شرح زاد
المستقنع للخليل كتاب الجنائز
قال شيخنا حفظه الله:
• قال المؤلف رحمه الله تعالى:
كتاب الجنائز
هذا الكتب يقصد به بيان أحكام المريض والميت.
وفي الحقيقة تفصيل الإسلام لمثل هذه الأمور من حيث يولد الإنسان إلى أن
يدفن يعتبر من أعظم محاسن الإسلام وكثير ما يغفل المسلمون عن محاسن
الإسلام.
ولذلك أنا أوصي إخواني الكرام بمسألة الإعجاز التشريعي حقيقة إذا قرأ فيه
الإنسان حصل له أمران:
- الأول: زيادة الإيمان.
- والثاني: التفقه في دين الله.
قبل أسبوعين أعلنت إحدى ولايات الصين أنها لن ترقي أي موظف في الدولة إلا
إذا أتى بشهادة تفيد أنه يحسن معاملة والديه فإذا لم يأت بهذه الشهادة لم
يرقى وظيفياً.
لما قرأت هذا الخبر تعجبت جداً كيف أنهم لم يصلوا إلى هذا المعنى إلا بعد
هذه السنين بينما القرآن والسنة مليئان بالنصوص الدالة على بر الوالدين.
فأقول أن تنظيم الإسلام لمثل هذه الأمور هذا التنظيم الدقيق العجيب المعجز
يستدعي من طالب العلم الوقوف في هذا الجانب بالذات وهو الإعجاز التشريعي.
قوله: الجَنَائز: الجَنَائز لا تنطق إلا بالفتح فإن كسرت فهو خطأ - لحن.
هذا ما يتعلق بالجنائز.
والجنائز جمع جنازة. وجنازة: يجوز أن نفتح ويجوز أن نكسر.
وقيل أنها بالفتح للميت. وبالكسر للنعش.
وقيل العكس.
والجنازة لغة: اسم للميت أو للسرير الذي عليه الميت.
•
قال رحمه الله:
تسن: عيادة المريض.
لما كان يعرض كثيراً على الإنسان أن يمرض أراد المؤلف رحمه الله أن يبدأ
ببيان أحكام المرض.
والمرض اصطلاحاً: هو اعتلال صحة الجسم.
والمقصود بالمرض في قول المؤلف: عيادة المريض. مرض الأبدان ولا يقصد مرض
القلوب الذي أشارت إليه الآية في قوله تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض}
[الأحزاب/32] هذا المرض لا يقصد بهذا السياق.
قوله: تسن عيادة المريض.
عيادة المريض مشروعة بالإجماع لم يخالف في هذا أحد من أهل العلم.
ولكن اختلفوا في حكمها:
= فالجماهير ذهبوا إلى أن عيادة المريض سنة.
واستدلوا بأحاديث كثيرة:
- من أصحها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس) وذكر منها
عيادة المريض.
- واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسبع. هكذا لفظ الحديث. وذكر
منها عيداة المريض.
فدل هذا على أن عيادة المريض سنة مرغوبة للشارع.
= والقول الثاني: أن عيادة المريض واجبة - فرض عين - إذا علم الإنسان بمريض
فيجب أن يزوره وإلى هذا مال البخاري قال ابن مفلح: ويحمل ذلك على الزيارة
مرة واحدة.
يعني: أن الواجب الزيارة مرة واحدة.
= والقول الثالث: أن زيارة المريض فرض كفاية وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام ابن
تيمية وذهب أيضاً إليه الشيخ الفقيه ابن قاضي الجبل.
ويلحظ الإنسان أن ما اختاره شيخ الاسلام فيه توسط فإذا مرض الإنسان ولم
يزره أحد من المسلمين أثم الجميع كيف وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم
وجعله حق من حقوق المريض.
قوله: تسن عيادة المريض.
المراد بالمريض هنا: أي مريض ومهما كان المرض. وإلى هذا ذهب الحافظ ابن حجر
ولو كان يستطيع أن يقوم أو أن يخرج أحياناً.
والدليل على هذا:
- أن زيد ابن الأرقم رضي الله عنه أصيب بمرض في عينيه فعاده النبي صلى الله
عليه وسلم.
ومن المعلوم أن مرض العين لا منع غالباً من القيام وقضاء المصالح.
ثم بدأ المؤلف ببيان السنن التي ينبغي أن يفعلها منن زار المريض:
• فقال رحمه الله:
وتذكيره التوبة والوصية.
يعني: ويسن لمن زار المريض أن يذكره التوبة والوصية.
أما تذكيره التوبة فلأمرين:
- الأول: النصوص العامة الدالة على وجوب التوبة.
- الثاني: تأكد هذا الأمر في حق المريض خشية أن يموت.
وأما الوصية:
- فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماحق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء
يوصي به إلا كتبه).وهذا الحديث صحيح.
وحمل الفقهاء قوله ليلتين على المبالغة والتغليب.
وكونه يسن أن يذكر بالتوبة والوصية الصواب أن هذا مستحب ولا يسن لأنه لم
ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صنع ذلك قصداً مع زيارته للمرضى من
أصحابه لكنه مستحب لدلالة النصوص العامة وقواعد الشرع عليه.
ومما يسن عند زيارة المريض - مما تركه المؤلف وهو مفيد -: يسن لمن زار
المريض أن يقرأ عليه لدليلين:
- الأول: أن جبريل عليه السلام زار النبي
صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى فقرأ عليه. وهذا صحيح.
- الثاني: أن أنس رضي الله عنه زار رجلاً من أصحابه وهو يشتكي فقرأ عليه.
وهو صحيح.
فثبت بهذين النصين أنه ينبغي لمن زار المريض أن يقرأ عليه.
ومما يسن لمن زار المريض: أن يدخل على المريض السرور وأن يطمأن المريض وأن
يتحدث معه بما يوجب انشراح الصدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما زار بعض
أصحابه قال كيف تجدك؟ فهذا من جملة السؤال عن المريض وإدخال السرور عليه.
ومن جملة المستحبات والسنن أن يبقى عند المريض بالقدر المناسب للحال بطبيعة
علاقة الزائر بالمريض وحسب طبيعة مرض المريض فأحياناً نقول ينبغي أن تطيل
الجلوس وأحياناً نقول وهو الغالب ينبغي أن لا تطيل الجلوس.
ثم انتقل المؤلف للمرحلة التي تلي المرض.
• فقال رحمه الله:
وإذا نُزل به: سن.
معنى إذا نزل به يعني: إذا حضر ملك الموت.
وإنما يعرف أن المريض حضره ملك الموت بعلامات يعرف منها الخبير أن هذا
الرجل يحتضر الآن وهو في السياق ولذلك روي أن سفيان الثوري لما حضرته
الوفاة كان في بيت عبد الرحمنن بن مهدي فمسه عبد الرحمن فوجده حار فقال كيف
تجدك يا أبا عبد الله؟ قال: أرجو أن تخرج النفس رشحاً ثم قال: ويلي ثم غشي
عليه فلما غشي عليه بقي قليلاً ثم أفاق ثم قال لعبد الرحمن بن مهدي: نادي
حماد بن سلمة فإني أحب أن يحضر مصرعي فخرج عبد الرحمن بن مهدي وقال لحماد
إن أبا عبد الله في النزع يناديك فخرج حماد بإزار دون رداء ونسي نعله وخرج
مسرعاً ولم يغلق الباب وجاء مسرعاً فلما دخل وجد أن سفيان الثوري أغمي عليه
فظن أنه مات ثم أفاق فقال سفيان الثوري: لقونني - لاحظ ثبات هذا الإمام -
لا إله إلا الله. ثم الفت إلى حماد فقال: وهذا الشاهد - أي حماد اتق مصرعي
هذا ثم قضى رحمه الله.
فإنما علم عبد الرحمن بن مهدي بأنه حضر بالعلامات والسياق.
• قال رحمه الله:
تعاهد بل حلقه بماء أو شراب.
يعني ويسن إذا نزل به تعاهد بل حلقه ... إلى آخره.
يسن أن يلي الميت من أهله من يتصف بصفتين:
- الأولى: أنه أرفق أهله به.
- والثانية: أن يكون أتقاهم.
فإذا وجدت الصفتان في رجل فينبغي أن يكون هو من يلي الميت.
فإذا وليه ينبغي أن يتعاهده بأمرين:
- أولاً: بل حلقه بماء أو شراب.
- والثاني: وندى شفتيه بقطنه.
يعني أنه ينبغي عليه أن يرطب حلقه بقطرات من الماء وأن يندي شفتيه وعللوا
ذلك بأمرين:
- الأول: أن في هذا تخفيفا للكرب عن الميت.
- والثاني: أن في هذا إعانة له ليتشهد الشهادتين.
وعلم من هذا أنه لا يوجد دليل نصي على أن هذا من السنن التي تفعل عند
المحتضر لكن سيأتينا قاعدة عظيمة جداً وجيدة ذكرها الإمام الشافعي بعد أن
ننتهي من هذه السنن.
• ثم قال رحمه الله:
ولقنه ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)) مرة.
السنة أن يلقنه لا إله إلا الله.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لقنوا موتاكم لا إله
إلا الله).
- ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من كان آخر كلامه من
الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).
فإذاً تلقين الميت سنة ثابتة في الحديث الصحيح لا إشكال فيها.
• ثم قال رحمه الله:
مرة ولم يزد على ثلاث.
يعني أنهخ يلقنه مرة إلى ثلاث ولا يزيد عن الثلاث لأن لا يضجر الميت من
التكرار بلا إله إلا الله ..
= والقول الثاني: أنه لا يشرع أن يلقن إلا مرة واحدة فقط ولا يزيد إلا في
حالين:
- إذا لم يستجب.
- أو إذا تكلم بعدها كما سيأتينا.
فإذا لم يستجب أو تكلم بعد أن نطق بالشهادة فإنا نكرر عليه.
أما إذا قيل له: قل لا إله إلا الله فقال: لا إله إلا الله فإن الصواب أنه
لا يشرع أن نكررعليه لأنه لا فائدة من هذا التكرار وقد يضجر ويتكلم بالكلمة
التي تكره.
فإذا قال لا إله إلا الله نكتفي بذلك.
ولذلك روي أن رجلاً حضر عبد الله بن المبارك عند الموت فقال له قل: لا إله
إلا الله فقال لا إله إلا الله فقال: قل لا إله إلا الله قال: إذا قلت لا
إله إلا الله فلا تكرر علي فإنما أنا عليها ما لم أغير.
وصدق رحمه الله إذا قال الميت: لا إله إلا الله فعلام يكرر عليه.
وهذا القول الثاني: هو قول عند الحنابلة وهو الصواب أنه يكتفى بمره إذا
استجاب الميت.
وهل معنى قول المؤلف رحمه الله لقنو أن نقول: قل لا إله إلا الله أو أن
نقول: لا إله إلا الله فيسمع ويفهم المراد؟
الحقيقة الأمر واسع. لكن فيما أرى أن النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: (لقنوا) هذا الشيء الأول. فهذا يؤيد أن نلقن
ونقول: قل لا إله إلا الله.
الشي الثاني: أن الميت قد لا يلاحظ أو يفهم إذا قلت أنت لا إله إلا الله
أنك تريد أن يسمع فيقول بينما إذا سمعك تقول: قل. استجاب.
وبالإمكان أن نجمع بين القولين فنقول: أنت قل عند الميت: لا إله إلا الله.
فإن استجب فالحمد لله. فإن لم يستجب فقل له: قل لا إله إلا الله.
• ثم قال رحمه الله:
إلاّ أن يتكلم بعده: فيعيد تلقينه برفق.
إذا تكلم بعد أن قال: لا إله إلا الله فإنا نرجع ونلقنه.
والتعليل: - ليكون آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله.
• ثم قال رحمه الله:
ويقرأُ عنده ((يس)).
أي يشرع ويسن أن يقرأ عند الميت بسورة يس لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(اقرأوا على موتاكم يس).
وهذا الحديث ضعيف ضعفه الإمام الدارقطني وابن القطان.
والمقصود بموتاكم هنا: المحتضر وليس من في القبر فهو أطلق على المحتضر
باعتبار ما سيؤول إليه.
= القول الثاني: أنه لا يشرع أن نقرأ يس ولا غيرها من السور كالفاتحة ولا
غيرها لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بذلك.
إذاً الصواب أن هذا ليس بسنة.
• ثم قال رحمه الله:
ويوجهه إلى القبلة.
أي ويسن أن يوجه الميت إلى القبلة.
واستدلوا على هذا بأحاديث:
- أولاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (قبلتكم أحياء وأمواتاً).
- ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير المجالس ما استقبلت به
القبلة).
وهذان الحديثان ضعيفان.
= والقول الثاني: أنه لا يوجه الميت إلى القبلة وإنما يترك على حاله.
وإلى هذا ذهب التابعي الجليل سيد التابعين سعيد بن المسيب.
والراجح والله أعلم أنه يوجه.
والدليل: - أنه جاء بإسناد صحيح ثابت عن عطاء وعن الحسن أنهم قالوا: كانوا
يستحبون التوجه إلى القبلة.
ومعلوم أن مثل هؤلاء من التابعين الكبار إذا قالوا: كان يستحب فإنما يقصدون
الصحابي بل إن عطاء لما سأل عن توجيه الميت إلى القبلة قال: سبحان الله وهل
يترك هذا أحد؟.
ففي الحقيقة كون مثل عطاء والحسن يصح عنهما
أنهم نشأوا والسنة المعروفة بين الصحابة توجيه الميت إلى القبلة يجعل
الإنسان يرى أن هذا مشروع ومستحب إن شاء الله.
- بقينا في مسألة:
* * كيفية توجيهه إلى القبلة: أكثر النصوص عن الإمام أحمد أن الميت يوضع
على شقه الأيمن باتجاه القبلة كحال الميت في القبر.
= والقول الثاني: وهو قول عند الحنابلة. أنه يجعل على ظهره وتجعل الرجلين
باتجاه القبلة ويرفع رأسه قليلاً.
ومما يرجح القول الثاني: سهولة صنع ذلك بالميت. فإنك إذا تصورت أنت الميت
على فراش الموت وهو يتألم من الصعوبة بمكان أن تجعله على شقه الأيمن لكن أن
يجعل على ظهره وتوجه الرجلان إلى القبلة فهذا أمر سهل.
فإذا استطاع الإنسان أن يجعله على شقه الأيمن فهو أحسن وإلا فيجعله على
ظهره مستلقياً ويرفه رأسه قليلاً باتجاه القبلة.
وبهذا انتهى من المرحلة الثانية وهي: ما يكون في سياق الموت.
ثم انتقل انتقالاً طبيعياً إلى ما بعد الموت.
• فقال رحمه الله:
فإذا مات سن: تغميضه.
أي أنه يسن أول ما يموت الميت أن يقوم من عنده بتغميض عينيه لدليلين:
- الأول: أنه ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي
سلمة وجلس عنده فلما توفي شخص بصره إلى السماء فأغمض النبي صلى الله عليه
وسلم عينيه.
فهذا نص صريح بأن إغماض العينين سنة.
- الثاني: أن بقاء العين مفتوحة فيه تشويه لمنظر الميت.
• ثم قال رحمه الله:
وشد لحييه.
يعني أن يضم الفك الأسفل إلى الأعلى مربوطاً.
وعللوا استحباب هذا الأمر بأمرين:
- أولاً: لأن لا يدخل مع فمه هواء.
- ثانياً: أن لا يدخل الماء أثناء غسل الميت.
• ثم قال رحمه الله:
وتليين مفاصله.
يعني ويستحب لمن حضر الميت إذا مات أن يلين مفاصله.
- ليسهل تغسيله.
وتليين المفاصل يكون بثني اليد ثم إرجاعها كما كانت وثني الرجل ثم إرجاعها
كما كانت.
• ثم قال رحمه الله:
وخلع ثيابه.
أي: ويشرع أن يخلع ثياب الميت لأن بقاء الثياب على الجسد يزيد من حرارة
الجسم مما يؤدي إلى سرعة فساد الميت.
• ثم قال رحمه الله:
وستره بثوب.
أي: ويشرع أن يغطى جميع جسد الميت بثوب من الرأس إلى القدمين.
والدليل على هذا:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات سجي
بثوب حبر. وكانت من الثياب التي يحبها النبي صلى الله عليه وسلم فغطي تغطية
كاملة.
ويستثنى من هذا إذا كان الميت محرماً فإنه لا يغطى رأسه.
فهذه سنة ثابتة.
• ثم قال رحمه الله:
ووضع حديدة على بطنه.
هذا مستحب بالنسبة للميت لأمرين:
- أولاً: أن مولى لأنس رضي الله عنه مات فأمر بوضع حديدة على بطنه.
- ثانياً: أنه لو لم توضع لا نتفخ البطن.
• ثم قال رحمه الله:
ووضعه على سرير
يعني: ويستحب أن يوضع الميت على سرير ولا يترك على الأرض لأن وضعه على
السرير أحفظ لجسده من وضعه على الأرض. فقد يتأذى من رطوبة الأرض أو من
الهوام.
•
ثم قال رحمه الله:
غسله: متوجهاً منحدراً نحو رجليه.
يعني: أن يوضع على السرير بحيث يرتفع الجزء الأعلى من جسده وينخفض الجزء
الأسفل من جسده.
وعللوا ذلك:
- بأن هذا يسهل ذهاب الماء أثناء الغسل وعدم بقائه تحت جسد الميت.
- وأيضاً خروج الفضلات وذهابها فلا تبقى تحت جسد الميت.
نرجع الآن إلى الأمر التي لم تأت في السنة الصريحة وهي:
- شد اللحيين.
- وتليين المفاصل.
- وخلع الثوب
- ووضع الحديدة.
- ووضعه على سرير.
هذه الخمس لم تأت في السنة إنما جاء في السنة الستر بالثوب وتغميض العينين.
وذكر الشافعي رحمه الله قاعدة في هذه الأمور: يقول: ((إنه مهما أمكن أن
نصنع للميت ما يفيده فإنه لا بأس بذلك)).
يعني: أن كل عمل هو من مصلحة الميت لا بأس أن نفعله.
وقول الشافعي: لا بأس بذلك: دليل على أن هذه الأعهمال ليست سنن وإنما
مستحبة فقط وجائزة.
فقول المؤلف: إذا مات سن أن يفعل كذا وكذا ليس بصحيح فإن هذه ليست سنن
وإنما هي مستحبات دلت عليها القواعد العامة والتي تدل على أنه يستحب أن
نحافظ على الميت وعلى جسده وعلى حرمته وعلى شكله أكثر ما نستطيع.
فإذاً نقول هذه الأشياء وغيرها مما يمكن أن يصنع من مصلحة الميت فإنه يستحب
أن يصنع به.
من ذلك: مثلاً في وفتنا هذا: وضع الميت في الثلاجة فإن هذا من أعظم ما
يحافظ به على جسد الميت فإذا كانوا هم يقولون يوضع على السرير ويوضع عليه
حديده ويلين ... إلى آخره كل هذه الأمور وأكثر من هذه الأمور تحصل إذا
وضعناه في الثلاجة.
فنقول: يستحب المبادرة بوضع الميت في
الثلاجة بشرط التأكد التام من مسألة أنه توفي وأنه لم يكن مغمى عليه فقط.
•
ثم قال رحمه الله:
وإسراع تجهيزه.
يعني ويستحب أن يسرع في تجهيز الميت قدر الإمكان بلا مشقه.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم أسرعوا بها فإن كانت صالحة فإلى خير
تقدمونها إليه وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم.
وإّا كان الشارع الحكيم أمر بالإسراع الجنازة أثناء التشييع فمن باب أولى
أن نسرع بها في التجهيز.
فإذاً لا ينبغي أبداً التأخير في مسألةتجهيز الميت والذي سيبين لنا المؤلف
كيفية تجهيزه لكن الآن الذي نحتاج أن نفهمه هو أنه يستحب المبادرة الإسراع
بتجهيزه.
• قال رحمه الله:
إن مات غير فجأة.
يعني إذا مات على إثر مرض وعلم موته يقيناً فيسرع به.
وأما إن مات فجأة فلا يستحب أن يسرع به خشية أن يكون مازال حياً.
ومن المعلوم أنه في وقتنا هذا يكاد هذا المحذور قد زال لأن التأكد من موت
الميت الآن أصبح ميسوراً وأشبه ما يكون على وجه القطع ولذلك لم نسمع أبداً
أن الأطباء حكموا عهلى شخص بالموت ثم تبين أنه ما زال حياً إلا في مسألة
واحدة هم ما زالوا يقولون أنه ميت والآخرون يقولون أنه حي وهو الشخص الذي
مات دماغه وصارت أعضؤه تعمل على أجهزة خارجيه فالقلب يعمل على جهاز والرئة
على جهاز والكلية على جهاز لكن المخ توفى دماغياً هذا الشخص الأطباء
يعتبرونه أنه ميت ومن الناس من ينازع في هذا ويقول أنه ما زال حياً.
فهذا نستثنيه من البحث.
فمن مات موتاً طبيعياً فإن لم نسمع أن الأطباء حكموا عليه أنه مات وتبين
أنه حي مما يدل على أنه أشبه ما يكون بالمقطوع به أن حكم الأطباء على شخص
بالموت أنه ميت.
إذا ثبت ذلك فنقول: ينبغي الإسراع في وقتنا هذا بتجهيز الميت مهما كان موته
فجأة أو على إثر مرض.
•
ثم قال رحمه الله:
وإنفاذ وصيته.
يعني ويتحب الإسراع بإنفاذ الوصية.
ولذلك كان يجدر بالمؤلف أن يقول والإسراع بإنفاذ الوصية لأن هذا هو المستحب
أما إنفاذ الوصية فهو واجب.
وهو يقول في صدر هذه الجملة: فإذا مات سن. فصارت العبارة فإذا مات سن إنفاذ
وصيته وهذا ليس بصحيح بل المسنون هو الإسراع.
وتعليل: أن الإسراع في إنفاذ الوصية مستحب
هو أن هذا أسرع في حصول الأجر لهذا الميت.
• ثم قال رحمه الله:
ويجب في قضاء دينه.
يعني: ويجب الإسراع في قضاء الدين.
لوجهين:
- الأول: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن
معلقة بدينه).
- والثاني: أن الدين من حقوق العباد التي يجب الإسراع بأدائها.
فإذاً: الصواب كما قال المؤلف أن قضلء الدين واجب على لاالفور ولا يستحب
فقط بل يجب والله أعلم .... ((الأذان)) ...
انتهى الدرس
فصل
[في غسل الميت وما يتعلق به]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فبدأ المؤلف بالكلام عن غسل الميت وما يتعلق به من أحكام وكيفية ... إلى
آخره.
فبدأ ببيان حكم تغسيل الميست وتكفينه ... إلى آخره.
• فقال رحمه الله:
غُسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه: فرض كفاية.
ـ غسل الميت وتكفينه فرض كفايه لدليلين:
- الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته ومات:
(اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين).
- الثاني: الإجماع.
بناء على هذا إذا لم يغسل الميت من أهله وجب على غيرهم أن يغسلوه فإن لم
يغسله أحد من المسلمين أثموا جميعاً وهذا معنى كونه فرض كفايه.
