شرح زاد المستقنع للخليل

• قال المؤلف - رحمه الله -:
باب الآنية
الباب: ما يدخل منه إلى المقصود حسياً كان أو معنوياً.
والآنية: جمع إناء وهو الوعاء.
وذكر باب الآنية بعد المياه: لأن الآنية يحمل بها الماء فلما ذكر الماء وأحكامه ذكر ما يحمل به الماء وهذا الترتيب ترتيب منطقي.
• قال المؤلف - رحمه الله -:
كل إناء طاهر ولو ثميناً: يباح إتخاذه واستعماله
قاعدة: كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله.
الدليل: أن الأصل في الأعيان الطهارة والإباحة لأن الله تعالى ذكر في كتابه أنه خلق لنا ما في الأرض جميعاً فقال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} البقرة - 29. وهذا دليل عام.
الدليل الخاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (توضأ تارة من إناء نحاس وتارة من إناء جلد وتارة من خشب).
فدل على أنه يجوز للإنسان أن يتوضأ من أي إناء طاهر مباح.
إذاً عرفنا بهذا قاعدة المذهب في هذا وهي قاعدة صحيحة وكذلك عرفنا دليل الحنابلة وهو أيضاً دليل صحيح ثبوتاً واستدلالاً.
• ثم قال المؤلف - رحمه الله -:
يباح اتخاذه واستعماله
يفهم من قول المؤلف - رحمه الله - هذا - يباح اتخاذه واستعماله - أن بين الاتخاذ والاستعمال فرقٌ وهذا المفهوم صحيح.
فالاتخاذ هو: اقتناء الإناء لا للاستعمال.
وعليه إذا لم يكن للاستعمال فلماذا يقتنى؟
الجواب: نقول ربما للزينة أو لأي غرض آخر.
فالاتخاذ والاستعمال كلاهما جائز والاتخاذ والاستعمال بينهما تلازم.
وعند شيخ الاسلام قاعدة مفيدة في هذا ((أن كل ما حرم استعماله حرم اتخاذه)).
- وهذه قاعدة تبين للإنسان كثيراً من الأحكام فمن أمثلتها:
- الملاهي: فلو أن إنساناً اتخذ آلة ملاهي في البيت بدون أي استعمال فهل يجوز له أن يتخذها زينة في بيته؟


الجواب: لا يجوز.
لماذا؟ لأن القاعدة تقول: أن كل شيء يحرم استعماله فإنه يحرم اتخاذه.
ولماذا أخذوا بهذه القاعدة؟
قالوا: لأن الاتخاذ ذريعة إلى الاستعمال.
الآن عرفنا هذه المسائل وهي واضحة وظاهرة: أن الأواني المباحة يجوز أن تستعمل مهما كانت مادة الصنع إلا ما ستثني في قوله: إلا آنية ذهب فضة ومضبباً بهما فإنه يحرم اتخاذها.
• قال المؤلف ’:
((إلاّ آنية ذهب وفضة ومضبَّباً بهما: فإنه يحرم إتخاذها واستعمالها))
آنية الذهب والفضة يحرم استعمالها في الأكل والشرب بإجماع العلماء لحديث حذيفة - رضي الله عنه -: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة)).
وحديث أم سلمة: ((الذي يشرب في آنية الذهب والفضة كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم)).
وهذا الوعيد الخاص يدل على أن الشارع يعتبر أن استعمال هذه الأواني من الكبائر وليست أمراً سهلاً كما يتعامل معها كثير من الناس.
• قال المؤلف ’:
((ومضبباً بهما))
يحرم استعمال الآنية التي ضببت بالذهب أو الفضة.
والتضبيب هو: إصلاح ما انصدع – ما انكسر - من الإناء بالذهب أو الفضة.
وهذا التعريف في هذا الباب وإلا فقد يكون التضبيب بمعدن آخر لكن نحن نتكلم عن التضبيب بالذهب والفضة.
والدليل على أنه لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة ولا يجوز استعمال الأواني التي صنعت من مادة أخرى إذا كان فيها ذهب أو فضة:
- أن الدارقطني أخرج هذا الحديث وذكر في لفظ له: ((أو إناء فيه شيء منهما)).
هذا اللفظ حسنه الدارقطني نفسه في السنن ولذلك فهو صالح للإستدلال.
((نحن الآن نتكلم عن مسألة معينة مهمة وهي أنه كما أنه يحرم أن نستعمل أواني الذهب والفضة فإنه يحرم أن نستعمل الأواني التي فيها ذهب وفضة ولو كانت مصنوعة من نحاس أو من أي معدن آخر)).
الدليل الآخر: قاعدة ذكرها شيخ الاسلام – وهي مفيدة أيضاً – قال: ((تحريم الشيء مطلقاً يقتضي تحريم كل جزء منه - أبعاض هذا الشيء))
فتحريم الذهب والفضة يقتضي تحريم أبعاض الذهب والفضة.
- فإذا قيل لك ما حكم الإناء المصنوع من نحاس وضبب بالذهب والفضة؟
فالجواب: لا يجوز.
- ما حكم الإناء المصنوع من خشب وطلي بالذهب؟
الجواب: لا يجوز.


