنه بمنزلة
الحاكم يجتهد ويحكم كما يجتهد الحاكم ويحكم والثاني لا يقبل إلا اثنان
لأنه حكم بالشبه والخلقة فلا يقبل من واحد كالحكم بالمثل في جزاء
الصيد.
الشيخ: الصحيح أنه يكتفى بالواحد لأن هذا حكم وليس بشهادة فهولا يقول
أنا أشهد أن هذا وُلِدَ على فراش فلان لكنه بتجربته يحكم بأنه ولد
فلان.
فصل
القارئ: فإن ادعى رجل رقه لم يقبل لأن الأصل الحرية فإن شهدت له بينة
بالملك قبلت وإن لم تذكر السبب كما لو شهدت له بملك مال وإن شهدت باليد
للملتقط لم يحكم له بالملك لأن سبب يده قد علم وإن شهدت بها لغيره ثبتت
والقول قوله في الملك مع يمينه كما لو كان في يده مال فحلف عليه.
فصل
القارئ: ومن حكمنا بإسلام أحد أبويه أو موته أو إسلام سابيه فحكمه حكم
سائر المسلمين في حياته وموته ووجوب القود على قاتله قبل البلوغ أو
بعده وإن كفر بعد بلوغه فهو مرتد يستتاب ثلاثة فإن تاب وإلا قتل لأنه
محكوم بإسلامه يقينا فأشبه غيره من المسلمين ومن حكمنا بإسلامه بالدار
وهو اللقيط فكذلك لأنه محكوم بإسلامه ظاهرا فهو كالثابت يقينا وذكر
القاضي وجهاً آخر أنه يقر على كفره لأنه لم يثبت إسلامه يقينا.
السائل: قول الفقهاء أنه يستتاب ثلاثاً، ما الراجح في مسألة الاستتابة؟
الشيخ: الصواب أن الاستتابة ترجع إلي رأي الإمام أو نائبه لأنه وردت
آثار عن الصحابة بأنه يقتل فوراً وهذا في غير الحدود أما الحدود إذا
بلغت السلطان وفيها قتلٌ فإنه يقتل ولا يستتاب، لكن في مسألة الكفر إن
رأى الإمام أن يستتاب فعل ذلك.
السائل: على القول بأنه ينظر إلى رأي الإمام فهل الاستتابة تكون ثلاثة
أيام أم أنه يزاد عليها؟
الشيخ: الثلاثة تكفي لأن الثلاثة معتبرة في الشرع في مسائل كثيرة.
فصل
القارئ: فإن بلغ اللقيط فقذفه إنسان أو جنى
عليه أو ادعى رقه فكذبه اللقيط فالقول قول اللقيط لأنه حر في الحكم
ويحتمل أن يقبل قول المدعي في درء حد القذف خاصة لأنه مما يدرأ
بالشبهات بخلاف القصاص.
الشيخ: قوله (ويحتمل أن يقبل قول المدعي) الصحيح في هذه المسألة أن هذا
الاحتمال غير صحيح بل هو مرجوح فيقال مادمنا حكمنا بحريته فإنه يترتب
على هذا كل ما يترتب على الحر، ومسألة الدرء بالشبهات هي في ثبوت
الجناية لا في محلها.
فصل
القارئ: وإن بلغ فتصرف ثم ثبت رقه فحكم
تصرفه حكم تصرف العبيد لأنه ثبت أنه مملوك وإن أقر بالرق على نفسه بعد
أن كان أقر بالحرية لم يقبل إقراره بالرق لأنه قد لزمه بالحرية أحكام
من العبادات والمعاملات فلم يملك إسقاطها وإن لم يتقدم منه إقرار
بالحرية وكذبه المقر له بطل إقراره لأنه لا يثبت رقه لمن لا يدعيه فإن
أقر بعده لغيره قبل كما لو أقر له بمال ويحتمل أن لا يقبل لأن في
إقراره للأول اعترفاً ليس لغيره فلم يقبل رجوعه عنه كما لا يقبل رجوعه
عن الحرية وإن صدقه الأول ففيه وجهان أحدهما لا يقبل لأنه محكوم بحريته
فلا يقبل إقراره بما يبطلها كما لو أقر بها والثاني يقبل لأنه مجهول
الحال أقر بالرق فقبل كما لو قدم رجلان من دار الحرب فأقر أحدهما
لصحابه بالرق فعلى هذا يحتمل أن يقبل إقراره في جميع أحكامه لأنه معنى
يثبت الرق فأثبته في جميع أحكامه كالبينة ويحتمل أن يقبل فيما عليه دون
ماله لأنه أقر بما يوجب حقاً له وعليه فيثبت ما عليه دون ماله كما لو
قال لفلان علي ألف على رهن لي عنده فإن قلنا بالأول وكان قد نكح فهو
فاسد حكمه حكم ما لو تزوج العبد أو الأمة بغير إذن سيده وإن تصرف بغير
النكاح فسدت عقوده كلها وترد الأعيان إلى أربابها إن كانت باقية وإن
كانت تالفة ثبتت قيمتها في ذمته لأنها ثبتت برضى أصحابها وإن قلنا لا
يقبل في ماله وهي أمة فنكاحها صحيح ولا مهر لها إن كان قبل الدخول وإن
كان بعده فلها الأقل من المسمى أو مهر المثل ولزوجها الخيار بين المقام
معها على أنها أمة أو فراقها إن كان ممن يجوز له نكاح الأمة لأنه ثبت
كونها أمة في المستقبل وإن كان المقر ذكراً فسد نكاحه لإقراره أنه عبد
نكح بغير إذن سيده وحكمه حكم الحر في وجوب المسمى أو نصفه إن كان قبل
الدخول ولا تبطل عقوده وما عليه من الحقوق والأثمان يؤدى مما في يده
وما فضل ففي ذمته وما فضل معه فلسيده وإن جنى جناية توجب القصاص اقتص
منه حراً كان المجني
عليه أو عبدا وإن كانت خطأ تعلق أرشها
برقبته لأنه عبد وإن جنى عليه حر فلا قود لأنه عبد.
الشيخ: أطال المؤلف رحمه الله الكلام في مسألة اللقيط وهذا إن لم يوجد
اللقيط إلا نادراً ففيه تمرين للطالب على التفريعات على القواعد
فالكلام مفيد على كل حال إن شاء الله وربما في بعض البلاد يكثر اللقطاء
فتكون معرفة أحكامه مهمة.
باب
الوديعة
القارئ: قبول الوديعة مستحب لمن علم من نفسه الأمانة لما فيه من قضاء
حاجة أخيه ومعونته وقد أمر الله تعالى ورسوله بهما.
الشيخ: الوديعة هي أن يضع ماله عند شخص يحفظه له سواء كان المال مما
ينقل أو مما لا ينقل يعني سواء كان مالاً كبيراً لا يمكن نقله أو كان
مما ينقل أو كان مما يتناول كالأثمان والجواهر والحلي وما أشبهها فهي
أي الوديعة أن يجعل ماله عند مَنْ يحفظه له ويأتي إن شاء الله أحكام
المُوَدَع وهي أي الوديعة مستحبة للمُودَعِ مباحة للمُودِعِ أما
إباحتها للمُودِع فلأنها ماله والأصل أن جميع تصرفاته في ماله مباحة
وأما المُودَع وهو الذي يأخذها فإنها مستحبة له لما في ذلك من الإحسان
وقضاء حاجة أخيه لكن بشرط أن يأمن نفسه عليها فإن كان لا يأمن نفسه أو
كان في مكان خوف يخشى عليها فالأفضل أن لا يأخذها أما الأول فظاهر إذا
كان لا يأمن نفسه عليها لأنه لو قبلها لعرض نفسه للإثم والعقوبة وأما
الثاني فلأنه لو قبلها ربما يشق عليه حفظها والدفاع عنها لأنه ربما
يسطو عليه لصوص لأخذها فيتعب؟ فإن قال قائل في هذه المسألة إذا كان
وجودها عنده أحفظ لها من وجودها عند صاحبها فهل نقول إن هذا من باب
التعاون ويستحب أن يأخذها؟ الجواب نعم نقول هكذا فنقول مادمت أنت عندك
جنود وعندك من يحفظ بيتك ومن يحفظ متجرك وذاك ليس عنده أحد يحفظ بيته
ومتجره فبقاءها عندك أحفظ فَأَحْسنِ إلى أخيك.
القارئ: وإن كان عاجزاً عن حفظها أو خائف
من نفسه عليها لم يجز له قبولها لأنه يغرر بها إلا أن يخبر ربها بذلك
فيرضاه فإن الحق له فيجوز بذله.
الشيخ: ما ذكره المؤلف صحيح لكن بشرط أن يرضى رضاً حقيقياً لأن
المُودَع قد يقول أنا أقبل الوديعة لكن لا تأمني عليها فلعلي يوماً من
الدهر أحتاجها وأتصرف فيها، فإذا قال نعم لا بأس راضياً بذلك فهذا له
وإن قال نعم، لأنه ظن أن قوله لا تأمني عليها يريد أن لا يلزمه بها
فإنه لا يقبلها ولو رضي لأنه أحياناً يظن المُودِع أن المُودَع لما قال
هذا الكلام يريد أن لا يقبلها ولا يأخذها، فإذا علم أن هذا مراده فلا
يأخذها وأما إذا علم أنه قَبِلَ أن يتصرف فيها ويأخذ منها ما شاء
فالأمر إلى صاحبها.
القارئ: ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال فإن استودع من
صبي غير مأذون له أو سفيه أو مجنون ضمن لأنه أخذ ماله من غير إذن شرعي
فضمنه كما لو غصبه ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى وليه كما لو غصبه إياه فإن
خاف أنه إن لم يأخذه منهم أتلفوه لم يضمنه إن أخذه لأنه قصد تخليصه من
الهلاك فلم يضمنه كما لو وجده في سيل فأخرجه منه
فصل
القارئ: والوديعة أمانة إذا تلفت من غير تفريط لم يضمن المُودَع
بالإجماع لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (ليس على المستودع ضمان) فإن تلفت من بين ماله
ففيها روايتان أظهرهما لا يضمن للخبر ولأنه أمين لم تظهر منه خيانة فلم
يضمن كما لو ذهب معها شيء من ماله والأخرى يضمن لأنه روي عن عمر رضي
الله عنه أنه ضَمَّنَ أنس وديعة ذهبت من بين ماله.
الشيخ: ضمان الوديعة بالنسبة للمُودَع هل
هو لازم أو لا؟ الجواب نقول هذه الوديعة هل وقعت بيد المُودَع برضا من
صاحبها؟ الجواب نعم، إذاً تكون يده يد أمانة فلا يضمن إلا إذا تعدى أو
فرط فيضمن مثال التعدي أن يستعملها بدون إذن صاحبها ومثال التفريط أن
يفرط في حفظها بأن لا يظللها عن الشمس إن كانت الشمس تضرها أو عن المطر
إن كان المطر يضرها أو ما أشبه ذلك أو يدع الأبواب مفتوحة فهذا تفريط
والفرق بين التعدي والتفريط أن التعدي فعل مالا يجوز والتفريط ترك ما
يجب فإذا تلفت بلا تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه لأنه أمين والمال
بيده بإذن صحابه وهذا إذا تلفت مع ماله بالإجماع مثل أن يشب حريق في
متجره ويحرق كل ما في المتجر أو يأتي لص ويسرق ما في البيت كله فهذا لا
ضمان عليه فيه بالإجماع لماذا؟ لأن المُودَع غير متهم في هذا ولا يمكن
أن تتوجه إليه التهمة لأن ماله تلف مع الوديعة أما إذا تلفت من بين
ماله يعني سرقت الوديعة من بين ماله وماله لم يسرق فهل يضمن أو لا؟
يقول المؤلف رحمه الله إن فيها روايتان عن أحمد رواية أنه يضمنها
والرواية الثانية لا يضمنها ووجه الرواية الأولى أن كونها تلفت من بين
ماله يدل على أنه فرط فيها دون ماله ووجه الثانية أنه لا يضمن ولو تلفت
من بين ماله أنه أمين وأحياناً يدخل اللص ويأخذ شيئاً ويدع شيئاً لا
سيما إذا كان ما في البيت دون هذه في النفاسة يعني أنفس ما في البيت
هذه الوديعة فهذا من الممكن جداً أن يأخذها السارق ويدع غيرها، والصواب
هو هذا أنها إذا تلفت مع ماله أو دون ماله فإنه لا ضمان فيها ما لم
يتعدى أو يفرط، فإن قال قائل بماذا تجيبون عن أثر عمر؟ قلنا هذه قضية
عين يحتمل أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه علم أن هناك تفريطاً
وتساهل في الوديعة فضمَّنها المُودَع ويحتمل أنه رضي الله عنه أراد أن
يسد الباب حتى لا يدعي المُودَعُونَ أنها تلفت من بين أموالهم وهم
يكذبون وقضايا الأعيان لا
عموم لها لأنها قضية خاصة في شيء واقع يكون
أحاط بها أشياء من الشروط أو انتفاء الموانع أوجبت أن يكون مخالفاً
لغيره، إذاً الصواب القول بأن الوديعة إذا تلفت فلا ضمان على المودع
إلا إذا تعدى أو فرط فهذه هي القاعدة.
السائل: إذا أودع ملابس ونشرها لإصلاحها ثم سرقت فهل عليه ضمان؟
الشيخ: هل نشرها في الشارع؟
السائل: لا بل نشرها فيما ينشر فيه الملابس؟
الشيخ: ليس عليه ضمان لأنه من مصلحتها.
السائل: ما هو الضابط في قضية العين؟
الشيخ: قضية العين ليس فيها لفظ عام بل هي حادثة وقعت فحكم فيها بكذا
فليس هناك لفظ عام وعمر رضي الله عنه لم يقل (أي وديعة تلفت من بين مال
المُودَع ففيها الضمان) بل حكم بقضية معينة لها ملابساتها التي أوجبت
أن يحكم بها.
السائل: إذا وجد نص خرج عن القاعدة الأصلية أو عن حكم عام فهل تكون هذه
قضية عين؟
الشيخ: كل شيء هو قضية عين لكن إذا كان عندنا لفظ عام يدل على خلافه
أخذنا باللفظ العام.
السائل: إذا أخذ مالاً مقابل حفظ الوديعة فماذا يكون حكمه؟
الشيخ: يكون أجيراً.
السائل: ولو تلفت فهل يضمن؟
الشيخ: لا يضمن إذا لم يتعد ولم يفرط لكن الفرق أن المُودَع لو ادعى
الرد وأنكر صاحب المال قُبِلَ قوله وأما الأجير لو أدعى الرد وأنكر
صاحب المال لم يقبل قوله فهذا هو الفرق.
فصل
القارئ: فإن لم يعين له صاحبها الحرز لزمه حفظها في حرز مثلها فإن أخر
إحرازها فتلفت ضمنها لتركه الحفظ من غير عذر وإن تركها في دون حرز
مثلها ضمن لأن الإيداع يقتضي الحفظ فإذا أطلق حمل على المتعارف وهو حرز
المثل وإن أحرزها في حرز مثلها أو فوقه لم يضمن لأن من رضي بحرز مثلها
رضي بما فوقه.
الشيخ: لكن إن كان هذا الحرز أحرز من وجه دون وجه فهو ضامن لأن تعيين
صاحبها لهذا الحرز يقتضي تعينه وكونه يجتهد ويقول سأجعلها في مكان آخر
فإنه ليس له ذلك، أما إذا نقلها من المكان الذي عينه صاحبها إلى مكان
أحرز فلا ضمان عليه.
فصل
القارئ: فإن عين له الحرز فقال أحرزها في
هذه البيت فتركها فيما دونه ضمن لأنه لم يرضه وإن تركها في مثله أو
أحرز منه فقال القاضي لا يضمن لأن من رضي شيئاً رضي مثله وفوقه وظاهر
كلام الخرقي أنه يضمن لأنه خالف أمره لغير حاجة فأشبه ما لونهاه.
الشيخ: مثال ذلك إذا قال احفظها في هذا الصندوق الذي هو من الحديد
القوي فتركها في الشنطة فسرقت من الشنطة فإنه يضمن، والقاعدة أنه إذا
عين صاحبها حرزاً فأحرزها بما هو دونه فإنه يضمن، ولكن إذا أحرزها فيما
هو أقوى وأولى ففيه الخلاف لأنه ترك ما عينه له والقول الصحيح أنه لا
يضمن لأنه فعل خيراً ولهذا شواهد من الشريعة فالإنسان مثلاً إذا نذر
الصلاة في المسجد النبوي فصلى في المسجد الحرام أجزئه لأنه خير وإذا
أحرزها في مثلها وذلك بأن قال له صاحب الوديعة احرزها في هذا الصندوق،
فأحرزها له في الصندوق الذي عينه ثم إنه نقلها إلى صندوق آخر مثله
تماماً فهل يضمن أو لا يضمن؟ الجواب فيه خلاف كما ذكر المؤلف فمن أهل
العلم مَنْ قال إنه لا يضمن لأن ما يريده صاحبها هو أن تكون في مكان
آمن وليس له غرض في هذا الصندوق المعين الأحمر أو الأخضر أو ما أشبه
ذلك، وهذه المسألة محل نظر فالإنسان يتردد فيها لأننا إن نظرنا إلى
تعيين صاحبها قلنا يضمن لأنه خالف بدون حاجة وإن نظرنا إلى أن المعنى
واحد قلنا لا يضمن، فالخلاصة الآن أنه إن أحرزها بما دونه ضمن وبما
فوقه لم يضمن وهذا عندنا جزم فيه أما إن أحرزها بمثله فهذا محل تردد
إلا إذا قال أنا أحرزتها بمثله لأنه أخفى وأستر مثل أن يضعها في أقصى
الغرفة أو الحجرة ومعلوم أن السارق إذا جاء يسرق فإنه يبدأ بالأدنى لأن
هذا هو الغالب فهنا نقول وإن كان المحلان سواء في الحفظ لكنَّ اختلاف
المكان يجعل أحدهما أولى.
القارئ: فإن قال احفظها في هذا البيت ولا
تنقلها عنه فنقلها لغير حاجة ضمنها سواء نقلها إلى مثله أو أحرز منه
لأنه خالف نص صاحبها وإن خاف عليها نهباً أو هلاكاً فأخرجها لم يضمنها
لأن النهي للاحتياط عليها والاحتياط في هذه الحال نقلها فإن تركها
فتلفت ضمنها لأنه فرط في تركها ويحتمل أن لا يضمن لأنه أمتثل أمر
صاحبها.
الشيخ: الصحيح أنه يضمن لأن أمر صاحبها بناءً على أن هذا أحفظ لها فإذا
خاف عليها فيما عينه وكان عنده ما هو أحرز فالواجب عليه النقل فإذا لم
يفعل فقد فرط.
القارئ: فإن قال لا تخرجها وإن خفت عليها فأخرجها لخوفه عليها لم يضمن
لأنه زاده خيراً وإن تركها فتلفت لم يضمن لأن نهيه مع خوف الهلاك إبراء
من الضمان فأشبه ما لو أمره بإتلافها فأتلفها فإن أخرجها فتلفت فادعى
أنني أخرجتها خوفاً عليها فعليه البينة على ما ادعى وجوده في تلك
الناحية لأنه مما لا يتعذر إقامة البينة عليه ثم القول قوله في خوفه
عليها وفي التلف مع يمينه لتعذر إقامة البينة عليهما.
الشيخ: عندي في هذا نظر وذلك أنه إذا قال لا تخرجها وإن خفت عليها ثم
لم يخرجها فتلفت فينبغي أن يُضَمَّنها ولكن لا يعطى الضمان لصاحبها
وذلك لأن قوله لا تخرجها ولو خفت عليها فيه إضاعة مال وإضاعة المال
محرمة فيقال أنت الآن ضامن ولكن نأخذ منك بدلها ونصرفه إلى بيت المال
ولا نعطي صاحبها البدل لأن صاحبها قد رضي بما يحصل لها من تلف وهذا
فيما إذا وقعت المسألة أما قبل أن تقع فنقول إذا قال لك صاحبها لا
تخرجها وأنت خفت عليها فلا تقبل أصلاً لأن قوله هذا يتضمن إضاعة المال
وإضاعة المال حرام والمعونة على ذلك حرام أيضاً، وعليه أولاً نقول له
لا تقبلها أصلاً فإن قُدِّرَ أنه قبلها وتلفت فعليه الضمان لكن لا يعطى
صاحبها بل يجعل في بيت المال.
القارئ: فإن قال لا تقفلن عليها قفلين ولا
تنم فوقها فخالفه فالمذهب أنه لا يضمن لأنه زاد في الحرز فأشبه ما لو
قال له اتركها في صحن الدار فتركها في البيت ويحتمل أن يضمن لأنه نبه
اللص عليها وأغراه بها.