إذاً تبين معنا الآن حكم الغسل والتكفين.
• ثم قال رحمه الله:
والصلاة عليه.
الصلاة عليه أيضاً فرض كفاية فإن لم يصلوا عليه أثموا جميعاً.
[لدليلين:
- الدليل الأول]: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي غل في الحرب لما
أراد أن يصلي عليه ترك الصلاة عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
(صلوا على صاحبكم) وهذا أمر.
- والدليل الثاني: الإجماع. فقد أجمعت الأمة على أن الصلاة على الميت فرض
كفاية.
• ثم قال رحمه الله:
ودفنه.
أيضاً الدفن فرض كفاية.
لعدة أدلة:
- الدليل الأول: - وهو أقوى الأدلة - الإجماع.
- الدليل الثاني: قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} [عبس/21]. فامتن الله على
عباده بالدفن.
- الدليل الثالث: لأن لا يتأذى به الناس من
جهة ولأن لا تهتك حرمة هذا الميت من جهة أخرى.
فثبت بهذه الأدلة أن دفن الميت فرض كفاية فهو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى
ربه سبحانه وتعالى فإن تركوها أثموا.
ثم بدأ المؤلف رحمه الله بالكلام التفصيلي على مسألة الغسل بالذات لأن
الفصل مخصص للغسل وسيخصص فصلاً آخر للتكفين والصلاة ... إلى آخره.
• قال رحمه الله:
وأولى الناس بغسله: وصيه.
(الناس: مضبوطة بالضم عندكم [طبعة الهبدان ص 125] وهي بالكسر).
معنى أولى الناس يعني: أحق الناس بغسل الميت من سيذكرهم المؤلف رحمه الله.
= أحق الناس بالغسل عند الحنابلة: الوصي.
فإذا وصى الميت أن يغسله فلان فهذا أحق الناس وأولى من والد المتوفى وابنه
وأخيه وكل الناس.
وهذه من مفردات مذهب الإمام أحمد.
واستدل بدليلين:
- الأول: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى أن تغسله زوجته. وهذا مرسل
لكن مقبول في هذا الباب.
- الثاني: أن أنس رضي الله عنه أوصى أن يغسله ابن سيرين رحمه الله. وهذا
إسناده صحيح.
وبهذا استدل الإمام أحمد وهناك تعليل وهو:
- أن الميت لم يوص إلا بمن يرى أنه سيقوم بالأمر على الوجه الأكمل.
= القول الثاني: مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي - الجمهور أن العصبات
مقدمون على الأوصياء.
واستدلوا على هذا بأنهم:
- أولى وأحق بالصلاة فكذلك بالغسل.
والصواب مع الإمام أحمد لأنه يستدل بآثار عن الصحابة وأولئك يستدلون بعلل
والعلل لا ترد الآثار الصحيحة. نعم مسألة أثر أبي بكر رضي الله عنه مرسل
لكن المراسيل في مثل هذا الباب مقبولة إن شاء الله.
• ثم قال رحمه الله:
ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته.
= ترتيب الأحق بغسل الميت عند الحنابلة كما ذكره المؤلف - على ثلاثة جهات.
- الجهة الأولى: الأبوة. يعني: الأب وإن علا.
- والجهة الثانية: - لم يذكره المؤلف فكان من الأنسب كغيره من الحنابلة أن
يقول: ثم أبوه ثم جده ثم ابنه ثم الأقرب فالأقرب - نقول: البنوة: الابن وإن
نزل.
- الجهة الثالث: باقي العصبات.
ومن الطبيعي أنا سنبدأ بباقي العصبات بمن: بالأخ.
وترتيب باقي العصبات حسب ترتيبهم في الإرث.
دليل الحنابلة على تقديم الأبوة على البنوة:
- أن الأب في العادة أكثر شفقة من الإبن
ولذا قدم.
= القول الثاني: أن البنوة مقدمة على الأبوة فالابن أحق من الأب فابن الميت
أحق من أبيه في غسله.
= القول الثالث: أن البنوة مقدمة على الجد فقط دون الأب.
= القول الرابع: أن الزوجين يقدمان على غيرهما فإذا مات الزوج فالزوجة أحق
من غيرها وإذا ماتت الزوجة فالزوج أحق من غيره وهذا مذهب المالكية. ويظهر
لي والله أعلم أن هذا المذهب قوي جداً وأن الزوج مقدم في غسل الزوجة على
أبيها وابنها وأخيها وأمها وكل الناس.
لماذا؟ التعليل من وجهين:
- الأول: أنا وجدنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى على زوجته.
- الثاني: أن عائشة رضي الله عنها قالت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما
غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه مع أن الذي تولى غسل النبي
صلى الله عليه وسلم من العصبات علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
- ثالثاً: أن الزوج اطلع من زوجته والزوجة اطلعت من زوجها على ما لم يطلع
عليه غيرهما في الحياة.
ولذلك أقول أن هذا القول وجيه جداً وإن كان لم يقل به إلا المالكية من بين
المذاهب الأربعة.
عرفنا الآن كيفية ترتيب الأحق بالغسل عند الحنابلة وعند غيرهم.
• ثم قال رحمه الله:
ثم ذووا أرحامه.
ذووا أرحامه هم: كل قريب لا يرث فرضاً ولا تعصيباً كالجد من جهة الأم
والخال والعم من جهة الأم وكل قريب لا يرث لا فرضاً ولا تعصيباً. فهؤلاء
يقدمون على غيرهم إذا لم يوجد من ذكر أولاً ولهذا عبر بقوله: ثم ذووا
أرحامه.
وبهذا عرفنا أن بعد ذوي الأرحام يتساوى الناس فلا أحد أحق من أحد.
= والقول الثاني: أنه بعد ذوي الأرحام الأصدقاء.
ومن خلال ما سبق عرفت أن مقصود الفقهاء في الترتيب ينبني على مسألة الأكثر
شفقة ولهذا ذكروا الأصدقاء.
فالضابط الذي في الحقيقة تدور عليه المسألة من أكثر شفقة مِن مَن؟
• ثم قال رحمه الله:
وبأُنثى: وصيتها.
تقدم الكلام على الوصي والخلاف بين الحنابلة والجمهور في مسألة تغسيل الرجل
فكذلك هنا.
• ثم قال رحمه الله:
ثم القربى فالقربى من نسائها.
بناء عليه أحق الناس بغسل المرأة: أمها ثم ابنتها ثم أختها وهكذا حسب
ترتيبهم في الميراث.
وعرفنا مما ذكره المؤلف أنه ليس للشخص أن
يغسل أمه ولا أخته وسيأتي التصريح بهذا في كلام المؤلف.
• ثم قال رحمه الله:
ولكل واحد من الزوجين: غسل صاحبه.
يعني: ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يغسل الآخر إذا مات أحدهما.
فذكر المؤلف مسألتين:
- المسألة الأولى: غسل الزوج لزوجته.
- والمسألة الثانية: غسل الزوجة لزوجها.
نبدأ بالمسألة الأولى: غسل الزوج لزوجته:
= ذهب الجمهور إلى جواز أن يغسل الزوج زوجته إذا ماتت.
واستدلوا بدليلين:
- الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: (ما ضرك
لو مت فغسلتك وكفنتك وصليت عليك).
- الثاني: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تولى غسل فاطمة رضي الله عنها
وهي نصوص ريحة كما ترى وقوية جداً.
= القول الثاني: أنه لا يجوز للزوج أن يغسل زوجته.
- لأنه لو شاء لتزوج أختها. فدل على أن العلاقة انتهت بالموت وصارت أجنبية
ولا يجوز للإنسان أن يمس الأجنبية.
ونلاحظ أن الأحناف وهم أصحاب هذا القول أيضاً قابلوا الآثار الصحيحة بعلل
وأدلة عقلية.
ولذلك الراجح هو القول الأول بلا إشكال إن شاء الله.
وتغسيل علي لفاطمة صحيح ثابت بإسناد صحيح.
المسألة الثانية: تغسيل الزوجة للزوج. هذا حكي فيه الإجماع ممن حكاه: ابن
المنذر بل حكاه الإمام أحمد نفسه فقال رحمه الله: لا أعلم الناس يختلفون
فيه.
لكن الواقع أن في المسألة خلاف.
= فالقول الأول وحكي إجماعاً الجواز. كما سمعت.
واستدلوا:
- بقول عائشة رضي الله عنها: لو استقدمت من أمري ما استأخرت ما غسل رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه.
- وبأن زوجة أبي بكر رضي الله عنه غسلته بوصية منه رضي الله عنه.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز للزوجه أن تغسل زوجها. والغريب أنه رواية عن
الإمام أحمد وقول لبعض الفقهاء مع أنه حكى الإجماع.
فربما نقول أن الإمام أحمد رحمه الله في الأول علم أن المسألة إجماع ثم
تبين أن فيها خلاف فصار له رواية في المسألة أو أن نقول أن الرواية الثانية
لا تصح عن الإمام أحمد رحمه الله وإلا لا يمكن أن الإمام أحمد يحكي الإجماع
ثم يكون له فيها قول إلا على أحد التخريجين الذين ذكرتهما.
واستدل هؤلاء:
- بأن الموت فراق كالطلاق فلا تغسل الزوجة
زوجها.
والصواب القول الأول بلا إشكال إن شاء الله.
•
ثم قال رحمه الله.
وكذا سيد مع سريته.
يعني: أنه يجوز للسيد أن يغسل أمته وللأمة أن تغسل سيدها.
واستدلوا على ذلك:
- بأن الأمة فراش للزوج فهي كالزوجة تماماً بل هي أولى من الزوجة لأن
الحنابلة يرون أنه يجب على الزوج أن ينفق على الزوجة في التكفين والغسل ولا
يرون أنه يجب عليه أن ينفق على ... فهي أولى بالعلاقة بعد الموت من الزوجة
فالقياس قياس أولوي.
• ثم قال رحمه الله:
ولرجل وامرأة: غسْل من له دون سبع سنين فقط.
يعني أنه يجوز للمرأة أن تغسل الطفل ويجوز للرجل أن يغسل الطفلة.
نبدأ بالمسألة الأولى:
يجوز للمرأة أن تغسل الطفل فهذا محل إجماع لم يختلفوا فيه.
لكن اختلفوا في حد هذا الطفل - إلى متى يجوز للمرأة أن تغسل الطفل؟
= فالحنابلة يرون أنه إلى سبع فإن تم سبع سنوات لم تغسله. لأنه يقول من له
دون سبع.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الصلاة بسبع فقال: (مروهم بالصلاة
لسبع). فعلمنا أن الشارع يعلق بعض الأحكام على سن السابعة.
= القول الثاني: للشافعية. أنه يختص بالفطيم - من فطم قريباً -.
= والقول الثالث: من له أربع أو خمس سنوات.
وكما ترون أقوال بلا أدلة وبلا مستند واضح وإنما هي تفقهات وإذا كانت
المسألة تفقهات نحن نقول مذهب الحنابلة هو أقوى الأقوال لأنه على أقل تقدير
أخذ الحد من نظير جعل الشارع الأحكام تترتب عليه وهو وجوب الصلاة فلأن ننظر
بهذا خير من أن نحكم بسن بلا أي دليل وإنما مجرد تعليلات.
المسألة الأخرى: تغسيل الرجل للطفلة:
هذا فيه خلاف:
= فالحنابلة يرون: أنه يجوز له أن يغسل الطفلة ما لم تبلغ سبع سنوات. هذا
هو القول الأول.
= القول الثاني: التوقف. وهذا مروي عن الإمام أحمد رحمه الله. فتوقف في
المسألة وتقدم معنا أن الإمام أحمد رحمه الله إذا توقف دليل على وجود إشكال
قوي في المسألة أوجب للإمام أحمد أن يتوقف.
= القول الثالث: أنه لا يجوز مطلقاً للرجل أن يغسل الطفلة. وهو رواية عن
الإمام أحمد رحمه الله واختيار ابن قدامة.
واستدل على هذا القول:
- بأن عورة المرأة أغلظ وأفحش من عورة
الرجل وقد جرت العادة أن المرأة تقوم على الطفل بالعناية والتنظيف ولم تجر
العادة أن الرجل يقوم على الطفلة بالعناية والتنظيف. بناء عليه يقول لا
يجوز للرجل أن يغسل الطفلة مطلقاً.
وهذا هو الراجح أنه لا يجوز للرجل أن يغسل الطفلة فمذهب المالكية الذي ذهب
إليه أحمد في رواية ورجحه ابن قدامة في الحقيقة قوي ووجيه فيما أرى.
تنبيه: قال النووي رحمه الله: أن تغسيل الرجل للطفلة والمرأة للطفل يجوز ما
لم يبلغا حداً يشتهيان فيه. فما دام الطفل لا يشتهى من المرأة والطفلة لا
تشتهى من الرجل فمادام هذا الوصف موجود فيجوز وإلا فلا.
فجعل الضابط ليس من جهة السن وإنما من جهة وجود الشهوة أو عدم وجود الشهوة.
هذا القول في الحقيقة قول يلي القول الأخير في القوة فهو وجيه وفيه في
الحقيقة تعليق بمعنى اعتاد الشارع أن يعلق عليه الأحكام وهو وجود الشهوة
ومظنة وقوع المفسدة.
فنجعله كقول ثاني بعد قول المالكية.
نرجع إلى مسألتنا التي أشرنا إليها: فيفهم من قول المؤلف: ولرجل وامرأة غسل
من له دون سبع سنين أنه لا يجوز للرجل أن يغسل أمه ولا أخته ولا عمته ولا
خالته يعني لا يجوز له أن يغسل النساء ولو كن محارم. ولا يجوز للمرأة أن
تغسل أباها ولا أخاها ولا أي رجل ولو كان من المحارم. هذا أحد قولي الفقهاء
وهو قول صحيح ففيما أرى أنه قول وجيه لأنه لا يناسب أن تغسل المرأة الرجل
ولو كان من محارمها بل يتولى غسل الرجال الرجال وغسل النساء النساء.
ويستثنى من هذا فقط الزوجة والزوج ومن له دون سبع سنوات فيما عدا هذا فلا
يجوز.
= والقول الثاني: أنه يجوز للإنسان أن يغسل محارمه من الرجال والنساء ويجوز
للمرأة أن تغسل محارمها من الرجال والنساء ولكن هذا القول ضعيف في الحقيقة
ويؤدي إلى مفاسد.
•
ثم قال رحمه الله:
وإن مات رجل بين نسوة أو عكسه يمم كخنثى مشكل.
أو عكسه: أي ماتت امرأة بين رجال.
هذه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا ماتت المرأة بين الرجال.
والمسألة الثانية: إذا مات الرجل بين النساء.
والمسألة الثالثة: إذا مات الخنثى المشكل.
في هذه الثلاث مسائل يقول المؤلف: ييمم ولا يغسل.
وطريقة التيمم أن يضرب الإنسان المسلم
العاقل يده بالتراب ثم يمسح بها وجه الميت وكفيه.
وعلم من هذا أنه ليست الطريقة أن يأخذ كفي الميت ويضرب بهما التراب وإنما
يضرب هو التراب بيديه وييمم الميت.
الدليل على هذا:
- ما رواه مكحول مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ماتت المرأة
مع الرجال أو مات الرجل مع النساء يمما ولم يغسلا).
= القول الثاني: أنه في هذه الصورة يدفن الميت بلا تيمم ولا غسل وإنما يدفن
مباشرة.
= القول الثالث: أنه يغسل من خلف القميص. - يعني: المرأة إذا ماتت بين
الرجال أو الرجل مات بين النساء يغسل من فوق القميص بلا تجريد.
والراجح مذهب الحنابلة لأمرين:
- الأول: أن معهم أثر وإن كان مرسلاً.
- الثاني: أنه وسط بين القولين.
لما بين رحمه الله من له أن يغسل ومن لا يجوز له أن يغسل تطرق إلى من يحرم
عليه أن يغسل:
• فقال رحمه الله:
ويحرم: أن يغسل مسلم كافراً أو يدفنه.
يعني: أو يكفنه أو يتبع جنازته فكل هذه الأشياء محرمة.
استدل الحنابلة على ذلك:
- بأنه: إذا كان الله سبحانه وتعالى نهى عن الصلاة على الكافرين وعن الدعاء
لهم دل ذلك على تحريم أيضاً أن يغسلوا أو يكفنوا أو يدفنوا.
- واستدلوا بقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ) -[الممتحنة/13] ... ومن التولي صنع ذلك.
= والقول الثاني: أنه يجوز الدفن فقط دون باقي الأشياء.
واستدل هؤلاء:
- بقول علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال مات
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فواره).
فدل على أن الدفن فقط يجوز.
- الدليل الثاني مع هذا النص: أن بقاء جثة الكافر فيها ضرر على المسلمين
لما تسببه من الأمراض والروائح.
- الدليل الثالث: أنه قد يتأذى أقارب هذا الميت من المسلمين إذا كان له
أقارب من المسلمين.
والعمدة في الباب الحديث الأول.
وهذا هو الراجح إن شاء الله أنه يجوز الدفن فقط.
ولا يدفن على صفة دفن المسلمين وإنما يغمس في الأرض غمساً بدون الترتيبات
التي توضع للمسلم.
• ثم قال رحمه الله:
بل يوارى لعدم.
أي لعدم من يواريه يوارى.
يعني: إذا لم يوجد أحد من أقاربه الكفار
يواري هذا الميت الكافر فإنه يوارى من قبل المسلمين.
والتعليل: - لأن لا يتأذى الناس به فنحن نواريه دفعاً لضرره لا إكراماً له.
- والدليل الثاني: ما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكفار بدر أن
يلقوا في قليب.
علمنا من قول المؤلف: ويحرم أن يغسل مسلم كافر حكم تغسيل المسلم للكافر.
ونأخذ الآن مسألة وهي:
حكم تغسيل الكافر للمسلم:
فنقول: لا يجوز أن يغسل الكافر المسلم ولا يجزئ.
- لأن تغسيل الميت عبادة عظيمة ولا تتأتى من غير المسلمين ولا تصح لأن
العبادات لا تصح إلا من المسلمين.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن يغسل الكافر المسلم.
والصواب الأول. ورجح الأول وهو: تحريم تغسيل الكافر للمسلم وأنه لا يجزئ
ابن قدامه رحمه الله.
• ثم قال رحمه الله:
وإذا أخذ في غسله.
معنى إذا أخذ في غسله: يعني إذا شرع وبدأ في تغسيل الميت.
فالمؤلف بدأ الآن في التفصيل الدقيق لمراحل تغسيل الميت.
• قال رحمه الله:
وإذا أخذ في غسله: ستر عورته.
أي: وجوباً.
ووجوب ستر عورة الميت محل إجماع.
فيجب على من غسل ميتاً أن يستر عورته. وهو على المذهب ما بين السرة إلى
الركبة وتقدم معنا الخلاف في هذه المسألة في شروط الصلاة.
• قال رحمه الله:
وجرده.
أي: ويستحب للغاسل إذا أراد أن يغسل الميت أن يجرده من الثياب.
بطبيعة الحال إلا ما يستر عورته.
واستدل الحنابلة على استحباب التجريد بدليلين:
- الأول: أن هذا أمكن وأبلغ في التنظيف. وهذا صحيح: فبلى شك أنه إذا جرد
فإن تنظيفه سيكون أبلغ وأحسن.
- الثاني: حديث عائشة الثابت الصحيح أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما
أرادوا غسله اختلفوا فقالوا: هل نجرده كما نجرد موتانا؟.
وجه الاستدلال: أن هذه العبارة تفيد أن التجريد كان معروفاً بينهم.
= والقول الثاني: أن الميت لا يجرد من ثيابه بل تبقى عليه الثياب وهو مذهب
الشافعية ويغسل بإدخال اليد تحت الثوب.
واستدل الشافعية على هذا:
- بأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا غسل وهو أسوة للمسلمين.
والراجح مذهب الحنابلة - القول الأول وهو أنه يجرد.
والجواب عن حديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم غسل في قميصه أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
•
ثم قال رحمه الله:
وستره عن العيون.
أي: ويستحب لمن أراد أن يغسل الميت أن يستره عن العيون بأن يغسله بغرفة أو
بخيمة أو بأي مكان محجوب.
والدليل على هذا:
- أن الميت ربما كتم من جسده لا يحب أن يطلع عليه الناس.
- ولأن تغسيل الميت على ملإٍ من الناس فيه إيذاء للناس.
• ثم قال رحمه الله:
ويكره لغير من يعين في غُسْله: حضوره.
يعني: يكره ولا يحرم أن يحضر أحد تغسيل الميت وليس ممن يعين على ذلك.
- لأنه قد يطلع من الميت على ما لا يحب أن يطلع عليه الميت.
= القول الثاني: أنه يحرم أن يحضر من لا يعين لأن جسد الميت بعد الموت يكون
كله عورة.
والراجح مذهب الحنابلة.
* * مسألة: استثنى الحنابلة من مسألة الدخول على الميت أثناء التغسيل ممن
لا يعين استثنوا الأولياء فقالوا: للأولياء الدخول بلا كراهة ولو لم يكونوا
من المعينين.
والأقرب: أن الأولياء إذا لم يكن لحضورهم فائدة الأحسن أن لا يحضروا ولا
نقول مكروه لكن الأحسن أن لا يحضروا لأن الميت قد لا يحب أن يطلع على شيء
من جسده ولا من قبل بعض الأولياء سواء كان هذا الولي ابن أو أب أوأخ
أوغيره.
فالأحسن أن لا يحضر إذا لم يكن لحضوره داعي.
ومن الدواعي لحضور الأولياء المقبولة: أن يكون الولي حضر ليتأكد من غسل
الميت على السنة فهذا جيد فإنه إذا حضر لهذه العلة فهذا جيد لأنه قد يكون
الغاسل من المتساهلين - قد يكون - فحضور الولي لأجل أن يتأكد أن التغسيل
يتم على وفق السنة فلا بأس به.
• ثم قال رحمه الله:
ثم يرفع رأسه برفق إلى قرب جلوسه.
يعني: ويستحب للمغسل أن يرفع رأس الميت برفقإلى قرب جلوسه ولا يصل به إلى
حد الجلوس لأن هذا مؤذي للميت.
وأما أصل الرفع: فلإتمام التنظيف.
•
ثم قال رحمه الله:
ويعصر بطنه برفق.
أفادنا المؤلف أن العصر سنة وأن السنة أن يكون هذا العصر برفق.
استدل الحنابلة على ذلك:
- بأن هذا العصر يخرج من بطن الميت ما كان على وشك الخروج لأن لا يخرج
أثناء نقله.
=القول الثاني: للشافعي وهو أنه يعصر بطن الميت بشدة ولا يقصد بعنف لكن
يقصد عصراً قوياً ليخرج كل ما في بطنه.
= والقول الثالث: أنه لا يعصر بطن الميت
أصلاً لا برفق ولا بغيره.
- لأنه ليس في العصر سنة تتبع عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والراجح أنه يعصر عصراً رفيقاً ليخرج فقط ما كان على وشك الخروج. وإلى هذا
مال الحافظ ابن المنذر.
