شرح زاد المستقنع للخليل

باب الإعتكاف.
• ثم قال - رحمه الله -:
باب الإعتكاف.
ذكر المؤلف رحمه الله باب الاعتكاف بعد أحكام الصيام وجعله ضمن كتاب الصيام لأمرين:
- الأول: أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتكف إلا في رمضان فيما عدا سنة واحدة سيأتي الحديث عنها.
- الثاني: أن بعض أهل العلم اشترط للإعتكاف الصيام.
فناسب لهذا أن يجعل باب الاعتكاف ضمن كتاب الصيام.
قوله: باب الاعتكاف.
الاعتكاف لغة: هو لزوم الشيء وحبس النفس عليه.
سواء كان هذا اللزوم أو الحبس على جهة بر أو على جهة مباحة أو على جهة معصية.
فمن حيث اللغة لا يختلف الأمر.
وأما اصطلاحاً: فقد عرفه المؤلف:
• بقوله - رحمه الله -:
هو لزوم مسجد لطاعة اللَّه تعالى.
وقد انتقد شيخ الاسلام - رحمه الله - هذا التعريف ورأى أن الصواب أن يقول: لزوم مسجد لعبادة الله بدل لطاعة الله.
وعلل ذلك: بأن الطاعة قد تنصرف لغير العبادة المحضة كالأعمال التي تكون عبادات بالنية كمن نام وقد نوى التقوي أو أكل وقد نوى التقوي. فهذا النوم والأكل والاستراحة تعتبر عبادة بالنية.
فأراد شيخ الاسلام أن يقول أن الاعتكاف ليس لهذا النوع من العبادات وإنما هو للعبادة المحضة التي هي التذلل والخضوع لله.
فيكون الصواب في التعريف أن نقول هو لزوم مسجد لعبادة الله.

ثم قال - رحمه الله -:
مسنون.
أي أن الاعتكاف مسنون ومستحب ومشروع.
ودل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.
- أما الكتاب: فقوله تعالى: - (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -[البقرة/187]. فدل هذا النص على أن الاعتكاف مشروع في الجملة.
- أما من السنة: فأحاديث كثيرة وأعظمها ما ثبت وتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في رمضان في العشر الأخير منه.
- وأما الإجماع: فقد حكى أكثر من واحد أن الاعتكاف مسنون مندوب مستحب.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويصح بلا صوم.
يعني أن الاعتكاف يصح ولو لم يكن معه صوم.


=وهذا مذهب الحنابلة - كما ترون - والشافعية واختاره ابن حزم - رحمه الله -.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الدليل الأول: ما جاء في الصحيح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. زالليل ليس وقتاً للصيام.
- الدليل الثاني: صح عن ابن عباس أنه قال: ليس بلازم على المعتكف أن يصوم.
- الدليل الثالث: أنه لا دليل على اشتراط الصيام للاعتكاف. فالأصل صحة العبادة ومن اشترط شرطاً فعليه الدليل.
= والقول الثاني: أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصيام. فمن أراد أن يعتكف فلا بد أن يصوم وإلا بطل اعتكافه.
وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام - رحمه الله -.
واستدل:
- بأنه لم يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتكف قط وإلا وهو صائم ولا عن أصحابه أنهم اعتكفوا إلا وهو صائمون.
- والدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قرن بين الصيام والاعتكاف في كتابه بقوله: - (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -[البقرة/187].
والصواب مع الحنابلة ورجحان هذا القول بين وظاهر.
والجواب عن قول شيخ الاسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف: أنه اعتكف فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما اعتكف في سنة من السنوات اعتكف معه أزواجه كلهن فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ورأى الأخبية منتشرة في المسجد قال: آلبر أردن. فأكر بخبائه أن يزال وبأخبيتهن أن تزال وخرج من معتكفه ثم قضا الاعتكاف في شوال. فاعتكف العشر الأول من شوال.
ومن المعلوم أن العشر الأول من شوال أولها عيد والعيد لا يجوز صيامه فتبين أنه اعتكف بلا صيام.
إذاً هذا القول الذي مشى عليه المؤلف - رحمه الله - وهو مذهب الشافعية واختيار بن حزم هو الصواب إن شاء الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويلزمان بالنذر.
يعني: أن الصوم والاعتكاف يصبحان واجبان على من نذر ذلك.
- لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نذر أن يطيع الله فليطعه). وهذا يشمل أي عبادة ومن ذلك الصيام والاعتكاف.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا يصح: إلاّ في مسجد يُجْمَّع فيه.
شمل كلام المؤلف - رحمه الله - مسألتين:


- - المسألة الأولى: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد. وهذا القدر: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد محل إجماع فقد أجمع العلماء أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد.
واستدلوا على ذلك:
- بقوله سبحانه وتعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -[البقرة/187]. فربط الاعتكاف بالمسجد
- وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا في مسجد.
- وبما ثبت في حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف لم يدخل داره إلا لحاجته أي التي لا بد منها.
هذه هي المسألة الأولى وهي محل إجماع.
- - المسألة الثانية: قوله: (إلا في مسجد يجمَّع فيه).
يعني: يشترط في المسجد أن يجمَّع فيه أي تقام فيه الجماعات دون الجمعة فلا يشترط.
= فالحنابلة يرون أنه يشترط في المسجد الذي يعتكف فيه الانسان أن تقام في الجماعات.
الدليل:
قالوا: الدليل على ذلك:
- أنه يلزم من عدم ذلك: إما أن يترك صلاة الجماعة وهي واجبة. أو أن يخرج لها فيتكرر خروجه مما يقدح في اعتكافه لأنه يستطيع أن يتحرز عن هذا الخروج بأن يعتكف في مسجد فيه صلاة جماعة. هذا الدليل الأول.
- الدليل الثاني: أنه روي عن ابن عباس وعائشة وغيرهما أنه يشرع الاعتكاف في المسجد الذي تقام فيه الجماعة.
= القول الثاني: أنه يشترط للمسجد الذي يعتكف فيه الإنسان أن تقام فيه الجمعة.
واستدلوا على هذا:
- بقولهم: لأن لا يخرج مع إمكان التحرز من هذا الخروج.
= والقول الثالث: وهو أخص الجميع: أنه لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة. فإن اعتكف في غيرها بطل اعتكافه.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة).
ويقصد بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى.


والجواب عن هذا القول ودليله: أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من قول حذيفة فقد دخل حذيفة - رضي الله عنه - على مسجد الكوفة الكبير فوجد الناس فيه معتكفين فقال: من أمركم بهذا فقالوا: ابن مسعود وأبو موسى فذهب منكراً وقال: لابن مسعود أعتكاف في غير المساجد الثلاثة فقال ابن مسعود: لعلك أخطأت وأصابوا. ولعلك نسيت وتذكروا.
فأخذنا من هذه القصة أن رأي ابن مسعود وأبو موسى الأشعري جواز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة.
الراجح من هذه الثلاثة أقوال: المذهب.
- أولاً: لقوة ما استدلوا به.
- ولأنه مروي عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز الاعتكاف في غير مسجد الجمعة واشتراط مسجد الجماعة.
- ولأن حديثهم - أصحاب القول الثالث - ضعيف.
واجتهاد ابن مسعود لا شك أنه أحب إلينا من اجتهاد حذيفة مع علو وفضل كلاً منهما - رضي الله عنهما - إلا أن ابن مسعود من أعلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم قال - رحمه الله -:
إلاّ المرأة ففي كل مسجد.
يعني إلا المرأة فيجوز أن تعتكف في كل مسجد ولو في مسجد لا تقام فيه الصلوات الخمس.
ويقاس على المرأة: كل من لا تجب عليه صلاة الجماعة: كالمريض وسائر أصحاب الأعذار. فكل هؤلاء يجوز لهم أن يعتكفوا في غير مسجد جماعة.
لكن لابد في مسجد أيضاً. فيجوز لهم أن يعتكفوا في مسجد ولو كان هذا المسجد لا تقام فيه الجماعة لسبب أو لآخر.
• ثم قال - رحمه الله -:
سوى مسجد بيتها.
أي: فلا يجوز أن تعتكف فيه.
ومسجد البيت هو: المكان الذي خصصته المرأة للصلاة في بيتها.
فهذا المسجد لا يجوز أن تعتكف فيه لأمرين:
- الأول: أن المسجد عند الاطلاق ينصرف إلى المسجد المبني الذي تقام فيه الجماعة بنداء وإمام.
- الثاني: أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يعتكفن في المسجد ولو كان الاعتكاف في البيت جائز لاعتكفن في البيت لأنه أستر وأحفظ.
فبهذين الدليلين: تبين بلا شك أن المرأة لا يجوز لها أن تعتكف ببيتها وإنما تعتكف في المسجد.
• ثم قال - رحمه الله -:


ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة - وأفضلها الحرام فمسجد المدينة فالأقصى -: لم يلزمه فيه.
معنى هذه العبارة التي أدخل المؤلف فيها المسائل بعضها ضمن بعض.
- المسألة الأولى: وهي المقصودة الآن: أن من نذر أن يصلي أو يعتكف في مسجد من المساجد فإنه لا يلزمه أن يعتكف في هذا المسجد المنذور. بل له أن يعتكف في مسجد آخر.
- المسألة الثانية: غير الثلاثة: يعني أن هذا الحكم يستثنى منه المساجد الثلاثة فإذا نذر أن يعتكف في المساجد الثلاثة فلا بد وستأتي في كلام المؤلف.
ونبقى إذاً في هذه المسألة: من نذر أن يعتكف أو أن يصلي في مسجد غير المساجد الثلاثة فلا يلزمه أن يصلي ولا أن يعتكف في هذا المسجد بل له أن يصلي أو أن يعتكف في أي مسجد.
استدلوا على هذا:
- بأن الشارع الحكيم لم يعين موضعاً خاصاً للعبادات فلا تتعين .... ((الأذان)).
(بعد الأذان): قال شيخنا حفظه الله:
- الدليل الثاني على عدم اللزوم: أنه لو ألزمناه بما نذر للزم من ذلك أن تشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فلو نذر أن يعتكف في مسجد خارج بلدته للزمه أن يشد الرحال إلى هذا المسجد. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
= القول الثاني في هذه المسألة:
أن من نذر أن يعتكف في مسجد معين فإنه يلزمه أن يعتكف في هذا المسجد إلا إذا لزم من ذلك شد الرحال فلا يلزمه.
= والقول الثالث: أن من نذر الاعتكاف في مسجد معين فلا يلزمه إلا إذا كان نذر ذلك لمزية شرعية في المسجد ككثرة الجماعة أو قدم المسجد أو أي مزية شهد لها الشارع بالاعتبار.
وهذا اختيار شيخ الاسلام بن تيمية.
والصواب والله أعلم القول الثاني: أن من نذر أن يعتكف في مسجد معين لزمه أن يعتكف في هذا المسجد إلا إذا ترتب على ذلك شد الرحال.
والدليل على ترجيح هذا القول:
- عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نذر أن يطيع الله فليطعه).ووجوب الوفاء بالنذر يشمل أصل النذر ووصف النذر وهذا النذر موصوف بأنه في مسجد معين.
إذاً هذا القول الثاني هو الصواب.
بقينا في مسألة وهي:
• قوله - رحمه الله -:
(وأفضلها المسجد الحرام ثم النبوي ثم الأقصى).
الدليل على هذا الترتيب:


- ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة مما سواه إلا المسجد الحرام).
- وجاء في حديث جابر وصححه بعض العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة إلا المسجد الحرام فهي بمائة صلاة من مسجدي هذا وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة).