الشيخ: إذا قال لا تقفل عليها قفلين ولا تنم فوقها والعادة أنه كلَّما
كان الشيء ثميناً ووضع في صندوق أنه تزاد الأقفال وأنه إذا نام الإنسان
على شيء فإنه يدل على أنه مهم فإذا جاء اللص ورأى هذا نائماً عليها قال
اللص في نفسه هذا مالٌ عظيم، فحرص على السرقة وكذلك إذا جعل فيها قفلين
لكن نقول هذا الاحتمال فيه نظر لأننا لو قلنا بهذا لقلنا لا تجعل في
الصندوق قفلاً أصلاً لأن عادة اللصوص أنهم إذا رأوا الشيء غير مقفل
قالوا هذا ليس فيه شيء ولو كان فيه شيءٌ لقفل عليه، فالاحتمال الذي
ذكره المؤلف فيه نظر بل نقول هذا الرجل زاده خيراً فهو جعل قفلين ونام
عليه.
فصل
القارئ: فإن أودع نفقة فربطها في كمه لم يضمن وإن تركها فيها بغير ربط
وكانت خفيفة لا يشعر بسقوطها ضمن لتفريطه وإن كانت ثقيلة يشعر بها لم
يضمن وإن تركها في جيبه أو شدها على عضده لم يضمنها لأن العادة جارية
بالإحراز بهما وإن قال أربطها في كمك فأمسكها في يده ضمن لأن اليد يسقط
منها الشيء بالنسيان ويحتمل أن لا يضمن لأن اليد لا يتسلط عليها الطرار
بالبط.
الشيخ: صورة المسألة إذا أعطاه دراهم وقال
اجعلها في كمك وكان عادت الناس فيما سبق أنه يكون الإنسان له كم وفيه
خرقة متدلية يقضي بها الإنسان حاجاته تسمى عندنا في اللغة العامية
الردون والواحد منها ردن وكان الناس في السابق ليس عندهم الأكياس
فيشترون بالشيء اليسير فيأتي إلى صاحب البقالة ويشترى منه ويضع في هذا
الكم وهي الخرقة المتدلية ثم يربطها، فإذا قال له اجعلها في كمك فجعلها
في يده وأمسكها فإنه يضمن ولكن أيهما أحرز؟ الجواب اليد أحرز لكن آفتها
أن اليد هي آلة العمل فربما مع النسيان إذا أراد أن يأخذ شيئاً ما
وضعها ثم نسيها وهذا يقع كثيراً، فالكم أحرز من هذه الناحية واليد أحرز
من ناحية أخرى وعليه فإنه يضمن إذا قال له اجعلها في كمك فجعلها في يده
وإن قال له اجعلها في يدك لكنه جعلها في كمه فإنه يضمن لأن كل واحد
منهما أحرز من الآخر من وجه فيضمن إذا غير ما عينه له، وقوله (لا يتسلط
عليها الطرار بالبط) البط هو الشق والطرار يقول العلماء في تعريفه هو
الذي يبط الجيب ويسرق منه، والسُّرَّاق عندهم حذق عجيب في هذه المسألة
تجده يبط الجيب ويأخذ منه وصاحبه ما علم به لا سيما في مواطن الزحام.
القارئ: وقال القاضي اليد أحرز عند المغالبة والكم أحرز عند غيرها فإن
تركها في يده عند المغالبة فلا ضمان عليه لأنه زادها احتياطا وإلا
ضمنها لنقلها إلى أدنى مما أمر به وهذا صحيح.
الشيخ: عند المغالبة لا شك أن اليد أحرز فلو أن السارق أراد أن يأخذها
من الكم فأمسكها المُودَع بيده حتى لا يأخذها فالكل يعلم أن هذا أحرز
وأنه من مصلحتها.
القارئ: وإن قال اجعلها في كمك فتركها في
جيبه لم يضمن لأنه أحرز لأنه ربما نسي فسقطت من الكم وإن قال اجعلها في
جيبك فتركها في كمه ضمن وإن قال اتركها في بيتك فشدها في ثيابه وأخرجها
معه ضمن لأن البيت أحرز وإن شدها على عضده مما يلي جنبه لم يضمن لأنه
أحرز من البيت وإن شدها مما يلي الجانب الآخر ضمن لأن البيت أحرز منه
لأنه ربما يبطها الطرار وإن قال احفظها في البيت ودفعها إليه في غيره
فمضى بها إليه في الحال لم يضمن وإن قعد وتوانى ضمنها لأنه توانى عن
حفظها فيما أمر به مع الإمكان.
الشيخ: قوله (وإن قعد وتوانى ضمنها) فيه نظر فمثلاً لو أعطاه إياه في
السوق وقال احفظها في البيت لكن هذا الرجل له شغل في السوق يريد أن
يأخذ حاجات أو لاقاه صاحب له وقال نخرج نتمشى المؤلف يرى أنه يضمن، لكن
هذا فيه نظر لأنه في العادة لا يعد مفرطاً ولا معتدياً لكن لو قال له
اذهب بها الآن وكانت البلاد مخوفة فهنا قد نقول بالضمان لكن إذا قال له
اذهب بها الآن وهو يتوقع أن يكون له شغل فإنه سيقول له لا، عندي شغل.
القارئ: فإن قال احفظ هذا الخاتم في البنصر فجعله في الخنصر ضمن لأنها
دون البنصر فالخاتم فيها أسرع إلى الوقوع وإن جعله في الوسطى وأمكن
إدخاله في جميعها لم يضمن لأنها أغلظ فهي أحفظ له.
الشيخ: الخاتم الذي يدخل في البنصر كاملاً ربما يدخل في الوسطى في
أنملتين منها فهنا يضمن لكن إن أدخلَهُ في كل الأنامل الثلاث لم يضمن
لأنه أغلظ وإخراج الخاتم من الأغلظ أصعب من إخراجه من الذي دونه.
القارئ: وإن انكسر أو بقي في رأسها ضمنه لتعديه فيه وإن قال لا تدخل
أحداً البيت الذي فيه الوديعة فخالفه فسرقت ضمن لأن الداخل ربما دل
السارق عليها.
الشيخ: لكن إذا كان الداخل أميناً ولا يمكن
أن يسرق ولا أن يدل السُّرَّاق فهنا الاحتمال البعيد لا ينبغي أن تناط
به الأحكام، فالصواب أنه إذا أدخل إليها أحداً فإنه إن كان يخشى منه
فهو ضامن وإلا فلا فلو أن هذا المُودَع أدخل إخوانه أو أصدقائه للبيت
الذي فيه الوديعة وقال صاحبها لا تدخل فيه أحد فليس عليه شيء.
فصل
القارئ: وإن أراد المُودَع السفر أو عجز عن حفظها ردها على صاحبها أو
وكيله ولم يجز دفعها إلى الحاكم لأنه لا ولاية للحاكم على حاضر فإن
سافر بها في طريق مخوف أو إلى بلد مخوف أو نهاه المالك عن السفر بها
ضمن لأنه مفرط أو مخالف.
الشيخ: المفرط هو الذي يترك ما وجب والمخالف من المعتدين لأنه ارتكب ما
نهي عنه.
القارئ: وإن لم يكن كذلك لم يضمن لأنه نقلها إلى موضع مأمون أشبه ما لو
نقلها في البلد وإن لم يرد السفر بها ولم يجد مالكها دفعها إلى الحاكم
لأنه متبرع بالحفظ فلا يلزمه ذلك مع الدوام والحاكم يقوم مقام صاحبها
عند غيبته فإن دفعها إلى غيره مع قدرته عليه ضمنها لأنه كصاحبها عند
غيبته وإن لم يجد حاكماً أودعها ثقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما
أراد أن يهاجر أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن ولأنه موضع حاجة
وعنه يضمن قال القاضي يعني إذا أودعها من غير حاجة فإن دفنها في الدار
وأعلم بها ثقة يده على المكان فهو كإيداعها إياه وإن لم يعلم بها أحداً
فقد فرط لأنه لا يأمن الموت في سفره وإن أعلم بها من لا يد له على
المكان فكذلك لأنه ما أودعها وإن أعلم بها غير ثقة ضمنها لأنه عرضها
للذهاب وإن حضره الموت فهو كسفره لأنه يعجز عن حفظها.
الشيخ: الحاصل أنه إذا لم يجد ربها وأراد
سفراً فإن عين ربها أحداً مثل أن يقول للمُودَعِ إن سافرت فأعطها
فلاناً فهنا يعطيها مَنْ عيَّنه له، وإن لم يعين أحداً فهل يقدم الثقة
على الحاكم أو يقدم الحاكم على الثقة؟ كلام المؤلف صريح في أنه يقدم
الحاكم على الثقة وقيل بل يقدم الثقة على الحاكم لأن الحاكم يتولى
أشياء كثيرة وربما تضيع عنده أو ربما يعطيها الحاكم آخر ممن يحفظ بيت
المال وما أشبه ذلك فكان إيداع الثقة أولى وينبغي أن يقال إنه ينظر إلى
المصلحة لهذه الوديعة فإذا كان الحاكم ممن عُلم بالتهاون وعدم المبالاة
إذا جاءه المال أعطاه خادمه الذي عنده وتهاون فيه فهنا يعطيها الثقة
وإلا فالحاكم أولى، فإن لم يكن هناك حاجة إلى إيداعها فإنه لا يودعها
لأن المُودَع ليس له أن يتصرف في الوديعة بإيداعها إلى غيره.
فصل
القارئ: ولا يجوز أن يودع الوديعة عند غيره لغير حاجة لأن صاحبها لم
يرض أمانة غيره فإن فعل فتلفت عند الثاني مع علمه بالحال فله تضمين
أيهما شاء لأنهما متعديان ويستقر ضمانها على الثاني لأن التلف حصل عنده
وقد دخل على أنه يضمن وإن لم يعلم بالحال فقال القاضي يضمن أيهما شاء
ويستقر ضمانها على الأول لأن الثاني دخل على أنه أمين وظاهر كلام أحمد
أنه لا يملك تضمين الثاني لذلك.
الشيخ: الصواب هو ظاهر كلام الإمام أحمد لأن الثاني محسن وقد قال الله
تعالى (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل) وهو لا يعلم أن هذه
الوديعة عند غير صحابها بل ظن أن الذي أودعها هو صاحبها فيكون محسناً
وقد قال الله تعالى (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل) فظاهر النص
أولى من كلام القاضي رحمه الله.
القارئ: وإن دفعها إلى من جرت عادته بحفظ ماله كزوجته وأمته وخازنه لم
يضمن لأنه حفظها بما يحفظ به ماله فأشبه حفظها بنفسه.
الشيخ: لكن هذا بشرط أن يكون هؤلاء ممن
يحفظون نوع المال لأنه مثلاً قد يرضى زوجته لحفظ الطعام واللباس
والفراش ولكن لا يرضى أن تحفظ الدراهم والشيء النفيس، فيُنظر فإذا كانت
الوديعة من الدراهم والشيء النفيس ولم تجر عادته أن يستحفظ زوجته على
مثل هذا فإنه إن استحفظها على هذه الوديعة صار ضامناً وعليه فليس مطلق
كونها حافظةً لماله يبيح له أن يعطيها الوديعة بل يُنظر إذا كانت تحفظ
المال الذي من جنس الوديعة فنعم يعطيها إياها وإلا فلا.
القارئ: وإن استعان بغيره في حملها ووضعها في الحرز وسقي الدابة وعلفها
لم يضمن لأن العادة جارية بذلك أشبه فعله بنفسه.
فصل
القارئ: وإن خلطها بما لا تتميز منه ضمنها لأنه لا يمكنه رد أعيانها
وإن خلطها بما تتميز منه كصحاح بمكسرة وسود ببيض لم يضمن لأنها تتميز
من ماله أشبه ما لو تركها مع أكياس له في صندوقه وعنه فيمن خلط بيضاً
بسود يضمن وهذا محمول على أن السود تؤثر في البيض فيضمنها لذلك وخرج
أبو الخطاب من هذه الرواية أنه يضمنها إذا خلطها مع التمييز.
الشيخ: إذا خلط سوداً ببيض فهي تتميز فالبيض واضحة والسود كذلك لكنه
يشق عليه أن يميزها كما لو خلط حنطة برز فهو متميز لكنه يشق عليه فصل
الحنطة من الرز أو ما أشبه ذلك فالحكم أنه وإن كان كذلك فإنه يُلزم
بتخليص المال الذي أودع إياه لأن خلطه تعدي فيكون حكمه حكم الغاصب.
القارئ: وإن أودعه دراهم في كيس مشدود فحلَّه أو خرق ما تحت الشد أو
كسر الختم ضمن ما فيه لأنه هتك الحرز لغير عذر فإن كانت في غير وعاء
فأخذ منها درهماً ضمنه وحده لأنه تعدى فيه وحده فإن رده إليها لم يزل
ضمانه لأنه ثبت بتعديه فيه فلم يزل إلا برده إلى مالكه وإن رد بدله
وكان متميزا لم يضمن غيره لذلك وإن لم يتميز ضمن الكل لخلطه الوديعة
بما لا يتميز وظاهر كلام الخرقي أنه لا يضمن غيره لأنه لا يعجز عن ردها
ورد ما يلزمه رده معها.
الشيخ: وهذا كله لأنه مؤتمن على المال فلا
يجوز أن يستقرض منه أي شيء وهذا ويشمل ولي اليتيم والوكيل والوصي
والناظر على الوقف فلا يجوز لأحد منهم أن يأخذ شيئاً حتى لو قال أنا في
حاجة الآن ومضطر سأستقرض منه وأرده قلنا له هذا لا يجوز وكل هذا حماية
للأموال من التلاعب لأنه لو أُذِنَ لهذا فربما يتماهن لأنه لا محاسب
عليه فيتماهن ومع التماهن ربما يفتقر أو يفقد المال أو ما أشبه ذلك.
السائل: لو أن إنسان معه مال وديعة وطرأ عليه حادث مثلاً في نصف الطريق
وليس عنده بنك حتى يأخذ من ماله هو وكان مضطراً للأخذ من المال المودع
لديه فهل له ذلك في حال الضرورة؟
الشيخ: هنا قد نقول إنه إذا كان في حال يجب على صاحب الفلوس أن يبذل له
الفلوس فيها فهو غير معتدي حتى ولو أن صاحبها حاضر وقال لا أعطيك حتى
لو مت، فهنا يأخذ منه قهراً وعليه ففي الحال التي يجب على صحابها أن
يبذلها فإن له أن يأخذها ويقوي هذا الأمر أنه أمين عند هذا الرجل
والضرورة في ذلك واضحة.
السائل: ما يحصل في البنوك الآن وهو أن الإنسان يعطيهم المال على نية
الإيداع وهم يتصرفون فيه فما حكمه؟
الشيخ: لا، الإنسان يعطيهم إياه على سبيل الإيداع وهو يعرف أنهم
سيتصرفون فيه، ولهذا نقول إن تسمية ما يوضع في البنوك إيداعاً غلط بل
يسمى قرضاً فإن العلماء قالوا إذا أذن المُودِعُ للمُودَعِ أن يتصرف
فيما أودعه عنده فهو قرضٌ عليه وهذا هو الواقع بالنسبة للبنوك ولهذا لو
فرض أن بنك سرق أو احترق هل يقول صاحب البنك هذه وديعة تلفت بغير تعدي
ولا تفريط فلا ضمان؟ الجواب لا، بل يُطَاَلبُ بها.
السائل: شخص يعطي آخر دراهم وفي نفس الحال تطرأ عليه الحاجة فهل له أن
يأخذ منها ويرد بدلها بعد قضاء حاجته؟
الشيخ: لا يجوز إلا لضرورة وهذا ليس فيه ضرورة فيذهب للبيت ويأخذ
الدراهم ويقضي حاجته لكن إذا كان في سفر وتعطلت السيارة وليس عنده أحد
يستقرض منه فهذه ضرورة.
القارئ: ومن لزمه الضمان بتعديه فترك
التعدي لم يبرأ من ضمانها لأن الضمان تعلق بذمته فلم يبرأ بترك التعدي
كما لو غصب شيئاً من دار ثم رده إليها وإن ردها إلى صاحبها ثم ردها
صاحبها إليه برئ لأن هذا وديعة ثانية وإن أبرأه من الضمان برئ لأن
الضمان حقه فبرئ منه بإبرائه كدينه.
السائل: بالنسبة للفوائد من البنوك هل يجوز أخذها؟
الشيخ: إذا أعطاك البنك زيادة لا تأخذها كيف تأخذها وهي ربا أليس الله
يقول (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ) أنا أعطيت
البنك مثلاً مليون وأعطاني مائة ألف زيادة على المليون فهذه ربا لا
يجوز يأخذها قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا
تُظْلَمُونَ).
السائل: إذا أرسل المودَع المال إلى صاحبه مع شخص وتلف المال في الطريق
فهل يضمن؟
الشيخ: هل هو بطلب من صاحبه؟
السائل: لا، ليس بطلب من صاحبه.
الشيخ: هل جرت العادة بأن هذا الشخص يكون نائباً عن الرجل يعني مثلاً
خادمه أو ابنه أو ما أشبه ذلك؟
السائل: لا، ليس خادماً له ولا ابنه.
الشيخ: إذاً يضمن، أما إذا كان خادمه أو ابنه أو ممن جرت العادة بأنه
يعطيه فلا ضمان عليه لأن يده كيد المودَع.
السائل: إذا أودع شخص عند آخر خروفاً وقال له إن أصابه مرض أو سبب قد
يموت به فإن لك أن تذبحه وتبيع لحمه؟
الشيخ: مادام أن الرجل قال إن أصابه الموت يعني الخروف ثم أصابه الموت
وذبحه وباع لحمه واشترى بدله خروفاً آخر فهو له.
السائل: هل لصاحب الخروف الأصلي المطالبة بهذا الخروف الجديد؟
الشيخ: لا ليس له المطالبة، لكن في مثل هذه
الحال لا ينبغي للإنسان أن يقول هذا الكلام إلا إذا كان المُودَع ثقة
ثقة لأنه ربما يقول إن الخروف أصابه الموت وهو كذاب لكن إذا كان ثقة
جداً فلا بأس أن يقول إن أصابه الموت فهو لك.
السائل: قول المؤلف (ومن لزمه الضمان بتعديه فترك التعدي لم يبرأ من
ضمانها) ما هي صورة المسألة؟
الشيخ: إنسان أودع وديعة وأخذ منها دراهم استقرضها ثم رد الدراهم فهنا
زال التعدي لكن لا يبرأ من الضمان لأن الدراهم التي أخذها ردها لكن لم
يبرأ من التعدي بالرد فلو تلفت بعد ذلك بدون تعدي ولا تفريط فعليه
الضمان.
السائل: إذا كان مجموعة من الإخوة شركاء في مال ولهم أخ ليس بشريك لهم
في هذا المال لكنهم يعطونه من مالهم تفضلاً منهم فهل إذا مات هذا الأخ
وكان له أولاد هل لهم نصيب في مال أعمامهم؟
الشيخ: لا، ليس لهم إلا ما أعطاه أعمامهم لأبيهم.
فصل
القارئ: فإن أودع بهيمة فلم يعلفها ولم يسقها حتى ماتت ضمنها لأن في
ذلك هلاكها فأشبه ما لو لم يحرزها وإن نهاه المالك عنه فتركه أثم لحرمة
الحيوان ولم يضمن لأن مالكها أذن في إتلافها فأشبه ما لو أمره بقتلها
والحكم في النفقة والرجوع كالحكم في نفقة البهائم المرهونة لأنها أمانة
مثلها.
فصل
القارئ: وإذا أخرج الوديعة من حرزها
لمصلحتها كإخراج الثياب للنشر والدابة للسقي والعلف على ما جرت به
العادة لم يضمن لأن الإذن المطلق يحمل على الحفظ المعتاد وإن نوى جحد
الوديعة أو إمساكها لنفسه أو التعدي فيها ولم يفعل لم يضمن لأن النية
المجردة معفو عنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عفي لأمتي عن ما
حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به) رواه البخاري ومسلم ولفظه
(إن الله تجاوز عن) وإن أخرجها لينتفع بها ضمنها لأنه تصرف فيها بما
ينافي مقتضاها فضمنها كما لو أحرزها في غير حرزها وإن أخذت منه قهراً
لم يضمن لأنه غير مفرط أشبه ما لو تلفت بفعل الله تعالى وإن أكره حتى
سلمها لم يضمن لأنه مكره أشبه الأول.
فصل
القارئ: فإن طولوب بالوديعة فأنكرها فالقول قوله لأن الأصل عدهما وإن
أقر بها وأدعى ردها أو تلفها بأمر خفي قبل قوله مع يمينه لأنه قبضها
لنفع مالكها وإن كان بأمر ظاهر فعليه إقامة البينة بوجوده في تلك
الناحية ثم القول قوله مع يمينه.