وتقدم معنا قاعدة للشافعي وهي: ((أن كل عمل فعله من صالح الميت يعمل على
أساس أنه مستحب وليس على أنه سنة)).
• ثم قال رحمه الله:
ويكثر صب الماء حينئذ.
يعني: مع العصر ليذهب ما يخرج من الميت ولا يتأذى الميت - يعني: لا يتسخ
جسده ولا يتأذى الغاسل بل يذهب ما يخرج مع الماء.
• ثم قال رحمه الله:
ثم يلف على يده خرقة فينجيه.
يعني: يستحب أن يفعل ذلك: أن يلف على يده خرقه فينجي الميت.
التعليل: - إزالة للنجاسة وطلباً للطهارة الكاملة.
ويكون الاستنجاء في هذه الصورة من تحت الثوب الذي يستر العورة.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يحل مس عورة من له سبع سنين.
يعني: فأكثر.
- لأن التطهير يمكن بدون هذا المس ولذلك لا يحل له أن يمس عورته.
أما من له أقل من سبع سنوات فيجوز أن يطهره وينجيه بمس العورة.
- لأن عورة من كان عمره دون سبع سنوات لا حكم لها في النظر والمس.
•
ثم قال رحمه الله:
ويستحب أن لا يمس سائره إلاّ بخرقة.
يعني: يستحب أن لا يمس سائر الجسد أثناء الغسل إلا بخرقة يلفها على يده.
لأمرين:
- الأول: أنه مروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يصنع ذلك.
- الثاني: أن هذا أبلغ في التنظيف.
وعلمنا من هذا أن غسل الميت بمباشرة الجسد باليد جائز لكن الأحسن أن يفعل
كما قال المؤلف رحمه الله.
فصارت الخرق التي يحتاج إليها المغسل: خرقتان.
= القول الثاني: أن المغسل يحتاج إلى ثلاث خرق لكل سبيل من السبيلين خرقة
ولسائر الجسد خرقة أخرى.
فصار المجموع: ثلاث.
والصواب: أن المغسل من جهة الخرق يصنع ما فيه الأصلح للميت إن احتاج إلى
ثلاث أو أكثر فيأخذ ما فيه صلاح للميت.
• ثم قال رحمه الله:
ثم يوضيه ندباً.
ذكر صاحب الروض أنه كان ينبغي على الماتن أن يقدم النية على الوضوء بينما
نجد أن الماتن قدم الوضوء على النية.
وما ذكره صاحب الروض صحيح لأن الوضوء من
جملة الغسل الذي يحتاج إلى نية وتقدم معنا أن تغسيل الميت من جملة العبادات
التي تحتاج إلى نية.
إذاً كان ينبغي من جهة الترتيب أن يقدم النية.
نرجع إلى الوضوء: توضأة الميت سنة بالإجماع.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (ابدأن بمايامنها ومواضع
الوضوء منها).
= والقول الثاني: أن الوضوء واجب.
والصواب مع الحنابلة لأنه لا دليل على وجوب الوضوء .... (الآذان).
انتهى الدرس
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
لما ذكر المؤلف حكم توضأة الميت ذكر تفصيلاً يتعلق بالوضوء.
• [قال رحمه الله:
ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه.]
فذكر أنه لا يدخل في أنفه ولا في فمه.
= وهذا مذهب الحنابلة: أن المغسل لا يمضمض ولا ينشق الميت.
واستدلوا على هذا:
- بأن في إدخال الماء في أنف وفم الميت ضرر لأنه قد ينزل إلى بطن الميت
فيسبب تغيراً فيه.
- وأيضاً قد يخرج بعد التكفين.
- (الدليل الثالث): أن في المضمضة والاستنشاق بالنسبة للميت عسر ومشقة
ظاهرة.
وإلى هذا ذهب الجماهير.
= والقول الثاني: للشافعية. أنه يمضمض ويستنشق كما يفعل بالحي تماماً.
- لعموم حديث أم عطية: (ومواضع الوضوء منها).
وأحب أن أنبه إلى أن حديث أم عطية أثنى عليه العلماء ثناء عاطراً جداً وذكر
الأئمة جميعاً أنه أصل في باب تغسيل الميت ولذلك اعتنى به أصحاب السنن
بألفاظه وطرقه وأسانيده وهو حديث ينبغي لطالب العلم أن يعتني به من حيث
تحرير الألفاظ الصحيحة التي رويت خارج الصحيحين.
والراجح: قول الجماهير في المضمضة والاستنشاق.
• ثم قال رحمه الله:
ويدخل أصبعيه مبلولتين بالماء: بين شفتيه فيمسح أسنانه وفي منخريه
فينظفهما.
أي: يشرع ويستحب أن يعمل هذا العمل بأن يضع على أصبعه خرقه ويبلل هذه
الخرقة ثم يمسح فم وأسنان وأنف الميت.
والدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: أن هذا من عموم التنظيف وهو مطلوب في حق الميت.
- الوجه الثاني: لعموم حديث أم عطية:
(ومواضع الوضوء) وهذا من مواضع الوضوء.
فإذاً يستحب: = عند الجمهور - الذين لا يرون المضمضة والاستنشاق للميت - أن
يفعل بدلاً منه هذا الفعل.
وهذا صحيح لما فيه من كمال التنظيف والطهارة.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يدخلهما الماء.
معلوم أن هذا تكرار. وتقدم الكلام على إدخال الماء في فيه وفي أنفه.
• ثم قال رحمه الله:
ثم ينوي غسله ويسمي.
ـ أما النية: فهي من شروط صحة غسل الميت.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
- ولأن هذا الغسل من العبادات بل هو فرض كفاية ولا تصح العبادة إلا بنية.
ـ وأما الوضوء فالخلاف فيه كالخلاف الذي تقدم معنا في مسألة الوضوء وغسل
الجنابة. وتقدم أن الراجح إن شاء الله أنه لا يجب بل الأقوى أنه لا يشرع
على ما تقدم تفصيله.
• ثم قال رحمه الله: - مبتدأً بالكيفية التفصيلية لتغسيل الميت.
ويغسل برغوة السدر: رأسه ولحيته فقط.
إذا أراد المغسل أن يغسل الميت فإنه يأتي بورق السدر ويدق هذا الورق إلى أن
يكون نعاماً ثم يخلط هذا الورق بالماء ثم يضرب هذا الماء - يعني: يحركه -
لأجل أن يخرج له رغوة فإذا خرجت الرغوة بدأ فغسل الرأس واللحية بالرغوة.
ولا يغسلهما بما يتبقى من الفتات الذي يترسب في قعر الإناء.
- التعليل: أنه لو غسله بغير الرغوة لبقي حب وفتات في الرأس واللحية لا
يخرج مع الماء بينما إذا غسله برغوة السدر فقط فإن الماء كفيل بإزالة ما
غسل به الشعر واللحية.
فتبين من كلام المؤلف رحمه الله أن الرغوة خاصة للشعر وللحية أما سائر
البدن فهو: = عند الحنابلة لا يغسل بالرغوة وإنما يغسل بما يتبقى من ورق
السدر وهو الحبيبات التي تترسب في أسفل الإناء.
= والقول الثاني: أنه يغسل الشعر واللحية وسائر الجسد برغوة السدر.
وهذا القول هو الصواب: بشرط أن يحصل بذلك التطهير للجسد - يعني التنظيف -.
والدليل على هذا:
- ما تقدم معنا مراراً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء
وسدر). فنص على وضع السدر مع الماء ليحصل التنظيف به.
• ثم قال رحمه الله:
ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر.
ـ طريقة غسل الشق الأيمن والأيسر هي أن:
- يغسل الميت مما يلي الوجه من شقه الأيمن.
- ثم إذا أرا أن يغسل الأسفل - وهو الظهر والإليتين وأسفل القدمين -: قلبه
على جنبه الأيسر وغسل شقه الأيمن.
ـ فإذا أراد أن يغسل شقه الأيسر فيفعل نفس الشيء: يقلبه على شقه الأيمن
ويغسل الظهر والإليتين والقدمين.
وعلم من ذلك أنه لا يسن أن يكبه على وجهه وإنما هكذا يصنع:
- يقلبه على الجهة اليمنى ثم يغسل ظهره وإليتيه وقدميه.
- ويقلبه على الشق الأيمن ويغسل الشق الأيسر.
إذاً هذه هي الطريقة في غسل الميت ولا يقلب قلباً كاملاً بحيث يكبه على
وجهه.
• ثم قال رحمه الله:
ثم كله.
أي: ثم يفيض الماء على كل الجسد بما في ذلك الرأس.
وهذه الغسلة هي الغسلة الكفيلة بإذهاب ما قد يعلق بالجسم والشعر من رغوة
السدر أو من الصابون في وقتنا الحاضر.
• ثم قال رحمه الله:
ثلاثاً.
أي: يكرر كل ما صنع ثلاثاً تماماً.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (اغسلنها ثلاثاً أو
خمساً أو سبعاً). فبدأ بالثلاث.
فإن اقتصر على واحدة:
= كره عند الحنابلة لمخالفة السنة.
= وحرم عند الظاهرية.
والصواب أن غسل الميت مرة واحدة إذا طهر به فيحوز بلا كراهة.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته ناقته: (اغسلوه
بماء وسدر). ومطلق الغسل يتحقق بواحدة.
فإذاً الصواب إن شاء الله أنه جائز بلا كراهة.
• ثم قال رحمه الله:
يمر في كل مرة: يده على بطنه.
أي: أن إمرار اليد على البطن يشرع في الغسلات الثلاث.
فعرفنا أن إمرار اليد على البطن مشروع في الغسلات الثلاث لسببين:
- الأول: ليخرج ما تبقى.
- والثاني: لأجل أن لا يخرج بعد ذلك شيء من السبيلين فيفسد الغسل والوضوء.
* * مسألة: يفعل ثلاثاً كل ما تقدم إلا الوضوء فإنه لا يكون إلا في المرة
الأولى فقط أما باقي الأمور فتكرر ثلاثاً.
إذاً التكرار يصح للجميع إلا مسألة الوضوء.
• ثم قال رحمه الله:
فإن لم ينق بثلاث: زيد حتى ينقى ولو جاوز السبع.
المشروع: أن يكرر الغاسل غسل الميت إذا لم ينق ثلاثاً وأربعاً وخمساً وستاً
وسبعاً وأكثر من ذلك تسع .. إلى آخره.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلنها
ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك) وفي رواية: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو
سبعاً) ولم يذكر أكثر من ذلك.
وهذا تنبيه لطيف جداً من الحافظ ابن حجر فهو يقول: لم يأت في رواية صحيحة -
يقصد في الصحيح - أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين السبع وأكثر من ذلك.
يعني: - إما أن يقول: ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك.
- أو ن يقول ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً.
لكن في سنن النسائي ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك. لكن في
البخاري ومسلم لا يوجد الجمع بين السبع ومسألة أو أكثر من ذلك.
= فعند الحنابلة يزيد ولو أكثر من سبع.
- لأن الزيادة على السبع صارت لمصلحة وهي تطهير الميت.
- وقد يكون الميت مع طول المرض أو لأي ملابسة أخرى تراكم عليه الوسخ مما
يحتاج معه إلى تكرار للغسل ليتطهر وينظف جسمه.
وهذا هو الصواب أنه يزيد على السبع.
= والقول الثاني: أنه لا يزيد على السبع بل إذا غسله سبع كرات كفنه وانتهى
الغسل بذلك.
واستدلوا:
- أن الحديث لم يذكر أكثر من سبع.
والزيادة على ثلاث غالباً لا يحتاج إليها إلا للمرضى الذين طال مرضهم.
• ثم قال رحمه الله:
ويجعل في الغسلة الأخيرة: كافوراً.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (واجعلن في الآخرة
كافوراً). والكافور نوع من أنواع الطيب البارد.
= فذهب الجماهير: الأئمة الأربعة والجم الغفير إلى أنه يستحب وضع الكافور.
= وذهب ابن حزم إلى أنه يجب وجوباً أن نضع الكافور.
• ثم قال رحمه الله:
والماءُ الحار والأشنان والخلال: يستعمل إذا احتيج إليه.
الماء الحار: معروف.
والإشنان: نبات يستخدم للتنظيف والتطهير.
والخلال: هو العود الذي يستعمل للتخليل بين الأسنان.
هذه الأشياء الثلاثة تستعمل عند الحاجة فقط.
فإذا كان فيه وسخ لا يذهب إلا بماء حار أو لا يذهب إلا بالإشنان أو كان في
فمه طعاماً متبقياً كثيراً يحتاج معه إلى استخدام العود الذي يخلل فيه بين
الاسنان: شرع ذلك.
ومفهوم عبارة المؤلف أنه إذا لم يحتج إليه فلا يفعل. = وهو كذلك عند
الحنابلة بل يكره إذا لم يحتج إليه الإنسان لأنه لم يأت في السنة.
• ثم قال رحمه الله:
ويقص شاربه ويقلم أظفاره.
قص الشارب وتقليم الأظافر ويضاف إليه نتف
الإبط:= يشرع مطلقاً عند الحنابلة.
واستدلوا على هذا بعدة أدلة:
- الدليل الأول: أن هذا من جملة التنظيف.
- الدليل الثاني: قياساً على الحي: لأنه كما شرع في الميت الغسل لأن فيه
تنظيفاً بلا مضرة فكذلك بالنسبة للميت.
= والقول الثاني: أنه لايشرع فعل ذلك إلا إذا زادت هذه الأشياء زيادة فاحشة
ظاهرة.
- لأن في تركها في هذه الحالة تقبيح لشكل الميت.
= والقول الثالث: أنه لا تشرع هذه الأشياء مطلقاً.
- لأنه لم يأت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم فعلوا
بالميت ذلك.
- ولأنه لا ينتفع الميت بمثل ذلك.
- ولأن الإبط والأظفار لا تظهر حتى تقبح وإنما تغطى وكذلك الوجه.
فصارت الأقوال: ثلاثة.
وأيها أرجح؟
نقول: إن المسألة فيها إشكال ولذلك فيها ثلاثة أقوال وأكثر العلماء على
الأخذ لكن يظهر لي أنه لا يؤخذ.
السبب:
- ما يمكن أن نطبق قاعدة الشافعي لأن قاعدة الشافعي تصلح فيما ينفع الميت
ولم يوجد سببه في عهد النبوة.
فوضع الحصا على البطن ربما لم ينتفخ أحد من الصحابة ولذلك لم يضعوه.
ومسألة وضعه على السرير وأشياء كثيرة ممكن أن لا يوجد لها سبب في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم لكن مسألة الشارب والأظفار والإبط موجودات في كل إنسان
ومع ذلك لم يذكر أبداً.
- ثم أن الميت لا ينتفع بهذا انتفاعاً ظاهراً.
- وأما أنه من سنن الفطرة فهذا خاص بالحي دون الميت.
- ثم إن الذين قالوا بأنها تؤخذ اشترطوا على من أخذها أن يضعها في الكفن
لدفن مع الميت لأنها من الميت.
ففي الحقيقة الأظهر والله أعلم أن لا يؤخذ هذا الشيء.
* * مسألة: مسألة العانة:
= ذهب الجماهير إلى أنها لا تؤخذ
- لما فيها من كشف العورة وهتك حرمة الميت.
= والقول الثاني: أن العانة تؤخذ
- لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه غسل ميتاً فجز عانته. ولا أعرف صحة هذا
الأثر لم أقف على صحته ولم أبحث في ذلك.
والراجح. القول الأول في الحقيقة. لأن هذا الأمر وهو نتف العانة ينبني عليه
كشف العورة وغاية ما يقال في نتف عانة الميت أنه سنة فلا نجعل هذا سبباً في
كشف عورته وهتك حرمته.
* * المسألة الأخيرة: الختان.
= الختان لم يختلف أصحاب الإمام أحمد رحمه
الله بلا نزاع أنه لا يختن الميت. فلو فرضنا أنه أسلم ومات قبل أن يختتن
فإنه لا يختتن أثناء تغسيله.
•
ثم قال رحمه الله:
ولا يسرح شعره.
لا يسن ولا يستحب للمغسل أن يسرح شعر الميت.
- خشية أن يقع ويتمزق.
- وأيضاً لأنه لم ينقل.
• ثم قال رحمه الله:
ثم ينشف بثوب.
يعني: بعد أن يغسل الميت وقبل أن يكفن يشرع أن ينشف.
- لأنه لو كفن وهو رطب لأدى ذلك إلى إفساد الكفن.
• ثم قال رحمه الله:
ويضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل وراءَها.
- لأن هذا جاء صريحاً في حديث أم عطية أن أم عطية ومن معها ضفرن شعر زينت
رضي الله عنها ثلاثاً وألقينه خلف ظهرها.
فهو سنة صريحة. وهذا كمال هو معلوم لا يقتضي التمشيط فإن ضفر الشعر لا يلزم
منه التمشيط وإنما تضفر الشعر إذا كان طويلاً ثلاث قرون ويوضع خلف الظهر.
• ثم قال رحمه الله:
وإن خرج منه شيءٌ بعد سبع: حشي بقطن.
يعني إذا غسله سبع مرات وما زال يخرج منه خارج من أحد السبيلين أو من الأنف
كما يحصل أحياناً بالمرضى أو من الفم فإنه بعد الغسلة السابعة يحشى الأنف
أو الفم أو أحد السبيلين بقطن.
- والتعليل: لأن لا يخرج منه بعد ذلك شيء فيلوث الميت.
• ثم قال رحمه الله:
فإن لم يستمسك: فبطين حر.
الطين الحر: هو الطين الخالص من التراب.
والطين إذا خلص من التراب صار أقوى في منع خروج الخارج.
وفيما يظهر لي الآن: أن القطن كفيل في أحيان كثيرة بمنع خروج الخارج، لكن
لو فرضنا أنه لم يستمسك فبالإمكان وضع هذا الطين.
•
ثم قال رحمه الله:
ثم يغسل المحل ويوضأُ.
= عند الحنابلة: ـ إذا خرج شيء قبل الغسلة السابعة فيجب أن نعيد الغسل
والوضوء.
ـ وإذا خرج بعد الغسلة السابعة فيجب أن نعيد الوضوء فقط.
- لأن طهارة هذا الميت انتقضت بخروج هذا الخارج.
= والقول الثاني: أنه إذا خرج منه شيء بعد الغسلة الأولى فإنه لا يعاد إلا
الوضوء فقط.
= والقول الثالث: أنه إذا خرج منه شيء لا يعاد لا الوضوء ولا الغسل وإنما
ينظف ويطهر محل هذه النجاسة.
والأرجح. القول الثالث.
والأحوط القول الثاني.
لأنه إذا غسل الميت الغسلة الأولى طهر
وانتهت مسألة الطهارة وصلح للصلاة. ومسألة خروج شيء بعد هذا لا ينقض هذا
الغسل.
- بدليل: أن خروج النجاسة من أحد السبيلين في غسل الجنابة لا ينقضها فكيف
بغسل الميت وهو لا شك أقل وجوباً وتحتيماً من غسل الجنابة.
فإذا غسلوه غسلاً كاملاً ولو خرج منه شيء لا يجب إعادة لا الغسل ولا الوضوء
وإنما يطهر هذا المحل الذي خرج منه النجاسة.
• ثم قال رحمه الله:
وإن خرج بعد تكفينه: لم يعد الغسل.
- وهذا بالإجماع: إذا كفنوه ثم لا حظو خروج نجاسة فإنه لا يعاد الغسل
بالإجماع لما في ذلك من مشقة ظاهرة.
• ثم قال رحمه الله:
ومُحْرِم ميت كحي: يغسل بماء وسدر.
يعني في جميع ما تقدم. - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء
وسدر). إلا ما سيذكر المؤلف مما يستثنى.
وقوله: يغسل بماء وسدر. لما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال في المحرم: (اغسلوه بماء وسدر).
ثم ذكر ما يستثنى:
•
فقال رحمه الله:
ولا يقرب طيباً، ولا يُلبس ذكر مخيطاً، ولا يغطى رأسه.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر ولا تحنطوه ولا
تغطوا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).
فقوله: (لا تحنطوه). دليل على أنه لا يمسه الطيب.
وقوله: (لاتغطوا رأسه). دليل على المنع من تغطية الرأس. لأن أحكام الإحرام
ما زالت باقية.
وها صحيح وحديث ابن عباس نص فيه.
ويستثنى من هذا إا كان الحاج تحلل التحلل الأول فيجوز أن نغطيه وأن نطيبه
وأن نفعل معه كل شيء لأن محظورات الإحرام زالت بالنسبة له بعد التحلل
الأول.
• قال رحمه الله:
ولا يغطى رأسه:
يفهم من حديث ابن عباس السابق ويفهم من كلام المؤلف جواز تغطية الوجه.
وفيه عن الإمام أحمد روايتان:
- الرواية الأولى: جواز تغطية وجه المحرم. وبناء عليه جواز تغطية وجه
الميت.
- والرواية الثانية: المنع من ذلك.
والخلاف مبني على رواية: (ولا تغطوا رأسه ولا وجهه). والصواب أن هذه
الزيادة ضعيفة.
وإذا كانت هذه الزيادة ضعيفة فيجوز أن يغطى وجه الميت ولا يغطى رأسه فيوضع
القماش على الوجه ويبقى الرأس مكشوفاًَ.
• ثم قال رحمه الله:
ولا وجه أُنثى.
ولا يغطى وجه الأنثى. - لأن إحرام المرأة
في وجهها عند الحنابلة فهي ممنوعة من تغطية الوجه من حيث هو بغض النظر عن
الآلة التي غطي بها الوجه.
= والقول الثاني: أن المرأة ممنوعة من تغطية الوجه بشيء معين هو النقاب
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين).
وهذا اختيار شيخ الاسلام رحمه الله.
بناء عليه: يجوز أن نغطي وجه المرأة الميتة بغير النقاب في الحج وللميتة.
والمنع من تغطية وجه المرأة رواية واحدة عن الإمام أحمد رحمه الله في تغسيل
الميتة بخلاف الحج.
والراجح أنه يغطى بغير النقاب.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يغسل: شهيد.
يعني أن المشروع عدم تغسيل الشهيد.
- لما ثبت في صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يغسل ولم يصل على شهداء أحد. فهذا نص على أن الشهيد لا يغسل ولا
يصلى عليه.
= وإلى هذا ذهب الجماهير.
وأصحاب هذا القول اختلفوا على قولين:
- منهم من قال: يحرم الصلاة وتغسيل الشهيد.
- ومنهم من قال: وهو مذهب الحنابلة: يكره.
فهم اتفقوا على أنه يمنع لكن بعضهم قال على وجه التحريم وبعضهم قال على وجه
الكراهة.
= والقول الثاني: - في أصل المسألة - أنه يصلى على الشهيد.
- لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري - خرج
إلى شهداء أحد فصلى عليهم كالصلاة على الميت بعد ثمان سنين من قبرهم
كالمودع لهم صلى الله عليه وسلم.
وفي الباب أحاديث لكن هذا الحديث في صحيح البخاري وهو أقوى هذه الأحاديث.
ومعنى قولنا: في الباب أحاديث: يعني توجد أحاديث تدل على وشروعية الصلاة
وتغسيل الشهيد.
