شرح زاد
المستقنع للحمد باب صفة الصلاة
الدرس السبعون
(يوم السبت: 20 / 3 / 1415 هـ)
" صفة الصلاة "
أي كيفيتها الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في ذلك الصفة
المجزئة والصفة المستحبة.
والأصل في هذا الباب ما ثبت في البخاري من حديث مالك ابن الحويرث وفيه – أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) ويستحب أن
يمشي إلى الصلاة بسكينة ووقار. لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا
فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) (2) فهذا الحديث فيه أن المستحب أن
يمشي بسكينة ووقار.
والسكينة: هي التأني بالحركات وعدم العبث.
والوقار: هو أن يكون بسمت حسن من غض للبصر ونحو ذلك، وأكد ذلك بقوله (ولا
تسرعوا) فيكره الإسراع إلى الصلاة أو أن يمشي إليها بغير وقار، بل ينبغي أن
يتصف بالتأني المنافي للإسراع، والوقار الذي ينبغي أن يتصف به العاقد إلى
الصلاة.
وهذا الحديث عام في كل حال سواء كان إسراعه يفيده إدراكاً لتكبيرة الإحرام،
أو إدراكاً للركعة أو إدراكاً للجماعة، فإنه لا يسرع الإسراع بل المستحب
التأني مطلقاً.
وقد نص الإمام أحمد على أنه إذا كان يرجو إدراك تكبيرة الإحرام فإنه لا بأس
بالإسراع غير القبيح.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه لا بأس بالإسراع إذا كان لإدراك ركعة.
وذهب بعضهم: إلى أنه لا بأس بالإسراع إذا كان يدرك الجماعة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة
والإقامة، وكذلك بعرفة وجمع (631) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة (908) ، وفي كتاب
الأذان، باب قول الرجل فاتتنا الصلاة (635) ، وباب لا يسعى إلى الصلاة
وليأت بالسكينة والوقار (636) . وأخرجه مسلم (603) .
والصحيح أنه لا يشرع الإسراع مطلقاً، ودليل
هذا ما ورد في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أحدكم إذا
كان يعمد إلى صلاة فهو في صلاة) (1) فدل ذلك على أن المشي إلى المساجد
صلاة، ولا يشرع في هذه الصلاة إلا أن يمشي بسكينة ووقار سواء كان يدرك
بإسراعه تكبيرة الإحرام أو لا، وسواء كانت تفوته الجماعة إن لم يسرع أو لا
تفوته.
فالعلة – من عدم الإسراع - هي أنه في صلاة فلا يشرع له أن يسرع.
قال رحمه الله: (يسن القيام عند " قد " من أقامها)
أي عند قوله: (قد قامت الصلاة) كما صرح بذلك صاحب المغني وغيره – وهذا إذا
كان الإمام في المسجد يراه المأمومون.
هذا هو المشهور في المذهب – قالوا: لأن قوله (قد قامت الصلاة) خبر بمعنى
الأمر، أي قوموا إليها وانتصبوا قائمين لأدائها، وهذا المشهور في المذهب
وهو مروي عن ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق (2) ، وعن أنس كما عند ابن
المنذر (3) .
والمذهب الثاني: أن المشروع أن يقوم إذا انتهى المقيم من إقامته، وهذا مذهب
الشافعية (4) .
والقول الثالث، وهو مروي عن طائفة من التابعين كعمر بن عبد العزيز وسالم بن
عبد الله بن عمر والزهري: أن المشروع أن يقوم عند أول شروع المقيم
بالإقامة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة
والنهي عن إتيانها سعيا (602) .
(2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، باب قيام الناس عند الإقامة، برقم (1940)
[1 / 506] قال عبد الرزاق: عن إبراهيم بن محمد، عن محمد بن عبيد الله، عن
عطية قال: كنا جلوساً عند ابن عمر فلما أخذ المؤذن في الإقامة قمنا، فقال
ابن عمر: اجلسوا فإذا قال: قد قامت الصلاة فقوموا ".
(4) قال في المنهاج: " ولا يقوم حتى يفرغ المؤذن من الإقامة "، مغني
المحتاج [1 / 500] .
وهذه المسألة الباب فيها واسع، ولكن مع ذلك
– فيما يظهر – الأولى أن يقوم عند أول شروعه بالإقامة؛ ذلك لعدة أوجه.
الوجه الأول: أن هناك إشارات إلى هذه المسألة في بعض الأحاديث الواردة عن
النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: (أن
الصلاة تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم
النبي صلى الله عليه وسلم مقامه) (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (24) هل يخرج من المسجد لعلة (639)
، وباب (25) ، وفي كتاب الغسل، باب (17) إذا ذكر في المسجد أنه جنب، (275)
عن أبي هريرة قال: " أقيمت الصلاة وعُدّلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قام في مصلاه، ذكر أنه جنب فقال لنا:
(مكانكم) ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبّر فصلينا معه "،
وأخرجه مسلم (605) .
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بعد
الإقامة أن يستووا ويعتدلوا، كما وردت الأحاديث في هذا، ومعلوم أنهم لو
قاموا عند قوله (قد قامت الصلاة) أو بعد انتهاء الإقامة لما كان ذلك كافياً
لأن يسووا صفوفهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه، بل الظاهر
أنهم كانوا يقومون عند شروع المؤذن بالإقامة أو عند رؤيتهم الإمام وهو يأتي
لإقامة الصلاة، وأن هذا هو الوقت الكافي لأن يأخذوا مصافهم حيث كان يأمر
بتسوية الصفوف بعد إقامة الصلاة، فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس قال:
(أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: (أقيموا
صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري) (1) .
فهنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بتسوية الصفوف بعد الإقامة، وفي
الحديث السابق كانوا يقومون ويسوون الصفوف قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه
وسلم مقامه، فيبعد أن يكون قيامهم عند انتهائه، وأظهر منه أن يكون ذلك عند
قوله (قد قامت الصلاة) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (71) تسوية الصفوف عند الإقامة
وبعدها (718) بلفظ (أقيموا صفوفكم فإني أراكم خلف ظهري) ، وفي باب (72)
إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف (719) بلفظ: أقيمت الصلاة، فأقبل
علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه، فقال: (أقيموا صفوفكم
وتراصوا فإني أراكم من رواء ظهري) . وأخرجه مسلم (434) .
2- ويقوي هذا - وهو الوجه الثاني -: ما
رواه عبد الرزاق في مصنفه إلى الزهري بسند صحيح قال: (كان الناس ساعة يقول
المؤذن (الله أكبر، الله أكبر) يقيم الصلاة يقومون فيأتي النبي صلى الله
عليه وسلم مقامه ثم تُعدل الصفوف) (1) .
الوجه الثالث: أن المعنى الذي ذكره الحنابلة في لفظة (قد قامت الصلاة) ثابت
في الإقامة كلها.
نعم لفظة (قد قامت الصلاة) هي صريح الإقامة لكن ألفاظها كلها إنما شرعت
ليقوم الناس إلى الصلاة، فإنها تسمى إقامة، كما أن النداء صريحه: (حي على
الصلاة حي على الفلاح) وكله نداء، فهذه كلها إقامة وإن كان صريحها لفظة (قد
قامت الصلاة) .
فأقوى الأقوال - مع أن فيه سعة - ما ذهب إليه بعض التابعين: من أن المشروع
أن يقوم عند شروع المؤذن بالإقامة.
وهذا – كما تقدم – إذا كان الإمام في المسجد أو كان في معنى من هو في
المسجد كأن يكون قريباً إلى المسجد فأقام الصلاة له.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، آخر باب قيام الناس عند الإقامة (1942) [1
/ 507] قال عبد الرزاق: عن ابن جريج قال: أخبرني ابن شهاب أن الناس كانوا
ساعة يقول المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، يقيم الصلاة، يقوم الناس إلى
الصلاة، فلا يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامه حتى يعدّل الصفوف ".
أما إذا لم يكن الأمر كذلك فأقامها وهم
ينتظرون الإمام، والإمام ليس في المسجد ولا قريباً منه، وهذا وإن كان يقل
وقوعه في هذه الأزمان، لكن كان يكثر وقوعه للنبي صلى الله عليه وسلم
والخلفاء ونحو ذلك، فقد كانت الصلاة تقام قبل حضورهم فيسمعون الإقامة
فيأتون إلى المسجد فمثل هذا لا يشرع القيام حتى يروه؛ لما ثبت في الصحيحين
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)
(1) .
قال: (وتسوية الصفوف)
أي يسن تسوية الصفوف وتسوية الصف بأن يتراص المصلون فيه بأن يلزق منكبه
بمنكب صاحبه وكعبه بكعب صاحبه.
فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس في الحديث المتقدم الذي فيه: أن النبي صلى
الله عليه وسلم أقبل عليهم بوجهه فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم
من وراء ظهري) (2) قال أنس: فكان الرجل - أي من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم - يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه ". فهذا الفعل من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم والنبي يراهم، فإنه قال: (فإني أراكم من وراء ظهري)
فكان يراهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (23) لا يسعى إلى الصلاة مستعجلا
وليقم بالسكينة والوقار (638) عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني
وعليكم بالسكينة) ، وفي باب (22) متى يقوم الناس، إذا رأوا الإمام عند
الإقامة (637) ، دون قوله (وعليكم بالسكينة) . وأخرجه مسلم (604) .
(2) تقدم قريبا.
وفي سنن أبي داود – وأصله في الصحيحين – من
حديث النعمان بن بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه فقال:
(أقيموا صفوفكم ثلاثاً – ثم قال: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)
قال: فكان الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه)
(1) .
فالإطلاق المتقدم في رواية البخاري من قول أنس من قوله: (وقدمه بقدمه) هنا
قد ثبت التصريح بأن ذلك في الكعب.
وهذا ظاهر في أول الصلاة وأن الواجب أو المشروع للمصلين أن يتراصوا في الصف
بأن يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبته وكعبه بكعبه – والأحاديث فيه
واضحة –.
وأما بعد ذلك فالأظهر – ولم أر لأحد من أهل العلم في هذه المسألة كلام،
والأظهر -: أن يكون ذلك من غير مشقة، ومعلوم أن متابعة ذلك في كل ركعة من
ركعات الصلاة فيه مشقة بخلاف التراص فإنه لا مشقة فيه.
ففي آخر الصلاة لا يبقى ذلك مشروعاً في حقه لثبوت تراص فيما تقدم، ومثل هذا
فيه إلحاق مشقة وكلفة.
وظاهر قوله (وتسوية الصفوف) أن ذلك مسنون وهذا مذهب جمهور العلماء وحكى
إجماعاً.
لكن هذا فيه نظر، فقد ذهب شيخ الإسلام ووجَّه ذلك صاحب الفروع وهو مذهب
الظاهرية ومذهب الإمام البخاري: أن ذلك واجب والأدلة دالة على ذلك.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (662) . وهو في
البخاري بلفظ: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) ، كتاب الأذان،
باب (71) تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها (717) ، ومسلم (436) .
فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) (1) أي ليلقين
الله في قلوبكم العداوة والبغضاء ومثل هذا لا يقال إلا فيما كان محرماً،
ويفسره الرواية المتقدمة في أبي داود: (أو ليخالفن الله بين قلوبكم) (2)
فهذا يدل على أن تسوية الصفوف واجبة إذا لا يترتب مثل هذه العقوبة إلا على
أمر واجب وتركه محرم.
فإذا ثبت وجوب ذلك: فمثل ذلك على الراجح – وهو مذهب الظاهرية -: أن ترصَّ
الصفوف بعضها ببعض فلا يكون بين الصفوف إلا ما يكفي المصلين لإقامة ركوعهم
وسجودهم، فيجب أن تكون قد اتصل بعضها ببعض ولا يكون بين كل صف وصف مسافة
زائدة على ما يحتاج إليه المصلي لإقامة ركوعه وسجوده.
يدل على ذلك: ما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رصوا
صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق والذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان
يتخلل بين الصفوف كأنها الحذف) (3) وهي صغار المعز.
ففيه الأمر بأن تقارب الصفوف بعضها إلى بعض لقوله: (وقاربوا) .
وذلك – أي ما يكفي المصلي لركوعه وسجوده ذلك - بنحو ثلاثة أذرع.
وقد وردت أحاديث تدل على وجوب تسوية الصفوف:
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (662) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (94) تسوية الصفوف (667) قال: "
حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبن، عن قتادة، عن أنس بن مالك عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال: (رصوا صفوفكم وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق،
فالوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحَذَف) .
فمن ذلك: ما ثبت في أبي داود أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (أقيموا صفوفكم وحاذوا بين الأعناق وسددوا الخلل
ولينوا بأيدي إخوانكم " أي لتسوية الصفوف " ولا تذروا فرجات للشيطان ومن
وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله) (1)
فقوله (قطعه الله) ، ظاهر ذلك الإثم وأن من قطع شيئاً من الصفوف بأن جعل
بينها خللاً فإنه يقطعه الله، ومثل هذه العقوبة لا تكون إلا على فعل أمر
محرم.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (94) تسوية الصفوف، (666) قال: "
حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي، حدثنا ابن وهب ح، وحدثنا قتيبة بن سعيد،
حدثنا الليث، وحديث ابن وهب أتم، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن
كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمر قال قتيبة: عن أبي الزاهرية، عن أبي شجرة،
لم يذكر ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أقيموا الصفوف،
وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولِينوا بأيدي إخوانكم) ولم يقل عيسى: "
بأيدي إخوانكم " (ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع
صفا قطعه الله) قال أبو داود: أبو شجرة كثير بن مرة، قال أبو داود: ومعنى "
لينوا بأيدي إخوانكم " إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين
له كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف "، وأخرجه النسائي مختصراً ومتصلاً حديث
820، سنن أبي داود [1 / 431] .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبالغ في
تسوية الصفوف حتى كان يقومها كالقِدْح. كما ثبت هذا في أبي داود عن النعمان
بن بشير قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوينا في الصلاة كما يقوم
القدْح) (1) وهو خشبة الرمح أي كما تنحت خشبة الرمح وتسوى وتقوم بحيث تكون
في غاية الاعتدال لا اعوجاج فيها ولا ميل.
وثبت في سنن أبي داود عن أنس بن مالك بإسناد صحيح قال: (كان النبي صلى الله
عليه وسلم يتخلل بين الصفوف من ناحية إلى ناحية يمسح على صدورنا ومناكبنا
ويقول لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ثم يقول " إن الله وملائكته يصلون على
الصفوف المقدمة) (2)
مسائل في تسوية الصفوف:
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (663) قال: " حدثنا
موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير
يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسوِّينا في الصفوف كما يقوَّم
القدح حتى.. "
(2) أخرجه أبو داود من حديث البراء في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (664)
قال: " حدثنا هناد بن السري، وأبو عاصم بن جواس الحنفي، عن أبي الأحوص، عن
منصور، عن طلحة اليامي، عن عبد الرحمن بن عوْسجة عن البراء بن عازب قال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح
صدورنا ومناكبنا ويقول: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) وكان يقول: (إن الله
وملائكته يصلون على الصفوف الأُوَل) ، وأخره النسائي حديث 812، سنن أبي
داود [1 / 432] .
منها: أن أفضل الصفوف الصفوف المتقدمة وخير
صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وشر صفوف النساء أولها وأفضلها آخرها، كما
ثبت هذا في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير صفوف الرجال أولها
وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) (1) وذلك للقرب من
الرجال.
فالأفضل الصفوف المقدمة للرجال، والمتأخرة للنساء.
والأفضل الصفوف التي تقع في ميمنة المسجد؛ لما ثبت في سنن أبي داود
والنسائي وغيرهما عن البراء قال: (كنا إذا صلينا وراء النبي صلى الله عليه
وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه فيقبل علينا بوجهه فسمعته يقول: (ربنا قنا
عذابك يوم تبعث عبادك) (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (28) تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول
فالأول منها، والازدحام على الصف (440)
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب يمين الإمام
(709) عن البراء قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أحببنا أن نكون عن يمينه، يُقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: رب قني
عذابك يوم تبعث - أو تجمع - عبادك) ، والبيهقي [2 / 259] رقم (3000) .
وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الإمام ينحرف بعد التسليم (615)
مختصراً، أي دون قوله " رب قني عذابك.. " وكذا أخرجه النسائي 823، وابن
ماجه 1006.
وأما ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) (1) فالحديث وإن
كان إسناده حسن لكنه معلول فهو شاذ، وقد رواه الثقات كما في المسند وسنن
ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون
على الذين يصلون الصفوف) (2) هذا هو اللفظ المحفوظ كما قرر هذا البيهقي (3)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (96) من يستحب أن يلي الإمام في
الصف وكراهية التأخر (676) قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا معاوية
بن هشام، حدثنا سفيان، عن أسامة بن زيد، عن عثمان بن عروة، عن عروة عن
عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله وملائكته
يصلون على ميامن الصفوف) ، وأخرجه ابن ماجه (1005) في باب (55) فضل ميمنة
الصف من كتاب إقامة الصلاة، سنن أبي داود [1 / 437] .
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (50) إقامة الصفوف (995)
قال: " حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا هشام بن عروة عن
أبيه، عن عائشة قالت:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله
وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة) .
قال البوصيري: " هذا إسناد فيه إسماعيل بن عياش، وهو من روايته عن
الحجازيين، وهي ضعيفة. رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن خزيمة وابن حبان في
صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وروى أبو داود شطره الأول من حديث
البراء بن عازب، وله شاهد من حديث النعمان بن بشير، رواه مسلم والترمذي في
الجامع، وقال: حسن صحيح، قال: وفي الباب عن جابر بن سمرة، والبراء بن عازب،
وجابر بن عبد الله، وأنس، وأبي هريرة وعائشة ". من زيادات طبعة بيت الأفكار
على سنن ابن ماجه. صحيح الجامع (1843) .
(3) السنن الكبرى للبيهقي [3 / 149] ، كتاب الصلاة، باب 721 ما جاء في فضل
ميمنة الصف (5199) .
وغيره، وأما لفظة (على ميامن الصفوف) فهي
خطأ من بعض الرواة، فعلى ذلك الحديث ضعيف.
وأما ما ورد في ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمر ميسرة
المسجد كان له كفلان من الأجر) (1) فالحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف
فلا يثبت.
فميمنة المسجد أفضل من ميسرته.
ولكن هل من بَعُد وهو عن يمين الصف أفضل ممن قرب وهو عن يساره؟
قال صاحب الفروع: " ويتوجه أن بُعد يمينه ليس بأفضل من قرب يساره قال:
ولعله مرادهم " أي مراد الحنابلة.
أي: أن ذكرهم تفضيل الميمنة على الميسرة ليس عاماً بل يكون حيث استويا أو
كانا متقاربين في القرب من الإمام.
أما إذا كان صاحب الميسرة هو القريب من الإمام وصاحب الميمنة بعيد فهذا لا
يدخل في مرادهم فهذا له فضيلة القرب وهذا له فضيلة الميمنة.
ولم يصرّح بتفضيل الميسرة حينئذ، بل ذكر أن الميمنة – حينئذ – لا تكون أفضل
من الميسرة فيحتمل أن تكون مثلها في الفضيلة أو أفضل منها.
والأظهر التفصيل في هذا:
فإن كان قريباً إلى الإمام بحيث يكون ممن يلي الإمام فهو أفضل، وإن كان في
ميسرة المسجد ممن كان بعيداً في الميمنة لقوله صلى الله عليه وسلم:
(ليَلَنِي منكم أولو الأحلام والنهى) (2) رواه مسلم، وهو شامل لمن كان
والياً له عن يمينه وعن شماله.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (55) فضل ميمنة الصف (1007)
بلفظ: " عن ابن عمر قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ميسرة
المسجد تعطلت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من عمر ميسرة المسجد
كتب له كفلان من الأجر) . قال البوصيري: " هذا إسناد ضعيف ضعف ليث بن أبي
سليم ".
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (28) تسوية الصفوف وإقامتها.. (423) عن
أبي مسعود، وعن ابن مسعود. صحيح مسلم بشرح النووي المجلد الثاني [4 / 154،
155] .
وأما إن لم يكن ممن يلي الإمام فالأظهر
التساوي فهذا قد فضل بالقرب وهذا قد فضل بالميمنة، فكل منهما فضيلته
فحينئذ: لا يجزم بتفضيل أحدهما على الآخر.
والمسألة الثانية:
صفة إقبال الإمام على المأمومين لتسوية الصفوف؟
ظاهر الأحاديث الصحيحة أنه يقبل عليهم بوجهه، فمن ذلك ما تقدم من حديث أنس
قال: (أقيمت الصلاة فأقبل علينا صلى الله عليه وسلم بوجهه) (1) رواه
البخاري، وما تقدم من حديث النعمان بن بشير في أبي داود وفيه: (أقبل علينا
النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه) (2) .
وأما ما رواه أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ عن يمينه فقال:
(سووا صفوفكم واعتدلوا ثم أخذ عن يساره فقال: سووا صفوفكم واعتدلوا) (3)
فهو حديث ضعيف فيه مصعب بن ثابت الزبيري وهو ضعيف، فلا يكون معارضاً
للأحاديث المصرحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الناس بوجهه.
فعلى ذلك الأظهر أنه يقبل على الناس بوجهه.
إذن: في مسألة تسوية الصفوف أربعة مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية ذلك: وأن المشروع فيه أن يلزق كعبه بكعبه وركبته
بركبته ومنكبه بمنكبه فلا يكون التساوي بأطراف الأصابع كما يفعله كثير من
الناس هذا أمر ليس بمشروع، فإن الناس يتفاوتون في ذلك فلا يتم حينئذ
التساوي.
والثانية: في حكم ذلك وأن الراجح فرضية ذلك ووجوبه.
ومثل ذلك: أن يرص الصفوف بعضها ببعض.
__________
(1) تقدم قريباً.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف (662) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (94) تسوية الصفوف، (670) قال: "
حدثنا مسدد، حدثنا حميد بن الأسود، حدثنا مصعب بن ثابت، عن محمد بن مسلم،
عن أنس بهذا الحديث، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام
إلى الصلاة أخذ بيمينه ثم التفت فقال: (اعتدلوا سووا صفوفكم) ثم أخذه
بيساره فقال: (اعتدلوا، سووا صفوفكم) .
والثالثة: في تفضيل صفوف الرجال المتقدمة
على صفوفهم المتأخرة والعكس للنساء.
وهذه المسألة ظاهرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في الأزمان
المتأخرة، حيث وضعت الجدر بين الرجال والنساء وأصبح عازل كامل بين الرجال
والنساء، بخلاف المساجد كالحرمين أو نحوها أو عازل خفيف فإن الحكم يبقى –.
أما إذا كان هناك عازل قوي قد فصل الرجال عن النساء، فيبقى القول بأن
الصفوف المقدمة للنساء أفضل من الصفوف المتأخرة لزوال العلة؛ ولأن النساء
شقائق الرجال كما في مسند أحمد (1) .
فالأصل أن أحكام الرجال كأحكام النساء، والعلة التي جعلت صفوف النساء
المتقدمة مفضولة عن الصفوف المتأخرة علة قد ذهبت وزالت حيث وجدت الجدر
العازلة أو كانت النساء يصلين جماعة وحدهن.
ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة
عند ربهم قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ فقال: يتمون الصفوف المقدمة
ويتراصون في الصف) (2)
الرابعة: في تفضيل ميامن الصفوف على مياسرها وأن الأفضل أن يصلي في ميمن
الصف.
مسألة:
هل يشرع أن يكون الإمام وسط المأمومين؟
الحديث الوارد في هذا: (وسطوا الإمام وسدوا الخلل) (3) فالحديث ضعيف فيه
مجهولان.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (24999) ، باقي مسند الأنصار، باقي
المسند السابق، وبرقم (25869) نحوه في مسند أم سليم. انترنت، موقع الإسلام.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (27) الأمر بالسكون في الصلاة والنهي
عن الإشارة باليد.. (430) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب مقام الإمام من الصف (681) قال: "
حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا ابن أبي فديك، عن يحيى بن بشير بن خلاد، عن أمه
أنها دخلت على محمد بن كعب القرظي فسمعته يقول: حدثني أبو هريرة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وسِّطوا الإمام وسدوا الخلل) .
فعلى ذلك لا يقال بمشروعية هذا، ولم يثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه.
نعم في الأصل في المسجد ينبغي أن يكون متوسطاً في المسجد (1) كما هي محاريب
المسلمين، وقد تناقله المسلمون خلفاً عن سلف من كون الإمام يكون في المسجد
في وسط المسجد، وأما كون هذا في الصفوف بحيث ينهى عن عدم ذلك، فهذا ليس
هناك ما يدل عليه.
مسألة:
إذا استوت الصفوف فهل يشرع أن يقول استووا ونحو ذلك - هذه المسألة في
الحقيقة فيها إشكال – والأولى فيما يظهر لي: أن يقول ذلك قبل أن ينظر إلى
الصفوف، فإذا أقيمت الصلاة وهم بالاستواء والاعتدال ثم تابع ذلك بالنظر
وحينئذ يكون قوله سابق لعدم تبينه استواء الصفوف، وحيث لم نقل بمثل هذا فإن
فيه شيئاً من النظر؛ لأن المقصود حاصل، والله أعلم.
ولو قيل: يترك ذلك لأنهم عالمون به فحقيقة هو قول قوي، والعلم عند الله.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الحادي والسبعون
(يوم الأحد: 21 / 3 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويقول: الله أكبر)
__________
(1) كذا العبارة في الأصل، ولعل الأقرب: الأصل في الإمام …، أو: الأصل في
المحراب ….
وهي تحريمة الصلاة كما ثبت عند الخمسة إلا
النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الصلاة
الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) (1) فبه (2) تثبت الحرمة في
الصلاة، فلا تنعقد الصلاة إلا بها اتفاقاً. فإن تركها ناسياً أو ساهياً لم
تصح صلاته.
ولا يصح إلا هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف " الله أكبر "، أما لفظة: الله
الأكبر أو الله أجل أو أعظم أو غير ذلك من الألفاظ، فإنها لا تجزئ، فلم
يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح صلاته بغير لفظة " الله أكبر "
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب
ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم
(14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح
االصلاة الطهور) .، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب (31) فرض الوضوء (61)
قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن
محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (مفتاح الصلاة..) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن
مفتاح الصلاة الطهور (3) . وابن ماجه برقم 275، سنن أبي داود [1 / 49] .
(2) الفاء حرف عطف، أي: به تثبت.. ".
(3) تقدم.
وحقيقة التكبير الشرعي أن يقول " الله أكبر
" فمتى قال غير ذلك من الألفاظ فإنه لا يجزئ، وقد ثبت في الصحيحين في حديث
المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا قمت إلى الصلاة
فكبر) (1) ، وفي أبي داود من حديث المسيء صلاته: (إنها لا تتم صلاة أحدكم
حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله) الحديث وفيه: (ثم يكبر الله عز وجل) (2) .
إذن: لا تنعقد الصلاة إلا بالتكبير " الله أكبر ".
فإن أتى به على صيغة الاستفهام كأن يقول " آلله أكبر " فلا يجزئه.
أو نكسه فلا يجزئه.
ولا يجزئه – اتفاقاً – إلا أن يقولها: قائماً في الفريضة، فإن قالها قاعداً
أو راكعاً وهو غير عاجز عن القيام فلا يجزئه.
قال: (رافعاً يديه … حذو منكبيه)
السنة أن يرفع يديه مع تكبيرة الإحرام حذو منكبيه أو حذو فروع أذنيه،
فكلاهما ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الصفة الأولى: أن يرفع يديه حذو منكبيه أي يكون الكفان حذو منكبيه.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم
يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من
الركوع ولا يفعل بين السجدتين) (3) .
والصفة الثانية: الرفع إلى حذو الأذن أو فروع الأذنين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم
(757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه
بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة (858) ، وانظر (857) باب صلاة من لا
يقيم صليه في الركوع والسجود.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (83) رفع اليدين في التكبيرة الأولى
مع الافتتاح سواء (735) ، وباب (84) رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع
(736) ، وأخرجه مسلم (390) .
ودليله ما ثبت في مسلم عن مالك بن الحويرث
قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة حذو
منكبيه) وفي رواية: (حذو أذنيه) وفي رواية (حذو فروع أذنيه) (1) أي شحمة
أذنيه.
فيرفع إلى حذو الأذنين أو فروعهما، والأمر واسع فله أن يكون حذو الأذنين
مباشرة أو فروعهما.
وجمع بعض أهل العلم من المالكية وغيرهم بين هاتين الصفتين.
فقالوا: تكون بطون الكفين حذو المنكبين وأطراف الأصابع حذو فروع الأذنين.
ويدل عليه ما رواه أبو داود من حديث عبد الجبار بن وائل عن وائل بن حجر
وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه وإنها حذو
فروع أذنيه) (2) لكن الحديث منقطع فيه ابن عبد الجبار بن وائل لم يدرك
أباه.
والأظهر أنهما ضعيفان، فالحديث ضعيف لا يثبت، فعلى ذلك هما ضعيفان،فأيهما
فعل فقد أصاب السنة.
والأفضل أن يفعل هذه تارة وهذه تارة.
وهل التكبير يكون سابقاً للرفع أو الرفع سابق للتكبير أو يكونا معاً؟
المشهور في المذهب: أنه يرفع يديه مع شروعه بالتكبير، فيبدأ برفع يديه مع
شروعه بالتكبير. فإذا انتهى التكبير يكون قد رفع يديه ثم يحطهما.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (9) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين
مع تكبيرة الإحرام.. (391) بلفظ " حتى يحاذي بهما أذنيه " وفي رواية: " حتى
يحاذي بهما فروع أذنيه ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (116) رفع اليدين في الصلاة (724)
بلفظ: " أنه أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قام إلى الصلاة رفع
يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم كبر ".
ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود من حديث
وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يرفع يديه مع التكبيرة) (1)
.
وقد وردت السنة بصفتين أخريين:
الثانية: أن يرفع ثم يكبر، فيكبر واليدان على ارتفاعهما ثم يحطهما.
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم
قام إلى الصلاة فرفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم كبر) (2) ونحوه من حديث
أبي حميد الساعدي في أبي داود والترمذي (3) وغيرهما.
وفي سنن أبي داود من حديث ابن عمر: (ثم كبر وهما كذلك) (4) أي وهما
مرفوعتان.
ومما يدل عليها كذلك حديث مالك بن الحويرث – في مسلم – (أنه رأى النبي صلى
الله عليه وسلم صلى فرفع يديه ثم كبر) (5)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (116) رفع اليدين في الصلاة (725)
قال: " حدثنا مسدد، حدثنا يزيد - يعني ابن زريع – حدثنا المسعودي، حدثني
عبد الجبار بن وائل، حدثني أهل بيتي عن أبي أنه حدثهم أنه رأى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع التكبيرة ".
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (9) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين..
(390) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع
يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبر.. "
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة (730) ،
والترمذي حديث 260، سنن أبي داود [1 / 467] .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (116) رفع اليدين في الصلاة (722)
. بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع
يديه حتى تكون حذو منكبيه ثم كبر وهما كذلك فيركع.. ".
(5) في صحيح مسلم عن ابن عمر قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر " وقد تقدم.
والصفة الثالثة - ولم أر أحداً من أهل
العلم قال بها -: وهي أن يكبر قبل رفع اليدين، فإذا كبر رفع يديه، وهي
ثابتة في مسلم من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر
ثم رفع يديه) (1) .
ولم أر أحداً من أهل العلم قال بها، لذا قال الموفق - وهو المشهور في
المذهب –: أنه إذا كبر وانتهى من التكبير ولم يرفع يديه فإن السنة قد فات
محلها، وهذا خلاف السنة فقد تقدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
كبر ثم رفع يديه.
فالسنة أن يرفع يديه حذو منكبيه.
فإن لم يستطع أن يرفعهما حذو منكبيه رفعهما بقدر الاستطاعة.
كما أنه إن لم يستطع أن يرفع يديه كلتيهما رفع ما يستطيع منهما بأن يرفع
يده الصحيحة وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم) (2) .
وإذا كان مغط ليديه بثوب ونحوه من برد وغيره مما يحتاج فيه إلى تغطية
اليدين فإنه يرفعهما بثوبه بقدر استطاعته.
لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث وائل بن حجر أنه أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الشتاء فرأيت
أصحابه يرفعون أيديهم في ثيابهم في الصلاة) (3) ، وهذا هو المشهور في
المذهب.
قال: (مضمومتي الأصابع ممدودة)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (391) ، وقد تقدم.
(2) متفق عليه، وقد ذكره في الأربعين النووية، وقد تقدم.
(3) أخرجه أبو داود في أول باب (117) افتتاح الصلاة من كتاب الصلاة برقم
(729) .
أما المد، فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي
بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قام
في الصلاة رفع يديه مداً) (1) وورد في الترمذي – هذا الحديث من حديث يحيى
بن اليمان وهو ضعيف وتفرد به عن الثقات، ورواه بنفس السند إلى أبي هريرة:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه نشراً) (2) أي مفرقة
لكن الحديث ضعيف لضعف يحيى ولكونه خالف الثقات.
وهنا قال: (مضمومة الأصابع)
أي يلصق أصابعه بعضها ببعض.
ولم أر في السنة ما يدل على ذلك.
والمشهور عند الشافعية: أنه يفرقها، وهو رواية عن الإمام أحمد، واستدلوا
بحديث أبي هريرة الذي تقدم ضعفه.
وذهب الأحناف: إلى أنه لا يتكلف ذلك، وهذا هو الراجح وأنه لا يتكلف ضماً
ولا تفريقاً بل يدعهما على طبيعتها من غير ضم ولا تفريق.
قال: (كالسجود)
__________
(1) أخرجه أبو داود في آخر باب (119) من لم يذكر الرفع عند الركوع (753)
بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل في الصلاة رفع يديه
مدا "، وأخرجه الترمذي حديث 239، وقال: " حديث أبي هريرة حسن "، والنسائي
حديث 884، سنن أبي داود [1 / 479] .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (63) ما جاء في نشر الأصابع عند
التكبير (239) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر
للصلاة نشر أصابعه " قال أبو عيسى: " حديث أبي هريرة حسن. وقد روى غير واحد
هذا الحديث عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا " وهذا أصح من رواية
يحيى بن اليمان، وأخطأ يحيى بن اليمان في هذا الحديث " وقال أيضا: " قال
عبد الله بن عبد الرحمن: وهذا أصح من حديث يحيى بن اليمان، وحديث يحيى بن
اليمان خطأ ". ا. هـ.
فالسجود يستحب له أن يفعل ما تقدم من كونه
يضم أصابعه ويجعلهما ممدتي الأصابع وأن يكون حذو منكبيه وسيأتي الدليل على
ذلك – عند الكلام على السنة في السجود.
قال: (ويسمع الإمام من خلفه)
لا زال الكلام في التكبير والسنة فيه.
فيسمع الإمام من خلفه فيرفع صوته بالتكبير لما ثبت في مسند أحمد أن النبي
صلى الله عليه وسلم: (كان يرفع صوته بالتكبير حتى يسمع من خلفه) (1)
والحديث صحيح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (2) .
فإن كان الإمام لا يسمع من خلفه فيلجأ إلى التبليغ بأن يرفع أحد المصلين
صوته بالتكبير، فهذا مشروع فقد ثبت هذا من فعل أبي بكر خلف النبي صلى الله
عليه وسلم كما في مسلم قال جابر: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم وأبو
بكر خلفه فإذا كبر النبي صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا) (3) فهذا
يدل على مشروعية التبليغ عند الحاجة إليه أما إن لم تكن هناك حاجة فإنه ليس
بمستحب باتفاق المسلمين كما قال ذلك شيخ الإسلام.
بل قد نص الحنابلة على أنه مكروه، بل هو بدعة محدثة في الدين.
قال: (كقراءته في أولتي غير الظهرين)
أي كما يرفع صوته في الركعتين الأوليين من غير الظهرين وهما الظهر والعصر،
وهذا من باب التغليب كما يقال " الفجران والقمران ".
فهنا يسمع الإمام من خلفه التكبير كما يسمعهم القراءة في الركعتين الأوليين
من صلاة المغرب والعشاء ومن صلاة الفجر، ورفع الصوت بالقراءة مشروع للإمام
بالإجماع في الركعتين الأوليين من غير الظهر والعصر.
قال: (وغيره نفسه)
أي غير الإمام وهو المأموم والمنفرد يسمع نفسه، فيجب على من كان مأموماً أو
منفرداً أن يسمع نفسه القراءة فيحرك لسانه بالحروف فينطق بها بحيث أنه يسمع
نفسه.
__________
(2) تفدم.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (19) ائتمام المأموم بالإمام (413)
بنفس اللفظ.
والمراد هنا: ما لم يكن هناك عارض يمنع من
سماع، فإن كان هناك عارض كأن يكون هناك أصوات أو لا يتمكن من إسماع نفسه
كالعاجز عن الكلام أو كان لا يسمع نفسه كغير السميع فإنه يتلفظ بالقراءة
والتكبير بحيث يسمع نفسه إن كان سميعاً أو يسمع نفسه لو لم يكن هناك هذا
العارض الذي يمنع السماع.
إذن: يرفع صوته بالقراءة والتكبير بحيث يسمع نفسه لو كان ليس ثمت عارض
يمنعه من السماع.
- واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية ومذهب بعض الأحناف وهو وجه عند
الحنابلة – كما قال شيخ الإسلام –: أنه يحرك لسانه بالحروف ولو لم يسمع
نفسه، فليس شرطاً أن يسمع نفسه، فالشرط هو أن ينطق بالحروف، والنطق بالحروف
هو تحريك اللسان بها وخروج الحروف من اللسان، فإذا خرجت الحروف من اللسان
وحرك اللسان بها، فإن هذا كاف ولو لم يسمع – وهذا هو الظاهر – فإن إسماع
نفسه لا دليل عليه.
وكونه قولاً، يثبت ذلك بمجرد إخراجه للحروف من لسانه، وليس بشرط القول
والكلام أن يسمع نفسه أو يسمع غيره، بل شرط ذلك أن يتكلم بالحروف بصوت،
فمتى خرجت الحروف وتحرك اللسان بها فهذا هو الكلام.
فإن كان ممن لا يمكنه أن يتكلم كأخرس أو نحوه: فإنه ينوي بقلبه التكبير ولا
يحرك لسانه في أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد، واختار ذلك الموفق.
والقول الثاني: أنه يحرك لسانه؛ لأن المتكلم يحرك لسانه فينطق، فكان عليه
أن يحرك لسانه كذلك، فكونه عاجز عن النطق لا يسقط عنه حركة اللسان.
لكن الراجح: القول الأول: وأنه لا يشرع أن يحرك لسانه بل ينوي بقلبه، لأن
تحريك اللسان بحيث لا فائدة منه.
وإنما يحرك المتكلم لسانه لتخرج الحروف فينطق بها وحيث لم يكن ذلك فإنه لا
فائدة من تحريك اللسان بالحروف.
وظاهر قوله: (وغيره نفسه) : إن هذا في المفرد مطلقاً سواء كان يصلي صلاة
سرية أو جهرية، فلا يشرع له الجهر بالقراءة، وسواء كانت أداءً أو قضاءً.
وظاهره أيضاً – وهو المذهب – أن المرأة لا
يشرع لها أن تجهر بصوتها مطلقاً سواء كانت في جماعة أو منفردة، وهو المشهور
في المذهب.
- واختار شيخ الإسلام: أن المرأة يشرع لها الجهر إن كانت تصلي في جماعة.
وهذا هو الظاهر: وأنها يشرع لها الجهر إن صلت في جماعة لمصلحة الإسماع،
ولأن النساء شقائق الرجال.
والصحيح أيضاً وهو قول في المذهب: أن المرأة يشرع لها أن تجهر مطلقاً وإن
صلت وحدها صلاة تجهر بها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني
أصلي) ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالصلاة فيشرع الجهر بها لمن
صلى وحده منفرداً، ذكراً كان أو أنثى.
وهذا أحد القولين في المذهب أيضاً: وأن المنفرد إذا صلى الصلاة الجهرية
فيشرع له الجهر، سواء كانت أداءً أو قضاءً، لحديث: (صلوا كما رأيتموني
أصلي) ، وهذا يدخل فيه المنفرد.
فإن قيل: إنما شرع الجهر لإسماع المأمومين؟
فالجواب: ليس هذا بمسلم، بل الأظهر أن هذا إنما شرع أصلاً، وإنما شرع
للإمام أن يزيد رفع صوته ليسمع المأمومين، وأما مجرد الجهر فإنه لا دليل
على أنه إنما شرع للإسماع، وإنما لهذه الصلوات خصيصة في الصوت بها حيث أنها
في وقت سكون وهدوء، فيشرع لمن لم يصل خلف الإمام أن يجهر، ويشرع للإمام أن
يزيد في الجهر.
فالراجح وهو قول في المذهب إنه يشرع في الصلاة الجهرية الجهر بما يصدق عليه
أنه جهر، وليس كجهر الإمام.
ومثله المرأة فيشرع لها إذا صلت في جماعة أو منفردة أن تجهر بصوتها بحيث
يصدق عليه أنه جهر لا برفع صوتها رفعاً شديداً، فذلك إنما يشرع للإمام، وهي
كذلك إذا صلت إمامة للنساء فيشرع لها أن تجهر بصوتها بحيث تسمع من خلفها.
وهذا الحكم حيث لم يكن هناك أجنبي، فإن كان هناك أجنبي فلا يشرع الرفع
مطلقاً سواء في جماعة أو غيرها؛ لكونه ينافي ما تؤمر به المرأة من الستر
ولما في ذلك من دواعي الفتنة.
مسألة:
والمذهب قولاً واحداً في أن رفع اليدين
مشروع للإمام والمأموم والمنفرد؛ لعمومات الأحاديث.
لكن اختلفوا في المرأة: هل تدخل في ذلك أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: أنها ترفع يديها، وقد رواه الخلال عن أم الدرداء وحفصة بنت
سيرين (1) وكانتا فقيهتين وهو قول طاووس.
ودليله: أن النساء شقائق الرجال، وأنهن مأمورات بالاقتداء بالنبي صلى الله
عليه وسلم كما أن الرجال مأمورون بذلك: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولا دليل
يخصص الرجال بهذا الحكم، والأصل أن النساء شقائق الرجال ولا دليل على
التخصيص.
القول الثاني: أنه لا يشرع لهن ذلك كالتجافي الذي تنهى عنه المرأة وذلك
لكونه ينافي الستر.
والراجح القول الأول؛ لأن هذا لا ينافيه مطلقاً إلا إذا كان هناك أجنبي.
فإن كان هناك أجنبي فلا يشرع لها ذلك؛ لأنه قد يظهر شيء منها فلا يشرع ذلك.
أما إن لم يكن هناك أجنبي فيشرع لها ذلك.
إذن: إنما تمنع المرأة عن التجافي ورفع اليدين ونحو ذلك مما فيه منافاة
للستر من أحكام الصلاة حيث كان هناك أجنبي، أما إذا لم يكن هناك أجنبي فلا
معنى لمنعها، والأصل بقاؤها على حكم الرجال إلا أن يدل دليل على التخصيص،
ولا دليل.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثاني والسبعون
(يوم الاثنين: 22 /3 /1415هـ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: (ثم يقبض على كوع يسراه تحت السرة)
الكوع: هو العظم الناتئ الذي يقابل الإبهام وهو عند الرسغ.
وهذه الجملة فيها ثلاثة مسائل:
المسألة الأولى:
أن المستحب للمصلي أن يضع يده اليمنى على
يده اليسرى في الصلاة. فقد ثبت في البخاري عن سهل بن سعد قال: (كان الناس
يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) (1) ، وفي
مسلم من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (وضع يده اليمنى
على يده اليسرى في الصلاة) (2) فالمستحب أن يضع يده اليمنى على اليسرى فلا
يرسل يديه.
المسألة الثانية:
في صفة الوضع: فيها صفتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم:
الصفة الأولى: القبض، فيقبض بيمينه على شماله بأن يمسك كف اليسرى بباطن كف
اليمنى.
ودليلها: ما ثبت في سنن النسائي من حديث وائل بن حجر قال: (رأيت النبي صلى
الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة يقبض بيمينه على شماله) (3) .
الصفة الثانية: أن يضع يده اليمنى من غير قبض على كفه اليسرى والرسغ
والساعد.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (87) وضع اليمنى على اليسرى (740)
بلفظ: " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في
الصلاة ".
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (15) وضع يده اليمنى على اليسرى بعد
تكبيرة الإحرام.. (401) بلفظ " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع
يديه حين دخل في الصلاة كبَّر - وصف همَّام حيال أذنيه - ثم التحف بثوبه،
ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب.. "
(3) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (9) وضع اليمين على الشمال في
الصلاة (887) ، عن وائل بلفظ: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا
كان قائما في الصلاة قبض بيمينه على شماله ".
ودليلها: ما ثبت في سنن النسائي: من حديث
وائل بن حجر، وهو حديث طويل وفيه: (وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ
والساعد) (1)
المسألة الثالثة:
في محل الوضع، هل المستحب أن يده على الصدر أو تحت السرة أو فوقها تحت
الصدر؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم:
1- المشهور عند الحنابلة: أن المستحب أن يضع يديه تحت السرة.
واستدلوا:
بما روى أحمد وأبو داود عن علي قال: (من السنة وضع اليمنى على الشمال تحت
السرة) (2) وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك الحديث، فعلى ذلك
إسناده ضعيف جداً.
2- القول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو المشهور عند الشافعية: أنه
يضعهما فوق سرته وتحت صدرته (3) .