الشيخ: إذا ادعى المودَعُ رد الوديعة فالقول قوله لأنه قبضها لمصلحة
مالكها والقاعدة أن ما قبضه الإنسان لمصلحة مالكه فقوله مقبول في الرد
لأنه محسن وقد قال الله تعالى (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)
أما إذا ادعى التلف نظرنا إن قال إنها تلفت بحريق أو غرق قيل له أقم
البينة على الحريق والغرق لأن الحريق والغرق لا يخفى ثم إذا أقام
البينة أنه حصل في تلك الناحية حريق أو غرق قبلنا قوله في أنها تلفت به
وإلا لم نقبله أما إذا قال تلفت بأمر خفي مثل أنها سرقت أو أكلتها
الأَرَضَة فالقول قوله.
فصل
القارئ: وإن طالبه برد الوديعة فأخره لعذر لم يضمن لأنه لا تفريط من
جهته وإن أخره لغير عذر ضمنها لتفريطه ومؤونة ردها على مالكها لأن
الإيداع لحظه.
باب العارية
القارئ: وهي هبة المنافع.
الشيخ: العارية هي أن يعطي متاعه لأحد
ينتفع به ويرده إليه وقول المؤلف رحمه الله إنها هبة المنافع فيه نظر
ظاهر لأن هبة المنافع تكون ملكاً للمنتفع وهو الذي استعار وأما منافع
العارية فليست ملكاً للمستعير ولذلك لا يملك أن يعيرها أحداً غيره ولا
أن يبيع منافعها ففي قول المؤلف رحمه الله إنها هبة منافع فيه تسامح لا
شك والصواب أن العارية هي إباحة الانتفاع للمستعير أن ينتفع بالعارية
وحكمها من جهة المستعير جائزة فيجوز للإنسان أن يستعير لأن النبي صلى
الله عليه وسلم استعار دروعاً من صفوان بن أمية أما بالنسبة للمعير فهي
سنة وقد تجب أحياناً كما سيأتي إن شاء الله.
القارئ: وهي مندوب إليها لقول الله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
الشيخ: الاستدلال بهذه الآية فيه نظر ظاهر والصواب أن يقال لقوله تعالى
(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وذلك لأن
المستعير قد لا يستعيرها لبر ولا لتقوى فقد يستعيرها لغرض مباح لا يوصف
بأنه بر ولا تقوى فاستدلال المؤلف رحمه الله بالآية فيه نظر والصواب أن
يستدل بقوله تعالى (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ).
القارئ: ولأن فيها عوناً لأخيه المسلم وقضاء حاجته (والله في عون العبد
ما كان العبد في أخيه).
الشيخ: كثير من الناس يروون هذا الحديث (والله في عون العبد مادام
العبد في عون أخيه) وهذا غلط، لأن هناك فرقاً بين قوله (ما كان العبد
في عون أخيه) وقولهم (مادام العبد في عون أخيه) لأنه إذا قال (ما كان
العبد) يعني أن عون الله لهذا الإنسان كعون هذا الرجل لأخيه طال أم قصر
قوي أم ضعف لكن قوله (مادام) تقتضي أن الله لا يديمه إلا إذا دام ولا
تقتضي أيضاً أن الجزاء من جنس العمل فلفظ الحديث هو الذي ينبغي أن يساق
عند رواية الحديث (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
القارئ: وتصح في كل عين ينتفع بها مع بقاء
عينها لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرساً فركبها
واستعار من صفوان بن أمية أدراعا رواه أبو داود.
الشيخ: حديث أبي طلحة القصة فيه أنهم في المدينة سمعوا صيحة يعني غارة
على البلد فركب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفرس وهو فرس عري
ليس عليه شيء على ظهره واستبرأ الخبر ولما فزع الناس وإذا برسول الله
صلى الله عليه وسلم راجع مستبرء الخبر فقال لهم (ارجعوا فلن تراعوا) أو
كلمة نحوها فيحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعاره منه ويحتمل
أنه وجده وللحاجة ركبه بدون استعارة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم
الكل يفرح أن ينتفع بماله ويُسَرُّ به وعلى كل حال فالدليل الواضح هو
قصة صفوان بن أمية فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً.
القارئ: وسئل صلى الله عليه وسلم عن حق الإبل فقال (إعارة دلوها وإطراق
فحلها) فثبت إعارة ذلك بالخبر وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء
عينه ويجوز إعارة الفحل للضراب للخبر والكلب للصيد قياساً عليه
الشيخ: قوله صلى الله عليه وسلم (إعارة دلوها) معناه إذا طلب صاحب
الإبل من شخص أن يعيره الدلو ليسقي إبله.
السائل: رجل أُودِعَ وديعة فوضعها في غير حرزها ليخدع اللصوص كمن جعل
المال في الغسالة وضع عليه ملابس فما حكم ذلك؟
الشيخ: إذا حفظ الوديعة في غير حرزها حتى يُغَرِّرَ بالسارق فنقول له
أرأيت لو ترك الصندوق مفتوحاً وقال أغرر بالسارق لأجل إذا رآه مفتوحاً
قال هذا ليس فيه شيء؟ فهل هذا ينفعه؟ الجواب لا، إذا هو عليه أن يحفظها
في حرز مثلها وإذا سرقت من حرز مثلها فليس بمفرط.
السائل: قوله صلى الله عليه وسلم (الله في عون العبد ما كان العبد في
عون أخيه) (ما) هنا مصدرية ظرفية وعليه ألا تكون بمعنى ما يروى عند
الناس في قولهم (ما دام العبد ... )؟
الشيخ: لا، هي مصدرية ظرفية وكيفية أيضاً
فيكون المعنى على صفة ما كان في عون أخيه.
فصل
القارئ: ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر لأنه لا يجوز أن يستخدمه
ولا الصيد لمحرم لأنه لا يجوز له إمساكه ولا الجارية الجميلة لغير ذي
محرم منها على وجه يفضي إلى خلوته بها لأنه لا يؤمن عليها فإن كانت
شوهاء أو كبيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس لأنه يؤمن عليها.
الشيخ: لا شك أن الجارية الجميلة أقرب للفتنة من الشوهاء، والصغيرة
أقرب للفتنة من الكبيرة، ولكن حتى هذه فيها خطر لا سيما إذا كان
المستعير شاباً لا زوجة له فهذا يكفيك كل شيء وكما يقولون لكل ساقطة
لاقطة فالصواب إن إعارة المرأة لغير المحرم محرم والمراد إعارة الجارية
يعني المملوكة أما الحرة فلا تعار لكن المملوكة لا يجوز أن يعريها إلا
لذي محرم إلا إذا كان يعريها للبيت والبيت كله فيه الأهل وفيه النساء
فتكون خادماً له لمدة أسبوع أو أكثر أو أقل فهذا لا بأس به، لكن هل
يعيرها لرجل فيقول له أعيرك جاريتي لتخدمك لأن زوجتك سافرت؟ الجواب
نقول إن كانت شابة لا تجوز الإعارة وإن كانت غير شابة فعلى كلام المؤلف
يجوز لكن حتى هي أيضاً الكبيرة قيدها المؤلف رحمه الله بأن لا
يُشْتَهَى مثلها لكن نقول غالب الناس لا يشتهونها لكن رجل ينفرد بامرأة
في بيت وهو شاب فإنه لا تؤمن الفتنة أبداً ولذلك قال النبي صلى الله
عليه وسلم (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).
القارئ: ويكره استعارة والديه للخدمة لأنه يكره له استخدامهما فكره
استعارتها لذلك.
السائل: ما هي صورة هذه المسألة الأخيرة؟
الشيخ: صورة المسألة إنسان كان أبواه مملوكين وهو حر فطلب من مالكهما
أن يعريه إياهما.
السائل: قول المؤلف (ولا الصيد لمحرم) فهل كذلك لو أن رجلاً صاد لنفسه
صيداً ثم أعاره للمحرم؟
الشيخ: لا يجوز لأن يد المحرم لا يمكن أن
تكون على الصيد حتى لو كان هذا الصيد ملكاً لهذا الشخص ثم أحرم فإنه
يجب عليه أن يتخلى عنه على المشهور من المذهب لكن يتخلى عنه في يده
المُشَاهِدة أما الحُكْمِيَّة فلا بأس.
السائل: إذا وضع هذا المحرم الصيد في محل يحفظه له لكي يرجع إليه فيما
بعد فما الحكم؟
الشيخ: إذا كانت لا تثبت عليه يده فلا بأس بذلك.
السائل: هل يصح إعارة النقد كأن يستعير مالاً نقداً لغرض ما ثم يعيده
لصاحبه كما هو دون أن يتصرق فيه؟
الشيخ: يصح بشرط أن لا يكون المقصود به الخديعة فهذا الرجل يقول لصاحبه
اعطني خمسمائة ريال أضعها في جيبي وجيبي رهيف تُرَىَ من وراءه
الخمسمائة فيذهب ليخطب من الناس ابنتهم لكي يظنوا إذا رأوا المال أنه
غني فهذا لا يصح، وعليه إذا كان في إعارة النقد منفعة فلا بأس وإلا فلا
يصح.
فصل
القارئ: فإن قبض العين ضمنها لما روى صفوان بن أمية أن النبي صلى الله
عليه وسلم استعار منه أدراعاً يوم حنين فقال أغصباً يا محمد قال (بل
عارية مضمونة) وروي (مؤداة) رواه أبو داود ولأنه قبض مال غيره لنفع
نفسه لا للوثيقة فضمنه كالمغصوب وعليه مؤونة ردها لذلك.
الشيخ: قوله (فضمنه كالمغصوب) هذا قياس مع الفارق فهذا رجل أعارني
متاعه باختياره رجاء الثواب فكيف نقول إنه يشبه مَنْ غَصَبْتُهُ ماله!!
فالقياس غير صحيح والصواب أن العارية الأصل فيها عدم الضمان لأنها عين
قبضت من يد مالكها باختياره فيكون القابض أميناً والأمين لا ضمان عليه
لأنه حصل المال برضا صاحبه لكن لو شُرِطَ عليه ضمنها بأن قال المعير لا
بأس أنا أعيرك هذا لكن بشرط أن تضمنها إذا تلفت سواء تعديت أو لا،
فالتزم بذلك، ضمن لأنه هو الذي ألزم نفسه بهذا فالصواب أن العارية غير
مضمونة إلا إذا التزم المستعير بالضمان وأما قياسها على المغصوب فهو
قياس مع الفارق.
القارئ: فإن شرط نفي الضمان لم ينتف لأن ما
يضمن لا ينتفي بالشرط وقال أبو حفص العكبري يبرأ لأن الضمان حقه فسقط
بإسقاط كالوديعة التي تعدى فيها فإن استخلق الثوب أو نقصت قيمتها لم
يضمن لأنه مأذون فيه لدخوله فيما هو من ضرورته.
الشيخ: لو استعار منه رشا يعني الحبل الذي يستقى به ثم ضعف هذا الحبل
بسبب الدلو فإنه لا يضمن لأنه إذا تلفت العارية فيما استعيرت له فلا
ضمان، فالقول الراجح أنه لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط وهذا لا إشكال
فيه لو شَرَطَ عليه صاحبها الضمان وقَبِلَ فلا بأس ويُضَمَّن، على أنه
في هذا الحكم قلق لأنه حكم مخالف لعقود الأمانات فإن كل أمين لا ضمان
عليه لكن يجاب عن هذا بأنه هو الذي رضي لنفسه أن يضمنها وعليه فالعارية
تضمن بالتعدي أو بالتفريط أو باشتراط الضمان.
القارئ: ولو تلفت ضمنها بقيمتها يوم تلفها لأن نقص قبل ذلك غير مضمون
بدليل أنه لو ردها لم يضمنه فإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال كخمل المنشفة
ففيه وجهان أحدهما لا يضمنه لما ذكرنا والثاني يضمنه لأنه ما أجزائها
فيضمنه كسائر أجزائها وإن تلف ولد العارية ففيه وجهان أحدهما يضمنه
لأنه تابع لما يجب ضمانه فيجب ضمانه كولد المغصوب والثاني لا يضمن لأنه
لم يدخل في العارية فلم يدخل في الضمان بخلاف المغصوبة فإن ولدها داخل
في الغصب.
فصل
القارئ: والعارية عقد جائز لكل واحد منهما فسخها لأنها إباحة فأشبهت
إباحة الطعام وعليه ردها إلى المعير أو من جرت عادته أن يجري ذلك على
يديه كرد الدابة إلى سائسها فإن ردها إلى غيرهما أو دار المالك أو
اصطبله لم يبرأ من الضمان لأن ما وجب رده لم يبرأ رده إلى ذلك
كالمغصوب.
الشيخ: لو قال المعير للمستعير إذا انتهى
غرضك منها فضعها في بيتي فإنه لا يضمن فلو سرقت بعد أن وضعها فإنه لا
يضمن لأنه فعل فعلاً مأذوناً فيه وكذلك لو جرت العادة المطردة بأن
أصحاب العواري ترد عواريهم إلى محلاتها كرجل يعير السيارات وله كراج
كبير ومن استعار وانتهى أتى بالسيارة وأدخلها بالكراج فإنه لا يضمن إذا
سرقت من مكانها.
فصل
القارئ: ومن استعار شيئاً فله استيفاء نفعه بنفسه ووكيله لأنه نائب عنه
وليس له أن يعيره لأنها إباحة فلا يملك بها إباحة غيره كإباحة الطعام.
الشيخ: وبهذا يعرف أن قول المؤلف فيما سبق أن العارية هي هبة المنافع
غير سليم لأن الموهوب له أن يتصرف كما يشاء.
السائل: لو أن المستعير وضع العارية بإذن صاحبها في بيته لكنه لم يغلق
الباب أو وضعها حيث يراها الناس فهل هو مفرط؟
الشيخ: هذا يكون بحسب العادة فإذا جرت العادة أن الكراج لا يغلق فيه
الباب فهو غير مفرط.
السائل: لو استعار سيارة ليذهب بها إلي مكان بعيد ثم تعطلت السيارة فهل
عليه أن يصلحها ويضمنها أم لا؟
الشيخ: المذهب عليه أن يصلحها ويردها سليمة كما أخذها والصحيح أنه لا
يضمن إلا إذا تعدى أو فرط أو شُرِطَ عليه الضمان.
القارئ: فإن أعاره فتلف عند الثاني فللمالك تضمين أيهما شاء ويستقر
الضمان على الثاني لأنه قبضه على أنه ضامن له فتلف في يده فاستقر
الضمان عليه كالغاصب من الغاصب.
الشيخ: يقول المؤلف (للمالك تضمين أيهما شاء) هل يُضَمِّنُ المستعير
الأول أو المستعير الثاني؟ الجواب يُضَمِّنُ مَنْ هو أقرب إلى الوفاء
فإذا كان المستعير الأول فقيراً أو مماطلاً والثاني غني وَفِي فإنه
سَيُضَمِّنُ الثاني ويقول له ارجع على صاحبك لأن القرار على الأول إذا
لم يعلم الثاني، وإذا كان الأول هو الغني الوفي فَسَيُضَمِّنُ الأول
وحينئذ لا يرجع الأول على الثاني لأن قرار الضمان عليه إلا إذا علم
الثاني أنها معارة فيكون قرار الضمان عليه.
مسألة: توضيح للمسألة السابقة إذا استعار
الشخص شيئاً فليس له أن يعيره غيره لكن لو فعل وأعار غيره وتلفت
العارية عند الثاني فللأول وهو المالك أن يُضَمِّنَ أيهما شاء فهو
بالخيار فإذا ضمن الثاني فإن الثاني يرجع على الأول إلا إذا علم أن
الأول مستعير فهنا يكون الضمان عليه ولا يرجع على الأول، وإن ضَمَّنَ
الأول فلا يرجع الأول على الثاني إلا إذا كان الثاني قد علم أن الأول
مستعير فيكون قد شاركه في الإثم وقرار الضمان يكون على من تلفت في يده.
فصل
القارئ: وتجوز العارية مطلقة ومعينة لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام
فإن أطلقها فله أن ينتفع بها في كل ما يصلح له فإن كانت أرضاً فله أن
يبني ويغرس ويزرع لأنها تصلح لذلك كله وإن عين نفعاً فله أن يستوفيه
ومثله ودونه وليس له استيفاء أكثر منه على ما ذكرنا في الإجارة.
فصل
القارئ: وتجوز مطلقة ومؤقتة وإن أعارها
للغراس سنة لم يملك الغرس بعدها فإن غرس بعدها فحكمه حكم غرس الغاصب
لأنه بغير إذن وإن رجع قبل السنة لم يملك الغرس بعد الرجوع لأن الإذن
قد زال فأما ما غرسه بالإذن فإن كان قد شرط عليه قلعه لزمه لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) حديث حسن صحيح وإن شرط عليه
تسوية الحفر لزمه للخبر وإلا لم يلزمه لأنه أذن في حفرها باشتراطه
القلع ولم يشترط تسويتها وإن لم يتشرط عليه قلعه لكن لا تنقصه قيمته
بقلعه لزم قلعه لأنه أمكن رد العارية فارغة من غير ضرر فوجب وإن نقصت
قيمته بالقلع فاختاره المستعير فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله وعليه
تسوية الأرض لأن القلع باختياره لو امتنع منه لم يجبر عليه لأنه فعله
لاستخلاص ملكه من ملك غيره فلزمته التسوية كالشفيع إذا أخذ غرسه وقال
القاضي لا تلزمه التسوية لأن المعير دخل على هذا بإذنه في الغراس الذي
لا يزول إلا بالحفر عليه وإن أبى قلعه فبذل المعير قيمته ليملكه أجبر
على قبولها لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه الشفيع مع المشتري ولو
بذل المستعير قيمة الأرض ليملكها مع غرسه لم يجبر المعير عليه لأن
الغرس يتبع الأرض في الملك بخلاف الأرض فإنها لا تتبع الغرس فإن بذل
المعير أرش النقص الحاصل بالقلع أجبر المستعير على قبوله لأنه رجوع في
العارية من غير إضرار وإن لم يبذل القيمة ولا أرش النقص وامتنع
المستعير من القلع لم يقلع لأنه أذن له فيما يتأبد فلم يملك الرجوع على
وجه يضر به كما لو أذن له في وضع خشبه على حائطه ولم يذكر أصحابنا عليه
أجرة لأن بقاء غرسه بحكم العارية وهي انتفاع بغير أجرة كالخشب على
الحائط وذكروا في الزرع أن عليه الأجرة لمدة بقاء الزرع من حين الرجوع
لأنه لا يملك الانتفاع بأرض بغيره بعد الرجوع بغير أجرة وهذا يقتضي
وجوب الأجرة على صاحب الغراس بعد الرجوع وللمعير دخول أرضه كيف شاء لأن
بياضها له لا حق للمستعير فيها
وللمستعير دخولها للسقي والإصلاح وأخذ
الثمرة لأن الإذن في الغراس إذن فيما يعود بصلاحه وأخذ ثمره وليس له
دخولها للتفرج ونحوه ولا يمنع واحد منهما من بيع ملكه لمن شاء يكون
بمنزلته لأنه ملكه على الخصوص فملك بيعه كالشقص المشفوع.
فصل
القارئ: وإن رجع في العارية وفي الأرض زرع مما يحصد قصيلاً حصده لأنه
أمكن الرجوع من غير إضرار وإن لم يمكن لزم المعير تركه بالأجرة إلى وقت
حصاده لأنه لا يملك الرجوع على وجه يضر بالمستعير وإن حمل السيل بذر
رجل إلى أرض آخر فنبت فيها ففيه وجهان أحدهما حكمه حكم العارية لأنه
بغير تفريط من ربه إلا أن عليه أجرة الأرض لأنه لا يجوز استيفاء نفع
أرض إنسان بغير إذنه من غير أجرة فصار كزرع المستعير بعد رجوع المعير
والثاني حكمه حكم الغصب لأنه حصل في ملكه بغير إذنه وقال القاضي ليس
عليه أجرة لأنه حصل بغير تفريط أشبه مبيت بهيمته في دار غيره.
الشيخ: قول القاضي هو الصواب لأن السيل ليس باختياره وإنما حَمَلَ
السيل البذر وظهر في الأرض فكيف نقول إن هذا حكمه حكم الغصب.
السائل: لماذا لا نقول إن صاحب الأرض الذي نزل الحب في أرضه بسبب السيل
يدفع ثمن الحب لصاحبه؟
الشيخ: هذه مسألة ثانية، لكن نقول إنه ليس كالغاصب فيلزم بقلعه وإلا من
المعلوم أنه لا بد أن يصطلحا على شيء ما.