= القول الثالث: أنه مخير إن شاء صلى وإن شاء لم يصل. وهذا اختيار ابن
القيم وعلل ذلك:
- باختلاف الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول - الأخير - هو الصواب بالنسبة
للصلاة. ولولا حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على شهدا
أحد لقلنا أن الصواب أنه لا يصلي ولا يشرع أن يصلي. لكن هذا الحديث قطع في
الحقيقة الخلاف والذين رأوا أنه لا يصلى قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يصل عليهم صلاة الجنازة وإنما دعل لهم فقط وخرج كالمودع لهم بدليل أنه
لم يصل بجماعة ولم يطلب أصحابه ليصفوا خلفه لكن هذا الكلام مع أنه قوي يجول
بيننا وبينه أنه في صحيح البخاري بالنص: (وصلى عليهم صلاة الجنازة). أو
الصلاة على الميت. هذا لفظ البخاري وحاول بعض الباحثين أن يثبت أن هذا ليس
لفظاً في البخاري والصواب أنه ثابت في صحيح البخاري في جميع النسخ أنه قال:
فصلى عليهم صلاة الميت أو الصلاة على الجنازة. فهذا نص في الحقيقة صريح.
ولذلك نقول أن الصواب إن شاء الله كلام ابن القيم أن الإنسان مخير إن شاء
صلى وإن شاء لم يصل.
ولكن مع القول بالتخيير فهل الأولى أن يصلي أو لا يصلي؟
= من الفقهاء من قال: الأولى أن يصلي: لأن في الصلاة دعاء وبركة للميت.
والصواب والله أعلم: أنه أحياناً يصلي وأحياناً لا يصلي كما فعل النبي صلى
الله عليه وسلم فأحياناً صلى وأحياناً لم يصل لأنه لو قلنا أنه مخير
والأولى أن يصلي لنتج عن هذا أن يصلى دائماً على الميت فتنسى سنة أنه لا
يصلى على الشهيد.
(((وهذا البحث كله في مسألة الصلاة لأن المؤلف يقول: ولا يصلى عليه ونكون
بهذا شرحنا قوله: ولا يصلى عليه.
نرجع إلى تغسيل الميت:
ذكرنا أن الأئمة الأربعة والجماهير يرزن أنه لا يغسل وأنه اختلف هل هذا على
سبيل التحريم أو الكراهة؟
هذا كله في الغسل فقط.
هناك قول يرى بعضهم أنه شاذ لكن نحن لا نقول أنه شاذ وهو مروي فقط عن اثنين
من التابعين الحسن وابن المسيب فهؤلاء يرون أن الشهيد يغسل مخالفين لآراء
جماهير أهل العلم.
واستدلوا على هذا:
- بأن التغسيل إكرام وأحق الناس بالإكرام هو الشهيد.
لكن هذا تعليل في مقابلة النص لأنه في حديث جابر في البخاري أن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد)))
إذاً نرجع ونلخص هذه المسألة:
مسألة تغسيل الشهيد:
= الجماهير والجم الغفير يرون أنه لا يغسل.
ويستدلون بحديث جابر في البخاري أنه لم يغسل شهداء أحد.
= والقول الثاني: ينسب إلى الحسن البصري وسعيد بن المسيب. أنههم يرون أنه
يغسل إكراماً للشهيد وهو تعليل في مقابلة النص.
والصواب إن شاء الله مع الجماهير.
•
ثم قال رحمه الله:
إلاّ أن يكون جنباً.
وحينئذ عند الحنابلة يشرع أن يغسل الجنب.
ويستدلون بأن حنظلة رضي الله عنه خرج لما سمع الداعي مقاتلاً في سبيل الله
ثم قتل فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة يغسلونه بين السماء
والأرض فقال: ما شأنه اسألوا زوجه. فلما سألوها قالت: خرج جنباً.
فاستدلوا بذلك على أنه يغسل إذا كان عليه جنابه.
= وذهب الجماهير - مخالفين للحنابلة - إلى أن الشهيد لا يغسل ولو كان
جنباً.
واستدلوا على ذلك:
- بعموم حديث جابر.
والجواب عن حديث حنظلة. أنه ليس فيه تغسيل لأن الصحابة لم يغسلوا حنظلة
وإنما الذين غسلوه الملائكة فنحن نقول إذا غسلته الملائكة فهنيئاً له ولكن
نحن لا نغسل الشهيد ولو كان جنباً.
• قال رحمه الله:
ويدفن بدمه في ثيابه.
يعني أن الميت الذي قتل في سبيل الله يدفن في ثيابه وهذا بلا خلاف بين أهل
العلم.
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وادفنوه في ثيابهم). هذا الحديث حسنه
بعض المتأخرين والصواب أنه ضعيف.
لكن يشهد له الحال فإن له شواهد كثيرة تقويه إن شاء الله ولا نقول أنه حسن
لكن مع الإجماع الذي في المسألة يصلح للاستدلال.
• ثم قال رحمه الله:
بعد نزع السلاح والجلود عنه.
- لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنزع الحديد والجلود عن أهل بدر. وهذا
الحديث هو نفسه الحديث السابق حسنه بعض المتأخرين وإسناده فيه ضعف لكن
تقويه المعاني العامة والظواهر لأن الشهيد لا يستفيد من دفنه بسلاحه وعتاده
وجلده.
بقي أن نقول: من هو الشهيد؟ لم نعرف الشهيد.
الشهيد هو: من قتل في سبيل الله أي: لتكون كلمة الله العليا. على أن يقتل
أثناء الحرب مع الكفار.
فإن قتل بعد ذلك سيأتينا نص المؤلف على حكمه لكن نقول الآن أن الشهيد
المقصود به هنا: هو من قتل في المعركة أثناء القتال لتكون كلمة الله هي
العليا.
•
ثم قال رحمه الله:
وإن سلبها كفن بغيرها.
إذا قتل هذا الشهيد وسلب ماله أو لباسه كفن
بغيرها على سبيل الوجوب.
لأن مصعب رضي الله عنه لما قتل لم يجدوا معه إلا ما يغطي الرأس دون القدمين
أو القدمين دون الرأس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يغطوا الرأس
ويجعلوا على القدمين الإذخر.
فهذا دليل أنه إذا كان معه ما لا يكفي وجب على الإمام أن يكفنه بما تيسر.
وهذا لا إشكال فيه أنه إذا سلب أو مزقت ثيابه كما يحصل الآن فإنه يشرع أن
يكفن بل يجب أن يكفن.
• ثم قال رحمه الله:
ولا يصلى عليه.
وذكرنا الخلاف على ثلاثة أقوال والراجح في ذلك.
انتهى الدرس
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا بالأمس الكلام على مسألة دفن الميت بثيابه ومسألة حكم الصلاة
عليه وقبل أن ننتقل إلى [حكم السقط] أشير إلى إضافة في مسألة دفن الميت في
ثيابه فقد ذكرت أنه يدفن في ثيابه وأن هذه المسألة محل إجماع وأن فيها حديث
وهو حديث جابر رضي الله عنه أن شهداء أحد دفنوا في ثيابهم.
يضاف إلى هذا كله أن هذا ليس على سبيل الوجوب بل يجوز أن نخلع ثياب الشهيد
وأن نكفنه.
بدليل:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد معركة أحد - وهذا حديث صحيح - جلس هو
وأصحابه وكان القتلى يملؤون الأرض وبعضهم مثل به فرأى النبي صلى الله عليه
وسلم من بعيد امرأة فقال صلى الله عليه وسلم: (المرأة المرأة) فقال الزبير
وقع في ذهني أنها أمي - هم لا يدرون من هي بسبب البعد - فأخذ يجري ليردها
عن القتلى بسبب ما هم عليه من التمثيل والتشويه فلما وصل فإذا هي صفية -
أمه رضي الله عنها - فقالت: إليك عني - وكانت امرأة جلدة - فقال: لقد عزم
عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوقفت ثم قالت: إليك هذين الثوبين فكفن
فيهما حمزة فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الثوبين وكفن حمزة في واحد وكفن
أنصارياً آخر في الثوب الآخر.
ففي هذا الحديث دليل على أنه يجوز أن نكفن الشهيد وحمزة رضي الله عنه سيد
الشهداء بثوب آخر.
نبدأ بدرس اليوم:
• قال رحمه الله:
وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً ولا أثر به
... غسل وصلي عليه.
إذا سقط من دابته فمات أو وجد ميتاً ساقطاً على الأرض ولا أثر عليه ولو كان
في أرض المعركة ولو كان في الوقت الذي تدور فيه المعركة فإنه يغسل ويصلى
عليه.
وهذا باتفاق الأئمة كلهم إلا الشافعي.
والدليل على ذلك:
- أن الذي لا يغسل ولا يصلى عليه هو من باشر الكفار قتله. وأما هذا فلم
يباشر الكفار قتله وليس عليه أثر القتل.
وفهم من قول المؤلف رحمه الله: ولا أثر به. أنه إن وجد ميتاً قريباً من
المعركة وفيه آثار من سيف أو رمح أو سهم فإنه يعتبر شهيداً ولا يغسل ولا
يصلى عليه.
وهذا صحيح: لأن الغالب أن هذا الرجل الذي مات بقرب المعركة وهو من جنود
المسلمين في وقت دوران المعركة أن موته بسبب إصابة الكفار والإسلام يبني
الأحكام غالباً على الظاهر والظاهر أنه قتله الكفار.
• ثم قال رحمه الله:
أو حُمِلَ فَأَكَلَ، أو طال بقاؤُه: غسل وصلي عليه.
إذا حمل من المعركة وإن كان جرح جرحاً بليغاً يؤدي غالباً إلى الوفاة لكنه
بقي على قيد الحياة وحمل وبعد أن حمل أكل فإنه لا يعتبر في باب الغسل
والصلاة من الشهداء وإن كان - إن شاء الله - عند الله شهيد لَكِنَّ من هذا
حاله يغسل ويصلى عليه.
وكذلك إذا نقل وطال الوقت بين نقله من المعركة وبقائه حياً - طال الوقت
عرفاً - فكذلك يغسل ويصلى عليه.
الدليل على هذه الأمور: من وجهين:
- الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل وصلى على سعد بن معاذ مع أنه مات
بأثر جرح وقع في المعركة.
- الثاني: أنه إذا أكل دل ذلك على أن فيه حياة مستقرة.
فلهذين الدليلين نقول أن من أكل أو نقل وبقي وقتاً طويلاً حياً فإنه يغسل
ويكفن ولا يعامل في هذا الباب معاملة الشهيد لما ذكرت من أدلة.
* * مسألة: إذا نقل فشرب ولم يأكل: - يعني: استطاع أن يشرب ولم يستطع أن
يأكل -:
= فعند الحنابلة في قول كذلك: لا يعامل معاملة الشهيد في باب الغسل
والصلاة.
= والقول الثاني: - الذي رجحه المرداوي وغيره من محققي الحنابلة - أنه ليس
كذلك. بل إذا نقل فشرب ثم مات لا يغسل ولا يصلى عليه لأن القتيل أو المجروح
قد يشرب وهو في سياق الموت ولكن لا يمكن أن يأكل وهو في سياق الموت.
ولذلك نقول لا يستوي الأكل والشرب في هذا
الباب.
(فاحفظ هذا الموضع فهو من المواضع القليلة التي يختلف فيها حكم الأكل عن
الشرب).
• ثم قال رحمه الله:
والسقط إذا بلغ أربعة أشهر: غسل وصلي عليه.
السقط فيه مسائل:
ـ المسألة الأولى: تعريفه: السقط هو: كل جنين سقط من بطن أمه قبل تمام
مدته.
ـ المسألة الثانية: قوله: (إذا بلغ) يعني: إذا تم له أربعة أشهر.
ـ المسألة الثالثة: تحرير محل النزاع في هذه المسألة وهو كالتالي:
- أولاً: اتفق الفقهاء على أن الجنين إذا سقط حياً واستهل صلي عليه وغسل
بالإجماع.
- ثانياً: اتفق الفقهاء - إلا من قد نقول أنه شذ - على أنه إذا سقط قبل
الأربعة أشهر فإنه لا يصلى عليه ولا يغسل.
- ثالثاً: - في محل البحث - إذا سقط بعد الأربعة أشهر:
= فذهب الجمهور إلى أنه يغسل ويصلى عليه ويسمى.
واستدلوا على ذلك: - بأنه نفخت فيه الحياة فصار بذلك إنساناً له أحكام بني
آدم.
وهذا القول هو الصواب الذي يدل عليه حديث ابن مسعود فإنه قال: (إن أحدكم
يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفه وأربعين يوماً علقه وأربعين يوماً
مضغة - هذه أربعة أشهر ثم قال: (ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح).
فإذا سقط الطفل بعد الأربعة أشهر يغسل ويكفن ويصلى عليه ويسمى ويعق عنه -
وسيأتينا.
•
ثم قال رحمه الله:
ومن تعذر غسله يمم.
إذا تعذر على الناس غسل هذا الميت لأي سبب من الأسباب لكونه متمزق أو لكونه
إذا غسل تضرر وتقطع أو لأي سبب من الأسباب فإذا لم يمكن أن يغسل فإنه ييمم.
الدليل على ذلك:
- قياساً على حال الحياة فإن الإنسان إذا لم يستطع أن يغتسل غسلاً واجباً
عدل إلى التيمم.
= القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد. أنه إذا لم نتمكن من غسله فإننا
ندفنه بلا غسل ولا تيمم.
واستدل هؤلاء:
- بأن غسل الميت: المقصود منه تنظيفه. والتيمم لا يزيده إلا اتساخاً.
وهذا القول الثاني: أقرب. فإذا لم نتمكن من غسله يدفن على حاله.
• ثم قال رحمه الله:
وعلى الغاسل ستر ما رآه: إن لم يكن حسناً.
شمل كلام المؤلف - رحمه الله - مسألتين:
ـ المسألة الأولى: أنه يجب وجوباً على الغاسل أن يستر ما رآه سيئاً من
أحوال الميت.
واستدلوا على هذا بأدلة كثيرة منها:
- الدليل الأول: قول النبي - صلى الله عليه
وسلم -: (من غسل مسلماً فستره غفر له أربعين مرة) وهذا الحديث إسناده إن
شاء الله تعالى - حسن.
- الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من ستر مسلماً ستره الله).
- الدليل الثالث: أن هذا من الغيبة وهي من الكبائر.
فلاشك أنه المغسل يجب عليه وجوباً أن يستر ما رآه من أحوال الميت السيئة
فإن أشاع ذلك فهو آثم.
واستثنى بعض الفقهاء من هذا مسألتين:
- المسألة الأولى: إذا كان الميت معروفاً ببدعة شنيعة. وهو يدعو إليها.
فقال بعض الفقهاء: يجوز أن نخبر بأحواله السيئة تنفيراً عن ما يدعو إليه من
البدعة والخروج عن الدين.
- المسألة الثانية: استثنى الفقهاء أن نخبر عن أحوال بعض الموتى السيئة
بدون تسمية. ليتعظ الناس.
ـ المسألة الثانية: (التي شملها كلام المؤلف) أنه ينبغي للمغسل أن يظهر ما
رآه حسناً على الميت.
وهذا على سبيل الاستحباب لا الوجوب بخلاف المسألة الأولى.
الدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: ليكثر الترحم والدعاء له.
- الوجه الثاني: - وهو في الأهمية كالوجه الأول - ليحصل التأسي بجميل
سيرته.
وهذا صحيح. ينبغي على المغسل أن يظهر الأحوال الطيبة التي يراها على بعض
الموتى.
وقد ذكر عن السلف أشياء كثيرة من العلامات الحسنة بعد الموت بغض النظر عن
حال السياق فبعد الموت نقل عنهم أشياء كثيرة يحسن بطالب العلم أن يقرأها في
مظانها.
فصل
[في تكفين الميت]
• ثم قال رحمه الله:
فصل
هذا الفصل مخصص للتكفين وهو الترتيب المنطقي بعد التغسيل.
• يقول - رحمه الله -:
يجب كفنه: في ماله ... إلى آخره ...
الكفن هي: الثياب التي يلف بها الميت.
والتكفين لغة: التغطية.
وشرعاً: إلباس الميت ثياب الموت.
فعرفنا ماهو الكفن وما هو التكفين لغة واصطلاحاً.
• يقول - رحمه الله -:
يجب كفنه: في ماله مقدماً على دين وغيره.
يعني: ومقدم على الوصية ومقدم على الإرث فهو مقدم على الدين والوصية
والإرث.
إذاً الكفن هو أول شيء يبدأ به من تركة الميت.
والدليل على هذا:
- أن الحي المدين الذي لا يملك إلا ثوبه لا يجب عليه أن يدفعه في سداد
الدين فكذلك كفن الميت.
وهذا صحيح. أن أول ما نبدأ به هو كفن الميت.
ويلحق بالكفن كل ما لا بد منه للميت. فكل
شيء لا بد منه: من أجرة حمل وتغسيل وكفن وأجرة حفر القبر فكل ما لا بد منه
يقدم على الدين والوصية والإرث.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن لم يكن له مال: فعلى من تلزمه نفقته.
- فعلى من تلزمه نفقته: أي: في الحياة.
فالشخص الذي تلزمه نفقة هذا الميت في الحياة يلزمه الكفن.
الدليل على ذلك:
- أنه تلزمه نفقته في الحياة فكذلك في الممات.
ثم إذا لم يوجد له منفق ننتقل إلى المرتبة الثانية وهي: بيت المال.
ثم إذا لم يوجد نفقة من بيت المال ننتقل إلى المرتبة الثالثة وهي: عامة
المسلمين فمن علم بحاله وجب عليه أن يبذل كفنه.
فإذاً: صارت المراتب أربع:
1 - في ماله.
2 - ثم من تجب عليه نفقته.
3 - ثم في بيت المال.
4 - ثم على عامة المسلمين.
لا ننتقل من مرحلة حتى نعجز عن السابقة.
• ثم قال - رحمه الله -:
إلاّ الزوج لا يلزمه كفن امرأته.
= ذهب الحنابلة والمالكية ونصره ابن حزم إلى أن الزوج لا يلزمه أن يبذل كفن
الزوجة بعد الموت.
واستدلوا بأمرين:
- الأول: أن النفقة إنما وجبت لتمكين الزوجة الزوج من الاستمتاع وبعد الموت
لا يوجد استمتاع.
- الثاني: أن الواجب على الزوج النفقة والكسوة. وكفن الزوجة لا يسمى ولا
كسوة لا شرعاً ولا عرفاً.
= والقول الثاني: أنه يجب على الزوج أن يبذل كفن زوجته.
واستدلوا على هذا:
- بأن الله سبحانه وتعالى أمر بالمعاشرة بالمعروف وهذا منها.
- الثاني: أن علاقة الزوجة بالزوج لم تنه بالموت بدليل: الإرث وجواز
التغسيل فيلحق بذلك الكفن.
ومن وجهة نظري أن الخلاف قوي ولكن عامة المتأخرين على ترجيح القول الثاني
وهو وجيه وهو أنه تلزم الزوج النفقة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويسن تكفين رجل: في ثلاث لفائف ... إلى آخره:
بدأ المؤلف بذكر الكيفية التفصيلية للتكفين وبدأ بالرجل ثم يذكر المرأة.
وبدأ بما يسن ويستحب ثم سيذكر الواجب.
- فالسنة بالنسبة للرجل أن يكفن في ثلاث ثياب.
- لحديث عائشة الصحيح أنها قالت: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
ثلاثة أثواب سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة.
والثوب السحولي: هو ثوب أبيض نقي لا يكون إلا من قطن. وهو منسوب إلى مدينة
في اليمن.
ففي هذا الحديث دليل على أن الأفضل والأولى
للرجل أن يكفن في ثلاث أثواب فقط.
* * مسألة: فإن زيد على هذه الثلاثة فهو:
= مكروه عند الحنابلة. لوجهين:
- الأول: أنه مخالف للسنة ولم يكن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
ليختاروا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل.
- الثاني: لما فيه من إسراف من غير حاجة فإن الثلاثة تكفي وزيادة.
• ثم قال - رحمه الله -:
بيض.
يعني: أنه يسن في هذه اللفائف أن تكون بيضاء.
والدليل على أن الكفن يسن أن يكون أبيضاً من ثلاثة أوجه:
- الأول: حديث عائشة السابق. فهو نص أنها بيض.
- الثاني: الإجماع فقد أجمعوا على أنه يستحب أن يكون الكفن أبيضاً.
- والثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير ثيابكم البياض إلبسوها
وكفنوا فيها موتاكم). وله ألفاظ وهو صحيح إن شاء الله.
وعرفنا من قول المؤلف - رحمه الله -: ويسن. أنه يجوز أن يكون الكفن أحمراً
أو أسوداً أو أخضراً أو بأي لون عدا الأبيض وإنما كونه أبيض فقط مستحب.
• ثم قال - رحمه الله -:
تجمر.
يعني: يستحب أن نجمر اللفائف.
والدليل على هذا من وجهين:
- الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أجمرتم الميت فأجمروه
ثلاثاً). وهذا إسناده حسن.
- الثاني: أنه فعله عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واستحب الفقهاء قبل التجمير أن نجعل في الكفن ما يسبب مسك الرائحة وبقائها
كأن نبلله بماء أو بدهن ورد سائل أو بأي سائل يسبب مسك الرائحة وبقائها في
الكفن.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ثم يبسط بعضها فوق بعض.
يعني: أن المشروع أن نبسط الثلاث لفائف بعضها فوق بعض ونجعل السفلى منها هي
الأكبر والأجمل لأنها التي ستكون ظاهرة.
ويستحب أن يجمل الميت كما يجمل الحي. كا أنا نلبس أثناء الحياة في الأعلى
الأجمل فكذلك في تكفين الميت.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجعل الحنوط فيما بينها.
أفادنا المؤلف:
- أولاً: أن الحنوط سنة وأنه يوضع بين الأكفان لا في الأعلى منها.
أما الدليل على أنه سنة: - فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولاتحنطوه)
فهذا دليل على أن الحنوط مشروع ومعروف بين النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه في كفن الموتى.
- ثانياً: أنه يكون بين الأكفان ولا يوضع
في الأخير. - لأنه روي عن أبي بكر الصديق وعمر - رضي الله عنهما - وغيرهما
من الصحابة كراهية ذلك وهو أن يكون الحنوط في الكفن الأعلى وإنما يكون بين
الأكفان.
والحنوط هو: أخلاط من الطيب تصنع للميت ولا تسمى بهذا الاسم إلا إذا وضعت
وصنعت للميت.
• قال - رحمه الله -:
ثم يوضع عليها مستلقياً.
إذاً صفة وضع الميت على الأكفان أن يكون مستلقياً.
والتعليل: - أن هذا أمكن في إدراجه وشد الكفن عليه.
واستحب الفقهاء أن تستر عورة الميت أثناء نقله من المكان الذي غسل فيه إلى
مكان الأكفان.
والصواب: أنه واجب. لأنه تقدم معنا أن ستر عورة المغسل واجب فإذا أراد أنه
ينقله يجب ان يغطي عورته سواء كانت امرأة أو رجل.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويجعل منه في قطن بين أليتيه.
يجعل منه: الضمير يعود إلى الحنوط. يعني أنه يغمس القطن في الحنوط ثم يجعل
منه بين إليتيه.
والغرض من ذلك: تحقيق مصلحتين:
- الأولى: منع خروج ما قد يخرج من النجاسات.
- والثانية: نشر الرائحة الطيبة.
فإذاً يسن أن يصنع هكذا بالميت.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف: كالتبان تجمع أليتيه ومثانته.
يشرع إذا وضع الإنسان القطنة أن يصنع هكذا.
فقوله: فوقها: يعني فوق هذه القطنة. يشرع أن يشد عليها خرقة تشبه التبان
وهو السروال القصير.
والغرض أيضاً من هذا الشد: أن نأمن خروج شيء ونأمن بقاء هذا القطن بما فيه
من حنوط.
فهذا هو سبب وضع مثل هذه الخرقة.
وتقدم معنا قاعدة الشافعي وهي تصلح للتطبيق هنا إن شاء الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجعل الباقي.
مقصوده بالباقي: يعني من القطن المحنط.
• قال:
على منافذ وجهه ومواضع سجوده.
توضع على منافذ الوجه يعني: في العينين من الخارج وبين الشفتين وفي
المنخرين. هذه هي منافذ الوجه.
والغرض من وضع ذلك:
- أولاً: لكي لا يدخله الهوام.
- ثانيا: لكي لا يسرع له الفساد فإنهم يقولون أن وضع مثل هذه الأشياء في
منافذ الوجه يبطئ من الفساد.
وتقدم معنا أنه اليوم هناك وسيلة تمنع الفساد وهي الثلاجة.
فإذاً نضع في المنافذ هذه القطنة وفي الأذنين.
إذاً: في كل منافذ الوجه.
ـ أما مواضع السجود فالغرض منه: تكريم هذه
المواضع ليس إلا. لأنها أشرف مواضع البدن لكون الإنسان يباشر السجود عليها
لله سبحانه وتعالى.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن طيب كله فحسن.
يعني: إن طيبنا الميت كله فهذا جيد وحسن.
والدليل على هذا:
- أن الصحابة فعلوا ذلك كابن عمر وغيره فعل ذلك: طيب جسد الميت كله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر فوقه.
لا حظ قوله: (ثم يرد طرف اللفافة العليا). أي من الجانب الأيسر للميت لا
للمغسل. فنرد الطرف إلى الجانب الأيمن ثم نرد طرف اللفافة الأيمن إلى
الجانب الأيسر ونصنع هكذا باللفائف الثلاث.
= وقيل العكس: إما من اليمين إلى اليسار.
وقيل: الأمر سواء. وهذا هو الأقرب أنه إن رأى أن يشد الميت هكذا أو هكذا
فالأمر فيه حسن.
• ثم قال - رحمه الله -:
ثم الثانية والثالثة كذلك.
يعني: يصنع بها ما صنع باللفافة الأولى.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجعل أكثر الفاضل على رأسه.
يعني: إذا فضل شيء من اللفائف التي يكفن بها الميت يجعل هذا الفاضل من جهة
الرأس.
لأمرين:
- الأول: لشرف الرأس.
- الثاني: أن تغطية الرأس أوجب من تغطية الرجلين لما تقدم معنا في حديث
مصعب - رضي الله عنه -.
• ثم قال - رحمه الله -:
ثم يعقدها.
يعني: ثم يربط اللفائف. وذلك خشية الانتشار وتفكك الكفن.
وسواء عقد اللفائف هي بذاتها كما يصنع عند العض أو ربطها بالأحزمة فإن
الأمر واحد لأن المقصود أن نأمن انتشار وانفكاك هذه اللفائف التي كفن فيها
الميت.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتحل في القبر.
يعني: أن السنة إذا وضعنا الميت في القبر أن نحل هذه اللفائف.
الدليل: - قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وضع مسعود بن نعيم
فل عنه هذه اللفائف وكان مربوطاً بشوكة فنزع هذه الشوكة - صلى الله عليه
وسلم -.
- وأيضاً روي عن اثنين من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا إذا وضعوا
الميت في القبر حلوا عنه هذه اللفائف.
- ويستدل أيضاً على حل اللفائف أن المقصود من اللفائف هو أن نأمن انتشار
وتفكك الكفن وهذا في القبر مأمون لكون الميت لا يتحرك لكونه في اللحد.
ففي الحقيقة حل الكفن هذا لا بأس به وهو
مستحب. صحيح أنه ليس في السنة نص صريح لكن وجود هذه الآثار مع المعنى القوي
يجعل الإنسان يجزم إن شاء الله بأن هذا مستحب.
وأما حديث نعيم بن مسعود فلم أتمكن من النظر في إسناده ولو صح لكان سنة
منصوصة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة: جاز.
يعني: إن كفن في ثلاث لفائف فهذه هي السنة.
وإن كفن في ثلاث ثياب ليست لفائف وإنما كما قال: قميس ومئزر فيجوز أيضاً.
والدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى قميصه لعبد الله بن أبي وكفن فيه.
فهذا دليل على أنه يشرع ويجوز أن نكفن الميت بقميص.
وأما طريقة ذلك: فنجعل الأول المئزر ثم القميص ثم فوق الجميع اللفافة إذا
أردنا أن نكفن بهذه الأشياء لا باللفائف.
وأخذنا الآن أنه جائز والسنة أن تكون باللفائف.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتكفن المرأة: في خمسة أثواب.
في تكفين المرأة مسائل:
ـ المسألة الأولى: أن المرأة والخنثى حكمهما واحد فطريقة تكفين المرأة هي
طريقة تكفين الخنثى.
ـ المسألة الثانية: قوله - رحمه الله -: (في خمسة ثياب) يعني: من قطن وبيض.
ـ المسألة الثالثة: لم أر خلافاً بين الفقهاء أن كفن المرأة يختلف عن كفن
الرجل إلا قول لبعض المعاصرين.
ولا حظ: ماذا أقول؟ أقول أنه يختلف كفن المرأة عن كفن الرجل ولم أتحدث عن
عدد الثياب التي تكفن فبها المرأة.
فإن قيل: أن ابن قدامة - رحمه الله - ذكر أن عطاء - رحمه الله - يرى أن
المرأة تكفن في ثلاث ثياب.
قالجواب: أن الصواب في أثر عطاء - رحمه الله - كما رواه عبد الرزاق في
مصنفه أنه قال: تكفن المرأة في ثلاث ثياب ويوضع فوقها لفافة فصار المجموع
أربع فلفظه يدل على أن الثياب التي تكفن فيها المرأة أربع وليست ثلاث كما
ساقه ابن قدامة - رحمه الله -.
ثانياً: فإن قيل: أنه روي عن بعض السلف غير عطاء كسليمان بن موسى أنها
ثلاث.
فالجواب: صحيح أما عن سليمان فثلاث لكن ذكر من الثلاث الخمار والقميص. ونحن
نقول أن كفن المرأة يختلف عن كفن الرجل بغض النظر عن عدد الثياب.
فإذاً قول بعضهم أن الأقرب أن كفن الرجل
ككفن المرأة ليس بصحيح بل إنه فيما أرى مخالف للإجماع فبعد البحث لم أجد
أحداً ساوى بين كفن المرأة والرجل.
ـ المسألة الأخيرة: عدد الثياب. في كم تكفن المرأة؟
= ذهب الجماهير والجم الغفير واختاره ابن المنذر وابن حزم وعدد من السلف أن
المرأة تكفن في خمسة ثياب.
وتكفين المرأة في خمسة ثياب صح عن ابن سيرين والنخعي والشعبي وغيرهم من
السلف بإسناد صحيح. وابن حزم أخذ بهذه الآثار عن هؤلاء الأربعة.
الدليل على أنها خمسة ثياب:
- أنه روي في طريق من حديث أم عطية خارج الصحيح: أنهن - النساء اللاتي غسلن
ابنت النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب - كفنها في خمسة ثياب وجعلن عليها
خماراً كما تخمر الأحياء.
وابن حجر يقول عن هذا الحديث أن إسناده صحيح.
وروي بإسناد ضعيف أن أم كلثوم ابنت النبي - صلى الله عليه وسلم - كفنت في
خمسة ثياب.
فالعمدة في مسألة عدد ثياب المرأة أثناء التكفين - هذا الطريق في حديث أم
عطية والآثار الصحيحة الثابتة عن السلف.
فهذان دليلان يستطيع الإنسان أن يجزم بهما ثم هو قول عامة الفقهاء.
= القول الثاني: أنها تكفن في ثلاث ثياب.
= والقول الثالث: أنها تكفن في أربع ثياب.
= والقول الرابع: أنها تكفن في سبع ثياب.
والصواب: أنها تكفن في خمس ثياب.
واختلفوا في هذه الثياب. ماذا تكون؟
الصواب أنها على ما ذكر المؤلف وهي: إزار وخمار. وقميص ولفافتين
والإزار: هو ما يستر به الجزء الأسفل من البدن.
والخمار هو الذي يغطى به الرأس.
والقميص: هو الدرع وهو معروف.
فهذه الأثواب الخمس هي الصواب وهو قول الجماهير واختيار ابن المنذر. أن
تحديد الثياب هي هذه الثياب التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه في البخاري أنه أعطى النساء اللاتي
غسلن زينب إزاره وقال: (أشعرنها إياه).
والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد. فأعطاهم - صلى الله عليه وسلم - إزاره.
فإذاً إذا أردنا أن نكفن المرأة فنجعل عليها هذه الثياب الخمس.
فنبدأ بالإزار ثم نضع فوق الإزار القميص ثم نضع فوق القميص الخمار ثم نلف
اللفافتين على جميع الجسد.
هذا هو السنة. ويراعى في المرأة ما قيل في
الرجل في مسألة القطن والحنوط فإن المؤلف لم يكرر في المرأة ما لا يحتاج
إلى تكراره مما ذكر في حق الرجل.
فالمرأة تختلف عن الرجل فقط في الثياب مما ذكر المؤلف وفيما عدا هذا
يستويان تماماً.
وبعد أن سألت تبين لي أن عمل الناس عندنا على هذا القول: أن المرأة تكفن في
خمس ثياب وهذا موافق للسنة ولله الحمد.
إلا أني فهمت أن تغسيل المرأة الآن يختم بوضع غطاء على الجزء الأسفل من
البدن. يعني يغطون الفم خشية خروج الدم.
ونحن الآن درسنا أن الفقهاء يرون أنه إذا خشينا من خروج الدم أن نضع قطن
فمن وجهة نظري أنهم لو وضعوا قطن لكانأولى لا سيما وأن القطن يتقبل وضع
الحنوط فيه والطيب بخلاف اللفافة على الفم.
لكن مع ذلك لا نستطيع أن نقول أن هذا عمل غير مشروع لأن وضع القطن إنما
استحبه الفقهاء لمصلحة الميت وليس فيه نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا رأى المغسل أن مصلحة الميت أكثر في وضع هذه الغطاء على الفم خشية خروج
الدم فأرى أنه لا بأس إن شاء الله لكن تحرص المغسلة أن تضع على هذا اللثام
طيب لينوافق عملها مع ما ذكره الفقهاء.
ثم ختم المؤلف - رحمه الله - هذا الفصل ببيان الواجب في الكفن بعد أن بين
السنة أراد أن يبين الواجب أي: الذي لا يجوز الاقتصار على دونه.
• فقال - رحمه الله -:
والواجب: ثوب يستر جميعه.
فالواجب ثوب يستر جميع بدن الميت سواء في ذلك المرأة والرجل.
والدليل على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع بمصعب فإنه لم يوجد له إلا ثوب
واحد فستره به.
- أضف إلى هذا أن المنصوص في حديث الزبير وصفية أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كفن حمزة بثوب واحد.
فهذان دليلان على أن الواجب في التكفين أن يغطى الميت بثوب واحد.
= القول الثاني: أن الواجب في المرأة والرجل فقط ستر العورة. فلو قام
المغسل بستر عورة الميت فقط لصح الكفن وجاز وصار أدى فرض الكفاية.
= وزالقول الثالث: أنه يجب ستر جميع بدن المرأة والعورة من الرجل. يعني:
التفريق بين المرأة والرجل.
فصارت الأقوال ثلاثة.
والصواب القول الأإول لأنه مؤيد بدليلين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبهذا تم البحث في ما يتعلق بمسألة التكفين
وبقي ما يتعلق بالصلاة ثم في آخر الباب مسألة الزيارة والتعزية وما يتعلق
بها.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ....
انتهى الدرس
فصل
[في الصلاة على الميت]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
لما أنهى المؤلف الكلام عن طريقة تكفينه الميت وما هي أجزاء الكفن وحكم
الكفن انتقل إلى الصلاة.
وبدأ في الصلاة من أول مراحل الصلاة وهي موقف الإمام من المأموم.
• فقال - رحمه الله -:
السنة: أن يقوم الإمام عند صدره.
فيه مسائل:
- المسألة الأولى: أن مكان وقوف الإمام من الميت سنة فإذا وقف في أي مكان
تجاه الميت صحت الصلاة بلا كراهة.
- المسألة الثانية: موقف الإمام من الرجل وموقفه من المرأة.
نبدأ بالمسألة الأولى وهي: موقف الإمام من الرجل.
= موقف الإمام من الرجل: عند الحنابلة: أن يقف عند الصدر كما قال المؤلف -
رحمه الله -. وهذا هو المذهب الاصطلاحي عند الحنابلة.
= والقول الثاني: أن السنة أن يقف عند رأس الرجل.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف عند رأس الرجل ووسط المرأة.
= والقول الثالث: أن الإنسان إذا وقف عند الرأس أو الصدر فالأمر بسيط
لتقارب المكانين.
فإن الإمام في الحقيقة إذا وقف أمام الصدر فهو واقف أمام الرأس.
والراجح: أنه يقف أمام الرأس. باعتبار أن الحديث الصحيح ورد بذلك فنلتزم
بالحديث الصحيح ثم قد يميل الإمام يمين كثيراً فلا يصدق عليه إلا أنه أمام
الرأس.
إذاً قوله: أن السنة أن يقوم الإمام عند صدره. أخذنا الآن الخلاف وأن في
المسألة ثلاثة أقوال وأن الراجح أنه يقف عند الرأس وأنه اختيار بن قدامة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وعند وسطها.
يعني يقف الإمام عند وسط المرأة للحديث الصحيح عن سمرة - رضي الله عنه - أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على امرأة فقام عند وسطها.
فهو نص في أن الإمام يقف عند وسط المرأة.
وهذا الحديث في مسلم.
وبهذا علمنا أن تحديد الموقف من المرأة ثبت
بسنة صحيحة لا إشكال فيها وأنه أصح من السنة التي فيها تحديد موقف الإمام
من الرجل.
وظاهر كلام البخاري أن الإمام يقف عند الوسط للرجل والمرأة.
واستظهر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أنه يميل - أي البخاري - إلى تضعيف
الحديث الذي فيه التفريق بين المرأة والرجل.
في الحقيقة بعد البحث في إسناد هذا الحديث الذي يفرق فيه الرسول - صلى الله
عليه وسلم - بين الموقف عند الرجل والمرأة لم أجد له علة فإسناده صحيح
ومتصل وخال من العلل الخفية والظاهرة.
أضف إلى هذا أن الإمام البخاري لم يصرح بالتضعيف لكن يفهم من التبويب حسب
فهم ابن حجر - رحمه الله - أنه يميل إلى التسوية بين المرأة والرجل ويضعف
حديث التفريق.
بعد هذا البحث:
الراجح: التفريق لأنا لم نجد في الحديث علة نتمسك بها.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويكبر أربعاً.
يعني أن السنة أن لا يزيد عن الأربع ولا يجوز أن ينقص عن الأربع.
= هذا المذهب: لا يجوز النقص ويكره الزيادة.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه خرج
بأصحابه وصلى بهم صلاة الجنازة على النجاشي وكبر أربع تكبيرات.
وأما التكبير خمس فهو جائز أيضاً. فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه
مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على الجنازة خمساً.
إذاً التكبير أربع وخمس هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة المروية بالأسانيد
الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * مسألة: حكم التكبير الزائد عن الخمس - ست وسبع وثمان وتسع:
التكبيرات الزائدة عن الخمس فيها آثار صحيحة ثابتة عن علي بن أبي طالب -
رضي الله عنه - وعن غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولا أعلم أن في التكبيرات الزائدة عن الخمس حديث مرفوع إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - ومع ذلك نقول: يشرع أحياناً أن يزيد عن الخمس إلى الست
والسبع لأنه مروي بأسانيد صحيحة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم
يكونوا ليأتوا بما ليس له أصل.
* * مسألة: الأقرب والله أعلم أن التكبيرات الزائدة عن الأربع تكون لأهل
الفضل والعلم.
وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
كان يكبر على أهل بدر ست وعلى سائر الصحابة خمس وعلى الناس أربع.
ولما كبر ست في الآثار الأخرى عنه علل ذلك بقوله: إنه بدري. - يعني من أهل
بدر.
ولذلك ترجم الطحاوي - رحمه الله - على هذه الآثار بأن الزيادة عن الأربع
تشرع لأهل الفضل والعلم.
وهذا هو الأقرب. لأنا لم نأخذ مشروعية الزيادة على الأربع إلا للآثار عن
الصحابة وهم خصوها بأهل بدر وأهل الفضل والخير.
فالأقرب أن نقول:
- إذا صلى الإنسان على رجل من أهل الخير والفضل فإنه يزيد كما صنع علي بن
أبي طالب - رضي الله عنه -.
- وإن صلى على عامة الناس فإنه يكبر أربعاً.
لكن ينبغي على الإمام إذا صنع ذلك وخشي أن يفهم الناس أن الزيادة خاصة
بفلان أن يبين العلم والسنة وأنه كبر خمساً أو ستاً لا لذات الرجل وإنما
لوصفه وهو أنه من أهل الفضل والخير والتقدم وغيره يساويه.
هذا الذي يظهر من آثار الصحابة.
= والقول الثاني: أن التكبير خمس وست لا يتعلق بأهل الفضل بل يجوز لكل
الناس.
•
ثم قال - رحمه الله -:
يقرأُ في الأُولى بعد التعوذ: الفاتحة.
إذا كبر الإمام فإنه كما قال المؤلف يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة.
وفي هذه العبارة عدة مسائل:
ـ المسألة الأولى: يفهم من كلام المؤلف أنه لا يشرع لمن يصلي صلاة الجنازة
أن يستفتح - يعني: أن يقرأ دعاء الاستفتاح.
= وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد وهو المذهب وإليه ذهب الجماهير.
واستدلوا بأدلة:
- منها: أن صلاة الجنازة شرع فيها التخفيف بدليل: أنه لا يشرع أن يقرأ
الإنسان فيها بعد الفاتحة سورة أخرى. وبدليل: أنه ليس فيها ركوع ولا سجود.
- الدليل الثاني: أنه لم يرد في الآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه قرأوا دعاء الاستفتاح.
= الرواية الثانية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أن الإنسان إذا صلى صلاة
الجنازة يقرأ دعاء الاستفتاح ورجح هذه الرواية الفقيه الكبير الإمام
الخلال.
واستدل على ذلك:
- بالعمومات وهو: أنه كما يشرع للمصلي في سائر الصلوات أن يستفتح فكذلك في
هذه الصلاة.
الراجح والله أعلم: أنه لا يشرع لقوة أدلة أصحاب القول الأول.
ـ المسألة الثانية: أنه يشرع لمن صلى صلاة
الجنازة أن يستعيذ.
والدليل على هذا:
- أن الاستعاذة تلحق القراءة وتختص بها فكلما شرعت القراءة شرعت الاستعاذة.
ـ المسألة الثالثة: أنه يشرع للمصلي أن يقرأ فاتحة الكتاب.
= ومذهب الحنابلة أنه يجب فإن تركها بطلت الصلاة.
واستدلوا على هذا بعدة أدلة:
- منها: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لم يقرأ
بفاتحة الكتاب) وصلاة الجنازة من جملة الصلوات.
- ثانياً: وهو دليل خاص بالمسألة: ما صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه
صلى صلاة الجنازة وقرأ فاتحة الكتاب ثم قال: لتعلموا أنها السنة.
= والقول الثاني: أنه لا يشرع للمصلي صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب.
واستدلوا على هذا:
- بأنه عمل أهل المدينة القديم.
- وثانياً: مروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وغيره من الصحابة.
= والقول الثالث: أن قراءة الفاتحة مستحبة وليست بواجبة. وإلى هذا ذهب شيخ
الاسلام ابن تيمية على طريقته في الجمع بين القولين.
وأصح وأرجح وأقوى هذه الأقوال وجوب قراءة الفاتحة. لصراحة الأدلة ووضوحها
وليس للإنسان أن يخرج عن نص جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. على أنكم
سمعتم الخلاف في المسألة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثانية.
يعني: أنه إذا كبر التكبيرة الثانية شرع له أن يصلي على النبي - صلى الله
عليه وسلم -.
والدليل على هذا:
- أنه صح عن ابن عباس وعن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى
على - النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجنازة في التكبيرة الثانية.
وحديث ابن عباس وحديث أبي أمامة إن شاء الله صحيح كما قلت.
• ثم قال - رحمه الله -:
كالتشهد.
يعني: أن المشروع أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصيغة التي
يصلي عليه فيها في التشهد الأخير في الصلاة الرباعية.
والدليل على هذا:
- أن هذه الصيغة هي أكمل أنواع التشهد وينبغي على الإنسان أن يأتي بالأكمل.
* * مسألة: فإن صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي صيغة صحت الصلاة.
فإن قال: صلى الله عليه وسلم وسكت أجزأه.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويدعو في الثالثة.
يعني: أن المشروع للإنسان بعد أن يكبر
التكبيرة الثالثة أن يشرع في الدعاء.
والدليل على هذا من أوجه كثيرة: - لأن خلاصة صلاة الجنازة الدعاء ولذلك
كثرت الأدلة الدالة على مشروعيته.
- فأولاً: حديث ابن عباس السابق. وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا بعد
الثالثة.
- ثانياً: حديث أبي أمامة وكذلك فيه أنه دعا بعد الثالثة.
- ثالثاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعوتم للميت فأخلصوا
له الدعاء) وهذا الحديث إسناده جيد وممن جود إسناده الحافظ ابن كثير - رحمه
الله -.
- رابعاً: أن المقصود من صلاة الجنازة الدعاء للميت ولذلك صار واجباً - بل
ربما ركن من أركان صلاة الجنازة - كما سيأتينا.
فهذه أربعة أدلة تدل على أهمية الدعاء في صلاة الجنازة.
• ثم قال - رحمه الله -:
فيقول: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتَنَا وَشَاهِدَنَا
وَغَائِبَنَا وَصَغِيْرَنَا وَكَبِيْرَنَا وَذَكَرَنَا وَأُنْثَانَا
إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيْرِ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى
الإِسْلاَمِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ
عَلَيْهِمَا)).
هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- أنه كان إذا صلى على الجنازة قال: .. فذكر الدعاء.
هذا الحديث مما اختلف فيه العلماء:
- فعامة المتأخرين يصححون هذا الحديث مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم -
- وذهب الإمام أبو حاتم والإمام البخاري وأشار إليه الإمام الترمذي أن هذا
الحديث مرسل لا يصح ذكر أبي هريرة فيه.
وهذا الأخير هو الصواب أن الحديث مرسل. ولكن مع ذلك يصلح للاستدلال وأن
نستشهد به لما تقدم معنا مراراً أن المراسيل إذا لم يكن في الباب غيرها
وصار لها شواهد صارت صالحة للعمل والاستدلال إن شاء الله على طريقة الإمام
أحمد - رحمه الله -.
هذا هو الدعاء الأول ويسميه الفقهاء: الدعاء العام. ثم يبدأ بالدعاء الخاص.
• قال - رحمه الله -:
((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ
وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَأَوْسِعْ مُدْخَلَهُ
وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ
وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ،
وَأَبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ
وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ
النَّارِ وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيْهِ)).
هذا الحديث: حديث ثابت في صحيح مسلم بل قال الإمام البخاري هذا الحديث أصح
حديث في الباب ولكنه لم يخرجه في الصحيح وإنما أخرجه الإمام مسلم.
عرفنا إذاً الدليل على مشروعية الدعاء العام الأول والدليل على مشروعية
الدعاء الخاص الثاني وهو ينتهي بقوله: (عذاب النار).
أما قول المؤلف - رحمه الله -: (وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ
لَهُ فِيْهِ) فهذا لم يأت في الآثار مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - ولا موقوفاً.
والدليل على مشروعيته عند الحنابلة:
- أنه دعاء لائق بالمحل فشرع. يعني مناسب لهذه الصلاة باعتبار أن من يصلى
عليه سيقبر بعد الصلاة فناسب أن يدعا له بهذا الدعاء.
ولما انتهى المؤلف - رحمه الله - من الكلام عن كيفية الدعاء للكبير انتقل
لكيفية الدعاء للصغير:
• فقال - رحمه الله -:
وإن كان صغيراً قال: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ ذُخْراً لِوَالِدَيْهِ
وَفَرَطاً وَأَجْراً وَشَفِيْعاً مُجَاباً، اللَّهُمَّ ثَقِلْ بِهِ
مَوَازِيْنَهُمَا وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُوْرَهُمَا وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ
سَلَفِ الْمُؤْمِنِيْنَ وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إِبْرَاهِيْمَ وَقِهِ
بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيْمَ)).
هذا الأثر جاء مرفوعاً وموقوفاً إلى قوله: (وَأَعْظِمْ بِهِ
أُجُوْرَهُمَا).
فالمشروع لمن صلى على الصغير أن يدعو بهذا الدعاء. وكما ترون الدعاء يتضمن
أن يدعو المصلي لوالدي الطفل دون الطفل.
والدليل على أنه يدعو لوالديه دونه من أوجه:
- الأول: أنه في حديث المغيرة - رضي الله عنه - قال: إذا صلى على الطفل
فيدعو لوالديه.
- الثاني: أنه روي عن أبي هريرة - رضي الله
عنه - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - نحواً من هذا الدعاء.
وروي عن الحسن البصري - رحمه الله - نحواً من هذا الدعاء.
- ثالثاً: أن هذا هو المنايب والأليق بالمحل لأن الطفل الصغير لا ذنوب عليه
فليس من المناسب أن نستغفر لشخص ليس له ذنوب فصار المناسب بناء على ذلك أن
ندعو لوالديه.
هكذا يقرر الحنابلة.
وما ذكروه صحيح باعتبار أنه جاء في بعض الآثار المروية عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - وعن الصحابة وعن التابعين كما تقدم.
وأيضاً باعتبار أنه مناسب للحال.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويقف بعد الرابعة قليلاً.
يعني: يشرع للإمام إذا كبر الرابعة أن يقف قليلاً. أي: قبل أن يسلم.
والدليل على هذا:
- أن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان إذا كبر الرابعة وقف شيئاً.
- والتعليل: ليتمكن المأموم من التكبير.
وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - من قوله: (ويقف بعد الرابعة قليلاً
ويسلم) أنه لا يدعو بأي شيء بعد التكبيرة الرابعة وإنما ينتظر قليلاً
صامتاً ثم يسلم.
= وهذا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - واختاره بن قدامة أنه لا يدعو
بشيء بعد التكبيرة الرابعة.
واستدل على ذلك:
- بأنه ليس في النصوص الصحيحة المرفوعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان يدعو.
= والقول الثاني: أنه يشرع أن يدعو.
واستدلوا على مشروعية الدعاء بعد الرابعة:
- بأنه روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن أبي أوفى كان
إذا كبر الرابعة دعا.
- الدليل الثاني: أن المعهود في الشرع أن لا يخلو جزء من الصلاة من الدعاء
ولذلك يشرع الدعاء في هذا الموضع.
والأقرب أن الأمر فيه سعة: إن شاء دعا وإن شاء سكت.
وإذا أراد أن يدعو فذكر الحنابلة أنه مخير بين:
- أن يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة).
- أو يقول: (اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده).
- أو - وهو القول الثالث عند الحنابلة: يخير بين أن يقول: هذا أو هذا.
والصواب: أنه يقول هذا الدعاء أو يقول غير
هذا الدعاء باعتبار أنه ليس في الباب آثار صحيحة لا عن أصحاب النبي - صلى
الله عليه وسلم - ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويسلم واحدة عن يمينه.
= مذهب الحنابلة: أن المشروع والمسنون والمستحب في حق المصلي صلاة الجنازة
أن يسلم واحدة فإن سلم تسليمتين فهو مباح أو مكروه على خلاف بين الحنابلة -
يعني لا يسن ولا يشرع.
واستدلوا على هذا:
- بأن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: عن ستة من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - ولا يعلم مخالف إلا إبراهيم.
- وسئل الإمام أحمد - رحمه الله - في موضع آخر: هل تحفظ عن أحد من أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سلم تسليمتين؟ فقال: لم يصح عن أحد من
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سلم تسليمتين.
ولذلك استنبط ابن قدامة من هذه العبارة أن التسليمة الواحدة محل إجماع عند
الصحابة ومحل إجماع عند التابعين إلا عن إبراهيم النخعي - الخلاف الذي حكاه
الإمام أحمد - رحمه الله -.
وتقدم معنا: أن حكاية مثل الإمام أحمد - رحمه الله - لإجماع الصحابة أمر له
ثقله الكبير بسبب عناية الإمام أحمد - رحمه الله - بآثار أصحاب النبي - صلى
الله عليه وسلم -.
ثم مع ذلك:
= القول الثاني في هذه المسألة: أنه يسلم المصلي تسليمتين. يعني: أن
المشروع والمستحب أن يسلم تسليمتين ويجوز أن يسلم تسليمة. عكس مذهب
الحنابلة.
واستدلوا على ذلك:
- بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يسلم في صلاة الجنازة كما يسلم في الصلاة.
والراجح: بلا إشكال إن شاء الله مذهب الحنابلة. بل إن ابن المبارك - رحمه
الله - قال: من سلم تسليمتين فهو جاهل.
إذاً الصواب إن شاء الله مع الحنابلة وهو: أن المشروع في صلاة الجنازة
تسليمة واحدة ويجوز أن يسلم تسليمتين وإنما المشروع والمندوب والمنقول عن
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن التابعين أن يسلم الإنسان تسليمة
واحدة.
وحديث ابن مسعود يدل على الجواز فقط وفي
الحقيقة: (لم أتمكن من البحث في إسناد هذا الأثر) لكن مع ذلك لا أشك أن
الراجح مذهب الحنابلة باعتبار أن الإمام أحمد ينقل إجماع الصحابة والإمام
أحمد ينقل إجماع الصحابة وينقل أقوال معينة عن ستة من الصحابة ولا يقصد أنه
لا يعرف مخالف أو أنه لم يسمع وإنما يثبت فتاوى ستة أو سبعة من الصحابة ليس
لهم مخالف.
فهذا أقوى بكثير من أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - وأثره - رضي الله عنه -
ليس نصاً في التسليمتين فإنه يقول: يسلم في الجنازة كما يسلم في الصلاة
فربما أراد إثبات أصل التسليم.
ثم أيضاً: ربما نقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يسلم في
الصلاة سوى صلاة الجنازة تسليمة واحدة فلعله أراد هذا المعنى.
وبكل حال: الأقرب ما ذكره الإمام أحمد أن الإنسان يسلم تسليمة واحدة لحكاية
إجماع الصحابة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويرفع يديه مع كل تكبيرة.
تقدم معنا: أن تكبيرات صلاة الجنازة أربع.
وهذه التكبيرات تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: تكبيرة الإحرام. ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام محل إجماع
فلم يخالف فيه أحد من الفقهاء.
ويدل عليه: - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وغيره أن النبي - صلى الله
عليه وسلم -: لما كبر لصلاة الجنازة رفع يديه.
- القسم الثاني: التكبيرات الأخرى. وهذه لم يثبت فيها عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - حديث صحيح أنته كان يرفع يديه. لكن مع ذلك صح بإسناد ثابت عن
ابن عمر - رضي الله عنه - وصح بإسناد ثابت عن ابن عباس - رضي الله عنه -
أنهم كانوا يرفعون أيديهم في صلاة الجنازة في التكبيرات الأربع.
= وذلك ذهب الجمهور إلى مشروعية رفع اليدين.
= القول الثاني: أنه لا يشرع أن يرفع يديه إلا في تكبيرة الإحرام لأنه لم
يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه.
والراجح. والله أعلم القول الأول. وسبب الترجيح: ما علم من عناية ابن عمر
باتباع السنة فالغالب أنه لم يصنع ذلك إلا عن توقيف.
وإذا كنا نقبل الآثار كما قبلها الجماهير في الزيادة على التكبيرات فلأن
نقبلها في رفع اليدين من باب أولى.
ولذلك الجمهور الذين قبلوا زيادة التكبيرات
قبلوا أيضاً رفع اليدين في صلاة الجنازة.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وواجبها.
هكذا عبر المؤلف بقوله: وواجباتها. وعبر ابن قدامة في الكافي بقوله:
وأركانها.
ومقصود المؤلف هنا بقوله: وواجباتها: يعني: الأركان. ولا يقصد الواجب الذي
يقابل الركن ولكن مع ذلك لو أن المؤلف - رحمه الله - قال: وأركانها. لكان
أوضح لقارئ الكتاب كما عبر الشيخ ابن قدامة - رحمه الله -
• قال - رحمه الله -:
قيام.
القيام. ركن من أركان صلاة الجنازة.
والدليل على ذلك:
- أنها صلاة مفروضة فوجب القيام فيها كسائر الفرائض.
وعلم من هذا التعليل:
- أن الصلاة التي يجب فيها القيام هي الصلاة الأولى التي حصل الفرض
بأدائها.
- وأما الصلاة الثانية. فإنه يجوز أن يصليها الإنسان وهو جالس لأنها ليست
فريضة وإنما نافلة.
= وقيل: وهو قول عند الحنابلة: بل يجب القيام ولو تكررت الصلاة.
والراجح الذي مال إليه المرداوي في الإنصاف وغيره أن الثانية لا يجب فيها
القيام.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتكبيرات.
التكبيرات أيضاً أركان والسبب أنها أركان أنها تقوم مقام الركعات.
واستدلوا على ركنية التكبيرات:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الجنازة قط إلا وكبر فيها
أربعاً كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الجنازة
فكبر أربعاً.
إذاً التكبيرات لها دليل من النظر ودليل من النقل.
• ثم قال - رحمه الله -:
والفاتحة.
أي: ركن من أركان الصلاة. وتقدمن معنا الخلاف والأدلة على أنها واجبة ومن
أركان الصلاة وأنها إن لم تقرأ بطلت الصلاة.
•
ثم قال - رحمه الله -:
والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- لأنه جاء ثابتاً في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - وفي حديث أبي أمامة
أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فدل
على أنه ركن في صلاة الجنازة.
وذكر شيخنا رحمه الله مناسبة لطيفة جداً: أن الصلاة على النبي - صلى الله
عليه وسلم - مناسبة في هذا المقام لتكون بين يدي الدعاء.
• ثم قال - رحمه الله -:
ودعوة للميت.
يعني: أن الركن أن يدعو دعوة واحدة للميت.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(فأخلصوا له الدعاء) وهذا الحديث ثابت والأمر فيه ظاهر.
- والدليل الثاني: على ركنية الدعاء أنه المقصود في صلاة الجنازة. والشيء
المقصود في العبادة غالباً أودائماً ما يكون ركن فيها.
• ثم قال - رحمه الله -:
والسلام.
أي: والسلام ركن من أركان الصلاة لدليلين:
- الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وتحليلها السلام).
- ثانياً: القياس على سائر الفرائض. فإنه في الفرائض جميعاً يجب أن يسلم
الإنسان وهو من أركان الصلاة.
وبهذا انتهى من سرد أركان الصلاة.
فصار القيام والتكبيرات والفاتحة والصلاة والدعوة والسلام. يعني أنها ست
أركان في صلاة الجنازة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن فاته شيءٌ من التكبير: قضاه على صفته.
يريد المؤلف أن يبين حكم المسبوق فإذا فات الإنسان شيء من تكبيرات الصلاة
سن له أن يقضيه على صفته.
وفي هذه العبارة عدة مسائل:
- المسألة الأولى: أن القضاء واجب وأنه لو سلم قبل أن يقضي بطلت صلاته.
- لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم
فاقضوا).
= القول الثاني: أن قضاء ما فات من التكبيرات لا يجب.
بناء عليه إذا دخل مع الإمام وقد فاته التكبيرة أو أكثر ثم سلم الإمام فله
أن يسلم ولا يقضي وصلاته صحيحة.
واستدلوا بدليلين:
- أولاً: أنه روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: عن تكبيرات صلاة
الجنازة: لا تقضى.
- ثانياً: القياس على تكبيرات صلاة العيد. فإنه لا يجب أن يقضي الإنسان
تكبيرات صلاة العيد.
والصواب: إن شاء الله وجوب القضاء لعموم النص وصلاة الجنازة صلاة.
إذا تقرر أن القضاء واجب: فكيفية القضاء: أن يدخل مع الإمام في الموضع الذي
هو فيه ويتابع الإمام ثم إذا سلم الإمام قضى ما عليه على صفته.
والدليل أنه على صفته:
- أن القاعدة المشهورة التي اتفق عليها - تقريباً - الفقهاء أن القضاء يحكي
الأداء. يعهني: يطابق الأداء.
إلا إذا خشي أن ترفع الجنازة فإنه يتابع
التكبير بلا ذكر ودعاء بينه ثم يسلم لأن من شروط صحة صلاة الجنازة أن تكون
بين يدي المصلي إلا ما استثني مما سيذكره المؤلف - رحمه الله - كالصلاة على
الغائب والصلاة على المقبور هذا مستثنى وفيما عدا ذلك يشترط لصحة الصلاة أن
يكون الميت بين يدي المصلي.
فإذا خشي الإنسان أن ترفع الجنازة فماذا يصنع؟
يتابع.
* * فإن رفعت وهو يتابع يتم المتابعة ويسلم.
إذاً: يقضي الصلاة على صفتها. إلا إن خشي أن ترفع فإنه يتابع التكبير ويكمل
المتابعة ولو رفعت. هذا ملخص مذهب الحنابلة. وهو الصحيح إن شاء الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن فاتته الصلاة عليه: صلى على القبر ... إلى شهر.
أيضاً في هذه العبارة عدة مسائل:
ـ المسألة الأولى: أفاد المؤلف أن الصلاة على القبر مشروعة.
= وهذا مذهب الحنابلة بل مذهب الجمهور:
- لما ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على
قبر ميت في أكثر من مناسبة
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن نصلي على القبر مطلقاً.
والصواب مع الحنابلة لصحة الدليل.
فإذا ثبت أن مذهب الحنابلة هو الصواب وهو الأحظ بالدليل وهو جواز الصلاة
على القبر ننتقل إلى:
ـ المسألة الثانية: وهي إلى متى يصلى على القبر؟
= فمذهب الحنابلة: أنه يصلى على القبر إلى شهر فقط. ثم بعد الشهر لا يجوز
أن يصلي إلا إذا زاد الوقت بشيء يسير كاليوم واليومين.
- الدليل على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر.
فإذا قيل لك: من أين لكم الزيادة يوم أو يومين؟
فتقول: تؤخذ من قوله: (صلى بعد شهر) فحملوا هذه البعدية على أنها شيء يسير
كاليوم واليومين.
= القول الثاني: أنه يجوز أن يصلي الإنسان على القبر أبداً.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج وصلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين.
= القول الثالث: أنه يجوز أن يصلى على القبر ما لم يتفتت الميت ويبلى.
والقول الثاني والثالث - الذين ذكرتهما الآن - أقوال ضعيفه. والدليل على
ضعفها:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه لا يبلى ومع ذلك أجمع المسلمون
على أنه لا يصلى على قبره.
- ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
بقي ولم يصل أحد على قبره.
فإذاً القول بأن الصلاة على القبر دائماً أبداً تستمر أو أنها إلى أن يبلى
كلا القولين ضعيف بوجود قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتجنب المسلمين
الصلاة عليه.
= القول الرابع: أنه يصلي بلا حد إذا كان من أهل الصلاة حين موت الميت.
يعني إذا كان هذا المصلي لما مات الميت من أهل الصلاة على الميت فإنه يصلي
على القبر ولو بعد سنة أو سنتين أو ثلاث أو أربع بهذا الشرط.
واستدل هؤلاء:
- بأنه بهذا القول تجتمع الآثار والنصوص. وأن القول الذي فيه الجمع بين
الأخبار أرجح من غيره من الأقوال التي تأخذ بنص وتدع الآخر.
وهذا القول ظاهر القوة ووجيه كما ترى وفيه جمع بين الأخبار وأخذ بالآثار
جميعاً فهو الراجح إن شاء الله.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وعلى غائب: بالنية إلى شهر.
وهذا أيضاً يتضمن مسألتين:
ـ المسألة الأولى: أنه يشرع الصلاة على الغائب من حيث الأصل.
= وهذا مذهب الحنابلة.
واستدلوا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغائب وهو النجاشي.
= القول الثاني: أنه لا يشرع مطلقاً أن يصلي الإنسان على الغائب.
- لأن عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ماتوا ولم ينقل أنه صلي
عليهم.
- ولأن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - لما ماتوا لم ينقل أن أحداً من
أهل الأمصار صلى عليهم.
فدل هذا على أنه لا يشرع أن يصلي الإنسان على الغائب الميت.
والصواب مع الحنابلة: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على غائب بالنص
الصريح وهو النجاشي.
ـ المسألة الثانية: حد الغائب:
الغائب: هو ما كان خارج البلد ولو كان دون مسافة قصر بشرط أن لا يكون في
موضع تجب إجابة نداء الجمعة منه.
إذاً: هل يشترط في الغائب أن يكون على مسافة قصر؟
الجواب: لا. لكن يشترط فقط أن لايكون في موضع تجب على إجابة نداء الجمعة.
هذا كله تقرير مذهب الحنابلة.
إذا تقرر مشروعية الصلاة على الغائب نأتي أيضاً الضابط:
= فالضابط عند الحنابلة أنه يصلى عليه إلى
شهر. وأنه يصلى على كل غائب سواء صلي عليه أو لم يصلى عليه فعلى كل غائب
يشرع أن تصلي فإذا سمعت أن إنساناً مات فإنه يشرع لك أن تصلي عليه ولو كان
صلي عليه عند قومه.
أخذاً بعموم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي.
بناءً على هذا القول يشرع للإنسان أن يصلي كل يوم على أموات المسلمين. لأنه
قطعاً أنه مات عدد كبير من المسلمين في هذا اليوم.
ولكن هذا القول استبشعه جداً شيخ الاسلام - رحمه الله - ورأى أنه بدعة:
(وهو: أنه يشرع أن يصلي على أموات المسلمين في كل يوم). وقال - رحمه الله
-: هذا بدعة ولا يشرع.
= القول الثاني: أنه يصلى على من كان في حياته مصلحة ونفعاً للمسلمين -
نفعاً عاماً. كالنجاشي. فإن المسلمين انتفعوا به في الهجرة وفي غيرها.
ودليل هؤلاء: ظاهر.
= والقول الثالث: أنه يصلى على من لم يصلى عليه فقط.
والمذهب الثالث - الأخير اختيار شيخ الاسلام وابن القيم هو الراجح.
وأما الجواب عن قولهم: أن النجاشي ملك ولا يعقل أنه لم يصلى عليه: فنقول أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر لما ماتوا وهم أكثر الأمة غناء
في الأمة لم ينقل أنه صلي عليهم في مكة.
فدل على أن هذا الضابط وهو أنه إذا مات رجل له غناء ونفع للمسلمين يصلى
عليه أنه قول ضعيف بغض النظر عن النجاشي فإذا كان هذا القول ضعيف لم يبق
إلا القول أن يصلي على من لم يصلى عليه وأن هذا ظاهر حال النجاشي مع قيام
الاحتمال بأنه صلي عليه لكن دائماً وأبداً نحن في الشرع نأخذ بالظاهر
والظاهر من حال النجاشي أنه لم يصلى عليه فيكون هذا القول الأخير قول قوي
ووجيه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ....
بعد الأذان:
• ثم قال المؤلف رحمه الله - في ختام هذا الفصل:
ولا يصلي الإمام: على الغال ولا على قاتل نفسه.
يعني أنه لا يشرع للإمام خاصة أن يصلي على الغال ولا على قاتل نفسه.
والدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي برجل قتل نفسه فلم يصل عليه. وهو
حديث صحيح.
- والدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الغال صلوا على
صاحبكم.
= القول الثاني: أن الإمام وسائر الناس
يصلون على الغال وقاتل نفسه وعلى كل المسلمين.
واستدلوا على هذا:
- بعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا على من قال لا إله إلا
الله.
= والقول الثالث: وهو أغرب الأقوال: أن الإمام وسائر المسلمين لا يصلون على
الغال وعلى قاتل نفسه يعني: لا يصلى عليه بحال.
وكما ترون أحظ الناس بالأدلة الحنابلة. والنبي - صلى الله عليه وسلم -
يقول: صلوا على صاحبكم. فكيف لا يصلى عليه بحال وهو مسلم ونحن تقدم معنا أن
الأدلة تدل على أن الصلاة فرض كفاية لكن نقول الإمام لا يصلي عليه زجراً عن
فعله.
وذهب الحنابلة في الصحيح عندهم إلى أنه لا يصلى أيضاً على أهل البدع. قال
الإمام أحمد ما كنت لأصلي على جهمي ولا رافضي.
واستدل على هذا - الإمام أحمد:
- أنهم - أي الجهمي والرافضي - شر من الغال وقاتل نفسه. لأن أولئك وقعوا في
معصية عملية وهؤلاء وقعوا في بدعة عقدية.
وذهب المجد والشيخ الفقيه ابن مفلح إلى أنه: - وهو النوع الثالث الذين لا
يصلى عليهم - لا يصلى على كل من عرف بمعصية ظاهرة مات لم يتب منها.
بناء على هذا: إذا عرف شخص من الأشخاص بمعصية مشهورة اشتهر بها فإنه إذا
مات وقد عرف بالمغصية وعرف أنه لم يتب منها ينبغي على الإمام أن لا يصلي
عليه.
فصار الذين لا يصلي عليهم الإمام: قاتل نفسه والغال وصاحب البدعة ومن عرف
بمعصية لم يتب منها يعني اشتهر بمعية كبيرة لم يتب منها فإن هذا لا يصلى
عليه. مثل إنسان مشهور بشرب الخمر واشتهر به وهو يتبجح بمثل هذا بكتاباته
ومات ولم يتب فكذلك.
أو يتبجح بالزنى ونحو ذلك بكتاباته وهو معروف ومات ولم يتب فإنهه لا يصلى
عليه.
وما ذكره الشيخ الفقيه المجد وابن مفلح وهما من أكبر فقهاء الحنابلة صحيح
ووجيه.
الدليل:
- أن هؤلاء شر من الغال على أقل تقدير: فلا نقول أنه شر من قاتل نفسه.
- الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ترك الصلاة على
هؤلاء زجراً عن أفعالهم وهؤلاء ينبغي أن يزجر الناس عن أفعالهم بترك الصلاة
عليهم.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد.
يعني لا بأس أن نصلي على الجنازة في المسجد.
- لما صح في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد.
- وأيضاً روي وأظنه صحيح أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا على
أبي بكر وعمر في المسجد.
فصار الآن: ثبتت السنة بإجماع الصحابة وإلى هذا ذهب ابن قدامة يقول وهذا
إجماع لأنه لم ينكر أحد من الصحابة الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد.
فثبت بهذه الآثار النبوية والآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه
وسلم - جواز الصلاة على الميت في المسجد.
واشترط الحنابلة لهذا شرطاً واحداً وهو أن يؤمن التلويث.
ومع ذلك السنة أن يوضع مصلى خاص للجنائز خارج المسجد وتكون الصلاة في
المسجد جائزة فقط ..
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
انتهى الدرس
فصل
[في صفة حمل الميت ودفنه]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
لما أنهى المؤلف - رحمه الله - الكلام عن الصلاة انتقل إلى الكلام عن حمل
الجنازة والتشييع وما يتعلق بهذا الأمر من أحكام.
وبدأ بالمرحلة الأولى وهي: حمل الجنازة:
• فقال - رحمه الله -:
يستحب: التربيع في حمله.
وفيه مسائل:
ـ المسألة الأولى: التربيع هو: الأخذ بقوائم السرير الأربع.
= وهو عند الحنابلة سنة لحديث ابن مسعود أنه قال: (من تبع جنازة فليأخذ
بقوائهما ثم ليتطوع إن شاء أو ليذهب فإنه من السنة).
وهذا الأثر صحيح إن شاء الله وله حكم الرفع لوجهين:
- الأول: أن ابن مسعود صرح فقال إنه من السنة.
- الثاني: أن هذا لا يقال من قبل الرأي.
ـ المسألة الثانية: صفة التربيع: صفته:
= عند الحنابلة: أن يبدأ بالقائمة اليسرى الأمامية فيضعها على كتفه الأيمن
ثم يرجع إلى الخلفية فيضعها على كتفه الأيمن ثم إلى الأمامية اليمنى فيضعها
على كتفه الأيسر ثم يرجع إلى الخلفية فيضعها على كتفه الأيسر.
فتبين عند الحنابلة أنه يبدأ بالأماميات قبل الخلفيات فهم يرون أن هذا هو
السنة.
والأقرب أن الأمر واسع وأن المقصود هو أن
يحمل الجنازة مع القوائم الأربع ولا يقتصر على قائمة واحدة وإنما يدور على
القوائم الأربع فإذا دار عليها بأي صفة كانت فقد حقق السنة المذكورة في
حديث ابن مسعود.
وهذه صفة غفل عنها كثير من الناس اليوم فهي صفة وسنة مقصودة أن يربع ويفاوت
بين الحمل بين القوائم الأربع ويحتسب هذا عند الله.
ويشترط في التربيع أن لا يتسبب ذلك بمضايقة الناس والمشاحة الشديدة بين
الذين يحملون الجنازة وإلا لم يستحب كما سيأتينا في مسألة تقبيل الحجر
الأسود فكذا يقال هنا إذا كان يحصل زحام ومشادة فإن الإنسان ينبغي له أن لا
يفعل.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويباح بين العمودين.
يعني: أنه يجوز أن يحمل بين العمودين.
والدليل على هذا من وجهين:
- الأول: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صنع ذلك.
- الثاني: أنه روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأشار الإمام الشافعي إلى أن المنقول عن الصحابة هو الثابت دون المنقول عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا هو الدليل على أن الوقوف بين القائمتين مباح ولا بأس به.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويسن: الإسراع بها.
الإسراع بالجنازة سنة.
وضابطه: أن يكون فوق المشي المعتاد وأن لا يزيد على ذلك. وإلى هذا الضابط
ذهب المجد بن تيمية - رحمه الله - وهو الضابط الصحيح والإسراع فوق ذلك لا
يستحب.
ـ المسألة الثانية: الدليل على الإسراع:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخير
تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن أعناقكم). وهذا الحديث تقدم
معنا وهو نص في مشروعية المسارعة بالجنازة بهذا الضابط.
ويستثنى من ذلك: إذا خشي أهل الميت من حدوث ضرر بالجنازة عند الإسراع بها
فإنه لا يشرع مطلقاً إذا خشوا من ذلك.
وهذا يحصل أحياناً بحيث تكون الجنازة لو أسرع بها ولو مقداراً يسيراً فإنه
يحصل فيها ضرر إما لتفككها أو لكونها مشدودة جداً فيخشى أن تنفجر مع كثرة
المياه أو كثرة الهواء فالمهم الضابط أنه إذا خشي أولياء الميت أن تتضرر
فإنه لا يسن الإسراع.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وكون المشاة أمامها.
يعني: ويسن لمن اتبع الجنازة ماشياً أن
يكون أمامها لا خلفها.
قال ابن المنذر - رحمه الله -:ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا
بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة.
= والقول الثاني: أن الإنسان إن شاء مشى أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو
عن شمالها بشرط أن يكون قريباً منها.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الراكب خلف الجنازة والماشي أمام
الجنازة أو خلفها أو عن يمينها أو شمالها).
وهذا الحديث مما اختلف في تصحيحه وتضعيفه. وذهب الحافظ ابن حجر إلى أنه
مضطرب في الاسناد والمتن.
ومع هذا الاضطراب في الاسناد والمتن اختلف أيضاً عل هو مرفوع أو موقوف؟
والمحصلة: أن في هذا الحديث ضعف.
لذلك الأقرب أن يكون الماشي أمام الجنازة لأنه ثابت عن سادات الناس: النبي
- صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر.
ثم انتقل إلى الراكب:
• فقال - رحمه الله -:
والركبان خلفها.
أي: والسنة بالنسبة للراكب أن يكون خلف الجنازة.
والدليل على هذا من ثلاثة أوجه:
- الأول: حكي الإجماع على ذلك حكاه الخطابي. لكن الواقع أن فيه خلاف فمن
الذين خالفوا: الإمام الشافعي فإنه يرى أن الراكب الأفضل له أن يكون أمام
الجنازة.
لكن على كل حال حكي الإجماع على أن السنة للراكب أن يكون خلف الجنازة.
- الثاني: حديث المغيرة السابق لأن في أوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال: والراكب خلف الجنازة).
- الثالث: أن الراكب إذا كان أمام الجنازة آذى الناس وإذا كان خلف الجنازة
لم يؤذهم.
والصواب مع الحنابلة أن السنة في حق الراكب أن يكون خلف الجنازة.
* * مسألة: لم يذكرها المؤلف وهي مفيدة: الركوب في تشييع الجنازة ذهاباً
عند الحنابلة مكروه.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيع جنازة فعرض عليه الركوب فقال - صلى
الله عليه وسلم - ما كنت لأركب والملائكة تمشي.
هذا الحديث إن شاء الله حسن.
وما ذهب إليه الحنابلة من أن هذا مكروه صحيح لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - دفع الركوب وعلل بأن الملائكة يمشون فمن الأدب والاحترام أن لا يركب
الإنسان.
* * المسألة الثانية: يجوز الركوب إذا عاد
من التشييع. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه في مسلم أنه شيع
جنازة ثم رجع على فرس.
فالركوب في الرجوع لا بأس به ولا حرج لكن في الذهاب مكروه فينبغي على
الإنسان أن يتحرا المشي ما أمكن وسهل وأن يترك الركوب إذا لم يكن عليه
مشقة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويكره: جلوس تابعها حتى توضع.
يكره لمن تبع الجنازة أن يجلس إلا إذا وضعت الجنازة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع.
= والقول الثاني: وهو مذهب الأحناف أن الجلوس في هذه الحال محرم. لأن النهي
صريح ولا صارف له.
وهذا صحيح والأقرب أن الجلوس قبل وضع الجنازة محرم.
* * مسألة: المقصود بوضع الجنازة: أن توضع على الأرض لا في اللحد لأن
الثوري لما روى هذا الحديث ذكر في رواية له أنه قال حتى توضع على الأرض.
وأما رواية حتى توضع في اللحد فضعيفة.
إذاً إذا وضعت على الأرض سواء وضعت ليصلى عليها أو وضعت ليهيء القبر أو
وضعت لأي سبب فمتى وضعت على الأرض جاز للناس أن يجلسوا أما قبل ذلك فعلى
المذهب مكروه والصواب أنه محرم.
ومن هنا نقول ينبغي للإنسان إذا دخل المقبرة أن ينبه الناس الذين شيعوا
الجنازة أن لا يجلسوا إلا إذا وضعت على الأرض.
واليوم الجنازة بمجرد ما تدخل المقبرة توضع على الأرض فالأمر يسير فإن
انتظار الناس سيكون قصيراً.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويسجى قبر امرأة.
يعني ويشرع أن يغطى قبر المرأة حال قبرها أي في وقت إنزالها في القبر.
والدليل على هذا:
- الإجماع فقد أجمع العلماء على أن هذا مشروع.
- والدليل الثاني: أن في هذا العمل ستر للمرأة والمرأة عورة ينبغي أن تستر
خشية أن ينكشف منها شيء حال تنزيلها في القبر. فتغطية القبر مستحب ومشروع
وهو يفعل الآن في بعض المناطق دون بعض وهو مستحب ينبغي أن يفعل دائماً.
• قوله - رحمه الله -:
ويسجى قبر امرأة فقط.
أي دون الرجل فإن تغطية قبر الرجل مكروهه لأنه لم يأت عن الصحابة ولا عن
السلف أنهم فعلوا ذلك.
ولأن الرجل لا يحتاج أن يغطى قبره أثناء تنزيله في اللحد.
• ثم قال - رحمه الله -:
واللحد أفضل من الشق.
اللحد هو السنة وهو أفضل من أن يشق القبر
شقاً.
والشق عند الحنابلة مكروه إذا كان بلا عذر.
واللحد هو: أن يحفر في أرض القبر حفرة مما يلي القبلة. أي إذا انتهى من
يحفر القبر إلى أرض القبر فإنه يحفر حفرة جهة القبلة.
والشق: أن يحفر حفرة في وسط القبر.
وله صورة أخرى هي: أن يقيم من اللبن في وسط القبر كالحفرة ويوضع الميت في
وسطها.
يعني: إما أن نحفر أو أن نبني شيئاً يسيراً ليكون كالشق في وسط القبر.
فاللحد هو السنة والشق مكروه إلا لعذر.
والدليل: - ما صح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: (الحدوا لي لحداً وضعوا عليه
اللبن كما صنع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -). وهذا الحديث صحيح.
- ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي فيه ضعف: (اللحد لنا
والشق لغيرنا).
والحديث الأول يكفي في إثبات سنية اللحد.
ويستثنى من هذا إذا كانت الأرض لا تقبل اللحد وإنما تقبل الشق فحينئذ يوضع
الشق.
وأجمع الفقهاء على جواز اللحد والشق.
لكن البحث الآن في أيهما أفضل وعرفنا أيهما أفضل.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويقول مدخله: ((بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رِسُولِ اللَّهِ)).
يستحب لمن أراد أن يدخل الميت في اللحد أن يقول: ((بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى
مِلَّةِ رِسُولِ اللَّهِ)).
- لما رواه ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصنع ذلك.
وهذا الحديث اختلف فيه العلماء:
= فمنهم من رأى أنه مرفوع. وإلى هذا ذهب عامة المتأخرين.
= ومنهم من يرى أنه موقوف. وإلى هذا ذهب أئمة كبار منهم الإمام النسائي
والإمام الدراقطني.
والصواب أنه موقوف.
فإذا تقرر أن حديث ابن عمر موقوف نأتي إلى بحث آخر وهو:
هل له حكم الرفع أولا؟ - هل هو مما يقال بالرأي أو لا؟
في الحقيقة أن فيه تردد ولكن الأقرب أن مثل هذا الذكر الغالب أنه على سبيل
الرفع والتوقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان الإنسان عنده نوع
تردد لكن يغلب في النظر أن له حكم الرفع.
- ن قيل: له حكم الرفع: فهو يسن أن من أراد أن ينزل في القبر ويضع الميت في
اللحد أن يقول: ((بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رِسُولِ اللَّهِ)).
- وإذا قيل: أنه ليس له حكم الرفع فلا يسن
أن يقال ولا نكتفي بأنه مروي عن ابن عمر في الحقيقة لأن هذه عبادة عظيمة
خاصة وتكرر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شارك في دفن عدد من أصحابه -
صلى الله عليه وسلم - فإذا لم ينقل أنه صنع ذلك فلا يستحب أن يفعل إلا إذا
قلنا أن أثر ابن عمر له حكم الرفع وهو الذي أقول أنه أرجح.
بناء على هذا تكون الخلاصة: أنه يستحب بناء على أن لهذا الحديث حكم الرفع.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويضعه في لحده: على شقه الأيمن.
استحباباً بلا نزاع عند الحنابلة.
والدليل على هذا الحكم من وجهين:
- الأول: القياس على النوم لأن النوم هو الموتة الصغرى والموت هو الموتة
الكبرى فيقاس أحدهما على الآخر وقد جاءات السنة الصريحة الصحيحة بأنه يستحب
للنائم أن ينام على جنبه الأيمن.
- الثاني: ما ذكره بن حزم - رحمه الله - أنه على هذا عمل المسلمين من عهد
النبوة إلى يومنا هذا.
وهذا صحيح. هو يقول إلى يومنا هذا ونحن نقول وأيضاً إلى عصرنا هذا فما زال
الناس يضعون الميت على شقه الأيمن.
• ثم قال - رحمه الله -:
مستقبل القبلة.
يعني: ويستحب إذا وضع على شقه الأيمن أن يستقبل به القبلة.
= وهذا عند الحنابلة على سبيل الوجوب.
= والقول الثاني: عند الحنابلة أنه على سبيل الاستحباب لا الوجوب.
الدليل على استحبابه:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلتكم أحياء وأمواتاً.
وتقدم معنا أن هذا الحديث في إسناده رجل مجهول.
- الدليل الثاني: أيضاً أن ابن حزم قال: أنه على هذا عمل المسلمين من العهد
اللنبوي إلى يومنا هذا إنه إذا وضع على جنبه فإنه يوضع مستقبل القبلة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر.
فيث هذه العبارة ذكر سنتين:
- الأولى: استحباب رفع القبر.
- والثانية: أن مقدار الرفع شبر.
فعلمنا من هذا أنه لا يسن أن يكون القبر متساوي مع الأرض بل السنة أن يرفع
وأن يكون قدر الرفع شبر.
والدليل على ذلك:
- أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع قدر شبر.
وفي هذا الحديث ضعف.
والتعليل: - أن هذا العمل ينتج عنه أن يعرف أنه قبر فيترحم على صاحبه ولا
يؤذى أو يهان فتحصل هذه الفائدة.
والقول بأنه يرفع شبراً صحيح وهو السنة.
ويؤيده ما:
• قاله المؤلف رحمه الله:
مسنماً.
يعني: السنة في القبر إذا رفعناه قدر شبر أن نجعله مسنماً أي كهيئة سنام
البعير ولا نجعله مسطحاً وإنما يكون مسنماً.
- لما رواه سفيان التمار أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنماً.
وهذا في صحيح البخاري.
وكون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنم هذا يدل على أنه مرفوع وعلى
أنه نحو الشبر.
* * مسألة: استحب الإمام أحمد وكثير من الفقهاء أن لا نزيد في التراب الذي
يوضع على القبر عن المقدار الذي أخرجناه منه.
وإذا صنعنا هذا الشيء يعني: وضعنا التراب الذي أخرجناه من القبر فقط فوق
القبر صار مسنماً ومرفوعاً بقدر شبر.
ففي الحقيقة تجد أن هذه الأقوال تجتمع على معنى واحد تؤيده الآثار.
لما أنهى ما يتعلق بالسنة انتقل إلى المكروهات.
• فقال - رحمه الله -:
ويكره: تجصيصه، والبناء عليه، والكتابة.
يكره عند الحنابلة أن نجصص القبر أو أن نبني عليه بناء سواء كان مما له صفة
الدوام أو مما له صفة الزوال كالخيمة فلا يجوز هذا ولا هذا.
وأيضاً يكره أن نكتب عليه.
والدليل على هذا:
- ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه
وسلم -: نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها وأن يقعد عليها.
وفي الترمذي: وأن يكتب عليها.
فالنهي عن الكتابة ليس قي صحيح مسلم ولكنه في رواية عند الترمذي.
واختلف العلماء في صحة هذه الرواية وضعفها.
= فذهب بعضهم إلى تصحيحها.
= وذهب بعضهم إلى تضعيفها.
والصواب إن شاء الله أنها صحيحة.
وممن صححها العلامة المعلمي.
= القول الثاني: أن التجصيص والبناء والكتابة محرم.
- لأن النهي لا صارف له هذا أولاً.
- ثانياً: لأنه عهد من الشارع التشديد فيما يتعلق بالقبور لكثرة الافتتان
بها.
وبهذا البحث عرفنا أن الكتابة الصواب أنها لا تستثنى بل هي محرمة بناء على
ثبوت رواية الترمذي وأن من استثنى الكتابة لم يحالفه الصواب لأنها منصوص
على النهي عنها ومقرونة بالبناء والتجصيص والجلوس وهذا منهي عنه أشد النهي.
•
ثم قال - رحمه الله -:
والجلوس.
يعني: ويكره أن يجلس على القبر.
ويدل على هذا:
- ما تقدم معنا في حديث جابر أنه قال نهى
عن أن تجصص وأن يقعد عليها.
- والدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة إلى
القبور والجلوس عليها.
- والدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح:
(لأن يجلس أحدكم على جمرة فتنفذ إلى جلدة خير من أن يجلس على قبر) وهذا
الحديث صحيح.
ومن هذه الأحاديث الثلاثة عرفنا أن الشارع يشدد في مسألة الجلوس على القبر
لأن في الجلوس إهانة للميت المسلم والشارع جاء بتكريمه.
• ثم قال رحمه الله:
والوطء عليها.
الوطء على القبر مكروه.
والدليل:
- أنه في حديث جابر السابق الذي في مسلم رواية وأن يوطأ عليها.
فعرفنا أن رواية الوطء والكتابة خارج مسلم لكن مع ذلك الأقرب أن الوطء
محرم: إما أن نقول هذه الرواية صحيحة وثابتة - رواية الوطء - ,إن لم تثبت
فكذلك الوطء محرم لأن الوطء أشد من الجلوس.
فإذا ثبت النهي الصحيح الصريح عن الجلوس فالوطء من باب أولى.
والجلوس والوط على الإنسان أشد إهانة من الجلوس عليه.
• ثم قال رحمه الله:
والإتكاءُ إليه.
الاتكاء على القبر مكروه عند الحنابلة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
رأى رجلاً متكأ على قبر فقال له - صلى الله عليه وسلم -: لا تؤذي صاحب
القبر) وهذا الحديث إسناده حسن.
= والقول الثاني: أنه محرم وهذا القول في الحقيقة ينسجم مع النصوص والقواعد
العامة في احترام الميت.
* * مسألة: المشي بين المقابر يختلف عن الوطء على المقابر فإن الوطء تقدم
معنا أنه مكروه عند الحنابلة والأقرب أنه محرم والمشي بين المقابر مكروه
- لما فيه منن إيذاء الأموات.
- وقلة الإحترام.
- ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يمشي بين القبور فأمره أن
يخلع نعليه.
وسواء قلنا أن هذا الحديث صحيحاً أو كان الحديث ضعيفاً فالحكم صحيح وتدل
عليه النصوص العامة.
وكثير من الناس لا يفرق بين المشي بين القبور ووطء القبور. ولا يستثنى من
وطء القبور أن يجلب الإنسان معه أبنائه الصغار ثم يدعهم يهينون الموتى فإن
هذا محرم بل يجل عليه إذا اصطحبهم أن يمنعهم من أن يقوموا على القبور أو
يطأوا عليها أو يجلسوا عليها.
والشارع كما مر معنا في الأحاديث الثلاثة
وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار اعتنى عناية خاصة بإكرام الموتى لأنه مسلم
والمسلم يجب أن نحخترمه حياً وميتاً.
ثم انتقل إلى المحرمات:
• فقال رحمه الله:
ويحرم فيه: دفن اثنين فأكثر.
يحرم أن ندفن اثنين في القبر الواحد.
الدليل على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبر أصحابه كل إنسان لوحده.
=والقول الثاني: الذي مال إليه شيخ الاسلام وابن مفلح وغيره من المحققين
أنه مكروه ولا يصل إلى التحريم.
- إذ أن مجرد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على التحريم.
والذي أميل إليه في الحقيقة أنه يحرم لأن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم -
وإن كان مجرد فعل لكنه خرج لبيان الواجب وهو التشييع وقبر الموتى وإذا كان
خرج لبيان واجب فهو واجب هذا شيء والشيء الثاني: أنه لم يعرف أبداً أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحداً من أصحابه قبر اثنين معاً في قبر
واحد.
فالأقرب أنه محرم.
•
ثم قال رحمه الله:
إلاّ لضرورة.
فيجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قبر شهداء أحد صار يجعل
الاثنين في قبر واحد ويقدم أكثرهما أخذاً للقران إلى جهة القبلة.
• ثم قال رحمه الله:
ويجعل بين كل اثنين: حاجز من تراب.
يعني: ويستحب ولا يجب إذا وضعنا اثنين في قبر واحد في الحالة التي يجوز
فيها ذلك أن نضع بينهما تراب.
والتعليل: ليكوون كل واحد كأنه في قبر مستقل.
وهذا صحيح لأن في هذا إكرام للميت وفيه تقريب من مسألة وضع كل واحد في قبر.
• ثم قال رحمه الله:
ولا تكره: القراءَة على القبر.
القراءة على القبر لا تكره لأنه روي عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه أوصى إذا
قبر أن يقرأ على قبره فواتح البقرة وخواتيمها. وقد كان الإمام أحمد يكره أن
يقرأ على القبر فلما بلغه أثر ابن عمر رخص فيه.
= والقول الثاني: أن القراءة على القبر بدعة. لأن القراءة لو كانت مستحبة
لفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها أصحابه وهذا ما يفهم من كلام
الإمام مالك والإمام الشافعي: أن هذا الأمر بدعة.
* * مسألة: على القول بالمشروعية المقصود أن يقرأ عند قبره. يعني: بعد قبره
مباشرة.
أما إذا قبر وصار له فترة على القبر فإنه
لا يشرع مطلقاً - وهذا من تحرير محل النزاع وذكره شيخ الاسلام رحمه الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
وأيّ قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي: نفعه ذلك.
القرب التي تفعل وينوى ثوابها للميت تنقسم إلى قسمين - وهو الذي يسمى عند
الفقهاء: إهداء الثواب:
ـ القسم الأول: عبادات أجمع الفقهاء على أن ثوابها يصل إلى الميت وهي أربع:
1 - الصدقة.
2 - والعتق.
3 - والاستغفار.
4 - والحج.
فهذه أجمع الفقهاء كلهم على أن ثوابها إذا تبرع به العامل فإنه يصل للميت
إلا في خلاف شاذ في الحج.
والدليل على هذه:
- ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -
أن أباه مات ولم يحج أفأحج عنه قال: نعم. وهذا في الصحيح.
- وأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمه ماتت ولم تحج أفأحج
عنها قال: نعم.
- وأن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمه ماتت وكانت ستتصدق
أفأتصدق عنها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدق عن أمك.
- وأما الاستغفار فلعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أو ولد صالح
يدعو له). والاستغفار من جملة الدعاء.
- أما العتق فليس له دليل خاص - لا أذكر له دليل خاص - لكنه من جملة
العبادات المالية.
ـ القسم الثاني: ما عدا هذه العبادات فمختلف فيها ومن أبرز الأمثلة لها:
كالصلاة والصيام وقراءة القرآن وغالب الإهداء يكون بقراءة القرآن.
= فهذه ذهب الجمهور إلى أنه لا يشرع أن يتبرع بها ولا يصل للميت.
واستدلوا:
- بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}.
والجواب على الآية: أن معنى الآية أن لكل إنسان سعيه له خاصة ليس لأحد غيره
وهذا لا يمنع أن يتبرع به الإنسان لغيره كما أن المكاتب المالية الدنيوية
هي للإنسان ليست لغيره ومع ذلك يجوز أن يتبرع بها لغيره.
وبهذا أجاب شيخ الاسلام - رحمه الله - وهو أقوى الأجوبة.
وأضعف الأجوبة: القول بأنها منسوخة.
- الدليل الثاني للجمهور: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم
انقطع عمله) فنص على أن عمله ينقطع إلا من ثلاث وذكرها.
والجواب عليه: أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - ذكر أن عمل الميت الشخصي انقطع وليس في الحديث أنه لا يصله ما يتبرع
له ويهدى إليه.
وبهذا أيضاً أجاب شيخ الاسلام - رحمه الله - وهو جواب سديد.
= والقول الثاني: وهو الذي تبناه الإمام أحمد - رحمه الله - في المشهور عنه
أن جميع العبادات تصل إلى الميت.
واستدل على ذلك:
- بأنه ثبت في السنة وصول بعض العبادات فيقاس عليه سائر العبادات لعدم
المانع.
بناء على هذا القول الذي تبناه الإمام أحمد: - لو صلى الإنسان ونوى أن أجره
لزيد أو لأبيه أو لأمه فإن الثواب يصل.
- لو صام كذلك.
- لو قرأ القرآن كذلك ... إلخ ..
والأقرب والله أعلم مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - لأنه لا يظهر للإنسان
وجه يخصص فيه العبادات التي جاءت في السنة وإنما هذه العبادات سأل عنها
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط.
ويؤيد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)
مع أن الصيام ليس من المتفق عليه وإنما من المختلف فيه.
* * مسألة: إذا عرف الإنسان هذا الخلاف فمن فقه الرجل ومعرفته بأقوال
العلماء أن لا يتبرع إلا بالعبادات التي اتفق عليها وأي ضرر يأتي الإنسان
أن يقتصر في إهدائه الثواب على العبادات المتفق عليها فإنه بذلك يضمن وصول
الأجر للميت ويحصل مقصوده ويخرج من الخلاف.
ثم العبادات التي اتفق عليها أسهل وأيسر من العبادات التي اختلف فيها.
ومن فقه الرجل أن يكثر في العبادات المتفق عليها من الاستغفار لأمرين:
- أولاً: أن الحديث نص: (أو ولد صالح يدعو له) فكأن هذا هو أحسن ما يصل إلى
الميت.
- ثانياً: أنه ثبت فيث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى بيت
عائشة وخلع ردائه وحذائه واضطجع بجوار عائشة ثم لما ظن أنها نامت قام بهدوء
ولطف وأخذ الرداء وانتعل النعال وخرج .. الحديث .. ثم خرجت معه لأنها ظنت -
رضي الله عنها - أنه سيذهب إلى نسائه .. إلى آخره .. والشاهد أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - لما رجعوا إلى البيت قال: إن جبريل أتاني ووقف بجانب
الباب وهو لا يدخل إذا وضعت ثيابك يعني عائشة ثم قال: أخرج واستغفر لأهل
البقيع.
وجه الاستدلال أنه قال: استغفر لهم.
ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أمر بأحسن الأعمال فإنه لم له صل لهم ولا تصدق عنهم ولا اقرأ القرآن عنهم
وإنما قال: استغفر لهم.
- الوجه الثالث: ما صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: استأذنت ربي
أن أزور قبر أمي وأن أستغفر لها فأذن لي بالزيارة ومنعني من الاستغفار.
ووجه الاستدلال: أنه طلب الإذن بالاستغفار.
فمن فقه الانسان إذا أراد أن ينفع أحداً من أمواته أن يكثر من قضية
الاستغفار.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويسن: أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم.
= اتفق الأئمة الأربعة كلهم على أن صنع طعام للميت سنة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم
ما يشغلهم).
= وذهب الحنابلة إلى أن هذه السنة تستمر لمدة ثلاثة أيام.
= وذهب الشافعية إلى أنه يوم وليلة فقط: يعني يصنع لهم طعام لمدة يوم
وليلة.
والأقرب والله أعلم ثلاثة أيام لما سيأتينا في التعزية.
بهذا انتهى الكلام عن أحكام وسنن ومحرمات الدفن وفي ختام هذا الفصل نذكر
ثلاث مسائل أو مسألتين.
ـ المسألة الأولى: لا يشرع أن يوضع تحت رأس الميت أي حائل بينه وبين الأرض
سواء كان قماش أو حجر خلافاً لمن قال بمشروعية ذلك لأنه لم يثبت أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أو أحداً من أصحابه صنع ذلك بل ثبت عن عمر أنه أمر أن
يوضع خده على الأرض حتى في القبر.
وأما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع تحته قطيفة حمراء فهذا صنع أحد
الصحابة ولم يوافقه عليه سائر الصحابة وإنما نزل أخيراً ووضع هذه القطيفة
ولم يصنع في قبور المسلمين ذلك ولم يصنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ـ المسألة الثانية: ذهب بعض أهل العلم إلى مشروعية أن يحثو الإنسان ثلاث
حثيات في القبر إما من جهة الرأس أو من غير جهة الرأس.
والصواب أن هذا لا يشرع ولا يسن لأنه فيما يظهر لي بعد جمع الأدلة والنصوص
أن جميع ما جاء في هذا الباب ضعيف لا يصلح لإقامة السنة.
فهذا الذي ظهر لي في مسألة الحثيات لأنه لا يثبت حديث في هذا الباب
والأحاديث التي رويت فيه معلولة.
ـ المسألة الأخيرة: لايشرع كشف وجه الرجل
لأنه ليس في الآثار أن الصحابة كانوا بعد التكفين إذا وضعوه في اللحد كشفوا
وجهه والأصل أن يبقى كما هو إلا في مسألة واحدة على القول بأن المحرم يحرم
عليه أن يغطي وجهه فيبقى وجه الميت المحرم مكشوفاً بالإضافة إلى الرأس.
وعلى القول السابق الذي ذكرته لكم ورجحته وتبين لي ضعف هذه الرواية وأنها
شاذة فيغطى وجه الميت المحرم أيضاً وإنما يكشف فقط الرأس.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويكره لهم فعله للناس.
يعني يكره لأهل الميت أن يصنعوا هم للناس طعاماً.
الدليل على هذا من وجهين:
- الأول: ما روي عن جرير أنه قال: كنا نعد صنع الطعام والجلوس لأهل الميت
من النياحة.
- الثاني: أن هذا يؤدي إلى اجتماع الناس والاجتماع لا يستحب.
- الثالث: أنه لم ينقل أن أهل الميت كانوا يصنعون للناس طعاماً في العهد
النبوي وإنما العكس طلب من غير أهل الميت أن يصنعوا طعاماً.
* * مسألة: استثنى الشيخ الفقيه ابن قدامة من هذا صورة وهي: ما إذا جاء
أقارب أهل الميت من بلد بعيد وسكنوا كضيوف قال: فإنه لا يسعهم عرفاً إلا أن
يصنعوا لهم طعاماً.
وهذا القول وجيه جداً. وهذا الطعام المصنوع في الحقيقة ليس لأجل الاجتماع
للعزاء بقدر ما هو إكرام للضيوف الأقارب الذين حضروا لتعزية أهل الميت
بدليل أن هذا الطعام يصنع لهؤلاء ولا يصنع لسائر الناس.
فأقول: أن ما ذكره الشخ ابن قدامة - رحمه الله - وجيه ولا بأس به وإن كان
قد يفتح باباً لكن الأصل أنه لا بأس به إذا تقيدوا بهذا القيد وهو أن يأتي
إليهم ضيوف يسكنون عندهم فيحرجون منهم عرفاً فيكرمونهم فلا بأس بهذا القدر
إن شاء الله.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...
انتهى الدرس
فصل
[في زيارة القبور]
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين.
فهذا الفصل هو آخر فصل في كتاب الجنائز وختم المؤلف - رحمه الله - به كتاب
الجنائز ليذكر أحكام زيارة القبور والتعزية وما يتعلق بهذه الأمور.
وصدر الفصل بحكم زيارة القبور:
• فقال - رحمه الله -:
تسن.
ومقصوده - رحمه الله - بقوله: (تسن) يعني للرجال فهي سنة للرجال وهو محل
اتفاق.
ودليل السنية:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها
فإنها تذكر الموت). وهذا في مسلم.
وفي رواية للترمذي: (فإنها تذكر الآخرة).
ـ فزيارة الرجال للقبور سنة بالإجماع والنص.
ـ والغرض منها عند أهل السنة والجماعة:
- أولاً: الاعتبار والاتعاظ بحال الموتى للاستعداد.
- ثانياً: الدعاء للموتى.
وليس للزيارة قصد سوى ذلك.
ـ وأما قصد القبور لعمل عبادة أو لدعائه أصحابها أو للدعاء عند أصحابها كل
هذا يدور بين الشرك والبدعة.
فبعض هذه الأعمال شرك وبعضها بدعة - ستأتيكم مفصلة إن شاء الله في كتاب
التوحيد.
•
ثم قال - رحمه الله -:
تسن زيارة القبور إلاّ لنساء.
مسألة زيارة النساء للقبور مسألة الخلاف فيها قوي والأقوال متكافئة ولكل
قول في الحقيقة وجهة نظر معتبرة.
= فمذهب الحنابلة واختاره شيخ الاسلام وابن القيم والإمام المجدد محمد بن
عبد الوهاب وأبنائه - رحمهم الله جميعاً - أن زيارة المرأة للقبور محرمة،
وهو رواية للحنابلة.
واستدلوا على التحريم:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله زائرات القبور) وفي رواية:
(زوَّارات القبور).
واعتمد الذين استدلوا بهذا الحديث على مسألة تصحيح رواية: (زائرات) وأن
رواية: زائرات وزوَّارات كلاهما ثابت.
وإثبات رواية زوَّارات وزائرات الذي يظهر لي - الآن - أنه صحيح يعني: أن
رواية زائرات صحيحة وثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
= والقول الثاني: أن زيارة القبور مكروهة.
= والقول الثالث: أنها مباحة.
واستدل الذين قالوا بالإباحة بعدة أدلة - نأخذ أقوى وأصح هذه الأدلة:
- الدليل الأول: ما ثبت أن عائشة - رضي الله عنها - زارت قبر أخيها عبد
الرحمن في مكة.
وأجاب المانعون بأجوبة منها: - أنها لم تزر أخاها وإنما مرت على قبره أثناء
دخوةل مكة لأنها لم تحضر موته ومرور المرأة بالمقابر لا حرج فيه إنما
الممنوع الزيارة فإذا مرت بدون قصد فيشرع أن تسلم ولا حرج في ذلك.
- وأجابوا بجواب آخر وهو: أنها قالت: أنها
زارت أخاها لأنها لم تحضر موته وإلا لم تفعل ففي هذه العبارة منها دليل
أنها ترى المنع لولا أنها لم تحضر الجنازة.
- الدليل الثاني: الحديث الذي سبق معنا وفيه خروج النبي - صلى الله عليه
وسلم - واستغفاره لأهل قباء وفي آخره قالت عائشة للنبي - صلى الله عليه
وسلم - كيف أقول لهم: يعني للموتى فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم -
بصيغة الدعاء الذي سيأتينا.
وهذا الحديث ثابت في الصحيح.
والجواب عنه من وجهين: - الوجه الأول: أن يحمل هذا على أنها أرادت العلم
لنشره لا للعمل به في هذه المسألة يعني: أرادت أن تعرف أحكام الزيارة لتنشر
هذا العلم باعتبار أن عائشة - رضي الله عنها - من علماء الصحابة ولها فتوى
معتبرة فأرادت أن تطلب العلم فقط.
- والوجه الثاني: أنها أرادت بذلك - يعني: إذا مرت من غير قصد.
وإذا سمعت الأقوال عرفت أنه لا قائل بأن زيارة النساء سنة وإنما مكروهة أو
محرمة أو مباحة فقط فلا أعلم أن أحداً من أهل العلم قال بأن زيارة النساء
سنة.
والأقرب والله أعلم فيما يظهر القول الأول.: - لأنه يغلب على النساء عند
زيارة القبور الوقوع في المحرم والمنهي عنه من البكاء والجزع وعدم الصبر.
- والحكم إذا علل بعلة منتشرة لا تنضبط منع كاملاً.
- ومما يدل على التحريم: - مما يقوي القول بالتحريم: حديث أم عطية: (نهينا
عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) فإذا كانت المرأة منهية عن اتباع الجنازة
فمن باب أولى الزيارة.
وعلى كل الأقرب المنع وإن كان الأمر كما قلت فيه إشكالات وفيه بحث من جهة
تكافؤ الأقوال والأدلة ولكن الأقرب هو ما ذكرت من المنع وهو اختيار عدد
كبير من المحققين المعاصرين والمتقدمين.
* * مسألة: فإذا قيل أن الزيارة محرمة: فالصواب أنه يستوي في ذلك زيارة
قبور سائر الناس وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لايوجد في
الأدلة أبداً ما يدل على التفريق فزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
وغيره سواء.
بناء على هذا لا يجوز للمرأة أن تزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا
قبر صاحبيه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -.
• ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً السنة في
أذكار دخول المقابر:
ويقول إذا زارها أو مر بها.
استفدنا من هذه العبارة أن هذا الذكر مندوب لمن زار: يعني: دخل. أو مر
مروراً فإنه يقول هذا الذكر.
وسواء مر وبينه وبين المقبرة حائل أو ليس بينه وبين المقبرة حائل فما دام
مر بالمقبرة فيقول هذا الذكر:
- ((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ
وَالمُسْتَأْخِرِينَ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ
اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ
وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ)).
المؤلف - رحمه الله - في هذا الذكر خلط أربعة أحاديث والحقيقة إتيانه
بالذكر على هذه الطريقة مشوش جداً ولو أنه اكتفى بلفظ واحد لأحد الصحابة
مخرج في الصحيح لكان أولى من هذا التدخيل بين الألفاظ.
فليس في السنة حديث بهذا التركيب.
وممن أن نفصل الذي قاله:
- فقوله: ((السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ
شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ)) إلى هنا هذا الذكر كامل من حديث أبي
هريرة في مسلم.
- قوله: ((يَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ
وَالمُسْتَأْخِرِينَ)) هذا جزء من حديث عائشة في مسلم ولكن في مسلم بدل
منكم: منا.
- وقوله: ((َسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ)) جزء من حديث
بريدة في مسلم.
- وقوله: (اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلاَ تَفْتِنَّا
بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ) هذا جزء من حديث عائشة عند الإمام
أحمد.
وحديث عائشة الذي رواه الإمام أحمد آخره: ((اللهم لا تحرمنا أجرهم وأوله
كلفظ حديث أبي هريرة في مسلم. فصار حديث عائشة الذي رواه الإمام أحمد:
(السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، اللهم لا
تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتسن تعزية المصاب بالميت.
في التعزية عدة مسائل:
- المسألة الأولى: التعزية هي تسلية المصاب والتخفيف عنه وأمره بالصبر
والدعاء له وللميت.
هذه هي التعزية في الشرع فليست ذكراً
معيناً كما يفهم بعض الناس وإنما التعزية هي ما يجمع هذه المعاني.
- المسألة الثانية: التعزية مشروعة بجماع الفقهاء فلم يخالف أحد من الفقهاء
أن التعزية سنة.
- المسألة الثالثة: اتفق الفقهاء على أن التعزية مشروعة قبل وبعد الدفن
فكلهم رأى أن هذا جائز إلا أنهم اختلفوا في الأولى:
= فمنهم من قال: الأولى بعد الدفن.
= ومنهم من قال: الأولى قبل الدفن.
وعلل الذين قالوا بأن الأولى بعد الدفن: - بأنه قبل الدفن أهل الميت
مشغولون به وبتجهيزه وبوقوع الخبر عليهم كما أنه بعد الدفن تزداد عادة
الأحزان فيحتاج الإنسان إلى تعزية.
- المسألة الرابعة: الصواب أنه ليس للتعزية صيغة معينة وهذا قول الإمام
أحمد واختيار شيخ الاسلام بن تيمية فكيفما عزى وبأي لفظ جاز.
- المسألة الخامسة: أفضل الصيغ ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا
يتعين كما تقدم: (لله ما أخذ ولله ما أبقى وكل شيء عنده بمقدار) وأمرها أن
تصبر وتحتسب.
- المسألة السادسة: مدة التعزية: = ذهب الجمهور من الفقهاء ومنهم الحنابلة
إلى أن مدة التعزية ثلاثة أيام. ثم إذا انتهت صارت التعزية مكروهة.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأول: أن أهل الميت بعد ثلاثة أيام تخف عندهم الأحزان وفي تعزيتهم إثارة
من جديد لهذه الأحزان.
- الثاني: استأنسوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل لامرأة
مسلمة تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا).
فأجاز الإحداد ثلاثة أيام على غير الزوج فاستأنسوا به.
= القول الثاني: أنه لا حد لوقته وهو مذهب المالكية.
- لعدم الدليل على التحديد.
فيجوز أن يعزي الإنسان في اليوم الرابع والخامس والسادس.
والصواب: أن التعزية تنتهي بثلاثة أيام إلا إذا رأى المعزي أن الأثر والحزن
باق على أهل الميت فلا بأس أن يخفف عنهم بلا كراهة.
وقوله: (تعزية المصاب). فيه دليل على أن التعزية لا تختص بأهل الميت بل
يعزى أصدقائه ومعارفه الذين ليسوا من الأخلاء إذا أصيبوا بالميت.
لأنه يقول: تعزية المصاب. إذا أصيبوا بالميت. يعني: إذا وجدوا لفراقه حزناً
وأسىً.
وقد تجد بعض معارف الميت موته أشد عليهم من
بعض الأقارب وهذا معروف ولذلك نقول يعزى كل من أصيب بهذا الميت فإذا كان
الميت كل الناس أصيبوا به كأن يكون من علماء الأمة المشهود لهم بالخير
والصلاح فالجميع يعزي الجميع لأن الجميع مصاب.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجوز البكاءُ على الميت.
يجوز أن يبكي الإنسان على الميت عند الحنابلة والجمهور.
ـ لكثرة النصوصض الدالة على جوازه:
- منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى على ابنه.
- ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - بكى على عثمان بن مظعون.
- ومنها: أن جابر بكى على أبيه فجعلوا يسكتونه والنبي - صلى الله عليه وسلم
- صامت ولم ينكر عليه.
- ومنها: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما كشف وجه النبي - صلى الله
عليه وسلم - بكى.
وفي السنة غير هذه الأحاديث كثير في جواز البكاء.
ويشترط في البكاء: أن لا يصحبه منكر من النياحة أو الجزع أو التسخط كما
سيأتينا.
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله).
فالجواب عليه: أن البكاء المقصود في هذا الحديث هو: النياحة. يعني البكاء
المحرم جمعاً بينه وبين النصوص.
والبكاء رحمة بالميت وشفقة عليه وطلباً للخير أفضل من التجلد أو من الضحك.
ودليل الأفضلية:
- أنه حال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ختم المؤلف - رحمه الله - الباب بالمحرمات التي تحصل فيما بعد الموت.
• فقال - رحمه الله -:
ويحرم: الندب، والنياحة، وشَق الثوب، ولطم الخد، ونحوه.
ـ الندب: هو تعداد محاسن الميت مع استخدام حرف الندب أو الندبة وهو: وا.
هكذا عرفه الفقهاء كأن يقول: وارجلاه واجبلاه واسنداه. قال بعضهم: وأن يكون
مع البكاء.
والصواب أن البكاء ليس شرطاً في الندب فقد يحصل بلا بكاء.
ـ وأما النياحة: فهي البكاء على الميت معه الجزع والتسخط وعدم الصبر ورفع
الصوت. فالنياحة لا بد فيها من البكاء.
• قوله: وشق الثوب ولطم الخد ونحوه.
ـ شق الثوب: واضح.
ـ ولطم الخدود: واضح.
وقوله: ونحوه: يعني: كالصراخ فإنه من أكثر ما يعمل من الجزع عند موت
[الإنسان].
والدليل على تحريم هذه الأمور:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس
منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية). وهذا نص في تحريم هذه
الأمور.
- وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (النائحة إذا لم تتب قبل الموت جاءت
يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب). وإلباس المرأة سربال من
القطران وهو عادة ما يكون حاراً جداً.
والدرع هو الثوب ومن جرب دليل على أن هذا الفعل محرم بل هو من الكبائر لما
فيه من الاعتراض على قدر الله والتسخط.
والمعنى الذي يجمع هذه الأشياء المحرمة هو: إظهار الجزع وعدم الصبر وعدم
الرضا مع ما يحتف به من قرائن من الضرب ورفع الصوت والصراخ .. إلى آخره.
وبهذا انتهى ولله الحمد الكلام عن كتاب الجنائز وننتقل إلى كتاب الزكاة.
يتبع الدرس = كتاب الزكاة.
|