واستدلوا:
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (11) موضع اليمين من الشمال في
الصلاة (889) بلفظ: " أن وائل بن حجر أخبره قال: قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي، فنظرت إليه فقام فكبر ورفع يديه حتى
حاذتا بأذنيه ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد، فلما أراد
أن يركع … ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (120) وضع اليمنى على اليسرى في
الصلاة (756) قال: " حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا حفص بن غياث، عن عبد
الرحمن بن إسحاق، عن زياد بن زيد، عن أبي جُحيفة، أن عليا رضي الله عنه
قال: " من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة ".
(3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: صدره.
بما رواه ابن خزيمة عن وائل بن حجر قال:
(صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره)
(1) ، والحديث فيه مؤمل بن إسماعيل وهو ضعيف لكن له شاهدان:
الشاهد الأول: عند أحمد مرفوعاً وموصولاً من حديث هُلْب الطائي لكن الحديث
ضعيف.
والثاني عند أبي داود من حديث طاووس مرسلاً وسنده صحيح إلى طاووس، ويصلحان
شاهدين له فيكون الحديث حسناً بشواهده فالحديث من ثلاثة أوجه.
لكن الاستدلال به على هذا القول فيه نظر؛ لأن أهل هذا القول لا يقولون بأنه
يضع يديه على الصدر بل تحت الصدر وفوق السرة.
وإنما يصلح دليلاً لأهل القول الثالث، وهو قول للشافعي وقول إسحاق بن
راهوية وهو مذهب لبعض المالكية: أن السنة أن يضع اليدين على الصدر.
وهذا أوجهها لما تقدم فالحديث حسن بشاهديه، ولم يعارضه معارض ينظر فيه،
والحديث المتقدم إسناده ضعيف جداً.
فالراجح: أن السنة أن يضع يديه على صدره أي بأن يضعهما قريباً من النحر على
عظام الصدر وبين الثندؤتين.
قال: (وينظر مسجده)
هذه سنة من سنن الصلاة وهي أن ينظر إلى مسجده أي إلى موضع سجوده.
قالوا: لأن ذلك أخشع للصلاة، وهو كذلك أبعد عن النظر إلى السماء المنهي عنه
وهي حالة يتبين فيها خشوع الأعضاء لله عز وجل، وقد وردت فيها بعض الآثار.
__________
(1) وأخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب 120، (759) قال: " حدثنا أبو توبة،
حدثنا الهيثم - يعني ابن حميد - عن ثور، عن سليمان بن موسى، عن طاووس، قال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم
يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة ".
فقد روى البيهقي عن سليمان الخولاني عن أبي
قلابة قال: حدثني عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النبي
صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين -
يعني عمر بن عبد العزيز – قال سليمان: (فرمقت عمر في صلاته فكان ينظر إلى
موضع سجوده) (1) والحديث فيه صدقة وهو ضعيف.
لكن له شاهد مرسل عند الحاكم، ورواه الحاكم موصولاً من حديث أيوب عن محمد
بن سيرين عن أبي هريرة وقد أخطأ بعض الرواة فوصله، وعامة الرواة أنه مرسل،
قال الذهبي: " والصحيح مرسل ".
ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء فلما نزلت:
{قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} طأطأ رأسه) (2) فهذا يدل على
أنه يطأطأ رأسه وحيث كان كذلك فإن بصره إلى موضع سجوده.
إذن: المستحب كما قرر الحنابلة ويد عليه ما تقدم من الآثار ويعضدها المعنى:
أن المستحب للمصلي أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، سوى ما يأتي من التشهد من
كونه يستحب له أن يرمي ببصره إلى السبابة كما ثبت هذا في صحيح ابن خزيمة
وسيأتي.
قال: (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك)
" سبحانك اللهم ": أي تنزيهاً لك اللهم.
" وبحمدك ": أي وبحمدك سبحتك.
" وتبارك اسمك ": أي كثر خير أسمائك وثبت.
" وتعالى جدك ": أي تعالت عظمتك وشرف قدرك.
" لا إله غيرك ": أي لا إله في الوجود على الحقيقة غيرك.
هذا هو الاستفتاح، فيستحب أن يستفتح الصلاة بشيء مما ورد من الاستفتاحات عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [2 / 402] كتاب الصلاة، باب (369) لا
يجاوز بصره موضع سجوده (3543) قال البيهقي: " وليس بالقوي ".
وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث عائشة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يستفتح صلاته فيقول: (سبحانك اللهم
وبحمدك) (1) الحديث.
وهو ثابت عند الخمسة من حديث أبي سعيد الخدري (2) وهو ثابت من قول عمر في
مسلم منقطعاً ووصله الدارقطني بإسناد صحيح: (أن عمر كان يستفتح بسبحانك
اللهم يجهر بذلك يُسمعنا ويُعلمنا) (3)
وقد اختاره الإمام أحمد لكون عمر كان يعلمه الصحابة وإلا فسائر الاستفتاحات
الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسنة، بل السنة أن يفعل هذا تارة وهذا
تارة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (122) من رأى الاستفتاح بسبحانك
اللهم وبحمدك (776) .قال أبو داود: " وهذا الحديث ليس بالمشهور عن عبد
السلام بن حرب، لم يروه إلا طلق بن غنام، وقد روى قصة الصلاة عن بديل جماعة
لم يذكروا فيه شيئا من هذا ". سنن أبي داود [1 / 491] .
(2) أخرجه أبو داود في الباب السابق حديث (775) بلفظ: " كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل كبر ثم يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك
وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ثم يقول: (لا إله إلا الله) ثلاثا ثم
يقول: (الله أكبر كبيرا) ثلاثا، ثم (أعوذ بالله السميع العلم من الشيطان
الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) ثم يقرأ "، وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي
حديث 242، سنن أبي داود [1 / 490] .
(3) قال الإمام مسلم في صحيحه في باب (13) حجة من قال لا يجهر بالبسملة
(399) : " حدثنا محمد بن مهران الرازي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا
الأوزاعي، عن عبدة: أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: "
سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ". وأخرجه
الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب (28) دعاء الاستفتاح بعد التكبير
(1138) .
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كبر للصلاة سكت هنيهة فسألته فقال:
أقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم
نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي
بالماء والثلج والبرد) (1) ، وهي أنواع كثيرة هذا منها.
ولعل عمر إنما كان يستفتح بما تقدم لسهولة حفظه ولما فيه من الوحدانية لله
والتعظيم له، ولذلك اختاره الإمام أحمد واستحسن غيره من الاستفتاحات
الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذن: الاستفتاح سنة.
والسنة فيه الإسرار كما تقدم من حديث أبي هريرة فإنه قال: (سكت هنيهة) فلم
يكن يسمعه، وإلا لم يحتج إلى سؤاله.
وإنما كان عمر يجهر به للتعليم، فحيث كان ذلك بأن يكون الناس محتاجين إلى
تعليم فلا بأس به فهو فعل عمر، وإلا فالسنة الإسرار.
ومن مسائله:
أنه إن نسيه أو تركه عمداً حتى شرع في الاستعاذة فلا يشرع له أن يستفتح
بعد؛ لأنها سنة وقد فات محلها – كما قرر هذا الحنابلة وغيرهم.
قال: (ثم يستعيذ)
يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم للقراءة قال تعالى {فإذا قرأت القرآن
فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (2)
وثبت عند الخمسة من حديث أبي سعيد الخدري:أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقول في استعاذته في الصلاة: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
من همزه ونفخه ونفثه) (3)
همزه: أي الجنون وهو مس الجن.
ونفخه: وهو الكبر، ونفثه: وهو الشعر القبيح، والحديث حسن.
فهذا مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (89) ما يقول بعد التكبير (744) ،
وأخرجه مسلم (598) في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام
والقراءة. وفيهما: ".. سكت هُنيَّة.. "
(2) تقدم قريبا في الحاشية (158) .
فإن استعاذ بقول: (أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم) فهو حسن أيضاً لقوله تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}
وإن قال: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) فهو حسن أيضاً
لورود آية أخرى فيه.
وهل هي سنة أم واجب؟
جمهور أهل العلم: أنها سنة، وهي عندهم سنة في القراءة مطلقاً في الصلاة
وغيرها.
وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من كبار أصحابه المتقدمين وهو مذهب الظاهرية
ومذهب عطاء: أنها واجبة للأمر القرآني: {فاستعذ بالله} وظاهر الأمر الوجوب،
وهو قول قوي.
واختلف أهل العلم هل تشرع الاستعاذة في كل ركعة أم لا تشرع إلا في الركعة
الأولى؟
- المشهور عند الحنابلة: أنها لا تشرع إلا في الركعة الأولى، أما في
الركعات الثانية فلا يقال باستحباب ذلك وتأكيده فإن فعل فذلك حسن وإلا فلا
يقال بمشروعيته كمشروعيته في الركعة الأولى.
واستدلوا: بما رواه مسلم عن أبي هريرة: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا نهض من الركعة الثانية استفتح بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت) (1)
قالوا: هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بالحمد لله رب
العالمين ولا يسكت، والاستعاذة تحتاج إلى سكوت.
- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية: أنه يشرع له
أن يستعذ في كل ركعة.
ذلك لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (2) وظاهر الآية أنه
يشرع له كلما قرأ أن يستعيذ، وكل ركعة لها قراءتها فإن بين الركعات فواصل
من ركوع وسجود وقيام ونحو ذلك وذكر ونحوه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام
والقراءة (599)
بخلاف سجدة التلاوة، فإن سجدة التلاوة التي
تخلل الصلاة من متعلقات القراءة فهي سجدة للقراءة، أما هذا السجود وهذا
القيام والركوع في الصلاة فهي منفصلة عنها، فالقراءة ركن كما أن ما تقدم
ذكره أركان من أركانها فليست بمتصلة فيها إلا حديث أنها من الصلاة، ففرقٌ
بينهما.
وأجابوا عن الحديث المتقدم: بأن قول أبي هريرة: (لم يسكت) أي لم يسكت
سكوتاً كسكوته في الركعة الأولى وهو السكوت الذي نقله هنا، فإنه سأل النبي
صلى الله عليه وسلم عن سكوته في الصلاة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم
أنه يقول: (اللهم باعد ….) ، فقد سأله عن تلك السكتة لكونها سكتة خارجية عن
طبيعة السكوت الذي يكون الذي يكون قبيل القراءة، وأما المذكور في قوله:
(ولم يسكت) أي لم يسكت كسكوته في الاستفتاح ولهذا نجمع بين الآية وبين ما
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فيكون قول أبي هريرة " لم يسكت " أي لم يسكت سكوتاً خارجاً عن السكوت
الطبيعي الذي يكون قبيل القراءة للاستعاذة والبسملة، وإنما شرع بالحمد لله
رب العالمين لم يسكت كسكوته الأول للاستفتاح فيكون ذلك لنفي الاستفتاح وأنه
إنما هو مشروع في الركعة الأولى دون الركعات الأخر.
وهذا القول هو الأرجح وأنه يستعيذ في كل ركعة.
قال: (ثم يبسمل سراً وليست من الفاتحة)
أي يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " يقولها سراً.
أما كونه يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم "
لما ثبت في النسائي عن نعيم المجمر قال: (صليت وراء أبي هريرة فقرأ " بسم
الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القرآن) وفيه أنه قال بعد ذلك " والذي
نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1)
ولأن البسملة يشرع أن يفتتح بها السور مطلقاً كما ثبت في مسلم وغيره من
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم {إنا أعطيناك الكوثر} لما نزلت عليها (2)
فقرأ: (" بسم الله الرحمن الرحيم " {إنا أعطيناك الكوثر} …) (3)
وثبت في أبي داود بإسناد صحيح إلى أن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله
عليه وسلم لا يعرف الفصل بين السور إلا إذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم)
(4)
فهي مما تفتتح به السور وهو كذلك فاصل بين السور.
ومشروعية البسملة مما اتفق عليه أهل العلم.
" سراً ": لا جهراً، فلا يشرع الجهر بها.
وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
1- فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وأهل العلم: إلى القول باستحباب
الإسرار بالبسملة وعدم مشروعية الجهر بها وهو مذهب الحنابلة.
واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا
بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) (5) .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (21) قراءة بسم الله الرحمن
الرحيم (905) قال: " أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، حدثنا
الليث، حدثنا خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال: صليت.. "
(2) كذا في الأصل، ولعلها: عليه.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (14) حجة من قال: البسملة آية من أول
كل سورة سوى براءة (400) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (125) من جهر بها (788) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (89) ما يقول بعد التكبير (743) .
ومسلم (399) .
زاد مسلم: (لا يذكرون بسم الله الرحمن
الرحيم في أول القراءة ولا آخرها) وفي أحمد والنسائي: (لا يجهرون ببسم الله
الرحمن الرحيم) (1) وعند ابن خزيمة: (يسرون) (2) .
وثبت في الترمذي من حديث ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا في
الصلاة أقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال أي بني محدث إياك والحدث
قال: ولم أر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث
في الإسلام منه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر
ومع عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها " جهراً " فلا تقلها إذا أنت صليت
فقل: " الحمد لله رب العالمين " (3) والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال وأما
ما ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما: أن الحديث فيه جهالة ابن عبد الله،
فإن هذا ليس بصحيح، كما قرر ذلك الزيلعي، وأن ابن عبد الله بن مغفل قد روى
عنه ثلاثة فزالت عنه بذلك جهالة العين، ولم يأت بحديث منكر بل أحاديثه كلها
مستقيمة تجد لها المتابع والشاهد فليس من أحاديثه ما ينكر عليه، وقد حسن
حديثه الترمذي وهذا حديث يوافق ما ثبت عن أنس؛ فالحديث حسن لا بأس به.
2- والقول الثاني، وهو مذهب الشافعية فقالوا بمشروعية الجهر بالبسملة.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (22) ترك الجهر ببسم الله الرحمن
الرحيم (907) بلفظ: " عن أنس قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- …. فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ".
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (66) ما جاء في ترك الجهر ببسم الله
الرحمن الرحيم (244) بنفس اللفظ، قال أبو عيسى: " حديث عبد الله بن مغفل
حديث حسن ".
وعامة أدلتهم لا تصح ولا تثبت عن النبي صلى
الله عليه وسلم فكلها موضوعة أو ضعيفة كما قرر هذا شيخ الإسلام وغيره. إلا
ما رواه النسائي وغيره بسنده الصحيح إلى نعيم المجمر: قال صليت وراء أبي
هريرة فقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القرآن وفيه أنه قال:
(إني أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1)
قالوا: فهذا يدل على مشروعية الجهر إذ لو لم يجهر أبو هريرة لم يسمعه نعيم
وقد عزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إني لأشبهكم)
لكن الحديث ليس بصريح في الدلالة:
فيحتمل أن يكون نعيم قد سمعه وهو يسر بها وكان من الصالحين وكان هو الذي
يجمر مسجد المدينة فلا يبعد أن يكون قريباً من أبي هريرة فسمعه وهو يقولها،
كما سمع رجل أبا بكر في الركعة الثالثة من صلاة المغرب وهو يقرأ {ربنا لا
تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (2) .
ثم إن نعيماً قد تفرد برواية هذه اللفظة عن سائر الرواة عن أبي هريرة كما
قرر ذلك ابن القيم، فكل الرواة لم يذكروا هذه اللفظة وتفرد بها نعيم فكانت
مظنة الضعف، وقد خالفها ما تقدم من الأحاديث الصحيحة.
وهناك احتمال آخر وهو أن أبا هريرة إنما جهر بها للتعليم، وللإخبار بأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها كما كان عمر يجهر بالاستفتاح للتعليم.
وقد قال: " إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم "
والمشابهة لا تقتضي المماثلة.
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) قال شيخنا في شرحه للزاد الذي شرحه عام 1420 في رأس الخيمة ما نصه: "
كما سمع مَنْ سمع أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو يقرأ: {ربنا لا تزغ
قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} ، وكان رضي
الله عنه يقرأ هذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب كما في موطأ
الإمام مالك بإسناد صحيح ". وقد رواه مالك في موطئه في باب القراءة في
المغرب والعشاء (170) من كتاب الصلاة.
فالأحاديث التي استدلوا بها: إما أحاديث
ضعيفة وعامتها كذلك، أو صحيحة وليست صريحة وهذا إنما هو حديث نعيم المجمر
مع ما تقدم من تفرد نعيم وهو مظنة الضعيف، وعلى القول بقبوله وتحمل تفرده
فله احتمالان:
أن يكون سمعه وهو قريب منه يسرّ بها.
أن يكون إنما جهر بها للتعليم كفعل عمر ولم يخبرهم بذلك لكونهم قد تقرر
عندهم عدم مشروعية ذلك وأن هذا من الأمور المحدثة والعلم عند الله تعالى.
قال: " وليست من الفاتحة ":
فهي ليست من الفاتحة كما هو مذهب الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام.
كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: العبد الحمد لله رب
العالمين قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: " أثنى
عليَّ عبدي " (1) الحديث
ولم يذكر البسملة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (11) وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة..
(395) بلفظ: " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى
صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) ثلاثا، غير تمام، فقيل لأبي هريرة:
إنا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي
نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين} قال الله
تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى: أنثى علي
عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي - وقال مرة: فوَّض إليَّ
عبدي - فإذا قال {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي
ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) .
وقد تقدم أنها إنما نزلت للفصل بين السور
كما قاله ابن عباس (1) .
ولو قلنا إنها من الفاتحة لوجبت قراءتها وكانت فريضة سواء قلنا بالإسرار أو
الجهر، ولقلنا بالجهر بها لأنها أسوة غيرها من آيات الفاتحة.
لكن الراجح ما تقدم وأنها ليست بآية من الفاتحة (2) .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الثالث والسبعون
(يوم الثلاثاء: 23 / 3 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يقرأ الفاتحة)
فيقرأ المصلي فاتحة الكتاب فرضاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن
لا يقرأ بأم القرآن) (3) متفق عليه.
وقد اتفق أهل العلم على فرضية قراءتها على الإمام والمنفرد.
واختلفوا في حكم قراءتها على المأموم:
- والمشهور في المذهب: عدم وجوب قراءتها عليه، وسيأتي البحث في هذا عند قول
المؤلف في باب صلاة الجماعة " ولا قراءة على مأموم "
فإذن: يقرأ الفاتحة بشداتها وآياتها كلها وقد تقدم أن " بسم الله الرحمن
الرحيم " ليس منها فيقرأ من قوله {الحمد لله رب العالمين} إلى {ولا
الضالين} وأما لفظة " آمين " فهي ليست من الفاتحة إجماعاً.
وشدات الفاتحة إحدى عشرة شدة – وإذا أسقط شدة فقد أسقط حرفاً، ومتى أسقطها
فقد أنقص في قراءتها.
__________
(1) رواه أبو داود وقد تقدم.
(2) قال شيخنا في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه عام 1420 في رأس الخيمة ما
نصه " وأما ما رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وفيه أن البسملة إحدى
آياتها، فإن الحديث معلول، والصواب وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه، فلا
يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ذكر هذا غير واحد من
الحفاظ ".
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم
(756) بلفظ: " عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وأخرجه مسلم (394) .
ويقرأها قراءة عربية لا تحيل المعاني، فإذا
قرأها قراءة غير عربية لم تجزئه لقوله تعالى: {قرآناً عربياً} (1) وقال
تعالى: {بلسان عربي مبين} (2) ولا يكون قرآناً إذا قرأ بغير العربية أي
ترجم؛ للآية المتقدمة، فإذا قرأ بغير العربية لم يجزئه.
وإذا قرأ بالعربية ولحن فإن قراءته إن كان اللحن فيها يحيل المعاني فإنها
لا تصح فإذا قال: {أنَعمتُ} أو {إياك} (3) ونحوها، فإن القراءة لا تصح، لأن
هذه تحيل المعاني.
أما إذا كان لا يحيل المعنى فالقراءة لا تبطل به.
ويجب أن يقرأها مرتبة متوالية فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها
كذلك وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (4) .
فإن كان غير حافظ للفاتحة فيجب عليه أن يتعلمها ما لم يتضايق الوقت، لأن ما
لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أما إذا ضاق الوقت فإنه يصلي على حسب حاله.
* وهنا مسائل يذكرها الفقهاء عند هذه المسألة:
فمنها: إذا كان يحسن من الفاتحة آية فأكثر فإنه يقرؤها لقوله تعالى:
{فاتقوا الله ما استطعتم} (5) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر
فاتقوا منه ما استطعتم) (6)
وهل يجب عليه أن يكررها بقدر الفاتحة؟
__________
(3) قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره [1 / 24] : " وقرأ عمرو بن فايد
بتخفيفها مع الكسر، وهي قراءة شاذة مردودة، لأن إيا ضوء الشمس، وقرأ بعضهم
" أياك " بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم " هياك " بالهاء بدل
الهمزة، كما قال الشاعر: فهياك والأمر الذي إن تراحبت موارده ضاقت عليك
مصادره ".
(4) أخرجه البخاري رقم (631) في كتاب الأذان / باب (18) وسيأتي في صْ 181.
(5) سورة التغابن.
(6) تقدم، وهو متفق عليه، وقد ذكره النووي في الأربعين.
- قال الفقهاء: يجب أن يكررها بقدر الفاتحة
سواء كان يحسن غيرها أم لم يكن يحسنه، فإذا كان يحفظ آية فإنه يجب أن
يكررها سبعاً، سواء كان يحسن آيات من غير هذه السورة أم لم يكن ذلك.
- وهناك قول في المذهب: أنه يتم قدر الفاتحة فيما يحفظه من القرآن، وهذا
أظهر، لأنه إذا قرأ منها ما يحفظه فإنه يسقط فرضه؛ لأن الواجب هو قراءتها
وحيث قرأه فإنه يسقط بذلك فرضه حيث قرأه فكان الأولى أن يأتي بآيات أخر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله)
(1) فهنا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم القول ولم يقيد التكرار في مثل
الفاتحة وغيرها، وظاهر إطلاقه أنه يقرأ ما يتمكن منه من القرآن من غير أن
يكرر ذلك، بل يقرأ ما أمكنه منه ويسقط عنه الباقي، وحيث أنه يمكنه أن يتم
قدر الفاتحة بآيات أخر فإنه يتمها؛ لأن البدل له حكم المبدل منه.
أما إذا كان لا يحفظ منها إلا بعض آية، فإنه لا يقرأ ذلك ولا يكرره، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لما علم من لا يحسن شيئاً القرآن علمه الذكر،
وفيه لفظة " الحمد لله " وهي بعض من آية من الفاتحة ومع ذلك لم يأمره
بتكرارها ولم يجعلها قائمة مقام التكرار، بل كانت من الذكر المجزئ عن
القرآن.
فإن كان لا يحفظ من الفاتحة شيئاً قرأ من غيرها بقدرها.
والمذهب قولاً واحداً في عدد آياتها أي لا تجزئه إلا أن يقرأ عدد آياتها أي
بأن يقرأ سبع آيات.
وهل يجزئه أن تكون هذه الآيات أنقص حروفاً من الفاتحة أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: أن الواجب أن تكون بعدد حروفها فأكثر.
القول الثاني: أنه يجزئ أن تكون أقل منها حروفاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في
الركوع والسجود (861) .
والقول الأول هو الأحوط وهو أن يختار آيات
بعدد حروفها فأكثر، أي أن تكون الآيات سبعاً وتكون ما تضمنته من الحروف
مساوية لما تضمنته سورة الفاتحة فأكثر؛ لأن الحرف له أثر في القراءة بدليل
إن قرأ حرفاً من القرآن كان له حسنة والحسنة بعشر أمثالها كما ثبت في
الحديث (1) هذا هو الأظهر لأن البدل له حكم المبدل منه.
ولو قيل: إنه لا يجب عليه ذلك مطلقاً لا في حروفها ولا في آياتها لكان فيه
قوة، لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإن كان معك قرآن فاقرأ)
(2) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يكون ذلك بقدر الفاتحة.
إلا أن يقال: إن البدل له حكم المبدل منه وهنا يمكنه أن يقرأ بقدر فاتحة
الكتاب وحيث أمكنه ذلك فإنه يجب عليه أن يفعله ليكون ذلك قائماً مقام فاتحة
الكتاب وهذا هو الأحوط.
فإن لم يكن معه إلا بقدر بعض الفاتحة، فإنه يكررها كما تقدم.
والأظهر كذلك أنه لا يكرر لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كان معك قرآن
فاقرأ) فأطلق.
كأن يكون رجل يحفظ ثلاث آيات مثلاً من غير الفاتحة فإنه يقرأ هذه الثلاث
ويكتفي بها من غير تكرار.
وإن لم يكن معه شيء من القرآن فإنه يجزئه الذكر الوارد، وهو ما ثبت في سنن
أبي داود والحديث حسن، من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلاً قال للنبي
صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لا أحسن شيئاً من القرآن فعلمني ما
يجزئني منه فقال: (قل سبحان الله والحمد لله ولا إله الله والله أكبر ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (3)
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) تقدم.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (139) ما يجزئ الأمي والأعجمي من
القراءة (832) بنفس اللفظ إلا أنه في بدايته قال: جاء رجل إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - فقال:إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما
يجزئني منه.. "
فإن لم يحسن شيئاً من ذلك كحديث عهد بإسلام
لا يحسن العربية ونحوه فإنه يقف بقدر فاتحة الكتاب لأن الواجب القيام
والقراءة وحيث سقطت عنه القراءة فيجب عليه القيام بقدرها لقوله تعالى:
{فاتقوا الله ما استطعتم} ولحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)
.
وإن لقن من خارج عن الصلاة فإن ذلك يجزئه، كما لو فتح أحد على الإمام وهو
خارج عن الصلاة فكذلك هنا.
وإن كان يمكنه أن يصلي خلف إمام يحسن الفاتحة وقلنا: إن الفاتحة لا تجب خلف
الإمام كما هو المشهور في المذهب، فإنه يجب عليه ذلك.
قال: (فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال …)
" بذكر ": كأن يسأل الله الرحمة أو يستعيذ به من النار أو يدعو الله ونحو
ذلك.
" أو سكوت ".
" غير مشروعين ": فليس من السنة وليس مما فيه مصلحة الصلاة وليس مما تبطل
به الصلاة وسيأتي في بابه.
فمثلاً: قرأ آيتين من الفاتحة ثم يسكت سكوتاً طويلاً عرفاً غير مشروع، أو
يتكلم بذكر الله ذكراً غير مشروع طويلاً عرفاً فإن الفاتحة تبطل ويجب أن
يعيدها.
إذن: لا تبطل الفاتحة بالقطع إلا إذا كان القطع طويلاً عرفاً وكان القطع
غير مشروع.
فعندنا ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أن يكون القاطع قصيراً عرفاً، كأن يسكت سكتة وإن كانت غير
مشروعة أو تكلم بذكر وإن كان غير مشروع وكان يسيراً عرفاً فإن الفاتحة
صحيحة ولا يجب إعادتها وهذا القاطع لا يضره لأنه يسير.
قالوا: لأن الواجب في الفاتحة موالاتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(صلوا كما رأيتموني أصلي) .
والموالاة ألا يكون هناك قاطع عرفاً، وحيث كان القاطع يسيراً فإن المولاة
لا تنتفي بذلك، فالموالاة في الشيء لا تنتفي بالقاطع اليسير.
الحالة الثانية: أن يكون القاطع مشروعاً وهو طويل عرفاً فتصح.
مثال: أن يقرأ بعض الفاتحة ثم سكت سكوتاً
طويلاً ليسمع قراءة الإمام، فهذا سكوت مشروع له؛ لأنه يشرع أن يستمع قراءة
إمامه فحينئذٍ لا تبطل بذلك الفاتحة.
هذا هو المشهور في المذهب.
والأظهر أنه يبطل الفاتحة ويجب عليه أن يستأنفها؛ ذلك لأنه وإن كان مشروعاً
لكنه قاطع عرفاً والموالاة تنتفي وهي واجبة، وحيث قطعه بقاطع طويل عرفاً
وإن كان مشروعاً فإنها تنتفي.
ومثله على الراجح – خلافاً للمشهور من المذهب - لو كان القاطع طويلاً عرفاً
وهو معذور فيه كأن يسكت عن نسيان أو يخطئ فيقرأ في سورة أخرى وكان ذلك
طويلاً عرفاً، فإنه يقطع القراءة فهو وإن كان معذوراً في نسيانه لكن
الموالاة قد انقطعت فيجب عليه أن يستأنف القراءة من الجديد (1) لانقطاع
موالاتها.
فالواجب شرعاً هو الموالاة وحيث قطعها بقاطع طويل سواء كان مشروعاً وسواء
كان معذوراً فيه أم لم يكن معذوراً فيه فإنه يجب أن يستأنف قراءته من جديد
لفساد الموالاة وانتفائها.
الحالة الثالثة: أن يكون القاطع يسيراً وهو مشروع، فلا تؤثر في الموالاة
وهو أولى من الصورة الأولى لكونه مشروعاً.
فلو قطع الفاتحة بقوله: " آمين " مع تأمين الإمام، أو فتح على الإمام في
قراءته – فإن هذا لا يؤثر في الموالاة – لأنه قاطع يسير.
إذن: مناط الحكم – على الراجح – أن يكون القاطع يسيراً فحينئذٍ لا يكون
مؤثراً سواء كان مشروعاً أم لم يكن مشروعاً.
فالعبرة بطول القاطع، فإن كان طويلاً عرفاً فإنه يفسد الموالاة فيجب
استئناف القراءة وإن كان قصيراً فلا يجب ذلك.
قال: (أو ترك منها تشديدة، أو حرفاً أو ترتيباً لزم غير مأموم إعادتها)
" ترتيباً ": كأن يقدم ما حقه التأخير من آياتها أو يؤخر ما حقه التقديم،
فيلزمه الإعادة إن كان غير مأموم.
ويستثنى المأموم؛ لأنه لا يجب عليه القراءة خلف الإمام، على المشهور في
المذهب.
وقوله: " إعادتها " يعود على الفاتحة.
__________
(1) كذا في الأصل.
وحيث قلنا بأن المأموم يجب عليه أن يقرأ
بفاتحة الكتاب والحكم كذلك فكذلك هنا فيجب عليه أن يعيد إن أخطأ بما
يبطلها.
قال: (ويجهر الكل بآمين) في الجهرية.
" آمين " بمعنى اللهم استجب.
وفيها ضبطان وكلاهما بتخفيف الميم.
الأول: القصر: وهو بهمزة الوصل " أمين "
الثاني: المد " آمين " وهما لغتان فيها ولكن مع تخفيف الميم.
أما إذا شدد الميم فإن المعنى يتحول إلى معنى آخر وهو " قاصدين " كما قال
تعالى: {ولا آمَّين البيت} (1) أي قاصدينه.
أي من القراءة قرأ فهي صحيحة (2) .
فيجهر الكل من إمام ومنفرد حيث جهر ومأموم، فكل من جهر أو جهر له من إمام
أو مأموم أو منفرد فيشرع له الجهر بالتأمين.
ودليل مشروعية التأمين: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له)
(3)
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله
قول الملائكة غفر له) (4)
__________
(2) أي سوى قراءة التشديد.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (111) جهر الإمام بالتأمين (780)
بلفظ: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له
ما تقدم من ذنبه) ، وانظر (6402) ، وأخرجه مسلم (410) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (113) جهر المأموم بالتأمين (782)
بلفظ: (إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقالوا آمين، فإنه
من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وأخرجه مسلم (410) .
وقد ثبت التأمين من فعل النبي صلى الله
عليه وسلم: فروى أبو داود والترمذي من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله
عليه وسلم: كان إذا قال: " ولا الضالين " قال: " آمين " (1) ، في رواية أبو
داود: " ورفع صوته "، وفي الترمذي: " يمد بها صوته "، وفي ابن ماجه والحديث
حسن: (أن المسجد – أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم – كان يرتج بها) أي من
رفع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتأمين.
ويستحب كذلك: أن يمد بها صوته كما تقدم في حديث وائل بن حجر في رواية
الترمذي، وورد من حديث وائل بن حجر في أبي داود إلا أن فيه انقطاعاً بين
عبد الجبار بن وائل وبين أبيه وهو انقطاع يسير يعضده ما تقدم.
وثبت هذا من فعل أبي هريرة: أنه إذا كان وراء الإمام قال: " آمين " يمد بها
صوته ويقول: (إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم) (2) رواه
البيهقي بإسناد صحيح.
فعلى ذلك: يشرع للإمام والمنفرد والمأمومين أن يجهروا به ويمدوا أصواتهم
به.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (172) التأمين وراء الإمام (932) ،
والترمذي حديث 28، وابن ماجه حديث 855، وقال الترمذي: حديث حسن "، وقال ابن
القيم: " حديث وائل بن حجر رواه شعبة وسفيان، فأما سفيان فقال: " ورفع بها
صوته، وأما شعبة فقال: خفض بها صوته، ذكره الترمذي " قال البخاري: " حديث
سفيان أصح، وأخطأ شعبة في قوله: خفض بها صوته "، سنن أبي داود [1 / 574] .
(2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة،باب (163) جهر المأموم بالتأمين (2453) .
* والسنة أن يكون ذلك بعد قول الإمام "غير
المغضوب عليهم ولا الضالين " لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال
الإمام " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قُولوا: آمين) (1) أما قوله صلى
الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا) (2) فإن معناه إذا شرع بالتأمين،
فإذا شرع الإمام بالتأمين ووافق ذلك عقيب قوله " غير المغضوب عليهم ولا
الضالين: فقولوا: آمين.
* وإذا تركها الإمام فإنها تشرع للمأمومين للحديث المتقدم: (إذا قال الإمام
{غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين) .
فتشرع للمأمومين مطلقاً قالها الإمام أم لم يقلها، فترك الإمام لها لا يعنى
ذلك أن تترك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها إماماً، إذا تركها
الإمام فإن ذلك تفويت منه للسنة.
* فإن فات محلها وشرع بالقراءة بعدها ولم يؤمن فهي سنة فات محلها، فلا يشرع
فعلها.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الرابع والسبعون
(يوم الأربعاء: 24 / 3 / 1415هـ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: (ثم يقرأ بعدها سورة)
أي بعد الفاتحة، فيشرع ويسن أن يقرأ بعد الفاتحة سورة من القرآن، وهذا على
سبيل الاستحباب عند عامة العلماء، لما ثبت في الصحيحين: من حديث أبي قتادة:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة
الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحياناً وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب)
(3) فهذا الفعل يدل على مشروعيته.
__________
(1) تقدم قريبا، وهو في الصحيحين.
(2) متفق عليه، وقد تقدم قريبا.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (107) يقرأ في الأخريين بفاتحة
الكتاب (776) بلفظ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر
في الأوليين بأم الكتاب، وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب،
ويسمعنا الآية.. "
وستأتي الأدلة التي تدل على أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقرأ سوراً من القرآن مع الصلوات الجهرية.
وذهب طائفة من الصحابة وهو مذهب بعض المالكية وبعض الأحناف وحكي رواية عن
الإمام أحمد: إلى أن ذلك واجب أي يجب على الإمام والمنفرد أن يقرأ مع فاتحة
الكتاب ما تيسر.
واستدلوا بدليلين صحيحين:
كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ
بأم القرآن فصاعداً) (1) .
قالوا: فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم " فصاعداً " فدل ذلك على أنه يجب
عليه أن يقرأ مع فاتحة الكتاب سورة وأنه لا يجزئه سوى ذلك.
ما ثبت في أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري: قال: (أمر النبي صلى الله
عليه وسلم أن نقرأ أم الكتاب وما تيسر) (2) .
قالوا: فهذا أمر وظاهر الأمر وجوب ذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (11) وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة..
(394) قال: " وحدثناه إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، قالا: أخبرنا عبد
الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري بهذا الإسناد مثله، وزاد (فصاعدا) ، وأخرجه
أبو داود في كتاب الصلاة، باب (136) من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب
(822) .
(2) أخرجه أبو داود في أول باب (136) من ترك القراءة في صلاته بفاتحة
الكتاب، من كتاب الصلاة (818) .
وأما الجمهور فاستدلوا: بما ثبت في أبي
داود في قصة صلاة معاذ بأصحابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفتى: ما
تصنع يا ابن أخي إذا أنت صليت؟ فقال: " أقرأ بفاتحة الكتاب وأسأل الله
الجنة وأعوذ به من النار ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: (إني ومعاذاً حول هاتين ندندن) (1) وفي رواية " حولها
ندندن ".
والدندنة هو الصوت الذي يسمع ولا يفقه.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، ولم يقرأ إلا بالفاتحة.
وأجابوا عن الحديثين الأولين:
أما ما رواه مسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً) .
قالوا: فالجواب عليه: من جهتين:
الجهة الأولى: في ثبوته.
الجهة الثانية: في الاستدلال به.
أما الجهة الأولى: فإن الحديث قد أعله البخاري بتفرد معمر فعامة الرواة
يرونه بلفظ: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) (2) وتفرد معمر فرواه بهذا
اللفظ عن سائر الرواة فيكون اللفظ شاذاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (127) في تخفيف الصلاة (793) بلفظ
عن جابر، ذكر قصة معاذ، قال، وقال - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - -
للفتى: (كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت) قال: اقرأ بفاتحة الكتاب، وسأل الله
الجنة.. "، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (26) ما يقال بعد التشهد
والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (910) ولفظه: عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ما تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد
ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة
معاذ، قال (حولها ندندن) .
(2) تقدم قريبا.
لكن وردت متابعة له في سنن أبي داود من
حديث سفيان ابن عيينة بلفظة " فصاعداً " لكن الذي يظهر أن هذه المتابعة لا
تزيل الحكم عن الشذوذ؛ لأن سائر الرواة سوى سفيان ومعمر رووه باللفظ
المتقدم، فتكون المخالفة منهما.
ولو قلنا بثبوته، فهنا الجواب الثاني، من جهة الاستدلال به: فإن هذا الحديث
نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار
فصاعداً) (1) ومعلوم من الأدلة الشرعية والذي عليه أهل العلم أنها تقطع في
ربع دينار فالحديث معناه: تقطع اليد في ربع دينار فأكثر.
وكذلك هذا الحديث يحمل على هذا الحمل وهو ظاهر في ذلك، فيكون المعنى: لا
صلاة مجزية إلا بالفاتحة ومع فاتحة الكتاب آيات أخر.
وأما الجواب على حديث أبي سعيد: فإن الأمر فيه يحمل على الإرشاد
والاستحباب.
والواو هنا إنما تفيد دلالة الاقتران ودلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين،
والذي حملنا على ذلك ما تقدم من حديث أبي داود فإن فيه الإجزاء بقراءة
فاتحة الكتاب.
فالراجح: مذهب عامة العلماء من أن فاتحة الكتاب تجزئ في الصلاة، أما قراءة
آيات أخر أو سورة أخرى فذلك مستحب.
قال المؤلف: (تكون في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره وفي الباقي
من أوساطه)
المفصل اتفق العلماء على أن نهايته سورة الناس واختلفوا في أوله:
فذهب الجمهور: إلى أن أوله سورة الحجرات.
وذهب الحنابلة: إلى أن أوله سورة " ق ".
…وما ذهب إليه الحنابلة هو الراجح الصحيح، وصححه الحافظ في الفتح.
ويدل عليه: ما ثبت في أبي داود وابن ماجه
ومسند أحمد والحديث إسناده حسن كما قال ذلك ابن كثير في فضائل القرآن وهو
كما قال: من حديث أوس بن حذافة (1) الثقفي قال: سألت أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم: كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: (ثلاث ثم خمس ثم سبع ثم تسع ثم إحدى
عشر ثم ثلاث عشرة ثم المفصل) (2)
ويتم العدد المتقدم وهو عدد ثلاث مع خمس مع سبع وتسع وإحدى عشر وثلاث عشر
فيتم بما دون سورة " ق " فيكون شروع المفصل بسورة " ق " فهو الحزب السابع
من أحزاب القرآن.
وسمي مفصلاً لكثرة الفواصل بين سوره ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لقصرها.
فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن أول المفصل سورة " ق "، وطواله إلى
النبأ، وأوساطه إلى الضحى، وقصاره إلى الناس.
قال: (تكون في الصبح بطواله وفي المغرب بقصاره وفي العشاء بوسطه)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: حذيفة، كما سيأتي.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (326) تحزيب القرآن (1393) قال: "
حدثنا مسدد، أخبرنا قُران بن تمام ح وحدثنا عبد الله بن سعيد، أخبرنا أبو
خالد، وهذا لفظه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، عن عثمان بن عبد الله
بن أوس، عن جده، قال عبد الله بن سعيد في حديثه: أوس بن حذيفة قال: قدمنا
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف..، وأخرجه ابن ماجه في
كتاب إقامة الصلاة، باب (178) في كم يستحب يختم القرآن (1345) عن عثمان بن
عبد الله بن أوس عن جده أوس بن حذيفة قال: " قدمنا على رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في وفد ثقيف فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة … قال
أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزبون القرآن،
قالوا: ثلاث وخمس.. ".
كما ثبت في النسائي بإسناد صحيح (1) .
قوله: " فلان " لم يسم وليس عمر بن عبد العزيز؛ لأنه لم يولد إلا بعد وفاة
أبي هريرة.
سلمان بن يسار قال: كان فلان يطيل الظهر ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار
المفصل وفي العشاء بوسطه وفي الفجر بطواله " فقال أبو هريرة: ما صليت وراء
أحد أشبه صلاة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا ".
هذا هو المستحب في الغالب، وإلا فقد وردت الأدلة الشرعية بخلاف هذا.
بل المداومة على ذلك ينبغي القول بعدم استحبابها وأنها خلاف السنة، فقد ثبت
في البخاري عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: " ما لك تقرأ في
المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطول
الطوليين " (2) وهي سورة الأعراف.
والطوليان هما سورة الأنعام وسورة الأعراف، والطولى هو أطول السورتين هي
سورة الأعراف.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (61) تخفيف القيام والقراءة (982)
قال: " أخبرنا هارون بن عبد الله، قال حدثنا ابن أبي فُديك عن الضحاك بن
عثمان، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: ما صليت
رواء أحد أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان، قال
سليمان: كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين ويخفف العصر
ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بوسط المفصل ويقرأ في الصبح
بطول المفصل ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (98) القراءة في المغرب (764) بلفظ:
عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصارٍ،
وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطولى الطوليين؟ ". وأخرجه أبو
داود في كتاب الصلاة، باب (132) قدر القراءة في المغرب (812) . والنسائي في
كتاب الافتتاح، باب (67) القراءة في المغرب بـ " المص " (991) .
وقد ثبت التصريح بها في سنن أبي داود وأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المغرب، وفي النسائي أنه يقرأ
بها في الركعتين كلتيهما (1) .
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ في المغرب بالطور) (2)
وفي الصحيحين أيضاً: (أنه قرأ بالمرسلات) (3) .
وفي الطبراني في الكبير بإسناد صحيح: (أنه قرأ بالأنفال) (4) .
وفي ابن خزيمة بإسناد صحيح: (أنه قرأ بسورة محمد) (5)
والفجر الغالب أن يقرأ فيها بطوال المفصل لكنه ربما قرأ فيها بقصار المفصل؛
فقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في
الفجر في سفر: بـ (قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " (6)
وفي أبي داود بإسناد صحيح: أنه قرأ بـ " إذا زلزلت الأرض زلزالها في
الركعتين كلتيهما" (7) أي في كل ركعة قرأها.
__________
(1) تقدما قريبا.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (99) الجهر في المغرب (765) ، ومسلم
(578) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (98) القراءة في المغرب (763) ،
ومسلم (462) .
(6) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (354) في المعوذتين (1462) .
(7) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (134) الرجل يعيد سورة واحدة في
الركعتين (816) .
وفي مسلم: أنه قرأ بـ " إذا الشمس كورت "
(1)
كما أنه ثبت عنه " أنه قرأ في الروم " (2) كما ثبت في سنن النسائي.
قال: (وفي الباقي من أوساطه)
في الباقي: في صلاة العشاء وصلاة الظهر والعصر يقرأ بأوساط المفصل
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (35) القراءة في الصبح (456) بلفظ: "
عن عمرو بن حُريث أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصبح
{والليل إذا عسعس} ، وفي باب (39) متابعة الإمام والعمل بعده (475) بلفظ "
عن عمرو بن حريث قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفجر فسمعته
يقرأ {فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس} ، وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى
يستتم ساجدا ". وأخرجه النسائي بلفظ " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -
يقرأ في الفجر إذا الشمس كورت "، كتاب الافتتاح، باب (44) القراءة في الصبح
بـ إذاالشمس كورت (951) .
(2) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (41) القراءة في الصبح بالروم
(947) قال رحمه الله: " أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال:
أنبأنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن شبيب أبي روح، عن رجل من أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى
صلاة الصبح فقرأ الروم، فالتبس عليه، فلما صلى قال: (ما بال أقوام يصلون
معنا لا يحسنون الطهور، فإنما يلبس علينا القرآن أولئك) . قال الألباني
رحمه الله في تحقيقه لمشكاة المصابيح، [1 / 97] حديث (295) : " ورجاله ثقات
إلا أن عبد الملك بن عمير كان تغير حفظه، بل قال فيه ابن معين: مختلط، وقال
ابن حجر: وربما دلس ".
أما صلاة العشاء فتقدم الحديث الوارد فيها
(1) ، وأما الظهر والعصر فثبت في أبي داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى
الله عليه وسلم: (كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر بـ " والسماء ذات البروج "
و " والسماء والطارق ") (2) وهما من أوساط المفصل.
لكن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن غالب أمره على هذا، فالظاهر
أنها كانت غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لها الإطالة، فقد ثبت في
مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في
الظهر بقدر " الم تنزيل السجدة " وفي رواية " بقدر ثلاثين آية " وفي
الأوليين من العصر على النصف من ذلك) (3) .
- وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الخرقي وطائفة من أصحابه: وأنه يستحب
أن يطول والظهر وأن تكون صلاة العصر على النصف من الركعتين الأوليين من
صلاة الظهر.
ومما يدل عليه ما ثبت في مسلم قال الراوي: (كانت صلاة الظهر تقام فيذهب
الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يأت النبي صلى الله
عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها) (4) فهذا يدل على أن سنته في الظهر
الإطالة.
__________
(1) أخرجه النسائي، وقد تقدم صْ 85.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (131) قدر القراءة في صلاة الظهر
والعصر (805) بلفظ: عن جابر بن سمرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق والسماء ذات البروج ونحوهما من
السور " وأخرجه النسائي والترمذي (307) وقال: " حديث حسن صحيح ". سنن أبي
داود [1 / 506] .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (34) القراءة في الظهر والعصر (452) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (34) القراءة في الظهر والعصر (454) .
وفي النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(سمع وهو يقرأ في الظهر بالذاريات) (1) .
فالسنة – على الراجح – في الظهر أن تكون طويلة بنحو ما يكون في صلاة الفجر،
وصلاة العصر تصلى على النصف من ذلك.
وقد تقدم حديث سلمان بن يسار: (كان فلان يطول الظهر ويخفف العصر) ، " قال
أبو هريرة ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم من هذا ".
وهنا مسائل في القراءة بعد الفاتحة:
اعلم أن المشروع له أن يرتب السور كما وردت في المصحف فيقرأ في الركعة
الأولى سورة مقدمة على الركعة الثانية – هذا المستحب جرياً على ترتيب
المصحف – الذي جرى عليه الخلفاء الراشدون.
المشهور في المذهب كراهية عكس ذلك.
وعن الإمام أحمد: أنه لا كراهية في ذلك وهذا هو الأظهر، كما ثبت في صحيح
مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ في قيام الليل بالبقرة ثم النساء
ثم آل عمران) (2) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتب بين السور فدل على
جوازه.
وثبت في البخاري معلقاً: (أن عمر قرأ في الصبح في الركعة الأولى بالكهف وفي
الركعة الثانية بسورة يوسف أو يونس) (3) والشك في الرواية.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (55) القراءة في الظهر (971) قال:
" أخبرنا محمد بن إبراهيم بن صُدْران، قال حدثنا سَلْمُ بن قُتيبة، قال
حدثنا هاشم بن البريد عن أبي إسحاق عن البراء قال: كنا نصلي خلف النبي -
صلى الله عليه وسلم - الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان
والذاريات ".
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب (27) استحباب تطويل القراءة في
صلاة الليل (772) .
(3) قال البخاري: " وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف أو
يونس، وذكر أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح بهما " في باب (106) الجمع
بين السورتين في الركعة، من كتاب الأذان.
وحيثما كان اليقين من الشك هنا فإن
السورتين كليهما متقدمة على سورة الكهف.
فالأظهر جوازه لكن المستحب أن يرتبها على الترتيب في المصحف.
وقد يقال بكراهية المداومة على ذلك، فإن في المداومة على ذلك مخالفة صريحة
ظاهرة للترتيب الذي جرى عليه المصحف عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عدم الترتيب بين الآيات، وذلك بأن يقرأ في الركعة الأولى بآيات من آخر
السورة وفي الثانية آيات من وسطها أو أولها: فجمهور العلماء على أن ذلك
مكروه، وكراهيته أشد من كراهية الأول، لأن ترتيب الآيات ترتيب وارد عن
النبي صلى الله عليه وسلم بالنص.
وأما ترتيب السور فإن المشهور عند جمهور العلماء إنه بالاجتهاد أي اجتهاد
الصحابة. ثم إنه مظنة تغيير المعاني، فكان ذلك مكروهاً.
وعند الإمام أحمد أنه جائز، وهذا القول لا بأس به وهو قول قوي لكن بحيث
تثبت من عدم تغيير المعاني وحيث لم يعتد ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
[قال] : (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) وهذا ما تيسر سواء قدم أو أخر فلا
حرج.
أما تنكيس الكلمات في الآية نفسها فهو محرم إجماعاً ومبطل للصلاة، لأنه
يخرج عن أن يكون قرآناً حيث نكس، وحيث خرج من أن يكون قرآناً فهو كلام
أجنبي عن الصلاة – وحيث كان كلاماً أجنبياً فهو مبطل للصلاة مفسد لها.
إذن: هي ثلاث صور:
تنكيس الكلمات وهذا محرم وهو مبطل للصلاة.
تنكيس الآيات وهذا مكروه عند أكثر الفقهاء وهو مذهب الجمهور، وعن الإمام
أحمد عدم كراهيته.
تنكيس السور، والمشهور عند الحنابلة والشافعية أنه مكروه والأظهر عدم
كراهيته.
واعلم أن قراءة شيء من الآيات القرآنية من وسط سور القرآن أو أوله أو آخره
لا بأس به ولا حرج.
أي يقرأ من وسط سورة وأولها أو آخرها فلا بأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال في حديث أبي سعيد: " ما تيسر " وقراءة شيء من وسط السورة ونحوه مما
تيسر.
لكن مداومته كما قال شيخ الإسلام مكروهة،
لأنها تتضمن ترك السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنه يجوز للمصلي أن يقرأ بعد الفاتحة بسورتين فأكثر ومما يدل عليه ما
ثبت في البخاري: (أن إمام مسجد قباء كان يقرأ قل هو الله أحد " يفتتح بها
السورة التي بعد الفاتحة فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إني
أحبها فقال: حبك إياها أدخلك الجنة) (1) .
وثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم قراءة السورتين في الركعة من حديث
ابن مسعود في البخاري (2) ، وكذلك لأنه داخل فيما تيسر من القرآن.
كما أنه لا بأس أن يقرأ آية من كتاب الله فإذا قرأ آية بعد الفاتحة فإنه
يجزئه ذلك عن السورة التي تقرأ بعد الفاتحة.
واعلم أن محل القراءة بعد الفاتحة، فلو سبق بها الفاتحة فإنها لا تجزئه ولا
يعتد بها لأنها سنة فُعلت في غير محلها، لكن الفاتحة تجزئه.
قال: (ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان)
فإذا قرأ بقراءة هي داخلة في المصحف العثماني أجزأته اتفاقاً كأن يقرأ بشيء
من القراءات السبع أو العشر أو نحوها من القراءات التي يشملها الرسم
العثماني.
أما إن قرأ بقراءة لا توافق المصحف العثماني فلا يجزئ عنه هذا هو المشهور
في المذهب وهو مذهب الجمهور كقراءة ابن مسعود: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات
" (3) فالمشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور أنه لا يجوز أن يقرأ بشيء من
القراءات الثابتة بالسند الصحيح لكنها لا تدخل في المصحف العثماني.
ودليل هؤلاء: أنها ليست متواترة والمشروع من القراءة أن تكون متواترة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة
(774) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (106) الجمع بين السورتين في الركعة
(775) ، وفي كتاب فضائل القرآن، ومسلم (822) .
- والقول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد
والإمام مالك واختاره ابن تيمية وابن القيم: أنه يجزئه ذلك لأنه بثبوته
بالسند الصحيح يثبت قرآناً، وقد كان هؤلاء الصحابة الذين ثبتت عنهم قراءات
لا تدخل في الرسم العثماني كانوا يقرؤون بها في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وبعده وكانت ولا شك تجزئ عنهم.
بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على أخذ القرآن عن ابن مسعود وقد ورد
عنه مثل هذه الآية التي تخالف ما استقر عليه المصحف عهد عثمان.
ومعلوم أن ما استقر عليه المصحف في عهد عثمان ليس حاوياً للمصحف كله بل هو
حاوٍ لشيء فيه وضع على هذه الهيئة درءاً للخلاف والفتنة والفرقة في كتاب
الله تعالى – وحيث أنه من القرآن لثبوته بالسند الصحيح إلى هذا الصحابي
فإنه لا مانع من أن يقرأ به – وهذا هو القول الراجح.
وكونه ليس بمتواتر يقال: ليس بشرط هذا فإن كثيراً من أفراد القراءات
الواردة عن القراء السبعة ليست بمتواترة، وادعاء أنها متواترة ليس بصحيح،
بل إن كثيراً منها ليس بمتواتر وإنما يعود إلى غرابة السند أو عزته أو
شهرته وليس كلها متواتر.
وإنما القرآن متواتر في مجموعه، وأما آحاد القراءات وأفرادها فإن القول
بتواترها مجرد دعوى.
فعليه: إذا ثبت بالسند الصحيح إلى الصحابي فإنه يقرأ به وتصح به الصلاة،
لكن ينبغي فعل هذا حيث لا تكون هناك فتنة وفرقة.
إذن: كل قراءة وافقت المصحف فيجوز القراءة بها في الصلاة اتفاقاً.
فإن لم توافق المصحف وصح سندها:
فالمشهور في المذهب أن القراءة لا تصح بها (1) .
والراجح – وهو رواية عن الإمام أحمد – بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " هي
أنصهما " أي أنص الروايتين عن الإمام أحمد هذه الرواية التي فيها أن
القراءة التي لا تدخل في المصحف العثماني مع صحة سندها قرآن يقرأ به ويحتج
به في الأحكام الشرعية.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الخامس والسبعون
__________
(1) في الأصل: فيها.
(يوم السبت: 27 / 3 / 1415هـ)
قال المصنف رحمه الله: (ثم يركع مكبراً رافعاً يديه ويضعهما على ركبتيه
مفرجي الأصابع مستوياً ظهره)
قوله: " ثم يركع " لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (1) وقال تعالى:
{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اركع
حتى تطمئن راكعاً) (3) في حديث المسيء صلاته، وهو ركن من أركان الصلاة
وسيأتي الكلام عليها.
" مكبراً " أي بأن يقول: " الله أكبر " وهي تكبيرة الانتقال من ركن القيام
إلى ركن الركوع.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام
إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين
يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يسجد ثم
يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين
يرفع رأسه من المثنى) (4) أي الجلوس أي حين يقوم من الركعتين الأولين في
الصلاة الرباعية أو الثلاثية.
__________
(1) الحج: من الآية77)
(2) البقرة: من الآية43
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم
(757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه
بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . وقد تقدم صْ 61.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود
(789) بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة
يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع
صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، قال عبد الله: ولك
الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم
يكبر حن يرفع رأسه، ثميفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم
من الثنتين بعد الجلوس "، وأخرجه مسلم (392) .
فهذا الحديث فيه تكبيرات الانتقال.
" رافعاً يديه ": إما حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه.
أما كونه يرفعهما حتى يحاذي بهما منكبيه فلحديث ابن عمر المتقدم، وفيه: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حين يقوم
إلى الصلاة وإذا أراد الركوع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع) (1) .
وأما كونه يرفعها إلى حيال أذنيه فلما روى النسائي بإسناد صحيح إلى مالك بن
الحويرث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع
رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع
أذنيه) (2) .
فكما أنه يستحب له ذلك – أي الرفع إلى حذو المنكبين أو فروع الأذنين – في
تكبيرة الإحرام، فكذلك يستحب عند الركوع، وعند رفع اليدين.
- والمشهور في المذهب: أنه يستحب له أن يرفع يديه حذو منكبيه أو فروع
أذنيه، يستحب ذلك مع تكبيرة الانتقال فيكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير
وانتهاؤه مع انتهائه.
وهو مشكل على مذهبهم من أن تكبيرات الانتقال إنما تشرع عند الانتقال وتنتهي
بانتهائه، فإذا كبر للركوع فإنه يشرع بالتكبير وينتهي من التكبير إذا انتهى
إلى الركوع وهو قائم يقول: الله أكبر، فيمد التكبير حتى يصل إلى الركوع،
فيكون الانتقال قد شمله التكبير، وحينئذ يكون الرفع لليدين فيه إشكال.
__________
(1) تقدم صْ 61، حاشية رقم (131) . وهو متفق عليه.
(2) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (36) رفع اليدين للسجود (1085) ،
(1086) ، (1087) .
- والأظهر أن رفع اليدين والتكبيرة إنما
يشرعان قبل الركوع، فيكبر ويرفع يديه ثم يركع، وهو ما دل عليه حديث أبي
حميد الساعدى في سنن أبي داود بإسناد صحيح قال: (ثم يكبر فيرفع يديه حتى
يحاذى بهما منكبيه ثم يركع) (1) وظاهر ذلك أن التكبير والرفع قبل الركوع.
فعلى ذلك المشروع أن يكبر رافعاً يديه ثم يركع، فيكونان أي التكبير والرفع
قبل الانتقال.
(ويضعهما على ركبتيه)
لما ثبت في الصحيحين من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: " ركعت فجعلت
يدي بين فخذي أو قال بين ركبتي فنهاني أبي وقال: كنا نفعل هذا فنهينا عنه
وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب) (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة (729) قال: " حدثنا
أحمد بن حنبل، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ح، وحدثنا مسدد، حدثنا يحيى،
وهذا حديث أحمد، قال: أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر - أخبرني محمد بن
عمر بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - منهم أبو قتادة قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قالوا: فلم؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعة ولا
أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فاعرض قال: كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة … ثم يقرأ ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي
بهما منكبيه ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه … ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (118) وضع الأكف على الركب في
الركوع (790) بلفظ: " قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: صليت إلى جنب أبي،
فطبَّقْتُ بين كفيَّ،ثم وضعتُهُما بين فخذي، فنهاني أبي، وقال: كنا نفعله
فنهينا عنه، وأمرنا أننضع أيدينا على الركب " وأخرجه مسلم (535) .
ويمكنهما من ركبتيه كما في البخاري من حديث
أبي حميد الساعدى قال: (ثم ركع فأمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره) (1) أي
ثناه.
ويكون كالقابض لهما، لما ثبت في سنن أبي داود وعن أبي حميد الساعدى قال:
(ثم أمكن يديه من ركبتيه كأنه قابض عليهما) (2)
(مفرجي الأصابع)
قال أبو حميد – في حديثه المتقدم في أبي داود -: (ثم أمكن يديه من ركبتيه
وفرَّج بين أصابعه) (3) .
كما أنه يستحب له أن يجافي يديه عن جنبه، كما في حديثه في أبي داود أيضاً
بإسناد صحيح وقال: (ووتَّر يديه فجافي عن جنبيه) (4) " ووتر: أي نحاهما.
قال: (مسوياً ظهره)
__________
(1) أخرجه البخاري في باب (145) سنة الجلوس في التشهد (828) بلفظ: " فقال
أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر
ظهره.. ".أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) قال: " حدثنا قتيبة بن
سعيد، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد - يعني ابن أبي حبيب - عن محمد بن عمرو بن
حلْحَلة عن محمد بن عمرو العامري قال: كنت في مجلس من أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فتذاكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال
أبو حميد، فذكر بعض هذا الحديث وقال: " فإذا ركع أمكن كفيه من ركبتيه
وفرَّج بين أصابعه ثم هصر ظهره.. "
(2) وأخرجه أبو داود في الباب السابق برقم (734) ولفظه: " ثم ركع فوضع يديه
على ركبتيه كأنه قابض عليهما ".
(3) أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) بلفظه: " فإذا ركع أمكن كفَّيْه
من ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه ثم هصر ظهره.. ".
(4) أخرجه أبو داود في الباب السابق (734) ولفظه: ".. ووتَّر يديه فتجافى
عن جنبيه.. "
فيكون الظهر مستوياً، وقد تقدم: (ثم هصر
ظهره) (1) أي ثناه.
وفي أبي داود من حديث المسيء صلاته: (وامدد ظهرك) (2) وفي ابن ماجه بإسناد
صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسوى ظهره حتى لو صب عليه الماء
لاستقر) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (145) سنة الجلوس في التشهد (828) ،
وذكره معلقا في باب (120) استواء الظهر في الركوع من كتاب الأذان أيضا.
(2) أخرجه أبو داود في باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
رقم (859) قال: " حدثنا وهب بن بقيه، عن خالد، عن محمد - يعني ابن عمرو -
عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن رفاعة بن رافع بهذه القصة قال: (إذا قمت
فتوجهت إلى القبلة فكبر … وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك وامدُدْ ظهرك ".
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (16) الركوع في الصلاة (872)
قال: " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا عبد الله بن عثمان بن
عطاء حدثنا طلحة بن زيد عن راشد قال: سمعت وابصة بن معبد يقول: " رأيت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فكان إذا ركع سوَّى ظهره حتى لو صب عليه
الماء لاستقر " قال البوصيري: " هذا إسناد ضعيف، فيه طلحة بن زيد، قال فيه
البخاري وغيره: منكر الحديث، وقال أحمد وابن معين: يضع الحديث، قلت: وله
شاهد من حديث ابن عباس، رواه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في
مسند "، وانظر السلسلة الصحيحة (3331) .
ويكون رأسه غير مصوَّب ولا مشخص بل يكون
بإزاء ظهره، كما ثبت هذا في حديث عائشة في صحيح مسلم قالت: (فإذا ركع لم
يشخص رأسه ولم يصوبه) (1) .
(لم يشخصه) أي لم يرفعه، (لم يصوبه) أي لم يخفضه.
كما أن رأسه يكون معتدلاً غير منحرف عن اليمين ولا عن الشمال، ففي أبي داود
– من حديث أبي حميد المتقدم -: (ولا صافح بخده) (2) أي قد مال بأحد صفحتي
رأسه فظهرت من أحد الجنبين فهذا ليس بمستحب.
قال: (ويقول سبحان ربي العظيم)
كما ثبت في مسلم من حديث حذيفة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في
ركوعه " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى ") (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (46) ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح …
(498) وهو آخر حديث في هذا الباب، وأخرجه أبو داود في باب من لم يجهر ببسم
الله الرحمن الرحيم من كتاب الصلاة، وابن ماجه، والإمام أحمد في المسند 6 /
31، 194. المغني [2 / 176] .
(2) أخرجه أبو داود في الباب السابق (731) وفيه: ".. ثم هصر ظهره غير مُقنع
رأسه ولا صافح بخده.. "
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (27) استحباب تطويل
القراءة في صلاة الليل (772) بلفظ: " عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صلى
الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة … ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي
العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال …. ثم سجد فقال: (سبحان ربي
الأعلى) ".
ويستحب أن يكون ذلك ثلاثاً وذلك أدناه ن
لما روى أبو داود عن ابن مسعود بإسناد منقطع وله شواهد يرتقى بها إلى درجة
الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ركع أحدكم فليقل سبحان ربي
العظيم ثلاث مرات وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات
وذلك أدناه) (1) .
قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم.
وهل يستحب له أن يزيد لفظة (وبحمده) ؟
اختلفت الرواية عن الإمام أحمد:
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (154) مقدار الركوع والسجود (886)
قال: " حدثنا عبد الملك بن مروان الأهوازي، حدثنا أبو عامر وأبو داود، عن
ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد الهذلي، عن عون بن عبد الله، عن عبد الله بن
مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ركع أحدكم فليقل
ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي
الأعلى، ثلاثا، وذلك أدناه " قال أبو داود: هذا مرسل، عون لم يدرك عبد
الله، وأخرجه ابن ماجه والترمذي 261 وقال: " حديث ابن مسعود ليس إسناده
بمتصل، عون بن عبد الله بن عتبة لم يلق ابن مسعود "، وقال المنذري في
مختصره: وذكره البخاري في تاريخه الكبير وقال: مرسل " سنن أبي داود [1 /
550] .
فعن الإمام احمد: كراهية ذلك لأنها لم تثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند مقبول، وإنما رواها أبو داود في سننه من
حديث عقبة بن عامر (1) ، ثم قال أبو داود: " لكن يخاف ألا تكون محفوظة "
وفيها رجل لم يسم، وعامة ما ورد من الشواهد لها فهي معللة فلا يصح لها
شاهداً.
وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس بها واختارها المجد بن تيمية ويشهد لذلك ما
ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكثر أن يقول في ركوعه
وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه
وسجوده (870) قال: " حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا الليث - يعني ابن سعد - عن
أيوب بن موسى أو موسى بن أيوب، عن رجل من قومه، عن عقبة بن عامر بمعناه زاد
قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال: (سبحان ربي
الأعلى – كذا في السنن، ولعلها: العظيم - وبحمده) ثلاثا، وإذا سجد قال:
(سبحان ربي الأعلى وبحمده) ثلاثا " قال أبو داود: وهذه الزيادة نخاف أن لا
تكون محفوظة، قال أبو داود: انفرد أهل مصر بإسناد هذين الحديثين، حديث
الربيع وحديث أحمد بن يونس "، وقال الألباني في صفة الصلاة صْ 100: " صحيح
رواه أبو داود والدارقطني وأحمد والطبراني والبيهقي ". وأخرج في باب (154)
مقدار الركوع والسجود (885) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله،
حدثنا سعيد الجريري عن السعدي، عن أبيه أو عن عمه قال: رمقت النبي - صلى
الله عليه وسلم - في صلاته، فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: سبحان
الله وبحمده) ثلاثا، قال المنذري: السعدي مجهول، سنن أبي داود [1 / 550] .
(2) أخرجه البخاري بنفس اللفظ في كتاب الأذان، باب (139) التسبيح والدعاء
في السجود (817) ، وانظر (794) ، ومسلم (484) .
لكن الأظهر القول الأول، لأنها وإن ثبتت
بهذا الحديث المتفق عليه، فإنها لا تثبت مع اللفظ الأول وهو لفظ " سبحان
ربي العظيم ".
لكن مع ذلك فإن كراهيتها محل نظر، والأولى تركها لكن إن فعلها فلا بأس بذلك
والعلم عند الله تعالى.
ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في ركوعه وسجوده: ما ثبت في صحيح مسلم:
أنه كان يقول في ركوعه وسجوده (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) (1) وتقدم
الحديث المتفق عليه: (وأنه يكثر القول في ركوعه وسجوده " سبحانك اللهم ربنا
وبحمدك اللهم اغفر لي) (2) وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول
إذا ركع: (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي
وعصبي) (3) فهذا مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الباب.
إذن: أدنى الكمال أن يقول: سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى ثلاثاً.
واختلفت في أتم الكمال:
__________
(1) أخرجه مسلم (487) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول
الرجل في ركوعه وسجوده (872) .
(2) تقدم قريبا.
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب (26) الداء في صلاة الليل
وقيامه (771) بلفظ: " عن علي بن أبي طالب عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات
والأرض …، وإذا ركع قال: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت …) بنفس اللفظ.
فاحتمل الموفق أن يكون ذلك عشر تسبيحات لما
روى أبو داود في سننه عن أنس قال: (ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة النبي
صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى – يعني عمر بن عبد العزيز – قال فحرزنا
سجوده بعشر تسبيحات وركوعه بعشر تسبيحات) (1) لكن الحديث في إسناده جهالة.
كما أن هذا الركوع الطويل الذي حرز بعشر تسبيحات ليس هناك ما يدل على أنه
كان يقول " سبحان ربي العظيم: عشراً، فيحتمل أن يكون قد قال غيره مما ورد
عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن هذا الاحتمال هو قوي لو صح الحديث في مقدار الركوع وهو أن يكون مقدراً
بعشر تسبيحات، أما أن يكون لتقدير عدد التسبيحات فهذا محل نظر لما تقدم.
وقال القاضي من الحنابلة: إن كان منفرداً فبحيث لا يسهو. وينبغي – كذلك –
أن يقال: ولا يمل، لأن الملل في العبادة غير مشروع، وإن كان إماماً فحيث لا
يشق على المأمومين – وهذا ضابط حسن تدل عليه الأحاديث.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل في ركوعه لكنا لا نجزم أن ذلك بلفظة "
سبحان ربي العظيم " فحسب بل كان – فيما يظهر – يقول غيره مما ورد عنه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (154) مقدار الركوع والسجود (888)
قال: حدثنا أحمد بن صالح وابن رافع قالا: حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر
بن كيسان، حدثني أبي، عن وهب بن مأنوس قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت
أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى - يعني عمر بن
عبد العزيز - قال: فخَرزْنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات "
قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: قلت له: مأنوس أو مأبوس؟ قال: أما عبد
الرزاق فيقول: مأنوس، وأما حفظي فمأنوس، وهذا لفظ ابن رافع، قال أحمد: عن
سعيد بن جبير عن أنس بن مالك "، وأخرجه النسائي، سنن أبي داود [1 / 551] .
وفي الصحيحين من حديث البراء: أن النبي صلى
الله عليه وسلم: (كان قيامه فركوعه فسجوده فجلسته بين السجدتين فجلسته
للتشهد قريباً من السواء) (1) أي معتدلة متقاربة وليس المراد أنها بدرجة
واحدة في الطول، وإنما المراد أنها متناسبة في الطول، فإذا أطال القيام
أطال الركوع والسجود وغيره، وإذا خففه خففها فتكون الصلاة معتدلة.
وسيأتي الكلام على القدر المجزئ من الألفاظ في الركوع وفي القدر المجزئ من
الركوع في الكلام على أركان الصلاة وواجباتها.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السادس والسبعون
(يوم الأحد: 28 / 3 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يرفع رأسه ويديه قائلاً)
يرفع رأسه من الركوع، ويرفع يديه حذو منكبيه أو فروع أذنيه، وتقدم دليل ذلك
من حديث ابن عمر وكذلك من حديث مالك بن الحويرث وغيرهما.
وهنا متى يرفع يديه حذو منكبيه هل عند شروعه بالرفع من الركوع أم عندما
يستوي قائماً؟
فيه تفصيل على المذهب:
- أما الإمام والمنفرد فيكون ذلك عند الاستواء بالقيام فإذا استويا قائمين
شرع رفع اليدين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (140) المكث بين السجدتين (820)
بلفظ: " عن البراء قال: كان سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - وركوعه
وقعوده بين السجدتين قريبا من السواء ". وفي باب (121) حد إتمام الركوع
والاعتدال فيه والطمأنينة (792) بلفظ: " كان ركوع النبي - صلى الله عليه
وسلم - وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع من الركوع ما خلا القيام والقعود
قريبا من السواء " وانظر (801) . وأخرجه مسلم (471) .
ودليل ذلك: حديث ابن عمر المتقدم وفيه: (ثم
رفع يديه بعدما رفع رأسه) (1) الحديث متفق عليه.
- أما المأموم فقالوا: يرفع يديه أثناء رفع صلبه، فإذا شرع في رفع صلبه رفع
يديه حتى يستوي قائماً قالوا: لأن المأموم لا يشرع في حقه ذكر بعد الاستواء
قائماً، فعلى المشهور من المذهب يقول: " ربنا ولك الحمد " إذا شرع بالرفع
فينتهي منها إذا استوى قائماً فلا يشرع له حينئذ أن يقول ذكراً بعد رفع
رأسه وحينئذ يقارن بين رفع اليدين والذكر.
والراجح: أن المأموم إنما يقول: ربنا ولك الحمد إذا استوى قائماً كالمنفرد
والإمام، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم وفيه: أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقول: (وهو قائم ربنا ولك الحمد) (2) وقد قال صلى
الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) فيدخل في ذلك المأموم ولا
دليل يدل على تخصيصه.
__________
(1) تقدم صْ 61، وهو في البخاري بلفظ (737) " وإذا رفع رأسه من الركوع رفع
يديه " وبلفظ (735) " وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا "، وبلفظ
(736) " ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع "، وبلفظ (738) " وإذا قال: سمع
الله لمن حمده، فعل مثله "، وبلفظ (739) " وإذا قال: سمع الله لمن حمده،
رفع يديه " وفي مسلم بنحو هذه الألفاظ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود
(789) من حديث أبي هريرة بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا
قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن
حمده، حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، قال عبد
الله: ولك الحمد، … "، وأخرجه مسلم (392) في كتاب الصلاة، باب (10) إثبات
التكبير في كل خفض ورفع.. .
(3) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 51.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم – في المتفق
عليه – وهو دليل الحنابلة قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به … فإذا قال: "
سمع الله لمن حمده " فقولوا: " ربنا ولك الحمد ") (1) فليس في هذا ما يدل
على أنه يقول ذلك أثناء رفعه، وإنما فيه أنه يقول: " ربنا ولك الحمد " بعد
قول إمامه: " سمع الله لمن حمده ".
والأدلة الشرعية في الصلاة تدل على أن كل ركن من أركان الصلاة يشرع له ذكر
وارد، والرفع من الركوع أسوة غيره من الأركان فيشرع فيه ما يشرع في غيره من
قول: " ربنا ولك الحمد ".
إذن: هنا مسألتان: أحدهما تترتب على الأخرى:
الأولى: هل يقول المأموم ربنا ولك الحمد عند شروعه في رفع صلبه إلى أن
يستوي قائماً أم يقوله بعد استوائه قائماً؟
قولان: أصحهما أنه يقول ذلك بعد استوائه قائماً.
الثانية: متى يرفع المأموم يديه هل يرفعهما إذا رفع رأسه من الركوع إلى أن
يستوي قائماً أو بعد الاستواء قائماً؟
قولان لأهل العلم:
وقد استدل القائلون بأنه يقولهما بعد رفع رأسه من الركوع بأنه يقول: " ربنا
ولك الحمد " فكانا مقترنين، والجواب على ذلك من جهتين:
الجهة الأولى: أن يقال: إن الراجح والذي دلت عليه الأدلة أنه إنما يقول: "
ربنا ولك الحمد " عند رفع رأسه واستوائه قائماً.
الوجه الثانية: أن يقال: لا تلازم بين الأمرين، فلو ثبت أنه يقول: " ربنا
ولك الحمد " أثناء رفع رأسه، فلا تلازم بينه وبين رفع اليدين، وقد دل
الدليل على أن رفع اليدين إنما يكون بعد الرفع من الركوع في الحديث المتقدم
وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
فالراجح أن المأموم كالإمام يرفع يديه إذا استوى قائماً.
قال: (قائلاً إمام ومنفرد سمع الله لمن حمده)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (82) إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة
(732) ، (734) ، وأخرجه مسلم (411) .
أي استجاب الله تعالى حَمْد من حَمِدَه بأن
يجازيه على الحمد ويثنيه عليه وهذه اللفظة " سمع الله لمن حمده " يقولها
الإمام والمنفرد دون المأموم – هذا هو المشهور في المذهب –.
واستدلوا بالحديث المتقدم وهو ما اتفق عليه الشيخان من قوله صلى الله عليه
وسلم: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) (1)
قالوا: والفاء تفيد التعقيب أي يقول المأموم ذلك عقب قول إمامه " سمع الله
لمن حمده " وعليه فلا يشرع أن يقول: سمع الله لمن حمده، لأنه إذا قال ذلك
فلم يقلها عقيب قول إمامه، وهو مذهب الجمهور.
- وذهب الشافعية وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة: أن المأموم يقول ذلك ويشرع له.
واستدلوا: بأدلة منها:
ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (2)
فهذا العموم شامل للمأموم كما هو شامل للأئمة والمنفردين (3) .
واستدلوا: بحديث المسيء صلاته في رواية أبي داود وفيه أن النبي صلى الله
عليه وسلم [قال] : (إنه لا تتم صلاة لأحدٍ من الناس) الحديث وفيه: (ثم
يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً) (4) .
وفي هذا الحديث فائدة: وهي أن لفظة " سمع الله لمن حمده " تقال عند رفع
الصلب من الركوع إلى أن يستوي قائماً.
قالوا: فهذا الحديث عام في المنفرد والإمام والمأموم.
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) أخرجه البخاري، وقد تقدم صْ 51.
(3) وأصرح منه ما رواه الدارقطني في سننه [1 / 700] باب (39) رقم (1290)
قال: " حدثنا الحسين بن يحيى بن عياش، ثنا الحسن بن محمد، ثنا إسماعيل بن
علية عن ابن عون، قال: قال محمد: " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قال
من خلفه: سمع الله لمن حمد، اللهم ربنا لك الحمد ".
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في
الركوع والسجود (857) .
وأجابوا عن الحديث المتقدم وهو ما استدل به
الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال سمع الله لمن حمده
فقولوا: ربنا ولك الحمد) إنما ورد هذا في بيان عدم مشروعية قوله: " ربنا
ولك الحمد " من المأموم إلا بعد قول الإمام: " سمع الله لمن حمده " وليس
فيه أنه لا يقول: سمع الله لمن حمده.
ونحن قلنا: إن المأموم يشرع له أن يقول: " ربنا ولك الحمد " وهو قائم كما
دلت عليه الأدلة الشرعية.
فعليه إذا رفع المأموم صلبه من الركوع حتى يستوي قائماً فقال: " سمع الله
لمن حمده " فإن هذا لا يؤثر لثبوت الانفصال فإن الانفصال ثابت سواء سكت أو
تلفظ، فسكوته أو تكلمه لا يؤثر في كونه قد قال: " ربنا ولك الحمد " بعد
قوله " سمع الله لمن حمده "، فإن الانفصال ثابت في السكوت وعليه فما فائدة
قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟
والجواب أن يقال: إن فائدته تعليم المأمومين ألا يقول: " ربنا ولك الحمد "
إلا بعد قول الإمام " سمع الله لمن حمده " وذلك لثبوت الفصل في ذلك، فقد
ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام سمع
الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد فإن من وافق قوله قول الملائكة
غفر له) (1) .
فهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا
الضالين فقولوا آمين) (2) ليوافق التأمين تأمين الملائكة ليغفر الله [لهم]
(3) ، وليس فيه أن المأمومين لا يقرؤون بفاتحة الكتاب وقد دلت الأدلة
الشرعية على وجوب ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (125) فضل اللهم ربنا ولك الحمد
(796) ، وانظر (3228) ، ومسلم (409) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (113) جهر المأموم بالتأمين (782) ،
وانظر باب (111) جهر الإمام بالتأمين. (780) ، ومسلم (410) .
(3) ليست في الأصل.
والأقوى والأقرب ما ذهب إليه الشافعية وهو
الأحوط والعلم عند الله تعالى.
قال: (سمع الله لمن حمده، وبعد قيامهما: ربنا ولك الحمد)
قيامهما: أي قيام الإمام والمنفرد.
" ربنا ولك الحمد " بحذف " اللهم " وزيادة الواو وهي صفة من صفات أربع ثبتت
عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح.
الصفة الأولى: ربنا لك الحمد (1) بحذف الواو، و " اللهم ".
الصفة الثانية: ربنا ولك الحمد (2) : بحذف " اللهم " وإثبات الواو.
الصفة الثالثة والرابعة بزيادة " اللهم وبحذف الواو وبإثباتها " اللهم ربنا
لك الحمد " (3) " اللهم ربنا ولك الحمد " (4) هذه صفات واردة رواها البخاري
في صحيحه وروى بعضها مسلم.
فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض – وفي
رواية في مسلم (ملء السموات وملء الأرض) ، وفي رواية (وما بينهما) - وملء
ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم
لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " (5)
يقول الإمام والمنفرد هذا التحميد الوارد بعد قيامهما من الركوع بعد أن
يستويا قائمين.
قال: (ومأموم في رفعه: ربنا ولك الحمد، فقط) .
هنا مسألتان:
1- المسألة الأولى: أنه يقول ذلك أثناء الرفع قبل أن يستوي قائماً.
__________
(1) البخاري حديث (789) .
(2) البخاري (789) ، ومسلم (392) .
(3) البخاري (796) .
(4) البخاري (795) . وفي مسلم (476) بلفظ " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا
لك الحمد، ملء السموات.. "، وبلفظ (477) " ربنا لك الحمد، ملء السموات.. "،
وبلفظ (476) " اللهم لك الحمد، ملء السموات.. "
(5) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب (40) ما يقول إذا رفع رأسه من.. (477)
، (478) .
والراجح أنه يقوله: بعد أن يستوي قائماً
لما تقدم وهو مذهب الشافعية.
ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد "
وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) ، واستثناء المأموم من هذا العموم
الشامل له يحتاج إلى دليل ولا دليل.
2- المسألة الثانية: أنه لا يزيد على لفظة " ربنا ولك الحمد " وهو رواية عن
الإمام أحمد.
واستدلوا بما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال سمع الله
لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) (2) فأمر المأمومين بأن يقولوا: ربنا ولك
الحمد، وظاهره أن المشروع لهم ذلك وأن الزيادة ليس بمشروعة.
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه كالمجد بن تيمية وهو اختيار
شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية: أن المأموم كالإمام والمنفرد، يزيد ما ورد
عن النبي صلى الله عليه وسلم استحباباً قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم:
(صلوا كما رأيتموني أصلي) وكان يزيد ما تقدم.
وأما الحديث الذي استدللتم به فإنه لم يسق لبيان ما يقول الإمام ولا ما
يقول المأموم، بدليل أن هذا الحديث فيه قول الإمام: سمع الله لمن حمده،
وليس فيه زيادة على ذلك، وكذلك قوله: (ربنا ولك الحمد) فإنما سيق ذلك لبيان
أن المأموم لا يشرع له التلفظ بلفظة " ربنا ولك الحمد " إلا عقب قول إمامه:
" سمع الله لمن حمده " وليس فيه أنه لا يشرع له الزيادة الواردة عن النبي
صلى الله عليه وسلم – هذا هو الراجح -.
إذن: الإمام والمأموم والمنفرد في حكم واحد في عامة مسائل هذا الباب، في
لفظة (سمع الله لمن حمده) ، وفي الزيادة على لفظة " ربنا ولك الحمد " على
الأظهر، وفي وقت الرفع وأن يكون ذلك بعد أن ينتصبوا قائمين، وغيرها.
وهنا مسألة:
صفة وضع اليدين، هل يضع اليد اليمنى على اليسرى أم يرسلهما أم هو مخير؟
ثلاثة أقوال:
__________
(1) تقدما.
(2) تقدم.
نص الإمام أحمد: على أنه يخير بين الإرسال
وبين الوضع، وكأنه تردد في إدخال القيام المشروع بعد (1) الركوع في القيام
المشروع قبله، لهذا التردد قال بالتخيير.
وهو مذهب الأحناف: أنه يرسلهما، وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
أنه يستحب له أن يضع اليمنى على اليسرى كوضعها قبل الركوع، وهو قول طائفة
من أصحاب الإمام أحمد.
واستدل أهل القول الثاني: بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث
في هذا الباب، حيث لم يثبت فلا يشرع فعليه أن يرسلهما ويبقيهما على
طبيعتهما فإن الأصل في طبيعتها الإرسال، ولما لم يرد الوضع فإنا نبقى على
الإرسال ويكون هو المشروع وغيره بدعة.
أما دليل أهل القول الثالث - وهو مذهب طائفة من أصحاب أحمد: وهو أرجحها -
دليله عمومات الأحاديث ومنها حديث سعد بن أبي وقاص: (كان الناس يؤمرون أن
يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة) (2) رواه البخاري.
وهذه صفة خشوع وتذلل وخضوع لله تعالى، وهذا عام في الصلاة كلها إلا ما
استثني من جلوس للتشهد ومن سجود ونحو ذلك، أما الرفع من الركوع والقيام
بعده فلا دليل على استثنائه فيبقى في العموم.
وأوضح منه الحديث الذي تقدم وهو حديث وائل بن حجر في سنن النسائي بإسناد
صحيح أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة
قبض بيمينه على شماله) (3) وهذا عام في كل قيام فيدخل في ذلك القيام بعد
الركوع.
__________
(1) في الأصل: بعدد.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (87) وضع اليمنى على اليسرى (740) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب (9) وضع اليمين على الشمال في
الصلاة (887) . وهو في مسلم (401) بلفظ: " أنه رأى النبي - صلى الله عليه
وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة … ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على
اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب.. ".
ثم إن هذا من باب إلحاق النظير نظيره، فإن
القيام بعد الركوع شبيه ونظير للقيام قبله، فكلاهما قيام في الصلاة، وهذه
صفة فيها خشوع وخضوع وتذلل لله عز وجل فهي أولى من الإرسال.
إذن: الراجح أنه يضع يده اليمنى على اليسرى كوضعها في الصفات المتقدمة
كوضعها قبل الركوع.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السابع والسبعون
(يوم الاثنين: 29 / 3 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يخر مكبراً ساجداً على سبعة أعضاء)
" يخر ": خر: أي سقط وانكب.
" مكبراً " أي قائلاً الله أكبر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة
وفيه: (ثم يكبر حين يهوى ساجداً) (1) فمن تكبيرات الانتقال التكبير عند
الانتقال من القيام بعد الركوع إلى السجود وهو مشروع بينهما، فيبدأ
بالتكبير عند انخفاضه وينتهي عند انتهائه.
ولم يذكر المؤلف هنا: رفع اليدين؛ لأن المشهور في المذهب عدم مشروعية ذلك،
وأنه لا يشرع الرفع عند السجود والرفع منه.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وفيه: (ولا يفعل ذلك في
السجود) وفي رواية مسلم: (ولا يرفع يديه إذا سجد ولا إذا رفع رأسه من
السجود) (2) .
__________
(1) رواه البخاري باب (128) يهوي بالتكبير حين يسجد من كتاب الأذان رقم
(803) عن أبي هريرة بلفظ: ".. ثم يقول الله أكبر حين يهوي ساجداً.. "،
ومسلم رقم (392) في باب (10) إثبات التكبير في كل خفض ورفع.. من كتاب
الصلاة بلفظ ".. ثم يكبر حين يهوي ساجداً ".
(2) رواه البخاري باب (83) رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء
رقم (735) وباب (84) رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع رقم (736) ،
ومسلم رقم (390) باب (9) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة
الإحرام.. / كتاب الصلاة بلفظ: ".. ولا يرفعهما بين السجدتين " وفي لفظ: "
ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود ".
- الإمام أحمد وهو مذهب طائفة من الصحابة
والتابعين: أنه يشرع له الرفع، وأنه يشرع رفع اليدين في كل خفض ورفع.
وهذا القول هو الراجح ويدل عليه حديث مالك بن الحويرث في النسائي بإسناد
صحيح وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع
رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود حتى يحاذي بهما فروع
أذنيه) (1) .
والمثبت مقدم على النافي، فحديث ابن عمر ليس فيه إلا النفي وغاية ما عند
النافي عدم بلوغ علمه ما نفاه فإذا أتى ما يثبت ذلك فإن هذا المثبت حجة
عليه؛ لأنه حفظ ما لم يحفظ وعلم ما لم يعلم.
إلا أن رواية ابن عمر وهو المتابع للنبي صلى الله عليه وسلم والحافظ لحديثه
تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك ذلك أحياناً فعلى ذلك ينبغي
أن يكون ذلك مستحباً أحياناً.
فعدم رواية ابن عمر وعدم إحصائه هذا الفعل عند السجود والرفع منه يدل على
أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوات كثيرة لم يفعل فيها هذا الرفع،
وهذا يدل على أنه لم يكن يداوم على ذلك.
فالراجح: أنه يستحب أن يرفع يديه إذا سجد ورفع رأسه أحياناً.
قال: (ساجداً على سبعة أعضاء رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهة مع أنفه)
في هذه الجملة مسألتان:
المسألة الأولى: فرضية السجود على سبعة أعظم وهي: الجبهة والأنف وهما عضو
واحد، واليدان وهما عظمان (2) ، والركبتان وهما عظمان وأطراف القدمين وهما
عظمان.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (84) رفع اليدين عند الرفع من
السجدة الأولى، رقم (1143) بلفظ: " أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان
إذا دخل في الصلاة رفع يديه وإذا ركع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع
فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك كلَّه يعني رفع اليدين ".
(2) كذا في الأصل.
لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس وأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن اسجد على سبعة أعظم الجبهة وأشار إلى
أنفه) (1) - وفي رواية النسائي: (الجبهة والأنف) (2) – واليدين، وفي رواية
مسلم: (والكفين) والركبتين وأطراف القدمين) .
المسألة الثانية: هي في قوله: (رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته) .
هنا ما ذكره من الترتيب هو الترتيب الطبيعي فالرجلان ثابتتان ثم بعد ذلك
الركبتين ثم اليدين ثم الجبهة والأنف هذا هو الذي يقتضيه الهوي والخرور.
لكن السنة قد دلت على أن اليدين مقدمان على الركبتين، وهو مذهب مالك ورواية
عن الإمام أحمد.
وفي هذه المسألة قولان لأهل العلم:
القول الأول، وهو مذهب عامة الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أن المستحب أن
يقدم الركبتين على اليدين.
واستدلوا:
بما رواه أبو داود عن وائل بن حجر وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم
إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه) (3)
__________
(1) رواه البخاري باب (134) السجود على الأنف رقم (812) وانظر (809) ،
ومسلم (490) باب (44) أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر.. من كتاب الصلاة.
(2) رواه النسائي في كتاب التطبيق، باب (43) السجود على الأنف رقم (1096)
بلفظ: " عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت أن
أسجد على سبعة لا أكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين
والقدمين ".
(3) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (141) كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ رقم
(838) ، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن
غريب لا نعرف أحداً رواه غير شريك "،وذكر أن هماما رواه عن عاصم مرسلا لم
يذكر فيه وائل بن حجر، وقال النسائي: لم يقل هذا عن شريك غير يزيد بن
هارون، من مختصر المنذري، سنن أبي داود [1 / 524] .
وبما رواه ابن خزيمة من حديث مصعب بن سعد
بن أبي وقاص عن أبيه قال: (كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع
الركبتين قبل اليدين) (1)
أما أهل القول الثاني، وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد وهو مذهب
أكثر أهل الحديث: إلى استحباب تقديم اليدين على الركبتين، واستدلوا
بدليلين:
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 100
2469 أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الأصبهاني الفقيه أنبأ أبو
محمد بن حيان ثنا بن الظهراني ح وأخبرنا محمد بن أحمد بن زكريا أنبأ محمد
بن الفضل بن إسحاق بن خزيمة أنبأ جدي قالا ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى
بن أبي سلمة بن كهيل ثنا أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد عن
سعد قال ثم كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين كذا
قال والمشهور عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق والله أعلم
صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 319
628 أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن
كهيل حدثني أبي عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد عن سعد قال ثم كنا نضع
اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين، من اسطوانة مكتبة الفقه
وأصوله.