- ما حكم الإناء المصنوع من بلاستيك وموه بالذهب؟
الجواب: لا يجوز.
- ولماذا قلنا بعدم الجواز؟
الجواب: للحديث والتعليل.
إذاًُ عرفنا الآن:
= حكم الأواني المصنوعة من خالص الذهب أو الفضة.
= وحكم الأواني المصنوعة من معادن أخرى وفيها ذهب أو فضة.
• ثم قال ’ تعالى:
((فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها))
يعني أن الحنابلة – رحمهم الله – يرون أن آنية الذهب والفضة يحرم فيهما الاتخاذ والاستعمال سواء كان الاستعمال في الأكل أو الشرب أو في غيرهما كاستعمالها في الإدهان أو الاغتسال أو الوضوء أو لأي غرض آخر.
ومذهب الحنابلة هذا هو:
مذهب جماهير أهل العلم بل حكي إجماعاً فعامة الأمة على هذا القول وكذلك جملة المحققين من أهل العلم المتقدمين على هذا القول.
- ما هو الدليل؟
قالوا: الدليل حديث أم سلمة وأبي حذيفة السابقين.
- قيل لهم أنهما وردا في خصوص الأكل والشرب؟
قالوا: أن هذا خرج مخرج الغالب فإن الأواني غالباً ما تستعمل في الأكل والشرب ولذلك ذكرا في الحديث.
ثم قالوا: بأن عندنا دليل آخر وهو:
أنه جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن آنية الذهب والفضة)) – هكذا مطلقاً بدون التقييد بذكر الأكل أو الشرب.
وهذا الحديث ذكره ابن حزم وصححه.
القول الثاني: أن المحرم هو الأكل والشرب فقط.
استدل هؤلاء بعدة أدلة:
الدليل الأول: أن الأحاديث المانعة جاءت بالأكل والشرب فقط.
وهذا الاستدلال واضح فإنهم قالوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي جوامع الكلم ولو كان يريد النهي عن جميع الاستعمالات لجاء بلفظ يشمل جميع الاستعمالات.
والدليل الثاني: قالوا: أن أم سلمة هي راوية حديث المنع ومع ذلك كانت قد اتخذت جلجلاً من فضة وضعت فيه شعرات للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ففيه أنها استخدمت آنية من الفضة والراوي أعلم بما روى فكأنها علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد تخصيص النهي بالأكل والشرب.