فصار الترتيب حسب دلالة هذا الحديث:
- المسجد الحرام: مائة ألف صلاة.
- والمسجد النبوي: ألف صلاة.
- والمسجد الأقصى: خمسمائة صلاة.
فهذا الترتيب في الفضل ومضاعفة الأجر في الصلاة دليل على أن المسجد الحرام هو أفضل البقاع ثم يليه المسجد النبوي ثم يليه المسجد الأقصى.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
انتهى الدرس،،،


قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بالأمس انتهينا من مسألةإذا نذر الاعتكاف والصلاة في المسجد فإنه عند الحنابلة لا يلزمه أن يعتكف أو أن يصلي قي هذا المسجد وله أن يصلي في أي مسجد شاء مع الخلاف والترجيح.
واليوم نبدأ ب:
• قوله - رحمه الله -:
وإن عين الأفضل: لم يجز فيما دونه.
قوله: وإن عين الأفضل: لم يجز فيما دونه. هذه العبارة تتعلق بالمساجد الثلاثة فقط.
وإن عين الافضل من المساجد الثلاثة لم يجز فيما دونه.
بناء على ذلك: لو نذر أن يعكتف بالمسجد الحرام فلا يجوز ولا يفي بنذره لو اعتكف بالمسجد الأقصى أو في المسجد النبوي.
ولو نذر أن يعتكف في المسجد النبوي فلا يجوز ولا يفي بنذره لو اعتكف في المسجد الأقصى.
• ثم قال - رحمه الله -:
وعكسه بعكسه.
الدليل على المسألة الأولى:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من نذر الله فليطعه). وتقدم معنا أن هذا الحديث يوجب الوفاء بالنذر من حيث الأصل والوصف.
والوصف هنا هو: أن يعتكف في مكان معين وهو: المسجد.
• وقوله - رحمه الله -:
وعكسه بعكسه.
يعني إذا نذر أن يعتكف في المفضول جاز في الفاضل.
فلو نذر أن يعتكف في الأقصى جاز في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي.


ولو نذر أن يعتكفق في المسجد النبوي فيجوز له أن يعتكف في المسجد الحرام ولا يفي بنذره لو اعتكف في المسجد الأقصى.

والدليل على هذا:
- أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة فقال يارسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المسجد. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هاهنا فصل). فأعاد الرجل السؤال فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثانية: (هاهنا فصل) فأعاد الرجل السؤال غفال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (شأنك إذاً). وهذا حديث صحيح فيه دلالة على أن الإنسان إذا نذر أن يصلي في مسجد من المساجد الثلاثة جاز له أن يصلي فيما هـ أفضل منه كما في هذه القصة.
وفي هذا الحديث دليل على أن عدم الانقياد للأحكام الشرعية والتمسك بالظاهر قديم من عهد الصحابة وإن كان هذا ليس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الملازمين له وكأنه من الذين جاءوا في فتح مكة.
المهم: الحكم الذي يهمنا الآن أنه إذا نذر الإنسان شيئاً أن يصلي أوم أن يعتكف في مسجد من الثلاثة جاز له أن يصلي في غيره.
وإنما قلنا أن هذا البحث الذي نتكلم عنه خاص بالمساجد الثلاثة لأنه تقدم معنا أن المؤلف - رحمه الله - يرى أن من نذر الاعتكاف في مسجد يجوز له أن يعتكف في مسجد آخر.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن نذر زمناً معيناً: دخل معتكفه قبل ليلته الأُولى.
إذا نذر الانسان أن يعتكف زماناً معيناً كالعشر الأخيرة من رمضان أو العشر الأولى من شوال أو العشر الوسطى من محرم أي زمن محدد فإن هذا الزمن يبدأ في الاعتكاف لكي يصدق عليه أنه أوفى بنذره بأن يدخل قبل ليلته الأولى.
ولنجعل المثال الذي نوضح به المسألة: أن ينذر الاعتكاف في العشر الاخيرة من رمضان فيجب عليه ليوفي نذره أن يدخل قبل مغيب الشمس من اليوم العشرين بقليل قبيل مغيب الشمس ليصدق عليه أنه من أول ليلة الواحد والعشرين موجود في المسجد.
واستدل الحنابلة على هذا الحكم بدليلين:
- الدليل الأول: أن العشر الاخيرة من رمضان تبدأ بمغيب الشمس لليوم العشرين.


- الدليل الثاني: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتكف العشر الاوسط قال للناس من اعتكف معي فليعكتف في العشر الاخيرة.