1- الأول: ما رواه أبو داود والنسائي
بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما
يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) (1) قالوا: ركبة البعير، وركبة كل ذي
أربع في يديها، ومعلوم أن البعير إذا سجد، سجد في مقدمه ثم بعد ذلك لحقه
المؤخر والركبتان في مقدمه كما نص على ذلك صاحب لسان العرب وغيره.
وقد روى البخاري في صحيحه في قصة سراقة بن مالك وفيه قال: (فساخت يد الفرس
في الأرض حتى بلغتا الركبتين) (2) فهذا يدل على أن ركبة الفرس وهكذا ذوات
الأربع أنها في اليدين، فالبعير ركبتاه في يديه ولا يصح إنكار ابن القيم
لذلك في الزاد فإن هذا الإنكار يخالفه ما ثبت في لغة العرب.
ومعلوم أن البعير يخر على ركبته، فنهي المصلي عن ذلك، وزاد ذلك وضوحاً
بقوله: (وليضع يديه قبل ركبتيه) وهذا الحديث إسناده صحيح ورواته كلهم ثقات
وسنده متصل.
__________
(1) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة في كتاب الصلاة، باب (141) كيف يضع
ركبتيه قبل يديه رقم (840) ، قال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا،
وزعم بعض العلماء أن هذا منسوخ، وروي فيه خبراً عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن
سعد – كذا في النسخة التي بين يدي – قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين
فأمرنا بالركبتين قبل اليدين ".
(2) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1422 رقم 3696 كذا في الاسطوانة، وفي نسخة عندي
رقم (3906) باب (45) هجرة النبي وأصحابه من كتاب مناقب الأنصار، وهو في
صحيح مسلم ج: 3 ص: 1592 رقم 2009، كتاب الأشربة بدون ذكر الركبتين، اسطوانة
مكتبة الفقه وأصوله.
والثاني: ما رواه ابن خزيمة عن ابن عمر:
(أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل
ذلك) (1) وروى ذلك البخاري في صحيحه معلقاً القسم الموقوف فيه: (أن ابن عمر
كان يضع يديه قبل ركبتيه) (2) ومعلوم أن ابن عمر كان من أتبع الناس للنبي
صلى الله عليه وسلم حتى كان يغلو في نظر بعض أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم في ذلك فكانوا ينكرون عليه، فكان في غاية الاقتداء بالنبي صلى الله
عليه وسلم، وهنا كما هو معلق فقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو القول الراجح.
وأما ما استدل به أهل القول الأول:
فأما حديث أبي داود ففيه شريك بن عبد الله وهو ضعيف إذا تفرد وقد خالف هنا
فقد خالف همام وهمام قد رواه مرسلاً، فكان فيه تفرد ومخالفة لذا ضعفه
البخاري والبيهقي والدراقطني، فإسناد الحديث ضعيف.
أما الحديث الثاني ففيه إسماعيل بن يحيى وهو متروك.
والصحيح ما تقدم في الحديث المتفق عليه في التطبيق.
فالصواب أن هذا وهم وخطأ بل نكارة لأن الصحيح المشهور هو نسخ التطبيق.
ومن هنا فالراجح مذهب أهل القول الثاني (3)
__________
(2) ذكره البخاري في كتاب الأذان،باب (128) يهوي بالتكبير حين يسجد قبل رقم
(803) .
(3) تراجع شيخنا عن هذا القول فقال في شرحه للزاد برأس الخيمة ما نصه: "
إذاً: استدلوا بحديث وائل بن حجر، وهو من حديث شريك عن عاصم بن كُليب عن
أبيه عن وائل بن حجر، وشريك إذا تفرد بالحديث، فإن الحديث لا يقبل، يعني
ضعيف إذا تفرد، وقد روى هذا الحديث همام عن شقيق عن عاصم بن كليب عن أبيه
مرسلا، يعني ليس فيه ذكر وائل بن حجر، إذاً: الصواب في هذا السند الإرسال.
فشريك رواه موصولا، وهمام رواه عن شقيق عن عاصم مرسلا.
لكنه ورد من طريق آخر عن وائل بن حجر من حديث محمد بن جُحادة عن عبد الجبار
بن وائل عن أبيه، وعبد الجبار لم يدرك أباه، وهذا طريق آخر، وعلى ذلك: يكون
الحديث حسنا لغيره، فإن الحديث قد ورد عن وائل بن حجر من طريقين، والحديث
صححه ابن خزيمة وغيره، وقد صح هذا أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما
في مصنف ابن أبي شيبة: أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه ".
القول الثاني في المسألة، وهو قول المالكية، وقال أبو بكر بن أبي داود: "
وهو قول أهل الحديث "، ومراده - كما قال ابن القيم - أي بعض أهل الحديث،
فإن أحمد والشافعي وإسحاق على خلافه.
استدل أهل هذا القول بما روى أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ،
واستدلوا أيضا: بما روى ابن خزيمة أن ابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه،
ويقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله.
والأرجح هو القول الأول، وأما الجواب عن الحديثين:
أما الحديث الأول، وهو حديث أبي هريرة (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك
البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فأولاً: قوله (وليضع يديه قبل ركبتيه) قد
تفرد بها عبد العزيز الدَّروردي عن محمد بن الحسن، وروى هذا الحديث عبد
الله بن نافع عن محمد بن الحسن بلفظ (يعمد أحدكم إذا سجد، فيبرك كما يبرك
البعير) ولم يقل (وليضع يديه قبل ركبتيه) ، فتفرد بهذه الجملة (وليضع يديه
قبل ركبتيه) عبد العزيز الدروردي، وهو كما قال الحافظ: " صدوق يهم " وقال
أبو زرعة: " سيء الحفظ "، فقد تفرد بهذه الزيادة، وقد وهم في ذلك، فعلى هذا
التقرير، يبقى الحديث (يعمد أحدكم، فيبرك كما يبرك البعير) وليس فيه (وليضع
يديه قبل ركبتيه) .
وعليه: فما صورة بروك البعير؟
معلوم أن البعير إذا برك، فإنه يبدأ بمقدَّمه، ويبقى المؤخر منتصبا، سواء
كان قلنا أن ركبة البعير في يديه أو أنها في رجليه، فإنه يبدأ بالمقدَّم،
ويبقى المؤخر منتصبا.
ثانيا: أن الحديث من أصله – يعني جملة – حديث معلول، فقد أعلَّه الإمام
البخاري والدارقطني والترمذي، قال الترمذي رحمه الله تعالى: غريب لا نعرفه
من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه " اهـ، فالحديث من حديث محمد بن الحسن
عن أبي الزناد، أبو الزناد من المكثرين من الحديث، وهو ممن تدور عليهم
السنة، فأين أصحابه عن هذه السنة، حتى يتفرد بها محمد بن الحسن؟! وقد ذكر
الإمام البخاري محمد بن الحسن في كتابه في الضعفاء، وقال: " لا يُتابع عليه
"، وقال: " لا أدري هل سمع من أبي الزناد أم لا؟ "، فإذا كان ممن لا تعرف
روايته عن أبي الزناد، فلا يدري الإمام البخاري رحمه الله، هل سمع من أبي
الزناد أم لا، فكيف يتفرد بهذه السنة عن سائر أصحاب أبي الزناد. إذاً:
الحديث، كما قال الترمذي: " غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا
الوجه " يعني أين أصحاب أبي الزناد عن هذا الحديث؟! فقد تفرد به من لا
يُعرف له عنه سماع، ولم يتابع على ذلك، ولذا كما تقدم أعله البخاري
والدارقطني والترمذي، وكذلك حمزة الكِناني، وهو من شيوخ ابن مندة
والدارقطني، كما ذكر هذا ابن رجب رحمه الله تعالى. إذاً: الحديث، الصواب
أنه معلول.
نأتي إلى الحديث الآخر، وهو حديث ابن عمر عند ابن خزيمة:
الحديث من حديث عبد العزيز الدروردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن
عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كان يفعله " وعبد العزيز الدروردي، كما تقدم، صدوق له أوهام، وقد قال
الإمام أحمد رحمه الله: " كان يقلب أحاديث عبد الله بن عمر، يرويها عن عبيد
الله بن عمر " وهذا الحديث منها، فإن هذا الحديث يرويه عبد العزيز الدروردي
عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، ولذا قال الإمام البيهقي رحمه
الله تعالى في هذا الحديث: " لا أراه إلا وهما، والمحفوظ من حديث أيوب عن
نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن اليدين تسجدان
كما يسجد الوجه، فإذا سجد أحدكم، فليضع يديه، وإذا رفع وجهه، فليرفعهما)
يعني أن الواجب على من سجد أن يضع يديه كما أنه يجب عليه أن يضع وجهه.
وهذا الأثر قد ذكره البخاري رحمه الله تعالى معلقا موقوفا، ففي البخاري: "
كان ابن عمر رضي الله عنه إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه " ولم أقف على سند
لهذا، لكن معلقات الإمام البخاري رحمه الله صحيحة إذا جزم بها، ومع ذلك فإن
هذا الأثر لم يُغلقه الحافظ ابن حجر في كتابه " تغليق التعليق "، فإنه لم
يذكر سند هذا المعلَّق.
إذاً: الصواب أن هذا لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل
هو وهم، وعلى ذلك فالراجح أن المستحب له أن يضع ركبتيه قبل يديه، كما هو
مذهب جمهور العلماء. والله أعلم.
وتقدم من ذهب إليه، وقال الأوزعي فيما رواه
المروزي عنه: (أدركت الناس وهم يضعون أيديهم قبل ركبهم) (1) وإسناده صحيح.
(والجبهة والأنف)
للحديث المتقدم في قوله: (والجبهة وأشار إلى أنفه) ففرض في السجود أن يسجد
المصلي على الجبهة والأنف جميعاً لصحة الحديث الوارد في هذا: وهو أصح
الوجهين في المذهب وهو أشهرهما.
قال: (ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده)
فلو سجد وبينه وبين الأرض حائل سواء كان متصلاً أو منفصلاً أي متصل بالمصلي
كأن يضع طرف ثوبه فيصلي عليه، أو منفصلاً كأن يأتي بشيء آخر من سجادة
ونحوها.
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (كنا نصلي وراء النبي صلى الله
عليه وسلم فيضع أحدنا طرف ثوبه من شدة الحر في مكان السجود) (2) .
وروى البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما بإسناد
صحيح عن الحسن البصري قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسجدون
وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على قلنسوته وعمامته) (3)
لكن استثنى من ذلك (ليس من أعضاء سجوده) :
فإذا وضع يديه ثم سجد عليها فلا يصح ذلك.
قالوا: لأن هذا الفعل يداخل أعضاء الساجد، فالشارع قد أمره بالسجود على هذه
الأعظم السبعة وحيث جعل بعضها فوق بعض فإن ذلك تداخل فيما بينها ويجعلها
متفرقة كما أمر الشارع فهو قد أمر بها متفرقة وكل عمل ليس عليه أمر النبي
صلى الله عليه وسلم فهو رد.
__________
(2) رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب (23) السجود على الثوب في شدة الحر
رقم (385) ، ومسلم رقم (620) .
(3) ذكره البخاري في الباب السابق، ورواه البيهقي في الكبرى [2 / 153] رقم
(2667) باب (202) من بسط ثوبا فسجد عليه من كتاب الصلاة. وعبد الرزاق في
مصنفه [1 / 400] رقم (1566) في باب السجود على العمامة مختصراً.
* اعلم أن المشهور في المذهب: أنه يسجد
ببعض عضوه فإذا وضع أطراف الأصابع في السجود أجزأه ذلك وإن رفع راحتيه.
وذهب بعض الحنابلة كابن حامد وهو من كبار أصحاب الإمام أحمد: إلى أنه لا
يجزئه ذلك – وهذا هو الراجح – لظاهر الحديث، فإن في الحديث: (واليدين) وفي
رواية: (والكفين) وحيث سجد على أطراف الأصابع فإنه لم يسجد على الكفين،
وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فيجب أن يفعل كله لقوله صلى الله
عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) فيدل على أنهم إذا
استطاعوا أن يأتوا به كله فلا يجزئهم سوى ذلك.
وهنا أمره - صلى الله عليه وسلم – السجود على الأعضاء السبعة بتمامها
وكمالها فلا يجزئه سوى ذلك.
فالراجح أنه لا يجزئه أن يسجد على بعض عضوه بل لابد أن يسجد على العضو كله.
قال: (ويجافي عضديه)
__________
(1) تقدم مراراً.
أي يجافي عضديه عن جنبيه، لما روى أبو داود
في سننه بإسناد صحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجافي عضديه عن جنبيه)
(1) وثبت في الصحيحين من حديث ابن بحينة قال: (كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا صلى فسجد فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) (2) حتى قالت
ميمونة – كما في مسلم -: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت
بهمة أن تمر بين يديه لمرت) (3) البهمة: صغار المعز.
فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجافي عضديه عن جنبيه.
ويستحب له أن يرفع مرفقيه ففي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سجدت
فضع كفيك وارفع مرفقيك) (4) .
قال: (وبطنه عن فخذيه)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود (900) قال: " حدثنا
مسلم بن إبراهيم، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن، حدثنا أحمر بن جَزْء
صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتى نأوي له " أي نرثي له ونشفق عليه
ونرق له، وأخرجه ابن ماجه، سنن أبي داود [1 / 555] .
(2) أخرجه البخاري 390، 807، 3564، وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما
يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به.. (495) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به..
(496) بلفظ عن ميمونة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد لو
شاءت بَهْمَةٌ أن تمر بين يديه لمرت "، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة
السجود (898) عن ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى
بين يديه حتى لو أن بهْمة أرادت أن تمر تحت يديه مرت ".
(4) أخرجه مسلم بنفس اللفظ آخر حديث في باب (45) الاعتدال في السجود ووضع
الكفين.. من كتاب الصلاة (494)
يستحب أن يجافي بطنه عن فخذيه، وفخذاه عن
ساقيه فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان
إذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه) (1) وفي النسائي
وأبي داود بإسناد صحيح عن البراء قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
سجد جخَّ) (2) أي نحى وهي تنحية عامة، فينحي البطن عن الفخذين والفخذين عن
الساقين.
قال: (ويفرق ركبته)
للحديث المتقدم حديث أبي حميد الساعدى وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(كان إذا سجد فرَّج بين فخذيه) (3) ومقتضاه التفريج بين الركبتين أيضاً.
ويستحب له في قدميه أن يضمهما وأن يتوجه بأطراف أصابعه إلى القبلة وأن يرص
القدمين بعضهما إلى بعض.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة (735) قال: " حدثنا
عمرو بن عثمان، حدثنا بقية، حدثني عتبة، حدثني عبد الله بن عيسى، عن العباس
بن سهل الساعدي، عن أبي حميد، بهذا الحديث، قال: وإذا سجد فرَّج بين فخذيه
غير حامل بطنه على شيء من فخذيه ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صفة السجود، والنسائي في باب صفة
السجود، من كتاب التطبيق، المغني [2 / 201] .
(3) رواه أبو داود، وقد تقدم قريباً.
يدل على مسألة نصب القدمين: ما ثبت في
الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نضع اليدين وننصب القدمين)
(1) أي العقبان إلى أعلى وأطراف القدمين إلى أسفل.
وأما استقبال القبلة في الأصابع: فلِما ثبت في البخاري: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم استقبل بأطراف أصابعه القبلة) (2) .
ويستحب أن يفرج بين أصابعه، لما ثبت في الترمذي: (وفتح أصابع رجليه) (3) .
وأما رص القدمين بعضهما ببعض فثبت هذا في ابن خزيمة بإسناد صحيح: (أن النبي
صلى الله عليه وسلم رص بين قدميه) (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في وضع اليدين ونصب القدمين
في السجود (277) قال: " حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا معلى بن أسد،
حدثنا وهيب عن محمد بن عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد بن أبي
وقاص عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع اليدين ونصب
القدمين " قال أبو عيسى: " وروى يحيى بن سعيد القطان وغير واحد عن محمد بن
عجلان عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد – دون أبيه - أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أمر بوضع اليدين ونصب القدمين مرسل. وهذا أصح من حديث وُهَيب،
وهو الذي أجمع عليه أهل العلم واختاروه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد..، المغني [2
/ 123] .
(3) سنن الترمذي ج: 2 ص: 106 بلفظ ".. ثم جافى عضديه عن أبطيه وفتح أصابع
رجليه.. " في باب (227) منه، رقم (304) ، سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 116
رقم 2551، صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 297 رقم 587، وفي مواضع أخرى، كما في
اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(4) قال الألباني رحمه الله تعالى في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم
- صْ 109: " الطحاوي وابن خزيمة (رقم – 654 – طبع المكتب) والحاكم وصححه
ووافقه الذهبي ". وانظر تلخيص الحبير ج: 1 ص: 256 رقم 385، اسطوانة مكتبة
الفقه وأصوله.
وأما الكفان فيستحب أن يكونا حيال المنكبين
أو يكونا حيال الأذنين أو الوجه، فهنا صفتان:
الأولى: أن تكون الكفان حذو المنكبين ودليل ذلك: ما ثبت في أبي داود بإسناد
صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو منكبيه) (1)
.
الثانية: أن يكون حذو أذنيه، فدليله ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو أذنيه) (2) وفي
مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سجد سجد بين كفيه) (3) أي جعل
وجهه بين كفيه أي قريباً من حيال الأذنين.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، وباب افتتاح
الصلاة.المغني [2 / 201] ، ولفظه في باب افتتاح الصلاة (736) : " فلما سجد
وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه "، وفي باب رفع اليدين في الصلاة (723)
بلفظ: ".. ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه "، وبلفظ (726) ".. فلما سجد وضع رأسه
بذلك المنزل من بين يديه.. "
ويستحب أن يضم أصابعه ويستقبل بهما القبلة
كما ثبت ذلك في البيهقي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (ضم
أصابعه واستقبل بأطرافهما القبلة) (1)
قال: (ويقول: سبحان ربي الأعلى)
تقدم الكلام على هذا، وذكر الأدلة عليها وذكر ما يستحب ذكره في السجود – في
الكلام على لفظة: (سبحان ربي العظيم في الركوع)
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثامن والسبعون
(الثلاثاء: 1 / 4 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يرفع رأسه مكبراً)
أي يرفع رأسه من السجود إلى الجلسة بين السجدتين.
" مكبراً ": أي قائلاً: " الله أكبر " لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي
هريرة المتقدم وفيه: (ثم يكبر حين يهوي ساجداً ثم يكبر حين يرفع رأسه من
السجود) (2) .
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة، باب يضم أصابع يديه في السجود ويستقبل
بها القبلة (2695) قال: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر بن
إسحاق الفقيه، ثنا الحسن بن سفيان بن عامر، عن الحارث بن عبد الله بن
إسماعيل بن عقبة الخازن، ثنا هشيم، عن عاصم بن كليب، عن علقمة بن وائل بن
حجر عن أبيه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع فرج أصابعه،
وإذا سجد ضم أصابعه " وقال (2696) : " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ
أبو بكر، أنبأ عياش بن تميم السكري، ثنا مخلد بن مالك بن جابر، ثنا محمد بن
سلمة، عن الفزاري، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد فوضع يديه بالأرض استقبل بكفيه
وأصابعه القبلة ".
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (117) التكبير إذا قام من السجود رقم
(789) من حديث أبي هريرة بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا
قام إلى الصلاة يكبر … ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر
حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه … "، ورواه مسلم (392) .
وهي – أي الجلسة بين السجدتين – ركن من
أركان الصلاة وفي حديث المسيء صلاته المتفق عليه: (ثم اجلس حتى تطمئن
جالساً) (1) .
وقد تقدم مشروعية رفع اليدين إلى المنكبين أو فروع الأذنين أحياناً.
قال: (ويجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه)
أي يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب رجله اليمنى، وهذه هيئة الجلوس بين
السجدتين.
لما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة وفيه: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب
اليمنى) (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم
(757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه
بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . وقد تقدم صْ 61
(2) صحيح مسلم ج: 1 ص: 357 رقم 498 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا
أبو خالد يعني الأحمر عن حسين المعلم ح قال وحدثنا إسحاق بن إبراهيم واللفظ
له قال أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا حسين المعلم عن بديل بن ميسرة عن أبي
الجوزاء عن عائشة قالت ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة
بالتكبير والقراءة ب الحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم
يصوبه ولكن بين ذلك وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما
وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يقول في كل
ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة
الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع وكان يختم الصلاة
بالتسليم " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
وقد ثبت في أبي داود والترمذي من حديث أبي
حميد الساعدي في قصة صلاته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (ثم ثنى
رجله اليسرى وقعد عليها حتى رجع كل عضو موضعه ثم هوى ساجداً) (1) وفيه أنه
اطمأن في جلسته.
ويستحب أن يستقبل بأطراف أصابع رجليه اليمنى – وهي المنصوبة – أن يستقبل
بها القبلة كما صح ذلك في سنن النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه
وسلم: (استقبل بأطراف أصابعه القبلة) (2) يعني في الجلسة بين السجدتين كما
هو ظاهر الرواية.
ويضع يديه على فخذيه كما سيأتي في الكلام على وضع اليدين في التشهد، ومثله
الجلوس بين السجدتين.
ولا يستحب أن يشير بأصبعه – في الجلسة بين السجدتين – خلافاً لابن القيم،
حيث ساق في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة في الجلسة بين
السجدتين، ولا دليل على ذلك، وأما ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (3) فإنها
رواية شاذة عند أهل العلم، ولم أر أحداً من أهل العلم ذكرها سوى ابن القيم.
قال: (ويقول: رب اغفر لي)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة رقم (730)
بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرفع
يديه …ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتخ أصابع رجليه إذا
سجد ويسجد ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها
حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك.. ". ومعنى يفتخ كما
قال الخطابي: يلينها حتى تنثني فيوجهها نحو القبلة، والفتخ لين واسترسال في
جناح الطائر.
(2) روى النسائي في كتاب التطبيق، باب (96) الاستقبال بأطراف أصابع القدم
القبلة عند القعود للتشهد عن عبد الله عمر قال: من سنة الصلاة أن تنصب
القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى ".
لما ثبت في سنن النسائي: بإسناد صحيح: أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: (رب اغفر لي، رب اغفر لي)
(1) أي يكررها ما شاء الله، فالمستحب هذا اللفظ " رب اغفر لي "
وهو كالمستحب في " سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى " الواجب مرة، وأدنى
الكمال ثلاثاً، والمستحب أن يكررها ما شاء بقدر جلوسه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: (يطيل الجلسة بين السجدتين حتى يقال: قد
نسي) يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: (لا آلُ (2) أصلي بكم
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان – أي أنس – إذا رفع رأسه من الركوع قام
حتى يقول القائل قد نسي أو وهم وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد وهم أو
نسي) (3) في رواية " نسي " وفي رواية أخرى " وهم ".
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب (86) الدعاء بين السجدتين رقم
(1145) .
(2) كذا في الأصل، وفي البخاري: آلو، بالمد.
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (140) المكث بين السجدتين رقم (821)
ولفظه: " عن أنس رضي الله عنه قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي
- صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً لم أركم
تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين
السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي. وانظر (800) ، ومسلم (472) .
ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم – من
الأذكار في هذا الموضع ما رواه الأربعة إلا النسائي – وهذا لفظ أبي داود –
أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقول بين السجدتين " رب اغفر لي وارحمني
وعافني واهدني وارزقني ") (1) وفي رواية الترمذي: (واجبرني) (2) في موضع
(عافني) وزاد ابن ماجه لفظة (وارفعني) (3) – والحديث إسناده حسن.
وحسن أن يجمع بينهما – أي هذه الألفاظ – لثبوتها عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
وهذان الحديثان الوارد فيهما من باب الدعاء، ومنه يستفاد أن هذا الموضع
موضع دعاء، وحيث كان موضع دعاء وحيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل
الجلوس حتى يقال قد نسي فإن فيه: أنه لا بأس أن يزيد من الأدعية ما شاء من
غير أن يتخذ شيئاً من الألفاظ سنة مستحبة في هذا الموضع.
قال: (ويسجد الثانية كالأولى)
أي يسجد السجدة الثانية كهيئة السجدة الأولى فيستحب فيها ما يستحب في
الأولى وما يجب من الأقوال والأفعال.
قال: (ثم يرفع مكبراً)
أي قائلاً: " الله أكبر " وقد تقدم هذا في حديث أبي هريرة.
قال: (ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبته إن سهل)
فيها مسائل:
المسألة الأولى: هل يستحب له أن يجلس جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى أو
الثالثة أم لا؟
على قولين:
1- القول الأول: وهو مذهب أكثر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أنه لا يستحب
له ذلك لذا لم يذكرها المؤلف.
واستدلوا:
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة،باب (145) الدعاء بين السجدتين (850) .
(2) رواه الترمذي في كتاب الصلاة، باب (95) ما يقول بين السجدتين رقم (284)
.
(3) رواه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب (23) ما يقول بين السجدتين
رقم (898) بلفظ: " عن ابن عباس قال: كان رسو الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارزقني
وارفعني ".
بأن أكثر الأحاديث الواردة عن النبي صلى
الله عليه وسلم في صفة الصلاة لم تذكر هذه الجلسة.
2- القول الثاني: وهو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد اختارها الخلال
من أصحابه وذكر أن الإمام أحمد قد رجع إلى القول بها، وهو مذهب أهل الحديث:
وأنه تستحب هذه الجلسة.
واستدلوا بحديثين ثابتين:
الحديث الأول: حديث مالك بن الحويرث في البخاري قال: (رأيت النبي صلى الله
عليه وسلم فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً) (1)
الحديث الثاني: ما ثبت في سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي،
وقد قاله بمحضر عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أبو قتاده
وقالوا له – لما ذكر صفة الصلاة – من جملتها جلسة الاستراحة قالوا له:
(صدقت هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي) وفيه: (ثم ثنى رجليه وجلس
حتى رجع كل عضو موضعه ثم نهض) (2) .
قالوا: فهذان الحديثان فيهما إثبات جلسة الاستراحة.
أما حديث أبي حميد: فإنه قد أقره على ذلك عشرة من الصحابة منهم أبو قتادة.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان،باب (142) من استوى قاعداً في وتر من
صلاته ثم نهض رقم (823) وانظر (824) ففيه: قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم
التكبير وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض ثم قام،
وانظر (677) .
(2) سنن الترمذي ج: 2 ص: 105 باب (227) باب منه رقم 304، قال في خلاصة
البدر المنير ج: 1 ص: 136 رقم 451: " حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من
أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه وصف صلاة رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم فقال ثم هوى ساجدا ثم ثنى رجله وقعد حتى يرجع كل عظم موضعه
ثم نهض رواه الترمذي وقال حسن صحيح قلت وقول الطحاوي جلسة الاستراحة ليست
في حديث أبي حميد غريب منه مع جلالته " انتهى من اسطوانة مكتبة الفقه
وأصوله، ولم أجده في سنن أبي داود
وأما حديث مالك بن الحويرث: فإن راويه –
وهو مالك بن الحويرث – هو راوي أصل هذا الباب، وهو حديث: (صلوا كما
رأيتموني أصلي) (1) وقد ذكر فيه جلسة الاستراحة وهذا هو القول الراجح (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (18) الأذان للمسافر إذا كانوا
جماعة.. (631) راجع 628، ومسلم (674) .
(2) تراجع شيخنا عن ذلك في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه في رأس الخيمة عام
1420 هـ فقال ما نصه " ومثل هذه المسألة في الخلاف بين أهل العلم، جلسة
الاستراحة:
فإن من أهل العلم من استحبها كالشافعية.
ومنهم من لم يستحبها، كالجمهور.
ومنهم من قال: إنها إنما تُفعل عند الحاجة.
من لم يستحبها قال: إن أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس
فيها ذكر جلسة الاستراحة، وكذلك ما تقدم عن الأكابر من أصحاب النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامهم.
وأما من استحبها، فاعتمد على حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، فإن في
البخاري أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى
يستوي قاعدا، وفي أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أنه كان إذا
قام من السجدة، ثنَى رجله ثم جلس عليها حتى يرجع كل عضو موضعه، قال: ثم نهض
".
أما حديث أبي حُميد، فإن ذكر جلسة الاستراحة فيه وهم، كما قرر هذا ابن رجب
في فتح الباري، ولذا قال الإمام أحمد في حديث مالك بن الحويرث: " ليس لهذا
الحديث ثانٍ " أي ليس له من أحاديث الصحابة ما يشهد له، وهذا ليس فيه رد
له، لكن المقصود أن سائر الصحابة لم يذكروها، فتفرد بذكرها مالك، فدل على
أنها لا تستحب إلا في الحال التي أدركه عليها، ومالك بن الحويرث قد أدرك
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثقل، والمعنى يتقضي ذلك: فإن هذه الجلسة
للاستراحة، كاسمها عند أهل العلم، فالذي يحتاج إليها، يجلسها، سواء كان
مريضا أو ثقيلا. فالأصح، وهو مذهب طائفة من أصحاب أحمد والشافعي، أن هذه
الجلسة إنما تستحب عند الحاجة. إذاً: لأهل العلم في هذه المسألة ثلاثة
أقوال، أقربها أن هذه الجلسة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما
كبُر وثقل، وعلى ذلك فتستحب عند الحاجة ".
أما ما ذكره أهل القول الأول: من أن هذه
السنة لم تثبت إلا في هذين الحديثين.
فالجواب: أن هذا في الحقيقة كاف في إثباتها ولا يشترط أن يروي من غير هذين
الحديثين بل لو ثبتت السنة في حديث واحد لكانت سنة عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
- وقيل وهو اختيار الموفق: يستحب لمن ضعف وكبر. وعليه حمل الحديثان
المتقدمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما على كبر.
لكن هذا وإن كان قد يكون واقعاً – فإن مالكاً راوي هذا الحديث قد يكون رأى
النبي صلى الله عليه وسلم وقد كبر، لكن هذا لا يعني أنه لا يستحب لغيره.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: (صلوا كما رأيتموني أصلي) لم
يستثن من ذلك شيئاً، وكانوا قد رأوه وقد جلس جلسة الاستراحة، فلو لم تكن
مستحبة لاستثناها النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي حميد حديث مطلق ليس
فيه ما يدل على أنه فعله حين الكبر.
كما أن إقرار هؤلاء العشرة وسكوتهم عن روايته وعدم اعتراض أحد منهم على ذلك
بأنه قد فعلها حين الكبر، فسكوتهم يدل على أن ذلك سنة مستحبة مطلقاً.
إذن: الراجح سنية جلسة الاستراحة.
ويستحب أن يطمئن بها كما تقدم في حديث أبي حميد الساعدي: (ثم جلس حتى رجع
كل عضو) وهي جلسة لطيفة لم يرد فيها ذكر.
مسألة:
على القول باستحباب هذه الجلسة متى يكون التكبير؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم هي ثلاثة أوجه في مذهب الشافعية:
الأول: أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس ثم ينهض بلا تكبير.
الثاني: أنه لا يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس ثم يكبر وينهض.
الثالث: أنه يكبر إذا رفع رأسه ويمد تكبيره حتى يجلس ثم ينهض.
وهذا أصحها عند الشافعية وهو المشهور عندهم.
والراجح عدم استحباب ذلك لأن هذه الصفة لو كانت ثابتة لنقلت إلينا لاختلاف
الصفة عن غيرها من التكبيرات.
ثم إن هذه الجلسة إنما شرعت لإعطاء البدن شيئاً من الراحة وحيث كان على هذه
الهيئة فإنه ينافي هذا.
وأصحها أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس
وينهض بلا تكبير، والذي يدل عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآه من
رآه ممن حكى لنا هذا، ولو كان يكبر عن إرادة النهوض لما رويت لنا لعد
رؤيتها، وهذا يضعف القول بأنه يكبر عند النهوض.
وقد تقدم تضعيف القول بمد التكبير بحيث يكون شاملاً للرفع والجلسة والنهوض.
فيبقى أصح الأقوال أنه يكبر إذا رفع رأسه ثم يجلس وينهض بلا تكبير ويؤيده
قول أبي هريرة – في الحديث المتقدم -: (ثم يكبر حتى يرفع رأسه) وهذا إنما
يصدق على فعله بعد الرفع مباشرة.
وهذا القول هو قول في مذهب الحنابلة.
وقد اختار بعضهم الرواية الأخرى عن الإمام أحمد ورتبوا عليها ذلك كما ذكر
الموفق في المغني.
المسألة الثانية:
أنه يقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبته.
أما قيامه على صدور قدميه، فلما روى الترمذي من حديث خالد بن إلياس وهو
متروك الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا نهض ينهض على صدور
قدميه) (1) وإسناده ضعيف جداً.
واستدلوا على استحباب اعتماده بيديه على ركبتيه أو فخذيه: بحديث وائل بن
حجر في سنن أبي داود: قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهض ينهض على
ركبته واعتمد بيديه على فخذيه) (2)
__________
(1) سنن الترمذي ج: 2 ص: 80 باب 214 باب منه أيضا رقم 288 حدثنا يحيى بن
موسى حدثنا أبو معاوية حدثنا خالد بن إلياس عن صالح مولى التوأمة عن أبي
هريرة قال ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه
قال أبو عيسى حديث أبي هريرة عليه العمل ثم أهل العلم يختارون أن ينهض
الرجل في الصلاة على صدور قدميه وخالد بن إلياس هو ضعيف ثم أهل الحديث قال
ويقال خالد بن إياس أيضا وصالح مولى التوأمة هو صالح بن أبي صالح وأبو صالح
اسمه نبهان وهو مدني " اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (117) افتتاح الصلاة رقم (736) .
واستدلوا: بما روى أبو داود أن النبي صلى
الله عليه وسلم: (نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة) (1) .
- وذهب المالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن المستحب له أن
ينهض معتمداً على يديه.
فإذا جلس للاستراحة أو قام من التشهد الأول فإنه يعتمد على الأرض بيديه.
واستدلوا: بما ثبت في البخاري من حديث مالك بن الحويرث وفيه: أن النبي صلى
الله عليه وسلم: (كان إذا رفع من السجدة الثانية جلس واعتمد بيديه على
الأرض ثم قام) (2)
وأما الحديثان اللذان استدللتم بهما:
فالأول: ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين عبد الجبار بن وائل وبين أبيه فإنه لم
يدرك أباه.
وأما الثاني: فإن مداره على عبد الرزاق صاحب المصنف، وقد رواه الثقات
كالإمام أحمد وغيره عنه بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد
الرجل على يديه في الصلاة) (3) وأخطأ بعض الرواة فرواه باللفظ المتقدم.
__________
(1) سنن أبي داود ج: 1 ص: 260 باب 188 كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة
/ كتاب الصلاة، رقم 992 حدثنا أحمد بن حنبل وأحمد بن محمد بن شبويه ومحمد
بن رافع ومحمد بن عبد الملك الغزال قالوا ثنا عبد الرزاق عن معمر عن
إسماعيل بن أمية عن نافع عن بن عمر ثم قال نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال أحمد بن حنبل أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده وقال بن
شبويه نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة وقال بن رافع نهى أن يصلي
الرجل وهو معتمد على يده وذكره في باب الرفع من السجود وقال بن عبد الملك
نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة ". اسطوانة مكتبة الفقه
وأصوله.
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (143) كيف يعتمد على الأرض إذا قام
من الركعة رقم (824) وفي آخره: " قل أيوب: " وكان ذلك الشيخ يتم التكبير
وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام " وليس فيه "
بيديه ".
إذن الراجح أن المستحب له أن يعتمد بيديه
على الأرض فيقوم (1)
__________
(1) قال شيخنا في شرحه الآخر للزاد الذي شرحه في رأس الخيمة عام 1420 ما
نصه: " وأجاب الحنابلة: بأن أكثر الأحاديث الواردة في صفة صلاة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم لم تذكر الاعتماد على اليدين، وتفرد بهذه السنة
الصحيحة مالك بن الحويرث، وكان من متأخري الإسلام، فقد أدرك النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وقد كبُر عليه الصلاة والسلام، وهذا هو ما يسمى بالعجن،
يعني فعل العاجن أو العاجز، يعني إذا قام اعتمد على يديه، فيكون قد أدرك
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثقُل، وهذا هو الأصح، وأن المستحب له أن
ينهض على صدور قدميه، ولذا فإن هذه السنة هي الثابتة عن الأكابر من أصحاب
النبي كما روى ذلك ابن أبي شيبة، فقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة أن
عليا وابن مسعود وابن عمر كانوا ينهضون على صدور أقدامهم، يعني كانوا إذا
قاموا في الصلاة ينهضون على صدور أقدامهم، فعامة الأحاديث في صفة صلاة
النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر الاعتماد على اليدين، وكان الأكابر
من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهضون على صدور أقدامهم، وهذه
السنة قد رواها مالك بن الحويرث، وهو من متأخري الإسلام، فدل هذا على أن
هذه السنة، إنما تفعل عند الحاجة.
وصورة العجن: أن يضع اليدين على الأرض ثم يقوم، وأما تخصيص الاستحباب بأن
يكون كما يضع العاجن – الذي يعجن العجين – فيعجن، فإن هذا التخصيص ضعيف،
وأما ما رواه الطبراني في الأوسط، والحربي الحنبلي في غريبه من حديث الهيثم
بن عمران، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان يعجن يعتمد على يديه
إذا نهض في الصلاة، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله "
فإن هذا الحديث لا يصح، فإن الهيثم بن عمران لم يوثقه سوى ابن حبان، وذكره
ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وكونه روى عنه جماعة، هذا
يُقبل حيث لم يأت بسنة غريبة، ولذا فإن هذا الحديث قد أعرض عنه سائر
الأئمة، فلم يعتمدوا عليه، وقد قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى فيه: " لا
يصح ولا يعرف، ولا يحتج به "، وقال النووي: " ضعيف باطل لا أصل له " ذكر
هذا ابن حجر في تلخيص الحبير، ولم يتعقب ذلك، وأول من ذكر هذه السنة هو
الغزالي في بعض كتبه، وأنكر عليه أئمة الشافعية، ولما ذكر ابن رجب هذا
الحديث في فتح الباري قال فيه: " غريب، والهيثم لا يعرف "، فهذا الحديث
حديث ضعيف، وعلى ذلك: فالمستحب له إن قلنا بالاعتماد، أن يعتمد على أي شكل،
سواء هكذا أو هكذا، من غير تخصيص باستحبابه، يعني لا نقول: إن المستحب فقط
أن يقول هكذا. على أن الراجح أن المستحب له أن ينهض على صدور قدميه ".
قال: (إن سهل) :
تقدم أنه يقوم على صدور قدميه معتمداً على ركبته، يفعل هذا إن سهل.
فإن كان فيه مشقة فإنه يعتمد على يديه دفعاً للمشقة.
وقد أجابوا عن حديث مالك بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لكونه
كبر وثقل فكان يعتمد على يديه، وقد تقدم الجواب عن نحو هذا.
قال: (ويصلي الثانية كذلك)
فيصلي الركعة الثانية كصلاته الركعة الأولى.
قال: (ما عدا التحريمة)
فإنها تشرع في أول الصلاة.
قال: (والاستفتاح)
لحديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام إلى الثانية استفتح
بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت) (1) أي لم يسكت للاستفتاح.
قال: (والتعوذ)
فإنه يسقط على المشهور في المذهب.
وتقدم أن الراجح أنه يتعوذ كل ركعة للقراءة.
قال: (وتجديد النية)
فإن النية في أول الصلاة شاملة، لأولها ووسطها وآخرها فلا يحتاج إلى تجديد
النية فيه.
وقد ثبت في الصحيحين في حديث المسيء صلاته وفيه أنه أمره بقراءة ما تيسر من
القرآن ونحو ذلك وفيه: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) (2) فيفعل ما ذكر من
الواجبات والأركان في الثانية كما فعله في الأولى.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب (27) ما يقال بين تكبيرة الإحرام
والقراءة رقم (599) بلفظ: " سمعت أبا هريرة يقول: كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ {الحمد لله رب
العالمين} ولم يسكت ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم
(757) ، وباب (122) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه
بالإعادة (793) ، وأخرجه مسلم (397) . تقدم صْ 61.
ثبت في مسلم جلسة الإقعاء وهي أن ينصب
قدميه ويقعد عليهما وهي صفة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها
ابن عباس: (سنة نبيكم) (1) .
مسألة:
إذا كان الإمام لا يجلس جلسة الاستراحة فهل يجلسها المأموم أم لا؟
الجواب: إن جلسها فلا بأس؛ لأنها سنة مستحبة وإن لم يجلسها فهو أولى، قال
شيخ الإسلام: " وهذا الأقوى؛ لأن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب
" (2) .
__________
(1) في كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين (536) . وسيأتي صْ 152.
(2) جاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ما نصه [22 / 451] : " وسئل: عن رجل
يصلي مأموماً ويجلس بين الركعات جلسة الاستراحة ولم يفعل ذلك الإمام، فهل
يجوز ذلك له؟ وإذا جاز: هل يكون منقصا لأجره لأجل كونه لم يتابع الإمام في
سرعة الإمام؟ فأجاب: جلس الاستراحة قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - جلسها، لكن تردد العلماء هل فعل ذلك من كبر السن للحاجة أو فعل
ذلك لأنه من سنة الصلاة، فمن قال بالثاني استحبها، كقول الشافعي وأحمد في
إحدى الروايتين، ومن قال بالأول لم يستحبها إلا عند الحاجة، كقول أبي حنيفة
ومالك وأحمد في إحدى الرواية الأخرى، ومن فعلها لم ينكر عليه، وإن كان
مأموماً، لكون التأخر بمقدار ما ليس هو من التخلف المنهي عنه عند من يقول
باستحبابها، وهل هذا إلا فعل في محل الاجتهاد فإنه قد تعارض فعل هذه السنة
عنده والمبادرة إلى موافقة الإمام فإن ذلك أولى من التخلف، لكنه يسير، فصار
مثل ما إذا قام من التشهد الأول قبل أن يكمله المأموم، والمأموم يرى أنه
مستحب، أو مثل أن يسلم وقد بقي عليه يسير من الدعاء، هل يسلم أو يتمه؟ ومثل
هذه المسائل هي من مسائل الاجتهاد، والأقوى أن متابعة الإمام أولى من
التخلف لفعل مستحب، والله أعلم ".
هذه المسألة لها صور، كأن يتخلف المأموم عن
السلام بعد سلام إمامه بدعاء أو نحوه أو يتخلف عن القيام معه لاشتغاله بذكر
أو نحوه فالأولى متابعة الإمام وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا كبر
فكبروا ….) (1) وظاهره الإسراع والمبادرة بفعله بمجرد ما يفعله الإمام.
إذن: إن فعل ذلك فلا بأس؛ لأن هذا شيء يسير لا يخل بالمتابعة، لكن إن تركها
متابعة للإمام فهو أولى.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس التاسع والسبعون
(يوم الأربعاء: 2 / 4 / 1415هـ)
ذكر المؤلف – فيما سبق – تفاصيل الركعة الأولى، وذكر الركعة الثانية مجملة،
فيبقى الكلام على التشهد الأول وسننه.
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يجلس مفترشاً (يسراه) ويداه على فخذيه …. إلى
آخره)
في هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى:
في صفة جلوس التشهد، وهو أنه يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى –
كما تقدم – في حديث عائشة (2) وهو ثابت من حديث ابن عمر كما في البخاري (3)
، فالسنة في التشهد أن يجلس مفترشاً يسراه ناصباً يمناه.
المسألة الثانية: (ويداه على فخذيه)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (82) إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة
(732) ، (734) ، وأخرجه مسلم (411) ،وقد تقدم صْ 98.
(2) رواه مسلم، وقد تقدم صْ 113.
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب (145) سنة الجلوس في التشهد رقم
(827) ، وكذلك من حديث أبي حميد الساعدي في البخاري رقم (828) .
فاليدان يوضعان على الفخذين، لحديث وائل بن
حجر عند الخمسة بإسناد صحيح وفيه: (ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده
اليسرى على فخذه اليسرى (1) وحد مرفقه الأيمن على فخذه الأيمن وقبض اثنتين
وحلق، ورأيته يقول: هكذا، وحلق بشر – وهو الراوي – الإبهام والوسطى وأشار
بالسبابة) (2) .
إذن يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام والوسطى ويشير بأصبعه السبابة.
وثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يضع يديه على الركبتين وأنه يقبض
أصابعه كلها ويشير بالسبابة، كما ثبت ذلك في مسلم من حديث ابن عمر: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم: كان إن قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته
اليسرى واليمنى على اليمنى وعقد ثلاثاً وسبعين (3) - وهي طريقة الحساب عند
العرب - وأشار بالسبابة) (4) .
وهذه الطريقة هي: أن يضم أصابعه الأربع ويشير بالسبابة وفي رواية: (قبض
أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام) (5) فهاتان صفتان ثابتتان عن النبي
صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة: (ويشير بسبابتها في تشهدها)
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم وأن يشير بها بلا تحريك
أي لا يحرك إصبعه السبابة.
__________
(1) كذا في الأصل وهي موافقة للفظ الحديث كما في أبي داود وغيره.
(2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (180) كيف الجلوس في التشهد (957) ،
قال في حاشية سنن أبي داود [1 / 587] : " وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا
حديث 867 ".