هذا القول لا أعلم الآن أحداً قال به من المتقدمين إلا الصنعاني والشوكاني أما الأئمة كأحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وابن عيينة والفقهاء السبعة ومن بعدهم جملة متقدمي العلماء كلهم يرون أنه لا يجوز الاستعمال في الأكل والشرب وفي غيرهما.
إنما من نصر هذا القول وأظهره الصنعاني وبعده الشوكاني.
فلذلك أرى - بناء على أن جمهور السلف على القول الأول وبناء على الحديث الذي ذكره ابن حزم وهو نص في المسألة أن هذا القول بأن سائر الاستعمالات محرمة أكلاً وشرباً وغيرهما - هو الصواب إن شاء الله.
وينبغي أن يكون الإنسان عنده توقف في الحقيقة إذا صار جمهور السلف أو كل السلف على قول من الأقوال والمخالف متأخر عنهم.
فينبغي أن يكون عند الانسان تردد كبير جداً بمخالفة جمهور السلف هذا من جهة.
ومن جهة أخرى الدليل الذي ذكره ابن حزم دليل قوي.
• قال:
((ولو على أُنثى))
نفهم من هذه العبارة قاعدة مفيدة وهي:
أن: باب الآنية أضيق من باب اللباس.
وهذه القاعدة قررها شيخ الإسلام وهذه العبارة تدل عليها.
وكيف عرفنا ذلك؟
من قوله ((ولو على أنثى)).
= فالأنثى هل يجوز لها في باب اللباس أن تتحلى بالذهب والفضة؟
- الجواب: نعم يجوز.
= وهل يجوز للأنثى أن تستخدم - في باب الآنية - أنية الذهب والفضة؟
- الجواب: لا. لايجوز.
فعرفنا من هذا أن باب الآنية أضيق من باب اللباس.
• ثم قال - رحمه الله -:
((وتصح الطهارة منها))
يعني أنه مع أن آنية الذهب والفضة يحرم على الإنسان أن يستعملهما. ومع ذلك لو توضأ الإنسان فإنه آثم ولكن طهارته صحيحة.
= لماذا؟ - لأن النهي يعود لأمر خارج عن العبادة وهذا الذي ذكره الحنابلة صحيح.
فلو أن إنساناً اشترى آنية من فضة وتوضأ منها فنقول أنت آثم ولكن الوضوء صحيح.
• قال - رحمه الله -:
((إلاَّ ضبةً يسيرةً من فضة لحاجة))
هذا الاستثناء في قوله: ((إلا)) استثناء من التحريم.
يعني: يحرم اتخاذ أواني الذهب والفضة والمضبب إلا ضبة يسيرة من فضة لحاجة.
تقرير مذهب الحنابلة:
أنه يجوز استعمال الآنية المضببة بشروط:
الشرط الأول: أن تكون يسيرة.
والشرط الثاني: أن تكون من فضة.
والشرط الثالث: أن تكون لحاجة.


ويمكن أن نقول بشرط رابع هو: أن تكون ضبة. بمعنى أنه يجوز استخدام الآنية التي فيها فضة بشرط أن تكون على شكل ضبة أما لو كانت حلقة أو تمويه ... (مموه) فإنه لا يجوز وإنما التضبيب فقط.
الدليل على هذه الشروط:
أن البخاري أخرج عن أنس - رضي الله عنه - (أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسة من فضة).
وكيف نستنبط هذه الشروط التي ذكرها الحنابلة من الحديث؟
- أولاً: قوله: ((ضبة)) من قوله فاتخذ مكان الشعب.
- ثانياً: قوله: ((يسيرة)) تستنبط من الحديث لأن غالب التضبيب يكون يسيراً.
- ثالثاً: قوله: ((من فضة)) من نص الحديث من فضة.
- رابعاً: قوله: ((لحاجة)) من الكسر لأنه لو لم ينكسر لم يحتج إلى تضبيبه ولكن سيأتينا أن هذا القيد ليس بصحيح.
والمقصود بالحاجة هنا: أن يتعلق بها غرض صحيح لا أن لا يوجد غيرها.
بمعنى لو أنه اتخذ التضبيب للزينة فلا يجوز لكن إذا اتخذه لغرض صحيح فيجوز ولو أمكنه أن يضبب الإناء بمعدن آخر.
فالخلاصة أنه يجوز أن نستعمل الإناء إذا كان مضبباً بفضة بشرط أن تكون يسيرة ولحاجة.
إذاً لو قيل لك ما هو ضابط التضبيب عند الحنابلة؟
- الضابط - المتبادر إلى الذهن - أن تكون من فضة ويسير ولحاجة فيتعلق الأمر بالكمية لأنه يقول يسيرة وبوجود الحاجة.
بينما ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى ضابط آخر فقال: ((أن الضابط هو الاستعمال وعدم الاستعمال لا الكثرة والقلة)).
- فإذا كان إضافة الفضة للإناء في مكان يستعمل فإنه لا يجوز.
- وإذا كان في مكان لا يستعمل فإنه يجوز.
ومقصود شيخ الإسلام بقوله يستعمل يعني على انفراد.
إذاً ما هو الضابط عند شيخ الإسلام الكثرة والقلة أو الاستعمال؟
الاستعمال.
مثال يوضح المقصود:
= لو وضعنا في إناء حلقة - عروة - هل هو يستعمل أو لا يستعمل؟
- يستعمل - فإنك تستعمله تمسك الإناء فتحمله بالحلقة - العروة.
هذه الحلقة أو العروة لا تجوز ولو كانت قليلة لأنها تستعمل.
((انتهى الدرس الثالث))