فصل
القارئ: وإن أعاره حائطاً ليضع عليه أطراف
خشبه لم يكن له الرجوع مادام الخشب على الحائط لأن هذا يراد للبقاء
وليس له الإضرار بالمستعير فإن بذل المالك قيمة الخشب ليملكه لم يكن له
لأن معظمه في ملك صاحبه فإن أزيل الخشب لتلفه أو سقوطه أو هدم الحائط
لم يجز رده إلا بإذن مستأنف لأن الإذن تناول والوضع الأول فلم يتعد إلى
غيره وإن وجدت أخشاب على حائط لا يعلم سببها ثم نقلت جاز إعادتها لأن
الظاهر أنها بحق ثابت وإن استعار سفينة فحمل متاعه فيها لم يملك صاحبها
الرجوع فيها حتى ترسي وإن أعاره أرضاً للدفن لم يملك الرجوع فيها ما لم
يَبْل الميت لما ذكرنا.
السائل: قول المؤلف (وإن وجدت أخشاب على حائط لا يعلم سببها ثم نقلت
جاز إعادتها) ما معنى هذا الكلام؟
الشيخ: صورة المسألة هذا رجل له جار وجاره قد وضع خشبه على جدار جاره
ونحن لا نعلم هل هو اشترى الجدار أو اشترك معه في بنائه فتبقى الأخشاب
لصاحبها لأن الأصل أنها وضعت بحق.
السائل: لو تلفت العارية وهو في سفر فإنه لا يضمن إلا إذا تعدى او فرط
فلو كانت العارية سيارة وتلفت في السفر فهل يلزمه أن يسحبها ويرجعها
لصاحبها؟
الشيخ: إذا كان يمكن أن تسحب وينتفع بها صاحبها فيجب عليه ذلك.
السائل: أجرة السحب تكون عليه أو على صاحبها؟
الشيخ: الأجرة عليه لأنه قبضها لمصلحته فعليه أن يردها إلى صحابها.
السائل: لو تلفت العارية عند الثاني وماطل الأول والثاني في الوفاء فما
هو الحكم؟
الشيخ: يُرْجَعُ في ذلك للقاضي والحاكم.
السائل: هل للمستعير أن يعير غيره العارية لو علم أن صاحب العارية يرضى
بذلك؟
الشيخ: لا بد أن يكون هناك إذن صريح فلو أن المستعير عرف أن صاحبه الذي
أعاره يرضى أن يعيره فلاناً فإنه لا يعيره له، لكن يمكن أن يتسامح في
الأمور اليسيرة.
فصل
القارئ: وإن استعار شيئاً يرهنه مدة معلومة
على دين معلوم صح لأنه نوع انتفاع فإن أطلق الإذن من غير تعيين صح لأن
العارية لا يشترط في صحتها تعيين النفع فإن عين فخالفه فالرهن باطل
لأنه رهنه بغير إذن مالكه وإن أذن له في رهنه بمائة فرهنه بأقل منها صح
لأن من أذن في شيء فقد أذن في بعضه وإن رهنه بأكثر منها بطل في الكل في
أحد الوجهين لأنه مخالف أشبه ما لو خالف في الجنس وفي الآخر يصح في
المأذون ويبطل في الزائد كتفريق الصفقة.
الشيخ: القول الراجح أنه إذا أعاره على شيء معلوم من الدين فرهنه بأكثر
فإنه يبطل ما زاد فقط لأن المخالفة حصلت في الزائد وإلا فأصل الإعارة
للرهن ثابت.
القارئ: وللمعير مطالبة الراهن بفكاكه في الحال سواء أجله أو أطلق لأن
العارية لا تلزم.
الشيخ: قوله رحمه الله (وللمعير مطالبة الراهن) في هذا نظر لأنه إذا
أذن له أن يرهنه فإنه يتعلق به حق شخص ثالث وهو المرتهن فكيف يقال
للمعير أن يطالبه بفك الرهن! بل نقول إنه لا يجوز لقوله تعالى (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وقوله تعالى
(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) ولقول
النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).
القارئ: وإن حل الدين قبل فكاكه بيع واستوفي الدين من ثمنه لأن هذا
مقتضى الرهن ويرجع المعير على المستعير بقيمته أو مثله إن كان مثليا
لأن العارية مضمونة بذلك ولا يرجع بما بيع به إن كان أقل من القيمة لأن
العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها وإن بيع بأكثر من قيمته رجع به لأن ثمن
العين ملك لصحابها وقيل لا يرجع بالزيادة وإن تلف في يد المرتهن رجع
المعير على المستعير ويرجع المستعير على المرتهن إن كان تعدى وإلا فلا
فإن قضى المعير الدين وفك الرهن بإذن الراهن رجع عليه وإن كان بغير
إذنه متبرعاً لم يرجع وإن قضاه محتسباً بالرجوع ففيه روايتان بناءً على
قضاء دينه بغير إذنه.
الشيخ: سبق لنا أن القول الراجح أنه إذا
قضى الدين بنية الرجوع فله أن يرجع سواء أذن المدين أم لم يأذن لأن
المدين حصلت له الفائدة وهي إنفكاك ذمته من الدين والصورة التي ذكرها
المؤلف في هذا الفصل ينبغي أن نعلمها نظرياً أما عملياً فلا، لأنه قد
يحصل فيها تلاعب خصوصاً إذا قلنا إن للمعير أن يرجع في عاريته قبل وفاء
الدين فقد يأتي إنسان ويستعير من شخص سيارة ويقول له أعرني إياها
أرهنها بدين آخُذُهُ من فلان، فيأتي لفلان ويقول له هذه السيارة رهن.
فيحصل بذلك تدليس وغش، وعليه نقول هذه المسألة نظرياً لا بأس أن
نفهمها.
فصل
القارئ: إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال اعرتنيها فقال بل أجرتكها
عقيب العقد والدابة قائمة فالقول قول الراكب لأن الأصل عدم الإجارة
وبراءة ذمته من الأجرة وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة فالقول قول
المالك لأنهما اختلفا في صفة نقل ملكه إلى غيره فأشبه ما لو اختلفا في
العين فقال وهبتنيها وقال بل بعتكها فيحلف المالك ويجب له المسمى في
أحد الوجهين لأنه ادعاه وحلف عليه والآخر تجب أجرة المثل لأنهما لو
اتفقا على الإجارة واختلفا في قدر الأجرة لم يجب أكثر من أجرة المثل
فمع الاختلاف أولى.
الشيخ: إذا اختلفا عقب العقد وذلك بأن قال له أعرتك أو أجرتك واختلفا
فقال صاحب الدابة إني أجرتك وقال الآخر بل بل أعرتني فالقول قول
المستعير لأنه لم يمض مدة لها أجرة والأصل براءته من الأجرة أما إذا
مضى مدة لها أجرة كنصف اليوم وما أشبه ذلك فإن القول قول المالك لأن
الأصل أن ملكه لا يخرج عنه إلا ببينة.
القارئ: وإن قال أكريتنيها قال بل أعرتكها
بعد تلفها أو قبله فالقول قول المالك مع يمينه لأنهما اختلفا في صفة
القبض والأصل فيما يقبضه من مال غيره الضمان لقوله عليه السلام (على
اليد ما أخذت حتى ترده) حديث حسن والقول قول الراكب في قدر القيمة مع
يمينه وإن قال غصبتنيها قال بل أعرتنيها أو أكريتنيها فالقول قول
المالك لذلك ولأن الراكب يدعي انتقال المنافع إلى ملكه بالعارية أو
الكراء والمالك ينكر ذلك والأصل معه.
باب الغصب
القارئ: وهو استيلاء الإنسان على مال غيره بغير حق.
الشيخ: المؤلف رحمه الله عَرَّفَ الغصب بأنه استيلاء الإنسان على مال
غيره بغير حق وهذا الحد قاصر لأنه غير مانع إذ أنه يدخل فيه ما سُرِقَ
وما أُخذ نهباً وما أشبه ذلك فيجب أن يضاف إلى هذا قيد وهو (قهراً)
يعني يأخذه غصباً عليه قهراً فهذا هو الغصب وأما إذا أخذه على غير هذا
الوجه فليس بغصب ولكن هل يعطى أحكام الغصب أو لا؟ فيه تفصيل معروف في
بابه.
القارئ: وهو محرم بالإجماع وقد روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال في خطبته يوم النحر (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة
يومكم هذا في شهركم هذا) رواه مسلم.
الشيخ: لو استدل المؤلف بالقرآن والسنة لكان أولى ففي القرآن قال الله
تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) وقال
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) والغصب ليس فيه
تراضي فهو كما قال المؤلف رحمه الله محرم بالإجماع لدلالة الكتاب
والسنة على ذلك.
القارئ: ومن غصب شيئاً لزمه رده لما روى
سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (على اليد ما أخذت حتى ترده)
وإن نقصت لتغير الأسعار لم يضمنها لأن حق المالك في العين وهي باقية لم
تتغير صفتها ولا حق له في القيمة مع بقاء العين وإن نقصت القيمة لنقص
المغصوب نقصاً مستقراً كثوب استخلق أو تخرق وإناء تكسر أو تشقق وشاة
ذبحت وحنطة طحنت فعليه رده وأرش نقصه لأنه نقص عين نقصت به القيمة فوجب
ضمانه كذراع من الثوب.
الشيخ: إذا نقص المغصوب فإن كان نقص عين أو صفة في العين فهو مضمون على
الغاصب وإن كان نقص سعر فليس بمضمون مادامت السلعة باقية على ما هي
عليه مثال ذلك لو غصب سيارة تساوي خمسين ألف وكان هذا في أول ورودها ثم
كثرت في الأسواق وصارت لا تساوي إلا أربعين ألفاً والسيارة باقية
بحالها فإنه يردها إلى صاحبها ولا يلزمه ضمان نقص القيمة لأن القيمة
أمر منفصل عن العين وهذا ما ذكره المؤلف رحمه الله والصواب أن ما نقص
بالسعر فهو مضمون وذلك لأن هذه السلعة التي في المثال الذي ذكرناه
السيارة كانت تساوي خمسين ألفاً والآن لا تساوي إلا أربعين فهو قد حال
بين صاحبها وبين هذه الزيادة فيلزمه النقص ولو لم نقل بهذا لكان كل
إنسان يريد أن ينقصاً أحداً يغصبه شيئاً ويدعه حتى إذا نقصت القيمة قال
خذ مالك فيحصل بهذا فوضى وضرر على الناس فالصواب أن ما نقص بالسعر فهو
مضمون كالذي ينقص بالعين أو الوصف وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله وهو الصواب.
القارئ: وإن طالب المالك ببدله لم يملك ذلك لأن عين ماله باق فلم يملك
المطالبة ببدله كما لو قطع من الثوب جزءاً وإن كان النقص غير مستقر
كطعام ابتل أو عفن فله بدله في قول القاضي لأنه يتزايد فساده إلى أن
يتلف وقال أبو الخطاب يخير بين ذلك وبين تركه حتى يستقر فيه الفساد
ويأخذه مع أرشه لأن عين ماله باقية فلا يمنع من أخذها مع أرشها كالثوب
الذي تخرق.
الشيخ: ينبغي أن يُفَصَّلَ في هذا فيقال
إذا كان النقص الذي ليس بمستقر يزول سريعاً فلا بأس أن يُنْتَظَر وأما
إذا كان يتأخر فهنا ينبغي أن يقال إنه يضمنها بالبدل لأنه بتأخره
يُفَوِّتُ على المالك مصالح مثال ذلك إذا غصبه بُرًّا وأبتل البُرُّ
فالبلل هذا يزول وليس بمستقر لكن متى يزول؟ فقد يتأخر كثيراً خصوصاً في
أيام الشتاء وأيام الرطوبة فيتضرر المالك فهنا نلزمه ببدله يابساً وأما
إذا كان يزول سريعاً فإننا لا نلزمه ونقول انتظر إلى آخر النهار حتى
يستقر النقص ويُضمن بالأرش، لكن لو قال أنا لن أصبر وأريد أن يُقَوَّم
الأرش الآن فله ذلك فتقدر قيمته ويأخذه ويأخذ الأرش ولا يمكن أن يجبر
ويقال انتظر حتى يزول هذا النقص لأنه سيزول قريباً فله أن يقول لن
انتظر.
السائل: لو غصب بقرة إنسان وباعها بخمسمائة ريال مثلاً ثم بعد عشر
سنوات تغيرت الأسعار وتاب الغاصب، فهل يضمنها كما باعها أو باسعر
الجديد؟
الشيخ: يضمن بقرة مثلها لأنه معتدي، لكن لو اصطلحا على شيء فلهما ذلك
لأن الحق لهما، وأما إذا قال أنا أريد بقرة مثل بقرتي فلابد أن يُعْطَى
بقرة مثل بقرته وهذا مما يؤيد القول بأنه يضمن نقص السعر فلو أنه غصبها
وهي تساوي ثلاثة آلاف ثم نقصت قيمة البقر وصارت تساوي خمسمائة وأراد
الغاصب أن يردها فإنه يردها، لكن هل يضمن النقص هذا ينبني على الخلاف
في نقص السعر؟
فصل
القارئ: فإن كان النقص في الرقيق مما لا مقدر فيه كنقصه لكبر أو مرض أو
شجة دون الموضحة ففيه ما نقص مع الرد لذلك وإن كان أرشه مقدراً كذهاب
يده فكذلك في إحدى الروايتين لأنه ضمان مال أشبه ضمان البهيمة والأخرى
يرده وما يجب بالجناية لأنه ضمان الرقيق فوجب فيه المقدر كضمان
الجناية.
الشيخ: الصواب في مسألة الرقيق أنه ليس فيه
مقدر شرعاً وأنه يضمن بما نقص لأنه كالبهيمة تماماً ولذلك يفرق الناس
بين رقيق كاتب ورقيق غير كاتب، ورقيق عالم ورقيق جاهل، وعلى هذا فإذا
قطعت يده فإذا قلنا بالمُقَدَّرِ قلنا فيه نصف قيمته سواء كان المقطوع
اليد اليمنى أو اليسرى وإذا قلنا بأنه يرجع في ذلك إلى القيمة قلنا إن
كانت اليمنى اليد فلها تقدير وإن كانت اليد اليسرى فلها تقدير وأيهما
أكثر؟ الجواب اليد اليمنى وكذلك في الأصابع إذا قطع الخنصر فليس
كالإبهام فالإبهام أغلى فيقدر الإبهام بقيمة أكثر لأن ضمان الرقيق ضمان
مال وأما الحر فضمانه ضمان أجزاء ولهذا نجد في الأحرار أن دية الخنصر
والإبهام سواء ودية السن والأضراس سواء.
القارئ: فإن قطع الغاصب يده فعلى هذه الرواية الواجب نصف قيمته كغير
المغصوب وعلى الأولى عليه أكثر الأمرين من نصف قيمته أو قدر نقصه لأنه
قد وجدت اليد والجناية فوجب أكثرهما ضمانا.
الشيخ: الصواب خلاف هذين القولين فالصواب أن يقال يضمن بما نقص
فيُقَدَّرُ كأنه عبد سليم ويُقَدَّرُ بعد ذلك كأنه عبد مقطوع اليد ثم
الفرق بينهما يلزم الغاصب.
القارئ: وإن غصب عبداً فقطع أجنبي يده فللمالك تضمين أيهما شاء فعلى
الأولى إن ضمن الغاصب ضمنه أكثر الأمرين ويرجع الغاصب على القاطع بنصف
قيمته لا غير لأن ضمانه ضمان الجناية وإن ضمن الجاني ضمنه نصف القيمة
وطالب الغاصب بتمام النقص وعلى الثانية يطالب أيهما شاء ويستقر الضمان
على القاطع لأنه المتلف فيكون الرجوع عليه.
فصل
القارئ: وروي عن أحمد فيمن قلع عين فرس أنه
يضمنها بربع قيمتها لأنه يروى عن عمر رضي الله عنه والصحيح أنه يضمنها
بنقصها لأنها بهيمة فلم يكن فيها مقدر كسائر البهائم أو كسائر أعضائها
ويحمل ما روي عن عمر رضي الله عنه على أن عين الدابة التي قضى فيها
نقصها ربع القيمة ولو غصب دابة قيمتها مائة فزادت فصارت قيمتها ألفا ثم
جنى عليها جناية نقصت نصف قيمتها لزمه خمسمائة لأن الواجب قيمة ما أتلف
يوم التلف وقد فوت نصفها فضمن خمسمائة.
فصل
القارئ: فإن نقصت العين دون القيمة وكان الذاهب يضمن بمقدر كعبد خصاه
وزيت أغلاه فذهب نصفه ولم تنقص قيمته فعليه قيمة العبد ومثل ما نقص من
الزيت مع ردهما لأن والواجب فيهما مقدر بذلك فإن لم يكن مقدراً كعبد
سمين هزل فلم تنقص قيمته لم يلزمه أرش هزاله لأن الواجب فيه ما نقص من
القيمة ولم تنقص فإن أغلاه عصيراً فنقص فهو كالزيت لأنه في معناه
ويحتمل أن لا يضمن لأن الغليان عقد أجزاءه وجمعها واذهب ما ئيته فقط
بخلاف الزيت.
الشيخ: ما ذكره المؤلف أنه إذا نقصت العين دون القيمة فيضمن
بِمُقَدَّرٍ فيه نظر، لأنه إذا خصى الرقيق زادت قيمته بلا شك وضمان
الرقيق يجري مجرى ضمان الأموال كما لو خصى فحلاً من الغنم فزادت قيمته
فإنه لا يضمن فكذلك العبد فالصواب أنه إذا خصى العبد وزادت القيمة فلا
ضمان عليه لأنه يجري مجرى الأموال ومثله الزيت إذا غلاه حتى تَجَمَّدَ
وثخن وازدات قيمته بذلك فإنه لا ضمان عليه لأنه زاده خيراً وهذا الخير
الذي زاده بعمل منه أي من الغاصب.
القارئ: فإن نقصت عينه وقيمته فعليه مثل ما نقص من العين وأرش نقص
الباقي في العصير والزيت لأن كل واحد من النقصين مضمون منفردا فكذلك
إذا اجتمعا.
الشيخ: الصواب في هذه المسألة أنه يضمن الأكثر من هذا أو هذا ولا يمكن
أن نجمع عليه ضمانين لأنه استفاد من النقص.
القارئ: ولو شق ثوباً ينقصه الشق نصفين ثم
تلف أحدهما رد الباقي وتمام قيمة الثوب قبل قطعه وإن غصب خفين فتلف
أحدهما فكذلك في أحد الوجهين لأن نقص الباقي بسبب تعديه والآخر لا
يلزمه إلا رد الباقي وقيمة التالف لأنه لم يتلف إلا أحدهما.
الشيخ: الصواب الوجه الأول أنه يلزمه قيمة التالف وما نقص الثاني لأن
الناس لا يمشون بنعل واحدة أو بخف واحدة.
السائل: لو طلب صاحب الخف المغصوب بعد أن تعدى الغاصب على أحد الخفين
بخف جديد فهل له ذلك؟
الشيخ: لا يمكن، لأن عين ماله في الخف الباقي باقية فلو ألزمناه بأن
يشتري نعلاً جديداً فهذا مقتضاه أننا أكرهناه على أن يبيع علينا ما لا
يلزمه.
فصل
القارئ: وإن غصب عبداً فمرض أو ابيضت عينه ثم برئ لم يلزمه إلا رده لأن
نقصه زال فأشبه ما لو انقلعت سنه ثم عادت وإن هزل ثم سمن أو نسي صناعته
ثم علمها فكذلك في أحد الوجهين لأن نقصه زال فأشبهت التي قبلها والآخر
يضمن النقص لأن السمن الثاني غير الأول فلا يسقط به ما وجب بزوال الأول
فعلى هذا الوجه لو سمن ثم هزل ثم سمن ثم هزل ضمنهما معاً لأن الثاني
غير الأول وعلى الوجه الأول يضمن أكثر السمنين قيمة لأن عود السمن أسقط
ما قابله من الأرش.
الشيخ: الصحيح أنه إذا هزل ثم عاد فسمن فإنه لا يضمن لأن النقص الأول
عوضه الغاصب، وهذه البهيمة لا تَسْمَنُ إلا بأكل وشرب فقد ضمنها في
الحقيقة.
القارئ: فإن كانت الزيادة الثانية من غير جنس الأولى كعبد هزل فنقصت
قيمته ثم تعلم فعادت قيمته ضمن الأولى لأن الثانية من غير جنس الأولى
فلا تنجبر بها وإن نسي الصناعة أيضا ضمن النقصين جميعاً لما ذكرنا.
الشيخ: النقص فيه خلاف فإن كان في وصف وعاد
من جنس الأول فلا ضمان مثل أن يُمْرَض ثم يُعافى فهذا لا يضمنه وإذا
كان نقص عين كالسِّمَن بأن كان سميناً ثم هزل ثم سَمِنَ فهذا فيه
الخلاف والصحيح أنه كالأول لا ضمان فيه لأنها عادة من الجنس الأول أما
إذا كانت من غير جنسه كعبد سمين هزل فنقصت قيمته لكنه تَعَلَّمَ فزادت
القيمة فهنا يضمن السِّمَن لأن الزيادة من غير جنس الأول فالأقسام
ثلاثة.