(3) كذا في الأصل وفوقها كلمة: خمسين، وهي الموافقة للفظ الحديث.
(4) رواه مسلم في كتاب المساجد / باب (21) صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع
اليدين على الفخذين / رقم (580) بلفظ: " ابن عمر أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع
يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة ".
(5) رواه مسلم في الباب السابق رقم (580) .
واستدلوا: بأن الأحاديث الثابتة عن النبي
صلى الله عليه وسلم ليس فيها إلا ذكر الإشارة كما تقدم في غير ما حديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد ذلك صريحاً – كما في سنن أبي داود- عن
ابن الزبير بإسناد جيد وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يشير
بإصبعه ولا يحركها) (1) .
- وذهب المالكية: إلى استحباب تحريك الأصبع.
واستدلوا: بما رواه أبو داود من حديث وائل بن حجر بإسناد جيد: أن النبي صلى
الله عليه وسلم (كان يحركها يدعو بها) (2)
والصحيح المذهب الأول، لأن هذا الحديث شاذ فعامة الأحاديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم ليس فيها التحريك وإنما فيها الإشارة فحسب.
بل قد خالف صراحة حديث ابن الزبير وفيه عدم التحريك بل عامة الرواة عن وائل
لم يذكروا هذه اللفظة وتفرد بها بعض الرواة.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (186) الإشارة في التشهد رقم (989)
.
(2) عزاه الحافظ كما في تلخيص الحبير لابن خزيمة والبيهقي، ولم يعزه لأبي
داود، ولم أجده في سنن أبي داود لكن عزاه غير واحد إليه. وقد رواه النسائي
- المجتبى ج: 2 ص: 126 باب (11) موضع اليمين من الشمال في الصلاة رقم (889)
وج: 3 ص: 37 باب (34) قبض الثنتين من أصابع اليد اليمنى وعقد الوسطى
والإبهام منها رقم 1268، وصحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 354 باب (224) صفة وضع
اليدين على الركبتين في التشهد وتحريك السبابة ثم الإشارة بها رقم (714) .
اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
ومما يدل على ذلك: ما ثبت في سنن النسائي
بإسناد صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مرَّ
على رجل وهو يشير بأصبعيه يدعو بهما فقال: (أحِّد أحِّد) وأشار النبي صلى
الله عليه وسلم بأصبعه السبابة) (1)
فإن هذا من جنس من يرفع اليدين للدعاء، فيشير بإصبعه إشارة إلى توحيد الله
وأن هو المدعو وحده، وأن الدعاء يوجه إليه دون غيره.
قوله: (في تشهدها)
المستحب عند الحنابلة في المشهور عنهم: أنه يشير بها عند التشهد - وذكر
الله – فإذا ذكر الله أشار ثم يعيدها، وكلما ذكر الله أشار.
وعن الإمام أحمد: أنه يشير بها في تشهده كله، فيرفع أصبعه السبابة فيشير
بها في تشهده كله.
أما ما ذكره الحنابلة وغيرهم في هذا الباب فلا دليل عليه وظاهر الحديث
المتقدم أنه أشار بها في تشهده كله.
والتشهد في الحقيقة دعاء، لأنه ما بين ثناء على الله وصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم وهما من مقدمات الدعاء وسؤال المغفرة ونحو ذلك فكله في
الحقيقة دعاء.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر: (فأشار بأصبعه فدعا بها) (2) فإذن التشهد
كله دعاء.
__________
(1) رواه النسائي في كتاب السهو، باب (37) النهي عن الإشارة بأصبعين وبأي
أصبع يشير رقم (1372) بلفظ: " عن أبي هريرة أن رجلاً كان يعدو بأصبعيه فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أحد، أحد) ، و (1373) بلفظ: " عن سعد
قال: مر علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدعو بأصبعي فقال أحد
أحد وأشار بالسبابة ".
(2) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب (21) صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع
اليدين على الفخذين رقم (580) بلفظ: " عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمنى التي
تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها ".
ومعلوم أن الداعي لله عز وجل إذا دعاه فإنه
يرفع يديه ويتضمن ذلك ثناء على الله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وهما داخلان في الدعاء لأنهما من مقدماته.
فالراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه من أنه يشير بها في
تشهده كله.
ويستحب له أن يديم النظر إليها وحينئذ يكون استثناءً من النظر إلى موضع
سجوده، فقد ثبت في المسند وغيره بإسناد جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(كان يديم نظره إليها) (1)
المسألة الرابعة: (ويبسط اليسرى)
أي يبسطها على فخذه.
أو يلقمها ركبته، فقد صح في مسلم من حديث ابن الزبير وفيه: (وألقم ركبته
كفه) (2) فيستحب أن يبسطها على فخذه أو يلقمها ركبته.
قال: (ويقول: التحيات لله ….)
(التحيات لله) بمعنى: البقاء والعظمة والملك والسلامة لله تعالى.
(والصلوات) كلها فرضها ونفلها، والصلاة الشرعية واللغوية وهي الدعاء كل ذلك
لله تعالى مستحق له مصروف إليه بل (والطيبات) كلها فكل عمل أو قول طيب فهو
إلى الله يوجه ويصرف إليه.
(السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) هكذا في الرواية وهو ما كان
يعلمه عمر بن الخطاب على المنبر – كما في الموطأ بإسناد صحيح (3) .
__________
(1) رواه أحمد في المسند رقم (6000) ، وفي طبعة برقم (5964) قال: " حدثنا
محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري، حدثنا كثير بن زيد، عن نافع قال: كان
عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه
وأتبعها بصره ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لهي أشد على
الشيطان من الحديد) يعني السبابة
(2) رواه مسلم في الباب السابق قبل رقم (519) قبل رقم (580) . بلفظ: " كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو وضع يده … ويلقم كفه اليسرى
ركبته "
(3) الموطأ / كتاب الصلاة / باب التشهد في الصلاة / رقم (200) .
وذهب كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم إلى القول بعد وفاته: (السلام على النبي) ، كما روى البخاري عن ابن
مسعود قال: (لما كان بين ظهرانينا فلما قبض قلنا: السلام) قال البخاري:
(يعني على النبي - صلى الله عليه وسلم -) (1) وقد ورد تصريحاً في مصنف ابن
أبي شيبة ومستخرج الإسماعيلي: (السلام على النبي) (2) .
وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: (كان أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم وهو حي يقولون: السلام عليك أيها النبي، فلما مات
قالوا: السلام على النبي) (3) .
__________
(1) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2311 رقم (5910) حدثنا أبو نعيم حدثنا سيف قال
سمعت مجاهدا يقول حدثني عبد الله بن سخبرة أبو معمر قال سمعت بن مسعود يقول
ثم علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفي بين كفيه التشهد كما يعلمني
السورة من القرآن التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها الله
وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا السلام يعني
على النبي صلى الله عليه وسلم " اسطوانة مكتبة الحديث، وفي نسخة عندي برقم
(6265) باب (28) الأخذ باليدين / كتاب الاستئذان
(3) مصنف عبد الرزاق [2 / 204) رقم (3075) بلفظ:" عن عطاء: أن أصحاب النبي
- صلى الله عليه وسلم - كانوا يسلمون والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي:
السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما مات قالوا السلام على
النبي ورحمة الله وبركاته "
والأولى الوقوف على الرواية الثابتة عن
النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لفظ علمه الصحابة في حضرته وغيبته، فهو وهو
غائب عنهم يصلون في بيوتهم أو في بواديهم أو في مدنهم الخارجة عن مدينة
النبي صلى الله عليه وسلم وفي مساجدهم الخارجة عن مسجده وهم في حكم الغائب
عنه، وهو في حكم الميت، لأنه لا يسمع لفظهم، بل وهم يصلون خلفه لا يسمع –
من حيث الطبيعة – لا يسمع تسليمهم فإنه في حكم الغائب الميت صلى الله عليه
وسلم.
وإذا قلنا: بأنه يسمع كلامهم وهو حي فكذلك وهو ميت كما ورد في الحديث
الصحيح: (أنه ما من أحد يمر على النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه إلا
رد الله عليه روحه فرد عليه السلام) (1) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإن
تسليمكم ليبلغني حيث كنتم) (2) .
فحينئذ: لا فرق بين كونه حياً وميتاً، وهذا ما كان عليه عمر بن الخطاب ولم
ينكر عليه أحد من الصحابة وقد كان يعلمه بمحضر الصحابة.
وأما ما رواه ابن مسعود وغيره فإن هذا اجتهاد منهم ونظر.
__________
(1) قال في تلخيص الحبير ج: 2 ص: 267: " وأصح ما ورد في ذلك ما رواه أحمد
وأبو داود من طريق أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن
أبي هريرة مرفوعا ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه
السلام وبهذا الحديث صدر البيهقي الباب "، رواه أبو داود في كتاب المناسك،
باب (100) زيارة القبور رقم (2041) .
(2) قال في مجمع الزوائد ج: 4 ص: 3 " رواه أبو يعلي وفيه حفص بن ابراهيم
الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا وبقية رجاله ثقات " وذكره
الحافظ أبو عبد الله المقدسي في مختاره عن علي رضي الله عنه كما قال شيخ
الإسلام في الفتاوى.، ورواه أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ: (لا تجعلوا
بيوتكم قبورا … فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) . في كتاب المناسك / باب (100)
زيارة القبور رقم (2042) .
فالراجح أنه يقول: (السلام عليك أيها
النبي) .
قوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا أله إلا الله
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)
هكذا في الرواية المتفق عليها (1) ، وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف
مرفوعاً: (وحده لا شريك له) (2) وهي ثابتة في سنن أبي داود موقوفة على ابن
عمر بإسناد صحيح أنه قال: (وزدت وحده لا شريك له) (3) .
إذن: المستحب – كما هو المشهور في المذهب أنه لا يزيد عليها ذلك كما أنه لا
يزيد عليها التسمية، فإنها قد وردت من حديث جابر في النسائي وابن ماجه (4)
لكنها ضعيفة.
وهذا النوع من التشهد هو أشهرها، وهو تشهد ابن مسعود الثابت في الصحيحين.
__________
(1) صحيح البخاري / كتاب الاستئذان،باب (28) الأخذ باليدين / رقم (6265)
،ومسلم رقم (402) .
(3) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (182) التشهد / رقم (971)
(4) أخرجه النسائي في كتاب السهو، باب (45) نوع آخر من التشهد (1281) قال:
" أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا أيمن بن نابل قال حدثنا
أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله التحيات لله
والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده
ورسوله، وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار) . قال أبو عبد الرحمن: " لا
نعلم أحدا تابع أيمن بن نابل على هذه الرواية، وأيمن عندنا لا بأس به،
والحديث خطأ، وبالله التوفيق " ورواه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة / باب
(24) ما جاء في التشهد / رقم (902) قال الألباني " ضعيف ". وانظر مصنف عبد
الرزاق رقم (3071) [2 / 203] .
فقد صح عنه أنه قال: التفت إلينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات
والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى
عباد الله الصالحين أشهد أن لا أله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1) .
وقد اختاره الإمام أحمد مع ورود أنواع أخرى؛ وقد اختاره الإمام أحمد لأنه
ثابت في الصحيحين ولأن أكثر أهل العلم عليه، فقد ذكر الترمذي: أن أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على ذلك (2) .
ومع ذلك فإنه – باتفاق أهل العلم – أنه لو قال أي تشهد وارد فإن ذلك يجزئه
– قال الإمام أحمد: " وتشهد عبد الله أعجب إلي وإن كان غيره جائزاً ".
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم.
(2) جامع الترمذي / كتاب الصلاة / باب (99) ما جاء في التشهد / تحت رقم
(289) قال: " والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك
وأحمد وإسحاق ".
فقد وردت تشهدات أخرى كتشهد ابن عباس في
مسلم وغيره (1) ، لكن الإمام أحمد اختار تشهد ابن مسعود لثبوته في الصحيحين
ولكونه محفوظاً حفظاً ثابتاً حتى قال الأسود: " كنا نتحفظه من عبد الله كما
نتحفظ السورة من القرآن " (2) .
وإن فعل هذا تارة وهذا تارة فهو أولى لثبوت ذلك كله.
قال: (هذا التشهد الأول)
ولا يستحب – كما تقدم - أن تزيد عليه " وحده لا شريك له " ولا التسمية.
أما النقص: فهل يجزئه إذا نقص أم لا؟
قولان:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أنه يجزئه ذلك.
فإذا نقص منه بحيث ذكر أصوله فإن ذلك يجزئه، وذلك بأن يقول: " التحيات لله،
والسلام عليك أيها النبي والسلام على عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".
وهذا القول هو المرجح في المذهب وعليه أكثر أصحاب الإمام أحمد.
القول الثاني في المذهب وهو قول ابن حامد: وأن ذلك لا يجزئه حتى يأتي
بالتشهد الوارد بتشهد ابن مسعود أو غيره من الوارد.
وهذا أولى وأحوط.
أما كونه أولى؛ فلأن هذا ذكر والأذكار يجب أن تؤدى كما رويت لذا لا يجوز أن
تروى بالمعنى وذلك لأن ألفاظها متعبد بها.
__________
(1) رواه مسلم / كتاب الصلاة / باب (16) التشهد في الصلاة / رقم (403)
بلفظ: " عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا
التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: (التحيات المباركات
الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا
رسول الله) .
(2) رواه أحمد في المسند رقم (4382) بلفظ: " عن عبد الله بن مسعود قال:
علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد.. قال: فكنا نحفظ من عبد
الله حين أخبرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه إياه.. "، وانظر
المغني [2 / 222] .
وأما كونه أحوط فهو ظاهر، فإنه احتياط في
الديانة فهؤلاء يقولون يجزئ، والآخرون يقولون: لا يجزئ، والسنة فعله، فهو
الثابت، فالأولى والأحوط أن يقوله كاملاً سواء كان تشهد ابن عباس أو ابن
مسعود أو غيرهما.
ولا يستحب له أن يطيل الجلوس بعد التشهد، بل يقوم بعد ذكر التشهد.
ودليل ذلك ما رواه أبو داود والترمذي بإسناد من طريق أبي عبيدة عن أبيه عبد
الله بن مسعود ولم يسمع أباه ففيه انقطاع،- وله شواهد سيأتي ذكرها – أن
النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف) (1)
وهي الحجارة المحماة.
وله شاهد من السنة المرفوعة وهو ما رواه أحمد بإسناد جيد من حديث محمد بن
إسحاق وقد صرح بالتحديث وفيه: (فإذا كان وسط الصلاة نهض حين يتم التشهد)
(2) وله شاهد من السنة المرفوعة وهي سنة أبي بكر الصديق، فقد ثبت في مصنف
عبد الرزاق: (أنه كان إذا جلس في التشهد الأول كأنه على الرضف) (3)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (188) في تخفيف القعود / رقم (995)
، وأخرجه الترمذي حديث 366، قال الترمذي: " هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة
لم يسمع من أبيه ". سنن أبي داود [1 / 606] .
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده رقم (4382) في مسند عبد الله بن مسعود قال:
" حدثنا يعقوب، قال: حدثني أبي، عن ابن إسحاق قال: حدثني عن تشهد رسول الله
في وسط الصلاة وفي آخرها عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عن أبيه عن
عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في
وسط الصلاة وفي آخرها … ".
(3) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 263 رقم (3017) حدثنا جرير عن منصور عن تميم
بن سلمة قال كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف يعني حتى يقوم
".
ولم أجده في مصنف عبد الرزاق في الاسطوانة، ولم يعزه إليه في تلخيص الحبير
حيث قال في ج: 1 ص: 263 ما نصه: " وروى ابن أبي شيبة من طريق تميم بن سلمة
كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف، إسناده صحيح وعن ابن عمر
نحوه قال ابن دقيق العيد المختار أن يدعو في التشهد الأول كما يدعو … "
اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
إسناده صحيح وكذلك رواه ابن أبي شيبة عن
ابن عمر.
ويسن له كما تقدم أن يعتمد على يديه إذا أراد القيام، كما هو القول الراجح.
ويستحب له إذا نهض من التشهد الأول أن يرفع يديه خلافاً للمشهور في المذهب،
وهذا هو رواية عن الإمام أحمد واختاره المجد ابن تيمية وحفيده شيخ الإسلام
ابن تيمية.
واستدلوا: بما روى البخاري من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(كان إذا قام من الركعتين رفع يديه) (1) فهذه سنة صحيحة لا يجوز العدول
عنها.
ثم يصلي الركعة الثالثة من المغرب والركعتين الأخريين من صلاة الظهر والعصر
والعشاء، ويقرأ فيها بفاتحة الكتاب فحسب؛ لحديث أبي قتادة المتقدم: (أنه
كان يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) (2)
ويستحب له تارة – كما هو رواية عن الإمام أحمد: أن يقرأ بسورة بعد الفاتحة
– كما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه
وسلم يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية، وفي الركعتين
الأخريين على النصف من ذلك، وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من
الظهر، وفي الأخريين على النصف من ذلك) (3) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان / باب (86) رفع اليدين إذا قام من
الركعتين / رقم (739) .
(2) رواه البخاري / كتاب الأذان / باب (107) يقرأ في الأخريين بفاتحة
الكتاب / رقم (776) , ومسلم رقم (451) .
(3) رواه مسلم / كتاب الصلاة / باب (34) القراءة في الظهر والعصر / رقم
(452) بلفظ: عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ
في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي
الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين
الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك ".
وحينئذ: تكون قراءته في الركعتين الأخريين
من صلاة الظهر بقدر الفاتحة مرتين أي الفاتحة وسورة.
فهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما قرأ مع فاتحة الكتاب
سورة في الركعتين الأخريين من الظهر، وهو جائز ولا حرج فيه، بل يستحب
أحياناً.
وقد أشار المؤلف إلى هذه المسائل التي تقدم ذكرها أشار إليها – بعد ذكر
جملة من المسائل –
فقال: (وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبراً بعد التشهد الأول)
(نهض مكبراً) للحديث المتقدم – حديث أبي هريرة – في الصحيحين: (وصلى ما بقي
كالثانية بالحمد فقط) (1) هذا هو المشهور في المذهب وأنه يقرأ بالحمد فقط،
فإن قرأ بها وبغيرها فإنه يباح.
بل عن الإمام أحمد استحباب ذلك أحياناً.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثمانون
(يوم السبت: 5 / 4 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما
صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت
على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)
هذا لفظ من الألفاظ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه في
الصلاة، وهو أصحها؛ لثبوته في الصحيحين ولذا اختاره الإمام أحمد.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة قال: (قلنا يا رسول الله: قد
علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك – في رواية مسلم " إذا نحن صلينا "
فقال: قولوا: اللهم صل على محمد ... ) (2) الحديث.
وبأي نوع صليت عليه أجزأك ذلك وفعلت السنة.
* وهل يجزئه أن يكتفي بقول: " اللهم صل على محمد " أم لا؟
قولان في المذهب:
القول الأول: أنه لا يجزئه حتى يصلي عليه بالصلاة الواردة، واستدلوا: بورود
ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان المشروع أن يقال كما ورد.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (10) رقم (3370) ، وانظر
(4797) (63357) ، ومسلم (406) .
القول الثاني: وهو المشهور عند الحنابلة
واختاره الموفق: أنه يجزئه ذلك ولا يشترط أن يأتي به بتمامه بل يجزئه صلاة
مطلقة، واستدل: بأن الصلاة الواردة عنه كانت عن سؤال، وما كان طريقه السؤال
فليس بواجب، إذ لو كان واجباً لابتدأ به.
فهنا قال ذلك بعد سؤال الصحابة: فقالوا: " قولوا " وليس في هذا وجوب ذلك إذ
لو كان واجباً لعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، فسكوته عن تعليمهم
ذلك حتى يسألوه يدل على أن ذلك إنما هو على وجه الإرشاد والتعليم وليس على
وجه الوجوب والشرطية للإجزاء، وهذا القول هو الأرجح وأنه متى قال: " اللهم
صل على محمد " أجزأه ذلك.
* ولكن هل يجب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في تشهده أم لا؟
ذهب الشافعية والحنابلة: إلى فرضية ذلك، أما الحنابلة فيوجبونها في التشهد
الثاني فقط، وأما الشافعية ففي كل تشهد، واستدلوا: بقوله: " قولوا " قالوا:
وهذا أمر والأمر للوجوب.
وذهب المالكية والأحناف: إلى عدم وجوب ذلك، ولكنه سنة.
وهذا القول أظهر؛ لما تقدم من التعليل السابق فإن هذا إنما ورد على هيئة
سؤال، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمهم الصلاة عليه في الصلاة حتى
سألوه عنها، وما كان طريقه ذلك فليس بواجب وإنما هو مستحب.
ومع ذلك ففيما قاله الحنابلة قوة، والاحتياط الالتزام بذلك وعدم تركه، بل
الاحتياط أن يقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تماماً لا يسقط من
ألفاظه شيئاً.
قال: (ويستعيذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن
فتنة المسيح الدجال)
لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع
يقول: " اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا
والممات ومن [شر] فتنة المسيح الدجال ") (1)
وجماهير العلماء على: أن هذه الاستعاذة أنها سنة في الصلاة.
وعند الإمام أحمد وهو مذهب طائفة من أهل العلم: أن الاستعاذة على هذه الصفة
فرض في الصلاة.
حتى عن الإمام أحمد: أنه يعيد صلاته إن تركها، وهو قول طاووس بن كيسان من
كبار التابعين.
واستدلوا: بالأمر الوارد: " فليستعذ "
وذهب جماهير العلماء إلى أنها مستحبة وإن الأمر الوارد فيها إنما هو على
وجه الاستحباب.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود وفيه – بعد أن ذكر التشهد
– قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (2)
فهذا يدل على أنه لا يجب عليه نوع من أنواع الأدعية أو الاستعاذات وإنما
يدعو بما شاء ويتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيكون هذا الأمر من باب
الإرشاد، وهذا هو الأظهر.
قال: (ويدعو بما ورد)
__________
(1) هذا لفظ مسلم، أخرجه في كتاب المساجد، باب (25) ما يستعاذ منه في
الصلاة / رقم (588) ، وأخرجه البخاري بلفظ: " كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومن
فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال) في كتاب الجنائز / باب (88)
التعوذ من عذاب القبر / رقم (1377) ، ورواه البخاري عن عائشة بلفظ مختلف
بدون ذكر عذاب النار في كتاب الأذان، وبألفاظ أخرى عنها في أبواب أخرى.
(2) أخرجه البخاري بلفظ: " ثم يتخير " دون اللام. في كتاب الأذان، باب
(150) ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب / رقم (835) ، ومسلم (402)
.
كما في الصحيحين من حديث أبي بكر قال: (قلت
يا رسول الله علمني شيئاً أدعو به في صلاتي فقال: قل " اللهم إني ظلمت نفسي
ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك
أنت الغفور الرحيم ") (1)
أو نحوه مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين أيضاً من
الاستعاذة من المأثم والمغرم (2) .
وظاهر قوله: " بما ورد " أي بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا
الباب لكن هذا غير مراده، إنما المراد ما ورد في الشريعة، كأن يقول: " ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " و " ربنا هب لنا من
أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " ونحو ذلك مما ورد.
وظاهره أنه إذا دعا بدعاء من ملاذ الدنيا ونعيمها فإنه لا يشرع له ذلك ولا
يجوز بل قد صرح فقهاء الحنابلة بأن الصلاة تبطل بذلك، لأنه كلام أجنبي
والكلام الأجنبي يبطل الصلاة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (149) الدعاء قبل السلام / رقم
(834) وفي كتاب الدعوات / باب (17) الدعاء في الصلاة / رقم (6326) ، ومسلم
رقم (2705) .
(2) صحيح البخاري ج: 1 ص: 286 رقم (798) حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب
عن الزهري قال أخبرنا عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه
وسلم أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة (اللهم
إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من
فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فقال له
قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد
فأخلف) ،ومسلم رقم (589) اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
وعن الإمام أحمد: أنه لا بأس بذلك، واختاره
الموفق من فقهاء الحنابلة، وقد نص عليه الإمام أحمد، وهذا القول هو الراجح،
وظواهر الأدلة تدل عليه كقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير من الدعاء
أعجبه إليه فيدعو) (1) وعند البيهقي: (ثم ليدعو بما بدا له) (2) . فظواهرها
أنه يتخير من الدعاء أعجبه إليه، والدعاء عام فيما ورد وما لم يرد.
قال: (ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك)
في هذه الجملة ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:
أن المستحب أن يسلم عن يمينه وعن شماله فيقول عن يمينه: " السلام عليكم
ورحمة الله " وعن يساره " السلام عليكم ورحمة الله.
__________
(2) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 142
2656 وأما الرواية عن ابن عمر فأخبرنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن الحسن
العدل أنبأ أبو بكر محمد بن جعفر المزكي أنبأ محمد بن إبراهيم ثنا بن بكير
ثنا مالك عن نافع ثم أن عبد الله بن عمر كان يتشهد فيقول بسم الله التحيات
لله والصلوات الزاكيات لله السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين شهدت أن لا إله إلا الله وشهدت أن
محمدا رسول الله يقول هذا في الركعتين الأوليين ويدعو إذا قضى تشهده بما
بدا له فإذا جلس في آخر صلاته تشهد كذلك أيضا إلا أنه يقدم التشهد ثم يدعو
بما بدا له فإذا قضى تشهده وأراد أن يسلم قال السلام على النبي ورحمه الله
وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام عليكم على يمينه ثم
يرد على الإمام فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه "، ومالك في الموطأ برقم
(204) . الاسطوانة.
ويستحب له في سلامه أن يبدو بياض خده
للمأمومين لما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(كان يسلم حتى يبدو بياض خده عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره
حتى يبدو بياض خده، السلام عليكم ورحمة الله) (1)
المسألة الثانية:
أن الوارد هو لفظة: " السلام عليكم ورحمة الله " عن يمينه وعن شماله في هذا
الحديث المتقدم وقد وردت أنواع أخر:
فمن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(كان يسلم عن يمينه بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره: السلام
عليكم ورحمة الله) (2)
والنوع الثالث: ما رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه
وسلم: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره السلام عليكم)
(3)
__________
(1) رواه أبوداود في كتاب الصلاة / باب (189) في السلام / رقم (996) بلفظ:
" عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن
شماله حتى يُرى بياض خده: السلام عليك ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة
الله) . والترمذي حديث 295، وقال: " حسن صحيح "، والنسائي حديث 1323، وابن
ماجه حديث 914، سنن أبي داود [1 / 607] .
(2) لم أجده بهذا اللفظ في سنن أبي داود في باب (189) في السلام / كتاب
الصلاة، وإنما هو فيه بلفظ: " عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: صليت مع النبي
- صلى الله عليه وسلم - فكان يسلم عن يمينه (السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته) وعن شماله (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ورقمه (997) ، كذا
في النسخة التي بين يدي، لكن في اسطوانة مكتبة الفقه في الحاسب الآلي بدون
(وبركاته) في شماله. فليراجع.
(3) رواه النسائي في كتاب السهو / باب (17) كيف السلام على الشمال / رقم
(1321) بلفظ: " وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم، عن
يساره ".
وهناك صفة رابعة رواها سعيد بن منصور كما
في المغني – لكن الاطلاع على سندها غير متيسر لأن الجزء المذكور فيه هذا
الحديث لم يطبع ويخشى أن يكون مفقوداً – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم
من حديث علي -: (كان يسلم عن يمينه السلام عليكم وعن يساره السلام عليكم)
(1) هذه الصفة يتوقف فيها حتى تثبت.
وهناك صفة خامسة لكن الحديث فيها ضعيف: وهي ما رواه الترمذي والحاكم أن
النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسلم تسليمة قبل وجهه يأخذ عن يمينه
قليلاً) (2) وقد أعله أبو حاتم والدارقطني وابن عبد البر وغيرهم من الأئمة
المتقدمين.
والحديث من حديث زهير بن محمد ويروي هذا الحديث عن الشاميين وروايته عنهم
ضعيفة منكرة فعلى هذا لا يثبت هذا الحديث.
المسألة الثالثة:
__________
(1) المغني لابن قدامة [2 / 245] .
(2) رواه الترمذي / كتاب الصلاة / في الباب الذي بعد باب (105) ما جاء في
التسليم في الصلاة، وهو باب (106) منه أيضا رقم (296) قال: " حدثنا محمد بن
يحيى النيسابوري حدثنا عمرو بن أبي سلمة أبو حفص التِّنِّيسي عن زُهير بن
محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن شيئاً
" قال: وفي الباب عن سهل بن سعد، قال أبو عيسى: " وحديث عائشة لا نعرفه
مرفوعاً إلا من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: زُهير بن محمد أهل الشام
يروون عنه مناكير،ورواية أهل العراق عنه أشبه وأصح. قال محمد: وقال أحمد بن
حنبل: كأنّ زهير بن محمد الذي كان وقع عندهم ليس هو هذا الذي يُروى عنه
بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه. قال أبو عيسى: وقد قال به بعض أهل العلم
في التسليم في الصلاة، وأصح الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
تسليمتان، وعليه أكثر أهلا لعلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
والتابعين ومن بعدهم ".
- ظاهر قول المؤلف هنا أن هذا السلام يكون
عن اليمين وعن الشمال، فيتجه إلى يمينه ويقول: " السلام عليكم ورحمة الله "
ثم يلتفت إلى يساره فيقول: " السلام عليكم ورحمة الله " هذا هو ظاهر قول
المؤلف، وهو ظاهر الأدلة الشرعية المتقدمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "
كان يسلم عن يمينه "، " كان يسلم عن يساره "، وغيرها، فظاهر هذه الأحاديث
ما تقدم.
- وقال ابن عقيل: يبتدئ بالسلام إلى القبلة ثم يلتفت يميناً وشمالاً أي:
يقول: " السلام عليكم ورحمة الله " ويلتفت إلى اليمين، " السلام عليكم
ورحمة الله " ويلتفت إلى اليسار مبتدئا السلام إلى القبلة ثم يتمه إلى
اليمين، ويبدؤه إلى القبلة ثم يتمه إلى اليسار.
وهذا ضعيف لعدم الدليل الدال عليه، ولأن ظاهر الأحاديث المتقدمة تخالفه.
* هل يجزئه أن يقول " السلام عليكم "؟
أما لو صح الحديث المتقدم في سنن سعيد بن منصور فلا إشكال في الجزم بصحة
ذلك لثبوت السنة فيه، ولكن تقدم التوقف فيه لعدم معرفة سنده.
واختلف في ذلك على قولين:
1- القول الأول: وهو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية: أنه يجزئه
ذلك.
2- قال ابن عقيل من الحنابلة: لا يجزئه ذلك.
قال: لأنه ليس بوارد هكذا، وإنما الوارد بزيادة لفظة: " ورحمة الله " فلم
يجزئه لأنه لم يأت بما ورد بتمامه.
واستدل أهل القول الأول: بأن هذا تسليم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(وتحليلها التسليم) (1)
وبالنظر إلى هذين الدليلين تبين ضعف ما استدل به أهل القول الأول، لأن هذا
وإن كان تسليماً لكنه ليس هو الوارد.
لذا قال الحنابلة لو قال: " عليكم السلام " أو " سلام عليكم " لم يجزئه
لأنه ليس وارداً؛ وهنا كذلك فإن الوارد أن يقول ذلك بتمامه.
__________
(1) أخرجه أحمد والترمذي، وقد تقدم صْ 3.
لكن يستدل لأهل القول الأول بالحديث
المتقدم: الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عن يساره " السلام
عليكم ") فحيث أجزأ في التسليمة الثانية فإنه يجزئ في التسليمة الأولى لأن
بالهما (1) واحد، فهما تسليم في الصلاة فحيث ثبت في التسليمة الثانية فكذلك
في التسليمة الأولى فالراجح إجزاء ذلك: " السلام عليكم "
فهذا هو القدر المجزئ – وأما المستحب فهو أن يسلم بأحد الأنواع الواردة
المتقدمة.
* ولو قال: " سلام عليكم " ونحو ذلك من الألفاظ الواردة فإنه لا يجزئه فهو
وإن كان تسليماً لكنه تسليم غير وارد والواجب هو الوقوف على هديه.
مسألة:
هل التسليم عن اليمين واليسار واجب أم مستحب؟
قال جمهور العلماء: أن ذلك مستحب فلو سلم تسليمة واحدة أجزأه.
وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه بعض المالكية وهو اختيار القاضي من
الحنابلة: أنه لا يجزئه ذلك إلا أن يسلم تسليمتين.
استدل: أهل القول الأول بالحديث المتقدم الذي فيه أن النبي صلى الله عليه
وسلم: كان يسلم تسليمة واحدة. ولكن تقدم ضعف الحديث.
والراجح هو القول الثاني: وأن التسليمتين فرض.
ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك فيكون فعله بياناً
لمجمل قوله: (وتحليلها التسليم)
ولا يثبت ذلك إلا بالتسليم الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه بيان
لمجمل، وما كان بياناً لمجمل من الفعل فحكمه حكم المجمل.
فقوله " تحليلها التسليم ": كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمتين لم
يثبت عنه سوى ذلك، فلم يدع أحد التسليمتين في أي حديث.
قال: (وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبراً بعد التشهد الأول وصلى ما
بقي من الثانية بالحمد فقط)
تقدم شرح هذا في الدرس السابق.
قال: (ثم يجلس في تشهده الأخير متوركاً)
هذا هو المستحب في الجلوس بالتشهد الأخير: أن يجلس متوركاً.
__________
(1) كذا في الأصل.
وصفة التورك: أن يقدم رجله اليسرى وينصب
اليمنى ويقعد على مقعدته.
لما ثبت في أبي داود والترمذي من حديث أبي حميد الساعدي والحدث صحيح – في
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس بعد الركعة الأخيرة قدم
اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته) (1) .
فإذا كانت الصلاة ذات تشهدين فيستحب في تشهدها الثاني.
وأما أن كانت الصلاة ذات تشهد واحد، كصلاة الفجر أو السنن التي تصلى مثنى
مثنى، فإنه يجلس مفترشاً.
لما تقدم: فإنه ذكر الافتراش ثم ذكر السلام، وظاهره أن الصلاة إذا كانت ذات
تشهد واحد فإنه يجلس فيها مفترشاً – هذا هو المشهور في المذهب وأن التورك
لا يشرع إلا في الصلاة ذات التشهدين في تشهدها الثاني.
- واستحبه الشافعية في التشهد الأخير من الصلوات كلها سواء كانت ذات تشهد
واحد أو تشهدين.
واستدلوا: بعموم الحديث المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا
جلس في الركعة الأخيرة) الحديث، والركعة الأخيرة تقع في الصلوات ذات التشهد
الواحد كما تقع في الصلوات ذات التشهد الثنائي.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (117) افتتاح الصلاة / رقم (730) ،
وفي باب (181) من ذكر التورك في الرابعة / رقم (963) بلفظ: " …حتى إذا كانت
السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر..)
، وبلفظ (964) : " … فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدّم رجله اليسرى وجلس على
مقعدته ". والترمذي في كتاب الصلاة / باب (110) رقم (304) بلفظ: ".. حتى
إذا كانت الركعة التي تنقضي بها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركا
ثم سلم "
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة لما ثبت في
سنن النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا صلى الصبح
جلس مفترشاً) (1)
فعلى هذا يكون تخصيص للعموم المتقدم، وأنه إذا كان في الركعة الأخيرة في
صلاة ذات تشهدين جلس متوركاً وأما إذا كانت ذات تشهد واحد كصلاة الفجر فإنه
لا يجلس متوركاً فيها، بل مفترشاً.
قال: (والمرأة مثله)
فإن النساء شقائق الرجال كما ثبت في مسند أحمد (2) وغيره بإسناد صحيح.
فما ثبت للرجل فهو ثابت للمرأة إلا أن يأتي دليل يخصص الرجل بالحكم، لكن
استثنى من ذلك مسائل:
قال: (لكن تضم نفسها وتستدل (3) رجليها في جانب يمينها)
يعني: فإنها إذا جلست في محل التورك فإنها لا تتورك وإنما تستدل (4) رجليها
في جانب يمينها. هذا هو المشهور في المذهب.
والأظهر: أن المرأة مثل الرجل مطلقاً في جلوسها ورفع اليدين، لكن يستثنى من
ذلك المرأة في حضور الأجانب فإنها – حينئذ – تفعل ما يكون فيه ستر لها فتضم
نفسها وتستدل رجليها ولا تبالغ في رفع يديها ولا تجافي يديها ونحو ذلك مما
يكون فيه تمام لسترها، كأن تصلي في مسجد مكشوف.
وأما أن كانت لا تقع عليها نظرة الأجانب كأن تصلي وحدها أو بين نساء أو في
بيتها بنظر محارمها فإنها في حكم الرجل تماماً إذ لا دليل يدل على التخصيص.
__________
(1) لم أجده في النسائي طبعة بيت الأفكار، ولا في اسطوانة مكتبة الفقه
وأصوله، ولم يتطرق إلى هذا الحديث ابن القيم في زاد المعاد [1 / 243، 252]
، ولا الشوكاني في نيل الأوطار [2 / 274] .، ولكن عزاه الألباني رحمه الله
في صفة الصلاة صْ 121 للنسائي [1 / 173] ، فالله أعلم.
(2) تقدم.
(3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: تسدل، كما في النسخ الأخرى للزاد، انظر
الشرح الممتع لابن عثيمين رحمه الله [3 / 302] .
(4) كذا في الأصل، ولعلها: تسدل.
وإنما استثنى ما يكون في نظر الأجانب لأن
أصول الشريعة قد دلت على ذلك من النهي عن الفتنة، وقد وردت صور كثيرة على
ذلك – كما أن المرأة لا ترمل في طوافها ولا تسرع بين الميلين ونحوه مما
يكون ظاهراً للرجال لسد باب الفتنة، وإن كان الأصل أنها تفعل ذلك لفعل
الرجال له، لكن استثني من ذلك لما فيه من الستر لها والحفظ من الوقوع في
الفتنة بها فكذلك في الصلاة.
وبقيت مسائل: في الذكر الوارد بعد الصلاة وفي التفات الإمام ونحو ذلك سيأتي
ذكرها في الدرس القادم إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الحادي والثمانون
(يوم الأحد: 6 / 4 / 1415هـ)
مسائل في صفة الصلاة وتمامها:
فمن مسائل صفتها:
أنه يستحب إخفاء التشهد أي أن يكون سراً، لما ثبت في أبي داود والترمذي –
والحديث صحيح – من حديث ابن مسعود قال: (من السنة إخفاء التشهد) (1) وهو
مستحب اتفاقاً.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (185) إخفاء التشهد / رقم (986) عن
عبد الله قال: " من السنة أن يخفي التشهد) ، والترمذي حديث 291 وقال: "
حديث حسن غريب "، والحاكم في المستدرك ثم قال: " صحيح على شرط الشيخين ".
سنن أبي داود [1 / 602] .
ويستحب له - في باب السلام – أن يحذفه ولا
يمده بل يكون حذفاً، لما روى الترمذي من حديث أبي هريرة قال: (حذف السلام
من السنة) (1) لكن الحديث فيه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف، لكن عليه العمل
عند أهل العلم: حتى قال الترمذي: " لا يعلم بين أهل العلم فيه خلاف" وقال
الدارقطني: " والصحيح أنه من قول أبي هريرة فثبوته عن أبي هريرة ولا يعلم
له مخالف يحتج به، والمسألة اتفاقية فلا خلاف فيها، فيستحب له أن يحذفه
حذفاً.
ومما يكون من تمام الصلاة:
ويستحب للإمام أن ينفتل إلى المصلين مقبلاً بوجهه إليهم لا يخص ناحية دون
ناحية، لما ثبت في البخاري من حديث سمرة قال: (كان النبي صلى الله عليه
وسلم: إذا صلى أقبل علينا بوجهه) (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (192) حذف التسليم / رقم (1004)
من الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حذف السلام سنة) . وأخرجه الترمذي
في الصلاة / باب حذف السلام سنة حديث 297، وقال " حسن صحيح ". سنن أبي داود
[1 / 610] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (156) يستقبل الإمام الناس إذا سلم
/ رقم (845) بلفظ: " عن سمرة بن جندب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم
- إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه "، وأخرجه مسلم بلفظ: " كان النبي - صلى
الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: (هل رأى أحدٌ منكم
البارحة رؤيا؟) [صحيح مسلم / كتاب الرؤيا / باب (4) رؤيا النبي - صلى الله
عليه وسلم - / رقم (2275) ] .
وينفتل عن يمينه تارة وعن يساره تارة أخرى،
ففي مسند أحمد بإسناد جيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (كان النبي
صلى الله عليه وسلم يلتفت عن يمينه وعن يساره) (1) أي وهو متوجه إلى
القبلة، في إقباله على المأمومين ينصرف تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار
حتى قال ابن مسعود – كما في الصحيحين -: (لا يجعل أحدكم للشيطان نصيباً من
صلاته يرى أن حقاً عليه أن ينصرف عن يمينه ولقد رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم كثيراً ينصرف عن شماله) وفي مسلم: (أكثر ما ينصرف عن شماله) (2)
لكن في مسلم عن أنس بن مالك قال: (أما أنا فأكثر ما رأيت النبي صلى الله
عليه وسلم ينصرف عن يمينه) (3)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند آل العباس رقم (2792) قال: " حدثنا إبراهيم
بن إسحاق، حدثنا الفضل بن موسى، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، قال:
حدثني ثورٌ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يلتفت في صلاته يميناً وشمالا ولا يلوي عنقه "، ورقم (2485) قال: "
حدثنا الحسن بن يحيى والطالقَاني، قالا: حدثنا الفضل بن موسى، حدثنا عبد
الله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد، عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان
النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي يلتفت يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه
خلفه ظهره ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (159) الانفتال والانصراف عن
اليمين والشمال / رقم (852) بلفظ قال عبد الله: " لا يجعل أحدُكم للشيطان
شيئاً من صلاته، يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي
- صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره "، وأخرجه مسلم (707) .
(3) تقدم.
ومن هنا يكون كل صحابي منهما قد حدث بما
رأى، فهذا رأى أن أكثر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وهو إليه، وأنس رأى
أن أكثر انصرافه عن يمينه، فعلى ذلك كلاهما سنة ويستحب له أن يفعل هذا تارة
وهذا تارة، ويكره أن يرى حقاً عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه، فإنه حينئذ:
يكون قد جعل للشيطان نصيباً من صلاته باعتقاد ما ليس بواجب.
فإذا أقبل على المأمومين: استغفر ثلاثاً وقال: " اللهم أنت السلام ومنك
السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام "
فقد ثبت في مسلم عن ثوبان قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من
صلاته استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا
الجلال والإكرام) (1)
وفي مسلم عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد
إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال
والإكرام) (2)
قال ابن القيم مستدلاً بهذا الحديث أنه يستحب للإمام أن يقول ذلك تجاه
القبلة فينصرف إلى المأمومين وقد قال: " اللهم أنت السلام …. إلى قوله: "
ذا الجلال والإكرام " أي لا ينصرف عن القبلة إلى المأمومين حتى يقول ذلك
واستدل بحديث عائشة: (كان لا يقعد إلا مقدار ما يقول)
وقد سئل عن ذلك الإمام أحمد فقيل له: قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا
يقعد إلا مقدار ما يقول " أي لا يقعد إلى القبلة ثم ينصرف فقال: " لا أدري
" أ. هـ.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان
صفته / رقم (591) بلفظ: " عن ثوبان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: (اللهم أنت السلام ومنك
السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف
الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله ".
(2) صحيح مسلم رقم (592) .
والمستحب عند الحنابلة والشافعية: أن ينفتل
بمجرد سلامه فيكون قوله: " اللهم أنت السلام … ذا الجلال والإكرام " بعد
إقباله بوجهه إلى المأمومين.
والحديث ليس فيه ما يدل على ما ذهب إليه ابن القيم؛ إذ فيه أن النبي صلى
الله عليه وسلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول وليس في ذلك أنه لا يقعد تجاه
القبلة إلا مقدار ما يقول، فالحديث مطلق وظاهره أنه لا يقعد مطلقاً، أي لا
يقعد في مصلاه الذي صلى فيه إلا بمقدار ما يقول، بل ليتعجل في القيام من
مجلسه وينفتل عنه منصرفاً، وهذا ما كان عليه أبو بكر كما صح في مصنف عبد
الرزاق بإسناد صحيح أنه: (كان إذا سلم من الصلاة فقال: السلام عليكم ورحمة
الله، انفتل ساعتئذٍ كأنه على الرضف) (1)
إذن الراجح: أن المستحب له ألا يقعد في مجلسه الذي صلى فيه إماماً كان أو
مأموماً إلا بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام … ".
هذا ما ذهب إليه الموفق في المغني وظاهر ذلك أنه مذهب الحنابلة وهو المشهور
عند الشافعية.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان هناك نسوة يصلين في المسجد فإنه لا يستحب للإمام
ولا المأمومين أن ينصرفوا حتى ينصرفن.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف [2 / 242] رقم (3214) في باب مكث الإمام
بعدما يسلم، قال: " عبد الرزاق عن معمر والثوري عن حماد وجابر وأبي الضحى
عن مسروق: أن أبا بكر كان إذا سلم عن يمينه وعن شماله قال: السلام عليك
ورحمة الله ثم انفتل ساعتئذ كأنما كان جالسا على الرضف " قال المحقق: "
وأخرجه الطحاوي في التسليم ".