• زيادة توضيح لقوله رحمه الله:
إلاَّ ضبةً يسيرةً من فضة لحاجة


نريد الآن أن نقرر مذهب الحنابلة وأن يفهم في مسألة الضبة لأن مذهبهم هو أيضاً مذهب لكثير من أهل العلم بل نسب للجمهور.
بعد أن قرر المؤلف أن أواني الذهب والفضة والأواني التي فيها شيء من الذهب والفضة كلها محرمة. ذكر ما يستثنى من هذا الحكم العام وهو قوله ((إلا ضبة يسيرة من فضة)).
- فما هو الذي يستثنى؟
- يستثنى شيء واحد وهو التضبيب على أن يكون يسير ومن فضة ولحاجة هذا الشيء فقط هو الذي يستثنى.
إذاً أربعة قيود وذَكَرْتُ ((بالأمس)) الدليل من حديث أنس - رضي الله عنه - ((أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة)).
وعرفنا الحديث وكيف أخذ الحنابلة منه هذه الأحكام التفصيلية.
باقي الآن أن نفهم أن الحنابلة قرروا جواز استخدام الإناء المضبب بهذه الشروط ولكن أضافو حكماً آخر أنه تكره مباشرة الجهة التي فيها الفضة وهو معنى قوله ’ ((وتكره مباشرتها لغير حاجة)).
= لماذا تكره المباشرة؟
- قالوا: لأن في المباشرة استعمالاً للفضة فقالوا: ((إلا لحاجة)).
ومثلوا للحاجة: بما إذا شرب من غير جهة الفضة فأدى ذلك الى تدفق السائل وانكبابه قالوا: والحالة هذه فيجوز له بلا كراهة أن يشرب من الجهة التي فيها الفضة.
الآن عرفنا مذهب الحنابلة: متى نستخدم الفضة في أي إناء؟ وما هو ضابط هذا الاستخدام؟ وما هو دليله؟ ومسألة كراهة مباشرة الجهة التي فيها الفضة.
الآن انتهى فقه الحنابلة في هذه المسألة فنأتي إلى القول الثاني.
القول الثاني: أن ضابط استخدام الفضة في الأواني هو الاستعمال وعدمه لا الكثرة ولا القلة.
فإن الحنابلة يقولون: أن الفضة إذا كانت قليلة فيجوز وإذا كانت كثيرة فلا يجوز.
شيخ الإسلام يقول أني قرأت كلام الإمام أحمد وفتاويه وتقريراته ففهمت منها أن الإمام أحمد يجعل الضابط: الاستعمال لا الكثرة ولا القلة.
ويقصد بالاستعمال الاستعمال على جهة الإنفراد
المثال الذي يوضح شيء يستعمل وشيء لا يستعمل ومعنى قولنا يستعمل على جهة الانفراد.
قال شيخ الإسلام مثل الحلقة - وهي العروة - فأنت تستخدم العروة على جهة الانفراد فالعروة يقول شيخ الإسلام هي حرام ولو كانت قليلة لماذا؟


لأنها تستعمل والتضبيب جائز ولو كان كثيراً لأنه لا يمكن أن يستعمل على جهة الانفراد.
إلا أن شيخ الإسلام أضاف قيداً دقيقاً يجب أن ينتبه إليه طالب العلم وهو: أنه يجوز أن نستخدم الإناء المضبب بالفضة ولو كثرت بشرط أن تكون أقل مما هي فيه - فلتكن كثيرة لكن بشرط أن تكون أقل مما هي فيه.
أما إذا كان الإناء ثلثيه فضة تضبيباً وثلثه نحاس فهذا لا يجوز ولو لم تستعمل.
انتهينا الآن من فقه مسألة ما يستثنى من أواني الذهب والفضة
• ثم انتقل ’ إلى مسألة أخرى فقال
((وتباح آنية الكفار ولو لم تحل ذبائحهم وثيابهم: إن جهل حالها))
أواني الكفار يقصد بها: أواني أهل الكتاب وأواني غير أهل الكتاب.
عند الحنابلة يجوز لنا أن نستعمل أواني أهل الكتاب والكفار من المشركين أو ممن ليس لهم دين
واستدلوا على هذا بنصوص واضحة وقوية:
الأول: قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة/5).
ومن المعلوم أن أهل الكتاب إنما يطبخون طعامهم في أوانيهم هذا وجه الاستدلال.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه يهودي ودعته يهوديه وأكل ومعلوم أن اليهودي واليهودية طبخا في أوانيهما.
= فإن قلت: بأن جميع الأدلة المذكورة تتعلق بأهل الكتاب؟
- فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة وهذا في صحيح البخاري والمشركة ليست من أهل الكتاب.
فتبين جواز استخدام أواني أهل الكتاب والكفار من غيرهم.
نأتي إلى الثياب: الثياب تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول من الثياب: الثياب التي لم تستعمل - الجديدة - فهذه اتفق الأئمة على أن ثياب الكفار الجديدة التي لا تستعمل يجوز للمسلمين أن يستعملوها بدليل أن ثياب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانت في الغالب من صنع الكفار.