وجه الاستدلال بهذا الدليل من وجهين:
ــ الأول: أن كلمة العشر بدون الهاء هي عدد لليالي. ولا تكون الليالي عشر إلا بإدخال ليلة الواحد والعشرين.
ــ الثاني: أنه قال لهم هذا - صلى الله عليه وسلم - قبيل ليلة الواحد والعشرين.
ــ ثالثاً: هذا الدليل خاص بالعشر من رمضان ولا يصدق في غيرها من الاوقات وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اعتكف في العشر ليوافق ليلة القدر وليلة القدر ربما تكون ليلة إحدى وعشرين فلزم من هذا أن يبقى ويعتكف في هذه الليلة ليوافق ليلة القدر.
= والقول الثاني: أن الدخول يكون في النذر الواجب بعد طلوع الفجر منم اليوم الواحد والعشرين أو في نذر العشر النفل بعد صلاة الفجر.
إذاً القول الثاني: أن يدخل إذا كان نذراً واجباً بعد طلوع الفجر مباشرة يعني قبيل طلوع الفجر يكون بالمسجد ليصدق عليه أنه من أول الفجر موجود في المسجد.
وإذا كان يعتكف تنفلاً في العشر الاخيرة فمن بعد صلاة الفجر.
والدليل على هذا القول المركب:
- أن عائشة - رضي الله عنها - قالت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل معتكفه لما صلى الفجر من اليوم الواحد والعشرين.
والجواب على هذا الحديث:
أن المقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بعد صلاة الفجر المكان الذي خصصه للاعتكاف أي اعتزل الناس واختلا بنفسه وإلا فهو في المسجد من الليل , وإنما حملنا هذا الحديث هذا المحمل للنصوص الاخرى الدالة على أن العشر تبدأ من مغيب الشمس من اليوم العشرين.
والقول الراجح إن شاء الله هو القول الاول وهو مذهب الحنابلة.
لما بين المؤلف - رحمه الله - البداية وهي قبل ليلته الاولى بين النهاية:

فقال - رحمه الله -:
وخرج بعد آخره.
المقصود بخرج بعد آخره يعني: بعد مغيب الشمس من آخر يوم من الايام التي نذر أن يعتكفها.
فإذا خرج في هذا الوقت فقد صدق أنه نذر أو صدق عليه أنه أوفى بنذره باعتكاف عشرة أيام.


= إلا أنه يستحب عند الحنابلة بالنسبة للعشر من رمضان أن يبيت ليلة العيد في المسجد ويخرج من المسجد إلى المصلى مباشرة ولا ينام عند أهله تلك الليلة.
واستدلوا على استحباب هذا الامر:
- بأنه مروي عن بعض الصحابة وعن جماعة من السلف.
وعللوا هذا بالاضافة إلى الآثار المروية:
- بأن في هذا القرن بين العبادتين الاعتكاف وصلاة العيد.
= القول الثاني: أنه يخرج إلى بيته إذا غابت الشمس ويذهب إلى مصلى العيد من بيته.
والقول الثاني أقرب وليس في السنة ما يدل بوضوح على استحباب بقاء المعتكف إلى أن يخرج إلى صلاة العيد فليس في السنة هذا الامر مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف مراراً ولم يأت في حديث صحيح أنه خرج من المسجد إلى مصلى العيد مباشرة.
وإن كان القول الأول وجيه ولذلك نص عليه الامام أحمد وأفتى به: أنه ينبغي ويستحب للإنسان أن يخرج من المسجد إلى مصلى العيد مباشرة وأن يبيت تلك الليلة يعني ليلة العيد في المسجد.
واعتمد الامام أحمد على الآثار المروية عن جماعة من السلف.

ثم قال - رحمه الله -:
ولا يخرج المعتكف: إلاّ لما لابد منه.
شرع المؤلف - رحمه الله - في بيان أحكام خروج المعتكف.
وخروج المعتكف من المسجد ينقسم إلى أقسام:
ــ القسم الأول: ما ذكره المؤلف - رحمه الله - نصاً وهو قوله: (لما لابد منه) وهوأن يخرج المعتكف لأمر لابد له منه. فخروج المعتكف لأمر لا بد له منه جائز بالاجماع ولا يبطل الاعتكاف.
- لما صحة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذات اعتكف لم يخرج إلا بيته إلا لحاجته التي لابد منها.
فهذا الحديث نص على أن الانسان يخرج لحاجته التي لابد منها.
ومن أمثلة هذه الحاجة: قضاء الحاجة. إذا لم يكن في المسجد مكان لها.
الاغتسال الواجب إذا لمخ يكن في المسجد مكان له.
الطعام والشراب أذا لم يتهيأ من يحضره له وما جرى مجرى هذه الأمور كأن يحتاج إلى تناول دواء لا يمكن أن يتناوله في المسجد.
وهذه أمثلة والقاعدة أن يخرج لأمر لابد له منه ولا يستطيع أن يبقة بدنه.
فهذا هو القسم الأول وهو محل إجماع.
• ثم قال - رحمه الله -: مشيراً إلى: القسم الثاني:
ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة.


ــ القسم الثاني: خروج المعتكف إلى قربة إلى عبادة كزيارة مريض وشهود جنازة يعني إلى عبادة ليست واجبة.
فاختلف الفقهاء - رحمهم الله - في حكم خروج المعتكف لعبادة ليست واجبة:
= فذهب الحنابلة إلى أنه لا يجوز له أن يخرج إلا بالشرط.
واستدلوا:
- بحديث عائشة السابق.
واستدلوا أيضاً:
- بأن عائشة - رضي الله عنها - كانت إذا اعتكفت وخرجت إلى بيتها لما لابد لها منه قالت فكنت لا أسأل عن المريض إلا وأنا مارة.
فهذان نصان على أن للمعتكف لا يخرج للقرب بدون شرط.
= والقول الثاني: أن المعتكف له أن يخرج ولو لم يشترط إلى كل قربة محبوبة إلى الله سواء كانت شهود جنازة أو عيادة مريض أو صلة رحم أو أي عبادة محبوبة إلى الله.
واستدل هؤلاء:
- بأن هذا مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن للمعتكف أن يخرج لقربة ولو لم يشترط.
والصواب كما هو واضح وظاهر مع الحنابلة لصراحة الأدلة التي تدلع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخرج إلا لأمر ضروري يحتاج إلى الخروج له.
ثم أشار المؤلف - رحمه الله - إلى القسم الثالث بـ:
• قوله - رحمه الله -:
إلاّ أن يشترطه.
وهو خروج المعتكف بالشرط.
وهذه المسألة فيها فرعان:
ــ الأول: مشروعية الشرط من حيث هو:
= ذهب الجمهور إلى أن الشرط مشروع - اشتراط المعتكف مشروع. وتنبني عليه آثاره وهي عدم بطلان الاعتكاف إذا خرج لما اشترط.
واستدلوا:
- بالقياس على الشرط في الحج. ووجه القياس: أن اللزوم في الحج أعظم منه في الاعتكاف بدليل: أن فاسد الاعتكاف لا يجب عليه قضائه وفاسد الحج يجب قضائه فاللزوم في الحج أعظم ومع ذلك جاز فيه الشرط ففي الاعتكاف من باب أولى.
= والقول الثاني: أن الشرط لا أثر له ولا يشرع فإن خرج بطل اعتكافه ولو اشترط.
واستدلوا:
- بأنه ليس في الشرع ما يدل على مشروعية الاشتراط في الاعتكاف مع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتكفوا ولم يأت عنهم ما يدل على مشروعية الاشتراط.
والصواب بإذن الله مع الجمهور الذين أجازوا الاشتراط وأما أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعله أنه لم يحتج إلى الاشتراط. ولذلك لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله.


فالراجح هو مشروعية الاشتراط وتأثيره في الاعتكاف.
ــ الفرع الثاني: ما حدود الاشتراط.

= ذهب الحنابلة إلى أنته يجوز أن يشترط الخروج لكل قربة ولكل أمر مباح لا يتنافى مع حقيقة الاعتكاف.
أما القربة فذكرنا الامثلة فيما تقدم.
وأما الأمر المباح الذي لا ينافي الاعتكاف ف:
- كاشتراطه أن يتعشى كل ليلة عند أهله.
- أو أن يخرج ليمكث عندهم ساعة.
وأما المثال للأمر المباح الذي ينافي الاعتكاف فكاشتراط الجماع أو مباشرة الزوجة أو - وهذا المهم - أو الخروج للتجارة.
فهذه ثلاثة أمثلة على الأمر المباح الذي ينافي الاعتكاف.
فالحنابلة يرون جواز اشتراط العبادة - القربة والأمر المباح الذي لا ينافي الاعتكاف.
= القول الثاني: وهو أضيق من الأول: أنه لا يشرع الاشتراط إلا للعبادات فقط دون الامر المباح وإلى هذا ذهب الشيخ المجد بن تيمية.
والأقرب القول الأول إن شاء الله وهو مذهب أكثر العلماء لأنه ما دام أننا صححنا مشروعية الاشتراط فتضييقه يحتاج إلى دليل.
وفهم من الخلاف الذي ذكرت أنه لا قائل بجواز اشتراط التجارة.
بناء عليه: أرى أن الذين يشترطون الخروج للدوام أن اعتكافهم باطل.
لماذا؟
لأن الدوام هو نوع من التكسب والتجارة فهو عمل يدر على صاحبه مكسب سواء كان هذا العمل وظيفياً أو أخذ صبغة التجارة فإن هذا التفريق حادث يعني لا أثر إنما المقصود أن يخرج للتكسب بأي وسيلة.
بناء عليه: نقول للذين لا يستطيعوع ترك الوظائف أنه لا يشرع لكم الاعتكاف لا ينفعكم الشرط لكن الانسان إن شاء الله يبلغ الاجر بنيته وينتظر إلى أن تبدأ الإجازة ثم يشرع في الاعتكاف ولو من وسط العشر.
ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بذكر مبطلات الاعتكاف:

فقال - رحمه الله -:
وإن وطئَ في فرج: فسد اعتكافه.
الجماع مبطل للإعتكاف بالنص والإجماع.
- أما النص فقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة/187].
= وذهب الجمهور وعامة المفسرين إلى أن المباشرة فيث هذه الآية هي الجماع.
وممن اختاره من المحققين الذين لأقوال أثر وثقل ابن جرير الطبري - رحمه الله -. اختار أن المقصود بالمباشرة في الآية هو الجماع.
إذاً الجماع لا إشكال فيه.


المسألة الثانية: المباشرة. المباشرة: مباشرة الزوجة محرمة بالإجماع ولكن اختلفوا هل تفسد أو لا تفسد؟
= فمن الفقهاء من قال تفسد قياساً على الجماع.
= ومنهم من قال: المباشرة محرمة ولكنها لا تفسد الاعتكاف.
واستدلوا على هذا:
- بأن المباشرة لا تفسد الصيام فمن باب أولى أن لا تفسد الاعتكاف. لأن عبادة الصيام أعظم وألزم من الاعتكاف فإذا لم يبطل الصيام المباشرة فكذلك في الاعتكاف.
وعرفنا من المسألة الثانية أن هناك فرقاً كبيراً بين المباشرة في الصيام والمباشرة في الاعتكاف.
- المباشرة في الاعتكاف محرمة بالإجماع.
- بينما المباشرة في الصيام فالصواب أنها جائزة إلا إذا خشي على نفسه. هي: والقبلة واللمس كما تقدم معنا.
بقينا في:
مسألة / الاستمناء.
إذا استمنى ثم أنزل فاختلف الفقهاء هل يفسد أو لا يفسد.
= والجمهور رأوا أن الاعتكاف يفسد.
= والقول الثاني: أنه لا يفسد.
- قياساً على المباشرة التي لا تفسد إذا كانت بدون إنزال.
والأحوط للمعتكف الذي صنع هذا الصنع أن يجدد نية الاعتكاف. لأن الأقرب بطلانه في مثل هذا العمل.
أيضاً نضيف من المبطلات: وهو أشار إليه المؤلف ولذلك لم نذكره مع المبطلات:
- الخروج: إذا خرج الإنسان من الاعتكاف في الحال التي لا يجوز له أن يخرج فيها على التقسيم السابق بطل اعتكافه.
والدليل على بطلان الاعتكاف:
- حديث عائشة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج إلا لحاجته ففي هذا دليل على أن الخروج يبطل.
- كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت له حاجة ليست شديدة فإنه لا يخرج كما في الحديث الصحيح أن عائشة كانت تمشط له شعره - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد.
واختلف الفقهاء في المقدار الذي إذا خرجه المعتكف بطل اعتكافه:
= فذهب الجمهور إلى أن خروج المعتكف خروجاً لا يجوز له يبطل الاعتكاف ولو قل.
فإذا خرج فعليه أن يستأنف الاعتكاف.
= وذهب الأحناف إلى أن الخروج الذي بطل هو الذي يكون نصف يوم فأكثر.
واستدلوا على هذا:
- بأن ما دون نصف اليوم يسير واليسير لا حكم له.
وكأن الاحناف كأنهم يتكلمون عن من أراد أن يعتكف عشرة أيام لأن الإمسان إذا اعتكف عشرة أيام صار نصف اليوم يسيراً.