فصل
القارئ: فإن جنى العبد المغصوب لزم الغاصب ما يستوفى من جنايته لأنه
بسبب كان في يده وإن أقيد منه في الطرف فحكمه حكم ذهابه بفعل الله
تعالى لكونه ضماناً وجب باليد لا بالجناية فإن القطع قصصاً ليس بجناية
وإن تعلق الأرش برقبته فعليه فداؤه لأنه حق تعلق برقبته في يده فلزمه
تخليصه منه وإن جنى على سيده ضمن الغاصب جنايته لأنها من جملة جناياته
فأشبه الجناية على أجنبي.
فصل
القارئ: وإن زاد المغصوب في يده كجارية سمنت أو ولدت أو كسبت أو شجرة
أثمرت أو طالت فالزيادة للمالك مضمونة على الغاصب لأنها حصلت في يده
بالغصب فأشبهت الأصل وإن ألقت الولد ميتاً ضمنه بقيمته يوم الوضع لو
كان حيا لأنه غصب بغصب الأم.
الشيخ: الغاصب يعامل بأضر الأمرين لعدوانه والله عز وجل يقول (مَا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) فمفهومه أن المعتدين عليهم سبيل.
القارئ: وإن صاد العبد أو الجارحة صيداً فهو لمالكهما لأنه من كسبهما
وهل تجب أجرة العبد الكاسب أو الصائد في مدة كسبه وصيده فيه وجهان
أحدهما لا تجب لأن منافعه صارت إلى سيده فأشبه ما لو كان في يده
والثاني تجب لأن الغاصب أتلف منافعه.
الشيخ: الأقرب القول الثاني أنه يضمن المنافع ويضمن الصيد الذي حصل
وقول المؤلف إن المنافع عادت إلى السيد بكون الصيد له، نقول هذا صحيح
لو كان في ملك السيد أما الآن فإننا نُضَمِّنُ الغاصب أجرة الجارحة أو
العبد ونقول ما كسبه أو ما صاده فهو لمالكه.
القارئ: وإن غصب فرساً أو قوساً أو شركاً
فصاد به ففيه وجهان أحدهما هو لصاحبه لأن صيده حصل به أشبه صيد الجارحة
والثاني للغاصب لأنه الصائد وهذه آلة.
الشيخ: على الوجه الثاني تجب الأجرة لمالك الفرس أو القوس أو الشَرَك
والفرق بينها وبين المسألة الأولى أن الجارحة صادت بنفسها وأما الفرس
فلم يصد بنفسه بل الذي صاد هو الغاصب لكن هذه وسيلة فالصواب أن الصيد
يكون للغاصب ولكن عليه أجرة المثل لمالك الفرس أو القوس أو الشَّرَكِ.
القارئ: وإن غصب منجلاً فقطع به حطباً أو خشباً أو حشيشاً فهو للغاصب
لأن هذا آلة فهو كالحبل يربطه به.
الشيخ: لكن عليه بالأجرة وإنما ذكر المؤلف هذه لتكمل الأقسام الثلاثة:
الأول: أن يكون الكسب من نفس المغصوب فهذا يكون لمالكه.
والثاني: أن يكون بالمغصوب أي بسببه وليس من كسبه فهذا يكون للغاصب
وعليه الأجرة.
والثالث: أن لا يكون من هذا ولا هذا كمنجل قَطَعَ به حطباً أو خشباً
فهو للغاصب لأنه آلة لم توصل الغاصب إلى هذا بخلاف القوس والفرس
والشَّرَك.
السائل: إذا تعلم العبد صناعة ثم غُصِبَ ونسي الصناعة وتعلم صناعة أخرى
غير الأولى ومن غير جنسها فماذا على الغاصب؟
الشيخ: إذا كانت من غير جنسها فإنه يضمن الأولى.
السائل: إذا غصبت سيارة من شخص ثم وجدها في مكان بعيد فأراد الرجوع بها
فعلى من تكون أجرة الرجوع؟
الشيخ: على مالكها لأنها دخلت في ملكه الآن وله السلطة عليها لكن إن
أصابها ضرر فهذا قد يتوجه أن نقول أنه إذا أصبها ضرر بسبب الرجوع مع
هذا الطريق الوعر فإننا نُضَمِّنُ الغاصب وقد نقول إنه لما ارتفعت يد
الغاصب ارتفع حكمه.
فصل
القارئ: وإن غصب أثماناً فاتجر بها فالربح
لصحابها لأنه نماء ماله وإن اشترى في ذمته ثم نقدها فيه فكذلك في إحدى
الروايتين والأخرى هو للغاصب لأن الثمن ثبت في ذمته فكان الشراء له
والمبيع ربحه له لأنه بذل ما وجب عليه وقياس المذهب أنه إذا اشترى
بعينه كان الشراء باطلا والسلعة للبائع.
الشيخ: إذا اشترى بعين المال المغصوب فقاعدة المذهب التي قال عنها
المؤلف إنه القياس أن البيع باطل لماذا؟ لأنه وقع العقد على مالٍ يملك،
مثاله رجل غصب إناءً ثم باعه على شخص فالمذهب أن البيع باطل وغير صحيح
لأنه ليس مالكاً ولا مأذوناً له فيه لكن لو فرض أنه باعه ثم أخذ دراهم
واتجر بها وربح فعلى المذهب كل هذا الربح باطل لكن ما مشى عليه المؤلف
وقَدَّمَهُ هو الصحيح أن الربح يكون للمالك والغاصب ليس له شيء دليل
ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس لعرقٍ ظالم حق) وهذا ظالم فليس
له حق في الربح فإذا قال الغاصب إنه تعب وسافر في أيام الحر وأيام
الشتاء فيريد أجرة على ذلك فماذا نقول له؟ نقول لا أجرة لك لأنك معتدي
ظالم والظالم لا يفلح و (ليس لعرق ظالم حق)، ثم قال المؤلف (وإن اشترى
في ذمته ثم نقدها فيه فكذلك في إحدى الروايتين) أي أن الربح يكون
للمالك مثل أن يشتري سيارة بعشرة آلاف في ذمته وعنده عشرة آلاف مغصوبة
فيدفع العشرة للبائع فإذا ربحت السيارة فإن الربح يكون على هذه الرواية
لمالك السيارة والقول الثاني أن الربح يكون للغاصب لأنه اشترى السيارة
في ذمته ولم يعين الدراهم ونَقَدَهَا من الدراهم فيكون الربح للغاصب
(لأنه بذل ما وجب عليه) وهذا القول في النفس منه شيء لأنه لولا هذه
الدراهم المغصوبة عنده ما اشترى فالشراء مبني على هذه الدراهم لكن
القياس مع هذا القول، ثم قال المؤلف (وقياس المذهب أنه إذا اشترى بعينه
كان الشراء باطلاً والسلعة للبائع) وذلك لأن بيع ما لا يملك غير صحيح
فيبطل البيع وفي المسألة قول آخر أن القياس أن يبطل
البيع إلا إذا شق الرجوع مثل أن تكون هذه
السلعة بيعت عدة مرات فيشق الرجوع فحينئذ نقول يبقى البيع كما هو
والربح للمالك لا للغاصب، وعليه فنقول صورة المسألة الأولى أنه إذا غصب
نقوداً واتجر بها ورَبِحَتْ فإن وقع العقد عليها فالمذهب أن البيع باطل
ويجب أن ترد ولو بعد عشرة عقود والقول الثاني أن البيع صحيح للضرورة
والربح للمالك فهذه مسألة والمسألة الثانية أنه إذا اشترى بذمته ونقد
من الدراهم المغصوبة فَلِمَنْ يكون الربح؟ الجواب فيه روايتان الرواية
الأولى أنه للمالك والرواية الثانية أنه للغاصب ووجه كونه للغاصب أن
العقد لم يقع على عين المغصوب وإنما وقع العقد في ذمة الغاصب وكونه سدد
الثمن من المغصوب فهذه جناية بلا شك لكن البيع صحيح وهذا أقرب للقياس
أن نقول إن البيع صحيح وهو آثم في كونه نَقَدَهَا من هذه الدراهم ولكن
إذا حصل ربح فليس هو مبني على هذه الدراهم.
فصل
القارئ: وإن غصب عيناً فاستحالت كبيض صار فرخا وحب صار زرعا وزرع صار
حباً ونوى صار شجراً وجب رده لأنه عين ماله فإن نقصت قيمته ضمن أرش
نقصه لحدوثه في يده وإن زاد فالزيادة لمالكه ولا شيء للغاصب بعمله فيه
لأنه غير مأذون فيه وإن غصب عصيراً فتخمر ضمن العصير بمثله لأنه تلف في
يده فإن عاد خلاً رده وما نقص من قيمة العصير لأنه عين العصير أشبه
النوى يصير شجرا.
الشيخ: صورة المسألة إنسان غصب نوى والنوى هو بذر النخل فبذره في الأرض
فصار نخلاً فيكون هذا النخل لمالك النوى فإذا كان قد غصب عشرين نواة
فإنه يحصل له عشرين نخلة وهذا التعب من الغاصب بالسقي والملاحظة
والمراعاة كله يضيع هدراً لحديث (ليس لعرق ظالم حق) لكن هذه المسألة
فيها نظر لأنه قد يقال إن هذا الرجل لا شك أنه ظالم فإما أن يضمن النوى
بمثله وإما أن يقال هو شريك مع الغاصب ويكون كأنه ساقاه.
فصل
القارئ: فإن عمل فيه عملاً كثوب قصره أو
فصله وخاطه أو قطن غزله أو غزل نسجه أو خشب نجره أو ذهب صاغه أو ضربه
أو حديد جعله إبراً فعليه رده لأنه عين ماله ولا شيء للغاصب لأنه عمل
في ملك غيره بغير إذنه فلم يستحق شيئا كما لو أغلا الزيت وإن نقص بذلك
فعليه ضمان نقصه لأنه حدث بفعله وعنه أنه إن زاد يكون شريكاً للمالك
بالزيادة لأن منافعه أجريت مجرى الأعيان أشبه ما لو صبغ الثوب والأول
أصح.
الشيخ: صورة المسألة إنسان غصب قطعة من الذهب فصاغها حلياً ولم تنقص
وزناً بل زادت قيمتها فيجب عليه أن يردها وأما أجرة الصنعة فهل تدفع
للغاصب أو نصفها أو ما أشبه ذلك؟ الجواب: لا، لعموم الحديث (ليس لعرق
ظالم حق) وهناك قول آخر وهو أن الزائد يكون بين المالك والغاصب مثل أن
يقال كم يساوي هذا الحلي ذهباً غير مصوغ فيقال يساوي عشرة آلاف وكم
يساوي ذهباً مصوغاً يقال اثنا عشر ألفاً فيكون للغاصب ألف ريال لكن
الصواب أنه لا شيء له لأنه (ليس لعرق ظالم حق) لكن لو فرض أن هذا وقع
جهلاً مثل أن يأخذ قطعة من الذهب يظنها له ثم يصوغها وتزداد القيمة ثم
يتبين أنها لغيره فهنا القول بأن الزيادة بين هذا الذي ضربه حلياً
جهلاً منه وبين المالك قول قوي.
فصل
القارئ: فإن غصب شيئاً فخلطه بما يتميز منه كحنطة بشعير أو زبيب أحمر
بأسود فعليه تمييزه ورده لأنه أمكن رده فوجب كما لو غصب عيناً فبعدها.
الشيخ: التمييز صعب جداً وصورة المسألة
إنسان غصب مائة صاع بر وخلطه بمائة صاع شعير خلطاً تاماً حبة وحبة
والشعير للغاصب والبر للمغصوب منه فطالب المغصوب منه بحقه وقال أنا
أريد حقي، فإنه يلزم الغاصب أن ينقيه فإن كان حب الشعير كبيراً وحب
البر صغيراً فالتنقية سهلة وذلك بمنخل يكون له عيون ينزل منها حب البر
ويبقى الشعير ولكن إذا كانا سواءً بسواء فماذا نقول لأنها مائة صاع
ومائة صاع فقد يبقى خمسة أيام أو ستة أيام ليل بنهار ينقيه فهل نلزمه
بذلك أو لا نلزمه؟ الجواب نلزمه بذلك فلو قال الغاصب لصاحب الحق اضربه
عليَّ بما شئت من القيمة فإذا كان بعشرة اجعلها عليَّ عشرين أو قال إذا
كان مائة صاع أعطيك بدله مائتين على أن تفكني من هذا الأمر لكن المغصوب
منه رفض ذلك فهنا قد يقول قائل إذا كان قصد المالك المضارة فإنه يُمنع
من ذلك لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لا ضرر ولا ضرار) أما
إذا لم يكن قصده المضارة بحيث يكون هذا البر الذي خلط بالشعير لا يوجد
له نظير في البلد وقد يوجد بر في البلد لكن البر المغصوب ليس كالذي في
البلد فهنا نقول إن المالك له غرض صحيح في إلزامه بالتنقية فنلزمه
بالتنقية وكذلك لو رأى القاضي إلزام الغاصب بالتنقية تأديباً له فهل
هذا وجيه أو لا؟ نقول هذا وجيه، وعلى هذا فيتجه قول المؤلف رحمه الله
في حالين الحالة الأولى: إذا لم يوجد نوع مثل النوع المخلوط يعني أن
الجنس موجود فالبر موجود في البلد لكن النوع الذي غصبه من صاحبه لا
يوجد نظيره في البلد غير، والحالة الثانية: إذا قصد به التعزير أي
تعزير الغاصب، وأما إذا لم يكن هناك حاجة ولا مصلحة وإنما يريد المالك
الإضرار بالغاصب فهنا نقول لا يملك هذا لقول النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم (لا ضرر ولا ضرار).
القارئ: وإن خلطه بمثله مما لا يتميز كزيت
بزيت لزمه مثل كيله منه لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه فلم ينتقل إلى
البدل في الجميع كما لو غصب شيئاً فتلف بعضه وهذا ظاهر كلام أحمد رضي
الله عنه لأنه نص على أنه شريك إذا خلطه بغير جنسه فنبه على الشركة إذا
كان مثله وقال القاضي قياس المذهب أنه يلزمه مثله إن شاء الغاصب منه أو
من غيره لأنه تعذر رد عينه أشبه ما لو أتلفه.
الشيخ: الصواب الأول وهو ظاهر كلام أحمد لأنه أمكنه أن يرد ماله بعينه
مختلطاً بالمال الآخر فهذا خلط زيتاً بزيت ولا يمكن التمييز بينهما
لأنهما اندمجا وصارا شيئاً واحداً فيلزم الغاصب أن يرد مثله فإذا كان
صاعاً من الزيت وصاعاً من الزيت الآخر يلزمه أن يرد صاعاً على الوجه
الثاني الذي قاله القاضي وعلى نص الإمام أحمد يلزمه صاع من نفس المخلوط
وهذا هو الصحيح لأن مال المالك موجود في هذا الإناء لكنه لا يمكن
تمييزه فيعطى نصفه مشاعاً.
القارئ: وإن خلطه بأجود منه لزمه مثله من حيث شاء الغاصب فإن دفعه إليه
منه لزمه أخذه لأنه أوصل إليه خيراً من حقه من جنسه وإن خلطه بدونه
لزمه مثله فإن اتفقا على أخذ المثل منه جاز وإن أباه المالك لم يجبر
لأنه دون حقه وإن طلب ذلك فأباه الغاصب ففيه وجهان أحدهما لا يجبر لأن
الحق انتقل إلى ذمته فكانت الخيرة إليه في التعيين والثاني يلزمه لأنه
قدر على دفع بعض ماله إليه من غير ضرر فلزمه كما لو كان مثله.
الشيخ: الوجه الثاني هو الصحيح أنه يلزمه منه ولو كان أنقص إذا رضي
المالك بالناقص، لكن في الغالب أن المالك لا يرضى بالناقص وصورة
المسألة خَلَطَ زيتاً رديئاً بزيت جيد والرديء هو الزيت المغصوب فقال
المالك أنا أريد زيتي من هذا الإناء الذي وقع فيه الخلط فنقول يجبر
الغاصب على أنه يسلم من هذا لأن المالك رضي بالناقص.
القارئ: وإن خلطه بغير جنسه كزيت بشيرج
لزمه مثله من غيره وأيهما طلب الدفع منه فأبى الآخر لم يجبر وقد قال
أحمد في رجل له رطل زيت اختلط برطل شيرج لآخر يباع الدهن كله ويعطى كل
واحد منهما قدر حصته فيحتمل أن يختص هذا بما لم يخلطه أحدهما ويحتمل أن
يعم سائر الصور لأنه أمكن أن يصل إلى كل واحد بدل عين ماله فأشبه ما لو
غصب ثوباً فصبغه فإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته مفرداً ضمن الغاصب
نقصه لأنه بفعله وإن خلطه بما لا قيمة له كزيت بماء وأمكن تخليصه وجب
تخليصه ورده مع أرش نقصه فإن لم يمكن تخليصه أو كان ذلك يفسده وجب مثله
لأنه أتلفه ولو أعطاه بدل الجيد أكثر منه رديئاً أو أقل منه وأجود صفة
لم يجز لأنه ربا إلا أن يكون اختلاطه بغير جنسه فيجوز لأن الربا لا
يجري في جنسين.
فصل
القارئ: فإن غصب ثوباً فصبغه فلم تزد قيمة
الثوب والصبغ ولم تنقص فهما شريكان يباع الثوب ويقسم ثمنه بينهما لأن
الصبغ عين مال له قيمة فلم يسقط حقه فيها باتصالها بمال غيره وإن زادت
قيمتهما فالزيادة بينهما لأنها نماء مالهما وإن نقصت القيمة ضمنها
الغاصب لأن النقص حصل بسببه وإن زادت قيمة أحدهما لزيادة قيمته في
السوق فالزيادة لمالك ذلك لأنها نماء ماله وإن بقيت للصبغ قيمة فأراد
الغاصب إخراجه وضمان النقص فله ذلك لأنه عين ماله أشبه ما لو غرس في
أرض غيره ويحتمل أن لا يملك ذلك لأنه يضر بملك المغصوب منه لنفع نفسه
فمنع منه بخلاف الأرض فإنه يمكن إزالة الضرر بتسوية الحفر ولأن قلع
الغرس معتاد بخلاف قلع الصبغ وإن أراد المالك قلعه ففيه وجهان أحدهما
يملكه ولا شيء عليه كما يملك قلع الشجر من أرضه والآخر لا يملكه لأن
الصبغ يهلك به أشبه قلع الزرع وإن بذل المالك قيمة الصبغ ليملكه لم
يجبر الغاصب عليه لأنه بيع ماله ويحتمل أن يجبر كما يملك أخذ زرع
الغاصب بقيمته وكالشفيع يأخذ غرس المشتري وإن وهبه الغاصب لمالكه ففيه
وجهان أحدهما يلزمه قبوله لأنه صار صفة للعين فأشبه قصارة الثوب والآخر
لا يلزمه لأن الصبغ عين يمكن إفرادها أشبه الغراس.
الشيخ: في قوله (وإن وهبه الغاصب ... ) نقول الوجه الآخر بعيد فالصبغ
كيف يقال إنه عين يمكن فصلها عن المصبوغ!! بل نقول إذا وهب الغاصب
الصبغ لمالك الثوب لزمه قبوله، لكن لو قال المالك أنا لا أريد هذا
اللون من الصبغ بل أنا أريد لوناً آخر فلي غرض في رده فهنا نقول إنَّ
رده قد يكون متعذراً لأنه يحتاج إلى غسل شديد جداً والغسل الشديد يحتاج
إلى مؤونة كثيرة وربما يتضرر الثوب، ففي مثل هذه الحال يجب على الحاكم
أن يتدخل ويصلح بينهما وقوله (لأن الصبغ عين يمكن إفرادها أشبه الغراس)
فيه نظر بلا شك فهل الصبغ عين يمكن إفرادها؟ الجواب لا يمكن إلا إذا
كان الصبغ له سمك ويمكن قلعه قلعاً.
القارئ: فإن أراد المالك بيع الثوب فله ذلك
لأنه ملكه فلم يمنع بيعه وإن طلب الغاصب بيعه فأباه المالك لم يجبر لأن
الغاصب متعد فلم يستحق بتعديه إزالة ملك صاحب الثوب عنه كما لو طلب
الغارس في أرض غيره بيعها ويحتمل أن يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه وإن
غصب ثوباً وصبغاً من رجل فصبغه به فعليه رده ورد أرش نقصه إن نقص لأنه
بفعله والزيادة للمالك لأنه عين ماله ليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل وإن
صبغه بصبغ غصبه من غيره فهما شريكان في الأصل والزيادة وإن نقص فالنقص
من الصبغ لأنه تبدد ويرجع صاحبه على الغاصب لأنه بدده وإن غصب عسلاً
ونشاء فعمله حلواء فحكمه كحكم غصب الثوب وصبغه سواء.