القسم الثاني: الثياب التي يستخدمونها - يعني يلبسونها فهذه أيضاً على قسمين:
- إما أن تكون فوقانية: أي أنها لا تمس العورة كالعمامة والثوب الخارجي فهذه أيضاً يجوز للمسلمين أن يستعملوها لأن الأصل العام في الشرع الطهارة ولا نحكم على عين من الأعيان بالنجاسة إلا بدليل.


- ما ولي عوراتهم: يعني إذا لبس لباساً يلي العورة فهذا أيضاً جائز لكن مكروه عند الإمام أحمد وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من أئمة الإسلام
وهذا التفصيل كله فيما لا يعلم نجاسته فإذا علمنا أن الكفار يشربون في هذه الأواني الخمر أو يطبخون الخنزير أو يطبخون الميتة لأن كثيراً من ذبائح أهل الكتاب ميتة لأنها تذبح على غير الطريقة الإسلامية.
فإذا علمنا ذلك فإنه لا يجوز لنا أن نستعمل هذه الأواني إلا بعد غسلها.
= فإن قيل: أنه يتعارض مع تقرير الجواز أن النبي ‘ سئل عن أواني الكفار فقال: ((لا تستعملوها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها)).
= فالجواب عن هذا الحديث من وجهين:
- الوجه الأول: أن هذا الحديث يقصد به أناس من المشركين عرفوا بمباشرة النجاسة
- الوجه الثاني: أن هذا الحديث يحمل على الكراهة التنزيهية والحامل له على الكراهة التنزيهية النصوص الكثيرة في الشرع التي تدل على جواز استخدام أواني الكفار وبهذا كمل حكم ثياب وأواني الكفار.
• وننتقل إلى المسألة الأخرى
• قال ’:
ولا يطهر جلد ميتة: بدباغ
هذه المسألة غاية في الأهمية فمسائل الفقه تتفاوت في الأهمية والمسألة تأخذ أهميتها من كثرة الحاجة إليها.
فمسألة دباغ الجلود مسألة مهمة جداً ويحتاج طالب العلم أن يكون على بصيرة ووضوح في أحكامها كما سبق نقرر أولاً مذهب الحنابلة.
• يقول ’:
((ولا يطهر جلد ميتة: بدباغ ويباح استعماله بعد الدبغ: في يابس من حيوان طاهر في الحياة))
الحنابلة لا يرون أن أي جلد يطهر بالدباغة فجلود الميتات كلها نجسة ولا يمكن أن تطهر بالدباغة.
وهذا القول للحنابلة من المفردات.
وعندنا قاعدة في مفردات الحنابلة هي: ((أن أي مسألة من مفردات الحنابلة ففي الغالب لها نص لأن الإمام أحمد لا ينفرد إلا بشي فيه نص)).
استدلوا بنص قالوا أنه روي في الحديث الصحيح - رواه ابن عكيم قال أتانا كتاب - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بشهر ((أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)). وهذا الحديث ضعفه الحافظ البارع الناقد ابن معين بل الإمام أحمد كان يأخذ بهذا الحديث ثم تركه لا ضطرابه.