فقد ثبت في البخاري عن أم سلمة قالت: (كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته انصرف النساء اللاتي صلين معه
فدخلن في بيوتهن قبل أن ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم) (1)
وذلك لئلا يختلط الرجال بالنساء فتقع الفتنة، فلذلك يكره أن ينصرف المأموم
والإمام قبل انصراف النساء وذهابهن عن المسجد.
ومع ذلك فإنه إن جلس في مجلسه فقد أحسن لما ثبت في البخاري أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (لا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه
الذي صلى فيه تقول: اللهم اغفر له اللهم وارحمه) (2) فهذا الحديث يدل على
فضيلة الجلوس فإنه فاضل وحسن، وإذا انصرف فقد فعل السنة.
ولو قيل، وهو فيما يظهر لي تفصيل حسن: أنه يستحب للإمام أن ينصرف إذا قال
ذلك ويبقى في مجلس آخر في المسجد - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في
حديث ذي اليدين – أو ينصرف عن المسجد فيسبح الله في طريقه، لأن الحديث
المتقدم في النبي صلى الله عليه وسلم أبي بكر وكانا إمامين – هذا ما لم يكن
هناك نسوة – وأما المأمومون فإنهم يستحب لهم أن يجلسوا مصلاهم فيذكروا الله
فيه - للحديث المتقدم – فإنه فيه الترغيب في ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (157) مكث الإمامفي مصلاه بعد
السلام / رقم (850) عن أم سلمة بلفظ: " قالت: كان يُسلِّم فينصرف النساء،
فيدخلن بيوتهن، من قبل أن ينصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (61) الحدث في المسجد من حديث أبي
هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الملائكة تصلي على أحدكم
ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول: اللهم اغفر له، اللهم
ارحمه) . وانظر (176) و (477) .
ولمصلحة أخرى وهي أن في استعجال المأمومين
في الخروج وقد يكون ذلك قبل خروج الإمام أن فيه مفسدة متوقعة وهي أن يكون
في الصلاة نقص، أو أن يحب الإمام إرشاد الناس وتعليمهم فيسبقوه بالانصراف –
فلو قيل بهذا التفصيل فهو حسن.
– وفي انصراف الإمام عن مكانه تمام للإخلاص في الذكر وأكثر إقبالاً على
الله تعالى.
ويستحب له أن يذكر الله تعالى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك
ما ثبت في مسلم من حديث ابن الزبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
سلم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل
شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له
النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو
كره الكافرون) (1)
وثبت في مسلم من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقول إذا انصرف من صلاته: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله
الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا
ينفع ذا الجد منك الجد) (2)
وفي النسائي وابن خزيمة بإسناد صحيح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له
الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (3) ثلاث مرات.
وفي الطبراني بإسناد صحيح: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحي ويميت وهو
حي لا يموت بيده الخير هو على كل شيء قدير) (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم
(594) .
(2) صحيح مسلم الباب السابق / رقم (593) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب السهو / باب (86) كم مرة يقول ذلك / رقم (1343)
(4) قال في فتح الباري ج: 2 ص: 332
زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده
الخير إلى قدير ورواته موثقون وثبت مثله في البزار من حديث عبد الرحمن بن
عوف بسند ضعيف ".
ويستحب له أن يسبح الله ويحمده ويكبره،
ويهلله في نوع من الذكر الوارد وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع
من الذكر بعد صلاته المكتوبة وهي:
1- أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً
وثلاثين؛ لما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة من حديث: (ذهب أهل الدثور
بالأجور ... ) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسبحون وتكبرون
وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) وفي رواية قال بعض الرواة: (حتى يكون
منهن كلهن ثلاثاً وثلاثون (1)) (2) .
2- أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً
وثلاثين، ويقول: تمام المائة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله
الحمد وهو على كل شيء قدير) ؛ لما ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (من سبَّح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد
الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، وقال: تمام المائة: لا إله
إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت
خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) (3)
__________
(1) كذا في الأصل،ولعل الصواب: " ثلاثاً وثلاثين " كما في البخاري.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (155) الذكر بعد الصلاة / رقم
(843) ، وفي كتاب الدعوات / باب (18) الدعاء بعد الصلاة / رقم 6329. وأخرجه
مسلم رقم (595) باختلاف.
(3) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم
(597) بلفظ: " عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سبح
الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله
ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون،وقال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا
شريك له،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل
زبد البحر) .
3- أن يسبح ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً
وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين. لما ثبت في مسلم من حديث كعب بن أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن يسبح الله دبر
كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين) (1)
4- أن يسبح الله عشراً ويحمده عشراً ويكبره عشراً، وهو ثابت في مسند أحمد
وسنن الأربعة بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (خصلتان أو خلتان من حافظ عليهن دخل الجنة هما قليل ومن يحافظ
عليهن قليل أن يسبح الله دبر كل صلاة مكتوبة عشراً ويحمده عشراً ويكبره
عشراً، فذلك مائة وخمسون باللسان وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر الله
أربعاً وثلاثين عند مضجعه ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويسبحه ثلاثاً وثلاثين
فذلك مائة باللسان وألف في الميزان) (2)
5- أن يسبح الله خمساً وعشرين ويحمده خمساً وعشرين ويكبره خمساً وعشرين
ويهلله خمساً وعشرين.
__________
(1) أخرجه مسلم / كتاب المساجد / باب (26) استحباب الذكر بعد الصلاة / رقم
(596) بلفظ: "عن كعب بن عجرة عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(معقبات لا يَخيبُ قائلهن أو فاعلهن، دُبُرَ كل صلاة مكتوبة، ثلاثٌ وثلاثون
تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة) وفي لفظ: " معقبات لا
يَخيب قائلهن أو فاعلهن ثلاث وثلاثون تسبيحة،وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع
وثلاثون تكبيرة في دبر كل صلاة ".
(2) أخرجه أبوداود في كتاب الأدب / باب (109) في التسبيح عند النوم / رقم
(5095) ، والترمذي في الدعوات حديث 3410 باب كم يسبح بعد الصلاة – في نسخة:
باب منه، وهو بعد: باب ما جاء في التسبيح والتكبير والتحميد عند المنام -
وقال: " حسن صحيح "، والنسائي في الافتتاح حديث 1349 باب عدد التسبيح بعد
التسليم. ولم أجده في فهرس ابن ماجه.
لما ثبت في الترمذي والنسائي بإسناد صحيح،
أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثاً
وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويكبره أربعاً وثلاثين فرأى رجل من
الأنصار أن قائلاً يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمكم أن تسبحوا
الله ثلاثاً وثلاثين وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين وتكبروه أربعاً وثلاثين
فاجعلوها خمساً وعشرين واجعلوا فيها التهليل) فأخبر النبي صلى الله عليه
وسلم بذلك فقال: (اجعلوها كذلك) وفي رواية: (فافعلوا) (1)
وظاهر هذا: تفضيل هذا النوع على النوع المتقدم من أن يسبح الله ثلاثاً
وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين، والله أعلم.
ويستحب له أن يقرأ آية الكرسي لما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة لم يمنعه
من دخول الجنة إلا الموت) (2)
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات / باب (25) منه / رقم 3413 بلفظ: " عن
زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أُمرنا أن نسبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين
ونحمده ثلاثا وثلاثين ونكبره أربعا وثلاثين، قال: فرأى رجل من الأنصار في
المنام، فقال: أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسبحوا في دبر كل
صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدوا الله ثلاثا وثلاثين وتكبروا أربعا وثلاثين؟
قال: نعم، قال:فاجعلوا خمسا وعشرين، واجعلوا التهليل معهن، فغدا على النبي
- صلى الله عليه وسلم - فحدثه، فقال: (افعلوا) ، قال أبو عيسى: هذا حديث
حسن صحيح. قال صاحب الطبعة: " ولم يذكر في النسخ ولا ذكره المزي ".
(2) السنن الكبرى ج: 6 ص: 30
9928 أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس كتبنا عنه قال حدثنا محمد بن حمير قال
حدثنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا ان
يموت " الاسطوانة.
الحسين بشر الطرسوسي: لا بأس به، التقريب.
محمد بن حمير: صدوق.
محمد بن زياد: هو الألهاني الحمصي، ثقة من الرابعة، وقد روى عن أبي أمامة
كما في تهذيب الكمال.
عمل اليوم والليلة ج: 1 ص: 182
ثواب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة 100 أخبرنا الحسين بن بشر بطرسوس كتبنا
عنه قال آح حدثنا محمد بن حمير قال حدثنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة
لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
وصحح الحديث ابن حبان كما في نيل الأوطار.
وعند الطبراني: استحباب قراءة " قل هو الله
أحد " (1) وإسناده صحيح بعد كل صلاة.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي من حديث عقبة بن عامر قال: (أمرني
النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة) (2)
__________
(1) مجمع الزوائد ج: 10 ص: 102
وفي رواية وقل هو الله أحد " رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد
وأحدها جيد. الاسطوانة.
(2) لم أجده في أبي داود، أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن / باب (13)
ما جاء في فضل قارئ القرآن / رقم (2903) فيه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي
حَبيب، وقد عنعن. قال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب ". سنن النسائي -
المجتبى ج: 3 ص: 68
80 باب الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة 1336
السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 397
التكبير بعد تسليم الإمام 1258 أخبرنا بشر بن خالد العسكري أنا يحيى بن آدم
عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن بن عباس قال ثم إنما
كنت أعلم انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير الأمر بقراءة
المعوذات بعد التسليم من الصلاة 1259 أخبرنا محمد بن سلمة نا بن وهب عن
الليث عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال ثم أمرني
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة الاستغفار بعد
التسليم
صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 372
8 باب الأمر بقراءة المعوذتين في دبر الصلاة 755 أخبرنا أبو طاهر نا أبو
بكر قال قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فأخبرني أن أباه أخبرهم
قال أخبرنا الليث وحدثنا الحسن بن محمد وحدثنا عاصم يعني بن علي حدثنا ليث
عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح وفي حديث بن عبد الحكم عن علي بن رباح
عن عقبة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اقرؤوا المعوذات في
دبر كل صلاة لم يقل الحسن بن محمد لي.
صحيح ابن حبان ج: 5 ص: 344
ذكر الأمر بقراءة المعوذتين في عقب الصلاة للمصلي 2004 أخبرنا بن خزيمة قال
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبيه عن الليث بن سعد عن حنين بن
أبي حكيم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم اقرؤوا المعوذات في دبر كل صلاة.
والظاهر أن ذلك عام في الصلوات المكتوبة
كلها، وأما مضاعفة ذلك في صلاة المغرب والفجر فالظاهر أن ذلك ليس لصلاة
المغرب والفجر، وإنما ذلك للمساء والصباح فهو من أذكار الصباح والمساء.
ويستحب له أن يعقد التسبيح والتحميد والتكبير – بيده اليمنى لما ثبت في
الترمذي والحاكم بإسناد صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعقد
التسبيح بيمينه) (1)
ويستحب أن يكون عقده بأنامله لما ثبت في أبو داود ومسند أحمد والحديث حسن
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: (واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات
مستنطقات) (2)
والأنامل: جمع أنمله وهي أعلى الإصبع.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (359) التسبيح بالحصى / رقم 1502.
أخرجه البيهقي رقم (2850، الاسطوانة) ، وفي الترمذي عن عبد لله بن عمرو: "
رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيده " كتاب الدعوات / باب
(71) ما جاء في عقد التسبيح باليد / رقم (3486) وقال: " هذا حديث حسن غريب
من هذا الوجه من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب "، ولم أجد لفظة: " بيمينه
" في الترمذي والحاكم في اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله.
(2) أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة /باب (359) التسبيح بالحصى / رقم (1501)
عن يُسَيرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يُراعين التكبير
والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهن مسؤلات مستنطقات ". وأخرجه
الترمذي في كتاب الدعوات / باب (120) في فضل التسبيح والتهليل والتقديس /
رقم (3583) بلفظ: " عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس واعقدن بالأنامل
فإنهن مسؤلات مستنطقات ولا تغفلن فتنسين الرحمة " قال: هذا حديث غريب، إنما
نعرفه من حديث هانئ بن عثمان، وقد رواه محمد بن ربيعة عن هانئ بن عثمان "،
ورواه الترمذي أيضا تعليقا (3486) بلفظ: " يا معشر النساء اعقدن بالأنامل …
".
وإن عقد بأصابعه فلا بأس، فيكون من باب ذكر
البعض وإرادة الكل، وإن عقد بأنامله فهو أولى لموافقة اللفظ.
* ولا يستحب له أن يكون بغير الأنامل كأن يعقد بحصى ونحوها.
* وهل يستحب له أن يرفع صوته بالذكر بعد الصلاة المكتوبة أم لا؟
قولان لأهل العلم:
1- مذهب جمهور أهل العلم: إلى أن المستحب له أن يسر به، للحديث المتفق عليه
وأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصحابه في سفر وقد رفعوا أصواتهم بالذكر
فقال: (اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ... .) (1) .
قالوا: فهذا يدل على أن المستحب هو خفض الصوت بالذكر وعدم الرفع فيه.
2- وذهب طائفة من السلف والخلف وهو اختيار شيخ الإسلام: إلى استحباب رفع
الصوت بالذكر.
واستدلوا: بالحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس قال: (كان رفع الصوت
بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) وفي
رواية: (كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته) (2)
قالوا: فهذا الحديث واضح ظاهر في مشروعية ذلك، فهذا ابن عباس يخبر أن رفع
الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وحيث كان على عهده صلى الله عليه وسلم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قد أقره، وحيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره من أصحابه فيبعد أن
أصحابه كانوا يفعلونه من تلقاء أنفسهم وإنما كانوا يقتدون به عليه الصلاة
والسلام.
وهذا القول هو الراجح لهذا الحديث المتفق عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي / باب 38 غزوة خيبر / رقم (4205) ، وفي
كتاب الجهاد والسير / باب (131) ما يكره من رفع الصوت في التكبير / رقم
(2992) . وفي مواضع أخرى، وأخرجه مسلم رقم (2704) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (155) الذكر بعد الصلاة / رقم
(841) ، (842) . ومسلم (583) .
وأجيب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما فعل ذلك للتعليم فحيث اُحتيج إلى التعليم استحب وإلا فلا.
والجواب على ذلك: إنه لا دليل على ذلك، بل الحديث فيه أنهم كانوا يرفعون
أصواتهم بالذكر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عامة وليس فيه أن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك للتعليم فهذا تقييد لا دليل عليه.
ثم لو كان المراد منه التعليم، وسلمنا أن التعليم يحتاج إلى فترة زمنية
محددة لما كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كله ولاكتفى برفع الصوت
بقدر التعليم، فلما تعلم الناس اكتفى عن ذلك.
كما أن التعليم لا يحتاج إلى أن يرفع الناس أصواتهم بالذكر، بل إذا اكتفى
الإمام برفع صوته بالذكر اكتفى بذلك ولم يشرع لبقية الناس.
ثم إنَّا لا نسلم أن التعليم يكتفى به لفترة زمنية محدودة بل الناس محتاجون
إلى التعليم، والتعليم في كل زمن، فلا يخلو زمن من جاهل يحتاج إلى تعليم
الذكر الوارد.
فإن قيل: إن فيه تشويشاً على المتم صلاته؟
فالجواب: أن هذا الوقت حق لهذا الذاكر فإن الأصل أن يصلي المأمومون مع
الإمام فينصرفوا جميعاً، أما هذا المتم صلاته فإن الأصل فيه أن ينصرف مع
الناس.
الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن النسائي وأبي داود
بإسناد صحيح من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا
معاذ إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك
وحسن عبادتك) (1)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (361) في الاستغفار / رقم (1522)
بلفظ: " يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فلقال: (أوصيك يا معاذ
لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)
وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن، وأخرجه
النسائي دون ذكر الوصية في الافتتاح باب الدعاء حديث (1304) .
* متى يقال هذا الدعاء ونحوه قبل السلام أم
بعده؟
في ذلك قولان:
الأول: أنه يقوله بعد سلامه لظاهر قوله: " دبر كل صلاة "
والثاني: أنه يقوله بعد تشهده قبل السلام، وهذا القول هو الراجح، وهذا
اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وإنما رجح ذلك:
لأن دبر الصلاة يطلق ويراد به آخرها مما هو منها، ويطلق ويراد به ما بعدها،
كما أن دبر كل شيء كذلك، فدبر كل شيء هو آخره أو هو ما بعده.
وإنما رجحنا هنا: أن يكون بمعنى آخرها قبل سلامها: لأن الدعاء الأولى فيه
أن يكون حال الإقبال على الله ومناجاته وإنما هذا قبل سلامه، فلا يليق أنه
إذا انصرف وسلم وأقبل على المخلوقين بعد انصرافه من خطاب الله تعالى أن
يدعو الله بل اللائق أن يدعو الله قبل سلامه، لذا في الحديث بعد التشهد:
(ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) (1)
استدراك:
الإجابة على ما استدل به الجمهور في عدم سنية رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة؟
أن يقال: هذا حديث عام وحديثنا خاص، والمقرر هو الإسرار كالنية فإن المقرر
فيها أن تكون في القلب وألا يتلفظ بالمنوي به، هذه قاعدة لكن وردت النصوص
بالتلفظ بالنية في الأضحية والحج فنخصص ذلك ويكون هذا لمعان رجحت ذلك.
وهنا كذلك، فإن الأصل بالذكر أن يكون بصوت خافض لأنه هو الأليق، فإن الله
ليس بأصم ولا غائب.
لكن في هذا الموضع رجح رفع الصوت بالذكر لمعان منها:
إظهار هذه الشعيرة ومعرفة الناس انصراف الإمام بذلك، فقد يكون صوت الإمام
غير واضح بسلامه فيسمع برفع الصوت بالذكر ونحو ذلك من المعاني، وأظهرها
إظهار هذه الشعيرة.
فهذه معان رجحت الرفع على الخفض.
وبهذا انتهى من صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
والحمد لله رب العالمين
فصل
الدرس الثاني والثمانون
(يوم الاثنين: 7 / 4 / 1415هـ)
هذا فصل في مكروهات الصلاة وشيء من مستحباتها، وكذلك البحث في مبطلاتها.
__________
(1) تقدم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويكره في الصلاة
التفاته)
المكروه هو: ما يثاب العبد على تركه امتثالاً، ولا يأثم على فعله.
فيكره في الصلاة الالتفات، أي أن يلتفت عن يمينه وشماله برأسه وهذا باتفاق
أهل العلم.
أما الالتفات ببدنه فهذا مبطل للصلاة؛ لأنه ينقل عن القبلة، فإذا التفت حتى
استدار عن القبلة وانحرف عنها فصلاته باطلة.
أما الالتفات برأسه فإنه مكروه كما تقدم، لما ثبت في البخاري عن عائشة
قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو
اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) (1) والاختلاس هو الاختطاف بسرعة.
وفي أبي داود – والحديث حسن – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال
الله عز وجل مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف
عنه) (2) فهذا يدل على كراهيته.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (93) الالتفات في الصلاة / رقم
(751) ، وانظر (3291) .
(2) أخرجه أبوداود بنفس اللفظ في كتاب الصلاة / باب (165) الالتفات في
الصلاة / رقم (909) ، والنسائي، وفي سنده أبو الأحوص، لا يعرف له اسم، وهو
مولى بني ليث، وقيل: مولى بني غفار، ولم يرو عنه غير الزهري،قال يحيى بن
معين: ليس بشيء، وقال أبو أحمد الكرابيسي:ليس بالمتين عندهم (من مختصر
المنذري) . سنن أبي داود [1 / 560] .
والذي يدل على جوازه للحاجة وزوال الكراهية
بها كأن يسمع صوتاً أو حركة فيحتاج إلى الالتفات؛ ما ثبت في سنن أبي داود
بإسناد صحيح من حديث سهل بن الحنظلية قال: (ثُوِّب بالصلاة – يعني صلاة
الصبح – فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى
الشعب) قال: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس " (1)
فهو مكروه ليس بمبطل للصلاة وهذا مذهب عامة أهل العلم لكن هذه الكراهية
تزول حيث اُحتيج إليه.
قال: (ورفع بصره إلى السماء)
أي يكره رفع بصره إلى السماء وهو يصلي، لما ثبت في البخاري من حديث أنس بن
مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يرفعون
أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو ليتخطفن أبصارهم) (2)
__________
(1) أخرجه أبوداود في كتاب الصلاة / باب (168) الرخصة في ذلك / رقم (916)
قال: " حدثنا الربيع بن نافع، حدثنا معاوية، يعني ابن سلام عن زيد، أنه سمع
أبا سلام قال:حدثني السلولي - هو أبو كبشة – عن سهل بن الحنظلية قال: "
ثُوِّب بالصلاة، يعني صلاة الصبح، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يصلي وهو يلتفت إلى الشِّعب. قال أبو داود: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من
الليل يحرس. والحنظلية: أمه وقيل:أم جده، وسهل: هو سهل بن الربيع. سنن أبي
داود [1 / 563] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (92) رفع البصر إلى السماء في
الصلاة / رقم (750) بلفظ: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في
صلاتهم) فاشتد قوله في ذلك حتى قال: (لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفَنَّ
أبصارهم) .
ورواه مسلم من حديث أبي هريرة نحوه (1) ،
ورواه أيضاً من حديث جابر بن سمرة وفيه: (لينتهون (2) عن ذلك أو لا ترجع
إليهم) (3) وهذا الحديث ظاهره فوق الكراهية، فإن ظاهره التحريم وهو قول في
مذهب أحمد، وهو مذهب الظاهرية ومذهب الظاهرية أن الصلاة تبطل به.
والراجح أنها لا تبطل فهو محرم لا تبطل الصلاة به.
أما كونه محرماً فلظاهر الحديث المتقدم، فإن فيه وعيداً ولا يكون الوعيد
إلى على فعل محرم.
لكنه لا تبطل به الصلاة خلافاً للظاهرية لأن النهي لا يعود إلى ذاتها،
فالصلاة قد ثبتت بشروطها وأركانها وهذا خارج عن ذاتها.
إذن الراجح: أنه محرم كما هو قول في المذهب وهو مذهب الظاهرية، والراجح عدم
بطلان الصلاة به وهو قول في المذهب خلافاً للظاهرية.
قال: (وتغميض عينيه)
فيكره في الصلاة تغميض عينيه، فالمستحب له أن يفتحهما واستدلوا: بمجموع
الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل وفيها دلالة على
أنه كان يفتح عينيه في الصلاة فمن ذلك: أنه كان يرمي ببصره إلى موضع سجوده
(4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (26) النهي عن رفع البصر إلى السماء
في الصلاة / رقم (329) بلفظ: " ليَنتَهِيَنَّ أقوام عن رفعهم أبصارهم عند
الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتُخطَفَنَّ أبصارهم) .
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ليَنْتَهينّ، كما في مسلم.
(3) في الباب السابق /رقم (428) بلفظ: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى
السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم) .
(4) سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 283
402 باب لا يجاوز بصره موضع سجوده رقم (3354) وما بعده. سنن البيهقي الكبرى
ج: 5 ص: 158
9507 أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن
عيسى بن زيد بن عبد الجبار بن مالك اللخمي بتنيس ثنا عمرو بن أبي سلمة
التنيسي ثنا زهير بن محمد المكي عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أن
عائشة ثم كانت تقول عجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل
السقف يدع ذلك إجلالا لله وإعظاما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة
ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها ".
صحيح ابن خزيمة ج: 4 ص: 332
389 باب الخشوع في الكعبة إذا دخلها المرء والنظر الى موضع سجوده إلى
الخروج منها رقم (3012) .
فتح الباري ج: 2 ص: 232
وقال الشافعي والكوفيون يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده لأنه أقرب للخشوع
وورد في ذلك حديث أخرجه سعيد بن منصور من مرسل محمد بن سيرين ورجاله ثقات
وأخرجه البيهقي موصولا وقال والجواب هو المحفوظ وفيه أن ذلك سبب نزول قوله
تعالى الذين هم في صلاتهم خاشعون ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم فيستحب
للأمام النظر إلى موضع السجود وكذا للمأموم إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه
وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام والله أعلم.
، وكذلك أنه كان يرمي ببصره إلى إشارته (1)
وكذلك الحديث المتفق عليه في قصة انبجانية أبي جهم وفيه: (فنظر إلى أعلامها
نظرة) (2) وكذلك حديث سهل بن الحنظلية المتقدم، فهذه الأحاديث وغيرها
بمجموعها تفيد أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يفتح عينيه فيها.
وكرهه الإمام أحمد وغيره من أهل العلم؛ لكونه من فعل اليهود كما قال الإمام
أحمد وسفيان بن عيينة وغيرهم.
__________
(1) صحيح ابن خزيمة ج: 1 ص: 355
227 باب النظر إلى السبابة ثم الإشارة بها في التشهد 718 أنا أبو طاهر نا
أبو بكر نا بندار نا يحيى بن سعيد نا بن عجلان عن عامر بن عبد الله بن
الزبير عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد وضع يده اليسرى
على فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه السبابة لا
يجاوز بصره إشارته ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (14) إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر
إلى عَلَمِها / رقم (373) ، وفي كتاب الأذان / باب (93) الالتفات في الصلاة
/ رقم (752) ، وأخرجه مسلم (556) .
فعلى ثبوت ذلك وهو قول هؤلاء الأئمة الذي
يتلقى خبرهم بالقبول - على قولهم - يكون ذلك محرماً لأن التشبه باليهود
وغيرهم من الكفار محرَّم، لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) (1)
- وذهب طائفة من أهل العلم – كما قال ذلك ابن القيم في زاد المعاد –: إلى
إباحة ذلك.
واختار ابن القيم التفصيل في هذه المسألة:
فقال: إن كان الخشوع يثبت مع فتح عينيه فهو المستحب له، ولا يغمض عينيه.
وإن كان أمامه شيء يحول بينه وبين الخشوع كزخرفة وبريق ونحوه يشوش عليه
صلاته وكان في تغميض عينيه خشوع فهو المستحب له قطعاً، واستحبابه أقرب إلى
مقاصد الشرع من القول بكراهيته.
قال شيخنا حفظه الله: " والذي تميل إليه النفس ما ذهب إليه أهل القول الأول
مع ثبوت ما ذكروه من فعل اليهود، وحيث كان ذلك فإنه لا يشرع مطلقاً، بل
القول بتحريمه أظهر لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) "
ومعلوم أن المصلي غالباً تحول بينه وبين القبلة لا سيما إذا كان في فضاء
ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفتح عينيه.
ومع ذلك فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي فتح العينين.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس باب في لبس الشهرة (4031) قال: " حدثنا
عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن
عطية عن أبي منيب الجُرشي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وأخرجه أحمد في المسند أتم منه، ولفظه
(بعثت بالسيف بين ... ) قال السخاوي عن هذا الحديث فيه ضعف، ولكن له شواهد.
وقال ابن تيمية: سنده جيد، وقال ابن حجر في الفتح: سنده حسن، وأخرجه
الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان، قال العراقي: سنده ضعيف، (من تعليق
محي الدين عبد الحميد) ، سنن أبي داود مع المعالم [4 / 314] . وقد تقدم في
الطهارة.
فالأظهر أن ذلك مكروه مطلقاً بل القول
بتحريمه قول قوي؛ لأنه من فعل اليهود وفي الحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)
قال: (وإقعاؤه)
فيكره ذلك أي الإقعاء.
وصفته: عندهم: أن يجلس على عقبيه فقالوا: هذا مكروه.
وأما إقعاء الكلب وهو أن يجلس على أليته (1) وينصب فخذيه فهو مكروه اتفاقاً
لحديث عائشة في صحيح مسلم وفيه: (وكان ينهى عن عقبة الشيطان) (2) وهو إقعاء
الكلب كما فسره أبو عبيدة وغيره.
أما الإقعاء المتقدم – وهو أن يجلس على عقبيه فهو مكروه عند الحنابلة،
واستدلوا: بما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الإقعاء
بين السجدتين) (3) .
والصحيح عدم كراهية ذلك وعليه عمل العبادلة من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم وبه ثبتت السنة فقد ثبت في مسلم من حديث ابن عباس: أنه قال له طاووس
وسأله عن الإقعاء فقال: (هو السنة، فقال: إنا نراه من جفاء الرجل فقال: سنة
نبيكم صلى الله عليه وسلم) (4) .
فهو إذن من السنن الثابتة – وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد – خلافاً
للرواية الأخرى المشهورة.
__________
(1) الأَلْيَة: إحدى الأليتين، وهما: العجيزة أو ما رَكِبَها من شحم ولحم.
(ج) : أَلاَيا. المعجم الوجيز.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (46) ما يجمع صفة الصلاة … / رقم
(498) .
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة / باب (22) الجلوس بين السجدتين /
رقم (894) عن علي قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقع
بين السجدتين) قال الألباني " ضعيف ". ورقم (895) بلفظ (يا علي لا تقع
إقعاء الكلب) قال الألباني: " حسن ".
(4) في كتاب المساجد، باب جواز الإقعاء على العقبين (536) ، وقد تقدم صْ
121.
ويكره له أن يعتمد على يديه في الصلاة، لما
ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(نهى أن يقعد الرجل في الصلاة معتمداً على يديه) (1) وفي سنن أبي داود
بإسناد صحيح أن ابن عمر: (رأى رجلاً وهو يصلي وقد اعتمد على يده اليسرى
ومال إلى شقه الأيسر فقال: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون) (2)
فهذه الجلسة في الصلاة منهي عنها وهي أن يجلس معتمداً على يديه أو أحدهما.
قال: (وافتراش ذراعيه ساجداً)
تقدم أن الصفة المستحبة في السجود أن يضع كفيه ويرفع مرفقيه.
فإذا افترش ذراعيه بأن يضع مرفقيه على الأرض باسطاً ذراعيه فإن هذا مكروه
عند الحنابلة لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) (3) وظاهره تحريم
ذلك.
قال: (وعبثه)
يكره في الصلاة أن يعبث بيديه أو ثوبه أو نحو ذلك؛ لأن في ذلك منافاة
للخشوع، وحيث كان كذلك كان مكروهاً وهذا باتفاق أهل العلم.
وهذا ما لم يكن هذا العبث كثيراً يخرجه عن الصلاة فإنه يكون مبطلاً لها –
كما سيأتي تقريره إن شاء الله.
قال: (وتخصره)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (187) كراهية الاعتماد على اليد
في الصلاة / رقم (992) .
وفي مصنف عبد الرزاق ج: 2 ص: 197
3054 عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يديه
".
(2) أخرجه أبوداود في الباب السابق رقم (994) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة / باب (8) المصلي يناجي ربه عز
وجل / رقم (532) ، وفي كتاب الأذان / باب (141) لا يفترش ذراعيه في السجود
/ رقم (822) . ومسلم (493) .
التخصر هو أن يضع يديه على خاصرته أي
شاكلته وقد صرح المؤلف بكراهيته كما هو المذهب ودليل ذلك: ما ثبت في
الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يصلي الرجل مختصراً) (1) .
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث زياد بن صُبيح: (أنه صلى إلى جنب ابن
عمر فوضع يده على خاصرته فلما انصرف – أي ابن عمر – قال: هذا الصلب في
الصلاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه) (2)
وهذا النهي هل هو للتحريم أم للكراهية؟
ظاهر النهي التحريم.
وقد صرح الحنابلة بالكراهية، والظاهر تحريم ذلك ويؤكده ما ثبت في البخاري
عن عائشة: (أن هذا فعل اليهود في صلاتهم) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة / باب (17) الخصر في الصلاة /
رقم (1220) بلفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى النبي - صلى الله
عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصرا " ورقم (1219) عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: نُهيَ عن الخَصْر في الصلاة. وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي
هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومسلم (545) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (160) في التخصر والإقعاء / رقم
(903) عن زياد بن صُبَيح الحنفي قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على
خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ينهى عنه ".
(3) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء / باب (50) ما ذُكر عن بني
إسرائيل / رقم (3458) عن عائشة رضي الله عنها: كانت تكره أن يَجعل يده في
خاصرته وتقول: إن اليهود تفعله ". والظاهر أن زيادة " في صلاتهم " ليست في
البخاري، لقول ابن حجر فتح الباري ج: 3 ص: 89: " وقيل لأن اليهود تكثر من
فعله فنهى عنه كراهة للتشبه بهم أخرجه المصنف في ذكر بني إسرائيل عن عائشة
زاد بن أبي شيبة فيه في الصلاة ". الاسطوانة.
فالراجح أن الاختصار في الصلاة منهي عنه
نهي تحريم لأنه من فعل اليهود، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه
وظاهر النهي التحريم.
قال: (وتروحه)
أي تروحه بمروحة ونحوها فيكره ذلك؛ لأنه عبث في الصلاة وينافي الخشوع.
لكن إن احتاج إليه كأن يكون هناك حر شديد فيحرك يده بشيء ليحرك الهواء إلى
بدنه من غير أن يكون ذلك مبطلاً للصلاة بأن يكون كثيراً عرفاً – فإنه لا
بأس به للحاجة إليه أما دون حاجة فهو مكروه لأنه عبث.
وأما المراوحة بين القدمين: وهي أن يتكئ على أحد رجليه بثقل بدنه، فتكون
القدم الأخرى في راحة من حمل بدنه، ثم يحمل بدنه على القدم الأخرى – هذه
تسمى المراوحة.
وقد ورد في النسائي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود: (أنه رأى رجلاً وقد رص (1)
قدميه فقال: (أخطأ هذا السنة لو رواح في صلاته لكان ذلك أعجب إليّ) (2) .
واستدل به الإمام أحمد على استحباب ذلك، لكن الحديث ضعيف للانقطاع بين أبي
عبيدة وأبيه ولكن مع ذلك يقوى القول باستحبابه حيث طال القيام لما فيه من
الثبوت على العبادة وتهيئة النفس للاستمرار عليها لأنه إذا فعل ذلك فتكون
عنده قدرة على الإطالة أكثر مما لو لم يفعل ذلك.
قال الأثرم: (رأيت أبا عبد الله وهو يصلي وقد فرَّج بين قدميه ورأيته وهو
يراوح بينهما)
فاستحب ذلك الإمام أحمد، ولو قيل باستحبابه لكان قوياً لما فيه من التشجيع
على الإطالة.
وقوله: (رأيت أبا عبد الله وهو يصلي وقد فرَّج بين قدميه)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: صف بين قدميه، كما في النسائي.
(2) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح / باب (13) الصف بين القدمين في الصلاة
/ باب (893) : " عن عبد الله أنه رأى رجلا يصلي قد صف بين قدميه، فقال:
أخطأ السنة ولو راوح بينهما كان أعجب إلي ".
هذا هو الأولى، لأن قبل هذا الفعل يجعل
القدمين على طبيعتها، وحيث لم يرد نص في قدميه حال القيام فإنه يبقيهما على
الطبيعة، وطبيعتهما أن يكونا بحيال المنكبين، فليستا بمرصوصتين بل يكون
مفرجاً بينهما.
ومما يدل على ذلك: أن المصلي يستحب له أن يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبيه
بمنكبه وحيث كان ذلك فإنه لا يثبت إلا بأن يفرج بين قدميه، فعلى ذلك رص
القدمين حال القيام غير مشروع، بل المستحب التفريج بينهما.
قال: (وفرقعة أصابعه)
أي يكره أن يفرقع أصابعه في الصلاة، لأنه عبث وهو – أي العبث – مكروه
اتفاقاً.
وفي ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أن شبيبة مولى ابن عباس صلى إلى جنب ابن
عباس ففقع أصابعه فلما انصرف قال له ابن عباس: لا أم لك تفقع وأنت في
الصلاة) (1) فهذا إنكار منه لذلك يدل على أنه مكروه.
قال: (وتشبيكهما)
__________
(1) سنن ابن ماجه ج: 1 ص: 310
965 حدثنا يحيى بن حكيم ثنا أبو قتيبة ثنا يونس بن أبي إسحاق وإسرائيل بن
يونس عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(لا تفقع أصابعك وأنت في الصلاة) .
فتشبيك الأصابع مكروه، لما ثبت عند الدارمي
بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ
أحدكم في بيته ثم أتى المسجد فهو في صلاة فلا يفعل هكذا وشبّك بين أصابعه)
(1) فإذا كان يكره له هذا وهو في طريقه إلى المسجد لكونه في حكم المصلين،
فأولى من ذلك أن يكره أثناء الصلاة.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن ابن عمر سئل عن التشبيك في الصلاة فقال:
(تلك صلاة المغضوب عليهم) (2) ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم هم
المغضوب عليهم وحيث كان هذا فهو يقوي التحريم لأنه تشبه بهم.
وحيث قلنا بالإطلاق أي عامة المغضوب عليهم فينهى العبد عن التشبه بهم
لحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وظاهر الحديث: (فلا يفعل هكذا، وشبك بين
أصابعه) ظاهره التحريم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث والثمانون
(يوم الثلاثاء: 8 / 4 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأن يكون حاقناً)
__________
(1) أخرجه الدارمي في كتاب الصلاة / باب (121) النهي عن الاشتباك إذا خرج
إلى المسجد / رقم (1440) عن كعب بن عجرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال: (إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامداًَ إلى الصلاة فلا يشبك بين أصابعه) ،
ورقم (1441) عن كعب بن عجرة أيضا قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: (إذا توضأت فعمدت إلى المسجد، فلا تشبكن بين أصابعك، فإنك في صلاة) ،
ورقم (1442) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من
توضأ ثم خرج يريد الصلاة، فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته، فلا تقولوا هكذا)
يعني يشبك بين أصابعه ".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (187) كراهية الاعتماد على اليد
في الصلاة / رقم (993) .
فيكره أن يصلي وهو حاقن، والحاقن: هو
المحتسب بوله ومثله من احتبس غائطه أو ريحه، فإن الصلاة تكون مكروهة في هذه
الحال، لأن هذا ينافي كمالها ويؤثر في الخشوع بها والإقبال على الله فيها.
ويدل عليه: ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة
بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) (1) أي الغائط والبول ومثل ذلك الريح
فإن الصلاة تكون مكروهة.
لكن الصلاة تصح إجماعاً كما حكاه ابن عبد البر.
ولهذا الإجماع فإن الحديث يؤول على (لا صلاة كاملة) أو - لو قلنا بالتحريم
- (لا صلاة جائزة) ولا يقال: (لا صلاة صحيحة) لإجماع أهل العلم على صحة
الصلاة فهذا الفعل مكروه أو محرم لظاهر الحديث المتقدم لكن الصلاة صحيحة
إجماعاً.
قال: (أو بحضرة طعام يشتهيه)
أي تتوق إليه نفسه، فإن الصلاة مكروهة أيضاً للحديث المتقدم: (لا صلاة
بحضرة طعام) ، ولما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
قدم العشاء فابدؤا به قبل أن تصلوا المغرب ولا تعجلوا [عن] عشاءكم) (2)
وثبت في البخاري نحوه من حديث ابن عمر – نحوه – وفيه: (وكان ابن عمر يوضع
له الطعام وتقام الصلاة، فلا يعجل عن عشائه حتى يفرغ وإنه ليسمع قراءة
الإمام) (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب (16) كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي
يريد أكله.. /رقم (560) من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه قصة حديث ابن أبي
عتيق مع القاسم عند عائشة.
(2) أخرجه البخاري بنفس اللفظ عن أنس رقم (671) و (5465) كتاب الأذان / باب
(42) إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم في كتاب المساجد / باب (16)
كراهة الصلاة بحضرة الطام / رقم (557)
(3) صحيح البخاري الباب السابق / رقم (673) بلفظ: " وكان ابن عمر: يوضع له
الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام ".
وثبت في ابن شيبة بإسناد صحيح: (أن ابن
عباس وأبا هريرة كانا يأكلان طعاماً في التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم
فقال له ابن عباس: لا تقم لئلا نعجل وفي أنفسنا شيء) وفي رواية (لئلا يعرض
في الصلاة) (1) .
وفي هذا الأثر الصحيح يتبين أن هذا إنما هو خاص فيما إذا كان الطعام تتوق
إليه النفس ويشتهى، وللنفس حاجة إليه – فيخشى أن يعرض في الصلاة فيؤثر في
خشوعها، ومما يدل أنه ليس في مطلق الطعام ما ثبت في البخاري من حديث عمرو
بن أمية قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل كتفاً يجتز منها فدعي
إلى الصلاة فطرح السكين فصلى ولم يتوضأ) (2) .
فهذا يدل على أنه إذا كان عنده طعام لا يشتهيه وليس للنفس حاجة فيه فإنه
يصلي.
وإنما الذي ينهى عن الصلاة حيث وجد هو الذي تتوق إليه النفس (3) .
ومثل ذلك الشراب والجماع قياساً وقال صاحب الإنصاف: " بل هما أولى
بالكراهية ".
فعلى ذلك يكره له أن يصلي حاقناً أو بحضرة طعام يشتهيه وإن أدى ذلك إلى
فوات الجماعة.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة ج: 2 ص: 184 رقم (7925) حدثنا وكيع عن شريك عن عثمان
الثقفي عن رجل يقال له زياد قال كنا عند ابن عباس وشواء له في التنور وحضرت
الصلاة فقلنا له فقال لا حتى نأكل لا يعرض لنا في صلاتنا ".
قال في ابن حجر في فتح الباري ج: 2 ص: 161: " وروى سعيد بن منصور وابن أبي
شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس انهما كانا يأكلان طعاما وفي
التنور شواء فأراد المؤذن أن يقيم فقال له بن عباس لا تعجل لئلا نقوم وفي
أنفسنا منه شيء وفي رواية بن أبي شيبة لئلا يعرض لنا في صلاتنا ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (43) إذا دُعي الإمام إلى الصلاة
وبيده ما يأكل / رقم (675) ورقم (210) و (208) من كتاب الوضوء باب (50) .
وأخرجه مسلم في كتاب الحيض / باب (24) نسخ الوضوء ما مست النار / رقم (355)
.
(3) كذا في الأصل.
لكن إن أدى ذلك إلى خروج وقت الصلاة فلا،
لأن فوات الخشوع أهون من خروج وقت الصلاة وفواتها فإنه إذا صلاها بعد الوقت
فإنه يكون قد خرج عليه وقتها، ولا شك أن فوات الخشوع أهون من فوات الصلاة.
فعلى ذلك: لا صلاة حيث كان الوقت متسعاً، أما إذا كان ضيقاً ويخشى خروج
الوقت وفوات الصلاة فإنه يصلي على حاله ويجب عليه ذلك لئلا يخرج وقت
الصلاة.
قال: (وتكرار الفاتحة)
فهو مكروه في الصلاة، وذلك لأنه (1) لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم
وكان لا يكررها بل يقرؤها في كل ركعة من صلاته بلا تكرار وحيث كان ذلك، فإن
هذا الفعل من المكرر خلاف هديه عليه الصلاة والسلام وحيث كان ذلك فهو محدث
في الدين.
قال: (ولا جمع سور في فرض كنفل)
أي لا يكره جمع سور، فلو جمع السور في الركعة فلا يكره ذلك، وقد تقدمت
الأدلة على ذلك كقراءته – صلى الله عليه وسلم – البقرة والنساء وآل عمران
في ركعة (2) وكقول ابن مسعود: إنه يعرف القرائن التي كان النبي صلى الله
عليه وسلم يقرن بها في الصلاة (3) .
وقراءة الرجل بقل هو الله أحد وسورة في كل ركعة (4) .
فلا يكره أن يجمع بين السورتين فأكثر في الركعة، لا كراهية فرضاً ولا نفلاً
كما تقدم في الأحاديث.
وإنما قال: (كنفل) لأن النفل مجمع عليه، فكذلك الفرض؛ لأن ما ثبت نفلاً فهو
ثابت فرضاً، فلم يثبت دليل يدل على التخصيص.
__________
(1) في الأصل: لأنها.
(2) أخرجه مسلم من حديث حذيفة في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (27)
استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل / رقم (772) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (49) ترتيل القراءة
واجتناب الهذ.. وإباحة سورتين فأكثر في ركعة / رقم (822) ، والبخاري (4996)
، (5043) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين / باب (45) فضل قراءة قل هو الله
أحد / رقم (813) من حديث عائشة رضي الله عنها.
على أن الأحاديث الواردة في هذا الباب منها
ما هو في الفريضة كما كان من الإمام الذي يفتتح قراءته بعد الفاتحة بـ {قل
هو الله أحد} فإنها كانت في الفريضة (1) .
ومما يكره له الإكثار من تسوية التراب حيث يسجد، فإنه مكروه أو خلاف
الأولى.
لما ثبت في الصحيحين من حديث معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن
الرجل يسوي التراب حيث يسجد فقال: (إن كان لابد فاعلاً فواحدة) (2) ، أما
الإكثار من ذلك فإنه مكروه أو خلاف الأولى فإن كان لابد فاعلاً فليكتفي
بواحدة يسوي بها التراب وإلا فإنه ينبغي أن يسوي التراب قبل صلاته لئلا
ينشغل بتسويته أثناء الصلاة.
ومثل ذلك – أيضاً – مسح التراب عن الجبهة فإنه خلاف الأولى.
__________
(1) لفظه في مسلم: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على
سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قل هو الله أحد} ، فلما
رجعوا ذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (سلوه لأي شيء
يصنع ذلك) فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن،فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - (أخبروه أن الله يحبه) .
(2) أخرجه البخاري رقم (1207) ،ومسلم في كتاب المساجد / باب (12) كراهة مسح
الحصى وتسوية التراب في الصلاة / رقم (546) .
يدل عليه: ما رواه البيهقي عن ابن مسعود
أنه قال: (أربع من الجفاء أن يبول الرجل قائماً " والسنة وردت بخلاف ذلك
والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره " وصلاة الرجل والناس
يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره ومسح التراب عن جبهته وأن يسمع
المؤذن فلا يجيبه [في قوله] ) (1) فهذه هن الجفاء وهو غير مشروع في الصلاة
فعلى ذلك هو خلاف الأولى أو مكروه.