لكن من أراد أن يعتكف يوماً فنصف اليوم في حقه كثير.
فأنا لم أر أنهم صرحوا أن مقصودهم إذا اعتكف في العشر لكن فيما يظهر أن هذا مرادهم.
وعلى كل حال الراجح مذهب الجمهور. لأن النصوص عامة. وهي تفيد أن الخروج يبطل والتخصيص بأي مخصص وتحديد أي مقدار بلا دليل ظاهر لا يمكن المصير إليه.


ثم قال - رحمه الله -:
ويستحب: اشتغاله بالقرب.
يستحب للمعتكف أن يشتغل أثناء الاعتكاف بالقرب ويتأكد في حقه جداً لأن هذا هو الغرض من الاعتكاف.
والقر ب يقصد بها بالدرجة الأولى: - قراءة القرآن. - والتبتل. - والالحاح في الدعاء. - والتفكر في آيات الله. وما جرى مجرى هذه العبادات التي تسبب خضوع القلب والخشوع.
مسألة / واختلف الققهاء: هل من ذلك تدريس العلم أو لا؟
= فذهب الإمام مالك - رحمه الله - والإمام أحمد - رحمه الله - إلى أنه لا يستحب أن يشتغل المعتكف بتدريس العلم.
= وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي إلى أن هذا مستحب.
والراجح بوضوح القول الأول وهو أنه لا يستحب الاشتغال بالعلم أثناء الاعتكاف وإنما يجعل المعتكف اعتكافه للعبادة ونفع القلب.
والدليل على هذا:
- أن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ومن أرسل ليعلم الناس لم يكن يشتغل بالتعليم في الاعتكاف وإنما كان يخلو بنفسه ويبتهل ويجتهد في الدعاء.
• ثم قال - رحمه الله -:
واجتناب ما لا يعنيه.
يستحب لكل أحد أن يجتنب ما لا يعنيه ويتأكد هذا في حق المعتكف.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
ومما يتأكد جداً تركه في الاعتكاف المراء والنقاش والجدال فإن هذه الأمور تؤدي إلى ضد المقصود من الاعتكاف فهي تقسي القلب وتبعده عن الله.
وسواء كان الجدال والمراء في العلم أو في غيره وسواء قلنا يستحب الاشتغال بالعلم أو لا يستحب فعلى جميع هذه الأقوال فإن الجدال مذموم وهو مما يقسي القلب ومثله المراء وما جرى مجرى هذه الألفاظ مما يشغل ويقسي القلب.
وبهذا المقدار انتهى الكلام على باب الاعتكاف وبه ولله الحمد انتهى الكلام على كتاب الصيام ونبدأ بالكلام على كتاب المناسك.

يتبع الدرس = كتاب المناسك.