السائل: على القول بأن الصبغ يكون للغاصب إذا غصب ثوب غيره وصبغه بصبغه
ألا يقال أن هذا يفتح الباب للغاصب فيقول ما دام أن الصبغ سيعود لي
فإني أغصب الثوب وأصبغه وعلى كل حال فصبغي مردود لي؟
الشيخ: في هذه الحال ينظر إلى قصد الغاصب فإذا علمنا أن الغاصب يريد
إفساده على مالكه حتى يلجئه إلى أن يُقوَّم فللحاكم أن يمنع ذلك.
السائل: لكن الغاصب معتدي بكل حال فلماذا يجعل له حق في الصبغ؟
الشيخ: هذا الرجل معتد على كل حال لكن عين ماله موجودة.
السائل: لماذا لا يعامل هذا الغاصب بنقيض قصده؟
الشيخ: لا يعامل بذلك، إلا إذا علمنا أنه متعدي بمعنى أن نعلم أن هذا
الرجل أراد أن يفسد الثوب على صاحبه.
السائل: لماذا جعلنا للغاصب حقاً مع أنه معتدي؟
الشيخ: لأن لكل واحد منهما مال فصاحب الثوب المغصوب منه له الثوب
والغاصب له الصبغ والآن الصبغ والثوب موجودان.
السائل: أليس الغاصب معتدي والمغصوب معتدى عليه؟
الشيخ: تعدي الغاصب على المغصوب يدخل في الحق العام فإذا رأى ولي الأمر
أن يؤدبه على هذا أدبه.
السائل: إذا غُصِبَ من شخص مال، ولكي يصل إلى الغاصب وضع جعلاً فإذا
وجد الغاصب وما غصبه فعلى من يكون الجعل هل هو على الغاصب أو صاحب
المال المغصوب؟
الشيخ: هذا سؤال وجيه مثلاً لنفرض أنه غصبت
السيارة وقال من يدلني على غاصب السيارة فله ألف ريال فدله شخص عليه
فهنا الدال هل يُطالِب بالجعل المالك أو الغاصب؟ الجواب يُطالِب المالك
وهل يَرْجِع المالك على الغاصب لأنه هو الذي تسبب في غرمه؟ فيه احتمال،
فيحتمل أنه لا يرجع لأن هذا المالك إنما غَرِمَ لمصلحته، ويحتمل أنه
يرجع لأنه غرم بسبب غصب هذا الرجل وهذا أقرب لا سيما إذا كان في هذا
ردع للغاصبين، أن يقال كل شيء تسبب به الغاصب ولو في هذه الحال فإنه
يكون على الغاصب.
السائل: إذا رأى المغصوب منه الغاصب فأراد أن يمسك به لكنه فر منه فركب
المغصوب منه فرساً لغيره لكي يلحق بهذا الغاصب وفي الطريق مات الفرس
فهل إذا ضمن الفرس لصاحبه يرجع بعد ذلك على الغاصب بما ضمنه؟
الشيخ: في هذه الحال لا يَرْجِع لأن هذا الموت أي موت الفرس ليس من أجل
الحصول على هذا الغاصب بخلاف الأجرة.
فصل
القارئ: وإن غصب أرضاً فغرسها أو بنى فيها لزمه قلعه لما روى سعيد بن
زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس لعرق ظالم حق) قال الترمذي
هذا حديث حسن ولأنه شغل ملك غيره بملك لا حرمة له في نفسه فلزمه تفريغه
كما لو ترك فيها قماشا وعليه تسوية الحفر ورد الأرض إلي ما كانت عليه
وضمان نقصها إن نقصت لأنه حصل بفعله.
الشيخ: إذا غصب أرضاً فغرس فيها لزمه أمور:
أولاً: قلع الغرس.
ثانياً: تسوية الأرض.
ثالثاً: ضمان نقصها إن نقصت لأنها قد تنقص الأرض بسبب أن عروق النخل
انتشر فيها فأفسدها.
رابعاً: الأجرة أي أجرة الأرض مدة استيلائه عليها.
والمؤلف رحمه الله قال (لزمه القلع) و (تسوية الحفر) و (رد الأرض إلى
ما كانت عليه) وهي التسوية و (ضمان نقصها) ولم يذكر رحمه الله الأجرة
ولكن ذكرها غيره أنه يلزمه أجرة الأرض مدة استيلاء الغاصب عليها.
القارئ: وإن بذل له المالك قيمة غرسه وبنائه ليملكه فأبى إلا القلع فله
ذلك لأنها معاوضة فلم يجبر عليها.
الشيخ: هذه المسألة على إطلاقها فيها نظر
وذلك أنه إذا غصب أرضاً وغرس أو بنى فيها وقال الغاصب أنا أريد أن أقلع
غرسي وبنائي وقال صاحب الأرض أنا أعطيك قيمتها إما أن تحصي ما اشتريت
به وما أنفقت عليها وإما تُقَوَّم الأرض خالية من الغراس والبناء ثم
تُقَوَّم مغروسة وما بين القيمتين نسلمه لك، لكن الغاصب أبى ولم يوافق
فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يجبر لأن الغراس والبناء ملك
الغاصب فلا يجبر على أن يأخذ عوضاً عنه ولكن ينبغي أن يقال إن كان
للغاصب غرض صحيح فنعم لا نجبره وإن لم يكن له غرض صحيح بحيث يقلع
الغراس ويرميه في البر أو يهدم البناء المسلح والمسلح إذا هُدِمَ ضاعت
ماليته حتى الحديد الذي فيه يكون غير صالح للاستعمال إلا بتعب فهنا
نقول يجبر الغاصب على أخذ العوض ويبقى الغراس والبناء لصاحب الأرض ووجه
ذلك:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (نهى عن إضاعة المال).
ثانياً: أنه صلى الله عليه وسلم قال (لا ضرر ولا ضرار).
ثالثاً: يمكن أن يُحتَجَ لذلك أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبه على جداره) وبأنه (أجبر الجار على
إجراء الماء إلى أرض جاره الأخرى) فالصواب التفصيل.
القارئ: وإن وهبه الغاصب الغراس أو البناء لم يجبر على قبوله إن كان له
غرض في القلع لأنه يفوت غرضه وإن لم يكن له فيه غرض احتمل أن يجبر لأنه
يتخلص به كل واحد منهما من صحابه بغير ضرر واحتمل أن لا يجبر لأن ذلك
عين يمكن إفرادها فلم يجبر على قبولها كما لو لم يكن في أرضه.
الشيخ: هذه المسألة عكس المسألة الأولى
فهنا الغاصب وهب صاحب الأرض الغراس والبناء وقال بدلاً من القلع والهدم
فلك النخل الذي غرسته في أرضك ولك العمارة والبناء مجاناً فهنا يقول
المؤلف رحمه الله أنه إن كان لصحاب الأرض غرضٌ في رد الهبة فله ذلك فلو
قال أنا أريد أن أغرسها بدل النخل شجر عنب فعليك أن تقلع النخل فهذا
غرض صحيح أو قال العمارة المبنية على الأرض أنا لا أريدها فأنا أريد أن
أعمر عليها فيلا، فهذا غرض صحيح، ففي هذه الحال له أن يرد هبة الغاصب
ويلزم الغاصب بالقلع وأما إذا لم يكن هناك غرض صحيح وإنما أراد مضارة
الغاصب مع أنه إذا هدمه الغاصب ربما يبنيهِ على الشكل الأول أو إذا قلع
الغرس فربما يغرس نفس المقلوع ولكن قصده المضارة فهنا نمنعه من ذلك لما
فيه من إضاعة المال ولما في ذلك من الإضرار وقد نفى النبي صلى الله
عليه وسلم الضرر فقال (لا ضرر ولا ضرار) و (نهى عن إضاعة المال).
القارئ: وإن غرسها من ملك صاحب الأرض فطالبه بالقلع وله فيه غرض لزمه
لأن فوت عليه غرضاً بالغراس فلزمه رده كما لو ترك فيها حجرا وإن لم يكن
فيه غرض لم يجبر عليه لأنه سفه ويحتمل أن يجبر لأن المالك محكم في ملكه
وإن أراد الغاصب قلعه فللمالك منعه لأنه ملكه وليس للغاصب فيه إلا أثر
الفعل.
الشيخ: هذه المسألة غير المسألة الأولى
فهنا غصب أرضاً وقلع من جانب منها غِرَاساً وغرسه في الجانب الآخر من
الأرض فالأرض والغراس ملك لمالك الأرض فيقول المؤلف رحمه الله إذا
طالبه بالقلع وله فيه غرض لزمه يعني لو قال له اقلع النخل فقال له
الغاصب هذا نخلك وهذه الأرض أرضك فقال صاحب الأرض اقلعها لأني أريد أن
تكون هذه الأرض أرضاً بيضاء صالحة للزرع أو قال أريد أن تقلع الغرس
لأني أريد أن أبني عليها، فهذا غرض صحيح فله أن يطالب الغاصب بالقلع
وفي هذه الحال يضمن الغاصب النقص الذي حصل بسبب الغراس أو بسبب البناء
الذي بُنِي على الأرض، وإن لم يكن له فيه غرض صحيح يقول المؤلف (لم
يجبر عليه لأنه سفه ويحتمل أن يجبر) أي الغاصب لأن إجبار المالك على
قلعه سفه فإن بقائه خير للمالك وخير للغاصب، ثم قال المؤلف (ويحتمل أن
يجبر لأن المالك محكم في ملكه) والظاهر أن القول الأول أصح إذا لم يكن
له فيه غرض، وهل للغاصب أن يقلعه؟ الجواب: لا، ليس له ذلك لأن الأرض
ملك لصاحب الغراس والغراس ملك لصاحب الأرض وليس للغاصب إلا أثر الفعل
فقط فلو قال الغاصب أنا أريد أن أقلع ما غرست أو أهدم ما بنيت قلنا:
لا، لأن الغراس والأرض مالكهما واحد.
فصل
القارئ: فإن حفر فيها بئراً فطالبه المالك بطمها لزمه لأنه نقل ملكه
وهو التراب من موضعه فلزمه رده وإن طلب الغاصب طمها لدفع ضرر مثل أن
جعل ترابها في غير أرض المالك فله طمها لأنه لا يجبر على إبقاء ما
يتضرر به كإبقاء غرسه وإن جعل التراب في أرض المالك ولم يبرئه من ضمان
ما يتلف بها فله طمها لأنه يدفع ضرر الضمان عنه وإن أبرأه من ضمان ما
يتلف بها ففيه وجهان أحدهما يبرأ لأنه لما سقط الضمان بالإذن في حفرها
سقط بالإبراء منها فعلى هذا لا يملك طمها لأنه لا غرض فيه والثاني لا
يبرأ بالإبراء لأنه إنما يكون من واجب ولم يجب بعد شيء فعلى هذا يملك
طمها لغرضه فيه.
فصل
القارئ: وإن زرعها وأخذ زرعه فعليه أجرة
الأرض وما نقصها والزرع له لأنه عين بذره نما وإن أدركها ربها والزرع
قائم فليس له إجبار الغاصب على القلع ويخير بين تركه إلى الحصاد
بالأجرة وبين أخذه ويدفع إلى الغاصب نفقته لما روى رافع بن خديج أنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم
فليس له من الزرع شيء وله نفقته) قال الترمذي هذا حديث حسن ولأنه أمكن
الجمع بين الحقين بغير إتلاف فلم يجز الإتلاف كما لو غصب لوحاً فرقع به
سفينة ملججة في البحر وفارق الغراس لأنه لا غاية له ينتظر إليها وفيما
يرده من النفقة روايتان إحداهما القيمة لأنها بدل عنه فتقدرت به كقيم
المتلفات والثانية ما أنفق من البذر ومؤونة الزرع في الحرث وغيره لظاهر
الحديث ولأن قيمة الزرع زادت من أرض المالك فلم يكن عليه عوضها.
الشيخ: إذا زرع الغاصب هذه الأرض وحصد
الزرع وانتهى فعليه شيئان، أولاً: أجرة الأرض والثاني نقص الأرض
بالحرث، لكن أجرة الأرض هل نقدرها بأجر معلوم فنقول مثلاً مائة ريال أو
مائتا ريال أو نقول كم تساوي هذه الأرض لو زرع عليها؟ الجواب كلاهما
محتمل لأن الأرض البيضاء أحياناً يقع العقد عليها مُزَارَعَةً بأن يكون
لصحابها ثلث الزرع وللعامل ثلثاه وأحياناً تكون بأجرة فيقول استأجرت
منك هذه الأرض لمدة عام للزرع، فالمسألة محتملة، لكن بماذا نأخذ؟
الجواب ينظر إذا كان عادة الناس في الأراضي الزراعية أنهم يعطونها بسهم
فإن الغاصب يُضَمَّنُ سهم العادة فيقال مثلاً هذه الأرض تزرع بالثلث
فيحصي الغاصب قدر زرعه كم كان ويعطي رب الأرض ثلث الزرع، وإن كان أكثر
الناس يؤجرون أراضيهم فإننا نقول عليه الأجرة وهذا إذا كان قد حصد
الزرع، وأما إذا لم يكن قد حصد الزرع فإنه يقال لمالك الأرض أنت
بالخيار إن شئت أبقه إلى أن يحصد بأجرة أو سهم وإن شئت فخذه بنفقته
فيكون الزرع لصحاب الأرض ويقال كم أنفق الغاصب على الزرع ثم يأخذه صاحب
الأرض بنفقته، وقيل يأخذه بقيمته، لكن الأول هو ظاهر الحديث الذي ساقه
المؤلف وهو حديث رافع بن خديج (فليس له من الزرع شيء وعليه نفقته).
القارئ: وإن أدرك رب الأرض شجر الغاصب مثمراً فقال القاضي للمالك أخذه
وعليه ما أنفقه الغاصب من مؤونة الثمرة كالزرع لأنه في معناه وظاهر
كلام الخرقي أنه للغاصب لأنه ثمر شجره فكان له كولد أمته.
الشيخ: لم يظهر لي ترجيح بين القولين.
فصل
القارئ: وإن جصص الدار وزوقها فالحكم فيها كالحكم في البناء سواء وإن
وهب ذلك لمالكها ففي إجباره على قبول الهبة وجهان كالصبغ في الثوب.
الشيخ: الصواب أننا نقول إن كان له غرض في مطالبته بإزالته فله مطالبته
بإزالته كما لو قال أنا أريد أن يكون الجص غير هذا اللون، وإن لم يكن
له غرض وجب عليه قبوله.
فصل
القارئ: وإن غصب عيناً فبعدت بفعله أو
بغيره فعليه ردها وإن غرم أضعاف قيمتها لأنه بتعديه وإن غصب خشبة فبنى
عليها فبليت لم يجب ردها أو وجبت قيمتها لأنها هلكت فسقط ردها وإن بقت
على جهتها لزم ردها وإن انتقض البناء لأنه مغصوب يمكن رده فوجب كما لو
بعدها.
الشيخ: هذا أيضاً يقال فيه ما سبق أنه إذا كان لصاحب الخشبة غرض صحيح
فله أن يطالب بها ولو تهدم بناء الغاصب وإلا فلا، فلو بنى على هذه
الخشبة والغاصب غصب الخشبة فقط والأرض له والبناء له لكنه غصب الخشبة
وبنى عليها وقال المالك للخشبة: أنا أريد أن تنقض بناءك وتعطيني
الخشبة، ومعلوم أنه سيترتب على غاصب الخشبة ضرر عظيم، فهنا نقول يجبر
مالك الخشبة على أخذ قيمتها وإن كانت مثلية يجبر على أخذ مثلها.
القارئ: وإن غصب خيطاً فخاط به ثوباً فهو كالخشبة في البناء وإن خاط به
جرحه أو جرح حيوان يخاف التلف بقلعه أو ضرراً كثيرا لم يقلع لأن حرمة
الحيوان آكد من حرمة مال الغير ولهذا جاز أخذ مال الغير بغير إذنه لحفظ
الحيوان دون غيره إلا أن يكون الحيوان مباح القتل كالمرتد والخنزير
فيجب رده لأنه لا حرمة للحيوان وإن كان الحيوان مأكولاً للغاصب فيجب
رده لأنه يمكن ذبح الحيوان والانتفاع بلحمه ويحتمل أن لا يقلع لنهي
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة وإن كان الحيوان
لغير الغاصب لم يقلع بحال لأن فيه ضرراً بالحيوان وبصحابه وإن مات
الحيوان وجب رد الخيط إلا أن يكون آدمياً لأن حرمته باقية بعد موته
والحكم فيما إذا بلع الحيوان جوهرة كالحكم في الخيط سواء.
الشيخ: قول المؤلف (لأن حرمته _ أي حرمة
الآدمي _ باقية بعد موته) دليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كسر
عظم الميت ككسره حياً) وبه نعرف أن أولئك الذين يعتدون على الأموات
ويأخذون أعضائهم بعد موتهم قد جنوا على الأموات حتى إن فقهاءنا رحمهم
الله يقولون لو أوصى الميت بأخذ عضو منه بعد موته لم تنفذ الوصية لأن
البدن أمانة حياً وميتاً، ولمَّا ظهرت الفتوى بالجواز صار بها ضررٌ
كثير فصاروا في البلاد غير السعودية يقتلون الأطفال ليأخذوا أعضائهم
إما الكلى وإما الكبد وإما القلب وصار في هذا شر كثير، والمتورع يحكم
بموت المريض موتاً دماغياً من أجل أن يشق بطنه ويخرج الذي يريد منه.
فصل
القارئ: وإن غصب لوحاً فرقع به سفينة وخاف الغرق بنزعه لم ينزع لأنه
يمكنه رده بغير إتلاف مال بأن تخرج إلى الشط فلم يجز إتلافه سواء كان
فيها ماله أو مال غيره.
فصل
القارئ: وإن أدخل فصيلاً أو غيره إلى داره فلم يمكن إخراجه إلا بنقض
الباب نقض كما ينقض البناء لرد الخشبة وإن دخل الفصيل من غير تفريطه
فعلى صاحب الفصيل ما يصلح به الباب لأن نقضه لتخليص ماله من غير تفريط
من صاحب الباب وهكذا الحكم إن وقع الدينار في محبرة إنسان بتفريط أو
غيره.
الشيخ: هذه مسألة غريبة رجل غصب فصيلاً
والفصيل هو ولد الناقة الصغير ثم كبر هذا الفصيل وهو لما كان فصيلاً
دخل مع الباب لكنه لما كَبِرَ عجز عن الخروج من الباب فماذا نصنع؟ هل
نقول يكسر الباب حتى يخرج الفصيل أو نقول اذبح الفصيل واخرج به أعضاءً؟
الجواب الأول لأن الغاصب معتدي، وكذلك أيضاً إذا غصب ديناراً وألقاه في
المحبرة يعني الدواة وعجز عن إخراجه منها والمحبرة للغاصب الذي غصب
الدينار فكيف نصنع؟ الجواب تكسر المحبرة لأنه وضع الدينار باختياره
وهذا عدوان، وقد كانت المحابر فيما سبق توجد معنا في المدارس ولها مثل
المحقان فيصب فيها الحبر وإذا اضُطجِعت لا يخرج منها لأن أعلاها مطموم
وفيها ثقب في الوسط ليدخل منه القلم فهذه المحبرة لو اضُطجِعت لا ينتثر
منها الحبر لأنها مطمومة لا يمكن أن يخرج منها فلو سقط الدينار فيها
فإنه لا يخرج إلا بتكسيرها.
فصل
القارئ: وإن غصب عبداً فأبق أو دابة فشردت فللمغصوب منه المطالبة
بقيمته لأنه تعذر رده فوجب بدله كما لو تلف فإن أخذ البدل ملكه لأنه
بدل ماله كما يملك بدل التالف.
الشيخ: قوله رحمه الله أنه يرد القيمة فيه نظر، والصواب أنه يرد المثل
إذا أمكن لأن الواجب أن يضمن الشيء بمثله فإنه إلى العدل أقرب لأن
مساواة المثل لمثله أقرب من مساواة قيمته له ولهذا لما أرسلت إحدى
أمهات المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً بطعام غضبت الزوجة
التي هو في بيتها فضربت يد الخادم حتى سقط الطعام وتكسر الإناء فأخذ
النبي صلى الله عليه وسلم إناء التي هو في بيتها وطعامها وأعطاه الخادم
وقال (إناء بإناء وطعام بطعام) فالصواب أنه لا يضمنها بالقيمة وإنما
يضمنها بالمثل لأن ضمانها بالمثل أقرب إلى العدل من ضمانها بالقيمة.