فالحنابلة يرون أن كل الجلود إذا لم تذكى ذكاة شرعية فإنها نجسة ولا يمكن أن تطهر.
واستدلوا بحديث ابن عكيم السابق وهو نص.
نستكمل فقه الحنابلة: لكنهم يقولون مع كون الجلود نجسة وتبقى نجسة إلا أنه يباح أن تستعمل فقط.
يعني ولا يباح أن تباع لأنه لا يجوز أن نبيع ونشتري في النجسات.
فيباح أن تستعمل بثلاثة شروط:
أولاً: أن تدبغ.
ثانياً: أن لا تستعمل إلا في يابس.
ثالثاً: أن هذا خاص بجلود الحيوانات التي تكون طاهرة في الحياة.
والدليل لقضية أنه لا بد أن تدبغ حديث ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هلا انتفعتم بإهابها)) - يقصد ميتة - فقال: هلا انتفعتم: فقالوا إذاً يجوز أن ننتفع.
وفي رواية: ((هلا دبغتموه وانتفعتم به)) فبعض الروايات ذكرت الدباغة وبعضها لم تذكرها ولكن لفظة الدباغة ثابتة.
والدليل على أنه يجب أن يستعمل في يابس أن النجاسة لا تنتقل بين يابسين وهذه قاعدة فأي يابسين لا تنتقل بينهما النجاسة.
فإذا وضعت شيء نجس في وعاء طاهر والكل يابس فإنه لا تنتقل النجاسة إلى الإناء والعكس صحيح.
= إذاً إذا قيل لك لماذا يشترط الحنابلة أن يكون استعمال الإناء في يابسات لا في مائعات؟
- فتقول: لأن النجاسة لا تنتقل بين يابسين.
من حيوان طاهر في الحياة. ما هو الحيوان الطاهر في الحياة؟
قالوا الحيوان الطاهر في الحياة على نوعين:
النوع الأول: الآدمي.
والثاني: ما كان بحجم الهرة فأقل.
والثالث: ما لا نفس له سائلة.
ولا نريد الوقوف هنا في تحديد ما هو الحيوان الطاهر لأن المؤلف سيعود ويذكر هذه المسألة نصاً ونناقش الحنابلة في هذا الضابط لكن المقصود الآن أن تفهم ما هو مذهب الحنابلة؟
إذاً الآن الحنابلة يرون أن جلد الميتة لا يطهر مهما كان نوعه ومهما دبغ وأنه يجوز أن يستعمل في الطاهرات بعد الدبغ هذا خلاصة مذهب الحنابلة.
القول الثاني: أنه أي جلد دبغ فقد طهر مهما كان نوعه من حيوان طاهر في الحياة أو ليس بطاهر.
واستدلوا بحديث ابن عباس - رضي الله عنه - ((أيما إيهاب دبغ فقد طهر)).
وهذا الحديث في الصحيح وهو نص في المسألة.


وهذا الاختيار الأول لشيخ الإسلام - لأن له في المسألة اختيارين لصعوبة المسألة واختلاف الآثار فيها.
القول الثالث: أنه لا يطهر إلا جلد مأكول اللحم.
يعني إذا فرضنا أن شاة ماتت حتف أنفها يعني صارت ميتة فجلدها الآن نجس فعلى القول الثالث هل يطهر بالدباغة؟
الجواب: نعم يطهر.
وإذا مات حمار حتف أنفه فهل يطهر جلده بالدباغة؟
الجواب: لا. لايطهر. لأنه غير مأكول اللحم
دليل القول الثالث: حديث سلمة بن المحبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دباغها ذكاتها)).
فدل الحديث على أن الدباغة إنما تؤثر فيما تؤثر فيه الذكاة والذكاة لا تؤثر إلا في مأكول اللحم.
ما معنى جملة أن الذكاة لا تؤثر إلا في مأكول اللحم؟
يعني لو أن إنساناً أخذ كلباً وذبحه على وفق القواعد الشرعية بأن قطع الحلقوم والودجين فهل يصبح جائز الأكل؟
الجواب: لا. لأن الذكاة لا تؤثر فيه أصلاً.
وهذا القول هو الاختيار الثاني لشيخ الإسلام واختاره أيضاً شيخنا محمد العثيمين رحمه الله.
والأقرب والله أعلم في هذه المسألة هذا القول الثالث.
سبب هذا الترجيح:
نقول أن القول الثاني أقوى ولكن هناك مرجح للقول الثالث وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن جلود السباع)).
وجلود السباع لا تكاد تستخدم إلا مدبوغة ومع ذلك نهى عنها مما يدل على أن الدباغة لا تؤثر فيها.
والمسألة تحتمل أكثر من هذا الشرح لكن هذه رؤوس الأقوال والأدلة وعرفت الآن أن الراجح هو القول الثالث.
= هل ينبني على هذا القول شيء؟
- الجواب: ينبني عليه مئات المسائل.
= فمثلاً - حتى يتدرب طالب العلم على التطبيق - الشنط المصنوعة من جلود النمور ومن جلود الأفاعي ما حكمها؟
- لا تجوز.
= ذيل الثعلب - الذي يحتفظ به بعض الناس - ما حكمه؟
- لا يجوز.
لكن عند الحنابلة هذه الأمور لا يجوز أن تباع ولا تشترى لكن هل يجوز أن ننتفع بها بعد الدباغة؟
- يجوز.
لكن الإشكال أن الأحذية والشنط والأحزمة تباع وتشترى وهذا هو محل الإشكال.
فعلى القول الثالث لا يجوز لا أن تباع ولا أن تشترى.
ويجب أن تنتبه إلى أن الذي لا يجوز أن يباع ويشترى ما كان من الجلد الحقيقي أما الشكل والرسم فهذا لا بأس به.


