شرح زاد
المستقنع للخليل الدرس: (1) من الوقف
كتاب الوقف
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال - رحمه الله -:
كتاب الوقف.
الوقف: مصدر وقف. ومعناه في اللغة: التحبيس.
وهو مشروع: بالسنة. ودل عليه أحاديث منها:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من
ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له).
فقوله: (صدقة جارية) يشير به إلى الوقف.
- وأيضاً دل عليه حديث عمر - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال: إني ملكت أرضاً لم أملك قط أرضاً أنفس منها في خيبر فما
تأمرني فيها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت
بها. غير أنه لا تباع ولا توهب ولا تورث.
وهذا الحديث حديث عمر - رضي الله عنه - أصلٌ عظيم في هذا الباب. سيأتينا
أنا نحتاج إليه في كثير من المسائل فهو أصل عظيم نحمد الله أن وفق عمر أن
يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال حتى تأتينا هذه الفتوى
المفصلة.
قال - رحمه الله -:
وهو تحبيس.
ذكرت التعريف والمشروعية بقي مسألة علينا:
= ذهب الجماهير إلى أنه مشرو، واستدلوا بهذه النصوص الصريحة الصحيحة
الواضحة.
= وذهب شريح وبعض الفقهاء إلى أنه لا يشرع.
وهو قول لا يتلفت إليه. بل اعتبروه من الأقوال التي خالفت الإجما،. وجه
ذلك: أن جابر - رضي الله عنه - قال: ما من أحد من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - وجد خيراً إلا أوقف واعتبر الحنابلة هذا الأثر الموقوف عن جابر
حكاية للإجماع وهو صحيح وهو كذلك: هو حكاية للإجماع.
فمخالفة شريح أو غيره لا عبرة بها مطلقاً مع توارد وتتابع أصحاب النبي -
صلى الله عليه وسلم - على الإيقاف بالإضافة إلى السنة المرفوعة الصحيحة.
قال - رحمه الله -:
وهو تحبيس الأصل.
التحبيس: هو قطع المال عن التملكات والتصرفات.
وقوله: (تحبيس الأصل)، الأصل يقصد به عند الحنابلة: كل ما ينتفع به مع بقاء
عينه.
وسيذكر المؤلف - رحمه الله - هذه المسألة
ونذكر ما يتعلق بها من أحكام لكن الذي يعنينا الآن أن الحنابلة يقصدون
بالأصل هو هذا كل ما ينتفع به مع بقاء أصله.
قال - رحمه الله -:
وتسبيل المنفعة.
يقصد بتسبيل المنفعة أي: صرفها في مستحقيه، إذاً هذا هو مفهوم الوقف في
الإسلام. (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة).
قال - رحمه الله -:
ويصح بالقول.
الوقف يصح بصيغتين:
ـ القول. ... ـ والفعل.
بدأ - رحمه الله - بالقول: والسبب في ذلك: أن القول صحة الوقف فيه محل
إجماع، يعني: إذا قلنا محل إجماع يعني: من القائلين بمشروعية الوقف وهم
جماهير أهل العلم.
واستدلوا على هذا:
- بأن الوقف عقد من العقود يصح باللفظ أو بالقول.
وقوله: (يصح) يعني من جائز التصر، الوقف لا يصح ممن لا يجوز أن يتصرف إما
لصغر أو جنون أو سفه أو حجر أو لأي سبب.
قال - رحمه الله -:
بالقول وبالفعل الدال عليه.
ـ القول له ستة ألفاظ: ثلاثة صريحة وثلاثة كناية وسينص المؤلف عليها.
ـ قال: (وبالفعل الدال عليه) يعني: أن الوقف يصح بالفعل الدال على إرادة
الوقف وهذا هو مذهب الحنابلة. وهو تصحيح الوقف بالفعل بلا قول.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الدليل الأول: أن الوقف بالفعل مع ما يدل عليه هو في قوة القول في
الدلالة على إرادة الوقف.
- الثاني: أن العرف دل على تصحيح الوقف وإرادته بالفعل دون القول.
- الثالث: أن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ فإذا علمنا من دلائل الأحوال
والقرائن أنه أراد الوقف عملنا به.
قوله - رحمه الله -: (وبالفعل الدال عليه) يعني: وينبني على هذا إذا صححنا
الوقف بالفعل أنه إذا وقف بالفعل فإنه لا يجوز له أن يرجع وخرجت العين عن
ملكه، فهذه هي الثمرة من تصحيح الوقف بالفعل.
إذاً: يجب أن تعلم أنه إذا صححت الوقف بالفعل ثم وقفه بالفعل كما سيأتينا
فإنه خرجت العين وليس له أن يرجع.
ثم ذكر - رحمه الله - أمثلة على الوقف بالفعل:
قال - رحمه الله -:
كمن جعل أرضه مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه.
إذا جعل أرضه مسجداً وأذن للناس أن يصلوا في هذا المسجد فقد خرجت الأرض عن
ملكه وأصبحت وقفاً لله.
لكن يشترط في الإذن أن يكون إذناً عاماً،
أما الإذن الخاص أو المقيد فإنه لا يدل على التوقيف لكن الذي يدل هو الإذن
العام.
فإذا وضعه وأذن للناس جميعاً أن يصلوا في هذه الأرض فقد أصبحت مسجداً وخرجت
عن ملكه.
المثال الثاني:
قال - رحمه الله -:
أو مقبرة وأذن في الدفن فيها.
كذلك إذا أذن للناس أن يدفنوا في هذه الأرض فمن المعلوم أنه إذا كان الإذن
عاماً فقد أخرج الأرض عن ملكه ووقفها في سبيل الله.
وجعل الأرض مقبرة في التوقيف أظهر منه في المسجد وإن كان في الكل هو توقيف
لكن في المقبرة أظهر لأن الرجوع في المقبرة أصبح أشبه ما يكون بالمتعذر
لأنها أصبحت مقابر لا يستطيع أن ينتفع منها بأي شيء فخرجت من ملكه وأصبحت
وقفاً لله وفي سبيله.
فإذاً هذان مثالان بهذا الشرط وهو أن يأذن إذناً عاماً، ولعل مقصود
الحنابلة بقولهم: (إذناً عاماً) يعني: أن تدل القرائن حقيقة على أنه أراد
الوقف.
ففي يومنا هذا ربما يأذن إذناً عاماً ونعلم أنه لم يرد التوقيف، كما لو أذن
في المصليات التي في العماير في الدور الأول أو في الدور الثاني هو لا يريد
أن تخرج عن ملكه وإن كان أذن فيها إذناً عاماً.
فإذاً: الضابط ليس هو الإذن أو عدم الإذن وإنما الإذن مثال الضابط هو أن
نعلم من خلال القرائن والأحوال أنه أراد إخراج هذه الأرض وتوقيفها في سبيل
الله، فإذا علمنا من خلال القرائن هذا العلم فقد صارت وقفاً وخرجت عن ملكه.
قال - رحمه الله -:
وصريحه: وقفت وحبست وسبلت.
رجع - رحمه الله - إلى الكلام عن التوقيف بالقول، ولو أنه جعل الكلام عن
الوقف بالقول مجموعاً مع قوله في أوله: (ويصح بالقول)، لكان أنسب وأسهل في
الترتيب.
يقول - رحمه الله -: (وصريحه: وقفت وحبست وسبلت) هذه الألفاظ الثلاث: (وقفت
وحبست وسبلت) ألفاظ صريحة.
والألفاظ الصريحة هي التي لا تقبل إلا معنى الوقف.
والدليل على أنها ألفاظ صريحة:
- أن هذه الألفاظ اعتبرت ألفاظاً صريحة في الشرع وفي العرف.
ولهذا نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن شئت حبست أصلها).
فاعتبر التحبيس لفظاً صريحاً، هذه الألفاظ الثلاثة صريحة لا تحتاج إلى أي
أمر إضافي في إثبات الحكم.
وأنت يجب أن تعلم أن الألفاظ الصريحة هنا
وفي طلاق تدل على معنيين أو يؤخذ منها معنيان:
ـ الأول: أنها تدل على الحكم بلا احتياج لأمر زائد خارج عن اللفظ.
ـ الثاني: أنها يجب أن لا تدل إلا على المعنى الذي هي صريحة فيه.
وهذا التقرير في صرائح الألفاظ وفي كل الأبواب في الطلاق وفي الوقف.
قال - رحمه الله -:
وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت.
والكناية هي الألفاظ التي تشترك بين الوقف وغيره.
يعني: تطلق على الوقف وعلى غيره.
فقول الإنسان: (تصدقت) يحتمل أنه أراد الصدقة المعروفة وهي إخراج العين من
ملكه إلى ملك المتصدق عليه فقط.
ويحتمل أنه أراد الوقف. فلا تصير وقفاً إلا بأمر زائد وهو ما سيذكره المؤلف
- رحمه الله - في عباراته القادمة وهي أحد ثلاثة أشياء.
قال - رحمه الله -:
فتشترط النية: مع الكناية، أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف.
كما قلنا في الصريح أنه لا يحتاج إلى أمر زائد ولا يحتمل إلا المعنى الذي
هو صريح فيه كذلك نقول في الكناية. أنها لا تكون حكماً في الوقف إلا إذا
انضاف إليها أمر زائد ويجب أن تشترك في معناها بين الوقف وبين أمر آخر.
فالكناية عكس الصريح تماماً.
يقول - رحمه الله -:
(فتشترط النية: مع الكناية، أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف).
يعني: يشترط لاعتبار الكناية لفظاً دالاً على التوقيف أن تقترن بأحد ثلاثة
أمور:
ـ الأمر الأول: النية، فإذا صار مع الكناية نية أصبحت دالة على الوقف.
والدليل على هذا:
- أن الكناية مع النية يساوي الصريح، يعني: في الدلالة على المقصود.
ولذلك إذا احتف أو اقترن اللفظ بالنية صار صالحاً للتوقيف.
ـ الثاني: يقول: (أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة)، إذا اقترن بالكناية أحد
الألفاظ الخمسة صارت صريحة.
والألفاظ الخمسة يقصد بها: الثلاثة الصريحة، واللفظان الباقيان من الكناية.
- فإذا قال: تصدقت وقفاً بهذا البيت. - أو تصدقت ووقفت هذا البيت.
صار وقفاً.
- أو قال: تصدقت وحرمت هذا البيت، صار وقفاً.
- أو قال: تصدقت وحبست هذا البيت، صار وقفاً.
يعني: إذا اقترن هذا اللفظ بأحد الألفاظ الخمسة الباقية لأنه أصبح يدل على
الوقف وانتفى من معناه الاشتراك.
ما الذي نفى الاشتراك؟ هو الاقتران بأحد
الألفاظ الخمسة.
ـ يقول - رحمه الله -:
(أو حكم الوقف).
يعني: إذا قرن الكناية بأحد أحكام الوقف.
- كأن يقول: تصدقت بهذا البيت لا يباع.
- أو تصدقت بهذا البيت لا يوهب.
- أو تصدقت بهذا البيت لا يورث.
صار البيت وقفاً.
لأنه باقترانه بهذا اللفظ تحدد معناه ولم يعد مشتركاً.
وهذا صحيح في الأمور الثلاثة.
لكني أقول: ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يوقف أن لا يشغل الناس بتتبع
نيته واقتران لفظه وأن يوقف بلفظ صريح حتى يخرج هو وذريته والناظر وكل من
له شأن بالوقف من الإشكال.
ولذلك نقول وقف وقفاً صريحاً.
ولذلك استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظاً صريحاً في التوقيف.
لكن في بعض الأماكن وفي الأوقات تكون الكنايات عند بعض الناس صرائح باعتبار
العرف.
فإذا كانت صريحة باعتبار العرف فلا نحتاج إلى أن ينضاف إليها شيء من الأمور
الثلاثة.
((الأذان))
بدأ المؤلف - رحمه الله - بالشروط التي لا يصح الوقف إلا بها وذكر - رحمه
الله - ثلاثة شروط.
قال - رحمه الله -:
ويشترط فيه:
1 - المنفعة دائماً من معين ينتفع به مع بقاء عينه، كعقار وحيوان.
(ويشترط فيه: المنفعة دائماً من معين) يشترط في الوقف أن يكون له نفعاً وأن
يكون هذا النفع له نفع دائم.
ومقصود الحنابلة بالنفع هنا هو نفس مقصودهم في البيع.
فيشترط أن تكون المنفعة: مباحة. ومعلومة. ومحددة ... إلى آخره.
بناء عليه لا يجوز للإنسان أن يوقف ما لا يجوز أن يباع.
فلا يجوز أن يوقف كلباً ولا خنزيراً ولا خمراً ولا آلات اللهو ولا يجوز أن
يوقف كل ما لا يجوز أن يباع.
واستثنى الحنابلة من هذا: الماء، والمصحف، فإن الماء لا يجوز أن يباع ويجوز
أن يوقف، والمصحف لا يجوز أن يباع ويجوز أن يوقف.
= القول الثاني - في هذه المسألة -: أنه يجوز أن يوقف الإنسان كل عين يجوز
أن تعار.
فالأعيان التي يجوز أن تعار يجوز أن توقف.
على هذا القول: يجوز أن يوقف الإنسان الكلب المعلم، لأن الكلب المعلم يجوز
أن يعيره الإنسان لغيره لأن فيه نفعاً مباحاً.
وهذا القول الثاني وهو جواز وقف كل ما تجوز إعارته هو قول للحنابلة واختيار
شيخ الإسلام - رحمه الله -
قال: (المنفعة دائماً من معين) يشترط في
العين الموقوفة أن تكون معينة، فلا يجوز أن يوقف المجهول ولا المبهم ولا ما
في الذمة.
لأن هذه الأعيان ليست معينة.
واستثنى الحنابلة من هذا الحكم: جواز وقف المشاع، لأن المشاع غير معين، ومع
ذلك يرون جواز وقفه.
= والقول الثاني: جواز وقف المبهم فإذا قال أوقفت أحد هذين البيتين جاز وصح
وعين المبهم بالقرعة.
وذلك: لأن في هذا الإجراء تحقيقاً لمقصد الواقف بلا مضرة، فالواقف أراد أن
يوقف أحد هذين البيتين فلماذا نبطل العقد من أصله بل الأحسن أن نصحح العقد
ونحدد العين الموقوفة بالقرعة.
وهذا القول صحيح.
يقول: (ينتفع به مع بقاء عينه) يشترط الحنابلة أن تكون العين مما يمكن أن
ينتفع بها مع بقائها.
والدليل على هذا:
- أن موضوع الوقف هو التحبيس والتحبيس يتنافى مع الإتلاف.
= والقول الثاني: جواز وقف ما يتلف، أو بعبارة أدق: جواز وقف ما لا يمكن أن
ينتفع به إلا بإتلافه.
كالدراهم والدنانير والرياحين والطعام والأدهان وغيرها.
وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -
واستدل على ذلك:
- بأنه لا محظور شرعي في هذا.
- كما أن فيه نفعاً، ووجه النفع: أنه إذا أوقف هذا الدهن على هذا المسجد
استفدنا من الوقف أن لا يصرف هذا الدهن إلا في هذا المسجد.
فانتفعنا من أحكام الوقف ولو كانت العين تتلف بالانتفاع بها.
وفي الحقيقة لكل من القولين وجهة نظر قوية وإذا نظرت إلى الصحابة تجد أنهم
لم يوقفوا إلا ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه.
يعني: لا يعرف أن الصحابة أوقفوا إلا مثل هذه الأشياء.
وبالمقابل ما ذكره شيخ الإسلام أيضاً وجيه ويحقق المصلحة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
((انتهى الدرس)).
الدرس: (2) من الوقف
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم في درس الأمس الكلام عن الشرط الأول من شروط الوقف، ويحسن أن نشير
الآن إلى أنّ هذا الشرط في الحقيقة يشتمل على عدة شروط، هو يسمى الشرط
الأول, وإن كان فيه أكثر من شرط.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(كعقار وحيوان ونحوهما)
يشير الشيخ المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة إلى أنه يجوز أن يوقف
الإنسان العقار والمنقول، وإلى هذا يشير بالتمثيل, فإنه يقول كعقار وحيوان،
فالمثال الأول للعقار والمثال الثاني للمنقول.
نبدأ بالقسم الأول: وهو وقف العقار، صحيح بإجماع القائلين بمشروعية الوقف
لأنّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقفوا عقاراً كثيراً، ولأنّ له
منفعة دائمة مع بقاء العين.
القسم الثاني: وقف المنقول, ووقف المنقول فيه خلاف, فالمذهب كما ترى هنا بل
هو قول الجماهير والجم الغفير أنّ وقف المنقول جائز وصحيح، وأنه مشروع
يتوافق مع الأصول الدالة على مشروعية الوقف.
والقول الثاني: للأحناف أنه لا يشرع وقف المنقول.
والراجح إن شاء الله صحة وقف المنقول لأدلة كثيرة منها:
وهو الدليل الأول: أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (جعل فرساً في سبيل
الله) يعني للجهاد، والفرس من المعلوم أنه من المنقولات.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال (من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً فإن شبعه،
وريه، وروثه، وبوله، حسنات في ميزانه يوم القيامة) ومن المعلوم أنّ الفرس
أيضاً من المنقولات.
الدليل الثالث: أنّ خالد بن الوليد - رضي الله عنه - (احتبس أدرعه,
وأعتاده, في سبيل الله) والدرع منقولة وبهذا علمنا أنّ مذهب الأحناف ضعيف
جداً، لأنه يخالف النصوص الكثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن
أصحابه - رضي الله عنهم -
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وأن يكون على بِرّ)
الشرط الثاني أن يكون على بِرّ, يعني أن يكون مصرف الوقف جهة بِرّ, وسواء
كان الواقف مسلماً أو ذمياً, وأيضاً سواء كان الوقف على جهة عامة كالمساجد,
أو على معين كقريب من أقربائه, في جميع هذه الأحوال يجب أن يكون على جهة
بِرّ.
وهذا مذهب الجمهور, واستدلوا على هذا بأنّ
الوقف إنما شرع للتقرب إلى الله بتحصيل الأجر, وهذا لا يحصل إلى إذا كان
على جهة بِرّ، بناء على هذا القول لا يجوز أن نقف على الأغنياء من غير
الأقارب, لأنهم ليسوا جهة بِرّ, فلا هو قريب ولا فقير، ولا يجوز أن نقف على
تعليم الشعر المباح، لأنه ليس من جهات البِرّ.
والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يكون على جهة بِرّ، بل يشترط أن لا يكون
على معصية, فظهور الِبِرّ والقربة فيه لا يشترط.
واستدل هؤلاء: بأنّ الوقف من حيث هو عبادة، فلا ننظر إلى جهة صرفه, وعلى
هذا القول يجوز أن نقف على الأغنياء وعلى من يعلمون الشعر المباح، والصحيح
مذهب الجمهور, ذلك لأنّ الوقف لم يشرع إلا ليتعبد الإنسان ربهُ بِهِ ابتغاء
الثواب وهذا لا يكون إلا إذا كان المصرف جهة بِرّ، ولما قرّر الشيخ - رحمه
الله - الحكم ذكر أمثلته:
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(كالمساجد والقناطر والمساكين)
بدأ المؤلف بالتمثيل بالوقف على جهة عامة, كالمساجد والقناطر والمساكين,
جهات عامة وليست جهة معينة, المساجد معروفة، والمساكين تقدم معناهم في كتاب
الزكاة, والقناطر جمع قنطرة، والقنطرة هي الجسر الممدود على الماء، واشترط
بعضهم أن يكون مقوساً, وإلاّ لا يعتبر قنطرة, ومن خلال هذا التعريف عرفنا
الفرق بين القنطرة والجسر, لأنه مادام يقول أنّ القنطرة هو جسر ممدود على
الماء, فإنّ الجسر أعم، فالجسر لا يشترط أن يضرب على الماء, ولا أن يكون
مقوساً ولا أن يبنى, بينما القنطرة لا تسمى قنطرة, إلاّ إذا كانت مبنية,
ولابد ومقوسة ومضروبة على الماء.
فإذاً عرفنا الآن الفرق بين القنطرة والجسر, ولاشك أنّ الوقف على الطرق
والقناطر من أعظم القربات, لما فيه من تسهيل على المسلمين, وقضاء حاجتهم.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(والأقارب من مسلم وذميّ)
هذا من باب التمثيل على الوقف على جهة
خاصة, وهم الأقارب, ويجوز أن يقف على الأقارب سواء كانوا من المسلمين أو
الذميّين, والسبب في ذلك أنّ الوقف على الأقارب عبادة, لأنه يعتبر من باب
صلة الرحم, وصلة الرحم عبادة سواء كانت مع مسلم أو مع ذميّ, وفهم من كلام
المؤلف أنّ الذميّ لا يجوز أن يوقف عليه, إذا كان من الأقارب, فإن لم يكن
من الأقارب, بأن كان أجنبياً, فإنه لا يجوز أن يوقف عليه, ولو من ذميّ،
وإلى هذا مال الشيخ الزركشي، وقال إنّ هذا ليس من التقرب, لأنّ القربة تكون
بصلة الرحم, وهذا ليس من الأرحام.
والقول الثاني: أنه يجوز أن نقف على الذميّ, ولو لم يكن من الأقارب كأن يكن
صديقاً أومن المعارف, واستدل هؤلاء بأنّ الصدقة والبِرّ والإحسان للذميّ
جائز, فالوقف من هذا الباب.
وهذا القول الثاني هو الراجح إلاّ أنه لا ينبغي أن يقف الإنسان على ذميّ,
إلاّ في حالتين: إما أن يكون من الأقارب, وقد وقف الصحابة - رضي الله عنهم
- على أقاربهم من غير المسلمين ولا إشكال ولا حرج فيه.
الثاني: أن يرجى إسلامه، أقول ينبغي ألاّ يوقف إلاّ على أحد هذين النوعين.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(غير حربيّ)
يعني فلا يجوز أن نقف على حربيّ, ومثله المرتد, والوقف عليهما باطل, والسبب
في ذلك أنّ الحربيّ والمرتد, المقصود شرعاً إعدامهما, والتضييق عليهما,
والوقف عليهما بعكس هذا الغرض, فإنّ في الوقف عليهما توسيع, والمطلوب شرعاً
التضييق والإعدام, وهذا صحيح.
والدليل الثاني: أنّ الوقف يراد للتأبيد, والحربيّ والمرتد مآله إلى القتل
شرعاً, وهذا يؤول إلى انقطاع مصرف الوقف، إذاً لا يجوز أن نقف لا على
الحربيّ ولا على المرتد.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وكنيسة)
يعني ولا يجوز أن يوقف الإنسان وقفاً على كنيسة, سواء كان الواقف من
المسلمين أومن الذميّين, وإلى هذا ذهب الجماهير, بل لكثرة الذاهبين إليه,
أُعتبر إجماعاً عند بعض الفقهاء, والسبب في ذلك أنّ في الوقف على الكنيسة
إعانة على الكفر والإلحاد والشرك, وهذا مناقض تماماً لمقصود الوقف, فإنّ
مقصود الوقف القربة, وهذا كفر وشرك.
والقول الثاني: أنّ الوقف على الكنيسة
جائز، لكنه يعتبر من الوقف الجائز, وليس من الوقف اللازم, فله أن يرجع في
أيّ وقت شاء.
والقول الثالث: أنّ الوقف على الكنيسة جائز مطلقاً, وهذا القول والذي قبله
ضعيف جداً, إذ كيف يسوغ للإنسان أن يوقف على الكنيسة, فيها من الشرك
والإلحاد ما لا يعلم به إلاّ الله, وفيها من تحريف كلام الله والتعبد لله
بما لا يرضاه أنواع شتى, فلا شك أنّ القول بجوازه مطلقاً, أو بجوازه مع
اعتباره جائزاً, أنها أقوال ضعيفة جداً.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ونسخ التوراة والإنجيل)
يعني ولا يجوز للإنسان أن يوقف الأوقاف على نسخ التوراة والإنجيل, وذلك
لأنّ التوراة والإنجيل وإن كانا من الكتب التي نزلت من السماء من الله, من
الكتب السماوية, إلاّ أنه لحقها التحريف والتبديل والتغيير, فالوقف على نسخ
هذه الكتب هو في الحقيقة إعانة على نشر كتب محرفة, لا يجوز أن تنشر ولا أن
تقرأ, هذا من جهة, ومن جهة أخرى أنّ هذه الكتب وهي التوراة والإنجيل
منسوخة, وجاء القرآن حاكماً عليها، ولهذا لما أخذ عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - شيئاً من التوراة غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغضبه فيه دليل
على أنّ أخذ التوراة نوع من المعصية, فكيف نوقف الأوقاف على التوراة
والإنجيل بعد هذه النصوص والمعاني التي ذكرها الفقهاء.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وكتب زندقة)
يعني ولا يجوز أن يوقف الإنسان الأوقاف على
كتب الزندقة, وإنما مثل الشيخ بكتب الزندقة, لكثرة وجودها في عصر المؤلف
وما قبله وما بعده، ولكن هذا الحكم لا يختص بكتب الزندقة, بل يشمل كل الكتب
التي فيها معاصي, سواء كانت المعاصي فكرية أو معاصي أخلاقية, فإنّ الوقف
عليها لا يجوز, كذلك الوقف على كتب السحر والتنجيم والكهانة, سواء كانت
للتعليم أو للإطلاع, كل هذه الأوقاف محرمة, وواقفها آثم, وهي باطلة, لأنّ
كل عمل ليس عليه أمر الله ورسوله فهو ردّ، فإذاً تمثيل الشيخ بالزندقة من
باب التمثيل, فكتب الغناء, وكتب القصص الماجنة, اليوم أعظم شراً من كتب
الزندقة في وقتهم لأنّ كتب الزندقة انحسرت الآن إلى حد كبير, وظهر الحق
وصار مكانها الكتب التي تعتني بالقصص المخلة بالآداب أو بالقصص الداعية
للموسيقى والمعازف والأغاني, وهذه شرها اليوم مستطاب, فالتمثيل بها في مثل
هذا المقام أولى, على كل حال القاعدة أنه لا يجوز أن يوقف اّلأوقاف على أيّ
كتب تدعوا إلى معصية الله.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وكذا الوصية)
وكذا الوصية يعني أنّ الوصية حكمها حكم الوقف, فيما يجوز أن يوقف عليه
وفيما لا يجوز أن يوقف عليه, فلا يجوز أن يوصي بما لا يجوز أن يوقف عليه,
ويجوز أن يوصي فيما يجوز أن يوقف عليه، وهذا من باب يعني كأنه الشيخ أراد
تكميل الحكم, وإلاّ الوصية لها باب مستقل.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(والوقف على نفسه)
يعني ولا يجوز أن يوقف الإنسان على نفسه, وإلى هذا ذهب الحنابلة, واستدلوا
على هذا الحكم بأنّ الوقف هو عبارة عن تمليك للرقبة أو تمليك للمنفعة, لا
يخرج عند جميع أهل العلم عن هذين النوعين, إما أن يكون تمليك للرقبة أو
تمليك للمنفعة, ولا يجوز للإنسان أن يملك نفسه, كما لا يجوز للإنسان أن
يبيع وأن يشتري مع نفسه فإنّ هذا العقد باطل, كذلك الوقف على النفس.
والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنّ الوقف على
النفس صحيح, ولا محظور فيه, واستدلوا على هذا بعدة أدلة:
الدليل الأول: أنّ أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - لما أوقف نصيبه في خيبر بقي هذا النصيب في يده إلى
أن مات، وهذا في معنى أن يكون الوقف على النفس, لأنه انتفع به إلى أن توفي
- رضي الله عنه - هذا أولاً.
ثانياً: أنّ عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لما أوقف البئر جعل له دلواً
معه إلى المسلمين, فملك منفعة شيء من البئر, وهذا في معنى الوقف على النفس.
الدليل الثالث: أنه لا مانع شرعاً ولا محذور من أن يقف الإنسان على نفسه,
والوقف ليس كالبيع من كل جهة, وإن كان الوقف والبيع كل منهما عقد من
العقود, لكن بينهما فروق تمنع الإلحاق في كل المسائل, بدليل هذه الآثار
المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك الراجح هو جواز الوقف
على النفس.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ويشترط في غير المسجد ونحوه, أن يكون على معينٍ يملك)
يشترط في غير الوقف ونحوه أن يكون على معين يملك, تقدم معنا أنّ الوقف
ينقسم على قسمين: وقف على جهة عامة, ووقف على جهة خاصة.
فإن كان الوقف على جهة عامة فإنه لا يشترط أن تكون هذه الجهة مما يملك, كأن
يقف على المسجد، ومن المعلوم أنّ المسجد ليس له ذمة يملك بها, ومع ذلك يجوز
أن يوقف الإنسان عليه, إذا الوقف على المسجد على الجهات العامة كالمسجد
جائز ولا يشترط فيه أن يكون الموقوف عليه مما يملك أو ممن يملك.
القسم الثاني: الوقف على جهة خاصة, بل القسم الثاني الوقف على معين, وهو
أدق من قولهم الجهة الخاصة, فالوقف على معين يشترط فيه أن يكون الموقوف
عليه ممن يملك, والدليل على هذا أنّ الوقف هو عبارة عن تمليك للرقبة أو
للمنفعة، والتمليك لابد أن يكون لمن يصلح أن يملك, وأما من لا يصلح أن يملك
فلا يجوز أن نقف عليه, بناء عليه لا يجوز التمليك أو لا يجوز الوقف على
المجهول لأنه لا يملك, ولا يجوز الوقف على مبهم, كأن يقول أوقفت الدار على
أحد هذين, والمجهول كأن يقول أوقفت الدار على رجل، هكذا المجهول كل هذه
العقود لا تجوز.
والقول الثاني: أنه يجوز الوقف على المبهم،
فإذا قال أوقفت الدار على أحد هذين, علمنا أنّ مراده أن يوقف على أحد هذين,
ويعين بالقرعة, لأنّ تعيين الموقوف عليه بالقرعة أقرب إلى مقصود الواقف من
إبطال الوقف برمته، وهذا القول الثاني هو الأقرب للصواب إن شاء الله لأنه
أقرب إلى مقصود الشارع وهو كثرة الوقوف وإلى مقصود الواقف وهو أنه عيّن أحد
هذين الشخصين، أما المجهول فالحقيقة أنّ كلام الحنابلة صحيح, وهو أنه لا
يجوز أن نقف على المجهول، لأنّ هذا يؤدي إلى الاضطراب, ولأنّ فيه نوع من
التلاعب والتهاون من الموقف, إذ كيف يقول أوقفت هذه الدار على رجل, هكذا
مطلق بلا تعيين ولا تحديد ويندر أن تقع مثل هذه المسالة لكن لو وقعت فالوقف
باطل.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(لا ملك وحيوان وقبر وحمل)
لما ذكر قاعدة ذكر الأمثلة يقول الشيخ كالملك, الملك هو واحد الملائكة, فلا
يجوز أن نقف على الملك, والعلة هو أن الملك ليس ممن تجرى معه العقود فيملك,
فلا يجوز للإنسان أو فلا يصح أن يبيع الإنسان داره على ملك على جبريل أو
ميكائيل أو إسرافيل, العقد باطل وليس له أيّ واقع ولا حقيقة، كذلك لا يجوز
أن يوقف على الملائكة - صلى الله عليهم وسلم - لأنهم ليس من شأنهم الملك,
فإذاً هذا تمثيل للقاعدة السابقة.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وحيوان)
يعني ولا يجوز أن يقف الإنسان على حيوان, لما تقدم من أنّ الحيوان لا يملك.
والقول الثاني: أنه يجوز أن يقف الإنسان
على الحيوان ونصرف على هذا الحيوان من هذا الوقف, لأنه لا مانع من أن نقف
عليه لتحقق الغرض, وهو أن يوقف على حيوان فينتفع الحيوان من الوقف بنفقته,
ولا يخفى عليك أنك إذا رجحت جواز الوقف على الحيوان ستجمع بين هذا القول
وبين الشرط الثاني: أن يكون على جهة بِرّ, فيجب أن يكون هذا الحيوان معّد
لجهة بِرّ, إما جهاد، أو القيام على مساكين وأرامل وأطفال أو أيتام، المهم
أن يكون معّد لجهة بِرّ, وهذا مقصود أصحاب القول الثاني وهذا القول الثاني
هو الصحيح إن شاء الله، يفهم من عبارات الفقهاء وإن لم يصرحوا بذلك أنّ
الوقف على الحيوان ينبغي أن تصرف غلته على الحيوان، وليس لصاحب الحيوان أن
يتملك من الغلة أيّ شيء, وإنما تكون الغلة جميعاً تصرف على الحيوان وليس
لصاحب الحيوان أيّ علاقة بالغلة, وهو كذلك لأنّ الوقف ليس على صاحب
الحيوان, وإنما على الحيوان.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وقبر)
لا يجوز أن يوقف الإنسان على القبر لا أصالة ولا تبعاً, لأمرين الأمر
الأول: أنّ أصحاب القبور لا يملكون وهذه العلة الأولى.
العلة الثانية: وهي المعتمدة والأقوى, أن الوقف على القبور, مضادة لمقصود
الشارع, لأنّ الشارع الحكيم نهى أن يبنى على القبور وأن يجصص عليها، وأن
يجعل فيها أيّ نوع من أنواع التمييز, لما في ذلك من أن يكون مدعاة للغلو
ومجاوزة الحد مع القبر, ولذلك الوقف على القبور باطل، وترجع الأوقاف ملك
إلى أصحابها لأنّ العقد باطل من أصله، بل إنّ الوقف على القبور إثم, فضلاً
عن أن يكون باطل, لأنّ فيه إعانة على المعصية بل على الشرك أو وسائل الشرك.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وحمل)
يعني لا يجوز أن نقف الأوقاف على الحمل, والسبب في ذلك أنّ الحمل لا يملك
في الشرع إلا بأحد سببين: الإرث أو الوصية، وإذا كان لا يملك إلا بأحد
سببين فإنه لا يجوز أن نقف عليه, لأنه يشترط في الوقف أن يكون على من يملك.
القول الثاني: أنّ الوقف على الحمل صحيح,
فإذا ولد استحقه, لأنه لا مانع من هذا, ولأنّ المقصود من الوقف يتحقق في
مثل الوقف على الحمل, ولأنه ليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من هذا, ولأنّ
الوقف ليس كالبيع من كل وجه، فإذاً الوقف على الحمل صحيح ولا حرج فيه.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(لا قبوله)
يعني لا يشترط في الوقف أن يقبل الموقوف عليه, وهنا يأتي معنا المسألة
السابقة, وهي أنّ الوقف ينقسم على قسمين, على معين وعلى جهة عامة، فإن كان
الوقف على جهة عامة فلا يشترط القبول بلا إشكال، وإن كان الوقف على معين
فإنه لا يشترط أيضاً القبول عند الحنابلة.
واستدلوا على هذا بأنّ الوقف لا يتعلق بالموقوف عليه فقط, بل يتعلق به وبمن
يستحق الوقف من بعده كذريّته, وإذا كان الوقف لا يتعلق به وحده, فإنه لا
يتوقف على رضاه ولا على قبوله.
القول الثاني: أنّ الوقف يشترط فيه إذا كان على معين أن يقبل, واستدلوا على
هذا بأنّ الوقف نوع تبرع وتمليك في الحياة، فهو كالهبة والوصية, والهبة
والوصية لابد فيها من القبول, والراجح مذهب الحنابلة وذلك لأنّ بين الوقف
والهبة والوصية فرق ظاهر جداً وواضح, وهذا الفرق هو ما أشار إليه أصحاب
القول الأول في دليلهم, وهو أنّ الوقف لا يتعلق بالموقوف عليه فقط, بينما
الهبة والوصية تتعلق بالموقوف عليهم فقط, وهذا الفرق يمنع الإلحاق فمذهب
الحنابلة أجود وأقوى إن شاء الله.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ولا إخراجه عن يده)
يعني ولا يشترط لصحة الوقف أن يخرجه الإنسان عن يده، بل يصح ويصبح لازماً
لا يجوز الرجوع عنه ولو بقي في يد الموقف, واستدل الحنابلة على هذا بما
تقدم من أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقي الوقف في
يده إلى أن مات, ولم يمنع هذا من صحة ولزوم الوقف.
والقول الثاني: أنّ الوقف لا يصبح لازم إلا بإخراجه عن يده إقباضه الجهة
الموقوف عليها, قياساً على الهبة ولاشك أنكم تعرفون الآن أنّ هذا القول
الثاني ضعيف, لأنه تقدم معنا وجود الفرق بين الهبة وعقد الوقف.
فصل
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ويجب العمل بشرط الواقف)
يجب أن يعمل الإنسان بشرط الواقف وجوباً, لأمرين:
الأمر الأول: أنّ عمر بن الخطاب لما أوقف
وقفاً شرط شروطاً, وجه الاستدلال بشروط عمر من وجهين:
الأول: أنّ هذه الشروط بلغت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغالب, ولم
يعترض عليها.
الوجه الثاني: أنها إن لم تبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد انتشرت
بين الصحابة ولم ينكروها.
والوجه الثالث: أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لو لم تكن هذه الشروط
ملزمة لما اشترطها, لأنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو في نفسه له سنة
متبعة, فإذاً هذا الأثر صارت أوجه الدلالة منه ثلاثة, ولاشك إن شاء الله
أنّ في شروط عمر ما يدل على أنه يجب على الإنسان أن يتبع شروط الواقف على
تفصيل سيأتينا, لكن في الجملة والقاعدة الأصلية أنه يجب إتباع شروط الواقف.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(في جمع وتقديم)
لماّ قعّد القاعدة أراد أن يذكر أمثلة، لكنه انتقى الأمثلة التي يكثر
وقوعها في الأوقاف, يقول في جمع، الجمع كأن يقول أوقفت هذه الدار على أبناء
أخي وأبناء أختي, فإذا قال ذلك استحق الجميع الذكر والأنثى, الصغير
والكبير, استحقوا غلة الوقف على درجة المساواة, لماذا؟ قالوا, لأنّ في
الجمع تشريك، والتشريك يقتضي المساواة، فإذا أوقف على هذه الجهة بهذا اللفظ
فإنه يعتبر جمع.
مثاله الثاني: الذي قد تكون الحاجة إليه أكثر أن يقول هذا البيت على أولادي
وعلى أولاد أولادي, هكذا فهذا الوقف تصرف غلته على الأولاد وعلى أولاد
الأولاد بالتساوي, فلا ننتظر انتهاء البطن الأول ولا نفرق بينهم في العطية
بل نعطيهم على وجه التساوي, فهذا هو الجمع.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وتقديم)
يعني ويجب أن نلتزم شرط الواقف في التقديم, فإذا قال أوقفت هذا البيت على
أولادي يقدم الأفقه, أو الأورع، أو الأحوج، أو الأكثر أولاداً, أو قال:
(أوقفت هذا البيت على زيد وعمرو, يقدم عمرو) فالحكم أناّ نبدأ بسدّ حاجة
المقدَّم فإن فضل شيء أعطيناه للمؤخر, فالحكم إذا استخدم الموقف طريقة
التقديم أن نبدأ بالمقدّم فنعطيه حاجته, فإذا انتهى إن فضل من الغلة شيء
أعطيناه من؟ المؤخر وإن لم يفضل شيء فليس له شيء ويسقط! إذاً عرفنا الآن ما
معنى التقديم.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وضد ذلك)
ضد الجمع الإفراد, وصورته: أن يقول وقفت
هذا البيت على زيد, ثم على المساكين, فالآن جمع أو أفرد؟ أفرد فالمستحق
للغلة جميعاً إلى أن يموت زيد, وهذا فيه إفراد وهو ضد الجمع.
وضد التقديم التأخير كأن يقول: (أوقفت على زيد وعمرو, يؤخر عمرو) فهذا فيه
تأخير, فإذا أخّر الموقف أحداً أُخّر, وحكمه عكس حكم التقديم فلا نعطي
المؤخّر إلا إذا أخذ المقدّم كامل حاجته.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(واعتبار وصف وعدمه)
يعني ويجب أن نلتزم باعتبار الوصف الذي ذكره الواقف, فلو قال أوقفت هذه
الدار على الفقراء طلاب العلم, فالآن وصف المُوقِف الموقَف عليهم بوصف معين
وهو طلب العلم, فلا يجوز أن نصرف غلة الوقف على جميع الفقراء, بل يجب أن
نتقيد بوصف الواقف ونصرف الغلة لطلاب العلم فقط، أو لو قال أوقفت على
الفقراء الأكثر أولاداً, كذلك يجب أن نعطي الفقراء الأكثر أولاداً فقط, أو
كما لو قال وهو وصف جيّد أوقفت على الفقراء المرضى, فنصرف من غلة هذا الوقف
على من اتصف بصفتين: الأولى أن يكون فقيراً، والثاني أن يكون مريضاً.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(والترتيب)
وهو من أكثر ما يستخدمه أصحاب الأوقاف, والترتيب أن يقول أوقفت داري على
زيد ثم على عمرو, أو أوقفت داري على أولادي ثم على أولادهم، فإذا رتّب
فالحكم أنّ صاحب المرتبة الثانية لا يستحق من غلة الوقف شيئاً ولو فضل منها
فضلة إلى بعد انتهاء الطبقة الأولى بكاملها، وبهذا عرفنا الفرق بين الترتيب
والتقديم, ففي التقديم يستحق المؤخر من الغلة ما فضل, فإن لم يفضل لم يستحق
شيئاً, وفي الترتيب لا يستحق أصحاب الطبقة الثانية أيّ شيء من غلة الوقف,
ولو فضل منها فضلة إلا بعد انتهاء جميع الطبقة الأولى.
مسألة مهمة: وهي إذا قال أوقفت هذا الدار على أولادي ثم على أولادهم, فهل
إذا مات أحد الأولاد من الطبقة الأولى استحق أولاده نصيبه من الوقف، أو
يقّسم نصيبه على باقي الأولاد, ولا يستحق الطبقة الثانية من الأولاد إلاّ
بعد انتهاء الطبقة الأولى جميعا، ً المذهب أنهم لا يستحقون, إلاّ بانتهاء
جميع الطبقة الأولى.
وذهب شيخ الإسلام إلى أنه يستحق أصحاب
الطبقة الثانية نصيب والدهم، في الحقيقة لم أجد لا في قول الحنابلة ولا في
قول شيخ الإسلام علة مقنعة، لا للقول هذا ولا للقول هذا, لم أجد من
التعليلات وإلاّ المسألة ليس فيها أدلة ولا آثار حتى ليس فيها فتاوى
للصحابة فيما أعلم، لا يوجد ما يبرر الأخذ بأيّ من القولين, فالحنابلة
يستدلون بأنّ ظاهر لفظ الموقف باستخدامه حرف ثم, أنّ الطبقة الثانية لا
تستحق إلاّ بعد انتهاء الطبقة الأولى، وأصحاب القول الثاني، يستدلون بأنه
يبعد أن يكون قصد الموقف حجب أولاد ابنه المتوفى مع أنّ حاجتهم ستكون أكثر
من حاجة غيرهم بسبب موت والدهم, كل هذه ليس فيها مقنع في الحقيقة, وإذا لم
يكن في هذه الأدلة كلها مقنع فالأصل أنّ ثم للترتيب, فالطبقة الثانية لا
يستحقون إلاّ بعد انتهاء الطبقة الأولى, ولهذا مسألة الأوقاف حساسة, وينبغي
على الإنسان ويتأكد إذا أراد أن يوقف أن يبين الوقف بالتفصيل, فيقول هذا
وقف على أولادي ثم على أولادهم, فإن مات أحدهم أيّ أحد الطبقة الأولى استحق
أولاده نصيبه, بهذا ينتهي النزاع.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ونظر, وغير ذلك)
يعني للواقف أن يشرط شخصاً يكون هو الناظر على الوقف, سواء كان من
المستحقين لغلة الوقف أومن خارج المستحقين لغلة الوقف, يعني سواء كان أجنبي
أو من الموقوف عليهم، وذلك لأنّ صاحب أصل الوقف أحق بتعيين الناظر عليه هذا
أولاً.
ثانياً: أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جعل الناظر على وقفه حفصة -
رضي الله عنها - ثم أكابر آل عمر بعدها, فعيّن - رضي الله عنه - الناظر في
الوقف, فدّل ذلك على أنّ شرط الناظر من حقوق الواقف.
ثم يقول (وغير ذلك) من الشروط: يعني أنه يجب أن نتبع جميع شروط الواقف ما
لم تكن إثماً, فإذا أشترط ألاّ يدخل الوقف فاسق, يجب ألاّ يدخل الوقف فاسق,
وإذا أشترط كما يصنعه بعض من يوقفون ألاّ يؤجّر خشية عليه من التلف, فيجب
ألاّ يؤجّر, ولا يجوز أن يؤجر مع وجود الشرط بالمنع من التأجير.
وبالجملة يجب أن نتبع شروط الواقف مهما
كانت متنوعة إلاّ أن تكون معصية, ولا يشترط في إتباع شروط الواقف قناعة
الناظر ولا قناعة الموقوف عليهم، بل يجب أن نتبع شروطه مطلقاً ,إلاّ أن
تكون معصية.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(فإن أطلق ولم يشترط استوى الغني والذكر وضدهما)
إذا أطلق ولم يشترط شيئاً لا جمع ولا تقديم ولا ترتيب ولا وصف, وإنما أطلق
فالحكم أنّ الجميع يستوون على درجة واحدة, فالكبير والصغير والذكر والأنثى
كلهم يأخذون أنصبة متساوية, لأنّ الواقف أطلق ومع الإطلاق لا يجوز التفضيل.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(والنظر للموقوف عليه)
مقصود المؤلف بطبيعة الحال, هذا المقصود يفهم من كلامه المتقدم, مقصود
المؤلف فيما إذا لم يشترط الواقف ناظراً معيناً, فإنّ النظر يكون للموقوف
عليه، وهذا هو مذهب الحنابلة, واستدل الحنابلة على هذا أنّ الموقوف عليه هو
صاحب الغلة, وهو المالك لرقبة الوقف, فهو لذلك أحق الناس بأن يكون ناظر على
الوقف.
والقول الثاني: أنّ الناظر على الوقف إذا لم يشترط الواقف أحداً هو الحاكم,
وهذه المسألة مبنية على مسألة أخرى لم يتطرق لها المؤلف - رحمه الله - وهي
هل الموقوف عليه يملك الوقف؟ أو يملك غلة الوقف؟ فإن قلنا يملك الوقف صار
هو الأحق بالنظر, وإن قلنا يملك غلة الوقف فقط صار الحاكم هو الناظر في كل
وقف ليس له ناظر, وهذه المسألة محل خلاف, فالحنابلة يرون أنّ الموقوف عليه
يملك رقبة الوقف بلا بيع ولا هبة, وهذا من مفردات الحنابلة خالفوا فيه
المذاهب الثلاثة.
القول الثاني: أنّ الموقوف عليه يملك غلة الوقف دون رقبة الوقف, بل رقبة
الوقف تنتقل من ملك الواقف إلى ملك الله, والمقصود بملك الله يعني أنها عين
ليس لها مالك, وإلاّ من المعلوم أنّ لله ملك السموات والأرض, والراجح القول
الثاني أنه لا يملك الموقوف عليه رقبة الوقف, وإنما يملك الغلة فقط, أما
الرقبة فقد انتقلت في سبيل الله, قربة إلى الله, ولم تعد مملوكة لأحد.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وإن وقف على ولده ....... ثم على المساكين فهو لولده الذكور)
إذا وقف على ولده ثم على المساكين فهو
لولده الذكور، لأنّ الذكور يدخلون دخولاً أولياً في الأولاد, ولأنّ الذكور
يدخلون في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء/11] فدخول الذكور
في الوصية بهذا اللفظ لا إشكال فيه بل لا خلاف فيه.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(لولده الذكور)
ظاهر عبارة المؤلف أنه لولده الذكور الموجودين حال الوقف, وأما الذي يحدث
بعد ذلك فليس له حق في غلة الوقف, فإذا أوقف هذا البيت على أولاده ثم بعد
ذلك حملت الزوجة وولدت ولداً له, فلا يدخل في الوقف، لأنه حال الوقف لم يكن
موجوداً.
القول الثاني: أنّ الوقف يصرف لجميع الأولاد, لجميع الذكور نحن نتكلم عن
الذكور الموجودين حال الوقف والذين يحدثون بالولادة بعد ذلك، لأنّ اللفظ
عام يشمل الموجود والذي سيوجد, ولا يوجد ما يدل على التخصيص.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(والإناث بالسوّية)
تدخل الإناث في ولده ,إذا قال هذا وقف على ولدي, لأنّ إطلاق الولد يشمل
الأنثى, ولأنّ عبارة الواقف ليس فيها ما يخصص الإناث ويخرجهن من غلة الوقف.
والقول الثاني: أنّ هذا اللفظ خاص بالذكور, فلا تدخل الإناث في غلة الوقف,
والراجح أنّ الإناث يدخلن بلا إشكال، والقول بعدم دخولهن ضعيف جداً في هذا
اللفظ.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ثم ولد بنيه دون بناته)
ولد بنيه وإن سفلوا يدخلون في هذا الوقف, لأنّ ابن الابن ابن شرعاً, ولأنه
يدخل في الآية {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء/11] ولا إشكال في دخول ابن
الابن.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(بالسوّية)
في المسألة الأولى لولده الذكور والإناث بالسوية، لأنه كما تقدم معنا أوقف
على الإطلاق, والإطلاق يقتضي التشريك والتشريك يقتضي التسوية، فغلة الوقف
لا تقسم حسب الميراث وإنما تقسم بالتسوية.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(دون بناته)
ولد بنيه تحدّثنا عنها أولاد البنات لا يدخلن في هذا اللفظ, لأنهن لم يدخلن
في الآية, فإنّ أولاد البنات لا يرثون بالإجماع، ولأنّ أولاد البنات ليسو
من بنيه وإنما من بني الأجانب.
والقول الثاني: أنّ أولاد البنات لهم نصيب
في غلة الوقف، والراجح القول الأول، فإذا قال هذا وقف على أولادي فأولاد
البنات لاحق لهم في الغلة، لأنه لاحق لهم في الميراث، ولأنهم كما قلت لم
يدخلوا في الآية.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(كما لو قال على ولد ولده وذريّته لصلبه)
يعني كما لو أضاف كلمة لصلبه في الوقف, وإنما نظّر الشيخ بهذه المسألة لأنّ
حكم هذه المسألة بالإجماع، فإنه إذا قال أوقف هذا على أولاده وأولاد أولاده
لصلبه, لم يدخل أولاد البنات, ولهذا نظّر بها لأنها محل إجماع.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ولو قال على بنيه, أوبني فلان اختص بذكورهم)
((الآذان))
إذا صرّح الواقف بقوله هذا وقف على بنيه فقط, فإنّ الوقف تختص غلته بالذكور
فقط, دون الإناث، لأنّ كلمة الابن تطلق حقيقة الذكر فقط, دون الأنثى, كما
قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران/14] فقال
من النساء والبنين فخص الذكور بأنه يسمى ابن فإذاً يختص هذا اللفظ بالابن
بلا إشكال ولا تشاركه الأنثى في الحكم.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(إلاّ أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء)
إلاّ أن تكون قبيلة, فإذا قال هذا وقف على بني هاشم أو على بني زهرة, فإنه
يدخل بالإناث والذكور, لأنّ اسم القبيلة يشمل الذكر والأنثى، فإذا قال بنو
هاشم شمل ذكورهم وإناثهم, بخلاف ما إذا قال وقف على بنيّ وسكت فهنا يختص
بالذكور, إذا أضاف اللفظ إلى القبيلة عّم الذكور والإناث.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(دون أولادهن من غيرهم)
لأنّ أولاد النساء من غير القبيلة ليسوا من القبيلة بل من القبيلة الأخرى,
وعلم من هذا أنّ أولاد النساء من القبيلة يدخلون تبعاً في القبيلة، فإذا
تزوجت المرأة من خارج القبيلة, فلا حق لأولادها في الوقف، وإذا تزوجت من
القبيلة فلأولادها نصيبهم من الوقف.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل ... )
ذكر الشيخ ثلاثة ألفاظ اللفظ الأول القرابة والثاني أهل بيته والثالث قومه.
نبدأ بالقرابة يقول الشيخ والقرابة يشمل
الذكر والأنثى من أولاده, وأولاد أبيه, وجده وجد أبيه, يعني أنه إذا استخدم
هذا اللفظ في الوقف فقال هذا وقف على قرابتي, فإنّ هذا اللفظ يشمل من ذكر
المؤلف, فيشمل الذكور والإناث والصغير والكبير, ولكن المؤلف حدّه, أيّ حدّ
الاستحقاق بمن يشترك معهم في الجد الثالث, فيقول أولاد أبيه هم ماذا؟ إخوته
وأولاد جدّه هم؟ أعمامه وأولاد جد أبيه هم؟ أعمام أبيه، هؤلاء إلى الجد
الثالث يدخلون في كلمة القرابة, وما عداهم لا يدخل في استحقاق غلة الوقف
ولا يعتبر من القرابة، واستدل الحنابلة على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه
وسلم - لم يكن يجاوز بني هاشم في سهم ذوي القربة, ومن المعلوم أنّ هاشم هو
الجد الثالث للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هنا أخذ الفقهاء أنّ حدّ
القرابة إلى الجد الثالث فقط, ومن عداهم لا يستحقون هذه الغلة من الوقف
الذي صدر من الواقف بلفظ القرابة.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وأهل بيته)
أهل بيته كذلك, يأخذون الحكم نفسه, فمن ذكر المؤلف استحق ومن لم يذكر لم
يستحق, عرفنا من كلام المؤلف أنّ أقارب الأم لا يستحقون, لأنهم لا يلتقون
مع الواقف في الجد الثالث, وعرفنا من كلام المؤلف أنّ الزوجات لا يستحقن
شيئاً في كلمة القرابة.
والقول الثاني: أنّ الزوجات يدخلن في استحقاق الوقف إذا كان بلفظ أهل بيته,
ولم أر خلافاً في استحقاقهن إذا كان بلفظ القرابة, فهم ذكروا خلاف عند قول
الفقهاء أهل بيته, فإن قال على أقربائي لا يدخلن الزوجات، وإن قال على أهل
بيتي فعند الحنابلة لا يدخلن.
والقول الثاني: أنهن يدخلن وهذا هو الصواب، وهو دخولهن في لفظ أهل بيته.
((انتهى الدرس)).
الدرس: (3) من الوقف
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وقفنا بالأمس عند الألفاظ الثلاث اللاتي جعل المؤلف - رحمه الله - لها
حكماً واحداً:
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
والقرابة وأهل بيته وقومه.
وأخذنا ما يتعلق بالقرابة وما يتعلق بأهل بيته وتوقفنا عند: (قومه).
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وقومه: يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه.
فاعتبر المؤلف أن لفظ الواقف بالقوم يشمل نفس ما يشمله القرابة وما يشمل
أهل البيت على التفصيل الذي تقدم معنا بالدرس السابق.
إلا أن القوم: قومه: وقع فيه خلاف بين أهل العلم:
= فالقول الأول هو ما تقدم معنا بالأمس: أنه يشمل إلى الجد الثالث من أجداد
الموقف.
= والقول الثاني: أن لفظ: (قومه) عام أوسع من أهل البيت والقرابة، ولذلك لا
يتقيد بالجد الثالث بل يكون أوسع.
وهذا القول الثاني في الحقيقة أقرب للعرف الشرعي وأيضاً أقرب لعرف الناس،
فإن استخدام كلمة القوم أوسع من استخدام كلمة القرابة وأهل البين بلا شك.
فإذاً: لا نقتصر على الجد الرابع، وإنما نتجاوزه إلى الجد الذي يلتقون في
مسماه سواء كان الجد الرابع أو الخامس أو السادس.
وهذا قول للحنابلة أي: تقييده بالجد الذي يلتقون في مسماه وهو قول حسن
وصحيح.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن: عمل بها.
تقدم معنا أن الواقف أوقف على أولاده فقد اختلفوا: هل يدخل في هذا اللفظ
أولاد البنات؟.
واختلفوا أيضاً إذا أوقف على أولاده هل تدخل البنات؟ تقدم معنا هذا في
الدرس السابق وأن الراجح دخولهن وأن القول بخروجهن عن هذا اللفظ ضعيف جداً.
الآن: يريد المؤلف أن يبين أنه متى دلت القرينة على دخول الإناث أو على
خروجهن عمل بالقرينة ولا نلفت (يعني: ومعنى كلامه) أنا لا نلتفت إلى صريح
عبارة المؤلف - رحمه الله - مع وجود القرينة الدالة على صرفه إلى إرادة
الإناث أو إلى عدم إرادة الإناث.
مثال وجود القرينة/ أن يقول الواقف: هذا وقف على أولادي وأولاد أولادي فلما
نظرنا وجدنا أن ليس له إلا بنات فعلمنا أن الواقف أراد أن هذا وقف على
بناته وعلى أولاد بناته.
لأنه لا يمكن تصحيح لفظ الواقف إلا بحمله على هذا إذ ليس له أبناء حتى نقول
أراد بالأولاد ما يشمل الذكر والأنثى وندخل في الخلاف السابق هل تراد
الأنثى أو لا تراد.
إذاً: هذه القرينة دلت على إرادة الواقف
وتقدم معنا قاعدة: (أن الألفاظ مع القرائن تعتبر كالصرائح).
فما دام يوجد لفظ يحتمل لكن احتف بقرائن فإنا نحمله على حكم الصريح.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وإذا وقف على جماعة يمكن حصرهم: وجب تعميمهم والتساوي.
يقول: إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم فإنه: يجب في هذه الحالة أمران:
ـ الأول: التسوية.
ـ والثاني: التعميم.
فيجب أن نعم هذه المجموعة التي يمكن أن تحصر ويجب في نفس الوقت أن نسوي
بينهم في الإعطاء.
مثال ذلك/ أن يقول هذا وقف على الفقراء من قرابتي، فهذا لاشك على مجموعة
متساوية.
فيجب أن نعطي جميع الفقراء ويجب في نفس الوقت أن يعطيهم إعطاء متساوياً.
الدليل:
- قالوا: أن لفظ الواقف دلَّ على هذا ومتى أمكن العمل بمقتضى لفظ الواقف
وجب وهنا يمكن العمل به.
فإذا وقف على مجموعة محصورة معروفة فيجب أن نسويهم وأن نعطيهم جميعاً.
* * مسألة/ فإن احتف بلفظ الواقف في الوقف على جماعة محصورة ما يدل على
التمييز فهل يجوز بناء على هذا التفضيل؟ (إذا اقترن بلفظ الواقف على مجموعة
محصورة ما يدل على التمييز فهل يجوز بناء على هذا الوصف التفضيل بينهم
أولا؟).
قبل الخلاف المثال: المثال/ أن يقول هذا وقف على فقهاء المدرسة الفلانية.
الفقهاء: جماعة محصورة في المثال أو غير محصورة؟ محصورة.
والواقف علق الوقف على وصف وهو الفقهاء فهل يجوز أن نفضل فنعطي الأفقه أكثر
ممن دونه؟ أو لا يجوز؟
فيه خلاف: = الصحيح أنه يجوز أن نفضل بينهم بمقتضى الوصف الذي ميز به
الواقف المجموعة المحصورة فنعطي الأفقه أكثر ممن دونه.
كذلك لو قال: (هذا وقف على الفقراء من قرابتي هل يجوز أن نعطي الأشد فقراً
أكثر ممن هو أحسن حالاً منه؟
نعم يجوز.
ولو قال: هذا وقف على طلبة العلم في هذا المكان: فيجوز أن نفضل بينهم بناء
على الوصف في حال طلبة العلم. سنفضل بناء على الاجتهاد لا بناء على الأفقه
أو الأذكى لأنه علقه على طلب العلم فكلما كان الإنسان أكثر اجتهاداً في طلب
العلم بغض النظر عن مستواه العلمي فهو يستحق من الوقف أكثر ممن هو أقل منه
اجتهاداً ولو كان أكثر منه مقدرة.
إذاً الراجح: جواز التفضيل بهذه الصورة الثالثة.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وإلاّ جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم.
يعني: وإلا يمكن حصرهم فالحكم: كذا وكذا.
ـ أولاً: أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أنه يجوز الوقف على
جماعة لا يمكن حصرهم.
لأنه بين الحكم وهذا فرع عن الصحة.
وإلى هذا ذهب الجماهير وهو جواز الوقف على جماع لا يمكن حصرهم: كأن يقول:
هذا وقف على الفقراء. هل يمكن حصر الفقهاء؟ لا يمكن.
أو يقول هذا وقف على المساكين؟ لا يمكن حصرهم. ... إلى آخره.
والجمهور استدلوا:
- بأن هذا الوقف وقف صحيح استوفى شروطه الشرعية ولا يوجد دليل على إبطاله.
= وذهب الشافعية إلى أنه لا يصح أن يوقف على جامعة لا يمكن حصرهم.
- لأنه لا يمكن إعطاء الجميع من الوقف.
والراجح مذهب الجمهور ومذهب الشافعية ضعيف وما زال المسلمون يوقفون على جهة
لا يمكن حصرها.
بل قد نقول: الوقف على جهة لا يمكن أن تحصر أولى من الوقف على مجموعة معينة
محصورة.
لأن الوقف على جهة لا يمكن حصرها يستمر ومصرفه يستمر لأنه معلق بالوصف لا
بالعين.
بينما على مجموعة معينة إذا انقرضت هذه المجموعة صرنا نقول كيف نتصرف بغلة
الوقف بعد انقراض المجموعة التي وقف عليها الوقف.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وإلاّ جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم) إذا وقف على مجموعة لا يمكن حصرهم
فإنه لا يجب تعميم غلة الوقف بالإجماع عند القائلين بجواز الوقف على مجموعة
لا تحصر.
دليل الإجماع:
- أن هذا لا يمكن ولا يمكن القيام به - (أن هذا غير مقدور عليه ولا يمكن
القيام به لأن المجموعة غير المحصورة كيف يمكن أن تعمهم بغلة الوقف وهم
ألوف أحياناً.
إذاً: الحكم الأول: أنه لا يجب التعميم.
الحكم الثاني: أنه يجوز التفضيل ويجوز الحرمان لبعضهم ويجوز أن نعطيها
أحدهم، فيجوز أن نصرف الغلة الموقوفة على جماعة غير محصورة على واحد فقط.
ويجوز أن ننقص من نصيب أحدهم وأن نفاضل وأن نعطي كيف نشاء.
لكن يجب أن يراعي الأحق فالأحق.
الدليل على جواز التفضيل والمنع وإعطاء الواحد:
- القياس على الزكاة فإن الله تعالى جعل
مصرف الزكاة ثمانية أصناف ومع هذا لا يجب تعميم الأصناف الثمانية بل يجوز
أن نعطي صنف بل يجوز أن نعطي رجلاً واحداً من صنف واحد فقاسوها على الزكاة.
= القول الثاني: أنه إذا وقف على مجموعة لا تحصر لا يجوز الاقتصار على أقل
من ثلاثة.
- لأن الثلاثة أقل الجماع وقد وقف على جمع لا يمكن حصرهم فلا أقل من ثلاثة.
والراجح المذهب: ويرجع في كيفية الصرف إلى الناظر، الراجح المذهب وله أن
يعطي واحداً فقط ويركع فيه إلى الناظر لاسيما وقد اشترطنا في الناظر أن
يكون ثقة وأمين - أن يكون من الثقات الأمناء.
(فصل)
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(فصل)
والوقف: عقد لازم لا يجوز فسخه، ولا يباع.
الوقف عقد لازم عند الجماهير. لا يجوز أن يباع ولا يوهب وأيضاً في نفس
الوقت لا يجوز أن يفسخ.
استدل الجماهير على هذا بأمرين:
- الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن شئت حبست أصلها) والتحبيس يعني
اللزوم كما أنه - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا اللفظ بقوله: (لا يباع ولا
يوهب).
- الدليل الثاني: أن المقصود والغرض من الوقف التأبيد والتأبيد يتنافى مع
جواز العقد.
= والقول الثاني: أن الوقف عقد جائز متى شاء صاحبه فسخه.
واستدل هؤلاء:
- بأن عبد الله بن زيد أوقف وقفاً فاشتكى أبواه إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - الحاجة والفاقة فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الوقف.
- الدليل الثاني: القياس على الصدقة فإن الصدقة للإنسان أن يرجع عنها ما لم
يقبضها.
والراجح مذهب الجماهير والقول الثاني ضعيف جداً لأمرين:
ـ الأمر الأول: أن الحديث ضعيف.
ـ الثاني: أن قياس الوقف على الصدقة قياس مع الفارق إذ بينهما فروق كثيرة.
ـ الأمر الثالث: أن هذه الأقيسة والتعليلات في مقابل النصوص والقياس إذا
قوبل به النص صار فاسداً.
ومقصود المؤلف - رحمه الله - والجماهير بقولهم: (الوقف عقد لازم) يعني:
بمجرد القول.
وهذا أمر مهم، أن الوقف لازم بمجرد القول.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
إلاّ أن تتعطل منافعه.
إذا تعطلت منافع الوقف فإنه يباع.
ولم يبين المؤلف - رحمه الله - حكم بيع الوقف إذا تعطلت منافعه بعد أن قرر
الجواز لا أنه لم يبين الحكم.
الحكم فيه خلاف:
= من الفقهاء من قال أنه جائز.
= ومن الفقهاء من قال: أنه واجب.
والصحيح أن بيع الوقف إذا تعطلت منافعه واجب والناظر آثم إذا لم يبع الوقف
الذي تعطلت منافعه.
والمقصود بالوقف الذي تعطلت منافعه أي الذي لا يمكن أن يرمم بغلته ولا ببيع
بعضه فهذا الوقف يجب وجوباً عند المحققين أن يباع لأن بقاء الوقف مع تعطل
منافعه فيه إهدار لفائدة الوقف وتضييع لمصلحة الواقف.
فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الوقف لا يجوز أن يباع أبداً إلا في
حال واحدة وهي إذا تعطلت منافعه فدل مفهوم كلام المؤلف - رحمه الله - على
أن بيع الوقف إذا كان لمصلحة ولو كانت راجحة فإنه لا يجوز أن يباع، وإلى
هذا ذهب الجماهير.
واستدلوا:
- بعموم النصوص بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يباع) وما دام
الوقف ينتفع به فإنه لا يباع وقوفاً مع ظاهر النص.
= والقول الثاني: أن الوقف إذا كان في بيعه مصلحة راجحه ولو مع بقاء فإنه
يجوز أن يباع.
وإلى هذا ذهب بعض الفقهاء ونصره شيخ الإسلام بن تيمية.
واستدلوا بأدلة:
- الدليل الأول: أن رجلاً نذر أن يصلي في بيت المقدس فقال له النبي - صلى
الله عليه وسلم - صل هاهنا - يعني في الحرم -، وفي هذا نقل للنذر بسبب
المصلحة والمصلحة هي أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في الأقصى.
والنذر من باب الوقف، فبينهما تشابه في اللزوم.
- واستدلوا أيضاً: بأن عائشة - رضي الله عنها - أمرت عثمان بن شيبة أن يقوم
ببيع أستار الكعبة القديمة وصرف ثمنها في المساكين.
وفي هذا نقل للوقف فإن الأستار وقفت على الكعبة وهي الآن ستصرف في
المساكين.
واستدلوا بأدلة أخرى تعليقي عليها أن الدلالة فيها ضعيفة وليست واضحة، وهذه
الأدلة التي ذكرت من أقوى الأدلة.
واستدلوا أيضاً:
- بأن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى سعد لما نقب بيت المال بالكوفة أن انقل
بيت المال إلى قبلة المسجد الذي في التمارين فإنه لن يزال في المسجد مصلي.
وفي هذا أيضاً نقل للوقف.
وإن كان الحنابلة يستدلون بهذا الحديث على جواز البيع في حال تعطل المنافع.
وجه ذلك: أن بيت المال إذا نقب نقصت منافعه
لبقاء البنيان أو تعطلت؟ تعطلت تماماً لماذا؟ لأن بيت المال المقصود
الأساسي منه حفظ المال فإذا نقب انتهى الغرض الأساسي الموضوع له المبنى
وباقي البنيان لا فائدة منها مطلقاً.
وقول الحنابلة إن في هذا دليل على جواز نقل الوقف في حال تعطل المنافع لا
في حال نقصان المنافع صحيح فهذا لا دليل فيه لأصحاب القول الثاني.
لكن أوضح دليل حديث النذر مع فتوى عائشة.
ولذلك نقول الأقرب إن شاء الله جواز بيع الوقف وصرفه في غيره إذا وجدت
مصلحة راجحة.
لكن ينبغي التنبه إلى أن القيام ببيع الوقف لمجرد وجود مصلحة راجحة ينبغي
أن يتحرز فيه الناظر والحاكم أشد التحرز وأن لا يقدم عليه إلا بعد وضوح
الأمر واستشارة أهل الخبرة واستكتاب الشهود ويكون الأمر واضحاً حتى لا يكون
هناك تلاعب في الأوقاف وتباع باسم المصالح.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
ويصرف ثمنه في مثله.
يعني: إذا بيع صرف في مثله.
وذلك:
- لأن في هذا تحصيل لمقصد الواقف والشارع حرص على تحصيل مقصد الواقف تماماً
متى أمكن ولم يتعارض مقصده مع الشرع فإن لم يمكن تحصيل مثله فلا أقل من
تحصيل البعض من مثله.
فإما أن نحصل مثله تماماً أو أن نحصل بعض مثله.
مثاله/ إذا كان المهدوم مسجد فينبغي أن نأخذ قيمة الأرض والبناء ونضعها في
مسجد كامل، فإن لم نستطع أن نضعها في مسجد كامل وضعناها في بعض مسجد.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
ولو أنه مسجد.
يعني: ولو كان الوقف الذي تعطلت منافعه: مسجد فأيضاً يباع ويشترى بثمنه
مسجداً آخر.
من أمثلة تعطل منافع المسجد أن لا يصبح فيه مصل بأن يكون على طريق عام وهذا
الطريق العام وجد طريق بديل له خير منه وأصبح الناس لا يسيرون مع الأول
مطلقاً ولا توجد حول المسجد قرى ولا مزارع فهجر تماماً فالواجب حينئذ أن
يباع، لأنه تعطلت منافعه تماماً.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وآلته.
وآلته أيضاً تباع وتوضع في مسجد أو في مسجد آخر.
والدليل على ذلك:
- أنه إذا جاز أن نبيع المسجد كله فبيع بعضه من باب أولى.
فإذا تعطلت منافع الآلة كالخشب ومواد البناء فإنها تباع وتوضع في المسجد إن
احتاج أو في مسجد آخر.
ثم قال - رحمه الله -:
وما فضل عن حاجته: جاز صرفه إلى مسجد آخر،
والصدقة به على فقراء المسلمين.
ما فضل عن حاجة المسجد فإنه يباع ثم يوضع إما في مسجد آخر أو في المساكين.
ـ ما فضل عن حاجته: كأن يكون فيه بسط زائدة أو فيه مصاحف زائدة أو فيه آلات
للتبريد مكيفات زائدة أو أبواب زائدة أو في القديم زيت للإنارة زائد أي شيء
يكون في المسجد زائد عن الحاجة فإنه يباع ويصرف
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(إما جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين).
يعني: يباع هذا الشيء الزائد ويوضع في مسجد آخر أو يوضع في فقراء المسلمين.
أما إذا بيع ووضع في مسجد آخر أو وضع مباشرة في مسجد آخر بلا بيع فلا شك في
مشروعيته لأنه وضع في جنس ما أوقفه الواقف عليه فنقل من مسجد إلى مسجد.
وأما إذا بيع ووضع في مسجد آخر ففيه خلاف:
= فالحنابلة يرون الجواز، يقولون: يجوز أن يباع ويصرف للمساكين.
- لأنه من مصارف القربات.
- ولأن عائشة أمرت ببيع أستار الكعبة ووضع الثمن في المساكين.
وهذا دليل قوي للحنابلة التخلص منه صعب.
= القول الثاني: أنه لا يجوز إذا بيعت الأشياء الزائدة في المسجد أن يصرف
ثمنها إلا في مسجد آخر فقط ولا يجوز في المساكين.
لأمرين:
- الأمر الأول: بين وضع المال في مسجد ووضعه عند المساكين فرق كبير جداً
لأن وضع المال عند المساكين ينقطع مباشرة ووضع المال في المسجد يستمر وهذا
فارق أساسي كبير جداً.
- الثاني: أن الواقف إنما وضع هذا الأمر الزائد في مسجد ومراعاة غرض الواقف
مقصود شرعاً، وإذا أردنا أن نراعي غرض الواقف فنضعه في مسجد.
وهذا القول كما ترى قوي جداً لكن يشكل عليه أثر عائشة فكيف نجيب عليه؟
- أنه لا يمكن أن ينتفع بأستار الكعبة في كعبة أخرى لأنه لا يوجد إلا كعبة
واحدة. [وهذا جواب ممتاز لكن ترد عليه مناقشة].
- قد يقال: بلى يمكن بأن تباع الأستار ويؤخذ الثمن ويوضع في المسجد الحرام.
عثمان بن شيبة ماذا صنع؟ أرسل بالأستار القديمة إلى اليمن وبيعت فيها وأخذ
القيمة ووضعها في مساكين الحرم، كان بإمكانه أن يضع القيمة في المسجد.
إذاً هذا الجواب قد لا يستقيم وإن كان له وجه من النظر.
- ممكن أن نجيب بجواب آخر: وهو أن المسجد
الحرام لم يكن بحاجة في ذلك الوقت إلى شيء يصرف عليه ففيه أستار جديدة
باعتبار أن هذه قديمة وفيه المصالح الأخرى التي يحتاج إليها المسجد لاسيما
وأن المساجد في القديم لا تحتاج إلى نفقات كثيرة كمساجدنا اليوم لأنها
مساجد بسيطة حصر وقناديل توقد بالزيت فإذا وجد الزيت للسنة كاملة ربما لا
يحتاج أهل المجد إلى مصاريف أخرى ولا نفقات فلعل هذا هو الجواب وإن كان
دليلاً قوياً في الحقيقة للحنابلة لكن نقول ما دام أمكن الجواب عنه فلعل
الراجح وهو من مصلحة الواقف أن لا نصرف الوقف إلا في المسجد.
وينبغي أن نتقيد بهذا لأنه يوجد في الحقيقة فرق كبير بين الصدقة المجردة
وبين الوقف بدليل: أن الأوقاف تستمر مدد طويلة بل رصد بعضهم استمرار أوقاف
الصحابة إلى قرون قريبة من وقتنا هذا.
والأوقاف الموجودة الآن في البلدان الإسلامية القديمة ما زالت موجودة
ومعروفة إلى الآن مثلاً: أوقاف المدارس الموجودة في دمشق كثير منها موجود
إلى الآن باسمها - الظاهرية - الصالحية - دار الحديث .. والسبب أنه صدقة أو
أنه وقف؟ أنه وقف وهذه الأوقاف خرجت عددا كبير من العلماء جداً بسبب هذا
الاستمرار والمدارس الموجودة مثلاً في دمشق خرجت أعلام الأمة كالنووي
مثلاً.
[ذكر شيخنا شيئاً من سيرة النووي رحمه الله]
وكان من أعظم أسباب استمرارية الشيخ وطلبه العلم هو هذا الوقف.
فالأوقاف عظيمة في الإسلام وهي من محاسن الدين وهي التي تستمر ولهذا نجد
أنه كما قلت لكم في أول الباب أن جابر يقول: ليس أحد من أصحاب النبي - صلى
الله عليه وسلم - يجد القدرة إلا أوقف.
إذاً هذا كله يؤيد ما تقدم من أنه يجب أن نخرج المال من الوقف إلى الوقف
ولا نخرجه إلى جنس آخر كالصدقة.
وبهذا انتهى ولله الحمد ما يتعلق بالوقف وننتقل إلى الباب الذي بعده.
باب الهبة والعطية
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
باب الهبة والعطية.
الهبة والعطية والصدقة والهدية ألفاظ متقاربة إلا أنه بين الهبة والعطية
والصدقة والهدية فرق.
والفرق هو: أن الهبة والعطية أوسع مدلولاً من الصدقة والهدية.
هذا من جهة.
من جهة أخرى: بين الصدقة والهدية فرق
والدليل على وجود الفرق بينهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل
الهدية ولا يقبل الصدقة، وكان يقبل الهدية ولو كان أصلها صدقة كما قال في
بريرة: هو عليها صدقة ولنا هدية.
والفرق بين الصدقة والهدية:
ـ أن الصدقة هو ما أخرجه الإنسان لآخر محتاج تقرباً إلى الله.
ـ وأما الهدية فهي ما أخرجه الإنسان لآخر تقرباً إليه، فلا نحتاج أن نشترط
التقرب إلى الله ولا أن يكون محتاجاً.
ولكن هذا التعريف للهدية لا يعني أن الهدية ليست مشروعة أو مستحبة بل هي
مستحبة مع ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تهادوا تحابوا).
ولأنها من جملة حسن الخلق: أي التهادي فهو مطلوب شرعاً ومستحب.
ولو كان مقصوده تألف أخيه والتقرب إليه فإن هذه النية لا تتعارض مع الإخلاص
لأن تقرب الإنسان إلى أخيه هو أيضاً عبادة.
إذاً: عرفنا الفرق الآن بين هذه المصطلحات الأربع.
بقينا في أن العطية في الواقع من حيث اللغة والمدلول حتى الشرعي العام
تعتبر شاملة لجميع الألفاظ الأربع إلا أن الفقهاء خصوها لاسيما الحنابلة
بالعطية في مرض الموت، أو بالهبة في مرض الموت ((حتى لا نعرف العطية
بالعطية.
فنقول: العطية هي الهبة في مرض الموت. فهي مخصوصة بهذا الحال.
ومناسبة ذكر هذه المصطلحات: الهدية والهبة والصدقة والعطية في كتاب الوقف
لا في كتاب البيوع: هو أنه لا يوجد معاوضة فهي أشبه بالوقف منها بالمعاوصات
المذكورة في كتاب البيوع.
فذكرها هنا أنسب من ذكرها في كتاب البيوع وإن كان فيها تمليك وإعطاء للمال
إلا أنها مع ذلك لما خليت من معنى المعاوضة صارت تناسب كتاب الوقف.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وهي: التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره.
(وهي التبرع بتمليك) هذا التعريف مليء بالمحترزات.
يقول: (وهي التبرع) فيجب لكي تعتبر العطية هبة أو عطية أو صدقة أن تكون
خالية من العوض هذا معنى قوله: (وهي التبرع).
فإن وجدت فبها المعاوضة خرجت عن هذا الباب.
وقوله (بتمليك ماله) المال المقصود هنا: هو المقصود في كتاب البيوع، إلا
أنهم في باب الهبة أجازوا أن يهب الإنسان ما لا يجوز بيعه إذا كان فيه
منفعة مباحة.
إذاً المقصود بالمال هنا هو نفس المقصود
بالمال في كتاب البيوع إلا أنهم هنا أجازوا أن يهب الإنسان ما لا يجوز أن
يباع مما فيه نفعاً مباحاً.
فلا يجوز أن نبيع الكلب المعلم لكن يجوز أن نهدي وأن نهب الكلب المعلم.
والسبب في التفريق: أنه لا يوجد معاوضة ولا بيع والمنع في الكلب المعلم
إنما هو من البيع والمعاوضة لا من الهبة والإعطاء.
يقول: (المعلوم الموجود) أخرج به: المجهول المعدوم. فإن الإنسان لا يصلح أن
يهب المجهول ولا يصلح أن يهب المعدوم.
وسيأتينا حكم هبة المجهول.
أما المعدوم فصحيح، ما الفائدة من هبة المعدوم؟ لا يوجد أي فائدة. ولا يوجد
هبة في الحقيقة مادام أنه يهب معدوماً.
فلو قال الإنسان: أنا أهديك السيارات التي تصنع في عام 1450هـ معدوم أو
موجود؟
لا فائدة من هذه الهبة المعدومة.
أو أن يهبه شيئاً احترق. المحترق معدوم فإذاً لا يجوز أن يوهب.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(في حياته) أخرج الوصية لأن الوصية تمليك لكن بعد الموت وليست في الحياة.
هذا التعريف الطويل اختاره المؤلف أما ابن قدامة فيقول: الهبة: تمليك في
الحياة بغير عوض.
وفي الحقيقة تعريف الشيخ ابن قدامة ممتاز وسهل وبسيط وخالي من الشروط
الإضافية التي تعتبر إلى التفصيل أقرب منها إلى التعريف.
فقوله: (تمليك في الحياة بغير عوض) جميل جداً وهذا تعريف الشيخ في المقنع،
معناه أن الشيخ موسى عدل عن هذا التعريف واختار التعريف الذي ذكره عندنا
هنا كأنه يرى أنه أوفى وأضبط في تحديد الهبة.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
وإن شرط فيها عوضاً معلوماً: فبيع.
يعني: فحكمها حكم البيع.
والسبب في ذلك:
- أنه تمليك بعوض وهذه هي حقيقة البيع.
علم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يصحح الهبة التي شرط فيها العوض وهذا
مذهب الجمهور.
واستدلوا على هذا:
- بأن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ فحقيقة هذا اللفظ أنه بيع وليس هبة وما
دام نستطيع تصحيح عقود المكلفين فهو أولى من إبطالها.
هذا كله مذهب الجمهور وهذا دليلهم.
= القول الثاني: وهو مذهب الشافعي أن الهبة التي شرط فيها عوض باطلة.
- لأنه اشترط فيها ما ينافي مقصودها، فإنه من المعلوم أن الركن الأساسي في
الهبة هو خلوها من العوض.
فهذا الشرط ينافي المقصود الأساسي من
الهبة.
والشرط المنافي للعقد يبطل العقد.
وهذا القول يتناسب مع مبدأ عام ذكرته للشافعي وهو: أنه يأخذ بالظواهر،
فظاهر هذا العقد أنه هبة فيها عوض والهبة لا يمكن أن يكون فيها عوض.
نحن نقول: هذا الظاهر غير مقصود والمقصود هو أن يكون عقد معاوضة.
والراجح: مذهب الجماهير.
فهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أيضاً أن الهبة التي يقصد منها الثواب
بلا شرط لا يستحق صاحبها الثواب - عوضاً.
يعني: واحد وهب آخر وهو يريد بهذه الهبة ثواباً يعني: عوضاً لكنه لم يشترط
في العقد فعند الحنابلة الواهب لا يستحق ثواباً وإنما الذي يستحق هو
المشترط، ولهذا المؤلف - رحمه الله - يقول: فإن شرط فيها عوضاً.
= والقول الثاني: أنه إذا أهدى إلى من هو أعلى منه رتبة وقصد الثواب فهو
على قصده ويلزم الموهوب إما أن يعطيه ما يرضيه أو أن يرد الهبة.
واستدلوا على هذا:
- بالأثر الصحيح الذي أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عمر - رضي الله عنه -
أنه قال: (من وهب هبة يريد ثوابها فهو على هبته إن أرضي وإلا رجع فيها).
وبقوله - رضي الله عنه -: (أراد) التصريح بالحكم ...
((الأذان)).
والراجح إن شاء الله القول الثاني لوجود هذا الأثر عن أمير المؤمنين عمر -
رضي الله عنه -.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
ولا يصح: مجهولاً إلاّ ما تعذر علمه.
(ولا يصح مجهولاً) في الحقيقة يحتمل أن المؤلف - رحمه الله - يقصد بقوله:
(ولا يصح مجهولاً) يعني: الثواب في هبة الثواب ........... (نقص يسير))
..... أن مقصوده ولا يصح مجهولاً عني: ولا تصح الهبة المجهولة.
يرجح الاحتمال الأول: أن المؤلف - رحمه الله - إذا أراد أن يتكلم عن الهبة
استخدم الضمير المؤنث ولاحظ بعد ذلك يقول: (وهي) (وتنعقد) (وتلزم) وهنا
استخدم الضمير المذكر.
ويرجح الاحتمال الثاني وهو أنه يتكلم عن الهبة المجهولة أنه قال: (إلا ما
تعذر علمه) وهذا القيد يتعلق بالهبة المجهولة لا بالثواب في هبة المعاوضة.
ولذلك لعل الأقرب أنه أراد الهبة المجهولة.
كما أنه يؤيد هذا الاحتمال أنه يبعد جداً أن يخلي الشيخ الباب من الكلام عن
هبة المجهول لأنها مسألة مهمة.
ولو حملنا هذا على الجهالة في ثواب هبة
الثواب لخلي الباب من حكم الهبة المجهولة.
إذاً: إذا حملناه على هذا المحمل نقول: (ولا يصح مجهولاً) يعني: لا يصح
....... كأن يهب الحمل الذي في البطن واللبن الذي في الضرع.
وتعليل المنع:
- أن المجهول لا يمكن تسليمه ........ لا يمكن تسليمه لا فائدة في هبته.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن نهب أحداً شيئاً مجهولاً.
- لأن لا الجهالة هنا لا تضر فإن الموهوب يدور بين السلامة والغنيمة.
فالغرر لا يؤثر هنا.
وإلى هذا ذهب .............
قال شيخ الإسلام: فإذا قال: خذ من مالي ما شئت: صح. أو قال: ما أخذت من
مالي فهو لك: صح .....
وبعد التأمل في هذه المسألة مراراً وتكراراً تبين لي أن اختيار الشيخ -
رحمه الله - .... ضعيف أو ضعيف جداً ...
والسبب في ذلك: أن وقوع النزاع أشبه ما يكون بالمقطوع به لاسيما المثال
الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -: (ما أخذت من مالي فهو لك)
................ فيقول: إنما أردت الشيء الذي عادة يتواهبه الناس ما أردا
هذا ....... فيقول أنت قلت ما أخذت من مالي فهو لك وما هذه من ألفاظ العموم
فأنا أتعجب من تصحيح هبة المجهول يعني قول من وجهة نظري بعيد جداً ولابد أن
يؤدي إلى النزاع لتفاوت الأموال ....
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
إلا ما تعذر علمه.
فإنه يجوز ... تعذر العلم أن يختلط اختلاطاً غير متميز حينئذ له أن يهبه
وإن كان مجهولاً ........... لا حرج فيها ...
(((في التسجيل الصوتي تقطيع كثير لما بعد الأذان فأرجو ممن لديه التسجيل أن
يعيننا على إكماله ليتم تنزيله فيما بعد كاملاً في المذكرة))).
((انتهى الدرس)).
الدرس: (4) من الوقف
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وتنعقد بالإيجاب والقبول والمعاطاة الدالة عليها)
الأمر الأول: أنّ الهبة تنعقد بصيغتين قولية وفعلية, أما القولية فبالإجماع
تنعقد بها الهبة ولا إشكال فيها، وأما القولية تنعقد بها أيضاً الهبة عند
جمهور أهل العلم, واستدلوا على هذا بأنّ - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي
ويهدى، وكان يرسل السعاة فيأخذوا الصدقات ويقبضوها وكل ذلك يتم بلا قول,
فهذا دليل على أنّ الهبة تنعقد بالصيغة العملية بلا قول.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وتنعقد)
هذه الجملة أفادت الفائدة الثانية, وهي أنّ الهبة تملك بمجرد العقد ولو قبل
القبض, ولا تحتاج إلى قبض, ولكنها كما سيأتينا لا تلزم إلاّ بالقبض.
والقول الثاني: أنّ الهبة لا تملك إلاّ بالقبض.
والقول الثالث: أنّ الهبة تملك بالعقد قبل القبض, ولكنه ملكاً مراعى, فإن
قبض تبيّن أنه ملكه وإلاّ فلا, وينبني على هذه المسألة فروع كثيرة جداً,
ذكرها الشيخ ابن رجب في القواعد, من أهم هذه الفروع فرعان:
الفرع الأول: ينبني على الخلاف في هذه المسألة جواز التصرف أو عدمه، فإن
قلنا أنها تملك بالعقد قبل القبض جاز التصرف قبل القبض, لأنها من أملاكه
وللإنسان أن يتصرف في ملكه كيف يشاء.
الفرع الثاني: الذي ينبني على هذه المسألة, هو أنها تكون مملوكة من حين
العقد, ويترتب على هذا أنّ له النماء المتصل والمنفصل وهذه ثمرة مهمة
للخلاف في هذه المسألة, الحنابلة يرون أنها تملك بمجرد العقد كما تقدم
معنا.
في الحقيقة ليس في المسألة أدلة واضحة, يمكن أن يرجح الإنسان بناء عليها,
ولهذا نقول نبقى مع مذهب الحنابلة وهو مذهب الإمام أحمد أنها تملك بالعقد,
ويكون التفريع على هذا القول.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وتلزم بالقبض بإذن واهب)
أي أنّ الهبة وإن كانت تملك بالعقد إلا أنها لا تلزم إلا بالقبض, وإلى هذا
ذهب الحنابلة، أنّ الهبة لا تملك إلا بالقبض واستدلوا بدليلين:
الدليل الأول: ما روي عن أبي بكر الصديق
وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي - رضي الله عنهم أجمعين - أنهم كانوا يرون أنّ
الهبة لا تلزم إلاّ بالقبض, وهذا الأثر واستخدامه كلمة لا تلزم إلا بالقبض
يرجح في المسألة السابقة مذهب الحنابلة, إذا كانت لا تلزم إلا بالقبض
فاللزوم أمر زائد عن الملك, فكأنها تملك بالقول ولكن لا تلزم إلا بماذا؟
إلا بالقبض، فهذا الأثر من الأشياء التي تقوي مذهب الحنابلة, نرجع إلى
مسألة اللزوم إذاً هذا هو الدليل الأول في مسألة اللزوم أنّ الهبة لا تلزم
إلا بالقبض.
الدليل الثاني: أنّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أعطى عائشة جذاذ عشرين
وسقاً من ماله بالغابة, فلما أشرف وقرب موته - رضي الله عنه - قال لها إني
كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً, ولو كنت حزتيه لكان لك, وأما الآن فهو مال
الورثة, فدّل الحديث على أنها لماّ تقبضه لم يلزم في حق أبي بكر وصار من
جملة مال الورثة.
والقول الثاني: أنّ الهبة تلزم بمجرد القول, بشرط أن تتميز، يعني أن تكون
متميزة عن غيرها, وهذا قول الحنابلة واختيار الظاهرية، واستدلوا على هذا
بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة/1] فعقد الهبة
من العقود التي تدخل في الآية.
والقول الثالث: أنّ الهبة تلزم مطلقاً، ولو لم تكن متميزة، لعموم قول النبي
- صلى الله عليه وسلم - (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)،
والراجح في مسألة اللزوم بلا إشكال مذهب الحنابلة, لصراحة الآثار عن أبي
بكر وعمر وعثمان وعلي, يعني عن الخلفاء الأربعة ـ رضي الله عنهم - فالأدلة
التي ذكروها عامة, وهذه الأدلة التي استدّل بها الحنابلة خاصة.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وتلزم بالقبض بإذن واهب)
معنى أنها تلزم يعني لا يجوز الرجوع فيها, ودخلت بشكل نهائي في ملك
الموهوب, وأشترط الشيخ - رحمه الله - الماتن للقبض أن يكون القبض بإذن
الواهب, واستدل الحنابلة على هذا بأنّ الإقباض ليس أمراً مستحقاً على
الواهب, فلا يصح إلا بإذنه, وجه ذلك أنّ له أن يقبض وله أن يمتنع, فلما صار
الإقباض ليس أمراً مستحقاً عليه, اشترطنا إذنه ورضاه.
والقول الثاني: أنّ القبض يصح مطلقاً ولو
بغير إذنه ولا علمه، مادام وهب, وهذا القول الثاني من وجهة نظري ضعيف جداً,
لأنّ الإقباض في الهبة حق من حقوق الواهب, ففي القبض بغير إذنه نوع إفتيات
عليه, كما أنّ تملك المال لابد أن يكون برضى نفس ومادام لم يعطه هو المال
ينبغي أن ينتظر إلى يعطه المال أو يأذن في القبض.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(إلاّ ما كان في يد متهب)
يعني إذا كانت العين الموهوبة في يد الموهوب ثم وهبها إياه المالك, فحينئذ
لسنا بحاجة إلى القبض, وعللوا هذا بأنّ استدامة القبض تغني عن ابتدائه,
فالعين الآن في يده, فلسنا بحاجة إلى قبض جديد, بل تصبح المسألة مسألة
استدامة للقبض, والاستدامة لا تحتاج إلى إذن، وهذا صحيح بالنسبة لما إذا
كانت العين في يد الموهوب.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ووارث الواهب يقوم مقامه)
يعني فالإذن بالقبض أو الرجوع عن الهبة, وأفادنا المؤلف بهذه العبارة أنّ
الهبة لا تنفسخ بالموت, بل للوارث أن يأذن ويمضي الهبة وله أن يرجع ويقبض
الهبة, وذلك لأنّ الهبة ,أو لأنّ كونه يهب هذا حق من حقوقه، فيبقى للورثة
إن شاءوا أمضوا وإن شاءوا ردّوا.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ومن أبرأ غريمه من دينه بلفظ الإحلال ,أو الصدقة ,أو الهبة ... )
برئت ذمته ولو لم يقبل, هذا الإبراء يتعلق بالديون ولا يتعلق بالعين, فإذا
أبرأه من الدين فإنّ الإبراء صحيح ولو لم يقبل المبرأ واستدّل الحنابلة على
هذا بأنّ الإبراء مما في الذمة لا يعدوا أن يكون إسقاط, والإسقاط لا يحتاج
إلى رضى المسقط عنه, كما في الشفعة وكما في القصاص, ففي الشفعة مثلاً لو
أسقط المشفع حقه لا نحتاج إلى إذن المشتري, بل يسقط حقه أذن أو لم يأذن،
وفي القصاص لو أسقط ولي الدم حقه في القصاص وأختار الدية لا نحتاج إلى رضى
الجاني, إذن الإسقاطات لا تحتاج إلى إذن.
والقول الثاني: أنه في مثل هذه الصورة لابد من الإذن, لأنّ هذا الإسقاط في
معنى الهبة, والهبة تحتاج إلى قبول, إذن لابد من القبول لأنّ هذا الإسقاط
في معنى الهبة, والهبة تحتاج إلى قبول, كما أنّ الإسقاط من الدين فيه
مِنّة, ويحتاج إلى قبول.
أجاب الحنابلة عن دليل أصحاب القول الثاني
بأنّ هناك فرقاً بين الهبة والإبراء, لأنّ الهبة تمليك للأعيان, بينما
الإبراء إسقاط، وبين التمليك والإسقاط فرق ظاهر, والصواب مع أصحاب القول
الثاني, والمذهب من وجهة نظري في هذه المسألة مرجوح، والسبب في ذلك أنّ
التمليك وإن كان يختلف عن الإسقاط إلا أنه مع ذلك في هذا الإبراء شبه عظيم
بالهبة, بدليل أنها تستخدم فيه، فيقول الإنسان وهبت لك ما في ذمتك لي,
فاستخدام الهبة في الإسقاط دليل على أنّ معناهما متقارب جداً, كما أنّ قول
أصحاب القول الثاني أنّ فيه مِنّة صحيح, أنّ فيه مِنّة ظاهرة, إذ قد يصبح
المبرِأ كل ما رأى المُبرأ, قال قد أبرأتك عن كذا من الدين, وكل مارآه
ذكّره بأنه أبرأه من هذا الدين, وفي هذا مِنّة ظاهرة واضحة, على كل حال
الراجح إن شاء القول الثاني.
ظاهر كلام المؤلف, أنه يجوز الإبراء من المجهول, فإذا كان الدائن نسي
الدين, لا يعرف كم مقدار الدين, فقال أبرأتك من الدين الذي في ذمتك لي,
فإنّ الإبراء عند الحنابلة صحيح, لأنه إسقاط فجاز في المجهول.
والقول الثاني: أنّ الإبراء من المجهول
يجوز, بشرط أن يضع له حداً أعلى, فيقول إن كان الدين ألف فأقل فقد أبرأتك
منه، يعني في المسألة إشكال, لكن الأقرب مذهب الحنابلة, لأنّ الإبراء وإن
كان فيه شبه من الهبة, إلاّ أنه يبقى مع ذلك أخف منها، كما أنّ فيه إبراء
لذمة مشغولة, والشارع الكريم يتشوف إلى إبراء الذمم المشغولة, ولهذا نقول
إذا أبرأه من الدين وإن كان مجهولاً فلا بأس به, وإن كان القول الثاني في
الحقيقة جميل جداً وينهي النزاع, فلو تبّين فيما بعد أنّ الدين مبلغه كبير
جداً ربما ندم المبرأ، لكن لو قال إذا كان الدين ألف فأقلّ فقد أبرأتك,
فينتهي الإشكال, فيكون الألف فأقلّ مبرأ وما هو زيادة على هذا باقي في
ذمتّه لكن على كل حال نقول إن شاء الله, مذهب الحنابلة أحسن لمسألة رغبة
الشارع في إبراء الذمم, والمقصود بالدين هنا يشمل أن يكون دين بسبب القرض
أو دين بسبب ثمن المبيع الذي لم يؤديه, أو أن يكون دين بسبب جناية, أو أن
يكون دين بأيّ سبب من الأسباب التي يترتب عليها انشغال الذمم, وتقدم معنا
في كتاب القرض أنّ بين الدين والقرض فرق, وأنّ الدين أعّم من القرض وأنّ
القرض أحد أسباب الدين, فالمؤلف يستخدم كلمة الدين ليشمل انشغال الذمة بأيّ
سبب من الأسباب.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ويجوز هبة كل عين تباع , وكلب يقتنى)
عند الحنابلة الأصل العام أنه يجوز هبة كل عين تباع, فما جاز بيعه جازت
هبته, والدليل على هذا أنّ الهبة تمليك للأعيان في الحياة فهي تشبه البيع,
تقدم معنا أنّ هذا الشبه شبه جزئي وليس شبهاً كلياً, وأنّ بين البيع والهبة
فارق أساسي وهو؟ العِوض لكن مع ذلك مادام في كل من البيع والهبة تمليك في
الحياة, فهما من هذه الجهة يتشابهان فكل ما جاز بيعه جاز هبته, أضف إلى هذا
أنّ البيع أضيق من الهبة, فإذا كانت هذه العين تباع فمن باب أولى أنها
توهب.
الأمر الثاني: يقول الشيخ - رحمه الله -
وكلب يقتنى، يعني وما يجوز أن يقتنى من الكلاب، ومقصود المؤلف بقوله وكلب
يقتنى يعني وكل عين فيها نفع مباح, وإن كان لا يجوز أن تباع ولا أن تشترى,
فالأعيان التي توصف بهذا الوصف يجوز أن توهب, وإنما ذكر الشيخ الكلب لأنه
أبرز أمثلة الأعيان التي يجوز الانتفاع بها, ولا يجوز أن تباع, والمقصود
بالكلب هنا كما صرّح الشيخ الكلب الذي يجوز أن يقتنى, فعرفنا من هذه
العبارة أنّ الهبة أوسع من البيع, وأنّ أمرها أرحب، فإذا وهب الإنسان ما
يجوز أن يباع أو ما يجوز أن ينتفع به وإن لم يجز أن يباع فهو صحيح. .
فصل
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(يجب التعديل في عطية أولاده بقدر إرثهم)
هذا فصل خصصه المؤلف لمسألة مهمة مفيدة, وهي وجوب التعديل في العطية بين
الأولاد, ولذلك صدّر الشيخ الفصل بحكم هذه المسألة فقال يجب التعديل في
عطية أولاده, يجب التعديل في عطية الأولاد, وإلى هذا ذهب الحنابلة وذهب
أيضاً الإمام البخاري وذهب إليه الإمام ابن حزم, وأضاف أنّ هذا القول ينسب
لجمهور السلف, هكذا يقول, أو يقول وهذا قول عامة السلف, استدل هؤلاء -
رحمهم الله وغفر لهم - بأدلة:
الدليل الأول: وهو عمدة الباب أنّ النعمان بن بشير - رضي الله عنه - وهب
ابنه هبة فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشهد على هبته فقال له
النبي - صلى الله عليه وسلم - (أكُل ولدك أعطيته مثله)، فقال: لا، فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلا إذاً)، وقال في لفظ آخر (أني لا أشهد
على جور)، وقال في لفظ آخر (أطلب الشهادة من غيري)، أو (أشهد على هذا
غيري)، وقال في لفظ (لا أشهد على غير الحق)، وهذا الحديث له ألفاظ من أكثر
الأحاديث ألفاظ، إلاّ أنّ جميع الألفاظ تدل على المعنى المقصود, والحديث في
الصحيحين.
وجه الاستدلال أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشهد وأنه سمّاه جور،
وأنه سمّاه خلاف الحق, ومن المعلوم أنّ الجور, ظلم, والظلم محرم.
الدليل الثاني: أنّ الشارع الحكيم, ينهى عن
كل ما فيه بغضاء وتشاحن بين المسلمين, فضلاً عن الأخوة وتفضيل بعضهم على
بعض في الأعطيات من أكبر أسباب التشاحن والفساد كما مشهور ومنظور, ويدل على
هذا الأصل العظيم, أنّ الشارع حرّم أن ينكح الرجل عمة المرأة عليها، أو
خالة المرأة عليها, وأجمع الفقهاء أنّ العلة في المنع من أن يجمع بين
المرأة وعمتها أو بين المرأة وخالتها أن لا يقع بينهما تنافر وتباغض
وتشاحن, وهما قريبتان, فهذا الأصل دّل على المنع من التفضيل في الأعطيات
التي يعطى الأولاد.
والدليل الثالث والأخير: أنه صح عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله
عنهم - النهي عن التفضيل وإيجاب المساواة.
القول الثاني: وهو مذهب الجمهور من المتأخرين الأئمة الثلاثة - رحمهم الله
وغفر لهم وجمعنا وإياهم في جناته - ذهبوا إلى أنّ التسوية بين الأولاد
مستحبة, وأنّ التفضيل مكروه ولا يحرم, واستدلوا على هذا بأدلة: الدليل
الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (أشهد على هذا غيري)، وفي هذا
التصريح بصحة العقد, لأنه إذا طلب منه أن يشهد عليه غيره, فيه التصريح بصحة
العقد.
والجواب عن هذا الاستدلال أنه كما قال ابن حزم عن استدلال قريب من هذا
الاستدلال في مسألة العطية, أنّ هذا من عجائب الدنيا، وهذا صحيح, الاستدلال
بهذا الحديث الذي يعتبر من أقوى الأدلة على التحريم, الاستدلال به على
الجواز من عجائب الدنيا، وجه ذلك أنّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -
(أشهد على هذا غيري) لا يؤخذ منه مطلقاً الجواز, والسبب في ذلك أنّ هذا
الأسلوب من الأساليب العربية المعروفة التي لا تستخدم لبيان الجواز, كما
جاء في الأثر أنهم قالوا (إذا لم تستحي فافعل ما تشاء) فهل هذا الأمر حقيقي
أو يراد منه التوبيخ؟ وكما جاء في الأثر أو صح عن علي - رضي الله عنه - أنه
قال للدنيا غُري غيري، فهل مقصود علي - رضي الله عنه - فعلاً أنه يريد أنّ
الدنيا تغّر غيره, أو يريد الابتعاد عن الدنيا, فكذلك قول النبي - صلى الله
عليه وسلم - للنعمان (أشهد على هذا غيري) ما هو إلاّ من التوبيخ, وبيان أنّ
هذا العمل محرم, وهو في الحقيقة استدلال غاية في البعد.
الدليل الثاني: للجمهور أنّ أبا بكر الصديق
- رضي الله عنه - نحل عائشة - رضي الله عنها - عشرين وسقاً ولم يعطي غيرها
بدليل أنه ردّ الهبة لما قرب من الوفاة, وهذا أقوى دليل لهم, لكن الجواب
على هذا من أوجه:
الوجه الأول: أنه يحمل على أنّ باقي الورثة رضُوا وسمحوا بأن يعطي عائشة
لكونها أم المؤمنين أو لأيّ سبب آخر.
الأمر الثاني: أنّ أبا بكر الصديق أعطاها لمعنى يوجب التفضيل, والإعطاء
لمعنى يوجب التفضيل جائز, كأن يكون أشدّ فقراً, أو أشدّ حاجة، وأما بالنسبة
لعائشة - رضي الله عنها - فلا نعرف ما هو المعنى الذي يوجب التفضيل، والذي
يجعل الإنسان يحمل هذا الأثر على هذه المحامل, وإن كان فيها شيء من البعد,
الذي يجعلنا نجزم بأنّ أحد هذه المحامل هو المراد أنه صح عن أبي بكر المنع
من التفضيل، وإذا صح عن أبي بكر المنع من التفضيل, علمنا أنه لماّ فضلّ
إنما فضل لسبب مبيح شرعاً.
الدليل الثاني: أنّ عمر بن الخطاب وأيضاً عبد الرحمن بن عوف, فضلوا بعض
أبنائهم, والجواب على هذا, هو الجواب على أثر أبي بكر - رضي الله عنه -
تماماً.
واستدل الجمهور بدليل آخر وهو أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (هل
تحب أن يكونوا لك في البِرّ سواء) فقال - رضي الله عنه – نعم، فهذا إشارة
إلى المعنى الذي من أجله منع من التفضيل وهو أنه لكي يكونوا في البِرّ
سواء، إذاً لم يكونوا في البر سواء فله أن يفضل، وهذا أيضاً استدلال
بالأقيسة البعيدة عن روح النص, فإنّ النص واضح جداً في المنع من ماذا؟ في
المنع من التفريق وهو صريح جداً في تحريمه, والراجح إن شاء الله مذهب
الحنابلة, ولو لم يكن من أسباب الترجيح إلا أنه مذهب عامة السلف, يعني من
الصحابة والتابعين لكان كافياً في الترجيح, فضلا عن الحديث نص في المقصود,
ولذلك ألّف عدد من الأئمة رسائل خاصة في نصرة قول السلف، منهم ابن القيم
ومنهم الأمير الصنعاني - رحم الله الجميع - ألّفوا رسائل خاصة في نصرة
القول الأول الدال على التحريم.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(بقدر إرثهم (
لما قرر الشيخ وجوب التسوية انتقل إلى
كيفية التسوية, الحنابلة يرون أنّ كيفية التسوية تكون بقدر الإرث, فللذكر
مثل حظ الأنثيين واستدلوا على هذا بأدلة:
الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث النعمان
(اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، وإذا كان المطلوب العدل, فإنه لا أعدل
من قسمة الله, فإنه لا يوجد قسمة أعدل من قسمة الله, هذا أولاً.
ثانياً: وهو دليل قوي جداً أنّ عطاء بن أبي رباح - رضي الله عنه - قال ما
كانوا يعطون إلا على كتاب الله, أو ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله،
ومثل عطاء من كبار التابعين إذا قال ما كانوا فهو يشير إلى أصحاب النبي -
صلى الله عليه وسلم -
القول الثاني: أنّ التعديل يكون بالتسوية, فيعطى الذكر كما تعطى الأنثى
تماماً, واستدلوا على هذا أيضاً بأدلة:
الدليل الأول: أنه في لفظ من ألفاظ حديث النعمان, أنه قال (سوي بينهم)،
والجواب على هذا أنّ اللفظ الذي فيه سوي بينهم ليس في الصحيحين، وأنه ليس
في الصحيحين إلا الأمر بالتعديل, اتقوا الله واعدلوا, والتعديل يفارق
التسوية تماماً, هذا دليل أول مع جوابه.
الدليل الثاني: أنه روي من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال (سووا بين أولادكم بالعطية فلو كنت مفضلاً لفضلت
النساء) وهذا الحديث حديث منكر لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
الدليل الثالث لهم: وهو دليل وجيه، وهو من وجهة نظري أقوى دليل للجمهور
الذين يرون أنّ التعديل يكون بالتسوية, قالوا إنّ المقصود في الإرث الإعطاء
على وجه التعصيب, ونفع الميّت, ولذا فضّل بينهم بحسب قربهم وبعدهم.
أما المقصود من العطية في الحياة فهي
المواساة وصلة الرحم, وإذا كان المقصود صلة الرحم فالذكر كالأنثى في ذلك،
وإلى هذا يشير قوله - صلى الله عليه وسلم - (أتحب أن يكونوا لك في البر
سواء)، وكونهم في البر سواء يستوي فيه الأنثى والذكر، هذا الدليل الأخير
وجيه, ولولا أثر عطاء لكان قول الجمهور وجيه, أنّ التعديل يكون بالتسوية,
لكن مع وجود أثر عطاء ومع المعاني التي ذكروها من أنّ قسمة الله هي أعدل
القسم يكون الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة, وهو أنّ التعديل يكون
بقسمتها على حسب ما جاء في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(فإن فضّل بعضهم سوّى برجوع, أو زيادة)
فإن فضّل بعضهم, يعني فإن خالف الأمر الشرعي وفضّل بعضهم فإنه يسوي إما
برجوع بأن يأخذ العطية, أو بزيادة أي بأن يزيد الناقص إلى أن يستووا, وقوله
(سوّى) يعني وجوباً، والدليل على وجوب الرجوع ما جاء في الصحيح أنّ النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال للنعمان (فأرجعه) أو (فأعده) وهذا نص صريح في
وجوب الرجوع عن العطية أو الهبة التي فيها تفضيل.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(فإن مات قبله ثبتت)
فإن مات الواهب قبل الرجوع والتسوية ثبتت العطية، ومعنى ثبوت العطية أنه لا
يجوز لباقي الورثة أن يطالبوا المعطى, وليس لهم حق عنده, استدل الحنابلة
على هذا بأنّ أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال كنت نحلتك جذاذ عشرين
وسقاً ولو كنت حزتيه لكان لك، فدّل اللفظ على أنّ عائشة لو كانت حازته لم
يملك الورثة الرجوع.
والقول الثاني: أنه يجب الرجوع ولو بعد الموت, واستدلوا على هذا بأنّ هذه
العطية, حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها بأنها جور، والجور هو
الظلم, والظلم لا يقرّ مهما كان الأمر، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أمر بالرجوع في هذه العطية مطلقاً.
واستدلوا بدليل قوي أصحاب القول الثاني,
وهو أنّ أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب أمروا قيس بن سعد أن يعود في الهبة
التي أعطاهم إياها والده لماّ ولد له ولد لا يعلم به, يعني أنّ والد قيس
سعد - رضي الله عنه - أعطى أولاده هبة وقسّم أولاده, ولم يعلم أنّ إحدى
النساء حامل, ثم توفيّ, فلما ولد هذا الولد, أمر أبو بكر الصديق وعمر بن
الخطاب ابنه قيس أن يرجع في الهبة, بمعنى أن يعطي هذا الابن المولود نصيبه,
وفي هذا رجوع بعد الموت, والراجح إن شاء الله هو وجوب الرجوع بعد الموت،
مذهب الحنابلة ضعيف وأثر أبي بكر الصديق, تقدم الجواب عنه وهو أنه عطية
صحيحة لها ما يبررها شرعاً.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة إلاّ الأب)
ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة, لا يجوز الرجوع في الهبة لقول
النبي - صلى الله عليه وسلم - (ليس لنا مثل السوء, لا يجوز الرجوع في
الهبة, والعائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) ولقول النبي - صلى
الله عليه وسلم - (لا يحل للرجل أن يهب ثم يعود في هبته) وهذا أمر واضح.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(إلاّ الأب)
أي فله الرجوع, للأب الرجوع خاصة في الهبة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم
- (لا يحل لرجل أن يهب ثم يرجع في هبته إلاّ الأب فيما يعطي ولده)، وهذا
الحديث صححه عامة المتأخرين, ولم أرى للمتقدمين فيه كلام بعد مراجعة يسيرة,
ربما نجد لهم كلام, لكن بعد مراجعة يسيرة, لم أجد لهم كلام في هل هذا
الحديث أو الاستثناء صحيح أو معلول, على كل حال عامة المتأخرين يصححون
إسناد هذا الحديث فظاهره الصحة، وهو دليل على استثناء الأب.
مسألة: رجوع الأب لابد أن يكون بالقول الصريح, وهناك فرق بين رجوع الأب في
هبته التي أعطاها ابنه, وبين تملك الأب من مال ابنه, ففي التملك يكفي القبض
مع النية أو القول, أما في الرجوع فلابد من الرجوع الصريح بالقول, فإذا
أعطى الأب ابنه شيء ثم أخذه, ولم يصرّح بالرجوع فلا يعتبر رجوع, وتبقى
العين ملك للابن, إذاً الخلاصة أنه لابد من التصريح في الرجوع بالنسبة للأب
إذا أراد أن يعود في هبته.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا
يضرّه ولا يحتاجه)
للأب أن يأخذ وأن يتملك من مال ابنه, وقبل أن نأتي لمسألة تملك الأب من مال
الابن, في مسألة الرجوع ذكرنا حكم رجوع الأب أليس كذلك؟
نقول مسألة: الأم اختلفوا فيها هل لها أن ترجع أو ليس لها أن ترجع؟ على
قولين:
الراجح إن شاء الله أنّ لها أن ترجع, وإلى هذا مال الشيخ الحارثي لعموم قول
النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم (إلاّ الوالد فيما يعطي
ولده)، فالأم تدخل دخولاً أولوياً في هذا اللفظ, كما أنّ ما يثبت من الحقوق
للأب فإنه يثبت للأم, لأنها أعظم حقاً من الأب.
نأتي إلى مسألة تملك الأب من مال الابن, ذهب الفقهاء إلى أنه يجوز للأب أن
يتملك من مال ابنه ما شاء, بشروط ستأتينا.
واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنّ أطيب ما أكلتم ما
كسبتم, وإنّ أولادكم من كسبكم) فصرّح النبي ـ صلى الله عليه وسلم - أنّ
الولد من جملة كسب الأب, فيجوز له أن يتملك من ماله ما شاء, بالشرط الذي
سيأتينا، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنت ومالك لأبيك)
مسألة: وهل الأم مثل الأب في جواز التملك من مال الابن؟ فيه خلاف، فمن
الفقهاء من قال أنه لا يجوز التملك إلاّ للأب، وعن الإمام أحمد روايات
صريحة في هذا، واستدل الإمام أحمد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنت
ومالك لأبيك) قال والأب ليس كالأم, واستدل بأنّ الأب منوط به النفقة دون
الأم, واستدل بلفظ للحديث السابق (إنّ أطيب كسب الرجل) فخص الرجل.
والقول الثاني: أنّ الأم كالأب, يجوز لها أن تتملك من مال الابن لعموم
(وإنّ أولادكم من كسبكم)، ولأنّ حق الأم أعظم من حق الأب، ولأنّ الأم لا
يجوز لها على الصحيح, أن تفضّل في الأعطية بين أولادها, كما لا يجوز للأب
تماماً، فإذا منعناها من التفضيل فلها حق التملك، وهذا القول إن شاء الله
هو الصحيح, أنّ للأم أن تتملك من مال الابن, كما أنّ للأب أن يتملك من مال
الابن، وبهذا علمنا أنه على القول الصحيح, الأم تساوي الأب في جميع المسائل
السابقة, ما هي المسائل؟
المسألة الأولى: تحريم التفضيل.
المسألة الثانية: جواز الرجوع في الهبة.
المسألة الثالثة: جواز تملك الأب من مال
الابن.
فبهذا تنضبط إن شاء الله معنا المسألة, لأنّ بعض الفقهاء قد يرّجح أنّ الأم
كالأب في بعض هذه المسائل دون بعض، لكن الأقرب إن شاء الله, أنها كالأب في
جميع المسائل، وبهذا تنضبط وتتضح معنا مسائل الهبة.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(من مال ولده مالا يضره ولا يحتاجه)
ظاهر عبارة المؤلف أنّ مالا يضره غير مالا يحتاجه, أنّ مالا يحتاجه شيء
ومالا يضره شيء آخر, وفي الحقيقة أنّ عبارة الفقهاء ومنهم الحنابلة تدّل
على أنّ الشرط هو واحد, وهذا الشرط هو أن لا يتملك من مال ابنه ما يضره,
ومن أمثلة الضرر أن يتملك ما يحتاجه.
إذاً الواقع أنّ الشرط هو واحد, ولو قال الشيخ أن لا يتملك ما يضره كالمال
الذي يحتاجه لكان أوضح، من أمثلة ما يضره أن يتملك الأب رأس مال الابن الذي
أعدّه للتجارة, إذا لم يكن عند هذا الابن إلاّ رأس المال هذا ليتاجر به
لنفقته، فإنه لا يجوز للأب أن يتملك مثل هذا المال, كذلك لا يجوز له أن
يتملك ما تعلّق به حقوق للابن, كالرهن, والديون التي في الذمم، مثل هذه
الأمور لا يجوز للأب أن يتعرض لها, الرهون ونحوها.
والقاعدة العامة التي تضبط معنا المسألة, والأمثلة كثيرة, هي أن لا يتملك
من مال ابنه ما يضر الابن, من ذلك مثلاً لا يجوز أن يتملك الأمة التي
تسرّاها الابن, وإن كانت الأمة ليست زوجة, لكن مع ذلك لاشك أنّ تملك الأب
لهذه الأمة يضّر بالابن, إذاً الأمثلة كثيرة لكن الضابط هو أن لا يتملك ما
يضرّ الابن.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(فإن تصّرف في ماله ولو فيما وهبه له ببيع, أو عتق ,أو إبراء, أو أراد أخذه
قبل رجوعه, أو تملكِهِ بقول, أو نيةٍ وقبض معتبرٍ لم يصح بل بعده)
خلاصة هذا البحث أنه لا يجوز للأب أن يتصرف في مال الابن, ولو فيما وهبه
إياه إلاّ بعد القبض, ويشترط في هذا القبض, أن يكون مع نية أو قول, أما قبل
القبض فإنه لا يجوز للأب أن يتصرف في مال الابن، التعليل: قالوا أنّ مال
الابن قبل القبض, مال مملوك للابن ملكاً تاماً, فلا يتسلط الأب على التصرف
في مال ابنه, وهذا صحيح فإذاً نقول للأب يشترط لتتصرف في مال الابن, ماذا؟
أن تقبضه.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وقبض معتبر)
القبض المعتبر هو القبض الذي تقدم معنا في البيوع, قبض كل شيء بحسبه,
المنقول والعقار والمكيل والموزون, حسب ما تقدم معنا في الخلاف يتأتى هنا,
فإذا أراد أن يقبض عقار من مال الابن فبالتخلية, منقول فبنقله, مكيل
فبكيله, على حسب ما تقدم معنا في القبض الذي مرّ في كتاب البيوع.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(ببيع, أو عتق)
واضح.
(أو إبراء)
يعني أو إبراء غريم الولد, أو إبراء الأب من دين الابن, كلاهما لا يجوز,
لأنّ هذا الإبراء وقع قبل أن يتملك الابن المال, ولا يجوز للأب أن يتملك
مال الابن, إلاّ بعد أن يتملك الابن هذا المال, ومادام المال في ذمة الغريم
فإنه لم يتملكه التملك التام, فلا يجوز للأب أن يصدقه لا عن نفسه ولاعن
غريمه.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه)
لا يجوز للولد أن يطالب أباه بدين, سواء كان كما تقدم سبب الدين ثمن مبيع
أو كان سبب الدين قرضاً اقترضه الأب.
(ونحوه) مثل قيم المتلفات, وأروش الجنايات, فإذا أتلف الأب على الابن عيناً
محترماً بتعدّ أو تفريط, فإنّ قيمة المتلف تثبت في ذمة الأب، لكن لا يجوز
للابن أن يطالبه بها, الدليل على هذا أنّ رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - بأبيه يطالبه ديناً, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنت
ومال لأبيك)، فإذاً حديث (أنت ومالك لأبيك) جاء بسبب وهو ماذا؟ مطالبة
الابن لأبيه بالدين، فأفتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ ليس له ذلك
لأنه هو وماله للأب.
الدليل الثاني: أنّ هذا قد يكون من العقوق, وأنا أقول قد يكون, لأنه قد لا
يكون من العقوق، لكن قد يكون من العقوق, وذلك فيما إذا لم يكن للابن حاجة,
أو كان الأب فقيراً.
((الآذان))
القول الثاني: أنه إذا كان في الابن حاجة للمال, والأب في غنى تجوز
المطالبة.
والقول الثالث: أنّ المطالبة تجوز مطلقاً,
لأنّ الأب مدين, والابن دائن, وللدائن أن يطلب المدين, والراجح مذهب
الحنابلة للحديث, لأنه ليس في الحديث تفصيل, وإلاّ فإنّ القول الثاني وجيه
جداً, وفيه تفصيل طيّب, فمادام الابن بحاجة, والأب غني فلماذا لا يسدد ما
عليه لابنه, على كل حال مادام الحديث عام فالراجح إن شاء الله هو مذهب
الحنابلة, لأنّ الحديث يقوي مذهبهم.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(إلاّ بنفقته الواجبة عليه, فإنّ له مطالبته بها, وحبسه عليها)
النفقة الواجبة, تجوز المطالبة بها، لأنّ في هذا حفاظاً على النفس
المعصومة, فله أن يطالب أباه بالنفقة، كما أنّ الأب مقصّر وظالم لمنع
النفقة.
وقبل أن ننهي هذا الفصل نرجع إلى قول المؤلف (وليس للولد مطالبة أبيه بدين)
فقوله بدين, مفهوم العبارة أنّ للولد أن يطالب أبيه بعين, فإذا كانت العين
موجودة فله أن يطالب أباه بهذه العين, بعد البحث لم أر للحنابلة دليل في
التفريق بين العين والدين, لم يذكروا دليلاً, ولعلهم يستدلون بأنّ في قصة
الرجل الذي جاء بأبيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مديناً,
وفي الحقيقة التفريق بين العين والدين في مطالبة الأب ضعيف, لأنّ المقصد
الأول هو عظم حق الأب مما يمتنع معه المطالبة بالحقوق والإلزام بها, سواء
كان دين أوعين, ونحن نقول إذا كان دليل الحنابلة الحديث, فالحديث قصة عين,
وليس فيها ما يدل على أنه لو كان يطالبه بعين, لأذن له النبي - صلى الله
عليه وسلم - بالمطالبة , بل الظاهر من تعليل النبي بالمنع وهو قوله (أنت
ومالك لأبيك) أنه يشمل ما إذا كانت المطالبة بدين أو ما إذا كانت بعين.
فصل في تصرفات المريض
المقصود بالتصرفات هنا التبرعات لا المعاوضات فقوله التصرفات لفظ عام يقصد
به فقط التبرعات، أما المعاوضات كأن يبيع وأن يشتري أو أن يرهن أو أن يجري
أي عقد من عقود المعاوضات فتصرفه صحيح كالسليم, إذاً الكلام في هذا الفصل
عن تصرفات المريض مرض الموت المخوف فيما إذا تصرّف تصرفاً فيه تبرع.
وبدأ المؤلف بالمريض الذي مرضه غير مخوف.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
(من مرضه غير مخوف, كوجع ضرس, وعين, وصداع يسير فتصرفه لازم كالصحيح)
تصرف المريض مرضاً غير مخوف، كتصرف الصحيح
تماماً, لأنّ الغالب عدم الهلاك بمثل هذا المرض, هذا من جهة من جهة أخرى،
لأنّ الأصل في تصرفات المسلم العاقل الذي تصح تصرفاته, الأصل فيها الصحة،
ولهذا نقول تصرفات هذا المريض صحيحة، مادام مرضه ليس مخوفاً, والمؤلف مثّل
بأمثلة كوجع ضرس وعين وصداع يسير, هذه أمثلة للأمراض غير المخوفة, والمرض
غير المخوف يتضح تماماً, إذا أخذنا المرض المخوف, ووضعنا له ضابطاً ينضبط
به.
((انتهى الدرس)).
الدرس: (5) من الوقف
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كنت تحدثت في الدرس السابق عن المرض غير المخوف وبينت الحكم الذي ذكره
المؤلف عن المرض غير المخوف وتوقفنا على المرض لمخوف.
قال - رحمه الله -:
وإن كان مخوفاً كبرسام .....
المرض المخوف عرفه المؤلف بالمثال فذكر مجموعة من الأمثلة للأمراض المخوفة.
وحده شيخ الإسلام بقوله: (المرض المخوف هو ما يكثر الموت منه) فيكون ضابط
المرض المخوف هو كل مرض يغلب أن يموت المريض منه.
هذا الضابط يغني عن كثرة الأمثلة لاسيما مع اختلاف مستويات العلاج من زمن
إلى آخر.
فكثير من الأمثلة التي ذكرها المؤلف قد لا تكون اليوم من الأمراض التي تقتل
صاحبها غالباً لكن نقف مع الأمراض التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -:
يقول - رحمه الله -:
كبرسام.
البرسام مرض يصيب الدماغ. وربما أفقده الوعي أو أفقده الفهم والإدراك وله
تأثيرات مختلفة لكن الغالب على من يصاب به الموت ولهذا مثل به - رحمه الله
-.
يقول - رحمه الله -:
وذات الجنب.
ذات الجنب هي القرحة التي تصيب الجنب من الداخل فإذا انفجرت أدت إلى
الوفاة.
ولهذا جعلها من جملة الأمراض التي تسبب الموت.
يقول - رحمه الله -:
ووجع قلب.
يعني: إذا مرض القلب بوجع فإنه غالباً ما يسبب الموت.
وبالنسبة لوقتنا هذا وجع القلب قد يكون بسبب كبير كالجلطة فهو خطير.
وقد يكون بسبب نوع من الإرهاق فلا يكون خطيراً.
ومع ذلك اليوم إذا كان الإنسان مريض بالقلب
بالصمامات أو بجلطات أو بضعف العضلة في جميع الأحوال اليوم يعامل مريض
القلب كالصحيح ولا يعامل كمن هو في مرض الموت لأنه ليس الغالب الموت ففي
الحقيقة وجع القلب ينقسم إلى قسمين:
ـ أن يكون وجعاً طبيعياً يعالج ويبقى المريض يتصرف في حياته كتصرف الأصحاء
مع أخذ العلاج فهذا تصرفاته معتبرة وصحيحة وليست كتصرفات المريض مرضاً
مخوفاً.
ـ والثاني: أن يصاب بجلطة تفقده الوعي أو تدخله العناية المركزة ويصبح في
حالة حرجة فلاشك أنه لو أفاق وتكلم فإن تصرفاته تعتبر من تصرفات المريض
التي سيبين لنا المؤلف - رحمه الله - ما هو حكمها؟.
يقول - رحمه الله -:
ودوام قيام.
يعني: دوام الإسهال.
فالإنسان إذا دام معه الإسهال أهلكه لأن الإسهال يعني عدم استمساك ما في
المعدة وعدم انتفاع الجسم مما يأكله الإنسان وبهذا يهلك مع الاستمرار.
فإذا استمر الإسهال لاشك أنه مرض قاتل.
لكن اليوم ولله الحمد أمكن التحكم بمثل هذا وإيقافه.
لكن لو فرضنا أن إنسان أصيب بإسهال ولم يتمكن الأطباء من إيقافه وأشرف على
الهلاك فإن تصرفاته تصرفات المريض المخوف.
يقول - رحمه الله -:
ورعاف.
مقصوده: يعني: ودوام رعاف.
ولاشك أن النزيف - الرعاف إذا دام فهو من أخطر الأمراض.
أي: نزيف أي طريقة من طرق خروج الدم إذا لم يتمكن الأطباء من إيقافه فهو من
أخطر الأمراض سواء كان النزيف داخلي وهو الأخطر أو كان خارجي كالرعاف
والجرح.
وعلى كل حال إذا دام ولم يتمكنوا من إيقافه ووصل إلى مرحلة حرجة من المرض
فهو يعتبر مريضاً مرضاً مخوفاً.
يقول - رحمه الله -:
وأول فالج.
الفالج هو مرض يصيب إما الشق الأيمن أو الأيسر من الجسد أو الشق الأعلى أو
الأسفل من الجسد أو يصيب كل الجسد.
فإذا أصاب الجسم أدى إلى تخدره وشلله.
فالفالج: عندهم يعتبر من الأمراض المخوفة لكن قيده المؤلف بقوله: (أول
فالج).
من أشبه ما يكون من أمراضنا بأمراض الفالج الجلطات التي تؤدي إلى شلل في
جسم الإنسان لاسيما إذا كانت الجلطة في الدماغ فإنها غالباً ما تؤثر على
أعصاب الإنسان.
وما ذكره المؤلف من أن الفالج في أوله خطير
صحيح إلى الآن إذا أصيب الإنسان بجلطة دماغية فإنه في أول الإصابة تعتبر
حالته خطره ثم كل ما يتقدم الوقت يعتبر من صالح المريض وهو علامة على خروجه
من مرحلة الخطورة وكل ما يتقدم الوقت يكون إشارة إلى خروجه من حالة المرض
الشديد.
فقوله: (أول) صحيح. أول ما يصاب الإنسان بالجلطة ويرقد فإن تصرفاته تعتبر
تصرفات مريض يحكم عليها بما سيأتي ثم إذا عتق وتعدى مرحلة الخطورة فإن
تصرفاته تصرفات صحيحة.
يقول - رحمه الله -:
وآخر سِل.
السل مرض يصيب الرئة فيعطل عملها على الوجه المطلوب وقد يؤدي إلى تعطليه
كلياً.
والسل: آخره خطير. وأوله ليس بخطير.
بمعنى: أنه إن استمر ولم يعالج ووصل إلى مراحله الأخيرة فإنه يصبح حينئذ
مرضاً خطيراً مؤدياً إلى الوفاة.
أما إذا أصيب الإنسان بهذا المرض ثم أمكن العلاج في وقت مبكر فتصرفاته حين
كان مريضاً في أوله صحيحة وليست كتصرفات المريض مرضاً مخوفاً.
يقول - رحمه الله -:
والحمى المطبقة.
يعني: الحمى الدائمة التي تستمر ولا ترتفع عن بدن الإنسان.
وهذا المرض خطير بإجماع العقلاء، استمرار الحرارة خطير بإجماع العقلاء سواء
كانوا من الأطباء أو من غيرهم لأن استمرار ارتفاع حرارة الإنسان دليل واضح
على وجود الخلل الكبير في البدن.
فإن أمكن التحكم بالحرارة بتنزيلها كما هو المشهور الآن أية طريقة إما
بالتبريد أو بعلاج كيمائي فلا يعتبر من المرض المخوف.
وأما إذا حاولوا في المريض أن تنزل حرارته ولم يتمكنوا لأي سبب واستمر فإنه
كما قال الحنابلة يعتبر دخل مرحلة الخطر وتكون تصرفاته كتصرفات المريض
المخوف.
يقول - رحمه الله -:
والربع.
الربع هي الحرارة التي تأتي كل أربعة أيام وهي في الحقيقة نوع من دوام
الحرارة، إلا أنها ترتفع ثم ترجع ترتفع ثم ترجع في اليوم الرابع.
وهذه بالتجربة عند المتقدمين تؤدي إلى الهلاك إذا استمرت.
ثم لما انتهى من تعداد الأمراض المخوفة رجع إلى شيء أعم من تعداد الأمراض
المخوفة:
فقال - رحمه الله -:
وما قال طبيبان مسلمان عدلان.
اليوم لو أنا نقول: أن الضابط في اعتبار المرض مخوف أو غير مخوف هو حكم
الأطباء.
ولسنا بحاجة إلى تعداد الأمراض ولا يمكن أن
يستقل الإنسان باعتبار تصرفات هذا المريض من تصرفات المريض مرضاً مخوفاً
بمجرد معرفة اسم المرض بل يجب أن نرجع في وقتنا هذا بالذات إلى حاجة
الأطباء ونصدر عن قولهم هل هو: يعتبر مرضاً يؤدي إلى الوفاة أو مرض يمكن أن
عالج.
وذلك بسبب التقدم المهول للطب الحديث بما يكفي في كف صفة أو حالة المريض
بدقة وهل هو يعتبر في مرحلة حرجة وخطرة أو ليس كذلك.
فهذا السطر الأخير من كلام المؤلف - رحمه الله - ينبغي في وقتنا أن يعتمد
وأن لا ننظر إلى التسميات وإنما ننظر إلى شهادة الأطباء في كل [الأمراض]
بلا استثناء.
لكن نأتي إلى مناقشة كلام المؤلف
يقول - رحمه الله -:
وما قال طبيبان.
يعني:
= أن الحنابلة يرون أنه يشترط أن يشهد بذلك طبيبان فإن شهد طبيب فإنه لا
عبرة بشهادته.
وعللوا هذا:
- بأن هذه الشهادة تتعلق بحق الموصي والورثة وهو حق مالي فاحتجنا إلى شهادة
اثنين.
= والقول الثاني في المسألة: أنه يكتفى بشهادة الطبيب الواحد الثقة.
واستدلوا على هذا:
- بأن عمر - رضي الله عنه - لما طعن شهد له الطبيب بأنه لا أمل للبرء في
جرحه فأوصى عمر بناء على شهادة هذا الطبيب وقبل الصحابة وصية عمر المبنية
على شهادة الطبيب واعتبروها صحيحة ونافذة وهذا كالإجماع على أن شهادة
الطبيب الواحد تكفي.
فيما يظهر أن الراجح هو القول الثاني.
لكن لو قيل أن هذا يختلف باختلاف الأمراض فمثل جرح عمر - رضي الله عنه -
لما شرب اللبن وخرج مع العرق هذا لا يحتاج إلى دقة في الطب أنه مهلكة.
كذلك بعض الأمراض المعاصرة إذا وصلت إلى مراحلها الأخيرة لا تحتاج إلى طبيب
حاذق فاهم حتى يحكم أن هذا مريض مرض الموت.
لكن في بعض الأمراض تلمس اختلافاً بين الأطباء اختلافاً كبيراً جداً.
وأعرف حالة لأحد المرضى أخبره الطبيب أنه لا مجال للعلاج ولا يوجد أي أمل
في الشفاء وأن عليه أن يوصي وأن أيامه تتراوح بين عشرة أيام إلى أربعة عشر
يوماً.
ثم ذهب من هذا الطبيب إلى طبيب آخر وأعطاه دواء مركز صار من ثمار هذا
الدواء توازن بعض الأشياء .. المهم أن الرجل حي وإلى الآن موجود.
وهذا المثال الذي وقفت عليه بنفسي ينبئك عن
أنه في بعض الأمراض أنه يشترط أن يشهد اثنان من الأطباء أو ثلاثة حتى نتأكد
أن تصرفات هذا المريض فعلاً تحمل على تصرفات المريض مرضاً مخوفاً، ولا أظن
أن هذا المثال الذي ذكرت وحيد بل له أشباه ونظائر كثيرة.
لذلك نقول إذا كان المرض من الأمراض التي تختلف فيها وجهات النظر أو من
الأمراض التي يسارع الأطباء بالبحث عن علاج لها وقد يكتشف في مكان لا يعلمه
الطبيب الآخر حينئذ لابد من استشارة أكثر من طبيب حتى نحكم على تصرفاته
المالية بأنها تصرفات مريض مريضاً مخوفاً.
يقول - رحمه الله -:
مسلمان.
يعني: يشترط في الطبيب أن يكون من المسلمين ليكون عدلاً تقبل هذه الشهادة
منه.
= والقول الثاني: أنه لا يشترط إلا أن يكون ثقة عدلاً حاذقاً ولو لم يكن من
المسلمين.
بدليل:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ في الهجرة دليلاً من غير المسلمين،
فهذا يدل على جواز الاعتماد على قول الكافر الثقة.
وأظن أن هذا الخلاف اليوم محسوم عملياً فإن اليوم الاعتماد على خبر الطبيب
غير المسلم هو عمل الناس.
لاسيما وأنه يوجد عدداً من الأطباء غير المسلمين يكون عنده من الحذق
والمعرفة والخبرة ما لا يوجد عند بعض المسلمين، فلذلك استقر العمل الآن على
قبول شهادته وقوله وهذا هو الأقرب إن شاء الله.
يقول - رحمه الله -:
ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق ...
انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى نوع آخر من الأشخاص الذين يحكم على
تصرفاتهم بأنها تصرفات المريض مرضاً مخوفاً، إلا أنهم ليسوا بمرضى.
فهم في حكم المريض مرضاً مخوفاً، ولو لاحظت فستجد أن من وقع في بلده
الطاعون ومن أخذها الطلق ليست مريضة وليس مريضاً هو بحد ذاته ليس مريضاً.
وألحقوا بهذين المثالين:
ـ من حكم عليه بالقصاص، فإنه ليس مريضاً ولكنه يشبه المريض مرضاً مخوفاً.
ـ وألحقوا به: المقاتل عند التحام الصفين مع التساوي.
ـ وألحقوا به: من سقط من شاهق يموت منه غالباً.
وإذا تأملت فستجد أمثلة كثيرة لهذه الأشياء التي ذكرها الحنابلة.
دليل الحنابلة في إلحاق هذه الأشياء بمرض الموت:
- قالوا: أن الموت والعطب بهذه الأشياء
أكثر منه في المريض مرضاً مخوفاً فهي أولى بالحكم.
هذا الدليل لجملة الأشياء التي ذكرت وهي أمثلة ثلاثة أو أربعة.
لكن في المسألة خلاف نأخذ المسائل التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -:
الأولى:
قال - رحمه الله -:
ومن وقع الطاعون ببلده.
ذكرنا أن مذهب الحنابلة أن حكمه حكم المريض مرضاً مخوفاً وذكرنا تعليلهم.
= والقول الثاني: أن تصرفاته كتصرفات الصحيح.
- لأنه ليس بمريض بل صحيح معافى.
- ولأن الطاعون أصاب الشام في عهد الصحابة ولم ينقل أنهم أمروا من في الشام
بأن لا يتصرفوا إلا كما يتصرف المريض مرضاً مخوفاً.
والراجح بلا إشكال إن شاء الله الثاني.
المسألة الثانية:
قال - رحمه الله -:
ومن أخذها الطلق.
إذا أخذ المرأة الطلق فعرفنا مذهب الحنابلة ودليلهم.
= القول الثاني: أن تصرفاتها كتصرفات الصحيح، فلو تبرعت وهي تلد فتبرعها
صحيح.
والسبب في ذلك:
- أن الغالب على من أخذها الطلق السلامة وليس الموت فإلحاقها بالمريض مرضاً
مخوفاً فيه نظر ظاهر.
وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله.
يبقى بعض المسائل في الحقيقة من الأمثلة التي ذكرت قد تكون أقوى من الأمثلة
التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -.
ـ فالإنسان إذا قدم للقصاص:
= فمن الفقهاء كالحنابلة من ألحقه بالمريض مرضاً مخوفاً.
= ومنهم من قال: بل ربما عفا من له الحق في العفو قبل تنفيذ القصاص ولهذا
فنعتبر تصرفاته تصرفات الصحيح.
وفي الحقيقة المسألة هذه محتملة [ويغلب - ويقرب] عندي أنه إذا قدم للقصاص
فتصرفاته كتصرفات المريض، أما وهو في الحبس وينتظر القصاص فهذا تصرفاته
تصرفات الصحيح لأن الأمل في العفو كبير.
ـ بالنسبة لمن سقط من شاهق يغلب على الظن أنه يموت فتصرفاته وهو ساقط
كتصرفات المريض مرضاً مخوفاً. بل هو أولى من المريض مرضاً مخوفاً لأن نسبة
الموت من السقوط من شاهق مرتفع جداً تقرب من التسع وتسعين بالمائة، ولا
ينجو إلا شيء مخالف للعادة.
إذاً: الأمثلة التي ذكرها الفقهاء تختلف قوة وضعفاً.
فالأمثلة التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - ضعيفة وبعد الأمثلة التي ذكرت
القول بأنها تلحق بمرض الموت قول وجيه وقوي.
ما ذكر المؤلف - رحمه الله - حدود مرض
الخوف وأمثلته وضوابطه ذكر الحكم:
فقال - رحمه الله -:
لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث: إلاّ بإجازة الورثة لها إن
مات منه.
هذا الخلاصة والأهم.
وهي أن صرفات المريض مرضاً مخوفاً حكمها حكم الوصية فلا تنفذ للوارث ولا
بأكثر من الثلث للأجنبي.
فنعامل تصرفات المريض مرضاً مخوفاً كما نعامل وصيته تماماً حكمها حكم
الوصية.
وهذا كمعنى قول المؤلف - رحمه الله -: (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء).
وقوله: (ولا بما فوق الثلث: إلاّ بإجازة الورثة لها) أي: أن حكمها حكم
الوصية.
وسيأتي في الوصية تفصيل هذين الحكمين.
والذي يعنينا الآن أن تصرفات المريض حكمها حكم الوصية.
وهذا في الحقيقة يحتاج إلى دليل لأن هذا الرجل مسلم عاقل حي كيف نحكم على
تصرفاته بأنها ملغاة وأنها كتصرفاته في الوصية.
والجواب على هذا الإشكال:
أن هناك في الشرع أدلة واضحة وقوية تدل على هذا الحكم.
- الدليل الأول: والأقوى: أن رجلاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
يملك ستة أعبد فأعتقهم في مرضه المخوف فاستدعاهم النبي - صلى الله عليه
وسلم - وجزأهم فأعتق اثنين وأرق أربعه، وذلك بالقرعة.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - تعامل مع تصرف هذا المريض كما يتعامل مع
الوصية أنفذ الثلث ورد الباقي. وهذا الدليل في الصحيح وهو في الحقيقة عمدة
المسألة.
- الدليل الثاني: الذي يذكره الفقهاء كثيراً هو قوله - صلى الله عليه وسلم
-: (إن الله تصدق عليكم عند موتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) هذا
الحديث فيه ضعف لكن له شواهد كثيرة.
ويقوى بالحديث السابق فهو إن شاء الله صالح للاستدلال فهذان دليلان واضحان
على هذا الحكم المهم الذي يتعلق بتصرفات المريض مرضاً مخوفاً.
يقول - رحمه الله -:
إذا مات منه وإن عوفي فكصحيح.
يعني أن هذا الحكم إنما هو إذا استمر به المرض إلى أن مات فحكمه حكم
الوصية.
أما إذا عوفي ولو كان أصيب بمرض مخوفٍ بالإجماع ثم عوفي فإن تصرفاته تكون
صحيحة وتكون من رأس المال لا من الثلث.
وذلك: - لأن تصرفه لم يصادف مانعاً شرعياً فصح ولزم.
فإذا قال الأب في مرضه المخوف لزوجتي
العمارة الفلانية فحكم تصرفه الآن وهو في مرض الموت المخوف حكم الوصية.
والوصية لوارث لا تجوز إلا بإجازة الورثة لكن لو عوفي بعد هذا المرض وشفاه
الله برحمته فإن هذا البيت يكون ملك للزوجة.
لأن هذا التصرف تصرف صحيح.
وهذا واضح.
مسألة أخرى: لو تصرف الإنسان تصرفاً مالياً في مرض غير مخوف ثم مات من هذا
المرض فإن تصرفه صحيح من رأس المال ولا يعامل كما تعامل الوصية.
إذاً: ينحصر الحكم في شخص واحد وهو من أصيب بمرض مخوف واستمر معه إلى أن
مات، لابد من هذين الشرطين: ـ أن يصاب بمرض مخوف ـ وأن يستمر المرض إلى
الموت، وهذا معنى قول المؤلف - رحمه الله - إذا مات منه)، يعني إذا استمر
إلى الموت.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى نوع آخر من الأمراض.
فقال - رحمه الله -:
ومن امتد مرضه بجذام أو سل أو فالج ولم يقطعه بفراش: فمن كل ماله والعكس
بالعكس ..
المؤلف - رحمه الله - يريد أن يتكلم عن الأمراض الممتدة فالأمراض الممتدة
يعني: التي تطول مع صاحبها وتبقى معه زمناً طويلاً.
حكمها: = عند الحنابلة: أنها إن ألزمته الفراش فتصرفاته كتصرفات المريض
مرضاً مخوفاً.
وإن لم تلزمه الفراش فتصرفاته كتصرفات الصحيح.
هذا هو التفصيل عند الحنابلة.
الدليل:
- قالوا: الدليل على هذا أن المرض الممتد إذا ألزم صاحبه الفراش فإن الغالب
منه الموت فأخذ حكم المريض مرضاً مخوفاً.
ومثل الحنابلة على هذا: بالأمراض التي ذكر.
(كالجذام)، لو ألزم صاحبه الفراش، فإن الجذام من حيث الأصل لا يعتبر مرضاً
مخوفاً لكن لما ألزم صاحبه الفراش عاملناه كما نعامل المرض المخوف.
(أو سل) في ابتدائه لأنه في انتهائه يعتبر مخوفاً.
(أو فالج) في آخره لا في ابتدائه لأنه في ابتدائه يعتبر مرضاً مخوفاً ولو
لم يلزم الفراش.
إذاً هذه الأمثلة التي مثل بها المؤلف - رحمه الله - كأنه يقول: إذا أصيب
الإنسان بمرض غير مخوف وامتد وألزمه الفراش بهذه الضوابط الثلاثة: فإنه
يعامل معاملة المريض مرضاً مخوفاً.
وتقدم دليلهم.
= القول الثاني: أن المرض الممتد إذا ألزم صاحبه الفراش فإنه لا يعتبر حكمه
حكم المريض مرضاً مخوفاً.
- أنه لا يغلب في مثل حالتهم الهلاك، هذا
أولاً.
- ثانياً: أنا نجد الرجل الهرم الكبير يلزم الفراش ويبقى سنين في الفراش
ولا نعتبره مرضاً مخوفاً.
وهذا القول الثاني هو الصواب وعليه العمل.
فإن الناس لا يتعاملون مع المريض الذي لزم الفراش بسبب شدة المرض أن
تصرفاته تصرفات المريض مرضاً مخوفاً.
فالإنسان إذا أصيب بشلل مثلاً ولزم الفراش مع أن تصوره ومعرفته وعبادته
كاملة، إنما أصيب بشلل بالأعضاء وألزمه الفراش عند الحنابلة يجب أن نعامله
معاملة المريض مرضاً مخوفاً وعلى القول الثاني وهو الصواب أنه يعامل معاملة
الأصحاء من حيث التصرفات المالية.
ثم قال - رحمه الله -:
ويعتبر الثلث عند موته.
يعني: أن المعتبر في كون العطية الثلث أو أقل أو أكثر هو عند الموت.
فإن أوصى بمال هو النصف حين الوصية ثم أصبح الثلث عند الموت فيعتبر الثلث.
وإن أوصى بوصية هي الثلث عند الوصية ثم أصبحت النصف عند الموت فهي النصف
وترد إلى الثلث.
إذاً المعتبر حال الموت.
إذاً: لا نعتبر لا حال التبرع ولا الحال التي قبل الموت وإنما نعتبر حال
الموت.
وذلك لأنه في هذه الحال - حال الموت - ينتقل المال إلى الورثة أو المعطى.
قال - رحمه الله -:
ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويبدأ بالأول فالأول في العطية ...
لما بين المؤلف - رحمه الله - أن العطية في مرض الموت حكمها حكم الوصية
أراد أن يبين الآن الفروق التي بين الوصية والعطية في مرض الموت.
وكأنه يقول: إن العطية في مرض الموت وإن شابهت الوصية في كثير من الأحكام
إلا أنها تختلف عنها في باقي الأحكام فليست تتساوى معها تماماًَ بل تشبهها
في شيء وتفارقها في شيء.
يقول - رحمه الله –
مبيناً الفرق الأول:
ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويبدأ بالأول فالأول في العطية.
هذا هو الفرق الأول: في العطية نبدأ بالأول فالأول وفي الوصية نساوي بين
الجميع المتقدم والمتأخر.
والسبب في ذلك: - أن العطية تلزم حين صدورها فتصبح لازمه، أما الوصية فهي
تبرع مضاف لما بعد الموت فيقع جملة واحدة فيتساوى أصحابه.
مثال هذا: إذا أوصى لزيد ألف ولعمرو بألف
ولخالد بألف ثم مات. الوصية الأولى في السنة الأولى والوصية الثانية في
السنة العاشرة والوصية الثالثة في السنة العشرين من حياته فالآن هل نعامل
هؤلاء الثلاثة معاملة واحدة ويتحاصون أو نقدم الأول فالذي يليه.؟ معامله
واحدة.
المثال الآخر: إذا أعطى في مرضه المخوف زيد ألف ثم بعد يوم أعطى خالداً ألف
ثم بعد يوم أعطى زيدا ألفاً ثم مات كم الآن مجموع العطايا؟ ثلاثة آلاف. لما
بحثنا في تركته وجدنا أن الثلث ألف فهل نقسم الألف بين الثلاثة أو نعطيها
الأول؟ نعطيه الأول. والثاني والثالث؟ يسقطان.
وهذا فارق جوهري وكبير بين العطية التي في حكم الوصية والوصية.
ولهذا بدأ به المؤلف - رحمه الله -.
ثم قال - رحمه الله -:
في الفرق الثاني:
ولا يملك الرجوع فيها.
يعني: لا يملك الرجوع في العطية بينما يملك الرجوع في الوصية.
ـ أما العطية فلأنها لازمة كما تقدم معنا، فلا يملك الرجوع فيها.
ـ وأما الوصية فسيأتينا أنه يجوز الرجوع فيها قولاً واحداً، وهذا فارق
أساسي بينهما.
يقول - رحمه الله -:
ويعتبر القبول لها عند وجودها.
يعني: يعتبر القبول للعطية عند وجودها بينما يعتبر القبول للوصية بعد
الموت.
فقبوله أو رده أي الموصى إليه قبل الموت لا عبرة به بينما في العطية وإن
كانت حكمها حكم الوصية إلا أن القبول يعتبر قبل الموت وذلك لأن العطية
تمليك في الحياة والوصية تمليك بعد الممات.
فهذا هو الفرق بينهما فقبول هذه يكون في الحياة وقبول تلك يكون بعد الممات.
يقول - رحمه الله –
في الفارق الأخير:
ويثبت الملك إذاً.
يعني: يثبت الملك في العطية من حين القبول وهو في أثناء الحياة ويثبت الملك
في الوصية بالقبول بعد الموت.
ولهذا نقول: إذا أعطى عطية في مرض الموت المخوف وقبل المعطى فإن العطية وما
يترتب عليها من نماء منفصل أو متصل كله للمعطى من حين القبول في الحياة
لأنه تملكها من ذلك الحين بشرط أن تخرج من الثلث.
لأن العطية في مرض الموت المخوف حكمها حكم الوصية والوصية لا تخرج إلا من
الثلث.
فهذه أربعة أشياء تختلف فيها العطية مرض الموت عن الوصية وهي فروق مهمة
جداً ومؤثرة.
وبهذا ولله الحمد نكون انتهينا من كتاب
الوقف وننتقل إلى كتاب الوصايا.
|