القارئ: ولا يملك الغاصب المغصوب لأنه لا
يصح تملكيه بالبيع فلا يملكه بالتضمين كالتالف فإذا قدر عليه رده وأخذ
القيمة لأنها استحقت بالحيلولة وقد زالت فوجب ردها وزيادة القيمة
المتصلة للغاصب لأنها تتبع الأصل والمنفصلة للمغصوب منه لأنها لا تتبع
الأصل في الفسخ بالعيب وهذا فسخ فأما المغصوب فيرد بزيادته المتصلة
والمنفصلة لأن ملك صاحبه لم يزل عنه.
الشيخ: الزيادة المتصلة كالسِّمَن والمنفصلة كالولد واللبن والصوف وما
أشبه ذلك.
فصل
القارئ: وإن غصب أثماناً فطالبه مالكها بها في بلد آخر لزم ردها إليه
لأن الأثمان قيم الأموال فلا يضر اختلاف قيمتها وإن كان المغصوب من
المقومات لزم دفع قيمتها في بلد الغصب وإن كان من المثليات وقيمته في
البلدين واحدة أو هي أقل في البلد الذي لقيه فله مطالبته بمثله لأنه لا
ضرر على الغاصب فيه وإن كانت أكثر فليس له المثل لأننا لا نكلفه النقل
إلى غير البلد الذي غصبه فيه وله المطالبة قيمته في بلد الغصب وفي جميع
ذلك متى قدر على المغصوب أو المثل في بلد الغصب رده وأخذ القيمة كما لو
غصب عبداً فأبق.
الشيخ: الأثمان هي النقود فلو أنه غصب
أثماناً في مكة ولقيه صاحب الأثمان في المدينة وطالبه بالأثمان فإنه
يجب عليه ردها لأنه لا فرق بين قيمتها في المدينة وقيمتها في مكة وهذا
الذي ذكره الفقهاء رحمهم الله هو في الزمن السابق لمَّا كانت الخلافة
عامة لجميع المسلمين والنقد واحداً أما الآن فاختلف الأمر فمثلاً
الأثمان في السعودية غير الأثمان في سوريا وفي العراق وفي الأردن وما
أشبه ذلك فلكل حالٍ حكمها، وعليه إذا اختلفت القيمة وكانت قيمة الأثمان
في البلد التي طالبه فيها المالك أقل فهل يلزمه تسليمها أو لا؟ بمعنى
أن هذا الثمن قيمته مثلاً في مكة عشرة ريالات وفي المدينة تسعة ريالات
فطالبه الغاصب في المدينة فهل يلزمه التسليم أو لا؟ الجواب يلزمه لأنه
ليس هناك ضرر على الغاصب لنفرض أنه غصبه دولاراً في مكة وهو يساوي في
مكة خمسة ريالات وطالبه به في المدينة وهو يساوي أربعة ريالات ونصف
فإنه يلزم الغاصب أن يرده لأنه لا ضرر عليه في ذلك ولو كان بالعكس أي
أنه يساوي في مكة أربعة ريالات ونصف وطالبه به في المدينة وهو يساوي
خمسة ريالات فإنه لا يلزمه الرد لأن عليه ضرر في ذلك وهو لا يلزمه أن
يدفع المغصوب في غير بلاد الغصب.
فصل
القارئ: إذا تلف المغصوب وهو مما له مثل كالأثمان والحبوب والأدهان
فإنه يضمن بمثله لأنه يماثله من حيث الصورة والمشاهدة والمعنى والقيمة
مماثلة من طريق الظن والاجتهاد فكان المثل أولى كالنص مع القياس.
الشيخ: المثلي على المذهب ضيق جداً فيقولون
إن المثلي كل مكيل أو موزون ليس فيه صناعة مباحة يصح السلم فيه،
فخصَّوُه بالمكيل والموزون وبأنه أيضاً ليس فيه صناعة وعلى هذا إذا جعل
الحديد أواني خرج عن كونه مثلياً وأيضاً قالوا يصح السلم فيه بأن يكون
مما ينضبط بالصفة وهذا كما هو معلوم تضييق جداً جداً وعليه فمثلاً
الفناجين فناجين الشاي إذا كانت من طراز واحد وكسر إنسانٌ فنجان لآخر
فإنه على المذهب يضمنه بالقيمة لأن فيه صناعة فخرج عن كونه مثليَّا
والصواب أن المثلي ماله مثيلٌ أو مقارب سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو
حيواناً أو أواني أو غير ذلك لأن الاشتقاق يدل عليه فيقال هذا مثل هذا
وأيهما أقرب إلى المساواة صاع من بر ضُمِنَ بصاع من بر أو فنجان من نوع
معين ضُمِنَ بفنجان من نفس ذلك النوع، أيهما أقرب للمساواة؟ الجواب
الثاني بلا شك وسبحان الله كيف نقول إذا أتلف له صاع من البر
ضَمَّنَّاهُ صاعاً من البر وإذا أتلف له فنجاناً لا نُضَمِّنَهُ بنظيره
فالصواب أن المثلي هو كل ما له مماثل أو مقارب ويعفى عن الاختلاف
اليسير.
القارئ: فإن تغيرت صفته كرُطَبٍ صار تمراً أو سمسم صار شيرجا ضمنه
المالك بمثل أيهما أحب لأنه قد ثبت ملكه على كل واحد من المثلين فرجع
بما شاء منهما وإن وجب المثل وأعوز وجبت قيمته يوم عوزه لأنه يسقط بذلك
المثل وتجب القيمة فأشبه تلف المتقومات وقال القاضي تجب قيمته يوم قبض
البدل لأن التلف لم ينقل الوجوب إلى القيمة بدليل ما لو وجد المثل بعد
ذلك وجب رده.
الشيخ: قول القاضي قوي جداً وهو أنه يضمن
بقيمته يوم التلف وأما المذهب فيضمنه بقيمته وقت إعوازه مثال ذلك هذا
المثلي انقطع عن السوق وهذا يكون على القول الراجح في المصنوعات
فأحياناً يَرِدُ على الأسواق شيء معين من المصنوعات إما راديو وإما
ساعة وإما قلم وإما غيره ثم ينقطع عن السوق فإذا ضَمَّنَّا الغاصب
فإننا نُضَمِّنَهُ بقيمته وقت الانقطاع لأنه لما انقطع انتقل الضمان من
المثل إلى القيمة وهذا على قول المذهب وقال القاضي نُضَمِّنَهُ بقيمته
وقت القبض فمثلاً لو انقطع في شهر محرم ثم صارت الخصومة بين المالك
وبين الغاصب في شهر ربيع فعلى قول القاضي تعتبر قيمته في شهر ربيع وقد
تكون أضعاف أضعاف قيمته في شهر محرم وعلى المذهب تعتبر قيمته في شهر
محرم وكلا القولين له حجة فحجة المذهب أنه لما أعوز ثبتت القيمة وحجة
القاضي أنه مازال على ملك صاحبه مثلياً فلا ينقل إلى القيمة إلا عند
الطلب بدليل أنه لو أعوز في شهر محرم وانقطع ثم وجد في شهر ربيع الأول
مثلاً فهل نقول إنه أنقطع في شهر محرم فتجب القيمة أو نقول الآن يجب
المثل؟ الجواب الثاني فيكون لا فرق وعليه فكلام القاضي رحمه الله أصح
أنه يُضَمَّنُ بقيمة المثل المنقطع وقت القطع.
القارئ: وإن قدر على المثل بأكثر من قيمته لزمه شراؤه لأنه قدر على
أداء الوجوب فلزمه كما لو قدر على رد المغصوب بغرامة.
السائل: على المذهب في المثلي لو كان هذا المثلي المغصوب ذهباً فيه
صناعة محرمة كما لو كان ذهباً مصوغاً على شكل طائر فكيف يكون الحكم؟
الشيخ: الصناعة المحرمة يقدر الشيء المغصوب خالياً منها كأنه ذهب لا
صناعة فيه.
السائل: بماذا يلزمون الغاصب؟
الشيخ: يلزمونه بذهب ليس فيه صناعة.
فصل
القارئ: فإن كان مما لا مثل له وجبت قيمته
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق شِركا له في عبد فكان له
ما يبلغ ثمن العبد قوم وأعطي شركاؤه حصصهم) متفق عليه فأوجب القيمة
ولأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن لاختلاف الجنس الواحد في القيمة
فكانت القيمة أقرب إلى إبقاء حقه.
الشيخ: إذا أتلف الغاصب ما لا مثل له وجبت القيمة والاستدلال بالحديث
واضح وهو أن الإنسان إذا أعتق نصيبه من عبد وكان للمُعْتِقِ مال يبلغ
قيمة حصص الشركاء فإنه يَعْتُقُ عليه بالسِّراية ولا خيار له ويجب أن
يعطي الشركاء حصصهم يعني قيمة الحصص لأنه لا يمكن أن يضمن لشركائه
المثل حيث أنهم لهم جزء من عبد فالاستدلال بهذا واضح والمعنى يقتضي هذا
إيضاً فإذا كان لا مثل له فأقرب شيء تبرأ به الذمة أن يُضَمَّنَ الغاصب
القيمة ولكن هذا مع ملاحظة ما ذكرناه في السابق من أن المشهور من
المذهب هو تضييق المثلي والصواب أنه أوسع مما ذكروه في المذهب.
القارئ: فإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف نظرت فإن كان ذلك
لمعنى فيه وجبت قيمته أكثر ما كانت لأن معانيه مضمونة مع رد العين فكذا
مع تلفها وإن كان لاختلاف الأسعار فالواجب قيمته يوم تلف لأنها حينئذ
ثبتت في ذمته وما زاد على ذلك لا يضمن مع الرد فكذلك مع التلف كالزيادة
على القيمة.
الشيخ: هذا مبني على القول بأنه لا يُضْمَنُ ما نقص بالسعر وأما على
القول بأنه يُضْمَنُ ما نقص في السعر فينظر إلى أعلا القيم من وقت
التلف إلى وقت الضمان.
القارئ: وتجب القيمة من نقد البلد الذي تلف
فيه لأنه موضع الضمان فإن كان المضمون سبيكة أو نقرة أو مصوغاً ونقد
البلد من غير جنسه أو قيمته كوزنه وجبت لأن تضمينه بها لا يؤدي إلى
الربا فأشبه غير الأثمان وإن كان نقد البلد من جنسه وقيمته مخالفة
لوزنه قوم بغير جنسه كيلا يؤدي إلى الربا وإن كانت الصناعة محرمة فلا
عبرة بها لأنها لا قيمة لها شرعا وذكر القاضي أن ما زادت قيمته لصناعة
مباحة جاز أن يضمن بأكثر من وزنه لأن الزيادة في مقابلة الصنعة فلا
يؤدي إلى الربا.
الشيخ: هذا مبني على ما سبق في أنه هل تجوز الزيادة في مقابلة الصنعة
أو لا تجوز؟ والمشهور من المذهب أنها لا تجوز، مثال ذلك إنسان عنده حلي
قديم زنته مائة غرام وإنسان عنده حلي جديد وزنه مائة غرام فتبادلا فقال
صاحب الجديد أريد أن تضيف إلى ذهبك القديم مقدار الصنعة، فعلى المذهب
أن ذلك لا يجوز واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منع من
بيع الرديء بالجيد متفاضلاً، والقول الثاني الذي اختاره جماعة من أهل
العلم كابن القيم رحمه الله وأظن شيخه كذلك أنه تجوز الزيادة بقدر
القيمة في مقابلة الصنعة وقالوا إن الاستدلال بكون النبي صلى الله عليه
وسلم يمنع من الربوي بمثله متفاضلاً من أجل الرداءة والجودة قالوا
الفرق بأن الصنعة من فعل الآدمي فيعطى عوضاً عنها وأما الجودة والرداءة
فهي من فعل الله عز وجل، وهذا لا شك أنه فرق واضح ولكن الذي يجعل
الإنسان يتوقف في هذه المسألة أو يمنع منها هو أنه مَنْ الذي يقدر قيمة
الصنعة؟ فقد يطلب صاحب الذهب الجديد المصنوع بصنعة جديدة قد يطلب أكثر
من قيمة الصنعة فيربح وإلا فلا شك أن القول بأنه يجوز الزيادة في
مقابلة الصنعة إذا تساوى المَبِيعُ والمُشْتَرَى قول قوي.
السائل: لوقلنا للمعتق إنك لو أعتقت نصيبك في العبد فإنه يلزمك الضمان
لبقية الشركاء في هذا العبد، فربما يمتنع من العتق فما الحل؟
الشيخ: نقول إنه إذا كان قصده العتق ويريد
بذلك رضى الله وقد أغناه الله فإنه لن يتوقف، وإن كان معسراً فالمذهب
أنه يعتق من العبد ما عَتَقْ ويبقى الباقي رقيقاً والقول الثاني أنه
يستسعى العبد ويقال له اعمل وأوفي سادتك.
فصل
القارئ: وإذا كانت للمغصوب منفعة مباحة تستباح بالإجارة فأقام في يده
مدة لمثلها أجرة فعليه الأجرة وعنه أن منافع الغصب لا تضمن والمذهب
الأول لأنه يطلب بدلها بعقد المغابنة فتضمن بالغصب كالعين وسواء رد
العين أو بدلها لأن ما وجب مع ردها وجب مع بدلها كأرش النقص.
الشيخ: قول المذهب هو الصحيح أن الغاصب يُضَمَّنُ الأجرة فيما يُستأجر
أما ما لا يُستأجر عادةً فإنه لا أجرة عليه ونلاحظ من كلام المؤلف رحمه
الله أنه يقول تستباح به الإجارة احترازاً من المنافع التي لا تستباح
بالإجارة كالوطء والاستمتاع فيما لو غصب أمة وبقيت عنده شهراً أو شهرين
فإن مالكها لا يُضَمِّنَهُ ويقول أنت فوَّت عليَّ الاستمتاع بالأمة هذه
المدة فلي الأجرة فنقول ليس لك أجرة لأن هذه المنفعة لا تستباح
بالإجارة.
القارئ: فإن تلفت العين لم تلزمه أجرتها بعد التلف لأنه لم يبق لها
أجرة ولو غصب داراً فهدمها أو عرصة فبناها أو داراً فهدمها ثم بناها
وسكنها فعليه أجرة العرصة لأنه لما هدم البناء لم يبق لها أجرة لتلفها
ولما بنى العرصة كان البناء له فلم يضمن أجرة ملكه إلا أن يبنيها
بترابها أو آلة للمغصوب منه فيكون ملكه لأنها أعيان ماله وليس للغاصب
فيه إلا أثر الفعل فتكون أجرتها عليه وكل مالا تستباح منافعه بالإجارة
أو تندر إجارته كالغنم والشجر والطير فلا أجرة له ولو أطرق فحلاً أو
غصب كلباً لم تلزمه أجرة لذلك لأنه لا يجوز أخذ العوض عن منافعه بالعقد
فلا يجوز بغيره.
فصل
القارئ: وإن غصب ثوباً فلبسه وأبلاه فعليه
أجرته وأرش نقصه لأن كل واحد منهما يضمن منفرداً فيضمن مع غيره ويحتمل
أن يضمن أكثر الأمرين من الأجرة وأرش النقص لأن ما نقص حصل بالانتفاع
الذي أخذ المالك أجرته ولذلك لا يضمن المستأجر أرش هذا النقص.
الشيخ: الأصح أنه يضمن الأجرة والنقص لأن كلاً منهما حصل بفعله.
القارئ: وإن كان الثوب مما لا أجرة له كغير المخيط فعليه أرش نقصه حسب
وإن كان المغصوب عبداً فكسب ففي أجرة مدة كسبه وجهان كذلك وإن أبق
العبد فغرم قيمته ثم وجده فرده ففي أجرته من حين دفع قيمته إلى رده
وجهان أحدهما لا يلزمه لأن المغصوب منه ملك بدل العين فلا يستحق أجرتها
والثاني يلزمه لأن منافع ماله تلفت بسبب كان في يد الغاصب فلزمه ضمانها
كما لو لم يدفع القيمة وإن غصب أرضاً فزرعها فأخذ المالك زرعها لم تكن
على الغاصب أجرة لأن منافع ملكه عادت إليه إلا أن يأخذه بقيمته فتكون
له الأجرة إلى وقت أخذه لأن القيمة زادت بذلك للغاصب فكان نفعها عائداً
إليه.
السائل: إذا كان عند رجل مجموعة من السلع وأتى آخر وغصب منه بعضها، ثم
إن الرجل صاحب السلعة ذهب إلى بلاد أخرى وباع باقي السلع بثمن يساوي
أضعاف ثمنها في بلده الأصلي وبعد مدة وجد ذلك الغاصب في بلده الأصلي
فهل يضمنه قيمة السلعة بسعرها في البلد الأصلي أم في البلاد التي باع
فيها باقي السلع؟
الشيخ: أما على قاعدة أن الغصب لا يُضَمَّنُ فيه الغاصب ما نقص بالسعر
فلا، ولكن على القول الراجح أنه يُضَمِّنُهُ لا سيما في المسألة التي
ذكرها السائل لأنه حال بينه وبين هذا الربح فيضمن.
السائل: الغاصب إذا أجبر على دفع الغرامة فهل يدفع بثمن يوم الغصب أو
بثمن يوم الدفع؟
الشيخ: أما في المثلي فقد سبق أنه يعطي
مثله سواءً زادت قيمته أو نقصت، وأما المُتَقَوَّم فإنه يضمنه يوم
التلف لا يوم الغصب لأنه لم يزل على ملك صاحبه حتى تلف، إلا إذا كانت
القيمة وقت الغصب أكثر وقلنا بأنه يضمن ما نقص بالسعر فإنه يعطى أكثر
القيمتين من وقت الغصب أو وقت التلف.
فصل
القارئ: وإذا غصب عيناً فباعها لعالم بالغصب فتلفت عند المشتري فللمالك
تضمين أيهما شاء قيمتها وأجرتها مدة مقامها في يد المشتري فيضمن الغاصب
لغصبه والمشتري لقبضه ملك غيره بغير إذنه فإن ضمن الغاصب رجع على
المشتري وإن ضمن المشتري لم يرجع على أحد لأنه غاصب تلف المغصوب في يده
فاستقر الضمان عليه كالغاصب إذا تلف تحت يده فأما أجرتها أو نقصها قبل
بيعها فعلى الغاصب وحده ولا شيء على المشتري منه وإن كان جارية فوطئها
لزمه الحد والمهر وردها مع ولدها وأجرتها وأرش نقصها وولدها رقيق لأن
وطأه زنا فأشبه الغاصب وإن لم يعلم المشتري بالغصب فلا حد عليه وولده
حر وعليه فداؤه بمثله يوم وضعه لأنه مغرور فأشبه ما لو تزوجها على أنها
حرة، وللمالك تضمين أيهما شاء لما ذكرنا.
الشيخ: قوله ضمنه بمثله هذا صعب متعذر أو متعسراً جداً لأنه متى نجد
طفلاً رقيقاً ولد واشتُرِيَ حين ولادته، ولهذا نرى أنه في هذه الحال
يضمن بقيمته يوم ولادته لأن المثلية هنا متعذرة جداً والغريب في المذهب
أن الحيوان ليس بمثلي لأن المثلي على المذهب ما كان مكيلاً أو موزوناً
ليس فيه صناعة مباحة ويصح السلم فيه.
القارئ: فإن ضمن الغاصب رجع على المشتري
بقيمة العين ونقصها وأرش بكارتها لأنه دخل مع البائع على أن يكون
ضامناً لذلك بالثمن فلم يغره فيه ولا يرجع عليه ببدل الولد إذا ولدت
منه ونقص الولادة لأنه دخل معه على أن لا يضمنه فغره بذلك فأما ما حصلت
له به منفعة ولم يلتزم ضمانه كالأجرة والمهر ففيه روايتان إحداهما لا
يرجع به لأن المشتري دخل معه في العقد على أن يتلفه بغير عوض فقد غره
فاستقر الضمان على الغاصب كعوض الولد والثانية يرجع به لأن المشتري
استوفى بدل ذلك فتقرر ضمانه عليه وإن ضمن المشتري رجع على الغاصب بما
لا يرجع به الغاصب عليه لأنه استقر ضمانه على الغاصب ولم يرجع بما يرجع
به الغاصب عليه لأنه لا فائدة في رجوعه عليه بما يرجع به الغاصب عليه.
فصل
القارئ: وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب أو أطعمه إياه استقر الضمان على
المتهب ولم يرجع على أحد لما ذكرنا في المشتري وإن لم يعلم رجع بما غرم
على الغاصب لأنه غره بدخوله معه على أنه لا يضمن وعنه فيما إذا أكله أو
أتلفه أنه لا يرجع به لأنه غرم ما أتلف فعلى هذا إن غُرِّم الغاصب رجع
على الآكل لأنه أتلف فاستقر الضمان عليه وإن أجر الغاصب العين ثم
استردها المالك رجع على من شاء منها بأجرتها ويستقر الضمان على
المستأجر علم أو جهل لأنه دخل في العقد على أن يضمن المنفعة ويسقط عنه
المسمى في الإجارة وإن تلفت العين فغرمها رجع به على الغاصب إذا لم
يعلم لأنه دخل معه على أنه لا يضمن وإن وكل رجلاً في بيعها أو أودعها
فللمالك تضمين من شاء لما ذكرنا وإن ضمنهما رجعا بما غرما على الغاصب
إلا أن يعلما بالغصب فيستقر الضمان عليهما وإن أعارها استقر الضمان على
المستعير علم أو جهل لأنه دخل معه على أنها مضمونة عليه وإن غرمه
الأجرة ففيه وجهان مضى توجيههما في المشتري.
الشيخ: هذه المسائل سنذكر فيها قاعدة، وهذه
المسائل تسمى الأيدي المترتبة على يد الغاصب وقد ذكر ابن رجب رحمه الله
في القواعد الفقهية أنها عشرة وذكر لكل واحدة حكماً، لكن لها قاعدة أو
ضابط سنذكره بعد أن ينتهي كلام المؤلف.
فصل
القارئ: وإن أطعم المغصوب لمالكه فأكله عالماً به برئ الغاصب لأنه أتلف
ماله برضاه عالماً به وإن لم يعلم فالمنصوص أنه يرجع قيل لأحمد رضي
الله عنه في رجل له قِبَلَ رجل تبعة فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو
هدية ولم يعلم فقال كيف هذا؟ هذا يرى أنه هدية ويقول هذا لك عندي لأنه
بالغصب أزال سلطانه وبالتقديم إليه لم يعد ذلك السلطان فإنه إباحة لا
يملك بها التصرف في غير ما أذن له فيه ويتخرج أن يبرأ لأنه رد إليه
ماله فبرئ كما لو وهبه إياه.
الشيخ: الصحيح أنه إذا أطعمه إياه عالماً به فإنه لا يرجع عليه لأن
المغصوب منه يعلم أن هذا ملكه وقد أتلفه هو أما لو غَرَّهُ وأطعمه إياه
على أنها دعوة أو هدية فهنا يرجع المغصوب منه على الغاصب لأنه غَرَّهُ.
القارئ: ويحمل كلام أحمد رضي الله عنه على أنه أوصل إليه بدله فأما إن
وهبه إياه فالصحيح أنه يبرأ لأنه قد سلمه تسليماً صحيحاً ورجع إليه
سلطانه به وزالت يد الغاصب بالكلية وكذلك إن باعه إياه وسلمه إليه فأما
إن أودعه إياه أو أعاره أو أجره إياه فإن علم أنه ماله برئ الغاصب لأنه
عاد إلى يده وسلطانه وإن لم يعلم لم يبرأ لأنه لم يعد إليه سلطانه
وإنما قبضه على الأمانة وقال بعض أصحابنا يبرأ لأنه عاد إلى يده.
فصل
القارئ: وأم الولد تضمن بالغصب لأنها تضمن في الإتلاف بالقيمة فتضمن في
الغصب كالقن.
الشيخ: أم الولد هي التي أتت بولد من سيدها
وصورة المسألة هذا رجل عنده سُرِّيَّة فأتت منه بولد فهنا انعقد سبب
الحرية فيها لكنها لا تعتق إلا بموته _ أي _ بموت سيدها ولهذا ذكر
المؤلف أن أم الولد تضمن بالغصب بخلاف الحر فالحر لا يضمن بالغصب فلو
غصب إنساناً وأجبره على أن يحفر له بئراً فإنه لا يضمنه لأن الحر لا
يضمن فليس له قيمة شرعاً، لكن هل يُلزم بأجرة المثل أو لا يُلزم؟ هذه
المسألة محل نظر.
السائل: إذا اشترى الشخص سلعته المغصوبة من غاصبها قهراً، ثم بعد مدة
قَدِرَ على أن يسترد الثمن فهل له ذلك؟
الشيخ: إذا أعطاه الثمن فإنه إذا ثبت فيما بعد أنها سلعته استرد الثمن.
القارئ: ولا يضمن الحر بالغصب لأنه ليس بمال فلم يضمن باليد وإن حبس
حراً فمات لم يضمنه لذلك إلا أن يكون صغيراً ففيه وجهان أحدهما لا يضمن
لأنه حر أشبه الكبير والثاني يضمنه لأنه لا تصرف له في نفسه أشبه المال
فإن قلنا لا يضمنه فكان عليه حلي فهل يضمن الحلي؟ فيه وجهان أحدهما لا
يضمنه لأنه تحت يده أشبه ثياب الكبير والثاني يضمنه لأنه استولى عليه
فأشبه ما لو كان منفرداً وإن استعمل الكبير مدة كرها فعليه أجرته لأنه
أتلف عليه ما يتقوم فلزمه ضمانه كإتلاف ماله وإن حبسه مدة لمثلها أجرة
ففيه وجهان أحدهما تلزمه الأجرة لأنها منفعة تضمن بالإجارة فضمنت
بالغصب كنفع المال والثاني لا يلزمه لأنها تلفت تحت يده فلم تضمن
كأطرافه.
الشيخ: الصحيح أنه إذا منعه من العمل وكان من عادته أن يعمل فإنه يضمنه
لأنه حال بينه وبين كسبه أما إذا كان ليس من عادته أن يعمل فهذا ليس له
أجرة كالعين التي ليس فيها منفعة، وأما في مسألة الصغير فالصواب أنه
يضمنه لأن الصغير ليس له تصرف في نفسه فكل إنسان يخدعه ويأتي به
ويسترِقُّه.
فصل
القارئ: وإن غصب كلباً يجوز اقتناؤه.
الشيخ: قوله (يجوز اقتناؤه) المقصود به كلب الحرث والصيد والماشية.
القارئ: لزمه رده لأن فيه نفعاً مباحاً وإن
غصب خمر ذمي لزم ردها إليه لأنه يقر على اقتنائها وشربها وإن غصبها من
مسلم وجبت إراقتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة خمر
الأيتام وإن أتلفها لمسلم أو ذمي لم يضمنها لما روى ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) ولأنها يحرم
الانتفاع بها فلم تضمن كالميتة.
الشيخ: إذا غصب مسلمٌ خمر ذمي وقلنا له يلزمك الرد، فما هو العمل إذا
قال إنه لا يريد الرد؟ الجواب أنه يتلفها لأنه إذا أتلفها لم يضمنها
لأنها محرمة وعوضها محرم.
القارئ: وإن غصبه منهما فتخلل في يده لزمه رده إلى صاحبه لأنها صارت
خلاً على حكم ملكه فإن تلف ضمنه لأنه مال تلف في يد الغاصب فإن أراقه
صاحبه فجمعه إنسان فتخلل لم يلزمه رده لأن صاحبه أزال ملكه عنه
بتبديده.
الشيخ: كل شيء يخرجه الإنسان عن ملكه رغبة عنه أو يأساً من صلاحه أو
يأساً من برئه فيلتقطه أحدٌ ويربيه حتى يَسْلَم فإنه لا يلزمه رده إلى
صاحبه ولو طالب به صحابه فلا حق له فيه لأنه تركه وأخرجه عن ملكه ومثل
هذا ما يوجد في السيارات التي تكون عليها حوادث فيتركها أهلها رغبةً
عنها فيأتي إنسان ويأخذها ويأخذ ما فيها من قطع الغيار فليس لصاحبها
الحق في أن يطالب بها لأنه تركها زهداً فيها وخرجت عن ملكه.
فصل
القارئ: وإن غصب جلد ميتة ففي وجوب رده وجهان مبنيان على طهارته
بالدباغ إن قلنا يطهر وجب رده لأنه يمكن التوصل إلى تطهيره أشبه الثوب
النجس وإن قلنا لا يطهر لم يجب رده ويحتمل أن يجب إذا قلنا يجوز
الانتفاع به في اليابسات ككلب الصيد.
الشيخ: الصواب وجوب رده سواءٌ قلنا إنه يطهر بالدباغ أو لا، والصحيح
أنه يطهر بالدباغ فيجب رده، وإذا قلنا لا يطهر وقلنا يجوز الانتفاع به
في اليابسات كما هو المذهب وجب رده أيضاً لأن فيه نفعاً مباحاً،
فالصواب وجوب رده سواء قلنا إنه يطهر بالدباغ أو قلنا لا يطهر مادام أن
فيه نفع.
القارئ: وإن أتلفه لم يضمنه لأنه لا قيمة
له.
الشيخ: هذا صحيح، لكن يجب على ولي الأمر أن يؤدب هذا المعتدي وهو ما
يعرف عندنا بالحق العام.
فصل
القارئ: وإن كسر صليباً أو مزماراً لم يضمنه لأنه لا يحل بيعه فأشبه
الميتة.
الشيخ: قوله (لأنه لا يحل بيعه) رحم الله المؤلف لو قال لأنه لا يجوز
إقراره لكان أولى وذلك لأنه يجب علينا أن نغير المنكر بأيدينا إذا
قدرنا فإن لم نستطع فباللسان فإن لم نستطع فبالقلب، وآلة اللهو يجب
كسرها ولكن هل يجب على كل واحد أو هذا منوط بولاة الأمور؟ الجواب
الثاني وذلك لئلا تحصل الفوضى ويقول صاحب المزمار إنني أقتنيه بناءً
على قول لبعض العلماء فاقتنائي إياه مباح فلماذا تكسره، ثم يحصل بذلك
فتنة.
القارئ: وإن كسر أواني الذهب والفضة لم يضمنها لأن اتخاذها محرم وإن
كسر آنية الخمر ففيه روايتان إحداهما يضمنها لأنه مال غير محرم ولأنها
تضمن إذا خلت.
الشيخ: قوله (إذا خلت) يعني إذا خلت من الخمر فلو أتلف الآنية بدون أن
يكون فيها خمر فهي مضمونة.
القارئ: فتضمن إذا كان فيها خمر كالدار.
الشيخ: قوله (كالدار) يعني لو هدم داراً فيها خمر فإنه يضمن الدار، لكن
هذا القياس فيه نظر لأن الدار ليست آنية للخمر بخلاف آنية الخمر فإنها
تختص به وعلى كل حال فالصواب أنه إذا أتلف آنية خمر وهي مما يباح
استعماله فهو ضمان.
القارئ: والثانية لا تضمن لما روى ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمره بتشقيق زقاق الخمر) رواه أحمد رضي الله عنه في المسند.
الشيخ: قوله (لا تضمن لما روى ابن عمر ... ) نقول هناك فرق لأن الرسول
صلى الله عليه وسلم له السلطة فتشقيقها من باب التعزير أما غيره فليس
له ذلك، فإذا كان إنسان قد وضع خمراً في إناء ثمين لكنه ليس ذهباً ولا
فضة فهل نقول لغيره أن يكسره ويفسده عليه لأن فيه خمراً؟ هذا فيه نظر
والصواب أنه مضمون.
فصل
القارئ: ومن أتلف مالاً محترماً لغيره ضمنه
لأنه فوته عليه فضمنه كما لو غصبه فتلف عنده وإن فتح قفص طائر فطار أو
حل دابة فشردت أو قيد عبد فذهب أو رباط سفينة فغرقت ضمن ذلك كله لأنه
تلف بسبب فعله فضمنه كما لو نفر الطائر أو الدابة وإن فعل ذلك فلم يذهب
حتى جاء آخر فنفرهما فالضمان على المنفر لأن فعله أخص فاختص الضمان به
كالدافع مع الحافر.
الشيخ: قوله (الدافع مع الحافر) صورة المسألة لو أن رجلاً رأى شخصاً
واقفاً على بئر فدفعه فمات بسقوطه في البئر فالضامن هنا هو الدافع مع
أنه لولا البئر لسقط على الأرض ولم يمت، لكن نقول هنا اجتمع مباشر
ومتسبب والمباشر هو الدافع والمتسبب هو الحافر، إلا إذا علمنا أنهما
تواطأ على الحفر والدفع بأن قال أحدهما أنا أحفر البئر وأنت إذا وقف
ذلك الرجل يشاهدها أدفعه، فيكون الضمان عليهما جميعاً.
القارئ: وإن وقف طائر على جدار فنفره إنسان فطار لم يضمنه لأن تنفيره
لم يكن سبب فواته لأنه كان فائتاً قبله وإن طار في هواء داره فرماه
فقتله ضمنه لأنه لا يملك منع الطائر الهواء فأشبه ما لو قتله في غير
داره.
الشيخ: إذا كان هناك طائر قد طار من مالكه فوجده شخص ما على الجدار
فَنَفَّرَهُ فإنه لا يضمنه لماذا؟ لأن هذا الطائر نافرٌ من الأصل فهو
قد هرب من مالكه ولهذا قال المؤلف (لأنه كان فائتاً قبله) لكن لو فرض
أن الجدار حول مقره يعني حول وكر الطائر وهذا الطائر قد وقع على الجدار
ليتأهب لدخول الوكر فهنا قد نقول بالضمان وذلك لأنه لولا تنفيره له
لدخل في وكره.
فصل
القارئ: وإن حل زقاً فاندفق أو خرج منه شيء
بل أسفله فسقط أو سقط بريح أو زلزلة أو كان جامداً فذاب بالشمس فاندفق
ضمنه لأنه تلف بسببه فضمنه كما لو دفعه وقال القاضي لا يضمنه إذا سقط
بريح أو زلزلة لأن فعله غير ملجئ فلا يضمنه كما لو دفعه إنسان آخر ولنا
أنه لم يتخلل بين فعله وتلفه مباشرة يمكن إحالة الضمان عليها فيجب أن
يضمنه كما لو جرح إنساناً فأصابه الحر فمات به فأما إن بقي واقفاً فجاء
إنسان فدفعه ضمنه الثاني لأنه مباشر وإن كان يخرج قليلاً قليلاً فجاء
إنسان فنكسه فاندفق ضمن الثاني ما خرج بعد التنكيس لأنه مباشر له فهو
كالذابح بعد الجارح ويحتمل أن يشتركا فيما بعد التنكيس وإن فتح زقاً
فيه جامد فجاء آخر فقرب إليه ناراً فأذابه فاندفق ضمنه الثاني لأنه
باشر الإتلاف وإن أذابه الأول ثم فتحه الثاني فالضمان على الثاني لأن
التلف حصل بفعله.
السائل: بعض العلماء يجعل في الكلب المأذون في اقتنائه إذا أُتلِفَ
الضمان فما مستنده في ذلك؟
الشيخ: مستنده في ذلك رواية النسائي (نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد)
قالوا فإذا جاز بيعه فهو مضمون والصواب أن هذه الرواية شاذة وأنه لا
استثناء وأن بيع الكلب حرامٌ مطلقاً وعليه فلا قيمة له شرعاً.
السائل: هل نلزم الذي أتلف كلب الصيد على صاحبه أن يأتي له بكلب آخر؟
الشيخ: لا نلزمه، فلا نقول له ابحث بدلاً عن هذا الكلب.
السائل: إذا كانت هناك أواني معدة فقط لشرب الخمر فهل تضمن إذا كسرت؟
الشيخ: إذا كانت أواني خاصة بالخمر فقط فهذه يكسرها ولي الأمر ويضمنها
الكاسر بأواني لا تصلح للخمر.
فصل
القارئ: وإن أجج في سطحه ناراً فتعدت فأحرقت شيئاً لجاره وكان ما فعله
يسيراً جرت العادة به لم يضمن لأنه غير متعد وإن أسرف فيه لكثرته أو
كونه في ريح عاصف ضمن وكذلك إن سقى أرضه فتعد إلى حائط آخر.
فصل
القارئ: وإن أطارت الريح إلى داره ثوباً
لزمه حفظه لأنه أمانة حصلت في يده فلزمه حفظها كاللقطة فإن عرف صاحبه
لزمه إعلامه فإن لم يفعل ضمنه كاللقطة إذا ترك تعريفها.
الشيخ: إذا أطارت الريح إلى داره ثوباً ولم يعلم صاحبه ولا يدري هل هو
لجاره المباشر أو لجاره البعيد أو أنه طار من يد صاحبه حتى وقع في هذا
البيت فهنا نجعل حكمه حكم اللقطة.
القارئ: وإن دخل طائر داره لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه لأنه محفوظ
بنفسه فإن أغلق عليه باباً ليمسكه ضمنه لأنه أمسكه لنفسه فضمنه كالغاصب
فإن لم ينو ذلك لم يضمنه لأنه يملك التصرف في داره فلم يضمن ما فيها.
الشيخ: نقول هنا ومن باب أولى إذا أغلق الباب ليحفظه لصاحبه مثل أن
يعرف أن هذا الطير لفلان فدخل هذا الطائر الحجرة فأغلق الباب ليمسكه
لصحابه فإنه لا يضمن، وعليه إن أغلق الباب على الطائر دخل الحجرة
ليمسكه لنفسه فهو ضامن أما إذا أراد بذلك أن يمسكه لصحابه فليس بضامن
وإن فعل ذلك لمجرد حبس الطير فقط فهنا يقول المؤلف إنه لا ضمان عليه
لأنه دخل ملكه وهو حر في ذلك، لكن هذا فيه نظر لأن حَبْسَهُ للطير
عدوان والواجب إذا دخل غرفته أو حجرته _ والفرق بين الغرفة والحجرة أن
الغرفة فوق والحجرة تحت _ فإنه يجب عليه أن يفتح الباب ليخرج الطير
والطير مثل البعير قال النبي صلى الله عليه وسلم (دعها فإن معها حذاءها
وسقاءها) فهو يطير ويجد صاحبه، فعلى هذا نقول لا يضمن إذا أراد إمساكه
لصاحبه وفيما عدا ذلك يضمن.
فصل
القارئ: إذا اختلف المالك والغاصب في تلف
المغصوب فالقول قول الغاصب مع يمينه لأنه يتعذر إقامة البينة على التلف
ويلزمه البدل لأنه بيمينه تعذر الرجوع إلى العين فوجب بدلها كما لو أبق
العبد المغصوب وإن اختلفا في قيمة المغصوب فالقول قول الغاصب لأن الأصل
براءة ذمته من الزيادة المختلف فيها فأشبه ما لو ادعى عليه بدين فأقر
ببعضه وجحد باقيه وإن قال المالك كان كاتباً قيمته ألف وقال الغاصب كان
أميًّا قيمته مائة فالقول قول الغاصب لما ذكرناه وإن قال الغاصب كان
سارقاً فقيمته مائة وقال المالك لم يكن سارقاً فقيمته ألف فالقول قول
المالك لأن الأصل عدم السرقة وإن غصبه طعاماً فقال كان عتيقاً فلا
يلزمني حديث وأنكره المالك فالقول قول الغاصب.
الشيخ: (حديثاً) يعني جديداً و (عتيقاً) يعني قديماً.
القارئ: لأن الأصل براءة ذمته من الحديث ويأخذ المغصوب منه العتيق لأنه
دون حقه وإن اختلفا في الثياب التي على العبد المغصوب هل هي للغاصب أو
للمالك فهي للغاصب لأنها هي والعبد في يده فكان القول قوله فيها وإن
غصبه خمرا فقال المالك استحالت خلا فأنكره الغاصب فالقول قول الغاصب
لأن الأصل عدم الاستحالة.
فصل
القارئ: إذا اشترى رجل عبداً فادعى رجل أن البائع غصبه إياه فأنكره
المشتري وصدقه البائع حلف المشتري والعبد له وعلى البائع قيمته ولا
يملك مطالبة المشتري بالثمن لأنه لا يدعيه إلا أن يغرم قيمته فيملك
مطالبته بأقل الأمرين من قيمته أو ثمنه لأنه يدعي القيمة والمشتري يقر
بالثمن فيكون له أقلهما وللمالك مطالبة المشتري لأنه مقر بالثمن للبائع
والبائع يقر به لمالكه فإن قلنا بصحة تصرف الغاصب فله مطالبته بجميع
الثمن وإن قلنا لا يصح فله أقل الأمرين لما تقدم وإن صدقه المشتري
فأنكره البائع حلف البائع وبرئ ويأخذ المدعي عبده لما روى سمرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به)
وإن كان المشتري أعتق العبد فصدق البائع والمشتري المالك غرم أيهما شاء
قيمته،
الشيخ: قوله (غرم أيهما شاء) أي المالك.
القارئ: ويستقر الضمان على المشتري لأنه أتلف العبد بعتقه وإن وافقهما
العبد على التصديق فكذلك ولم يبطل العتق لأنه حق الله تعالى فلا يقبل
قولهم في إبطاله وفيه وجه آخر أنه يبطل العتق إذا صدقوه كلهم ويعود
العبد رقيقاً للمدعي لأنه أقر بالرق على وجه لا يبطل به حق أحد فقبل
كإقرار مجهول الحال.
|