فإن كان من جلد حقيقي لنمر وذئب أو لدب أو للأفاعي - وهذه أشهر الجلود التي تصنع منها الشنط والأحذية - فإنه لا يجوز لا أن تباع ولا أن تشرى على القول الثالث وعلى القول الثاني أي جلد دبغ فقد طهر.
• ثم انتقل ’ لمسألة أخرى فقال:
ولبنها وكل أجزائها: نجسة غير شعر ونحوه، وما أُبين من حي: فهو كميتته
في الحقيقة أراد المؤلف ’ في آخر الباب أن يبين أحكام أجزاء الميتة لكنه بدء بالجلد لأهميته ولقوة الخلاف فيه فلما انتهى من الكلام على الجلد انتقل إلى الحديث عن باقي أجزاء الميتة فقال ’:
ولبنها وكل أجزائها: نجسة
يعني ولبن الميتة وكل أجزاء الميتة نجسة.
إذاً الحنابلة يرون أن لبن الميتة وأجزاؤها نجسة.
الدليل: قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الأنعام/145).
فهذه الآية نصت على أن الميتة بكل ما فيها فهو رجس.
إذاً عرفنا أن الحنابلة يقررون أن الميتة بجميع أجزائها نجسة هذا بالنسبة للحنابلة.
أما على القول الراجح إلا الجلد من مأكول اللحم.
القول الثاني: أن لبن وأنفحة الميتة طاهرة.
واستدل أصحاب هذا القول على أنها طاهرة بعمل الصحابة رضي الله عنهم.
قالوا: فإن الصحابة
è لما فتحوا العراق وكان بعض سكانه من المجوس أكلوا الجبن المصنوع في العراق في ذلك الوقت والجبن معلوم أنه لا ينعقد إلا بالأنفحة والأنفحة لا تؤخذ إلا من الميتة لأنهم هم لا يذبحون إنما يأخذونها منها ميتة ومع كون الجبن انعقد من أنفحة ميتة أكل منه الصحابة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام وهو أن اللبن والأنفحة من الميتة طاهرة وليست بنجسة وهذا القول هو الصواب.
فما يكون للإنسان أن يأتي إلى مسألة فيها آثار صحيحة عن الصحابة وليس لها معارض فيعارضها ويختلف معها.
بما أن الصحابة وهم أورع وأعلم الناس وأفقه الناس في كتاب الله يرون أن لبن وأنفحة الميتة طاهر فإنا نقول بقولهم.
• قال ’:
ولبنها وكل أجزائها: نجسة.
إذاً ناقشنا المؤلف في اللبن والأنفحة فهل بقي شيء من أجزاء الميتة؟


نعم باقي أجزاء كثيرة كالأجزاء الداخلية الكبد والمعدة واللحم وغيرها.
من الأجزاء التي يناقش فيها المؤلف: العظم والقرن.
فالمؤلف يرى أنها نجسة ويستدل بعموم الآية.
والقول الثاني في هذه المسألة أن العظم والقرن طاهران.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ’ ودليله الذي استدل به قوي:
يقول ’:أن مناط النجاسة بوجود الدم فإذا وجد الدم وجدت النجاسة بدليل أن الشارع الحكيم جعل ما لا نفس له سائلة طاهر كما في حديث الذباب فإنه أمر أن يغمس وإذا غمس في الماء الحار فسيموت. فهذا دليل على أن ما لا نفس له سائلة طاهر قال: كذلك كل ما ليس فيه دم فهو طاهر لأنا عرفنا أن الشارع إنما رتب النجاسة على وجود الدم. والعظم والقرن ليس فيهما دم.

وما ذكره شيخ الإسلام صحيح لكن يحتاج إلى مسألة وهي:
هل فعلاً الطب الحديث يثبت أن العظم ليس فيه دم؟
إذا نظرت إلى العظم فهو يابس لكن هل العظم لا دم فيه من الأصل؟ هذا محل تردد من حيث وجود الدم وعدمه لأنه من المعلوم أن الذي يغذي الجسد بأجزائه الدم وهو سبب النمو فيحتاج إلى أن ننظر هل العظام فيها دم؟ أو كما رأى شيخ الإسلام أنه ليس فيها دم.
على كل حال إذا كان كما قال شيخ الإسلام ليس فيها دم فالأصل فيها الطهارة.
• ثم قال ’:
غير شعر ونحوه
الشعر طاهر عند الحنابلة وعند غيرهم
- فما هو الدليل على طهارة شعر الميتة؟
انتبهو إلى الدليل حتى لا يصعب على بعضكم -
يقولون: أنه يجوز أن نجز شعر الحي من الحيوان وإذا جززناه فإنه يبقى طاهراً.
مع أن القاعدة تقول: أن ما أبين من حي فهو كميتته فمقتضى القاعدة أنا إذا جززنا شعر الحي فإن هذا الشعر يكون نجس لأن ميتة الحيوان نجسة.
فإذا كان الشعر المأخوذ من البهيمة أثناء الحياة يبقى طاهراً مع أن القاعدة: - كما ذكرنا - أن يكون نجساً فكذلك شعر الميتة.
وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم.
وقوله: ((ونحوه)) أي كالقرن والظفر والصوف بالنسبة للحيوانات التي ليس فيها شعر.
• ثم قال ’:
وما أُبين من حي: فهو كميتته
هذه القاعدة هي نص حديث وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال إلا أن معناه متفق عليه.
والقاعدة: ((تقول أن الحديث المتفق على معناه فإنه يصلح للاستدلال)).


فمثلاً: إذا أخذنا يد شاة وهي حية فما حكم هذه اليد؟
الجواب: أنها نجسة.
وإذا أخذنا يد إنسان وهو حي فما الحكم؟
الجواب: نقول أنه طاهر لأنه إذا مات فهو طاهر.
نأخذ مثالاً أوضح.

إذا أخذنا قطعة من سمكة وهي حية فما الحكم؟
الجواب: أنها طاهرة. ولماذا؟
لأن ميتة السمك طاهرة.
إذاً ما أبين من حي فهو كميتته
= إذا أخذت قطعة من حيوان حي فحكم هذه القطعة كحكم ميتة هذا الحيوان:
• إن كان طاهراً فطاهر.
• وإن كان نجساً فنجس.
• إذا أخذنا جزء من الجراد فطاهر.
• وإذا أخذنا جزء من الفرس فنجس.
- مسألة: وقد استثنى الحنابلة من هذه القاعدة أمرين هما:
= الأول: الطريدة
ما المقصود بالطريدة؟
يقصد بالطريدة الأجزاء التي تقطع من الحيوان في الصيد أثناء المطاردة.
مثاله: لو أن إنساناً طارد غزالاً وضرب الغزال فانقطع منه قطعة كيد واستطاع أن يجري بعد ذلك ما حكم هذه القطعة؟
الجواب: طاهرة.
ما الدليل على هذا الحكم؟
قالوا: أن الصحابة - كانوا يفعلون هذا في مغازيهم فإن الجيش أثناء الغزو يحتاج إلى الصيد أكثر منه إذا كان في مدينته
فإذاً هذا استدلال بآثار الصحابة وهذا كثير عند الحنابلة. ونعم الاستدلال.
= المستثى الثاني: الفأرة ومسكها.
يعني الفأرة وما فيها من مسك.
ماهي الفأرة؟
الفأرة هي: وعاء يخرج من الغزال الذكر من نوع معين من الغزلان بعد أن يجري لمدة طويلة.
فإذا جرى خرجت هذه الفأرة متدلية منه وفيها مسك وبعد فترة تسقط فإذا وجد الإنسان هذه الفأرة فالأصل أن تكون نجسة لأن ميتة الغزال نجسة لكن هذه مستثناة.
ولماذا استثنيت؟
الجواب: لأن عمل المسلمين المتواصل على الاستفادة من المسك ولو كانت نجسة لم ينتفعوا منه.
وعليه فالمسك وفأرته طاهران ولو سقطت أثناء الحياة.
وبهذا انتهى باب الآنية وننتقل إلى باب الاستنجاء.