فيكره أن يمسح التراب عن وجهه وهو يصلي وأولى من ذلك الإكثار منه لما فيه
من الانشغال والإقبال على أمر آخر في الصلاة.
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة / با ب (371) لا يمسح وجهه من التراب في
الصلاة حتى يسلم / رقم (3552) قال: " أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق
المزكي، أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأ
جعفر بن عون، أنبأ سعيد عن قتادة عن ابن بريدة عن ابن مسعود أنه كان يقول:
" أربع من الجفاء أن يبول.. " وكذلك رواه الجريري عن ابن بريدة عن ابن
مسعود، ورواه سعيد بن عبيد الله بن زيادة بن جبير بن حية / عن عبد الله بن
بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه إلا أنه قال: والنفخ
في الصلاة بدل المرور، ولم يقل أربع. قال البخاري: هذا حديث منكر يضطربون
فيه " " ا. هـ كلام البيهقي.
ويكره ألا يكظم التثاؤب أو أن لا يضع يده
على فيه، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تثاءب
أحدكم - في الترمذي: في الصلاة - فليكظم ما استطاع) وفي مسلم: (فليمسك يده
على فيه فإن الشيطان يدخل) (1)
قالوا: ويكره له أن يصلي إلى نار أو قنديل أو نحو ذلك كأن يصلي إلى مدفئة
ونحوها مما هو نار.
وظاهر ذلك – وهو قول – أنه يكره أن يصلي إلى شيء من الضوء وإن كان متولداً
من كهرب ونحوه لأنه نار، فهذا كله مكروه، وهو مذهب الشافعية أيضاً.
واستدلوا بأن هذا من فعل المجوس من كونهم يصلون إلى نيرانهم فيكون في ذلك
تشبه بهم.
وهو قول طائفة من السلف كابن سيرين ومقتضى هذا التعليل التحريم؛ لأن من
تشبه بقوم فهو منهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق / باب (11) صفة إبليس وجنوده / رقم
(3289) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (التثاؤب من
الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك
الشيطان) ومسلم دون اللفظة الأخيرة في كتاب الزهد والرقائق / باب (9) تشميت
العاطس وكراهة التثاؤب / رقم (2994) من حديث أبي هريرة، ورقم (2995) من
حديث أبي سعيد الخدري باللفظ الثاني، وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة بالزيادة
في كتاب الصلاة / باب (156) ما جاء في كراهية التثاؤب في الصلاة / (370)
قال الترمذي: " وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وجدّ عَدي بن ثابت " وقال: "
حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ".
وظاهر تبويب البخاري جواز ذلك حيث قال:
(باب: من صلى وقدامه شيء من تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله)
وذكر الحديث في صلاة الكسوف وفيه: (وعرضت لي النار وأنا أصلي) (1) فهذا يدل
على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرضت له النار فكانت بين يديه وهو
يصلي، ولو كان ذلك مكروهاً لما كان ذلك بين يديه.
وما ذهبت إليه البخاري أظهر وذلك لما استدل به من حديث النبي صلى الله عليه
وسلم ولما ثبت في سنن النسائي وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (استتر
بشجرة وصلى إليها) (2) ومعلوم أن الشجرة تعبد من دون الله.
وهذا العبد يصلي وبين يديه الأحجار، بل الكعبة التي يتوجه إليها المسلمون
إنما هي من الأحجار، ومعلوم أن الأحجار تعبد من دون الله: لكن العبد أراد
بتوجهه الله تعالى.
وأما ما ذكروه من أن ذلك فيه تشبه بالمجوس.
فيجاب عنه: أن هذه النار التي عرضت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأن
هذا القنديل الذي يصلي إليه العبد ونحو ذلك أنه ليس هو ذات النار التي تعبد
من دون الله.
__________
(1) ذكره البخاري تعليقا في كتاب الصلاة / باب (51) من صلى وقدامه تنور أو
نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله / قبل حديث (431) فقال: " وقال الزهري:
أخبرني أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عرضت علي النار وأنا
أصلي) .
(2) السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 270 (823) أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا
محمد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال: لقد رأيتنا
ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه
كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح " الاسطوانة. قال الحافظ في فتح الباري
ج: 1 ص: 580 " رواه النسائي بإسناد حسن ". ولم أجده في سنن النسائي "
المجتبى ".
فإن النار أنواعها كثيرة، وأما النار التي
عبدت من دون الله فهي بخصوصها ينهى عن التوجه إليها، وأما أن يتوجه إلى نار
أخرى فإنه لا يقال: إنه توجه إلى شيء يعبد من دون الله بذاته بل توجه إلى
جنس ذلك.
فالنار التي تعبد من دون الله لا يجوز للعبد أن يصلي إليها لما فيه من
التشبه بالمجوس، وأما عموم النار فإنه لا يمنع من ذلك؛لأن من النار ما لا
يتوجه إليه ولا يصرف العبادة إليه.
كما أنه لو صلى بين يديه صنم يعبد من دون الله فإنه يمنع من ذلك، " فإن صلى
وبين يديه حجارة ونحو ذلك لا يعبد، فلا يمنع من ذلك " (1) .
فالأرجح ما ذهب إليه البخاري في صحيحه، هو ظاهر تبويبه، وأن الصلاة إلى
قنديل أو نار أو شمعة أنه ليس بمكروه خلافاً للشافعية والحنابلة.
قال: (وله رد المار بين يديه)
بل يسن له ذلك، فإن ظاهر لفظه " له " أنه يباح لكن ذلك مسنون ومستحب عند
الحنابلة في المشهور عندهم لذا ذكر الشارح في الشرح بعد لفظة " ويسن ".
ودليل ذلك، ما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى
أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى
فليقاتله فإنما هو شيطان) (2) وفي مسلم من حديث ابن عمر: (فإن معه القرين)
وبه يفسر قوله " فإنما هو شيطان " أي معه شيطان أو القرين.
أو أنه فعل ما يفعله الشيطان من تنقيص صلاة العبد وصرف قلبه عنها بمروره
بين يديه.
__________
(1) في المطبوع بدل هذه العبارة ما نصه: " لكن لو كان مطلق حجر لا يتوجه
إليه العبادة فإنه لا يمنع منه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (100) يرد المصلي من مر بين يديه /
رقم (509) ، ومسلم (505) .
فيشرع له أن يدفع المار بين يديه، فإن أبى
فليقاتله أي يدفعه دفعاً شديداً، ومما يدل على أن المراد ذلك قصة هذا
الحديث فقد بين في الصحيحين: (أنه صلى في يوم جمعة وبين يديه شيء يستره من
الناس فأراد شاب من بني أبي مُعيط أن يجتاز بين يديه فدفعه في نحره فنظر
الشاب فلم يجد مساغاً فعاد يجتاز فدفعه أشد من الأولى) (1)
وحينئذٍ: لو ترتب على دفعه أذى في بدنه فإنه لا يضمنه لأن ما ترتب على
المأذون فهو غير مضمون.
- وعن الإمام أحمد: وجوب ذلك وهو الراجح لقول النبي صلى الله عليه وسلم "
فليدفعه " وظاهر الأمر الوجوب.
إذن: عن الإمام أحمد روايتان:
أصحهما وهي غير المشهورة عنه وجوب ذلك لظاهر الحديث وقد قال صلى الله عليه
وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له
من أن يمر بين يديه) (2) فلا يجوز له أن يمر بين يدي المصلي سواء كان بين
يديه سترة أم لا، بأن يمر بين يديه في موضع صلاته.
وللمصلي اتفاقاً دفعه إن مر وهل هو واجب أو مستحب؟ الراجح وجوبه كما هو
رواية عن الإمام أحمد.
قال: (وعد الآي)
له أن يعد آيات القرآن التي يقرؤها، وهو وارد عن طائفة من السلف؛ وهل له أن
يعد التسبيح فيه قولان في المذهب، وقد توقف الإمام أحمد فيه لعدم وروده عن
أحد من السلف، وأجازه طائفة من أصحابه.
فعلى ذلك: عد الآي وجه واحد في المذهب أنه مباح وليس بمكروه، وأما التسبيح
فهل يكره أم يباح؟
قولان في المذهب:
الصحيح في المذهب عندهم أنه يباح أيضاً.
وذهب الشافعية والأحناف: إلى أنه مكروه.
__________
(1) متفق عليه، الباب السابق.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (101) إثم المار بين يدي المصلي /
رقم (510) ، ومسلم (507) .
وهذا أظهر فإن فعل طائفة من السلف من
التابعين لا يفيد إباحته حيث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد
ثبتت الأدلة في أن الصلاة شغل وإقبال إلى الله تعالى وحيث انشغل في العد
فإن ذلك انشغالاً عن الصلاة وعن إتمام خشوعها والخضوع لله فيها.
وهو متى قام بالواجب فإن الله عز وجل يجازيه على ما فعله بعده وإن لم يعرف
حسابه، ولو فعل ذلك فإن الصلاة صحيحة لكنه مكروه.
قال: (والفتح على إمامه)
أي: وله الفتح على إمامه، بأن يفتح عليه في قراءته.
فإذا لُبس على الإمام في القراءة، فيشرع له أن يفتح عليه بأن يرد عليه ما
أخطأ فيه في قراءته.
ودليل ذلك: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه
وسلم: (صلى صلاة فلُبس عليه فيها، فلما انصرف قال لأُبي أصليت معنا؟ قال
نعم قال: " ما منعك " أي ما منعك أن تفتح عليَّ في الصلاة) (1) .
إلا أن التعجل في ذلك بحيث يكون في ذلك تلبيس على الإمام هذا غير مشروع، بل
يترك الإمام حتى يتبين أن الخطأ عنده صواب وأنه يظن هذا الخطأ صواباً.
أما حيث كان في مهلة من أمره وهو ما زال يمكنه أن يصلح خطأه كأن يخطئ في
صدر آية وهو لم يصل إلى منتصفها أو آخرها فهو ما زال يمكن أن يصلح خطأه فلا
ينبغي التعجيل في ذلك.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة / باب الفتح على الإمام (907) ، وابن حبان
(2242) ، والطبراني في الكبير (13216) ، والبيهقي [3 / 212] ، والبغوي
(665) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال الخطابي في معالم السنن [1 /
216] : " إسناد حديث أبي جيد "،وقال النووي في المجموع 4 / 241: " رواه أبو
داود بإسناد صحيح ". من حاشية الشرح الممتع لابن عثيمين [3 / 347] .
وقد قال علي – في البيهقي بإسناد صحيح – "
إذا استطعمك الإمام فأطعمه " (1) أي إذا طلب منك أن تفتح عليه فافعل.
والفتح على الإمام بالفاتحة واجب، لأن الصلاة لا تصح إلا بها، وحيث أخطأ
الإمام في الفاتحة فإن الصلاة تبطل بذلك. وأما غير الفاتحة فإن ذلك مشروع
حيث كان الإمام محتاجاً إليه للحديث المتقدم في قصة أبي بن كعب.
قال: (ولبس الثوب ولف العمامة)
هذا لا بأس به في الصلاة.
فلا بأس أن يلبس ثوبه، كأن يقع ردائه فيرفعه إلى عاتقه أو أن يلبس عمامته
هذا لا بأس به ولا كراهية إذا احتاج إليه لأنه عمل يسير في الصلاة والعمل
اليسير في الصلاة مباح لا كراهية فيه إلا إذا لم يحتج إليه فإنه يكره لكونه
عبثاً فيها. ومما يدل عليه حديث حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمامة بنت
زينب في الصلاة (2) .
ولما ثبت في أبي داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله
عليه وسلم: (فتح لعائشة الباب وهو يصلي) (3)
__________
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الجمعة / باب (48) إذا حصر الإمام لقن / رقم
(5792) وما بعده. وفيه: " قلنا ما استطعامه؟ قال – أي الراوي -: إذا تعايا
فسكت فافتحوا عليه ".
(2) صحيح البخاري ج: 1 ص: 193 باب 16 إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في
الصلاة رقم (494) ، ومسلم رقم (543) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (169) العمل في الصلاة / رقم
(922) . والنسائي في كتاب السهو / باب (14) المشي أمام القبلة خطى يسيرة /
رقم 1206 عن عائشة قالت: استفتحتُ الباب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يصلي تطوعا والباب على القبلة فمشى عن يمينه أو عن يساره ففتح الباب ثم رجع
إلى مصلاه "، والترمذي وقال: " حسن غريب ". وحسنه الألباني.
فالحركة اليسيرة إذا احتاج إليها المصلى
فلا بأس بها ولا كراهية لأنها عمل يسير فيباح في الصلاة ولا كراهية إذا
احتاج إليه.أما إذا لم يحتج إليه فإنه يكره لأنه عبث، وكل عبث في الصلاة
فهو مكروه كما تقدم.
والحمد لله رب العالمين
الدرس الرابع والثمانون
(يوم الأربعاء: 9 / 4 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (وقتل حية وعقرب وقمل)
أما الحية والعقرب؛ فلثبوت النص بذلك، فقد ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح من
حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتلوا الأسودين في
الصلاة الحية والعقرب) (1) ويقاس عليهما القمل ونحوه مما فيه ضرر ويجوز
قتله، فيقاس عليه وقد ثبت عن طائفة من الصحابة والتابعين.
والحديث إنما يقيد بحيث لا تختل الصلاة، فإن اختلت الصلاة، فاحتاج قتل
الحية والعقرب إلى عمل كثير ينافي الصلاة فإنه يبطل الصلاة، وهذا مذهب
جماهير أهل العلم.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (في الصلاة) ، وظاهره أن ذلك في الصلاة مع
ثبوتها، وجبت كان قائماً بعمل كثير ينافي الصلاة فإنه يكون خارجاً عنها،
قياساً على إنقاذ الغريق، فإنه إن احتاج إلى إنقاذه وهو يصلي ولا يمكن أن
ينقذه إلا بعمل كثير يبطل الصلاة، فيبطلها وينقذه.
هذا تقرير مذهب جماهير أهل العلم، وأن قتل الحية والعقرب إنما يكون حيث
كانت الصلاة ثابتة ولم يكن هذا القتل بفعل كثير عرفاً يبطلها، فإن كان بفعل
كثير يبطلها، فإن الصلاة تبطل.
قال: (فإن أطال الفعل عرفاً من غير ضرورة ولا تفريق بطلت ولو سهواً)
__________
(1) أخرجه أبو داود في الباب السابق / رقم (921) ، وأخرجه النسائي في
الصلاة حديث 1203 بلفظ (أمر) ، وابن ماجه في الصلاة حديث 1245 بلفظ (أمر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، والترمذي حديث 390 وقال: " حسن صحيح
"، سنن أبي داود [1 / 566] .
فمرجع معرفة الطويل والقصير في الصلاة هو
العرف وهي قاعدة شرعية: في كل ما لم يثبت تحديده في الشرع فإنه يرجع في
تحديده إلى العرف ويرجع فيه إلى أوساط الناس وقد اتفق أهل العلم على أن
العمل الكثير مبطل للصلاة وأن العمل اليسير ليس بمبطل لها.
وقد تقدمت أمثلة للعمل اليسير كأن يفتح باباً أو يلبس ثوباً أو نحو ذلك.
فالعمل الكثير يقطع الصلاة اتفاقاً؛ لأنه ينافي الصلاة ويقطع موالاتها، وهو
ليس على الهيئة الشرعية ولا مما أجازه الشارع فيها، وحيث كان كذلك كانت
الصلاة خارجة عن الهيئة الشرعية الصحيحة وكل عمل خارج عن هديه – صلى الله
عليه وسلم – فهو مردود.
قال: (من غير ضرورة) :
وعليه: فإن كان مضطراً إلى فعل كثير في الصلاة فإن الصلاة لا تبطل بذلك،
كأن يكون هارباً من عدو أو سبع ونحوه فإنه يصلي على هيئته وحسب حاله، وإن
كان في الصلاة عمل كثير ينافيها في الأصل لكنه مضطر إلى ذلك فتصح صلاته.
كما أجاز الشارع الصلاة حال الخوف رجالاً وركباناً كما سيأتي في باب صلاة
الخوف – إن شاء الله تعالى -.
قال: (ولا تفريق) :
بأن كان هذا الكثير متوالياً
أما إن كان بمجموعه كثير لكنه بآحاده يسير (1) ، كأن يعمل عملاً يسيراً في
الركعة ثم يعود إليها ثم يعمل عملاً يسيراً في الركعة الثانية وهكذا –
ويكون هذا اليسير بمجموعه كثيراً فلا تبطل الصلاة به.
لأنه حيث لم يبطلها وهو يسير بمفرده فلا يبطلها وهو كثير بمجموعه، فما دام
أن الصلاة صحت مع ثبوت العمل اليسير فيها بمفرده فكذلك لا يبطلها بمجموعه،
فهذا عندما يفعل فعلاً يسيراً ثم يعود إلى صلاته فهي صحيحة، وإذا فعل فعلا
آخر يسيراً ثم عاد فالصلاة صحيحة، وهو لم يقطع موالاتها بمفرده فكذلك إذا
كان متفرقاً لكنه بمجموعه كثيرة عرفاً.
(بطلت ولو سهواً) :
__________
(1) في الأصل: يسيراً.
فلو عمل عملاً كثيراً في الصلاة ساهياً فإن
الصلاة تبطل، وهذا هو المشهور في المذهب وعللوا ذلك بما تقدم: من انقطاع
الموالاة.
- وعن الإمام أحمد: أن العمل الكثير الساهي صاحبه لا يقطع الصلاة بل تصح
الصلاة مع العمل الكثير إن كان صاحبه ساهياً.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين في قصة ذي اليدين وفيه: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى الركعتين ساهياً ومشى وخرج من المسجد وأتى بيته ثم بعد ذلك
أتم صلاته) (1) فقد قام أثناء الصلاة بعمل كثير عرفاً خارج عن الصلاة
منافياً لها، ومع ذلك لم تبطل به الصلاة بل أتم صلاته لكونه ساهياً – وهذا
هو الظاهر – وهو اختيار المجد بن تيمية.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد / باب 19 السهو في الصلاة والسجود له / رقم
(574) عن عمران بن حصين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر
فسلم في ثلاث، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخِرْبَاق، وكان في
يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضْبَانَ يَجُرُّ رداءه
حتى انتهى إلى الناس، فقال: (أصدق هذا) قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلم ثم
سجد سدتين ثم سلم ". وفي لفظ له قال عمران: سلم رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين،
فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مُغضبا، فصلى الركعة التي كان ترك،
ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم ". وقد أخرج البخاري قصة ذي اليدين من
حديث أبي هريرة في مواضع منها (482) ، (714) ، (1228) ، (6051) ، (7250) ،
ومسلم (573) ، ولكن ليس في شيء من هذه الألفاظ أنه دخل بيته، وإنما ذلك في
حديث عمران المتقدم في مسلم.
وأما مسألة الموالاة فإنها ليست هي العلة
التي من أجلها أبطلت الصلاة، بدليل أن العمل اليسير لا يبطلها مع كونه
قاطعاً للموالاة، فإن العمل اليسير فعل يجانب الصلاة، ومع ذلك فإنه لا
يبطلها، وحيث لم يبطلها، فإن العمل الكثير لا يبطلها إن كان صاحبه ساهياً؛
لأنه فعل ما هو منافي للصلاة من غير تقصير ولا تعمد، وحينئذ [حيث] كان
كذلك، فإنه لا يعد فاعلاً شيئاً.
والحديث المتقدم ظاهر في ذلك فإنه عمل كثير ومع ذلك لم يعد الصلاة ولم
يستأنفها وقد عمل عملاً كثيراً منافياً الصلاة لكنه ساهياً.
إذن الراجح: أنه إذا عمل عملاً كثيراً في الصلاة ساهياً فلا تبطل صلاته.
قال: (ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها)
أي يباح للمصلي أن يقرأ من أواخر السور وأوساطها سواء كانت الصلاة فرضاً أو
نفلاً.
لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر في الأولى
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} وفي الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا
إلى كلمة سواء …} (1)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب (14) استحاب ركعتي سنة
الفجر.. / رقم 727. من حديث ابن عباس، وفي رواية أخرى له: أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما {قولوا آمنا
بالله وما أنزل إلينا} التي في البقرة،وفي الآخرة منهما {آمنا بالله واشهد
بأنا مسلمون} ".
قلت: وبدايتها: {فلما أحس عيسى منهم الكفر..} .
يقول بعض طلبة العلم: وأكثر الرواة على هذه الرواية الأخيرة، وأما الرواية
الأولى والتي فيها في الركعة الثاني {تعالوا إلى كلمة سواء..} فقد تفرد بها
خالد الأحمر عن بقية الرواة. والله أعلم.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اقرأ ما
تيسر معك من القرآن) (1) وأوساط السور وأواخرها مما تيسر.
وقد تقدم أن هذا مباح، لكن اتخاذه عادة وسنة خلاف الأولى، لأن في ذلك تركاً
للسنة، فكونه يقرأ من أواخر السور وأوساطها مداوماً على ذلك، ففي ذلك ترك
لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة السور بتمامها، ومما كان
ظاهراً وغالباً في صلاته – عليه الصلاة والسلام -.
فإذن: هو مباح لكن إذا داوم عليه فهو خلاف الأولى مع كونه مباحاً.
وقد تقدم حديث زيد بن ثابت وإنكاره على مروان لأنه يداوم على قصار السور في
المغرب.
قال: (وإذا نابه شيء سبح رجل وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى)
إذا عرض شيء في الصلاة كسهو إمام أو تنبيه أو نحو ذلك فيقول الرجل " سبحان
الله " وتصفق المرأة.
وصفة التصفيق ببطن كفها على ظهر الأخرى هذه هي الصورة المشروعة، ونحوها كأن
تضرب ببطن أصبعين من أحدهما على كف الأخرى.
أما ضرب بطن أحدهما بالأخرى فإنه تصفيق وهو من اللهو واللعب المحرم.
ومثل ذلك: ما قال: عيسى بن أيوب كما في سنن أبي داود وهو من رواة هذا
الحديث قال: (تضرب بأصبعين من اليمينى على كفها اليسرى) وفي رواية أبى
داود: (تصفيح) (2) .
والتصفيح: بأن يضرب بطن أحدهما بظهر الأخرى أو بأصبعين من أحدهما على كف
الأخرى.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (757) و (793) و (6252) ، ومسلم في كتاب الصلاة /
باب (11) وجوب قراءة الفاتحة / رقم (397) ، وقد تقدم.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب 173 التصفيق في الصلاة / رقم 942
عن عيسى بن أيوب قال: " قوله: " التصفيح للنساء " تضرب بأصبعين من يمينها
على كفها اليسرى ". وفيه أيضا (941) حديث سهل مرفوعاً: (إذا نابكم شيء في
الصلاة فليسبح الرجال وليصفح – كذا - النساء)
أما التصفيق المتقدم فهو من اللهو واللعب
في الصلاة وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التسبيح للرجال
والتصفيق للنساء) (1) وفي رواية: (في الصلاة) (2) وفي رواية: (إذا نابكم
أمر فليسبح الرجال ولتصفق النساء) (3) .
ولا يستحب له أن يعدل إلى غير التسبيح كالنحنحة قد روى النسائي وابن ماجه
عن علي قال: (كان لي من النبي صلى الله عليه وسلم مدخلان فكنت إذا أتيتبه
وهو يصلي تنحنح لي) (4) لكن الحديث إسناده ضعيف ففيه جهالة عين فلا يثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ويبصق في الصلاة عن يساره، وفي المسجد في ثوبه)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة / باب (5) التصفيق للنساء / رقم
(1203) من حديث أبي هريرة، و (1204) من حديث سهل بن سعد، ومسلم رقم (422)
كتاب الصلاة / باب (23) تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في
الصلاة.
(2) رواية (في الصلاة) عند مسلم برقم (422) كتاب الصلاة /باب (23) تسبيح
الرجل … من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام / باب (36) الإمام يأتي قوما فيصلح
بينهم / رقم (7190) عن سهل وفيه وقال – أي النبي - صلى الله عليه وسلم - -
للقوم: (إذا رابكم أمر فليسبح الرجال وليصفِّح النساء) . وفي رواية (684) :
(ما لي أراكم أكثرتم التصفيق، من رابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح
التُفت إليه، وإنما التصفيق للنساء) في كتاب الأذان باب (48) . ومسلم في
كتاب الصلاة / باب (22) تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم
يخافوا مفسدة بالتقديم / رقم (421) .
(4) أخرجه النسائي في كتاب السهو / باب (17) التنحنح في الصلاة / رقم
(1212) و (1211) ، قال الألباني: ضعيف الإسناد "، وابن ماجه في كتاب الأدب
/ باب (17) الاستئذان / رقم (3708) .
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم
في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن شماله
تحت قدمه) (1) متفق عليه.
فإن كان عن شماله مأموم فإنه يبصق تحت قدمه، لما ثبت في رواية للبخاري:
(فليبصق عن يساره أو تحت قدمه) (2) .
وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ طرف ثوبه فبصق فيه ثم رد
بعضه وقال: (أو يفعل هكذا) (3) ففي المسجد يبصق في ثوبه لأنه بقعة ظاهرة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البصاق (4) في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)
(5)
فإذن في المسجد يبصق في ثوبه، وأما في غير المسجد فإنه يبصق عن يساره أو
تحت قدمه.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الخامس والثمانون
(يوم السبت: 12 / 4 / 1415 هـ)
قال المؤلف رحمه الله: (ويسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرحل)
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جماهير العلماء وأن السترة في الصلاة
سنة وليست بواجبة.
وقد اتفق أهل العلم على مشروعية السترة، والسنة ظاهرة في ذلك وأن السترة
سنة في الصلاة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعها حضراً ولا سفراً.
وإنما اختلف العلماء في هل تجب أم لا؟
قولان:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (33) حك البزاق باليد من المسجد /
رقم (405) من حديث أنس، وباب (34، 35، 36، 37، 38، 39) من رقم (406) إلى
(417) بألفاظ مختلفة، ومسلم في كتاب المساجد / باب (13) النهي عن البصاق في
المسجد (547) إلى (551) بألفاظ مختلفة.
(2) البخاري الباب السابق رقم (416) بلفظ: " وليبصق.. ".
(3) صحيح البخاري الباب السابق.
(4) لعلها البزاق كما في الصحيحين، وقد ورد أيضاً " فلا يبصق " في
الصحيحين.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (37) كفارة البزاق في المسجد / رقم
(415) ، ومسلم في كتاب المساجد / باب (13) النهي عن البصاق في المسجد.. /
رقم (552) .
فذهب الجمهور: إلى أن الصلاة إلى السترة
سنة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (أقبلت راكباً على أتان
وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى
إلى غير جدار فمررت من بين يدي بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع فلم ينكر ذلك
علي أحد) (1)
وروى أحمد في مسنده عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى في
فضاء وليس بين يديه شيء) (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم / باب (18) متى يصح سماع الصغير / رقم
(76) ، وفي كتاب الأذان / باب (161) وضوء الصبيان / رقم (861) ، وفي أبواب
أخرى، ومسلم (504) .
(2) قال في مجمع الزوائد ج: 2 ص: 63: " رواه أحمد وأبو يعلى وفيه الحجاج بن
أرطاة وفيه ضعف ". ورواه في سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 273 (3294) حدثنا
أبو محمد عبد الله بن يوسف إملاء أنبأ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد
البصري بمكة ح وأخبرنا أبو علي الروذباري أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار قالا
ثنا سعدان بن نصر المخرمي ثنا أبو معاوية عن الحجاج بن أرطأة عن الحكم بن
عتبة عن يحيى بن الجزار عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء، وله شاهد بإسناد أصح من هذا
عن الفضل بن عباس وسيرد بعد هذا إن شاء الله تعالى "، وعزاه صاحب المنتقى
إلى أبي داود، والمنذري إلى النسائي، نيل الأوطار [3 / 5] ، ولم أجده فيهما
بهذا اللفظ، وإنما هو في أبي داود [1 / 459] كتاب الصلاة / باب (114) من
قال الكلب لا يقطع الصلاة / (718) عن الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية ومعه عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه
سترة، وحمارةٌ لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك " وأخرجه النسائي
بنحوه حديث 754..
وروى أحمد والنسائي وأبو داود عن الفضل بن
عباس قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وعباس في بادية لنا، فصلى في
صحراء وليس بين يديه سترة، وحمارة وكلبة لنا تعبث بين يديه) (1)
2 - وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب البخاري وطائفة من
أهل العلم: إلى وجوب السترة.
واستدلوا:
بما ثبت في أبي داود والنسائي ومسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها لا يقطع الشيطان
عليه صلاته) (2) وظاهر الأمر الوجوب.
__________
(1) رواه داود [1 / 459] في كتاب الصلاة / باب (114) من قال الكلب لا يقطع
الصلاة / (718) عن الفضل بن عباس قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ونحن في بادية ومعه عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارةٌ
لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك " وأخرجه النسائي بنحوه حديث
754..
(2) أخرجه النسائي في كتاب القبلة / باب (5) الأمر الدنو من السترة / رقم
(748) عن سهل بن أبي حَثْمَة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) ، وقال
الألباني: صحيح " وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (108) ما يؤمر
المصلي أن يدرأ عن الممر بين يديه / رقم (698) عن أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة،وليدن
منها " ثم ساق معناه. أي معنى الحديث السابق وهو: " إذا كان أحدكم يصلي فلا
يدع أحداً يمر … فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان "، وليس فيه: " لا يقطع
الشيطان عليه صلاته ".
وروى أحمد والحاكم - والحديث حسن – من حديث
سبرة بن معبد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليستتر أحدكم في
الصلاة ولو بسهم) (1)
قالوا: فهذه أحاديث ظاهرها الوجوب، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
في حديث صحيح أنه تركها حضراً ولا سفراً.
وأما ما ذكره أهل القول الأول:
فالحديث الأول حديث صحيح غير صريح، والحديثان بعده ضعيفان لا يثبتان عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
أما كون حديث ابن عباس حديث صحيح فلثبوته في الصحيحين.
أما كونه غير صريح؛ فلأنه نفى أن يكون قد صلى إلى جدار وإنما نفى أنه صلى
إلى جدار ولم ينف أنه صلى إلى سترة وظاهر لفظة " غير " أنه قد صلى إلى شيء،
فإن لفظة " غير" في الغالب أنها تأتي صفة وهي هنا صفة لمحذوف تقديره " شيء
" أي إلى شيء غير جدار.
فالحديث ليس فيه نفي السترة مطلقاً وإنما نفي أن يكون النبي صلى الله عليه
وسلم صلى إلى جدار يحجز بينه وبين الدواب أن تمر بين يديه.
__________
(1) قال في نصب الراية ج: 2 ص: 80: " وروى البخاري في تاريخه الكبير في
ترجمة سبرة بن معبد الجهني " وذكره بسنده.
وفي المستدرك على الصحيحين ج: 1 ص: 382 رقم (925) حدثنا أبو العباس محمد بن
يعقوب ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثنا حرملة بن عبد العزيز بن
الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " ليستر أحدكم صلاته ولو بسهم "، وبلفظ (926) : " استتروا بصلاتكم
ولو بسهم، على شرط مسلم "، وفي مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 24، رقم (2862) ،
السنن الصغرى للبيهقي ج: 1 ص: 531 رقم (952) وفي سنن البيهقي الكبرى ج: 2
ص: 270 رقم (3276) صحيح ابن خزيمة ج: 2 ص: 13، باب (284) / رقم (810) ،
ورقم (841) . الاسطوانة.
ومعلوم أن المصلي إذا صلى إلى سترة غير
جدار فإن الدواب قد تمر بين يديه فيحتاج إلى دفع منه، بخلاف ما إذا صلى إلى
جدار فإنه يحجز بينه وبينها فلا يحتاج إلى دفع وقد مر ابن عباس بالحمار بين
يدي بعض الصف لعدم وجود الحاجز والجدار، فلم تكن الصلاة في مبنى ذي جدران
يحجز المصلين عن مرور الدواب.
وأما الحديث الثاني فإن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وأما الحديث الثالث
ففيه انقطاع وجهالة.
قالوا: فهذه أحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا حديث
صحيح غير صريح، فلا يعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك فيبقى
الأمر محكماً وأن ذلك للوجوب.
ومما يقوي ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف عن أن يمر بين يدي
المصلي ونهاه عن ذلك وقال: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان
أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) (1) وترك السترة بين يديه ذريعة
لمرور الناس بين يديه فيقعون في محرم، ويقطعون من صلاته ما يقطعون.
وقد قال ابن مسعود – في المرور بين يدي المصلي -: " يقطع نصف الصلاة " (2)
فإذا مر أحدهم بين يديه فإنه مع تفريطه في ذلك يذهب عنه نصف أجر صلاته.
قال: (كمؤخرة الرحل)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب (101) إثم المار بين يدي المصلي /
رقم (510) ، ومسلم (507) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 252 باب 61 في الرجل يمر بين يدي الرجل يرده
أم لا رقم 2908 حدثنا أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد قال نا أبو بكر عبد الله
بن محمد بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن إسحاق عن عبد
الرحمن بن الأسود عن أبيه قال كان ابن مسعود إذا مر أحد بين يديه وهو يصلي
التزمه حتى يرده ويقول: إنه ليقطع نصف صلاة المرء مرور المرء بين يديه ".
قال في فتح الباري ج: 1 ص: 584: " وقد روى بن أبي شيبة عن بن مسعود إن
المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته " الاسطوانة.
ظاهره أن هذا هو القدر المجزئ وأنه مثل
مؤخرة الرحل وهي ما يتكئ عليه راكب الإبل، فإنه يتكئ على خشبة نحو الذراع،
فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سُئل في غزوة تبوك عن سترة
المصلي فقال: مثل مؤخرة الرحل) (1)
وفي مسلم – أيضا – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة
والحمار – والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) (2) وظاهره هذه الأحاديث أن
المجزئ – مع القدرة ذلك – أي طولاً.
واختلف العلماء في قدر المؤخرة:
فعن الإمام أحمد: أنه ذراع، وهو مذهب الأحناف وهو قول عطاء، قال عطاء – في
سنن أبي داود - في مؤخرة الرحل قال: (ذراع فما فوق) (3) .
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية والمالكية: أنه قدر عظم الذراع أي
بإخراج الكف من اليد.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (47) سترة المصلي / رقم (499) عن
عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل في غزوة تبوك عن سترة
المصلي؟ فقال: (كَمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (50) قدر ما يستر المصلي / رقم (510)
عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي
فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرةِ الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل
آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) ، ورقم (511) عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقطع الصلاة المرأة
والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مُؤْخِرَةِ الرحل) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (102) ما يستر المصلي / رقم (686)
عن عطاء قال: " آخرة الرحل ذراع فما فوقه ".
والأظهر – كما قرر ذلك الموفق – أن هذا
إنما هو على سبيل التقريب لا على سبيل التحديد، وأن قول النبي صلى الله
عليه وسلم: (كمؤخر الرحل) سواء كان ذلك ذراعاً فما فوق [أو] فما دونه بقليل
لا حرج في ذلك وأنه ذكر على سبيل التقريب لا على سبيل التحديد.
بدليل الاختلاف في مؤخرة الرحل – طولاً – في الحقيقة والواقع فإنها ليست
بقدر واحد بل هي مختلفة فيها الذراع وفيها ما هو فوق ومنها ما هو دون.
فعلى ذلك: القدر المجزئ في الطول أن تكون كمؤخرة الرحل ذراعاً فما فوق أو
عظم الذراع فما فوق.
وأما من حيث غلظها، فإن الحديث الذي في المستدرك ومسند أحمد – يدل على أنه
لا يشترط لها حجماً محدداً في الغلظ بل لو كانت كسهم أو نحوه فلا بأس – في
قوله: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) (1) .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت في الصحيحين -: (كان إذا خرج يوم
العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك
في السفر ومن ثم اتخذها الأمراء) (2) والحربة أدق من مؤخرة الرحل. وثبت أنه
كان يصلي إلى العنزة كما ثبت في البخاري (3) وغيره.
فعلى ذلك: كل ذلك جائز ولا يشترط أن يكون محدداً في العرض – بل لو كان ذلك
دقيقاً فلا حرج.
وهذا حيث كان قادراً، وإلا فلو كانت دون ذلك وهي التي قد قدر عليها فإنه لا
بأس بذلك ولا حرج.
قال: (فإن لم يجد شاخصاً فإلى خط)
__________
(1) تقدم قريباًَ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (90) سترة الإمام سترة من خلفه /
رقم (494) ، وانظر (972) ، ومسلم (501) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب العيدين / باب (14) حمل العنزة أو الحربة بين
يدي الإمام يوم العيد / رقم (973) عن ابن عمر قال: " كان النبي - صلى الله
عليه وسلم - يغدو إلى المصلى والعنَزَة بين يديه تُحمل وتنصب بالمصلى بين
يديه، فيصلي إليها ".
أي إن لم يجد شاخصاً يضعه بين يديه من خشب
أو حجر أو شجر أو سارية أو نحو ذلك، ومثله لو صلى وبينه وبين القبلة آدمي،
فقد ثبت في ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن ابن عمر يقولون لنافع إن لم يجد
سترة: (ولني ظهرك) (1) وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة (2) –
كما ثبت في الصحيحين –، وكان الصحابة يتبادرون سواري المسجد فيصلون إليها
(3) كما في البخاري.
وثبت في النسائي أنه صلى إلى شجرة (4) .
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 250 رقم (2878) حدثنا أبو بكر قال نا وكيع
عن هشام بن الغاز عن نافع قال كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلي سارية من
سواري المسجد قال لي ولني ظهرك " الاسطوانة.
قال في نصب الراية ج: 2 ص: 96: " وأما ما روى من النهي خلف النائم والمتحدث
فأخرجه أبو داود وابن ماجة عن بن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا
تصلوا خلف النائم ولا المتحدث انتهى في سند أبي داود رجل مجهول وفي سند بن
ماجة أبو المقدام هشام بن زياد البصري لا يحتج بحديثه وقال الخطابي هذا
الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وبسط القول فيه ".
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (103) الصلاة خلف النائم / رقم
(512) وانظر (513) .
(3) صحيح البخاري ج: 1 ص: 225
14 باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة رقم (599) . وانظر
البخاري رقم (504) .
(4) السنن الكبرى ج: 1 ص: 270 (823) أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا محمد
قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي قال: لقد رأيتنا ليلة
بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان
يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح " الاسطوانة. قال الحافظ في فتح الباري ج: 1
ص: 580 " رواه النسائي بإسناد حسن ". ولم أجده في سنن النسائي " المجتبى "،
وقد تقدم صْ 159.
فالمقصود: أنه يصلي إلى شاخص مثل مؤخرة
الرحل فما فوق ولا ينظر إلى كونه دقيقاً أو غليظ فإن تحديد ذلك ليس بشرط في
الإجزاء بل هو ليس شرطاً في ثبوت السنية والاستحباب؛ لثبوت ذلك كله عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فإلى خط) :
دليله: ما رواه أحمد وأبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى
أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد فليخط
خطاً ثم لا يضره ما مَّر بين يديه) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف مضطرب، ففيه
جهالة، مع الاضطراب الوارد في سنده وهو من حديث أبي محمد محمد بن عمرو بن
حُريث (2) عن جده، على أثبت الأسانيد في ذلك وهما مجهولان.
ولذا ضعفه ابن عيينة والبخاري وغيرهم، فالحديث ضعيف.
وكرهه الشافعي في قوله الجديد، وكذلك الأحناف والمالكية، وكرهه – كذلك –
الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه – وهو الراجح؛ لأن الحديث الوارد في
الخط ضعيف لا يثبت.
فعلى ذلك: لا يشرع له أن يخط خطاً فأن لم يجد شيئاً شاخصاً فإنه يصلي حسب
حاله، ويكون قد سقط عنه وجوب ذلك أو سنيته على القول بها.
والمشهور عن الإمام أحمد: أن الخط يقوس كالهلال.
وقيل: أنه يوضع طولاً.
وقيل: عرضاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (103) الخط إذا لم يجد عصا / رقم
(689) قال: " حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا إسماعيل بن أمية،
حدثني أبو عمرو بن محمد بن حريث، أنه سمع جده حريثا يحدث عن أبي هريرة أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه
شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن مع عصا فليخططْ خطاً لا يضره ما
مر أمامه) .
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أبي محمد بن عمرو بن حريث، قال في التقريب:
" أبو عمرو بن محمد بن حُريث، أو ابن محمد بن عمرو بن حريث، وقيل: أبو محمد
بن عمرو بن حريث، مجهول من السادسة. / د ق ".
ولا دليل على شيء من ذلك فالخط مطلق، وإن
كان أقربها أن يكون عرضاً؛ لأنه ظاهر الإطلاق، لكن الحديث ضعيف كما تقدم.
وفي قوله: (فليجعل تلقاء وجهه) :
ظاهره أن السترة تكون بين يديه وهو ظاهر الأحاديث، كما تقدم في المتفق عليه
من حديث ابن عمر وفيه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالحربة
فتوضع بين يديه " ظاهر ذلك أنها تكون قبلته وتلقاء وجهه.
- لكن المشهور في المذهب أنه لا يستحب أن يصمد إليها صمداً أي لا يتوجه
إليها توجهاً تاماً بل يجعلها إلى حاجبه الأيمن أو الأيسر.
لما روى أحمد وابن ماجه (1) من حديث المقداد بن الأسود: أن النبي صلى الله
عليه وسلم: (ما صلى إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله تلقاء حاجبه الأيسر
أو الأيمن ولا يصمد له صمداً) (2)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أبو داود [1 / 445] رقم (693) .
(2) سنن أبي داود ج: 1 ص: 184
106 باب إذا صلى إلى سارية أو نحوها أين يجعلها منه 693 حدثنا محمود بن
خالد الدمشقي ثنا علي بن عياش ثنا أبو عبيدة الوليد بن كامل عن المهلب بن
حجر البهراني عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها قال ثم ما رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على
حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا ".
الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج: 1 ص: 181
أخرجه أبو داود وأحمد والطبراني وابن عدي في ترجمة الوليد بن كامل عن
المهلب ابن حجر عنها وأخرجه ابن الموطأ من وجه آخر عن الوليد فقال عن ضبيعة
بنت المقدام بن معد يكرب عن أبيها والإضطراب فيه من الوليد وهو مجهول "
نصب الراية ج: 2 ص: 83
ورواه أحمد في مسنده والطبراني في معجمه وابن عدي في الكامل وأعله بالوليد
بن كامل ونقل عن البخاري أنه قال عنده عجائب وأما بن القطان فإنه ذكر فيه
علتين علة في إسناده وعلة في متنه أما التي في إسناده فقال إن فيه ثلاثة
مجاهيل فضباعة مجهولة الحال ولا أعلم أحدا ذكرها وكذلك المهلب بن حجر مجهول
الحال والوليد بن كامل من الشيوخ الذين لم يثبت عدالتهم وليس له من الرواية
كثير شيء يستدل به على حاله وأما التي في متنه فهي أن أبا علي بن الموطأ
رواه في سننه هكذا حدثنا سعيد بن عبد العزيز فلهذا ثنا أبو تقي هشام بن عبد
الملك ثنا بقية عن الوليد بن كامل ثنا المهلب بن حجر البهراني عن ضبيعة بنت
المقدام بن معدي كرب عن أبيها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
صلى أحدكم إلى عمود أو سارية أو شيء فلا يجعله نصب عينيه وليجعله على حاجبه
الأيسر انتهى قال بن الموطأ أخرج هذا الحديث أبو داود عن رواية علي بن عياش
عن الوليد بن إسناده ومتنه فإنه عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها
وهذا الذي روى بقية هو عن ضبيعة بنت المقدام بن معدي كرب عن أبيها وذاك فعل
وهذا قول قال بن القطان فمع اختلافهما في المتن بقية يقول ضبيعة بنت
المقدام وابن عياش يقول ضباعة بنت المقداد فالوهن من حيث هو اختلاف على
الوليد بن كامل ومورث للشك فيما كان عنده من ذلك على ضعف الوليد بن كامل
وأنه يروى عن ضباعة بنت المقداد وأما ضبيعة بنت المقدام فجاء هو بأمر ثالث
وذلك كله دليل على الاضطراب والجهل بحال الرواة انتهى "
لكن الحديث ضعيف فيه: الوليد بن كامل
البجلي الشامي وهو ضعيف فلا يستدل به.
ونبقى على ظواهر الأحاديث المتقدمة، وأنه يجعل السترة إلى تلقاء وجهه دون
ما تقدم.
* واعلم أن ظاهر الأحاديث أن السترة مشروعة في مكة وغيرها من غير استثناء
لمكة بل هي كغيرها في مشروعية السترة ورد لمار بين يدي المصلي وغير ذلك
لعمومات النصوص الشرعية الواردة في ذلك.
ومعلوم أن ترك البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان الاستثناء وارداً لصح
في ذلك حديث، ولم يثبت عنه في ذلك شيء.
والمشهور في المذهب خلاف ذلك وأنه لا بأس بترك السترة في مكة، وكذلك رد
المار لا يكون فيها لازدحام الناس فيها.
ومذهب الشافعية والمالكية خلاف ذلك وأن مكة كغيرها، وهو الراجح لظاهر
الأحاديث.
