شرح زاد المستقنع للخليل

شرح كتاب الجهاد الدرس رقم (1)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كتاب الجهاد.
في الدرس السابق انتهينا من كتاب المناسك ولله الحمد وتطرق الماتن - رحمه الله - إلى بعض سنن المولود وذكرت بعضاً منها مما اتسع له الوقت وما لم يتسع لم أذكره، ووزعنا عليكم الآن هذه الورقة التي فيها الآداب ذكرت فيها ما ذكره الفقهاء من الآداب وعقبت على ما رأيت أنه لا يثبت في السنة منه شيء. وإنما ذكرته وإن لم يثبت في السنة ليعلم حكمه وأنه وإن ذكره الفقهاء فليس عليه دليل صحيح.

- قال المؤلف - رحمه الله -:
كتاب الجهاد.

هذا الكتاب هو آخر كتاب في قسم العبادات، والحنابلة رحمهم الله جعلوا كتاب الجهاد آخر كتاب العبادات لأنه أفضل ما يتطوع به الإنسان بالبدن، وعن الإمام أحمد - رحمه الله - روايات كثيرة صرح فيها أن أفضل الطاعات البدنية المندوبة هو الجهاد في سبيل الله، فلذلك جعلوه آخر العبادات.

-
قوله - رحمه الله -:
كتاب الجهاد.

الجهاد: مصدر مشتق مأخوذ من جاهد جهاداً، وهو مشتق من: جهد إذا بالغ في قتال عدوه، وهو في اللغة: بذل الوسع والطاقة.
وأما الجهاد في الاصطلاح فهو: قتال الكافر الحربي لتكون كلمة الله هي العليا، فالجهاد في الشرع إذا أطلق فهو ينصرف إلى هذا المعنى في الأحكام وفي النصوص الحاثة.

- قال - رحمه الله -:
وهو فرض كفاية.

قوله: (وهو فرض كفاية) أجمع أهل العلم بلا خلاف على مشروعية الجهاد. وأنه مندوب إليه.
واستدلوا على هذا:
- - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من مات ولم يجاهد ولم يحدث نفسه بالجهاد مات على شعبة من النفاق) وهذا الحديث في مسلم.
وبعد اتفاقهم على أن الجهاد مشروع في الجملة:
= ذهب الجماهير والجم الغفير إلى أنه: فرض كفاية.
وفرض الكفاية هو: العبادة التي إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين وإن لم يقم بها أحد أثموا أجمعين.

والدليل على أن الجهاد فرض كفاية:


- قوله تعالى: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء/95]. فالآية صريحة بأنه فضل المجاهدين لكن الكل موعود إن شاء الله بالحسنى.
وهذا نص بأن الجهاد فرض كفاية.
ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - أن الجهاد فرض كفاية انتقل للصور التي يكون فيها الجهاد فرض عين:

- فقال - رحمه الله -:
ويجب إذا حضره.

هناك صور ذكرها الفقهاء يكون الجهاد فيها فرض عين:
ـ الصورة الأولى: إذا حضر الصف وأوشكوا على البدء بالقتال فحينئذ يحرم الانصراف وهو من كبائر الذنوب:
- وقد أجمع على هذا أهل العلم.
- وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل التولي يوم الزحف من السبع الموبقات.
- ويدل عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال/15].
فدل على تحريم الإنصراف في المصافة: الكتاب والسنة والإجماع.

وإنما شدد الشارع فيه لأن فيه فتاً في عضد المجاهدين وتخذيلاً لهم، إلا أنه يجوز الانصراف عن الصف في ثلاث صور:
- الصورة الأولى: أن ينصرف متحرفاً لقتال. ومعنى ذلك: أن ينسحب عن صف المعركة ليرجع باستعداد أو بطريقة أخرى تكون أنكى في العدو. فإذا خرج ليعود فلا بأس.
- الصورة الثانية: أن يتحيز إلى فئة. أي يخرج من الصف لينظم إلى فئة أخرى إما لضعفها أو لتكالب الأعداء عليها أو لأي سبب أو لأمر الأمير - القائد للجيش - أو لأي سبب.
- الصورة الثالثة: يجوز له أن ينصرف إذا قابله من العدو ثلاثة فأكثر. وما دون ذلك فإنه لا يجوز أن ينصرف، وفهم من كلام الفقهاء أنه لا يجوز الانصراف عن واحد ولا عن اثنين مهما بلغت القوة فيهما أو فيه، وليس من مسوغات الانصراف قوة الخصم أثناء المبارزة.

الثاني مما يجب هو:
- قوله - رحمه الله -:
أو حصر بلده عدو.


إذا حصر البلد العدو وحضر لقتالها فإنه يحرم الانصراف ويصبح الجهاد من فروض الأعيان، وهذا محل إجماع بين الفقهاء، قال الفقهاء: والقتال حينئذ هو أعظم واجبات صد العدو. وهو أعظم أنواع دفع الصائل لأن تمكين الأعداء من دخول البلاد يعني الفساد التام وتعذر إقامة الحدود والشعائر ومفاسده لا تحصى ولا تعد. - مفاسد تمكين الأعداء من دخول بلاد المسلمين لا تحصى ولا تعد - ولذلك جعله الفقهاء من أعظم صور دفع الصائل.

-
ثم قال - رحمه الله -:
أو استنفره الإمام.

الاستنفار هو: طلب الخروج للجهاد، فإذا طلب الإمام من فئة أو من شخص معين الخروج للقتال وجب على جميع الذين طلب منهم الخروج أن يخرجوا وجوباً عينياً. ومن تخلف منهم فقد ترك واجباً عينياً وهو آثم.
والدليل على ذلك:
- - قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فإذا استنفرتم فانفروا).
فهذه ثلاث صور يصبح الجهاد فيها واجباً عينياً ويضاف إليها:
- صورة رابعة: وهي إذا احتيج إلى شخص معين للخروج. كأن يكون ماهراً في الرماية أو في استخدام آلات الحرب أو في التخطيط ولو لم يكن شجاعاً في المقاتلة. المهم إذا احتيج إلى شخص معين لأي سبب صار الجهاد في حقه واجباً عينياً.
فتحصل عندنا الآن أربع صور يصبح الجهاد فيها واجباً عينياً.

- ثم قال - رحمه الله -:
وتمام الرباط: أربعون يوماً.

الرباط هو: ملازمة الثغر للجهاد والدفع عن المسلمين.
والثغر: هو الموضع المخوف الذي تحيط به الأعداء.
إذاً الثغور ليست هي الحدود ولكن الثغور هي الأماكن التي يخشى من دخول الأعداء إليها.
والمرابطة مشروعة بإجماع العلماء. وهو من أعظم الطاعات والقربات.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها).
وهذا الحديث يبين بوضوح وجلاء حقارة الدنيا في نظر الشارع، فإن رباط يوم أربع وعشرين ساعة في مكان واحد مخوف أفضل من الدنيا وما عليها.
وقوله: (من الدنيا). يشمل من آدم - عليه السلام - إلى قيام الساعة.
و: (ما عليها) يشمل جميع أنواع ملاذ الدنيا.
فهذا الحديث من أصح الأحاديث في حقارة الدنيا في نظر الشارع ويجب أن يكون نظر المسلم تبعاً لنظر الشارع.


- قال - رحمه الله -:
أربعون ليلة.

تمام الرباط: أن يبقى الإنسان في الثغر: لمدة أربعين ليلة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تمام الرباط أربعون ليلة). لكن هذا الحديث ضعيف ولا يثبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. لكن روي هذا التحديد عن عمر وابنه وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. فهم جعلوا تمام الرباط أن يبقى الإنسان لمدة أربعين ليلة.
وأما أقل الرباط: فساعة. ومقصود الفقهاء - رحمهم الله - بقولهم: (ساعة): يعني: أن الرباط يحصل ولو بزمن قليل ولا يريدون الساعة المعاصرة بالتحديد الذي نعرفه الآن وإنما يريدون أنه وإن بقي الإنسان وقتاً قصيراً فإنه يعتبر مرابطاً في سبيل الله.

-
ثم قال - رحمه الله -:
وإذا كان أبواه مسلمين: لم يجاهد تطوعاً إلاّ بإذنهما.

لا يجوز للإنسان أن يخرج للجهاد في سبيل الله تطوعاً إلا بإذن والديه إذا كانا مسلمين.
- لما ثبت في صحيح البخاري ومسلم: أن رجلاً خرج للجهاد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألك أبوان؟) قال: نعم. قال: (ففيهما فجاهد). فهذا الحديث نص على أنه لا يجوز له أن يخرج إل بإذنهما ما داما من المسلمين.
- والدليل الثاني: أن بر الوالدين من فروض الأعيان وجهاد الطاعة من فروض الكفايات ولا يجوز للإنسان أن يقدم فروض الكفايات على فروض الأعيان.

- وقول المؤلف - رحمه الله -:
وإذا كان أبواه مسلمين.

يدل على أنه إذا كانا الأبوان من غير المسلمين فإنه يجوز أن يخرج بلا طاعة ولا إذن ولو كان الجهاد تطوعاً، وهذا صحيح. فإنه لا إذن للأبوين الكافرين.
واستدلوا على هذا:
- بأن عدداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يخرجون للجهاد بلا إذن الوالدين لأنهما لم يكونا من المسلمين منهم: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -.
إذاً لا يلزم أن يستأذن الأب الكافر ولا الأم الكافرة وإنما الإذن للمسلمين.

-
ثم قال - رحمه الله -:
ويتفقد الإمام: جيشه عند المسير.

يعني: وجوباً. فيجب على الإمام وجوباً قبل الخروج والمسير أن يتفقد الجيش.
والدليل على هذا:


- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معركة أحد استعرض الجيش وظاهر هذا اللفظ أنه استعرض جميع الجيش. كل فرد من أفراد فلما وصل إلى ابن عمر - رضي الله عنه - لم يأذن له بالخروج لأنه لم يبلغ.
- واستعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - كل الجيش في بدر وأيضاً أخرج جملة من الصحابة منهم أسامة - رضي الله عنه - لأنه لم يبلغ.
فهذا دليل على أن القائد العام للجيش يجب عليه وجوباً قبل أن ينطلق الجيش للجهاد أن يتفقد الجيش.

- وقول المؤلف - رحمه الله -:
يتفقد.

هذه العبارة تدل على عموم التفقد:
o فيشمل الجيش من حيث الرجال: صلاحية الأفراد. وسنهم. وملائمة كل فرد لمكانه.
o ويشمل كذلك الآلات والمعدات من حيث: صلاح الآلة. ومناسبتها لهذا الخروج وبعدها عن الأعطال وعدم مضرتها للقائمين عليها
o ويشمل أيضاً: المؤونة وأنها تكفي للجيش من الخروج وأثناء الطريق والرجوع.
o ويشمل كل ما يتعلق بالجيش مما قيل أو لم يقل فإنه يجب أن يتفقد هذا الإمام جيشه تفقداً تاماً على سبيل الوجوب.

- قال - رحمه الله -:
ويمنع المخذل.

وهذا من جملة التفقد، والمخذل: هو الذي يسعى في منع الناس من الخروج بذكر العلل المهبطة:
o كقوله: (الأعداء أقوياء).
o وكقوله: (الجو حار لا يطاق).
o وكقوله: (الجو بارد يقتل).
o وكقوله: (أرض المعركة بعيدة) وما جرى مجرى هذه الأمثلة.
فأي كلام يقصد منه تخذيل المجاهدين ومنعهم من الخروج فمن يقوله من المخذلين فإنه يجب على الإمام والقائم على الجيش أن يطرده من الجيش ولا يسمح له بمصاحبة المجاهدين.

- ثم قال - رحمه الله -:
والمرجفة.

لو أن المحقق - وفقه الله - اختار النسخة التي في ثلاث نسخ خطية وهي: (المرجف) وهي التي تتوافق مع باقي كتب الحنابلة لكان أسهل وأوضح.
فالمرجف: أوضح من المرجفة والمعنى واحد.

المرجف: هو الذي يقول:
o ( هلك المسلمون).
o ( انقطع المدد).
o ( لا طاقة لنا بهم اليوم). وما جرى مجرى هذه الأمور مما يرجف بالجيش.
فالمخذل والمرجف يجب وجوباً على قائد الجيش أن يمنعهم من الخروج.

- وقوله - رحمه الله -:
المخذل والمرجف.


أراد المؤلف - رحمه الله - التمثيل. أي: وعليه منع كل من في خروجه ضرر على المسلمين والمجاهدين بأي طريقة من الطرق.
* * مسألة / هل من ذلك: منع خروج الأحمق خشية أن يفشي الأسرار أو أن يؤذي باقي الجيش؟
فيه تفصيل:
ـ إن كان هذا الأحمق يعهد منه الإفساد وخلخلة الجيش ونقل ما لا ينبغي نقله للأعداء فيجب وجوباً أن يمنع.
ـ وإن كان أحمقاً لكن لا يقع منه مثل هذه التصرفات فإنه يسمح له بالخروج لأنه لاشك أنه كان مع جيوش المسلمين من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا من يوصف بالحمق ولم يمنع من الخروج.
إذاً: وصف الحمق المجرد لا يعني المنع من الخروج. لكن إذا احتف به قرائن تدل على احتمالية وقوع الأذى على المسلمين وجب منعه.

-
قوله - رحمه الله -:
ويمنع المخذل والمرجف.

الدليل على ذلك:
- قوله تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} [التوبة/47].
(ما زادوكم إلا خبالاً). الخبال هو الفساد: الفساد في الجيش ونشر الأراجيف، وقوله: (ولأوضعوا خلالكم) يعني: لسعوا في الفساد بينكم بالنميمة أو بالطرق الأخرى.
وإذا تأملت الآية تأملاً دقيقاً وجدت أنها تركز على مسألة واحدة وهي: أن الاختلاف إذا وقع في الجيش بسبب المرجف أو المخذل صار هذا من أعظم أسباب نكوص الجيش وهزيمته، فالاختلاف شر في كل مكان وأعظم ما يكون إذا وقع في الجيوش فإن الاختلاف بين الجيش يذهب قوة الجيش، ولذلك ركزت الآية على منع الاختلاف ومنع كل من يتسبب به.

ثم بدأ - رحمه الله - بالأحكام التي تتأتى بعد خروج الجيش مع الإمام:
- فقال - رحمه الله -:
وله أن ينفل في بدايته.

التنفيل: هو إعطاء المجاهد فوق السهم الواجب له، فهذا التنفيل يقول عنه المؤلف - رحمه الله -: (له أن ينفل في بدايته)، يعني أنه يجوز للإمام أن يعطي فئة معينة - كما سيأتينا - نفلاً وهو زيادة على نصيبه المقرر شرعاً وهو: سهم للراجل وثلاثة للفارس - كما سيأتينا.

لكن هذا يخضع للتفصيل التالي:
- يقول - رحمه الله -:
الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعده.

إذاً:
ـ في البدأة: الربع.
ـ وفي الرجعة: الثلث.
والبدأة هي: بداية دخول الإمام والجيش لدار الحرب.


والرجعة: الرجوع من دار الحرب.
فمعنى قوله المؤلف - رحمه الله -: (الربع بعد الخمس): يعني: أن الجيش إذا دخل أرض العدو ذاهباً للمعركة فإن الإمام إذا أرسل سرية في البدأة فإن له أن ينفلهم الربع.
ومعنى هذا: أنها إذا رجعت السرية ومعها غنائم أخرج من الغنائم: الخمس ثم أعطى هؤلاء أصحاب هذه السرية الربع ثم قسم الباقي على الجيش بما فيهم أصحاب السرية.
إذاً: إذا ذهبوا وأتوا بالغنائم:
ـ أخذ من الغنائم الخمس لله ولرسوله.
ـ ثم أعطى أصحاب السرية في البدأة الربع ثم قسم الباقي على الجيش بمن فيهم أصحاب السرية.
هذا التنفيل في البدأة وهو يتعلق بالربع.
والثلث: في الرجعة.
فإذا رجع الجيش وخرج من أرض العدو ورأى الإمام والقائد العام للجيش أن يرسل سرية تتعقب الأعداء أو تكشف حال الأعداء بعد انتهاء الحرب فلهم الثلث ويقسم الثلث كما قسم الربع تماماً.
وإنما صار نصيب أصحاب البدأة أقل من الرجعة لأن الخروج في الرجعة وبعد انتهاء الحرب أشق وأصعب بمراحل من بعث السرية في بداية المعركة. لاشك. وهذا لا يشك فيه فقيه: أن إرسال السرية في أول المعركة أسهل من إرسال السرية بعد انتهاء المعركة:
ـ أولاً: لأنه قد أخذ منهم التعب والجهد ما أخذ.
ـ ثانياً: لأنهم يتشوفون إلى انتهاء المعركة.
ـ وثالثاً - وأخيراً -: لأن الغالب أن فيهم جراح.
إذاً: له أن ينفل في بدايته الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعده.
والدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة. وهو حديث صحيح.
* * مسألة / ظاهر الحديث وهو المتوافق مع كلام الفقهاء - رحمهم الله -: أنه لا يجوز للإمام أن ينفل أكثر من ذلك بل له فقط: الثلث أو الربع، الربع في الدخول والثلث في الخروج ولا يجوز أن يزيد على هذا المقدار.
وهذا صحيح لأن الحديث أجاز التنفيل بهذا المقدار وماعداه من الغنائم تبقى حق لجميع المجاهدين لا يجوز للإمام أن ينقصهم عنها، وهذا صحيح.


* * مسألة / ظاهر النص: أنه يجوز أن ينفل أقل من ذلك: في البدأة والرجعة إذا رأى أن الأمر يستحق أن يخفض عن ذلك فله أن يخفض عن الثلث أو الربع بحسب حال الجهاد وملابسات المعركة، وهذا صحيح: أن له أن ينقص، فإذاً: له أن ينقص وليس له أن يزيد.

-
ثم قال - رحمه الله -:
ويلزم الجيش: طاعته.

يجب على الجيش: أن يطيع الإمام. وطاعة الجيش للإمام قوام المعركة.
والدليل على وجوب الطاعة:
- قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء/59]. وهذه الآية عامة في طاعة ولي الأمر وأشد ما تكون حال المعركة وهو أولى المواضع دخولاً تحت الآية.
والدليل على ذلك أيضاً:
- ما جاء عن عدد من الصحابة أنهم قالوا: أمرنا بالسمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا.
والنصوص الدالة على وجوب طاعة ولي الأمر في حال السلم وفي حال الحرب كثيرة جداً بلغت مبلغ التواتر.
* * مسألة / ولا طاعة لولي الأمر في المعصية.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الطاعة في المعروف).
- ولأن ولي الأمر إنما اكتسب وجوب الطاعة من قبل الشارع فلا يطاع فيما خالف فيه الشارع.
فإذا أمر بمعصية لله عز وجل فإنه لا يطاع ولا تقدم طاعة المخلوق مهما كان على طاعة الخالق عز وجل، وهذا محل إجماع.
فدل عليه النص والإجماع.

وقوله - رحمه الله -: (ويلزم الجيش طاعته) يعني: ولو رأوا أن المصلحة في خلاف ما أمر به ولو تثبتوا وتأكدوا من ذلك فإنه يجب عليهم أن يطيعوا مهما كان الأمر لأن في ذهاب كل فرد من الجيش برأيه مفسدة عظيمة وانتشار للجيش وانفلال لأمره، فلاشك أنه من أعظم المعاصي: الإخلال أثناء المعركة بطاعة ولي الأمر مهما كان رأي الفرد أن هذا الأمر خطأ فليس عليه أكثر من أن يبين وينصح أما الطاعة فهي واجبة لا سيما أثناء اشتداد أمر الحرب.

- ثم قال - رحمه الله -:
والصبر معه.

الصبر مع الإمام واجب ولو اشتدت الحرب.
ويدل على ذلك:
- قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا} [آل عمران/200].
ويدل عليه:
- جميع النصوص التي تدل على تحريم التولي يوم الزحف. فإن الثبات من الصبر.


ويجب على الفرد من الجيش بنفسه أن يطيع ولو كلفه قائد الجيش بشيء صعب فيجب عليه أن يصبر ويمتثل.

-
ثم قال - رحمه الله -:
ولا يجوز الغزو إلاّ بإذنه.
الغزو من حقوق ولي الأمر العامة والتي ليس لأحد من أفراد المسلمين أن يفتات عليه فيها.
والدليل على هذا من وجهين:
- الأول: النصوص الدالة على وجوب الطاعة.
- والثاني: أن ولي الأمر عادة أعلم بالمصالح العامة وبما يناسب من أمر القتال أو تركه.
- وثالثاً: لأن إقدام غير الإمام على الجهاد قد يدخل جميع المجاهدين في ما لا تحمد عقباه.
فلا يجوز الجهاد إلا إذا أذن الإمام.
- ثم يقول - رحمه الله -:
إلاّ أن يفجأهم عدو يخافون كلَبه.
(كلبه) يعني: شره وفساده وشدته.
فإذا فجأهم العدو فإنه لا يحتاج الأمر إلى إذن أحد لا إمام ولا أب ولا أم ولا دائن ولا أي شخص بل يجب على جميع المسلمين أن ينفروا نفرة واحدة.
- لأن في تمكين الأعداء إذا فاجأوا المسلمين في بلادهم من الدخول والقتل ما فيه من المفاسد التي تذهب بمصالح الدين والدنيا.
وهذا محل إجماع: أنه إذا فجأ العدو البلد وأوشك على الدخول وجب على الناس أن ينفروا. وويستثنى من ذلك:
ما إذا أراد الإمام أن ينظم تنظيماً معيناً لا يتأتى مع الغوغاء وخروج الناس بلا قائد فإنه يجب على المجموعة التي أراد منها الإمام أن تتنظم تنظماً معيناً فيجب وجوباً الطاعة:
- لأن في هذا التنظم مصلحة تعود على جميع المسلمين.

- ثم قال - رحمه الله -:
وتملك الغنيمة: بالإستيلاء عليها في دار الحرب.

الغنيمة: هي الأموال التي يأخذها المسلمون من الكفار الحربيين على سبيل القهر والغلبة، فهذه تسمى غنيمة.
والغنيمة لم تبح لأحد قبل هذه الأمة. وثبت في الحديث الصحيح أن الغنائم في الأمم السالفة كانت تنزل عليها النار فتحرق هذه الغنيمة. وهذا في مسلم وأبيحت لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فالمؤلف - رحمه الله - يقول: (وتملك الغنيمة: بالاستيلاء عليها في دار الحرب.). إذا استولى الجيش على أموال الكفار وهي الغنائم الموصوفة في التعريف السابق أصبحت بذلك مباشرة من أملاك المسلمين.
لدليلين:
- الأول: أنه بالاستيلاء عليها زال عنها ملك الكفار.


- والثاني: أن سبب الملك هو الاستيلاء التام وقد وجد.
إذاً بالاستيلاء على أموال الكفار في دار الحرب تصبح من أموال المسلمين ولا يشترط أن تنتهي المعركة بل إذا استولوا على بعض أموال الكفار أثناء الحرب فهي ملك للمسلمين للدليلين السابقين سواء انتهت المعركة أو لم تنته.
والاستيلاء على الغنائم وأنها ملك للمسلمين شيء وتقسيمها ومتى يستحقها أفراد الجيش شيء آخر سينص عليه المؤلف - رحمه الله -.

-
ثم قال - رحمه الله -:
وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال.

الغنيمة حق لمن شهد المعركة ممن هو من أهل القتال وهو المسلم الذكر البالغ سواء قاتل أو لم يقاتل. فما دام حضر المعركة ليقاتل فالغنيمة له.
والدليل على ذلك:
- قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (إنما الغنيمة لمن حضر الوقعة).
فالمجاهدون الذين يحضرون أرض المعركة ويحضرون الوقعة لهم أن يتملكوا من الغنائم ولهم حق في الغنيمة سواء كانت أو لم يقاتلوا لأي سبب. فما داموا حضروا ليقاتلوا، ويشمل هذا الحكم عند الإمام أحمد - رحمه الله -: من خرج مع الجيش ليقاتل ويتاجر. ومن خرج مع الجيش ليقاتل ويعمل بصنعته كالخياط والحداد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: إنما هم من الغزاة، فكون الإنسان يخرج ليقاتل في سبيل الله وليتاجر إذا وجد فرصة فهذا لا يخرجه عن أن يكون من جملة المجاهدين الذين لهم حق في الغنيمة.
= والقول الثاني: أن من خرج مع المسلمين من التجار والصناع ونحوهم لاحظ له في الغنيمة.
- لأنه لم يخرج ليقاتل فقط.
والصواب مع الإمام أحمد - رحمه الله - لأن هذا من الغزاة كما أن الحاج من الحجاج ولو خرج تاجراً، فإذا خرج الإنسان وقصده ونيته الحج ومع ذلك سيتاجر فهو من الحجاج الذين يرجى لهم المغفرة.

- ثم قال - رحمه الله -:
فيخرج

بدأ المؤلف - رحمه الله - في تفصيل تقسيم الغنائم:
- قال - رحمه الله -:
فيخرج الخمس.

يجب على الإمام قبل إخراج الخمس: أن يدفع لأهل الأسلاب أسلابهم فالأسلاب لا تخمس.
والسلب: هو ما يدفع للرجل إذا قتل رجلاً من المشركين.

والدليل على أن السلب لمن قتل رجلاً من المشركين:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل قتيلاً فله سلبه).


واختلف الفقهاء - رحمهم الله - في تحديد السلب:
والذي يعنينا رأي الحنابلة - رحمهم الله - لأن الخلاف متقارب جداً:
= فالحنابلة يرون أن السلب يشمل: الفرس وآلة الفرس وما معه من نقود ونفقه والثياب، فهذا هو السلب، يعني: كل ما مع المقاتل المشرك أو الكافر مما يلبس أو يحمل أو يركب:
ـ ولو كان ما معه باهض الثمن.
ـ ولو كان ما معه يشكل نصف الغنائم.
= والقول الثاني: أنه إذا كان السلب فيه عيناً باهضة الثمن فإن للإمام أن يرضي المجاهد عنها.
والأقرب: أنه من قتل قتيلاً فله سلبه مطلقاً وهذا حكم من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن نخصصه لا بفتوى صحابي ولا بغيره. وفي هذا ما فيه من التشجيع على القتل والمجاهدة والمبارزة.
* * مسألة / تتعلق بالأسلاب:
يجوز عند الجماهير والجم الغفير أن يخرج الإنسان منفرداً للمبارزة بل ويندب إذا علم من نفسه القوة.
وله إذا خرج أن يخدع خصمه الكافر بكلمة أو بحركة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحرب خدعة).
- ولأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما خرج خدع مقابله وقتله فقال خدعتني قال - رضي الله عنه - الحرب خدعة.
((انتهى الدرس)).


شرح كتاب الجهاد الدرس رقم (2)

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

- يقول - رحمه الله -:
فيخرج الخمس.

ونحن ذكرنا في الدرس السابق أنه يجب على الإمام قبل التخميس أن يخرج الأسلاب. وعرفنا حكم الأسلاب وما هي وماذا تشتمل عليه.

- قوله - رحمه الله -:
فيخرج الخمس.

الخمس يجب أن يخرج من الغنيمة قبل أن تقسم على الجيش.
- لقوله تعالى: - (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) -[الأنفال/41].
فالآية نصت على أن الخمس يخرج قبل تقسيم الأربعة أخماس على المجاهدين.
ـ فسهم الله ورسوله يصرف في: مصالح المسلمين.


ـ وسهم ذوي القربى: لبني هاشم وبني المطلب. وجاء في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصهم بهذا السهم دون بطون قريش. فقط. بني هاشم وبني المطلب.
ـ وسهم اليتامى: يصرف:
= عند الحنابلة على فقراء اليتامى. فيشترط فيمن يعطى من اليتامى أن يكون فقيراً.
= والقول الثاني: أن سهم اليتامى يعطى لليتيم سواء كان من الفقراء أو من الأغنياء.
- لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في الآية اليتامى وذكر المساكين مما يدل على أنهم صنفان.
وإلى هذا ذهب الشيخ الفقيه ابن قدامة أي: أنه لا يشترط في اليتامى أن يكونوا من الفقراء بل هم سهم قائم برأسه لا علاقة له بالفقر.
واليتيم هو: من مات أبوه قبل أن يبلغ. فكل إنسان مات أبوه قبل أن يبلغ فله حظ في غنائم المسلمين يقسمها عليهم الإمام.
ـ والمساكين هم: الفقراء.
ـ وابن السبيل هو: المنقطع.
وسهم المساكين يدخل فيه الفقراء لأنه تقدم معنا قاعدة في الزكاة: أنه: ((إذا أطلق المسكين دخل فيه الفقير وإذا أطلق الفقير دخل فيه المسكين)).
وكيفية صرف سهم المسكين وابن السبيل من الغنيمة تماماً: ككيفية إعطائه من الزكاة فما قيل في كتاب الزكاة من تفصيلات حول ابن السبيل وما يعطى والقدر الذي يكفية وما قيل حول المسكين ومن هو وكم يعطى يأتي معنا هنا تماماً فيعطى كما أعطيناه في كتاب الزكاة.
* * مسألة / السنة أن الإمام يقسم الغنائم قبل أن يرجع إلى البلد. فإن صبر حتى رجع إلى البلد فقد خالف صريح السنة فقد تواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم غنيمة قط في المدينة وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يقسم في دار الحرب، فالسنة هكذا أن تقسم الغنائم قبل أن يقدم الجيش والوالي إلى المدينة التي خرجوا منها.
- ثم قال - رحمه الله -:
ثم يقسم باقي الغنيمة.

إذا أخرج الخمس يقسم باقي الغنيمة: الأربعة أخماس.
لكن يجب قبل أن يقسم الأربعة ألأخماس أن يخرج نصيب صنفين من المجاهدين:
ـ الأول: النفل.
فيجب أن يخرج النفل قبل أن يقسم الأربعة أخماس وتقدم معنا هذا: التنفيل في البدأة وفي الرجعة.
ـ والثاني: الرضخ.
فيجب أن يخرج الرضخ قبل أن يقسم الأربعة أخماس على المجاهدين.


والرضخ: هو كل ما يعطى من الغنيمة لمن ليس من أهل الأسهم. كالمرأة والصبي والعبد .. إلى آخره. فهؤلاء ليس لهم نصيب في الغنائم لكن لهم نصيب في الرضخ.
والرضخ ليس له حد في الشرع. إنما يرجع فيه إلى رأي الإمام ومقدار غناة الذين سيرضخ لهم من النساء والصبيان، إلا أنه لا يجوز أن يبلغ بالرضخ نصيب السهم مهما كان غناء هذا المرضوخ له من النساء والصبيان والعبيد إلا في صورة واحدة إذا رضي جميع الجيش فإذا أذن الجيش كلهم أن هذا الرجل يستحق زيادة على الرضخ بما يصل معه إلى السهم أو أكثر فلا بأس أما بدون ذلك فإنه لا يجوز لا للإمام ولا لقائد الجيش أن يزيد عن أن يصل إلى سهم المجاهد.

-
قال - رحمه الله -:
ثم يقسم باقي الغنيمة.

أجمع أهل العلم بلا خلاف أن المجاهدين هم أصحاب الأربعة أخماس وأنها لهم بعد إخراج خمس الغنيمة ولا يشاركهم فيه أحد.
والدليل على ذلك:
- الإجماع الذي ذكرته.
- والآية. لأنه قوله تعالى: - (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) -[الأنفال/41]. يدل على أن ما عدا هذا الخمس فهو للمجاهدين.

ثم بين المؤلف - رحمه الله - نصيب كل مجاهد:
- فقال - رحمه الله -:
للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم.

ـ الراجل من المجاهدين له سهم. وهذا بالإجماع فلم يخالف أحد من أهل العلم أن الراجل له سهم. وستأتينا النصوص الدالة على ذلك.
ـ وللفارس ثلاثة أسهم. سهم له وسهمان للفرس.
والدليل على هذا:
- ما ثبت في الصحيح في البخاري وغيره عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر أعطى الفارس ثلاثة أسهم والراجل سهم واحد.
وهذا متواتر في السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي الفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان للفرس والراجل يعطيه سهم واحد يعني من مجموع الغنيمة.
= وإلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير وأخذوا بالسنة الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * مسألة/ يشترط في الفرس ليعطى سهمين أن يكون فرساً عربياً أصيلاً: الأب والأم، فإن كان هجيناً بأن كان أحد أبويه ليس عربياً ومن باب أولى إذا كان جميع الأبوين ليسا عربيين فإنه يعطى سهم واحد.
والدليل على هذا من وجهين:


- الوجه الأول: أن غناء الفرس العربي وإعطاءه في الحرب أكبر وأعظم من غيره من الهجين.
- والوجه الثاني: أن أميراً لعمر بن الخطاب لما أراد قسمة الغنائم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهم واحد فلما رفعت القضية لعمر بن الخطاب أمضاها بل وأبدى إعجابه بهذا التقسيم - رضي الله عنه -.
= والقول الثاني: أن حديث ابن عمر عام وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع معاركه لم يفرق بين العربي والهجين. أي أن القول الثاني: أن يعطى الفرس العربي والفرس الهجين سهمان ولا يفرق بينهما.
والراجح والله أعلم أنه يشترط في الفرس أن يكون عربياً:
- أولاً: لأن هذا مروي عن عمر.
- ثانياً: لأنه بالفعل لا يمكن أن يستوي العربي والهجين في الغناء والأداء أثناء الكر والفر في الحرب.
وأما قولهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر وفي غيرها لم يفرق بين العربي والهجين: فالجواب عليه:
أن الهجين لم يوجد لا في خيبر ولا في غير خيبر وإنما وجد الهجين بعد الفتوح التي فتحها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فهذا يدل على أن الهجين لم يوجد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فهذا الاستدلال ليس في محله بل هو استدلال بوقعة ليس فيها فرس هجين وإنما فيها أفراس عربية، فهذا والله أعلم: أقرب وهو أن نفرق بين الفرس الهجين والفرس العربي.
* * مسألة / لا يعطى المجاهد نصيب أكثر من فرسين:
- فإذا كان معه فرسان أعطي أسهم أربعة.
- وإذا كان معه خمسة وستة وسبعة وأكثر فإنه لا يعطى إلا نصيب فرسين.
- لأنه مروي عن عمر بن الخطاب أنه أعطى إلى فرسين.
= والقول الثاني: أنه لا يعطى إلا نصيب فرس واحد ولو كان قدم إلى الحرب بعشرات الخيول العربية الأصيلة فإنه لا يعطى إلا نصيب فرس واحدة. فله سهم. ولأفراسه كلها سهمين.
والصواب مع القول الأول وهو أن نبلغ بهم إلى فرسين ثم نتوقف ولا نعطيه أكثر من ذلك.

- ثم قال - رحمه الله -:
ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم.

ما غنم الجيش دون السرايا وما غنمت السرايا دون الجيش فإنه في نهاية المعركة يجمع جميعاً ويقسم بالاشتراك بين السرايا والجيش:


ـ سواء كانت غنائم السرايا أولاً أو غنائم الجيش أولاً.
ـ وسواء كان غناء الجيش أعظم أو كان غناء السرية أعظم.
ففي كل الأحوال نسوي بينهم ونجمع الغنائم جمعاً واحداً ويقسمها الإمام على ما تقدم معنا.
والدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة هوازن شرك بين السرايا والجيش. وهذا نص لا يمكن العدول عنه.
- الوجه الثاني: هو أن الجيش والسرايا جيش واحد فلا يمكن التفريق بينهما وإن أدى كل منهم ما عليه من القتال في ظروف معينة وفي وقت معين وفي مكان معين إلا أن الجميع جيش واحد.
فالجميع يشترك في الغنائم ولا ينظر إلى مقدار ما أتت به السرية ولا إلى مقدار ما أتى به الجيش إلا أن ظاهر كلام الفقهاء أن التنفيل بالربع والثلث يكون مما أتت به السرية وأنه لا يكون التنفيل من مجموع الغنائم وإنما يكون مما أتت به السرية.
هذا ظاهر كلام أهل العلم وإذا تأمله الإنسان وجد أنه وجيه لأنهم تسببوا في إحضار هذه الغنائم المعينة فاستحقوا أن يخصوا بالثلث أو الربع.

- ثم قال - رحمه الله -:
والغال من الغنيمة: يحرق رَحله كله، إلاّ السلاح والمصحف وما فيه روح.

الغال هو: الذي يكتم شيئاً من الغنائم ولا يطرحه أمام الأمير في جملة الغنائم.
وحكمه: أنه محرم بل من كبائر الذنوب نسأل الله العافية والسلامة.
والدليل على ذلك:
- قوله تعالى: - (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) -[آل عمران/161]. فالآية نص على أن هذا العمل من الكبائر وهو محرم.

ـ المسألة الثانية: عقوبة الغال.
تنقسم عقوبة الغال إلى قسمين:
- القسم الأول: أن يتولى الإمام معاقبة الغال بما يراه مناسباً من الحبس أو الضرب أو غير ذلك، وهذا مشروع وجائز بالإجماع. فللإمام أن يعاقبه بما يراه مناسباً. وللإمام أن يتركه فإن هذه العقوبة عقوبة تعزيرية.
- القسم الثاني: ما ذكره المؤلف - رحمه الله - وهو التحريق. بأن يقوم الإمام باحريق متاع هذا الغال كله إلا ما استثنى المؤلف - رحمه الله -.
= وإلى هذا ذهب الحنابلة وهو من المفردات.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي ثم قال - صلى الله عليه وسلم - أمر بتحريق مال الغال أو متاع الغال.


فأخذ الحنابلة بهذا النص.
والجواب عليه: أنه لا يثبت حديث صحيح مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الأمر بالتحريق. بل ولا عن أصحابه فيما اطلعت عليه ولا عن أصحابه. إنما هناك أثر يروونه ويقولون رواه سعيد بن منصور ولا يوجد له أثر في سنن سعيد بن منصور.
= والقول الثاني: أن التحريق لا يشرع وأن الإمام يعاقب بما دون التحريق.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الدليل الأول: أنه ثبت في صحيح البخاري أن رجلاً أو رجلين وقعا في الغلول في معركة فتح خيبر ولم يحرق النبي - صلى الله عليه وسلم - أمتعتهم.
- الدليل الثاني: ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال. وتحريق متاع الغال من إضاعة المال.
= والقول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أن التحريق ليس حداً وإنما تعزيراً فلا يتحتم على الإمام أن يحرق بل يعزر به إن رأى ذلك وإلا فيعاقب بعقوبة أخرى وإلا يتركه بلا عقوبة.
وهذا القول اختاره شيخ الاسلام - رحمه الله -.
والقول الثاني هو مذهب الجماهير.
والراجح والله أعلم القول الثاني.
واختيار الشيخ ضعيف. ووجه الضعف:
- أولاً: أنه لا يصلح أن نسوغ للإمام أن يعاقب بما نهى عنه الشارع فإن الشارع نهى عن إضاعة المال فكيف نسوغ للإمام أن يعاقب بأمر نهى عنه الشارع.
- ثانياً: ما دام ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحرق متاع الغال فكيف نوجد مثل هذه العقوبة التي ليس لها نظير في الشرع ونحكم بأن للإمام أن يصنعها تعزيراً أو حداً.


فالذي يظهر لي أن هذه المسألة التي هي من مفردات الحنابلة ضعيفة وإن كان تقدم معنا مراراً أن مفردات الحنابلة في الغالب قوية لأن الإمام أحمد - رحمه الله - لا ينفرد عن الأئمة إلا وقد اعتمد على نص صحيح. لكن في هذه المسألة يظهر لي أنه فيه ضعف بل ضعفه واضح لأنه لا فائدة من تحريق المتاع، فإن أراد الإمام أن يعزر بأخذ المال فهو جائز. وجائز بالإجماع لأن للإمام أن يعزر بما شاء من حبس وضرب وأخذ للمال، لكن أن يحرق المتاع ولا سيما أنهم في الحرب وأثناء المعركة فأرى أن هذا القول فيه ضعف واضح ويؤيد أو يقوي هذا الضعف مصادمته للنصوص الصحيحة التي فيها الغلول وليس فيها التحريق.

ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - ما يستثنى على مذهب الحنابلة:
- فقال - رحمه الله -:
إلا السلاح.

فإنه لا يجوز أن يحرق ولا أن يدخل في النار.
- لأن السلاح يحتاج إليه في الحرب فلا يجوز أن نحرق سلاح المقاتل بل يؤخذ منه ويدفع لغيره أو يبقى معه ليجاهد هو به في سبيل الله.

- ثم قال - رحمه الله -:
والمصحف.

كذلك لا يجوز أن يحرق المصحف.
- لما له من حرمة.

- ثم قال - رحمه الله -:
وما فيه روح.

لا يجوز تحريق ما فيه روح إذا افترضنا أن من متاع الغال شيء فيه روح فإنه لا يجوز أن يحرق.
لوجهين:
- الوجه الأول: أن الحيوان له حرمة. فأي حيوان مأكول له حرمة. ولذلك نهى الشارع عن تعذيب الذبيحة وعن إيذاء الحيوان وما ذلك إلا لأن له حرمة.
- والوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التعذيب بالنار وقال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار).
إذاً: السلاح والمصحف والحيوان - يعني: وكل ما فيه روح: فلا يجوز أن يحرق على القول بالتحريق.

يضاف إلى هذا إلى ما لا يجوز أن يحرق:
- النفقة.
- وكتب أهل العلم.
- وثيابه التي عليه. فإنه لا يجوز أن يترك عرياناً.
ولعل المؤلف - رحمه الله - لم يذكرها لأنه معلوم: فالثياب لا يجوز أن يبقى عرياناً والنفقة ليرجع إلى أهله وكتب أهل العلم لحرمتها على كل حال صارت الآن المستثنيات ستة أمور.

- ثم قال - رحمه الله -:


وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف: خيّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي بيده.

الأراضي المفتوحة تنقسم إلى قسمين:
ـ القسم الأول: ما فتحت عنوة.
ـ والقسم الثاني: ما فتحت صلحاً.
والمؤلف - رحمه الله - فَصَّلَ تماماً وذكر أحكام الأراضي التي فتحت عنوة ولكنه لم يتطرق للأراضي التي فتحت صلحاً وفي الحقيقة كان من الأجدر أن يتطرق لهذا النوع من الأراضي.

ونبدأ بالعنوة:
- يقول - رحمه الله -:
وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف: خيّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين.
= ذهب الحنابلة والجمهور والجم الغفير من أهل العلم إلى أن الإمام إذا فتح أرضاً عنوة فإنه مخير بين أن يقسمها بين المجاهدين أو يجعلها وقفاً على جميع المسلمين ويضرب عليها الخراج.
واستدلوا على هذا التخيير وأنه من حق الإمام:
- بما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تارة قسم كما في خيبر وتارة لم يقسم كما في جميع الفتوحات الأخرى فإنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم إلا في خيبر فقط أما باقي الفتوحات فإنه لم يقسمها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واستدلوا أيضاً:
- بأن عمر - رضي الله عنه - لما فتح الشام أراد أن يقسم الأراضي بين المجاهدين فدخل عليه معاذ وهذا من فقهه - رضي الله عنه - وقال له: إن فعلت ذلك بقيت الأراضي الكثيرة تؤول إلى الشخص الواحد إذا مات أقربائه ثم لا تجد من يدفع للمجاهدين ويقوم بمؤونتهم. والرأي عندي أن تجعلها وقفاً على المسلمين.


فرأى عمر - رضي الله عنه - وجاهة هذا القول وأنه خير من أن يقسم بين المجاهدين ثم عزم على هذا الأمر فدخل عليه بلال - رضي الله عنه - وقال: يا أمير المؤمنين اقسم فإن هذه الأراضي من حق المجاهدين خذ الخمس واقسم الباقي. فتكلم معه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبين له المصلحة في إبقاء الأرض وقفاً لتفتح الأراضي التي تليها ولتكون عوناً للمجاهدين فقال: يا أمير المؤمنين خذ الخمس واقسم ثم دخل هو وجماعة وقال: يا أمير المؤمنين خذ الخمس واقسم. فقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اللهم اكفني بلالاً وذويه. قال الراوي فما حال الحول وفيهم عين تطرف.
وإنما استجيب له - والله أعلم - لأن غرضه - رضي الله عنه - كان صحيحاً وكان يريد أن تبقى هذه الأراضي وقفاً ينتفع بها المجاهدون ويفتحون الأراضي التي تليها وهذا ما وقع وصار فإنها صارت عوناً وردأً للمجاهدين وصارت غلات هذه الأراضي من أعظم ما يعين على الجهاد.
ففي تصرف عمر - رضي الله عنه - أولاً: هم بالقسمة ثم رجع إلى الوقف مما يدل على أن الأمرين مخير فيهما الإمام.
- قال - رحمه الله -:
ويضرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي بيده.
إذا اختار الأمير أن لا يقسم وأن يجعلها وقفاً فإن هذه الأرض تصبح من أوقاف المسلمين وتضرب عليها الخراج ويكون الخراج بمنزلة الأجرة ويبقى الخراج يؤخذ من الأراضي ولو أسلم من هي في يده ولو انتقلت إلى مسلم فإن هذا الخراج يبقى دائماً وأبداً لأنها من الأوقاف التي يؤخذ منها الأجرة وتصرف في مصالح المسلمين.
إذاً: فكرة الخراج هي أن تؤخذ على هذه الأراضي التي أقرت في أيدي أهلها وتستمر ولو كان الذي يتولى الأرض من المسلمين. فإنها بمنزلة الأجرة وليست بمنزلة الجزية كما سيأتينا.
إذاً: هذا هو الخراج.
وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صار في الفتوح الأخيرة كلها يسلك هذا المسلك فلما فتح الشام أوقف أراضيه ولما فتح مصر أوقف أراضيه ولما فتح العراق أوقف أراضيه. فصار - رضي الله عنه - يوقف الأراضي بعد أن رأى وجاهة هذا القول وهو - رضي الله عنه - أخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

- قال - رحمه الله -:


والمرجع في الخراج والجزية: إلى اجتهاد الإمام.

يعني: والمرجع في تقدير قيمة الخراج والجزية يرجع فيها إلى الإمام ولا يلزم أن نبقى على التقدير الذي قدره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. بل للإمام أن يزيد عن تقدير أمير المؤمنين أو ينقص ولا يعتبر التقدير الذي قاله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقفاً لا يجوز الزيادة ولا النقص عليه.
والدليل على ذلك:
- أن تقدير الجزية والخراج مما يرجع فيه للإمام لأنه يتعلق بالمصالح العامة وهي تختلف باختلاف الأماكن والأزمان فما يصلح في وقت وفي أرض فقد لا يصلح في وقت وأرض آخرين.
ولذلك نقول هذا هو الصواب. وهو: أنه يرجع إلى تقدير الإمام الذي باشر القضية ولا نلتزم بتقدير عمر - رضي الله عنه -.
لكن بالنسبة للأراضي التي قدر فيها عمر - رضي الله عنه - الجزية أو الخراج وكذلك بالنسبة للأراضي التي فتحها إمام من أئمة المسلمين وقدر فيها خارجاً معيناً وجزية معينةً فلا يجوز في هاتين الصورتين العدول عن تقدير الإمام لأن هذا تقديراً مؤبداً ثابتاً لا يجوز تغييره.
لكن ما يفتح من الأراضي فنحن لا نلتزم بتقدير أمير المؤمنين عمر بل للإمام أن يتخير مبلغاً معيناً يرى أنه أنسب.

وقبل أن ننتقل فقد نسينا القسم الثاني:
ـ القسم الثاني: ما فتح صلحاً.
وهو القسم الذي لم يذكره المؤلف - رحمه الله -.

وما فتح صلحاً ينقسم إلى قسمين:
ـ القسم الأول: أن يصالح الكفار عليه على أن يبقى في أيديهم وهو ملك للمسلمين، فهذا حكمه حكم الأراضي التي فتحت عنوة تماماً. فيكون وقفاً مستمراً كالأجرة على هذه الأرض، فإن أسلم الذين فتحت أرضهم صلحاً بقيت الأجرة. وإن انتقلت الأرض إلى مسلم بقيت الأجرة.

ـ القسم الثاني: ما صولحوا عليه على أنه لهم، فهذا:
- حكم الأرض: أنها ملك لأهلها تباع وتوهب وتورث.
- وحكم ما يؤخذ منها: حكم الجزية. فيسقط إذا أسلم أهل الأرض أو انتقلت إلى مسلم.


إذاً: القسم الثاني: إذا صالحنا الكفار على أنه يؤخذ منهم قدراً معينا مما ينتج من الأرض والأرض ملك لهم فهذا كما قلت حكمه حكم الأملاك وهو لهم يتوارثونه ويبيعونه كيف شاؤوا وإذا أسلموا أو انتقلت إلى مسلم سقط الخراج لأن الخراج هنا بمنزلة الجزية.

-
ثم قال - رحمه الله -:
ومن عجز عن عمارة أرضه: أُجبر على إجارتها أو رفع يده عنها.

إذا لم يستطع الإنسان أن يعمر أرضه بالزراعة أو بالبناء والإيجار فإنه يجبر إجباراً على أحد أمرين:
- إما أن يقوم بالواجب عليه. بأن يزرع أو يعمر.
- أو يدفعها إلى غيره:
ـ إما على سبيل التأجير.
ـ أو على سبيل الانتقال.
- أو تنزع منه الأرض.
فليس هناك خيار رابع فهو مخير بين أحد هذه الثلاثة أمور: إما أن يعمر هو ويزرع أو يدفعها دفعاً مجانياً أو بأجرة إلى غيره ليعمل أو تنزع منه. فيقوم الإمام بنزع هذه الأرض وإعطائها لمن يقوم بالعمل فيها.
والدليل على ذلك:
- أن في هذه الأرض حقاً للمسلمين يضيع لو لم نفعل ذلك. ولا يجوز تضييع حقوق المسلمين بتركه وما يشاء بدون عمل.

- ثم قال - رحمه الله -:
ويجري فيها الميراث.

يعني: أنها تنتقل إلى الورثة انتقال الميراث.
والوارث حكمه حكم المورث فكل ما قيل في أحكام المرث تنطبق على الوارث تماماً سواء كانت أرض صلح أو أرض عنوة.

-
ثم قال - رحمه الله -:
وما أُخذ من مال مشرك بغير قتال كجزية وخراج ...

بدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام عن مال الفيء ولو أنه وضع فصلاً أو تنبيه لأنه بدأ بالكلام عن مال الفيء لكان أوضح في التنظيم.
والفيء: هي الأموال التي تؤخذ من الكفار بغير قتال.
وذكر المؤلف - رحمه الله - أمثلة هذه الأموال.

- فيقول - رحمه الله -:
وما أُخذ من مال مشرك بغير قتال كجزية.

هذا النوع الأول من أموال الفيء وهي الجزية.
والجزية هي: الأموال المضروبة على رؤوس أهل الذمة، تؤخذ من كل رأس منهم حسب ما يقدره الإمام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ قدر جزية الكفار بدينار على كل رأس، فهذه الجزية تتعلق بالرؤوس ولا تتعلق بالأراضي.

- ثم قال - رحمه الله -:
وخراج.

الخراج هو: ما يؤخذ من الأراضي التي أقرت في أيدي أصحابها كأجرة.


وتقدم معنا تفصيل ما يتعلق بالخراج وأنه لا يسقط بحال.

-
ثم قال - رحمه الله -:
وعشر.

العشر هو: ما يأخذه ولي الأمر من التجار من أهل الذمة أو من الحربيين الذين يجتازون حدود الدولة الإسلامية مفابل تركهم وتأمين الطريق لهم. يؤخذ منهم عشر الأموال فنحصي جميع الأموال التي مروا بها ونأخذ منهم العشر.

- قال - رحمه الله -:
وما تركوه فزعاً.

ما تركوه فزعاً فكذلك هو من الفيء ويصرف مصارف الفيء.
- لأنه أخذ بغير قتال.
وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن ما تركوه فزعاً سواء كان بخبر أو بسماع قدوم جيش أو بغير ذلك. ففي الكل يعتبر فيئاً وليس غنيمة.
= والقول الثاني: أن ما تركوه فزعاً بسبب الجيش يعتبر غنيمة ولو لم يحصل قتال.
فإن:
- اعتبرناه فيئاً فيصرف مصارف الفيء.
وإن اعتبرناه غنيمة فيصرف مصارف الغنيمة التي تقدمت معنا الآن مفصلة.

-
ثم قال - رحمه الله -:
وخُمس خمس الغنيمة: ففيء يصرف في مصالح المسلمين.


الأخير هو: خمس خمس الغنيمة الذي هو لله ولرسوله. فهذا يصرف في مصالح المسلمين، ويجب على الإمام وجوباً إذا أراد أن يصرف هذه الأموال التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - كالجزية والخراج والخمس وغيرها مما يدخل إلى مخزون الدولة فيجب عليه كما صرح الفقهاء أن يبدأ بالأهم فالأهم ولا يجوز أن يقدم المفضول على الفاضل بل يجب أن يبدأ بالأهم فالأهم سواء فيما يصلح الدين أو فيما يصلح الدنيا، فما يتقاضاه القضاة أهم مما يتقاضاه الكتاب فيجب أن يبدأ بالقضاة لأن موضوع القضاء فصل المنازعات بينما الكتاب يؤدون مهمة يالإمكان الاستغناء عنها، فالمهم أنه يبدأ بالأهم فالأهم، قال الفقهاء: فإن غطى جميع حاجات الدولة وبدأ بالأهم فالأهم فإن الباقي يصرف على المسلمين بالتساوي، وتقدم معنا أن لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - طريقة في العطايا ولعمر بن الخطاب طريقة في العطايا، فأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يسوي بين الناس مهما كانت سابقتهم وفضلهم في الدين والعلم لأنه يرى أن الدنيا ليست بشيء ينظر إليه فهي حقيرة ولذلك يقول هو أمر تافه لا نريد أن نفاضل بين الناس فيه، فلما جاء عمر - رضي الله عنه - لم يسو بين الناس بل عرف لكل إنسان أسبقيته وغناه وفضله وهجرته وصار يفاضل بين الناس بهذه الموازين - رضي الله عنه وأرضاه -.

باب عقد الذمة وأحكامها
- قال - رحمه الله -:
باب عقد الذمة وأحكامها

الذمة في لغة العرب: هي العهد والأمان.
وفي الاصطلاح: هي إقرار بعض الكفار على دينهم بشرط دفع الجزية والدخول في حكم الملة.
يعني: أن يدخلوا تحت أحكام الإسلام.
وقوله: (إقرار بعض الكفار) هذا على المذهب وسيأتينا الخلاف في هذه المسألة.
فالخلاصة: أن عقد الذمة في الاصطلاح هو: إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط دفع الجزية والدخول تحت أحكام الإسلام.
وعقد الذمة: مشروع بالإجماع. فإنه لم يخالف أحد من الفقهاء في جواز عقد الذمة وهذا في الجملة وسيأتينا الخلاف في بعض الكفار.
ودل على ذلك:
- الكتاب. والسنة.


- فالكتاب: قوله تعالى: - (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) -[التوبة/29].فهذا نص: أن منتهى القتال أن يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون.
- وأما السنة: فإنه قد تواترت الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أرسل أميراً على جيش أوصاه أن يخير من يقدم عليهم بين ثلاثة أمور:
- الأمر الأول: أن يدخلوا في الإسلام.
- والأمر الثاني: أن يبقوا على دينهم ويخضعوا للمسلمين بدفع الجزية والانقياد لأحكام الإسلام.
- والأمر الثالث: القتال.
ففي هذا دليل على جواز إقرار الكفار على كفرهم متى بذلوا الجزية وأقروا بأحكام الإسلام.
- ثم قال - رحمه الله -:
ولا يعقد: لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم.

المجوس وأهل الكتاب: هذان الصنفان هما فقط من يجوز أنه يعقد لهم الذمة، فإذا جاء ملحد فلا يجوز أن نعقد له الذمة بل نخيره إما أن يسلم أو نقاتله.
الدليل على ذلك: والمؤلف - رحمه الله - بدأ بالمجوس ولو أنه بدأ بأهل الكتاب لأنهم هم الأصل والمجوس تبع لهم لكنه - رحمه الله - بدأ بالمجوس.
فدليل المجوس:
- حديث عبد الرحمن بن عوف في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر وسن بهم سنة أهل الكتاب.

أما الدليل على قبول الذمة وفرض الجزية على أهل الكتاب:
- - فالآية: - (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) -[التوبة/29]. فإن الله تعالى نص على أهل الكتاب.
- وقول المؤلف - رحمه الله -:
ومن تبعهم.

يعني: ومن دان بدينهم وأخذ بكتابهم من الطوائف الأخرى.
((الأذان)).
إذاً تبين معنا أن الحنابلة يرون أنه لا تقبل الجزية ولا تعقد الذمة إلا لطائفتين فقط:
1 - المجوس.
2 - وأهل الكتاب. فقط.
ومن عداهم فيجب أن يسلم أو يقاتل.
= القول الثاني: أنها تقبل - أي الجزية - وتعقد - أي الذمة - لكل كافر. بلا تفريق مهما كان كفره.
واستدلوا على هذا:


- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يبعث الأمراء وقادة الجيوش كان يأمرهم بتخيير الناس بين ثلاثة أمور ولم يفصل بين أن يكونوا من أهل الكتاب والمجوس أو من غيرهم بل خرجت الأحاديث مخرج العموم، وأما ذكر أهل الكتاب في الآية فهو خرج مخرج الغالب لأن كثيراً ممن حول المدينة وفي الجزيرة كانوا من أهل الكتاب فليس المقصود بذكرهم في الآية تخصيص الحكم بهم وحصره عليهم.
-
والدليل الثاني: أن المقصود من عقد الذمة وفرض الجزية عند بعض الفقهاء ترغيب هؤلاء بالإسلام وأن يروا عن قرب وكثب عدل الإسلام وخيريته وهذا المطلب ينبغي تحقيقه في أهل الكتاب وفي غيرهم من الكفار.

وهذا القول الثاني هو الصواب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.
وهو اختيار سديد ووجيه وقوي وتدل عليه عموم النصوص التي جاءت في السنة.


شرح كتاب الجهاد الدرس رقم (3)

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا الكلام عن أول باب عقد الذمة ووصلنا إلى:

- قوله - رحمه الله -:
ولا يعقدها إلاّ إمام أو نائبه.

أي أن عقد الذمة لأهل الكتاب أو المجوس على المذهب أو للكفار جميعاً على القول الصواب ليست إلا للإمام فقط أو لمن أنابه الإمام ليقوم مقامه.
= وهذا مذهب الجماهير وحكي إجماعاً ولم يخالف في هذه المسألة إلا الأحناف فقط أما جمهور فقهاء المسلمين فإنهم يرون أن هذا من اختصاصات الإمام.
والدليل:
- أن في هذا - أي في عقد الذمة - مصالح عامة للمسلمين يختص بالنظر فيها الإمام فإنه أعلم بتقدير المصلحة:
هل تكون في عقد الذمة؟ أو في عدم عقده؟ مما لا يناسب أن يكون إلا من الإمام.

-
ثم قال - رحمه الله -:
ولا جزية: على صبي.

لما قرر أن الجزية واجبة كما تقدم معنا أراد أن يبين من يستنثنى من أهل الكتاب فلا يؤخذ منه جزية.

- فقال - رحمه الله -:
ولا جزية على صبي ولا امرأة.


أجمع أهل العلم على أنه لا جزية على الصبي ولا على المرأة ولا على المجنون، فهؤلاء لا جزية عليهم.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً - رضي الله عنه - أن يأخذ عن كل حالم ديناراً.
فنص على أنه يجب أن يكون بالغاً وإلا لم يؤخذ منه.
فإذاً يستثنى المرأة والصبي والمجنون بالحديث.
- والدليل الثاني على استثناء هؤلاء الثلاثة: الإجماع.

- ثم قال - رحمه الله -:
ولا عبد.

العبد ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: عبد كافر لمسلم.
- والقسم الثاني: عبد كافر لكافر.

ـ فالعبد الكافر الذي لمسلم:
فقد أجمع أهل العلم أنه لا يؤخذ منه الجزية بلا إشكال وأمره واضح وحكمه ظاهر.

ـ وأما العبد الكافر للكافر:
= فذهب الجماهير: إلى أنه لا تؤخذ عليه جزية وإنما يكتفى بالجزية التي تؤخذ على سيده لأنه من جملة مال سيده.

= والقول الثاني: أن على العبد الكافر تحت الكافر الجزية تؤخذ منه كما تؤخذ من الأحرار.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أن هذا مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
- والثاني: أنه رجل كبير قوي مكتسب فناسب أن تؤخذ منه الجزية.
ورجح ابن قدامة القول الأول وهو المذهب.

وهذا القول وهو المذهب قول قوي أنه: كأن العرف والعمل على أن العبيد الذين تحت أيدي الكفار في الدولة الإسلامية كانت لا تؤخذ منهم الجزية إلا إن صح الأثر عن عمر - رضي الله عنه - ففتوى عمر تكون فاصلة في الموضوع.

-
ثم قال - رحمه الله -:
ولا فقير يعجز عنها.
إذا كان في أهل الذمة فقير يعجز عن دفع الجزية فإنها تسقط عنه.
- لقوله تعالى: - (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) -[البقرة/286].
- ولأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فرض الجزية على طبقات الناس وجعل أدنى الطبقات الفقير المعتمل. يعني: العامل.
فإذا كانت هذه أدنى طبقة فإذاً الفقير الذي لا يعمل لا جزية عليه وهو المقصود بمن يعجز عنها، إذاً: من عجز عنها من أهل الكتاب فإنها تسقط عنه ولا يلزم بشيء لا يستطيع أن يؤديه.
- ثم قال - رحمه الله -:
ومن صار أهلاً لها: أُخذت منه.

من صار أهلاً: بأن بلغ الصبي وأفاق المجنون فإن الجزية تؤخذ منه.


ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (أخذت منه) أي: بلا حاجة إلى تجديد عقد الذمة.
والدليل على هذا:
- أنه تواتر عن الخلفاء بداية من أمير المؤمنين عمر ومن تبعه من الخلفاء الراشدين وخلفاء المسلمين أنهم لم يكونوا يجددون العقد لمن يبلغ من أهل الكتاب ولا لمن يفيق من المجانين ولو كانوا يجددون العقد لنقل هذا نقلاً متواتراً لكثرة من يبلغ من الكفار وهذا أمر معلوم أنه في كل فترة يبلغ مجموعة من صبيان الكفار ولم ينقل عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لابد من تجديد العقد لهم.

- ثم قال - رحمه الله -:
في آخر الحول.

يعني: أنه إذا بلغ فإنا لا ننتظر به حولاً جديداً من حين بلغ بل تؤخذ منه على رأس الحول ولكن تؤخذ منه بالحساب.
ـ فإن بلغ في نصف السنة أخذت منه نصف الجزية.
ـ وإن بلغ بعد مضي ربع السنة أخذت منه ثلاثة أرباع الجزية.
وهكذا ..
والدليل على أنا لا ننتظر به حولاً:
- أنا لو انتظرنا في صبي وفي كل بالغ حولاً لأصبح أهل الكتاب لكل واحد منهم حول مستقل. وفي حساب حول كل واحد من أهل الكتاب ما فيه من المشقة والعنت على ولي الأمر وعلى من يقوم بأخذ الجزية على رؤس الكفار.
فلاشك أنه يجب وجوباً ولو لم يحل عليه الحول أن تؤخذ منه الجزية على رأس الحول لكن بالحساب فلا يُظلَم ولا يَظلِم.:
- لا يُظْلَم بأن يؤخذ أكثر منه.
- ولا يَظلِم بأن يوجب الانتظار لمدة سنة كاملة لأن هذا يجعل لكل شخص حولاً مستقلاً وتتفاوت أحوالهم.

-
ثم قال - رحمه الله -:
ومتى بذلوا الواجب عليهم: وجب قبوله وحرم قتالهم.

إذا بذلوا الواجب المطلوب منهم فإنه يجب أن نقبل منهم ويجب أن نكف عن قتالهم.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبريدة لما أرسله: (فإن هم أطاعوك فاقبل منهم - يعني: الجزية - وكف عنهم - يعني عن قتالهم -).


فهذا النص صريح بأن الكفار إذا أجابوا لإحدى الخصال فإنه يجب على أمير الجيش وجوباً أن يقبل منهم هذه الخصلة وأن يكف عن قتالهم ويأخذ منهم الجزية، وكما يترتب على قبول الكفار لخصلة الجزية أنه تؤخذ منهم ويكف عن قتالهم أيضاً يجب تبعاً لذلك أن يدافع عنهم، فإنهم أصبحوا تحت حماية المسلمين بدفعهم الجزية فلا يقاتلون ولا يسلمون للأعداء لأنهم دفعوا الجزية وصاروا تحت ظل وحكم المسلمين فوجب عليهم أن يدافعوا عنهم.

-
ثم قال - رحمه الله -:
ويمتهنون عند أخذها، ويطال وقوفهم، وتجر أيديهم.

يجب: = عند الحنابلة أن يتقصد آخذ الجزية إهانة الكافر.
- لقوله تعالى: - (يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) -[التوبة/29].
والصغار يدل على تقصد إهانتهم فمن ذلك:
ـ أنه يجب أن يأتي بنفسه بالجزية فإن أرسل بها موليه أو رسولاً من الأحرار فإنها ترد ويقال له يجب أن تسلم الجزية بنفسك.
ـ ومنها أنه يجب أن يطول انتظاره لكي يسلموا الجزية.
ـ ومنها: أنه يجب أن يطول انتظارهم أثناء تسليم الجزية، فيقف الإنسان وقوفاً طويلاً ينتظر أن يسلم الجزية وإذا دخل وأراد أن يسلم الجزية أيضاً ترك فترة طويلة وإذا مد يده بالجزية ترك فترة طويلة ثم بعد هذه السلسلة من الإهانات تؤخذ منه مع جذب يده، فكل ذلك: تحقيقاً للصغار المذكور في الآية، وإلى هذا ذهب الحنابلة كما ترون وهو مذهب الإمام أحمد - رحمه الله -.
= والقول الثاني: أن هذه الممارسات لا تدل عليها الآية ولا يدل عليها عمل الصحابة بل الواجب أن تؤخذ منهم أخذاً هيناً طبيعياً بلا إكرام ولا إهانة.
والدليل على هذا:
- أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمراء الأجناد ومن يوليهم الخلفاء على البلدان التي فيها أهل الذمة كانوا يأخذون الجزية من أهل الكتاب بطريقة سليمة وبطريقة طبيعية ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يمارسون هذه الممارسات لإذلال الكفار، وإن كان إذلال الكفار مقصد شرعي بلا شك لكن أخذ الجزية منهم بهذه الطريقة وهذا التفصيل يحتاج إلى دليل.
وأما الآية: فالجواب عنها: أن الصغار المقصود بالآية يتحقق بأمرين:
- الأمر الأول: أن يدفعوا الجزية: فدفعهم الجزية بحد ذاته صغار.


- والأمر الثاني: أن يدخلوا تحت أحكام الملة. فدخولهم تحت أحكام ملة غير ملتهم هو بحد ذاته صغار.
والمنصف إذا تأمل القولين وجد أن القول الثاني ينسجم مع آثار الصحابة ولو كانت هذه التفصيلات التي ذكرها الفقهاء تفعل في القرن الأول والثاني والثالث لنقلت إلينا لأنه شيء غريب يستحق النقل.
ولذلك الراجح القول الثاني وهو اختيار الحافظ ابن القيم - رحمه الله.

(فصل)

- قال - رحمه الله -:
(فصل) ويلزم الإمام: أخذهم بحكم الإسلام.

تقدم معنا أنه يحرم عقد الذمة إلا بشرطين:
ـ الأول: بذل الجزية.
ـ والثاني: الدخول تحت أحكام الإسلام.
فهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - هنا (فصل يلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام).
والمراد بالحكم هنا: أن يلزموا بأحكام العقود والجنايات والإتلافات والحدود فيما يحرم عليهم كما سيأتينا إذاً يلزمون بأحكام الإسلام ويلزمون أيضاً بدفع الجزية.

ولما ذكر المؤلف - رحمه الله - هذه القاعدة العامة وهي: إلزام أهل الكتاب بدفع الجزية ذكر التفصيل:
- فقال - رحمه الله -:
ويلزم الإمام: أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض.

يلزم أن نأخذهم بحكم الإسلام بهذه الأمور:
- النفس.
- والمال.
- والعرض.
بدليل:
- أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقد أقام عليه الحد وأخذه بحكم الإسلام - صلى الله عليه وسلم -.
- والدليل الثاني: أن رجلاً وامرأة من أهل الكتاب زنيا فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما الحد.
وهذه الأحاديث في الصحيح فلا إشكال في ثبوتها، ففي هذه الأحاديث دليل على أن أحكام الإسلام تجري عليهم لكن بالقيد الذي سيذكره المؤلف - رحمه الله - لاحقاً وهو أنه يكون من الأعمال التي يرون هم تحريمها في ملتهم.

- يقول - رحمه الله -:
وإقامة الحدود عليهم: فيما يعتقدون تحريمه.

ما يعتقدون تحريمه يجب أن نقيم عليهم فيه الحد مثل: - الزنا. فهو محرم في كل ملة. - والقتل: وهو كذلك. - والقذف: وهو كذلك. فهذه الأشياء التي هي محرمة في دين أهل الكتاب نأخذهم بها.
والدليل على أنه يجب أن نأخذهم بها:
- أنهم يقرون بتحريمها. وقد التزموا حكم الإسلام.


فنتج عن هاتين المقدمتين وجوب إقامة الحد عليهم.
* * مسألة / يؤاخذون وتقام عليهم الحدود فيما يرون تحريمه ولو لم يترتب عليه حد في دينهم وإنما يكتفى بأنه محرم في دينهم ولا يشترط أن يضاف مع ذلك أن يرتب عليه حد في دينهم. فقط إذا كان محرماً فإنه تقام عليهم الحدود.

- ثم قال - رحمه الله -:
دون ما يعتقدون حلّه.
الأعمال التي يعتقدون أنها حلال لا تقام عليهم فيها الحدود.
مثال ذلك:
ـ شرب الخمر. فهو ليس بمحرم عندهم.
ـ وأكل الخنزير. فهو ليس بمحرم عندهم.
ـ ونكاح المحارم عند المجوس. لأنه ليس بمحرم في دينهم.
فهذه الأعمال التي يرون هم أنها مباحة لا تقام عليهم فيها الحدود ولو كانت محرمة في شرعنا.
والدليل على هذا:
- أن أهل الكتاب يقرون على كفرهم وهو أعظم من هذه الأعمال فإذا أقروا على الكفر فهو أعظم معصية فمن باب أولى أن يقرون على الأعمال التي هم يرون أنها مباحة ونحن نرى أنها محرمة، لكن اشترط الفقهاء لذلك: أن لا يظهروا هذه الأعمال. فإن أظهروها كما سيأتينا: انتقض عهدهم، فيجب أن يسروا ويكتموا شرب الخمور وأكل الخنازير ونكاح المحارم فإن أظهروه عاقبناهم بنقض العهد.
-
ثم قال - رحمه الله -:
ويُلزمهم التّميز عن المسلمين.

يجب وجوباً على الإمام أن يلزم اهل الذمة بالتميز عن المسلمين.

والتميز يحصل بأربعة أمور:
- الأمر الأول: وهو الأهم بلباسهم.
فيجب أن يلزموا بلباس يخالف لباس المسلمين لا سيما من حيث اللون بحيث إذا رآهم الإنسان عرف أنهم من أهل الذمة.

- والأمر الثاني: بشعورهم.
فيجب أن يمنعوا من الفرق لأنه سنة المسلمين وأن تجز نواصيهم ليعرف أنهم من أهل الذمة.

- والأمر الثالث: بركوبهم.
والركوب فَصَّلَ فيه المؤلف - رحمه الله - لأنه من أشهر العلامات التي يعرف فيها أنه من أهل الذمة.

- والأمر الرابع: بكناهم.
فإنه لا يجوز أن يمكنوا من التكني بكنى المسلمين فلا يسمى أحدهم أبو عبد الله ولا أبو عبد الرحمن ولا أبو محمد ولا غيرها مما يختص به المسلمون. ولا بالألقاب العلمية التي اختص بها المسلمون مثل: نور الدين. وتقي الدين .... وإلى آخره. إذا قيل: أن التسمي بهذه الألقاب جائز.


* * مسألة / ويجوز أن يتكنوا بغير هذه الأشياء مما لا يختص بالمسلمين. فإن الإمام أحمد - رحمه الله - رأى طبيباً نصرانياً وقال: يا أبا إسحاق. فهذه الكنية لا تتعلق بالمسلمين وإطلاق الإمام أحمد - رحمه الله - بهذه الكنية يدل على أنه - رحمه الله - لا يرى المنع المطلق من التكني لكنه يرى المنع من التكني الخاص بالمسلمين، ومن جمع من الحنابلة بين روايات الإمام أحمد - رحمه الله - بهذا الجمع بأن النفي المطلق والجواز المطلق يجمع على هذا الجمع فقد أصاب وعلى هذا تحمل الروايات المختلفة عن الإمام أحمد.

ثم انتقل - رحمه الله - إلى مسألة الركوب:
- فقال - رحمه الله -:
ولهم ركوب غير خيل بغير سُرُج بإكاف.

بالنسبة للركوب: فيجب أن يتميزوا بعدة أمور:
ـ الأمر الأول: لا يجوز أن يركبوا الخيل والفرس مطلقاً لأن في ركوب الفرس عزة ومنعة وعلو.

ـ والأمر الثاني: يجوز أن يركبوا البغال والحمير والإبل بشرط أن يستخدموا السرج. لأن السرج فيه أيضاً عزة ومكانة ورفعة.

ـ والأمر الثالث: أن يركبوا على جهة بأن يسدل أحدهم رجليه من جهة ويعطي ظهره للجهة الأخرى ولا يركب معتدلاً.

فكل ذلك ليتميز أهل الكتاب من الذميين عن المسلمين ولتحقيق الانفصال التام الجسدي والحسي الذي يتبعه الانفصال التام المعنوي وما يتعلق بالتشبه. وقوله - رحمه الله -: (بإكاف) الإكاف هو: البرذعة وهي قماش أو قطن يلقى فوق ظهر المركوب إياً كان ويركب، فكل ما ليس بسرج فهو إكاف.

الدليل على هذه الأمور الأربع:
- الآثار الصحيحة المروية عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - حينما اشترط على أهل الذمة مجموعة من الشروط منها: المخالفة في هذه الأشياء الأربع.

- ثم قال - رحمه الله -:
ولا يجوز: تصديرهم في المجالس.

لا يجوز أن يجلس الذمي في صدر المجلس.
لدليلين:
- الدليل الأول: أن من شرط أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - عليهم: أن إذا قدم المسلم قاموا له من مكانهم، فإذا كان يلزمهم القيام من المكان لحضور المسلم فكيف يمكنون من الجلوس في صدر المجلس.

- والدليل الثاني: أن في جلوسهم في صدر المجالس عزة لهم وتعظيماً وهو خلاف مقصود الشارع في الكافر مطلقاً وفي الذمي خصوصاً.


فإذاً لا يجوز أن نمكنهم من الجلوس في صدر المجالس.

-
ثم قال - رحمه الله -:
ولا القيام لهم.
لا يجوز أن نقوم لهم لما تقدم. فإن الأدلة الدالة على عدم تصديرهم في المجالس دالة كذلك على أنه لا يجوز أن نقوم لهم.
ولا يخفى على أي طالب علم أن هذه الأشياء المذكورة في الكتاب إنما نص عليها المؤلف - رحمه الله - لأمرين:
ـ أولاً: أن كثيراً منها جاءت في شروط عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
ـ وثانياً: أنها كثيرة الوقوع.
وإلا فإنه لا يقتصر في إذلال الذمي على هذه الأمثلة بل يشمل كل ما يمنع مما فيه إعزاز للذمي أو تصديراً له أو رفعاً من شأنه.
فهذه هي القاعدة العامة وإنما ما ذكره المؤلف - رحمه الله - إنما هو أمثلة اختارها لكثرة وقوعها ولأنها جاءت في شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

- قال - رحمه الله -
ولا بداءتهم بالسلام.
لا يجوز أن نبدأ أهل الكتاب بالسلام.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (لا تبدؤوهم بالسلام). فهذا نص: (وإذا رأيتموهم في طريق فاجعلوهم في أضيقه). وهذا نص صريح بأنه لا يجوز أن نبدأهم بالسلام.
* * مسألة / أما قول: كيف حالك. وصباح الخير. ومساء الخير. فالأقرب: الجواز. حيث لا يوجد دليل على المنع وليس في هذه التحايا شيء من التعظيم وليست في معنى السلام فإن السلام دعاء.
فالأقرب الجواز إلا: إذا علم من حال الذمي أنه إن خوطب بمثل هذه تكبر ورأى أنه اعتز فحينئذ يجب أن لا تلقى عليه لا هذه التحية ولا غيرها من التحايا.
* * مسألة / رد السلام يجوز. لكن يجب أن يكون بقول الراد: (وعليكم) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: (وعليكم)، وهذا الحديث عام يشمل جميع الصور. فأي ذمي يسلم فإنا نقول له: (وعليكم).
= والقول الثاني: في المسألة: أنا إذا علمنا على وجه القطع واليقين أنه قال: (السلام عليكم) صريحة ولم يقل: (السام عليكم) أو لفظة أخرى فيها سب أو دعاء. يعني: إذا علمنا أنه سلم سلاماً صحيحاً فإنه يجوز أن نرد التحية بمثلها.
- لعموم الآية: - (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) -[النساء/86].


- ولأن الحديث إنما ورد على سبب وهو قول اليهود: (السام عليكم).
وإلى هذا القول ذهب ابن القيم وانتصر له وهو أنه لا يجب دائماً أن نقول: (وعليكم) بل يجوز أن نقول: (وعليكم السلام) إذا علمنا أنهم سلموا سلاماً خالياً من الإساءة.
أي القولين أرجح؟
الذي يظهر لي بعد التأمل - والمسألة تحتمل - يظهر لي أن المذهب أصح. لأنه وإن كان فتوى النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجت مخرجاً مترتباً على علة وهي قول اليهودي إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وكم من فتوى من النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجت بسبب وتعاملنا معها تعاملاً عاماً، مع ذلك ما ذكره ابن القيم وجيه وخلاف قوي فمن أخذ بهذا أو بهذا فهو في سعة وأنا أرى أنه ما يزيد على قوله: (وعليكم) كما أن في هذا مصلحة وهي: تربية الإنسان على معاملة غير المسلم بما يستحق وفيه تربية على مسألة الوقوف مع النص.

- ثم قال - رحمه الله -:
ويمنعون: من إحداث كنائس وبيع.

لا يجوز تمكين أهل الذمة من بناء الكنائس، وعلى القول بأن عقد الذمة يجوز لكل الكفار فلا يجوز لأي كافر أن يمكن من إقامة بيت للعبادة.
والدليل: من ثلاثة أوجه:
- الأول: الإجماع. فهذا محل إجماع: أنهم لا يمكنون من إقامة كنائس مهما كان السبب.
- الثاني: أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - شرط عليهم أن لا يحدثوا كنيسة.
- الثالث: أن في تمكينهم من بناء الكنائس إظهار لشعائر الكفر بعد أن لم تكن وليست داخلة في العقد - يعني: في عقد الذمة.
وهذه الثلاث أدلة: الإجماع وغيره من أقوى الأدلة على منع مسألة إقامة إحداث كنيسة جديدة.
نأتي إلى المسألة الثانية: وهي إذا كانت الكنيسة موجودة ثم انهدمت:
- قال - رحمه الله -:
وبناء ما انهدم منها ولو ظلماً.

ويمنعون من بناء ما انهدم منها ولو كان انهدامه على سبيل الظلم.
ولذلك نقول: انهدام الكنائس ينقسم إلى قسمين:
ـ القسم الأول: أن ينهدم بنفسه. فإذا انهدمت الكنيسة بنفسها فإنه لا يجوز إعادة إعمارها.
بدليل:
- أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شرط عليهم أن يجددوا ما خرب من كنائسهم.
ـ والقسم الثاني: ما انهدم ظلماً بأن اعتدي على الكنيسة وهدمت:
= فالمذهب: كذلك لا تجدد.


- لأن الأرض للمسلمين ولا يقام عليها دور عبادة للكافرين.
= والقول الثاني: أنها إن انهدمت ظلماً جاز بنائها.
- لأن الشرع جاء بنفي الظلم عامة: الواقع على المسلم وعلى المعاهد.
وهذا القول اختاره ابن مفلح - رحمه الله -. وهو القول الصحيح فإذا اعتدي على كنائسهم فإن من تمام العقد والأمان الذي أعطوا أن تجدد ما دام اعتدي عليها ظلماً.

* * مسألة / انهدام بعض الكنيسة كانهدام الكنيسة: فالكلام في انهدام بعض الكنيسة كالكلام في انهدام الكنيسة.
فإذا سقط نصف الكنيسة:
= فعند الحنابلة: لا يجوز الإعمار. بل يبقون في النصف الذي لم يسقط سواء كان سقوطه ظلماً أو كان سقوطه بنفسه.
وما ذكر من خلاف وترجيح هو نفسه في انهدام بعض الكنيسة.

- ثم قال - رحمه الله -:
ومن تعلية بنيان على مسلم.

يمنع أهل الذمة أن يبنوا بنياناً عالياً عن الجار ولو كان الجار ليس من الملاصقين ما دام جاراً فإن الذمي لا يمكن من رفع البنيان فوق مستوى بنيان المسلم.

والدليل من وجهين:
- الوجه الأول: أن عمر شرط عليهم أن لا يطلعوا على بيوت المسلمين وفي تعلية البنيان تمكين لهم من مخالفة هذا الشرط.
- والوجه الثاني: أن في إعلاء البنيان على بنيان المسلم إعزاز للكافر وهو خلاف مقصد الشارع.
فإن بنا بناء عالياً على بناء المسلم فيجب وجوباً أن ينقض الزائد.

* * مسألة/ فإن لم يبن الذمي بيتاً أعلى من بيت المسلم ولكن اشتراه ففي هذه المسألة خلاف:
= فمن الفقهاء من يقول: أنه إذا اشترى ولم يعمره هو فإنه يمكن البقاء.
- لأن العلو لم يكن بصنعه ولا بيده.
= ومن الفقهاء من قال: بل إذا اشترى بيتاً يعلو بيت المسلم فإنه ينقض الزائد كذلك.
واستدلوا على ذلك:
- بأن العلل الموجودة في البنيان العالي الذي تولى هو بنايته موجودة في البنيان الذي اشتراه تماماً وإذا وجدت العلة فيجب أن يوجد الحكم.
وهذا القول الثاني هو الأقرب.

-
ثم قال - رحمه الله -:
لا مساواته له.

أي: فيجوز.
فإنه بنا بنياناً مساوياً لبنيان المسلم فإنه يجوز ولا يجب عليه أن ينقض من بنيانه ما ينزل به عن مستوى المسلم.
= والقول الثاني: أنهم لا يمكنون من مساواة بنيان المسلم.


- لأنه إذا كان عمر - رضي الله عنه - أمر بعدم التساوي في المركوب والملبوس والشعور والكنى فمن باب أولى في البنيان فلا يمكنون من المساواة بينهم وبين بنيان المسلمين.
والذي يبدو لي أنه لا حرج وأنه لا يلزم بالهدم وأنه لا بأس بالمساواة لأن المساواة في البنيان ليست كالمساواة في ما عداها من الملبوس والمركوب وغيره بل بينهما فرق ظاهر.

- ثم قال - رحمه الله -:
ومن إظهار خمر وخنزير وناقوس، وجهر بكتابهم.
لا يمكن الذمي من إظهار شعائره في المطعم والملبس والعبادة.
بل يجب أن يكتم هذه الأمور وأن يسر بها.
والدليل على ذلك:
- أن في تمكينهم من هذا الأمر إيذاء للمسلمين. لأنهم إذا أخذوا يشربون الخمور في الشوارع ويأكلون في نهار رمضان يطبخون الخنازير ويدقون الننواقيس صار هذا من أعظم الإيذاء للمسلم والمؤمن الذي يغيضه معصية الله.
- والدليل الثاني: أن منعهم من إظهار الشعائر محل إجماع.
فلا يجوز أبداً أن يمكنوا من إظهار الشعائر.

- ثم قال - رحمه الله -:
وإن تهود نصراني أو عكسه: لم يقر. ولم يقبل منه إلاّ الإسلام أو دينه.
إذا تهود النصراني أو تنصر اليهودي: فعن الإمام حمد - رحمه الله - ثلاث روايات:
= الرواية الأولى:
أنه إذا تنصر اليهودي أو تهود النصراني فإنه لا يقر ولا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل.
- لأنه مقر بفساد الدين الآخر فلا يقر على دين فاسد.
= الرواية الثانية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهي المذهب:
أنه يقال له: إما أن ترجع إلى دينك أو تسلم ولا يقر على الملة التي انتقل إليها.
إذاً تتفق الرواية الثانية مع الرواية الأولى في عدم إقراره على الملة التي انتقل إليها لكن تختلف الروايتين بالخيار الآخر.
= الرواية الثالثة:
أنه يقر.
- لأن انتقال اليهودي إلى النصرانية أو العكس لم يخرج به عن أن يكون من أهل الكتاب فإنه ما زال من أهل الكتاب فانتقاله داخل أديان أهل الكتاب لا محذور فيه.

* * مسألة / نحن ذكرنا أنه لا يقر في الرواية الأولى وفي الراية الثانية. فما هي صيغة عدم الإقرار؟ أسلوب عدم الإقرار؟
فيه خلاف:
= القول الأول: أن عدم الإقرار يكون بتخييره بين القتل أو الإسلام مثلاً على الرواية الأولى.


- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من بدل دينه فاقتلوه).
= القول الثاني: أن صيغة عدم الإقرا تكون بالحبس والجلد والتعزير والتعذيب إلى أن يرجع إلى دينه - أو يسلم على المذهب أو إلى أن يسلم على الرواية الأولى.

(فصل)

- ثم قال - رحمه الله -:
فإن أبى الذمي: بذل الجزية، أو إلتزام حكم الإسلام .. انتقض عهده.

هذا الفصل خصصه المؤلف - رحمه الله - للأشياء التي تنتقض بها عهود أهل الذمة وعقودهم، فإذا رفض بذل الجزية أو الإلتزام بأحكام الإسلام فإن عهده ينتقض، وإنما بدأ المؤلف - رحمه الله - ببذل الجزية والالتزام بأحكام الإسلام لأنها أبرز شعائر إلزام أهل الذمة.

والدليل على ذلك:
- قوله تعالى: - (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) -[التوبة/29].
وتقدم معنا: أن التفسير الصحيح لقوله: (وهم صاغرون) هو أن يبذلوا الجزية وأن يلتزموا بأحكام الإسلام. فإذا رفضوا فإن العهد انتقض وسيأتينا ماذا يترتب على انتقاض العهد.

ـ الثالث مما ينتقض به عهدهم:
- قوله - رحمه الله -:
أو تعدى على مسلم بقتل أو زنا.

ـ إذا تعدى على مسلم بقتل أو على مسلمة بزنا فإن عهده ينتقض.
والدليل على هذا:
- أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شرط عليهم في كتابه أن يضربوا مسلماً عمداً. فإذا كان الشرط بيننا وبينهم أن لا يضربوا مسلماً عمداً فكيف بالقتل العمد العدوان.
ولذلك نحن نقول: مقصود المؤلف - رحمه الله - بالقتل هنا الذي ينتقض به العهد هو ما يكون عمداً.
ـ وأما الزنا: فكذلك تنتقض به عهودهم وعقودهم.
- لأن ذمياً سعى في أمر امرأة ليزني بها ورفع أمره إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: ما على هذا عاهدناكم اصلبوه. فصلب في بيت المقدس.
فهذا دليل على أنه إذا حاول الزنا بالمسلمة - وإذا قيل الزنا هنا - يعني بالمسلمة - فإن عهده ينتقض، وعمر - رضي الله عنه - في ذلك الذمي اختار القتل ولذلك صلبه لأن هذا الذمي حاول عبثاً أن يهتك عرض مسلمة فكأنه عامله معاملة المحارب أو معاملة قطاع الطرق المهم أنه صلبه تعزيراً - رضي الله عنه -، الذي يعنينا من الصلب: القتل. فلو قتله فقط لتبين بذلك أن عهده انتقض.

-
ثم قال - رحمه الله -:


أو قطع طريق، أو تجسيس أو إيواء جاسوس.

إذا فعل أيا من هذه الثلاث فإن عهده ينتقض لأن في هذا العمل ما فيه من الإيذاء والإغراء بالمسلمين، وإذا أوقع الضرر والإيذاء بالمسلمين انتقض عهده وهذا أمر ظاهر.

- قال - رحمه الله -
أو ذكر اللَّه أو رسوله أو كتابه بسوء .. أي: ينتقض عهده.

وهو أعظم أنواع الانتقاض وقد يكون أعظم من الامتناع عن بذل الجزية والدخول تحت أحكام المسلمين.
والدليل على انتقاض العهد بذلك:
- أن يهودية كانت تقع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتسبه - صلى الله عليه وسلم - فقام إليها رجل وقتلها فلما رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدر دمها.
فدل ذلك على أن العهد انتقض في خصوص هذه المرأة بسبب أنها سبت النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال شيخ الإسلام: ومن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يقتل ولو أسلم.
فإذا بادر الذمي وأسلم بعد أن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - نقبل منه الإسلام ونعامله معاملة المسلم ولكن مع ذلك: يقتل.

-
ثم قال - رحمه الله -: ذاكراً الحكم العام:
انتقض عهده.

وتقدم معنا انتقاض العهد في كل واحد من هذه الخمس التي ينتقض بها عهد الذمي.

- ثم قال - رحمه الله -:
دون نسائه وأولاده.

الإسلام دين عدل. فإذا أتى يهودي أو نصراني بناقض من نواقض العهد فإن الانتقاض يختص به دون نسائه وأبنائه وعبيده .. إلى آخرهم.
ودليل ذلك:
- أن النقض وجد منه فاختص الحكم به. وأما عهود الباقين فهي على وجهها ولا يجوز لنا أن نمسهم بسوء وإنما هذا الذي انتقض عهده بأي ناقض من النواقض السابقة فإنه يعامل معاملة من انتقض عهده دون بقية أهله.

-
- ثم قال - رحمه الله -:
وحلّ دمه وماله.

إذا انتقض عهد الذمي فولي الأمر مخير فيه كما هو مخير بالأسير:
- إن شاء قتل.
- وإن شاء مَنَّ.
- وإن شاء فداه.
وهذا القول: وهو أن الذمي الذي انتقض عهده يعامل معاملة الأسير ويرجع إلى رأي الإمام هو أعدل الأقوال.
وعليه تدل تصرفات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وبهذا تم كتاب الجهاد ولله الحمد ونبدأ إن شاء الله تعالى بكتاب البيوع.


من الأسئلة:
* أخونا يسأل عن مسألة نسيت أن أنبه عليها وتلحق بالشرح فإنه لابد منها: وهي: أن قول المؤلف - رحمه الله -: (لا يجوز بناء كنيسة) يفهم من عبارة المؤلف - رحمه الله - أن الكنائش التي وجدت وقام العهد والعقد وهي موجودة فإنه يجب أن تبقى ولا يجوز لولي الأمر أن يهدمها وهذا هو الصحيح: أن ما وجد سابقاً من حين العقد فإنه يجب أن يبقى.
والدليل على هذا:
- أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين عاهدوا وعاقدوا أهل الذمة لم يهدموا أي كنيسة دخلوا البلاد وهي فيها. وإنما لا يجددون ما انهدم منها أما الموجود من حين فتح المسلمين للبلاد فإنه يبقى كما هي سيرة الصحابة - رضي الله عنهم - فهذا يلحق عند قول المؤلف - رحمه الله -: (وبناء ما انهدم منها).