وأما كون مكة تكون محلاً للازدحام فإننا نخصص الأوقات التي يزدحم الناس
فيها بحيث يشق رد المار كأن يكون ذلك في حج أو في مواسم، ففي هذه الحال لا
بأس بالقطع لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذه مشقة عامة، بخلاف
المشقة الخاصة التي يلحق الواقف نفسه فيها مشقة خاصة لا يترتب عليها إلا
فوات بعض المصالح المترتبة عليه أو نحو ذلك، أما هنا فقد ترتب عليها مفاسد
كبيرة وأذية لعموم الناس.
فحينئذ لا يقال بالمنع فيها عند ازدحام الناس.
وأما إن لم يكن هناك ازدحام شديد وكانت مكة كغيرها من المساجد في الازدحام
فإنه يجب وضع السترة ورد المار بين يدي المصلي.
قال: (وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط)
البهيم هو الذي لا يخالطه غير لونه الظاهر فالأسود البهيم هو الذي ليس فيه
إلا السواد، وهذا في كل الألوان فالبهيم هو ما كان لوناً لا يخالط بغيره.
فالكلب الأسود البهيم، ومثله – على الراجح – ذي النقطتين وهو ما يكون بين
عينه نقطتان فهو شيطان كما ثبت في الحديث وأمر بقتله، فهذه كلها قاطعة
للصلاة.
ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم من حديث أبي
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار
والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) (1) وفي مسلم من حديث أبي ذر الغفارى
قال: (والكلب الأسود شيطان) (2) وفيه أنه قد قيد الكلب بالأسود.
وهذا الحديث المتقدم ظاهره أن هذه الثلاث تقطع الصلاة وهو رواية عن الإمام
أحمد " الرواية الأخرى " وهو اختيار المجد وشيخ الإسلام وتلميذه، وقال ابن
تيمية: " وهو مذهب أحمد " (3) أي هو المذهب الذي ينبغي أن يثبت إليه ففيه
قولان في المذهب:
القول الأول: أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم.
القول الثاني: أن الثلاث كلها قاطعة للصلاة لعموم الحديث المتقدم وهو
الأرجح.
وإنما استثنى - من القول بقطع الصلاة - الحنابلة الحمار والمرأة؛ لأن
الحمار قد تقدم في حديث ابن عباس أنه مر بين يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك.
فدل على أن مروره بين يدي المصلي لا يقطع حيث لم ينكر ذلك.
وأما كون المرأة لا تقطع الصلاة: فلما ثبت في الصحيحين عن عائشة: (أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وهي معترضة بين يديه اعتراض الجنازة)
(4) .
وحيث ثبت ذلك فلا يبقى إلا الكلب الأسود البهيم فهو قاطع للصلاة دون غيره.
والراجح ما تقدم: واستدلوا بالعموم المتقدم.
وأجابوا عن الحديثين:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب (50) قدر ما يستر المصلي / رقم (510)
عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي
فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرةِ الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل
آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود) ، ورقم (511) عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقطع الصلاة المرأة
والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مُؤْخِرَةِ الرحل) . وقد تقدم.
(2) الباب السابق.
(4) تقدم.
أما حديث ابن عباس: فإنه قد مر بين يدي بعض
المأمومين من الصف والإمام كان بين يديه سترة – كما تقدم ترجيحه – وحيث كان
ذلك فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه، فمرور شيء من قاطعات الصلاة بين يدي
المأمومين - وهم يأتمون بالإمام، والإمام له سترة - هذا لا يقطع صلاة
المأموم.
فسترة الإمام سترة لمن خلفه، فإذا مر بين يديه شيء فكأنه قد مر من وراء
السترة لأنه غير مبطل لصلاة الإمام فلم يكن مبطلاً لصلاة المأموم.
واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يأخذ
الحربة فيضعها بين يديه ويصلي وراءه الناس) (1) وليس فيه أن الناس كانوا
يتخذون السترة، وإنما كانوا يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيصلون وراءه
وقد اتخذ سترة ولا سترة لأحد منهم، فدل على أن سترة الإمام سترة لهم، وهو
مذهب عامة أهل العلم.
وبوب البخاري باباً بهذا اللفظ: (وأن سترة الإمام سترة لمن خلفه) وفيه حديث
عند الطبراني في الأوسط (2) فيه سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف، ورواه عبد
الرزاق في مصنفه عن ابن عمر (3) بهذا اللفظ وإسناده ضعيف أيضاً.
وعامة أهل العلم عليه؛ للحديث المتفق عليه المتقدم.
فعليه: هذا الحديث الذي رواه ابن عباس: إنما لم تبطل صلاة البعض من
المأمومين حيث مر الأتان بين أيديهم لكونهم مؤتمين بإمام والإمام له سترة
وسترة الإمام سترة لمن خلفه.
__________
(1) تقدم.
(2) مجمع الزوائد ج: 2 ص: 62
باب سترة الإمام سترة من خلفه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال سترة الإمام سترة من خلفه رواه الطبراني في الأوسط وفيه سويد بن عبد
العزيز وهو ضعيف " وقال في موضع آخر: " مجمع على ضعفه ".
(3) مصنف عبد الرزاق ج: 2 ص: 18
2317 عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال سترة الإمام
سترة من ورائه قال عبد الرزاق وبه آخذ وهو الأمر الذي عليه الناس
وأما اعتراض عائشة بين يدي النبي صلى الله
عليه وسلم اعتراض الجنازة فإنها ماكثة والكلام في المار.
والفرق بينهما واضح: فإن المرور هو التجاوز بين المصلي وبين سترته.
وأما الماكث فهو باقي أمامه قبلة له كالشيء الذي يستتر به وقد تقدم قول ابن
عمر (ولني ظهرك) (1) .
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد المار بين يديه من بهيمة ونحو
ذلك، ولو كانت ثابتة مستقرة لما فعل ذلك؛ لما ثبت أنه قد صلى إلى راحلته
ولو كانت مارة غير ماكثة لدفعها النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن المستحب في السترة أن تكون عن المصلي ثلاثة أذرع فيما بين قدمه
والسترة.
أو بينها وبين مواضع سجوده ممر شاة كل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم.
فقد ثبت في البخاري عن ابن عمر: (أن بلالاً أخبره أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما دخل البيت كان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع) (2) وفي الصحيحين من
حديث سهل بن سعد: (كان بين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم والجدار ممر شاة)
(3) أي بين موضع سجوده وبين الجدار المستتر به ممر شاة.
فعلى ذلك: السترة يدنو منها المصلي فتكون منه على قدر ثلاثة أذرع أو بين
السترة وبين موضع سجوده ممر شاة.
فإن لم يكن بين يديه سترة فإنه لا يجوز المرور بين يديه ويجب عليه أن يدفع
المار بين يديه كما تقدم.
وموضع ذلك حيث كان يمكنه دفعه بحيث أنه يمكنه أن يمد يده إليه أو يتقدم
يسيراً فيدفعه، فمثل هذا الموضع لا يجوز المرور، وإذا مر بينه وبين ذلك شيء
مما تقدم فإنه يبطل الصلاة أو ينقصها.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة / باب (97) / رقم (506) ، وفي باب (51)
الصلاة في الكعبة / رقم (1522) وفي نسخة رقم (1599) من كتاب الحج، وأخرجه
مسلم (1329) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة /باب (19) قدر كم ينبغي أن يكون بين
المصلي والسترة / رقم (496) .
فالقدر حيث لم يضع سترة بحيث أنه يمكنه من
غير إخلال بالصلاة أن يتقدم تقدماً يسيراً فيدفع، هذا تقريباً ثلاثة أذرع.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أن ذلك يحدد بقدر رمي حجر، وهذا ضعيف.
والراجح ما تقدم من أنه ثلاثة أذرع ونحوها.
* والمشهور عند جمهور أهل العلم أن الصلاة لا تنقطع بشيء مما تقدم ذكره.
واستدلوا بما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع
الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم) (1) لكن الحديث فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف
فلا يعارض به ما تقدم من الأحاديث الصحيحة.
فعلى ذلك: الراجح: أن الحمار والكلب الأسود والمرأة الحائض مرورهم يقطع
الصلاة.
وقد ورد في أبي داود والنسائي بإسناد صحيح: تقييد المرأة الحائض (2) ،
وإنما يراد بالحائض البالغة.
فإن لم تكن حائضاً فإنها تنهى عن المرور وتدفع لكنها لا تقطع الصلاة.
قال: (وله التعوذ عند آية وعيد والسؤال عن آية رحمة ولو في فرض)
لما روى مسلم من حديث حذيفة – في قصة قيامه الليل: (أن النبي صلى الله عليه
وسلم: كان إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ
تعوذ) (3)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (115) من قال لا يقطع الصلاة شيء /
رقم (719) بلفظ: " لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم فإنما هو شيطان
".
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (110) ما يقطع الصلاة / رقم (703)
، والنسائي حديث 752. سنن أبي داود [1 / 452] .
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين.. / باب (27) استحباب تطويل القراءة
في صلاة الليل / رقم (772) عن حذيفة قال: " صليت مع النبي - صلى الله عليه
وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المئة … إذا مر بآية فيها
تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع.. ".
وقوله: (ولو فرض) قياساً على النفل، فإن
الحديث ثابت في النفل وما ثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً إلا بدليل يخصص ذلك.
وكره ذلك الأحناف والمالكية وقالوا: إنما هو خاص في النفل دون الفرض، فلا
يستحب له في الفرض.
وهذا قوي في الغالب، فإن الغالب في فعل ذلك أن فيه إشقاقا (1) ً على
المأمومين، فوقوف الإمام عند الرحمة يسألا والعذاب يستعيذ منه هذا يكون فيه
إطالة على المأمومين فيكون فيه مشقة، والمشروع في الصلاة الجماعية أن
يخففها الإمام بحيث لا يشق على المأمومين.
لذا لم يُنقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان مثل ذلك ثابت في
الفرض لنقل لنا ذلك نقلاً بيناً.
وأما المأموم فإن في فعل ذلك انشغالاً عن الإمام في متابعة قراءته، وقد قال
تعالى: {فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} (2) فكان الأولى عدم فعله في
الفرض كما تقدم، لكن لو تبين أنه ليس في فعله مشقة على المأمومين، كأن يكون
المأمومون محصورين بعدد يعلم أن لا يشق عليهم فإنه لا معنى لكراهية ذلك؛
لأن الأصل أن ما ثبت في الفرض فهو ثابت في النفل.
وحينئذ: فيشرع للمأموم ذلك.
فإذن: الأصل أو الغالب أن في فعله مشقة على المأمومين، وفعله للمأموم يشغله
عن متابعة قراءة الإمام أو عن تمامها، فإن فعلها الإمام حيث لا مشقة فلا
ينبغي القول بكراهيتها.
وحينئذ يفعلها المأموم ما دام الإمام يسكت لها، فسكوت الإمام لها وفعل
المأموم لها أثناء السكوت لا يشغله عن متابعة قراءته.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السادس والثمانون
(يوم الأحد: 13 / 4 / 1415هـ)
فصل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأركانها)
أي أركان الصلاة.
والأركان: جمع ركن وهو جانب الشيء الأقوى وقد تقدم الفارق بينه وبين الشرط.
أن الشرط هو الفرض المرتبط بالصلاة من غير ماهيتها وغير حقيقتها.
وأما الركن فهو المرتبط بها وهو من حقيقتها وذاتها.
__________
(1) أي مشقة.
فالنية من شروط الصلاة وهي قضية خارجة عن
حقيقة الصلاة، وأما الركن فهو من حقيقتها وذاتها كالركوع والسجود ونحو ذلك.
والركن هو الفرض في تعبير بعض فقهاء الحنابلة وهذا على التفريق بين الفرض
والواجب كما هو مذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد.
والركن لا يسقط سهواً ولا عمداً، بخلاف الواجب فإنه يسقط سهواً ويجبر
بالسجود، فأركان الصلاة لا تسقط سهواً ولا عمداً وسيأتي بيان ذلك في سجود
السهو.
قال: (القيام)
هذا هو الركن الأول من أركان الصلاة وهو القيام مع القدرة، فهو فرض في
الفريضة بإجماع العلماء لقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (1) وقوله صلى
الله عليه وسلم في البخاري من حديث عمران بن حصين: (صل قائماً فإن لم تستطع
فقاعداً فإن لم تسطع فعلى جنب) (2) .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به المسيء صلاته وكان النبي صلى الله
عليه وسلم يفعله، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (3) .
وهو فرض بالإجماع مع القدرة لا مع العجز فإن العجز يسقط الواجبات.
وهو فرض في الفريضة دون النافلة، وقد تقدم جواز صلاة النافلة على الراحلة،
فالقعود جائز هناك لكونها نافلة.
وقد اختلف أهل العلم في حقيقة القيام:
1- فقال الحنابلة: حقيقته: ما لم يصلِّ راكعاً، فإذا لم يثبت ركوعه فهو
قائم قياماً مجزئـ[ـاً] .
فعليه: لو انحنى بحيث لا تصل راحتاه إلى ركبته وإن كان قريباً إلى ذلك فإن
القيام يجزئ عنه.
2- وقال الشافعية: هو الانتصاب أي انتصاب فقار الظهر فإذا كانت منتصبة وإن
كان هناك انحناء يسير كأن يكون قد طأطأ رأسه وكأن [يكون] في ظهره انحناء
يسير فإن هذا مجزئ.
__________
(1) سورة البقرة.
(2) أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة / باب (19) إذا لم يطق قاعداًَ صلى
على جنب / رقم (1117) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب (18) الأذان للمسافر إذا كانوا
جماعة.. (631)
وما ذكروه هو الأظهر: وهو أن يكون قائماً
في العرف وهو أن يكون منتصب الظهر، والانحناء اليسير معفو عنه لأن حقيقة
القيام ثابتة له عرفاً.
وعلى هذا: فلو انحنى انحناء يقرب من الركوع فإن هذا ليس بقيام مجزئ، فلا
يجزئه.
والواجب والفرض عليه هو قيام مثله، فإن كان في ظهره شيء من الحُدبة أو كان
في سجن قصير سقفه، فالواجب عليه أن يقوم بقدر استطاعته وإن كان فيه انحناء
لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1) فهذا هو قيام مثله.
* وهل يجزئه أن يكون قائماً مستنداً إلى شيء أم لا؟
لها حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون على هيئة المتعلق بحيث تكون القدمان لا عمل لهما في
القيام مطلقاً، بحيث لو أزيلت قدماه لم يقع، فمثل هذا ليس بقيام على
الإطلاق ولا يجزئ بلا خلاف بين أهل العلم فلا خلاف فيه.
الحالة الثانية: أن يستند إلى جدار أو عصا أو نحوه، وكان بحيث لو أزيل هذا
الجدار أو العصا لاختل قيامه فسقط، ففيه قولان لأهل العلم:
1- القول الأول، وهو قول جمهور أهل العلم: أن الصلاة تبطل.
وعليه: لو كان الرجل قادراً على القيام فانتصب مستنداً إلى عصا أو جدار،
فلا يجزئ عنه في مذهب جمهور أهل العلم، وعليه فالصلاة باطلة؛ لأنه ترك
القيام مع القدرة عليه.
2- القول الثاني، وهو وجه للشافعية اختاره النووي وغيره قالوا: القيام مجزئ
عنه؛ لأنه قائم قد فعل القيام، وكونه مستنداً إلى شيء لا يؤثر هذا الحكم؛
لأن القيام قد ثبت، فسواء كان قائماً بنفسه أو قائماً بغيره فقد ثبت القيام
وهذا هو الواجب عليه.
وهذا القول هو الأرجح، لأن هذا القيام صحيح، ولا ننظر بعد ذلك هل هو قام
بنفسه من غير اعتماد على غيره أو كان بالاعتماد على الغير. فهو قيام صحيح
فحقيقة القيام موجودة فيها.
واعلم أن العاجز عن القيام إن كان يمكنه أن يقوم على هذه الصورة فيجب عليه
فعل ذلك.
وهو المشهور في مذهب الحنابلة وأصح الوجهين
في مذهب الشافعية.
أي لا يستطيع القيام بنفسه لكن يستطيع القيام (1) على عصا ونحوه فيجب عليه
ذلك؛ لأنه قادر على القيام وقد اتقى الله ما استطاع، ولو لم يفعل بطلت
صلاته فلا يصح فيه القعود، لأن هذا قيام صحيح، وحيث كان قياماً صحيحاً فيجب
عليه فعله وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيجب أن يعتمد على عصا أو
نحوه.
- وهناك وجه للشافعية يقدم وجوب ذلك وفرضيته عليه. وهذا يبنى على المسألة
السابقة.
فحيث قلنا: إنه ليس بقيام مجزئ فلا يجب عليه؛ لأنه في الحقيقة ليس بقائم
وهو حيث جلس فقد اتقى الله ما استطاع، ولا فائدة من اعتماده على شيء؛ لأنه
لا يعد قائماً.
والراجح ما تقدم في المسألتين كلتيهما.
قال: (والتحريمة)
هي ركن من أركان الصلاة وقد تقدم الكلام عليها في صفة الصلاة.
قال: (والفاتحة)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) (2) وقد تقدم
الكلام عليها في صفة الصلاة.
قال: (والركوع)
وهو ركن، لقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} (3) ولقوله صلى الله عليه وسلم –
في حديث المسيء صلاته -: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) (4) .
وقد تقدم ذكر صفته المستحبة.
وأما القدر المجزئ فيه فهو – عند جمهور أهل العلم – هو: أن ينحني بحيث تمس
راحتاه ركبتيه فإذا مست الراحتان الركبتين فهذا هو القدر المجزئ منه.
__________
(1) في الأصل: بالقيام.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (95) وجوب القراءة للإمام والمأموم
(756) بلفظ: " عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وأخرجه مسلم (394) . وقد تقدم.
(3) سور الحج 77.
(4) تقدم.
وهذا حيث كان منتصباً في رجليه غير حان أو
مقدم لركبتيه، أما إذا قدم ركبتيه فلا، لأنه إذا مس بالراحتين حيث قَدَّم
الركبتين فهذا المس لم يحصل بسبب الانحناء وهو الركوع، وإنما حصل بسبب
تقديم الركبتين.
فعليه: تنصب الرجلان وتكون الركبتان في موضعهما الطبيعي غير مقدمتين،
فينحني حتى تمس الراحتان الركبتين – هذا هو القدر المجزئ عند جماهير أهل
العلم؛ لأن هذا هو حقيقة الركوع، فإن حقيقة الركوع هو الانحناء.
وليتميَّز عن القيام فإنا نحتاج إلى أن يكون ذلك على هذه الصورة المتقدمة.
وما ذكروه من الاستدلال في الحقيقة، غير واضح وينبغي الاستدلال بما ثبت في
حديث المسيء صلاته في أبي داود وغيره – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(أمره أن يضع يديه على ركبتيه) وفي رواية لابن حبان وابن خزيمة: (فضع
راحتيك على ركبتيك) (1) .
__________
(1) سنن أبي داود ج: 1 ص: 227 رقم (859) عن رفاعة بن رافع بهذه القصة قال:
(إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ
وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك …) .
صحيح ابن حبان ج: 5 ص: 206 رقم (1887) : عن ابن عمر قال جاء رجل من الأنصار
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن قال اجلس
وجاء رجل من ثقيف فقال يا رسول الله كلمات أسأل عنهن فقال صلى الله عليه
وسلم سبقك الأنصاري فقال الأنصاري إنه رجل غريب وإن للغريب حقا فابدأ به
فأقبل على الثقفي فقال إن شئت أجبتك عما كنت تسأل وإن شئت سألتني وأخبرك
فقال يا رسول الله بل أجبني عما كنت أسألك قال جئت تسألني عن الركوع
والسجود والصلاة والصوم فقال لا والذي بعثك بالحق ما أخطأت مما كان في نفسي
شيئا قال فإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك ثم فرج بين أصابعك … ".
وحيث قلنا: إن الفعل واقفاً – ليس بواجب –
كما هو مذهب الجمهور وهو أن وضع الراحتين على الركبتين ليس بواجب وإنما
الواجب هو الانحناء. فحيث قلنا بذلك فإنه لابد وأن يكون متمكناً من وضع
الراحتين على الركبتين ولا يكون ذلك إلا بالانحناء المتقدم الذي ذكره
الجمهور لكنهم لا يوجبون وضع الراحتين على الركبتين.
وحديث المسيء صلاته يوجب ذلك وبفرضه وإلا فحقيقة الركوع في اللغة مجرد
الانحناء، فالانحناء في الحقيقة ركوع وإن لم يصل الراحتان إلى الركبتين،
لكن حديث المسيء صلاته يدل على فرضية وضع الراحتين على الركبتين أو على قول
الجمهور يدل على أنه لابد أن يتمكن من وضع الراحتين على الركبتين.
فعلى ذلك: حقيقة الركوع أن ينحني انحناء بحيث إذا مد يديه والمراد بذلك حيث
كانت اليدان ليس فيهما طول أو قصر بل هما معتدلان في الخلقة، فمدهما فوضع
الراحتين على الركبتين فهذا هو المجزئ.
قال: (والاعتدال عنه)
لقوله صلى الله عليه وسلم: - في حديث المسيء صلاته -: (ثم ارفع حتى تعتدل
قائماً) (1) .
وما قلناه في القيام قبل الركوع يقال في القيام بعد الركوع وأن الفرض فيه
أن ينتصب قائماً بحيث تكون فقار ظهره منتصبة.
قال: (والسجود على الأعضاء السبعة)
تقدم الكلام عليه، وفيه حديث ابن عباس، وهو مذهب الحنابلة من فرضية السجود
على الأعضاء السبعة.
قال: (والاعتدال عنه)
لقوله في حديث المسيء صلاته: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (2)
قال: (والجلسة بين السجدتين)
لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم اجلس حتى تطمئن جالساً) (3) ولم أر لفقهاء
الحنابلة ذكر [اً] للقدر المجزئ في الجلوس كما ذكروا القدر المجزئ في
القيام ونحوه.
ورأيت عند فقهاء الشافعية: أن الواجب هو مطلق الجلوس.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من رد فقال: عليك السلام (6251)
، وأخرجه مسلم (397) .
(2) تقدم قريباً.
(3) تقدم قريباً.
فإذا تورك أو افترش أو مد رجليه أو نصب أحد
رجليه أو نحوه فإنه يجزئ عنه في المواضع كلها التي فيها الجلوس كالتشهد
الأول والثاني والجلسة بين السجدتين فهذه المواضع كلها القدر المجزئ فيها
مطلق الجلوس.
وسكوت الحنابلة يدل على مثل ذلك وأن القدر المجزئ في الجلوس هو مطلقه.
والقدر المجزئ هو مطلق الجلوس؛ لأن الشارع أوجب الجلوس، فأي جلوس فعله قد
صح منه الجلوس، والقدر المستحب تقدم الكلام عليه: من الافتراش في موضعه،
والتورك في موضعه، والإقعاء بين السجدتين.
قال: (والطمأنينة في الكل)
لحديث المسيء صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تطمئن قائماً
ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً …) (1) الحديث. ولقول
حذيفة – لما رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده قال له: (ما صليت ولو مت مت
على غير الفطرة التي فطر [الله] عليها محمد صلى الله عليه وسلم) (2) .
*واختلف فقهاء الحنابلة في حقيقة الطمأنينة:
فالصحيح من المذهب - والمراد الذي صححه الحنابلة والمرجع عندهم –: هو
السكون وإن قل، فإذا سكن واستقر راكعاً أو جالساً أو قائماً فإن هذه هي
الطمأنينة الواجبة.
أما إذا وصل إلى السجود فرفع من غير سكون فيه ولا استقرار فذلك لا يجزئ
عنه.
__________
(1) تقدم قريباً.
(2) أخرجه البخاري بهذا اللفظ بتأخير " عليها " في كتاب الأذان / باب (119)
إذا لم يتم الركوع / رقم (791) ، وفي كتاب الصلاة، باب (26) إذا لم يتم
السجود / رقم (389) بلفظ: " عن حذيفة رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده،
فلما قضى صلاته ئ، قال له حذيفة: " ما صليت - قال: وأحسبه قال - لو مت مت
على غير سنة محد - صلى الله عليه وسلم - ".
والقول الثاني في المذهب: أنه بقدر الذكر
الواجب، فهو في القيام بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة وفي الركوع بقدر
(سبحان ربي العظيم) ، وفي الرفع منه بقدر (ربنا ولك الحمد) – حيث قلنا
بوجوبه بعد الرفع، وإلا فالحنابلة يقولون بوجوبه أثناء الانتقال وعليه فهذا
الركن ثابت فيه مجرد السكون وإن قل. وفي السجود بقدر قول: (سبحان ربي
الأعلى) .
ويترتب على ذلك: معلوم أن الطمأنينة ركن، وأن ترك الذكر ترك لواجب، وأن
الأذكار في الصلاة واجبة لا فرض.
فإذا سجد وسكن في سجوده ورفع لم يذكر الله تعالى (سبحان ربي الأعلى)
ساهياً، فهل يكون قد ترك فرضاً أو واجباً؟
لا شك أنه تارك لواجب.
لكن هل يضاف لذلك تركه للركن؛ لأنه لم يطمئن بقدر قوله: (سبحان ربي العظيم)
أو (سبحان ربي الأعلى) فهو قد سكن لكن ليس بقدر قول: (سبحان ربي الأعلى)
ولم يقل هذا الذكر، فهل يعد تاركاً للواجب فقط فيجبره سجود السهو أو يعد
تاركاً للركن لأن الركن شرط فيه الطمأنينة؟
على القولين السابقين:
والراجح القول الأول وأن مجرد السكون وإن قل هو الطمأنينة؛ لأن هذه هي
حقيقة الطمأنينة.
وأما قضية الذكر الواجب فهو ذكر يجب في الصلاة ويجب أن يطال في الركوع أو
السجود لأجله؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لكنه ليس بركن فيها بل
الركن هو مجرد الطمأنينة وهذه يحصل بمجرد السكون ولو كان ذلك بمقدار (سبحان
ربي) وإن لم يقل (الأعلى) فإن هذا يعتبر سكوناً، وإن كان ليس بقدر الذكر
الواجب.
فيقال: فرض عليه أن يستقر ويسكن في سجوده، وواجب عليه أن يكون هذا السكون
بقدر الذكر الواجب.
فعلى المسألة السابقة لا يعد تاركاً للركن بل للواجب وهو الذكر.
قال: (والتشهد الأخير وجلسته)
هو ركن لحديث ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن
يفرض علينا التشهد) (1)
فهذا يدل على أن التشهد فرض في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم قد فعله
ولم يثبت عنه تركه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلى)
والعلم عند الله تعالى.
فالمشهور في المذهب: فرضية التشهد الأخير والجلوس له كذلك؛ لفعل النبي صلى
الله عليه وسلم وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
ولأن التشهد لا يصح إلا بالجلوس وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض.
وتقدم أن التشهد ينتهي بقوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) .
قال: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه)
كما هو مذهب الحنابلة والشافعية وأنه فرض، وهو عند الحنابلة فرض في التشهد
الأول (2) فقط، وأما الشافعية فهو فرض في التشهد كليهما.
وقد تقدم القول حول هذه المسألة وأن الراجح أنه ليس بفرض في التشهد الأول.
وأما التشهد الثاني أي الصلاة فيه فالمشهور في المذهب فرضيتها.
__________
(1) سنن الدارقطني ج: 1 ص: 350 (4) وقال: " هذا إسناد صحيح "، والبيهقي في
السنن الكبرى رقم (2644) و (3777) . تلخيص الحبير ج: 1 ص: 262 رقم (403)
قال: " الدارقطني والبيهقي من حديثه بتمامه وصححاه وأصله في الصحيحين
وغيرهما دون قوله قبل أن يفرض علينا ".
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: الثاني أو الأخير، انظر الشرح الممتع لابن
عثيمين رحمه الله تعالى [3 / 423] .
- وعن الإمام أحمد: أنها ليست بفرض بل سنة،
وهو مذهب أكثر أهل العلم، وهو الراجح؛ لأنه لا دليل على فرضيتها وليس في
الباب إلا الحديث المتقدم في قول الصحابي: (يا رسول الله علمنا كيف نسلم
عليك فكيف نصلي عليك قال: قولوا) (1) فهذا أمر ورد بعد سؤال، والأمر بعد
سؤال ليس ظاهراً في الوجوب بل هو للاستحباب كما قرر ذلك غير واحد من
الأصوليين.
وقد قال ابن مسعود – وهو راوي حديث التشهد – ورواه أبو داود مرفوعاً إلى
النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح وقفه قال: (أما إذا قلت هذا أو قضيت هذا)
يعني التشهد المذكور في حديثه إلى قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) فقد
قضيت صلاتك) (2) .
فهذا يدل على أن ما بعد التشهد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
والدعاء ليس بواجب وهو قول ابن مسعود وهو مذهب أكثر الفقهاء.
والأصل عدم الوجوب حتى يرد دليل على ذلك، وما استدل به ليس فيه الإيجاب بل
فيه مشروعية ذلك واستحبابه والعلم عند الله تعالى.
قال: (والترتيب)
فرض بالإجماع بين فرائض الصلاة وأركانها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله
في بيان مجمل القرآن في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [سورة البقرة 2/43]
وما كذلك فهو فرض ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه المسيء صلاته، فيعلمه
لصلاة مرتبة فكان الواجب الترتيب فيها، فإذا قدم الركوع على القيام لم تصح
الصلاة وإذا ترك الترتيب سهواً فلا يجبر إلا بفعله.
قال: (والتسليم)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات / باب (32) الصلاة على النبي - صلى الله
عليه وسلم - / رقم (6357) ، وانظر رقم (4797) و (3370) ، ومسلم (406) في
كتاب الصلاة / باب (17) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.. .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة / باب (183) التشهد / رقم (970) ،
والبيهقي والدارقطني وابن حبان. الاسطوانة.
هو ركن كذلك، وتقدم دليله في قوله:
(وتحليلها التسليم) (1) ، فهذا يدل على أن من شرع في الصلاة لا يحل له ما
نهي عنه خارج الصلاة إلا بالسلام فهو فرض فيها.
وهذا باتفاق أهل العلم.
وقد اتفق أهل العلم على أن التسليمة الأولى فرض.
* لكن اختلفوا في الثانية:
فذهب جمهور أهل العلم (2)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم (1006) ، (1072) من حديث علي بن أبي طالب
ولفظه (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، وبرقم
(14717) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح
االصلاة الطهور) .، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب (31) فرض الوضوء (61)
قال: " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل، عن
محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (مفتاح الصلاة..) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن
مفتاح الصلاة الطهور (3) . وابن ماجه برقم 275، سنن أبي داود [1 / 49] .
وقد تقدم صْ 61.
(2) الكافي لابن قدامة [1 /143] ، الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 117
والتسليمة الثانية في رواية وكذا قال في الهادي والمذهب الأحمد وهذه إحدى
الروايات مطلقا جزم بها في الإفادات والتسهيل قال القاضي وهي أصح وقال في
الجامع الصغير وهما واجبان لا يخرج من الصلاة بغيرهما وصححها ناظم المفردات
وهو منها وقدمها في الفائق والرواية الثانية أنها ركن مطلقا كالأولى جزم به
في المنور والهداية في عد الأركان وقدمه في التلخيص والبلغة والرعايتين
والحاويين والنظم والزركشي وإدراك الغاية قال في المذهب ركن في أصح
الروايتين وصححها في الحواشي واختاره أبو بكر والقاضي والأكثرون كذا قاله
الزركشي مع أن ما قاله في الجامع الصغير يحتمله وهي من المفردات وعنه أنها
سنة جزم به في العمدة والوجيز واختارها المصنف والشارح وقدمه ابن رزين في
شرحه.. " ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، لكن قال في الإنصاف للمرداوي ج:
2 ص: 118: " قلت هذا مبالغة منه وليس بإجماع قال العلامة ابن القيم وهذه
عادته إذا رأى قول أكثر أهل العلم حكاه إجماعا وعنه هي سنة في النفل دون
الفرض وجزم في المحرر والزركشي أنها لا تجب في النفل وقدم أبو الخطاب في
رؤوس مسائله أنها واجبة في المكتوبة.. " الاسطوانة.
: إلى أن الثانية ليست بفرض.
وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وذهب إليه بعض المالكية: إلى أنها فرض.
وهذا القول هو الراجح، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها
التسليم) مجمل بينته السنة في كونه يسلم عن يمينه وعن شماله.
ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنه اكتفى بالتسليم عن يمينه لا
في فرض ولا في نفل، وما ورد في ذلك فهو إما حديث ضعيف أو حديث ليس بصريح
فعليه التسليمة الثانية فرض في الصلاة وهو رواية عن الإمام أحمد.
فهذه أركان الصلاة التي لا تصح الصلاة إلا بها وهي لا تسقط عن المصلي سهواً
ولا عمداً.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السابع والثمانون
(يوم الاثنين: 14 / 4 / 1415هـ)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وواجباتها)
أي واجبات الصلاة وهي ما تجبر بسجدتي السهو وتركها عمداً مبطل للصلاة.
قال: (التكبير غير التحريمة والتسميع)
فمن واجباتها التكبيرات التي هي تكبيرات الانتقال، والتسميع كذلك.
فالألفاظ التي يتلفظ بها الإمام والمأموم والمنفرد فيما بين الأركان من
تكبيرات أو تسميع واجب في الصلاة.
واستدلوا على ذلك: بما رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح من حديث المسيء
صلاته وفيه: (ذكر تكبيرات الانتقال والتسميع) (1) والحديث صحيح.
- وذهب جمهور العلماء: إلى أنه ليس بواجب وهكذا ما بعده فيما ذكر في هذا
الباب من الواجبات.
وقالوا: إنه لم يذكر في حديث المسيء صلاته.
والصحيح أنه مذكور كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح وفيه: (لا تتم صلاة
أحدكم – الحديث – وفيه ذكر التكبيرات والتسميع) (2) فالصحيح أنه واجب في
الصلاة.
- بل عند الإمام أحمد: أنه ركن، وهذا الذي يقتضيه حديث المسيء صلاته، وأن
الصلاة لا تتم إلا به وهذا هو الركن.
__________
(1) تقدم. وهو في أبي داود، كتاب الصلاة،باب (148) صلاة من لا يقيم صلبه في
الركوع والسجود (857)
(2) تقدم قريبا.
إذن: المشهور في المذهب أن تكبيرات
الانتقال والتسميع واجبات وتركها يجبر بالسجود.
وعن الإمام أحمد أنها ركن فيه، فعلى ذلك لا تجبر بالسجود بل يجب أن يأتي
بها، والحديث يدل على ما ذهب إليه أهل القول الثاني، لكن المشقة واردة في
الحكم بركنية التكبير، والتكبير إنما يقصد منه إظهار الانتقال من ركن إلى
آخر ومثل هذا يصعب الجزم بركنيته مع ما فيه من المشقة وصعوبة التحرز عن ترك
شيء منه لاسيما للمنفرد والمأموم، فينبغي أن يقال: إنه واجب لما في القول
بركنيته من المشقة والمشقة تجلب التيسير.
مسألة:
تقدم أن هذه التكبيرات إنما تشرع في حالة الانتقال ما بين الركن إلى الآخر.
وعليه: فإنها تفعل أثناء الانتقال، فإذا شرع برفع رأسه من الركوع – مثلاً –
شرع يقول: سمع الله لمن حمده، فينتهي وقد وصل إلى القيام، فلا يشرع فيه في
ركوعه ولا يتمه أثناء قيامه، بل يقوله أثناء الانتقال، هذا هو مقتضى كونه
مشروعاً أثناء الانتقال.
- واعلم أن المشهور في المذهب أن هذا فرض وشرط فيه فلا يصح التكبير إلا حيث
كان ذلك.
فلو أنه كبر أثناء ركوعه ثم رفع، أو كبر وقد رفع من الركوع فأتمه أثناء
القيام فإنه لا يجزئ عنه ولا يصح ذلك منه، وعليه فإنه تارك للواجب فيجب
عليه سجود السهو مع النسيان، وإلا فإن صلاته تبطل.
قالوا: كما أن القراءة لا تصح قبل القيام ولا بعده.
فلو أنه شرع في الفاتحة وهو يرتفع من الركعة إلى ما بعدها فشرع في القراءة
أثناء نهوضه قبل أن يصل إلى القيام فلا يجزئ عنه، وإذا أتمها وهو راكع
فكذلك لا يجزئ عنه. فكذلك تكبيرات الانتقال، وهذا القول أقيس من القول
الثاني.
- والقول الثاني في المذهب: أن ذلك يجزئ عنه، ومع ذلك فإن هذا القول هو
الراجح مع كون القول الأول أقيس، واختاره المجد ابن تيمية.
وكونه هو الراجح، لما في القول الأول من
المشقة وصعوبة التحرز، حتى قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذا القول: "
وهو الذي لا يسع الناس غيره " (1)
فالتحرز عنه شاق، والمشقة تجلب التيسير، ولأن المقصود منه إنما هو إظهار
الانتقال ما بين ركن إلى آخر، وهذا يحصل في الحقيقة وإن قاله أثناء الركن
المنتقل منه، أو الركن المنتقل إليه.
ومع ذلك فإنه لا يتساهل بهذا، إلا ما يقع من الناس وهذه مسألة لا شك يكثر
الوقوع فيها فيشق التحرز منها، والمشقة تجلب التيسير، وهذا لا شك أن السهو
فيه يكثر، والجهل فيه يفشو، فمثله ينبغي أن يتساهل فيه لا سيما وأن المقصود
منه إظهار الانتقال من ركن إلى آخر.
كما أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان فرضية هذا - مع كونه لا شك
في وقوعه وكثرته في الناس، سكوت النبي صلى الله عليه وسلم - يقتضى عدم
وجوبه والتسامح فيه، لأن عدم البيان مع الحاجة لا يجوز، والناس يقع منهم
هذا ولا شك، بل كان التكبير في عصور المتقدمين مشروعيته أصلاً مجهولة كما
ذكر ذلك شيخ الإسلام وغيره – كما يدل عليه روايات كثيرة – بسبب إمامة
الأمراء وكانوا يتساهلون بالتكبيرات أي التلفظ [بها] .
قال: (والتحميد)
تقدم دليل ذلك ومشروعيته للإمام والمنفرد والمأموم لقول النبي صلى الله
عليه وسلم: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: " ربنا ولك الحمد ")
(2) والأمر للوجوب.
قال: (وتسبيحتا الركوع والسجود وسؤال المغفرة مرة مرة ويسن ثلاثاً)
أي قوله: " سبحان ربي العظيم " في ركوعه، و " سبحان ربي الأعلى " في سجوده.
__________
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب (51) إنما جعل الإمام ليؤتم به
(689) ، وفي باب (128) الهوي بالتكبير حين يسجد (805) ، وفي أبواب تقصير
الصلاة، باب (17) صلاة القاعد (1114) . وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة،باب
ائتمام المأموم بالإمام (411) .
لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن من
حديث عقبة بن عامر قال: (لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال: النبي صلى
الله عليه وسلم: " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت " سبح اسم ربك الأعلى "
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها في سجودكم ") (1) والأمر يقتضي
الوجوب.
وسؤال المغفرة كذلك، بالقياس وإلحاق الشيء بنظيره والشبيه بشبيهه.
فإن هذا الجلوس ركن من أركان الصلاة، فيشرع فيه ما يشرع في غيره ويجب فيه
ما يجب في غيره، فكما أن الركوع فيه ذكر واجب، والرفع منه فيه ذكر واجب
والسجود والجلوس الأخير والجلوس وسط الصلاة كل ذلك فيه ذكر واجب، فكذلك
الجلسة بين السجدتين.
فعلى ذلك يجب عليه أن يقول: (رب اغفر لي) في جلوسه بين السجدتين، وهو
المشهور في المذهب وكل هذه المسائل عند جمهور العلماء ليست بواجبة والراجح
ما تقدم.
أما ما ورد فيها في حديث المسيء صلاته فهذا الحديث حجة في وجوبها.
وأما ما لم يرد فإنها قد وردت بالأمر، وكونها لم ترد في حديث المسيء صلاته
لا يدل ذلك على عدم وجوبها إذ الحديث لا يحيط بأركان الصلاة وواجباتها،
وفيه ما هو ثابت بالسنة الصحيحة فرضيته ووجوبه ولم يرد في حديث المسيء
صلاته، لقول ابن مسعود: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) (2) والتشهد
وجلوسه ليسا مذكورين فيه.
فالحديث لا يحصر ذلك كله، فإن من الواجبات ما يحتمل أن يكون قد فرض بعد
حديث المسيء صلاته.
وفيها ما لم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانه للمسيء صلاته لكون
ذلك واضحاً ومعروفاً له، وقد قام به على وجهه فلا يحتاج إلى بيانه.
(مرة مرة) : في كل مما تقدم في قوله: (سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي
الأعلى) و (رب اغفر لي) فكلها تجب مرة.
(ويسن ثلاثاً) : وقد تقدم.
قال: (والتشهد الأول وجلسته)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب (151) ما يقول الرجل في ركوعه
وسجوده (869)
(2) تقدم.
فالتشهد الأول من واجبات الصلاة، لما ثبت
في حديث ابن مسعود وفيه: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) .
والجلوس له واجب أيضاً؛ لأن التشهد لا يتم إلا بجلوس وما لا يتم الواجب إلا
به فهو واجب.
وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وليسا بركنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام عن التشهد الأول
وانتصب قائماً لم يعد إليه وجبره بسجدتين، وهذا لا يفعل بالركن.
وهذا – أي وجوب التشهد الأول وجلسته – مشكل على المذهب حيث أن الدليل واحد
في التشهد وقد أوجبوا التشهد الأول، وفرضوا التشهد الثاني وجعلوه من أركان
صلاة، مع أن الحديث الوارد في التشهد حديث واحد وهو حديث ابن مسعود.
وذهب الإمام أحمد في رواية عنه: إلى أن التشهد الثاني والجلوس له واجبان
وليسا بركنين – كما أن التشهد الأول واجب – لأن الحديث الوارد فيها واحد،
وحكمهما في الحقيقة واحد.
وهذا قول قوي، لكن يشكل عليه قضية الجلوس له، لأن الجلوس له لا يتم السلام
– وهو ركن من أركان الصلاة – إلا بهذا الجلوس فينبغي أن يكون الجلوس ركن من
أركان الصلاة.
وهذا قول في مذهب أحمد: وهو أن الجلوس للتشهد الثاني ركن والتشهد واجب.
وهذا – فيما يظهر لي – أرجح الأقوال.
قال: (وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة)
فكل ما لم يكن واجبـ[ـاً] ولا شرطـ[ـاً] ولا ركنـ[ـا] فهو سنة، وهذا ضابط
واضح.
قال: (فمن ترك شرطاً بغير عذر غير النية فإنها لا تسقط بحال بطلت صلاته)
فمن ترك شرطاً لغير عذر – كالوضوء مثلاً – فإن الصلاة تبطل ولو كان ساهياً
ناسياً.
إلا أنه استثني المعذور، كالعاجز عن الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة، فإن
صلاته تصح، لأنه معذور في ترك الواجب لكونه عاجزاً عنه.
(غير النية) : فالنية لا تسقط بحال، لأنه
لا يتصور سقوطها، فالنية محلها القلب، ولا يتصور أبداً أن يعجز عنها المكلف
فهو قادر عليه على الإطلاق، لذا وجب استثناؤها لأنه لا يمكن أن يكون العبد
معذوراً في تركها، إذ محلها القلب وحيث كان محلها القلب فلا عذر في تركها.
قال: (أو تعمد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته)
فمن ترك واجباً أو ركناً عمداً في الصلاة، فإن الصلاة تبطل.
أما إذا تركه على سبيل السهو فلا تبطل الصلاة وتجبر بسجود السهو في
الواجبات.
وأما الأركان فإنها لا تصح الصلاة إلا أن يؤتى بها.
فهما في التعمد باب واحد، فكلاهما أمر الشارع به، فإذا ترك واجباً أو ركناً
فقد أدى الصلاة على غير أمر الله وشرعه، وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى
الله عليه وسلم فهو رد.
قال: (بخلاف الباقي)
أي بخلاف الباقي من السنن فإنه إذا تركها عمداً لا تبطل صلاته. كمن ترك رفع
اليدين عند تكبيرة الإحرام أو إرادة الركوع أو نحو ذلك.
قال: (وما عدا ذلك سنن أقوال وأفعال)
سنن أقوال: كزيادة (سبحان ربي العظيم) مرتين على المرة الواجبة فيكون
المجموع ثلاثاً.
وسنن الأفعال: كجلسة الاستراحة – على القول بها – وكرفع اليدين عند تكبيرة
الإحرام وإرادة الركوع والرفع منه (1) .
قال: (ولا يشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس)
هذا قول في المذهب: وهو أنه لا يشرع له السجود لتركه لكن إن سجد فذلك جائز.
__________
(1) في الأصل منها.
لحديث رواه أبو داود من حديث إسماعيل بن عياش عن زهير بن سالم الشامي (1) –
إلى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل سهو سجدتان) (2) وهذا عام
في كل سهو، فإذا سها في ترك سنة شرع له أن يسجد لها لكن الحديث ضعيف، ضعفه
البخاري بقوله: (مضطرب) وفيه إسماعيل بن عياش ويروى عن الشاميين وروايته
عنهم ضعيفة.
وزهير بن سالم ضعيف أيضاً فالحديث لا يثبت.
فعلى ذلك: لا يشرع له أن يسجد وعليه أيضاً فلا يجوز له أن يسجد – كما هو
رواية عن أحمد – لأن السجود زيادة في الصلاة لا يشرع إلا في موضعها الذي
شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه السجود عن ترك سنة.
فعلى ذلك: فلا يشرع ولا يجوز له أن يسجد للسهو لأن السجود زيادة في الصلاة
لا تشرع إلا حيث شرعها النبي صلى الله عليه وسلم، بل لا تصح إلا حيث وردت
ولم يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم – وهو رواية عن الإمام أحمد –
رحمه الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين |