شرح زاد
المستقنع للخليل كتاب النفقات
الدرس (1) من النفقات
قوله كتاب النفقات جمع نفقة , والنفقة اسم بمعنى الإنفاق وإنفاق المال في
لغة العرب / يعني صرفه وصرفه يعني إهلاكه فيما يراد الانتفاع به وسميت
النفقة نفقة لأنها مشتقة من النفوق وهو الهلاك. وجه التسمية أنّ الإنسان
أنفق ماله فقد أهلكه.
وأما في الشرع / فإنّ النفقة كفاية من يمونه كسوة وسكنا وأكلا وشربا. هذه
أصول النفقة وسيأتينا أشياء أخرى قد تخرج عن مسمى السكن والكسوة والطعام
والشراب لكن أصول النفقة ترجع إلى هذه الأشياء.
والنفقة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع ولم يختلفوا فيها ولله الحمد.
فمن الكتاب قوله تعالى {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما
آتاه الله} [الطلاق/7]
وأما من السنة فأحاديث منها حديث جابر - رضي الله عنه - فعليكم نفقتهن
وكسوتهن بالمعروف.
وأما الإجماع فهو محكي ولم يختلف الفقهاء في وجوبه في الجملة سيأتينا خلاف
في بعض المفردات لكن في الجملة هو محل إجماع.
يقول المؤلف - رحمه الله - (يلزم الزوج نفقة زوجته)
بدأ المؤلف بنفقة الزوجة لأنها آكد أنواع
النفقات ونفقة الزوجة تختص بأنها لا تسقط بالتقادم , يعني لو أنّ الإنسان
لم ينفق على زوجته لمدة يوم وشهر وسنة فإنّ النفقة لا تسقط بل تبقى في ذمته
بخلاف نفقة الأقارب فإنها تسقط بالتقادم فلو أنّ الإنسان لم ينفق على قريب
من أقاربه الذين يلزمهم أن ينفق عليهم لمدة سنة فبعد هذه السنة لا يجب عليه
أن يدفع له ما لم ينفقه ولا يبقى هذا أو هذه النفقة في ذمته. دليل التفريق
أنّ النفقة على الزوجة من باب المعاوضة , بينما النفقة على الأقارب من باب
الصلة والإحسان ومن هنا افترقا , وهذا يدل على تأكد نفقة الزوجة.
يقول المؤلف - رحمه الله - (يلزم الزوج نفقة زوجته)
وجوب نفقة الزوجة محل إجماع يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - خذي ما
يكفيك وولدك بالمعروف ... وحديث جابر السابق عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف
... فلا شك أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته لاشك في هذا وهو محل إجماع
وتدل عليه النصوص.
يقول - رحمه الله - (قوتا وكسوة وسكناها بما يصلح لمثلها)
قوله قوتاً إلى آخره في هذه العبارة دليل على أنّ الحنابلة يرون أنّ النفقة
تقدر بالمعروف يعني يجب عليه أن ينفق عليها كفايتها بالمعروف واستدلوا على
ذلك بالحديث السابق وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف ... فدل على أنه يجب على الزوج يدفع كفاية الزوجة بالمعروف يدفع
ما يكفيها بالمعروف.
والقول الثاني: أنّ نفقة الزوجة مقدرة تقديرا وليست كفاية بالمعروف.
وقدّروها بتقديرات منها ثلاثة أرطال من الخبز واستدلوا على هذا بأن هذا
القدر مذكور في الكفارات فنقيس عليها النفقة , والراجح المذهب الأول بلا
إشكال إن شاء الله وهو أنه مقدرة بالكفاية وليست مقدرة بقدر محدد إذا ليس
في النصوص أبدا ما يدل على أنّ نفقة الزوجة مقدرة بشيء محدد. وكل حديث فيه
تقدير نفقة الزوجة بقدر محدد فهو ضعيف.
قال - رحمه الله - (ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع فيفرض للموسرة
تحت الموسر قدر كفايتها ..... إلى آخره)
لما قرر المؤلف أنّ الواجب على الزوج أن
ينفق على زوجته قد كفايتها بالمعروف انتقل إلى بيان هل المعتبر بقدر
الكفاية بالمعروف حال الزوج أو حال الزوجة؟ وقبل أن ذكر الخلاف في هذه
المسألة نذكر تحرير محل النزاع.
إذا كان كل من الزوجين موسرا أو كان كل من الزوجين معسرا , فلا خلاف أنه في
الحالة الأولى نفقة موسر وفي الحالة الثانية نفقة معسر لأنه لا يختلف حال
الزوجة عن حال الزوج. لكن الخلاف إذا كان أحد الزوجين موسرا والآخر معسرا!!
في هذا خلاف اختلفوا في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: وهو المذهب أنّ المعتبر حال الزوجين معا فإذا كان أحدهما
موسرا والآخر معسرا فنأخذ بالوسط واستدل الحنابلة على هذا الحكم بالجمع بين
أدلة القول الثاني والثالث التي ستأتينا.
القول الثاني: أنّ المعتبر حال المرأة بناء عليه إذا كانت المرأة موسرة
والزوج فقير فيجب عليه أن ينفق عليها النفقة التي تصلح للموسرين لأنّ
الاعتبار بحال الزوجة واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -
خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ... فعلق الكفاية بالمرأة.
والقول الثالث: أنّ المعتبر حال الزوج واستدلوا على هذا القول بالآية
الكريمة السابقة {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه
الله} [الطلاق/7] الآية كأنها نص في أنّ المعتبر حال ماذا؟ فهو يقول انفق
إن كنت موسرا من إيسارك وإن كنت فقيرا بحسب مقدرتك لا يكلف الله نفسا إلاّ
ما أتاها.
ولهذا الراجح والله أعلم القول الأخير , وهو أنّ المعتبر حال الزوج لأنه هو
المنفق , ويليه في القوة المذهب , وأضعف الأقوال القول الثاني. لما قرر
المؤلف قاعدة وهو أنه للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها وتقدم معنا أنّ هذا
محل إجماع أنّ للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها أراد أن يذكر أحكاما هي في
الواقع من باب التمثيل.
فيقول - رحمه الله - (لها من أرفع خبز البلد وأدمه ولحما عادة الموسرين
بمحلهما)
يعني أنها تأكل من أرفع ما يأكل أهل البلد
فمثلا اليوم الخبز ليس من أرفع ما يأكل أهل البلد , وإن كان اللحم الذي
يسمونه سيد الطعام يعتبر من أرفع الأطعمة في كل زمان ومكان لكن الخبز قد
يعتبر من أرفع الأطعمة في زمان دون زمان. والمقصود الآن أنّ الموسرة تطعم
بما يتناسب وضعها من الإيسار وبما يتناسب مع وضع الزوج.
طيب إذا كانت الزوجة موسرة والزوج موسر لكنها أغنى منه بكثير فسينفق
باعتبار حال من؟ حال الزوج إذا نستطيع أن نقول على القول الراجح دائما
المعتبر حال الزوج. وظاهر كلام الفقهاء أنه إذا كان الزوج موسر والزوجة
موسرة فإنه لا يجوز للزوج أن ينفق نفقة فقير وهذا صحيح ويظهر لي أنه محل
إجماع فإذا وجد زوج عنده مال وهو موسر وأنفق نفقة فقير فهو آثم ولها أن
تطالبه بالفرق بين النفقتين في المحاكم الشرعية لأنّ الواجب عليه أن ينفق
نفقة موس.
(ما يلبس مثلها من حرير وغيره) لأنّ الحرير يعتبر من أفخر الثياب وأغلاها
ثمنا.
(للنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة) لأنها كذلك تعتبر في وقتهم من أفخر أنواع
الفرش التي تتخذ للجلوس والنوم وهذه الأمور أمثلة تختلف اختلافا بيّنا
كثيرا جدا من إلى زمان ومن مكان إلى مكان.
ويقول (وللجلوس حصير جيد وزلي)
الفرق بين الحصير والزل , من جهة المادة والحجم فكل منهما سجاد إلاّ أنّ
الحصير صغير ومنخوس أو من مادة صلبة نباتية.
وأما الزل فإنه كبير ويكون من القطن ونحوه وإلاّ كل منهما يعتبر بساط.
ثم - قال رحمه الله - (وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدم يلائمه)
ما يناسب حال الزوج من الفقر فلها من أدنى خبز البلد وأدم يلائمه يعني تجمع
بين الخبز الذي يعتبر من أدنى أنواع الخبز في البلد وأيضا الإدام الذي
يؤتدم به هذا الخبز يكون مما يلائم هذا الخبز. وإذا كان الخبز من أدنى
أنواع الخبز في البلد فسيكون الإدام أيضا من أدنى أنواع الأدم في البلد.
(ما يلبس مثلها ويجلس عليه)
تقدم معنا أنّ الاعتبار دائما بحال الزوج
فهو يقول وما يلبس مثلها وما يجلس عليه فإذا كانت هي فقيرة جدا وهو فقير
فقط فعليه أن يلبسها لباس الفقير لا لباس الفقير جدا , ففي الحقيقة لو قال
(وما يُلبس مثله) لكان أقرب إلى القول الراجح.
ثم - قال رحمه الله - (وللمتوسطة مع المتوسط ... ما بين ذلك)
وهذا صحيح
ثم - قال رحمه الله - (والغنية مع الفقير وعكسها .. ما بين ذلك)
وهي محل النزاع والاختلاف كذلك هي عند الحنابلة لها ما بين ذلك وتقدم معنا
أنّ مذهب الحنابلة إذا اختلف الزوج عن الزوجة في الفقر والغنى فيرون أنه
يطعمها الوسط , فإذا كان هو فقير وهي غنية فسيطعمها الوسط وكلما كانت هي
غنية كلما كان الوسط شاق على من؟ الزوج وبهذا نكون كلفنا الزوج ما لا طاقة
به , هو فقير فكيف نلزمه أن ينفق عليها نفقة متوسط الأغنياء , لأنه المتوسط
سيكون بينها إذا كانت غنية جدا وهو فقير المتوسط سيكون متوسط الأغنياء ,
وأيضا في المقابل إذا كانت هي فقيرة جدا وهو غني جدا فله أن يسكنها وأن
يطعمها وأن يكسوها في المتوسط فسينفق عليها نفقة لا تتناسب مع وضعه المادي
وفي هذا نوع من الظلم لها.
وهذا كله يبيّن أنّ هذا القول فيه ضعف.
قال - رحمه الله - (وعليه مؤنة نظافة زوجته)
فعليه أن يأتي بكل أداة تساعد على النظافة من صابون أو أدوات للتنظيف
والدلك أو ما يغسل به الرأس أو الجسد إلى آخره ,تعليل ذلك أنّ أدوات
النظافة من النفقة بالمعروف فعليه أن يجلب لها هذا الذي هو من نفقة
المعروف.
قال - رحمه الله - (دون خادمها)
أي لا يلزمه نفقة نظافة الخادم لأنّ الخادم لا يراد للزينة والنظافة وإنما
يراد للعمل بخلاف الزوجة فإنها تتخذ للزينة والنظافة. تحدث المؤلف عن نفقة
نظافة الخادم لكنه لم يتحدث عن نفقة الخادم. فالحنابلة يرون أنه يجب على
الزوج أن ينفق على خادم الزوجة وهذه مسألة تختلف عن مسألة هل يجب على الزوج
أن يحضر خادم للزوجة لكن إذا وجد الخادم فإنّ على الزوج أن ينفق عليها.
نأتي إلى مسألة تأمين الخادم للزوجة. ذهب
الحنابلة بلا نزاع إلى أنه إذا كانت الزوجة مثلها يخدم فإنه يجب على الزوج
أن يحضر خادما للزوجة واستدلوا على هذا بأنّ هذا من جملة النفقة بالمعروف
لأنّ مثلها يخدم والزوج قادر فعليه أن يخدمها.
والقول الثاني: أنه لا يجب عليه أن يخدمها , وأنتم تعلمون أن هذه المسألة
مفروضة فيما إذا كانت الزوجة مثلها يخدم والزوج قادر على إحضار الخادم أي
القولين أرجح؟ هل يجب عليه أن يخدمها؟ في الحقيقة يبدو لي أنه يجب عليه أن
يحضر بهذين الشرطين. لاحظ يعني لا تكون الزوجة في بيتها ولا يخدم مثلها
وإنما تشتغل طيلة النهار ثم إذا جاءت إلى الزوج قالت أريد خادمة لكن إذا
كان مثلها يخدم عادة من بنات الأشراف التي يخدم مثلها وهو يتمكن من إحضار
الخادم فالقول وجوبه ليس ببعيد عن نصوص النفقة بالمعروف.
وجوب إحضار الخادم يقول عنه المرداوي ليس فيه خلاف أعلمه , أو لا أعلم فيه
خلافا. وعادة يعبر بقوله بلا نزاع يعني في المذهب في هذه المسألة عبر بهذا
التعبير لا أعلم فيه خلافا فلعله يقصد الخلاف العالي لأنه بدل عبارته
المعتادة لعله يقصد هذا الأمر.
يقول المؤلف - رحمه الله - (لا دواء وأجرة طبيب)
يعني أنه لا يجب على الزوج أن يدفع أجرة الطبيب ولا قيمة الدواء وإلى هذا
ذهب الجمهور واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
واستدلوا بدليلين: الأول" أنّ هذه النفقة ليست نفقة معتادة فلا تدخل في
النفقة بالمعروف.
الثاني: وهو دليل شيخ الإسلام أنّ التداوي ليس واجبا بل غاية ما هنالك أنه
مباح.
القول الثاني: أنه يجب على الزوج أن ينفق في علاج زوجته وقيمة الدواء ما
كان يسيرا معتادا دون ما كان كثيرا خارجا عن العادة وإلى هذا القول ذهب
شيخنا محمد العثيمين - رحمه الله - ولا أدري هل سبق أو لا لم أقف على أحد
سبقه إلى هذا القول ولعله يريد أن يجمع بين الأقوال.
القول الثالث: وهو لبعض المعاصرين أيضا أنه يجب على الزوج نفقة العلاج
والدواء إذا كان غنيا وهي فقيرة. واستدل على هذا بأنّ تركها وهي فقيرة لا
تستطيع أن تنفق على نفسها ليس من العشرة بالمعروف.
الإشكال في هذه المسألة أنّ عامة المتقدمين
على عدم الوجوب ولذلك تلاحظ أنّ الإنسان يحكي خلاف عن المعاصرين والمتأخرين
لا يكاد يجد خلافا عند المتقدمين ومن هنا صار في هذه المسألة إشكال كبير في
الحقيقة ولو أردنا أن نرجح فسنجد إذا أردنا أن نتجاوز قضية عدم وجود خلاف
عند المتقدمين ونرجح بين الأقوال فسنجد أنّ أقرب الأقوال ما اختاره شيخنا
وهو قول وجيه جدا وقوي وسديد يتوافق مع أصول الشرع. إذا كان مبلغ العلاج
كبير خرج عن المعروف ولم يلزم به الزوج وإذا كان يسيرا فليس من العشرة
بالمعروف أن يتركها تتألم وهو يستطيع لزهادة ثمن الدواء أو أجرة الطبيب لو
أردنا أن نرجح لكان هذا القول أرجح الأقوال لكن يشكل على المسألة برمتها
عدم وجود الخلاف فإذا وجد خلاف فهذا هو الراجح وإذا كانت المسألة إجماع ولا
يوجد خلاف بين المتقدمين فالراجح ما ذهبوا إليه وهو عدم وجوب النفقة مطلقا.
الدرس: (2) من النفقات
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف - رحمه الله -:
فصل
لما قرر المؤلف وجوب نفقة الزوجة عقد هذا الفصل ليبيّن أنواع خاصة من
الزوجات وهي الرجعية والبائن والمتوفى عنها. كما أنه عقد هذا الفصل ليبيّن
مسقطات النفقة فهو فصل في الحقيقة مفيد ومهم في باب النفقات.
يقول المؤلف - رحمه الله - (ونفقة المطلقة الرجعية , وكسوتها , وسكناها
كالزوجة , ولا قسم لها)
الرجعية هي الزوجة التي يملك الزوج أن يردها إلى النكاح بلا رضا ولا عقد
جديدين فهذه الرجعية لها النفقة كاملة كما في الزوجة يعني كنفقت الزوجة
والدليل على ذلك قوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة/228] ووجه
الاستدلال أنه تعالى سماه بعلا وإذا سماه بعلا فهي زوجة , والزوجة في الشرع
لها النفقة.
ثم - قال رحمه الله - (ولا قسم لها)
تقدم لنا في باب الرجعة أنّ الرجعية زوجة
في كل شيء إلاّ أنه لا قسم لها والسبب في ذلك أنها مطلقة وإذا طلقت سقط
حقها فالمبيت وقد تقدم معنا هذا في كتاب النكاح.
قال - رحمه الله - (والبائن بفسخ , أو طلاق لها ذلك إن كانت حاملا)
قوله والبائن يشمل البينونة الكبرى والبينونة الصغرى فإذا كانت بائنة
بينونة كبرى كمن طلق ثلاثا , أو صغرى كالمخالعة فإنها كما قال المؤلف -
رحمه الله - لها ذلك إن كانت حاملا. البائن بفسخ أو طلاق مثلنا على الفسخ
ومثلنا على الطلاق الثلاث والفسخ كالمخالعة على القول بأنّ الخلع فسخ أو
المخالعة بسبب عيب ونحوه. هذه الزوجة لها النفقة إن كانت حاملا بالإجماع
لقوله تعالى {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق/6]
والآية صريحة في وجوب النفقة على الحامل.
مسألة / فإن كانت البائن حائلا وليست حاملا فمفهوم عبارة المؤلف أنه لا
نفقة لها ولا سكنى وهذا مذهب الحنابلة وهو القول الأول في المسألة أنه لا
نفقة لها ولا سكنى فإذا كانت بائنة من غير حمل , واستدل الحنابلة بدليلين:
الأول: حديث فاطمة بنت قيس فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتاها لما
طلقت ثلاثا أنه لا نفقة لها ولا سكنى.
الدليل الثاني: أنها بعد الطلاق أصبحت أجنبية عنه والأجنبية لا نفقة لها.
القول الثاني: أنّ لها النفقة والسكنى , واستدل هؤلاء أيضا بدليلين:
الأول: قوله تعالى {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة} [الطلاق/1]
الثاني: صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يرى وجوب النفقة والسكنى
للمطلقة البائن ولم يقبل من فاطمة ما حدثت به وقال - رضي الله عنه - لا
نترك ظاهر كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت.
القول الثالث: أنّ لها السكنى دون النفقة. ودليل هؤلاء واضح وهو الجمع بين
أدلة القولين. والراجح بلا إشكال إن شاء الله المذهب لأنّ حديث فاطمة في
مسلم وليس للإنسان أن يترك هذا الحديث مهما كان ولو نقل خلافه عن عمر
فالمطلقة البائن بناء على هذا لا نفقة لها ولا سكنى.
ثم - قال رحمه الله - (والنفقة للحمل لا لها من أجله)
لما قرر المؤلف - رحمه الله - أنّ البائن
لها النفقة إذا كانت حاملا بيّن مسألة أخرى وهي هل هذه النفقة للحمل أو لها
من أجل الحمل فالمذهب كما ترى أنه للحمل. واستدلوا على هذا بأنّ النفقة
تثبت بوجود الحمل وتنتفي بعدمه فدل ذلك على أنّ النفقة له.
القول الثاني: أنّ النفقة لها من أجله واستدلوا بدليلين: الأول: الآية {وإن
كن أولات حمل فأنفقوا عليهن} [الطلاق/6] فأضاف النفقة إلى المرأة.
الثاني: أنّّ هذه النفقة تثبت في الإعسار والإيسار , فدل ذلك على أنّ
النفقة لها من أجله لا له.
القول الثالث: أنّ النفقة له ولها من أجله وهذا القول اختاره شيخ الإسلام
ولم أقف على دليله يغلب على الظن أنه أراد أن يجمع بين أدلة القولين. لهذا
الخلاف فروع وثمار كثيرة تنبني على الراجح في هذه المسألة نذكر مثالا واحدا
يدل على أهمية المسألة.
إذا حملت المرأة الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد من الرجل فإنه إذا كانت
النفقة للحمل فيجب أن ينفق عليها وإذا كانت النفقة للمرأة فإنه لا يجب أن
ينفق عليها لأنها ليست زوجة وإنما موطوءة بشبهة إذا هذه المسألة تبيّن أنه
يترتب على هذا الخلاف الفقهي آثار كثيرة.
الراجح المذهب وشيخ الإسلام قوله - رحمه الله - من حيث التفريع يتوافق مع
المذهب فنستطيع أن نقول أنه في الحقيقة لا فرق كبير بين اختيار شيخ الإسلام
وبين المذهب من حيث الثمرة لأنّ الشيخ - رحمه الله - ابن تيمية لما أراد أن
يمثل فإذا هو يمثل كما مثل الحنابلة فيقول في الموطوءة بشبهة أنه تجب
النفقة للحمل لا للموطوءة بشبهة بناء على هذا نستطيع أن نقرر قاعدة وهي [أن
نفقة الرجل على البائن الحامل هي من باب نفقة الرجل على ابنه وليست من باب
نفقة الرجل على زوجته] وإذا قررت هذه القاعدة استطعت أن تعرف جميع الفروع
التي تنبني على هذه المسألة المهمة.
ثم - قال رحمه الله - (ومن حبست ولو ظلما)
بدأ المؤلف في بيان الأسباب التي تسقط النفقة بها , وقد وضع شيخ الإسلام
ابن تيمية ضابطا عاما مفيدا لطالب العلم. وهو يقول [كل أمر تجب طاعة الزوج
فيه إذا عصته الزوجة سقطت نفقتها] وسيأتينا أنّ الأمثلة تقرر وتبيّن وتوضح
هذا الضابط الذي ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله -
يقول المؤلف - رحمه الله - ومن حبست ولو
ظلما)
حبست المرأة فإما أن تحبس ظلما أو تحبس بحق , فإن حبست بحق سقطت النفقة
بالإجماع. لأنّ سبب النفقة التمكين من الاستمتاع وقد فات بحبسها.
ثانيا" إذا حبست ظلما على المذهب كذلك , تسقط النفقة لأنه وإن حبست ظلما
إلاّ أنّ الزوج لا علاقة له بفوات الاستمتاع ولا سبب منه في سقوطه.
والقول الثاني: أنه إذا حبست ظلما فإنّ النفقة تبقى ولا تسقط , لأنّ المرأة
لم تتمكن من تقديم حق الزوج الواجب بعذر خارج عن قدرتها كما لو أنها مرضت
فإنها إذا مرضت فإنّ الأئمة الأربعة يتفقون على أنّ النفقة لا تسقط بالمرض
مع أنّ المريضة لا يتمكن الزوج من الاستمتاع بها فكذلك إذا حبست ظلما وهذا
القول الثاني أقرب إن شاء الله.
ثم - قال رحمه الله - (أو نشزت)
تقدم معنا في آخر كتاب النكاح قبل باب الخلع الفصل المتعلق بالنشوز والكلام
عن حد النشوز وبماذا تصبح المرأة ناشز الذي يعنينا الآن أنّ المرأة إذا
حكمنا عليها شرعا أنها ناشز سقطت النفقة لأنها امتنعت عن تقديم الحق الواجب
فسقطت نفقتها.
والقول الثاني: أنّ الناشز تبقى نفقتها ولو نشزت , وهو مذهب الظاهرية
واستدلوا على هذا القول بالعمومات فقالوا إنّ النصوص عامة لم تفرق بين
الناشز وغيرها. وهو نوع من الجمود الذي لا يوافق عليه عامة الفقهاء ابن حزم
فالراجح إن شاء الله مذهب الجماهير وهو سقوط النفقة إذا نشزت الزوجة.
ثم - قال رحمه الله - (أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج)
إذا تطوعت الزوجة بصوم أو حج فإما أن يكون بإذن الزوج أو بغير إذنه. فإن
كان بغير إذنه سقطت النفقة بلا إشكال لأنها بصيامها وحجها فوتت على الزوج
حقه في الاستمتاع , وإن كان بإذنه سقطت النفقة عند الحنابلة لأنّ الاستمتاع
فات وإن كان بإذن الزوج فهو محسن بالإذن ولكنه لم ينل حقه الشرعي. والراجح
أنه إذا كان بإذنه فإنّ النفقة لا تسقط لأنه أسقط حقه باختياره.
ثم - قال رحمه الله - (أو أحرمت بنذر حج أو صوم (
إذا أحرمت المرأة للوفاء بنذر حج أو صوم
فإنّ النفقة تسقط سواء أذن الزوج بالنذر أو لم يأذن والخلاف في هذه المسألة
قريب من الخلاف في المسألة السابقة. والراجح فيها كالراجح في المسألة
السابقة , وهو التفريق بين أن يكون بإذن الزوج أو بغير إذنه.
قال - رحمه الله - (أو صامت عن كفارة)
إذا صامت المرأة عن كفارة فإنّ حقها في النفقة يسقط لأنّ وجوب الكفارة إنما
كان بسبب من الزوجة فصارت هي المتسببة في فوات حق الزوج من الاستمتاع فسقطت
النفقة لذلك على هذا عامة أهل العلم.
والقول الثاني: أنه لا تسقط نفقة الزوجة بأداء الكفارة لأنه من المعتاد أن
يقع الإنسان في الخطأ ويحتاج إلى أن يكفر وهي حال التكفير تؤدي حقا واجبا
لله , وهذا القول ذهب إليه شيخنا - رحمه الله - ولا أدري هل سبق إلى هذا
القول أو لم يسبق لأني بحثت عن سابق له بحثا غير مطول ولم أجد فإن كان سبق
الشيخ فهو قول محرر وكل ابن آدم خطاء وإنما انشغلت بأداء كفارة أداء للواجب
فهو قول وجيه وإن كان لم يسبق فمعلوم أنه إذا كانت المسألة محل اتفاق فإنه
يتعيّن أن تسقط النفقة بسبب أداء الكفارة.
ثم - قال رحمه الله - (أو قضاء رمضان مع سعة وقته)
إذا أرادت المرأة أن تقضي رمضان مع وجود سعة في الوقت بحيث تتمكن من قضاء
هذا اليوم في يوم آخر ومع ذلك أقدمت على قضائه فإنّ النفقة تسقط. لما تقدم
من فوات حق الزوج بالاستمتاع مع تمكن المرأة من قضاء الواجب عليها في يوم
آخر.
والقول الثاني: أنّ المرأة إذا صامت صياما
واجبا كقضاء رمضان فإنّ النفقة لا تسقط ولو مع سعة الوقت لأنّ المسلم مأمور
بالمبادرة بإبراء ذمته , والراجح ...... الذي يظهر لي أنه تسقط النفقة إذا
قال الزوج لزوجته أو إذا أمرها أن تقضي يوما من رمضان في يوم آخر غير الذي
أرادت هي أن تقضيه وأبت وصامت فإنّ النفقة تسقط. يعني في ذلك اليوم لأنّ حق
الزوج واجب ومقدم والمبادرة في قضاء صيام رمضان نفل يعني المبادرة به نفل
وقد وسع الله الأمر بأن تقضي في أي وقت آخر ولذلك كانت عائشة يكون عليها
القضاء ولا تقضيه إلاّ قريب من رمضان الآخر وعللت ذلك بقولها لمكان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وعائشة امرأة فقيهة وتعرف تتعامل مع النصوص
تعاملا صحيحاً ولهذا عرفت أنّ حق الزوج مقدم على القضاء مادام فيه سعة.
قال - رحمه الله - (أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه سقطت)
إذا سافرت المرأة لحاجتها فإنّ النفقة تسقط ولو كان السفر بإذن الزوج لأنها
لما سافرت فوتت على الزوج حقه من الاستمتاع.
والقول الثاني: أنه إذا كان بإذنه فإنّ النفقة لا تسقط لأنه رضي هو بإسقاط
حقه وهذه المسألة تشبه المسائل السابقة التي نفرق فيها بين إذن الزوج وعدمه
والراجح فيها هو أنّ النفقة تسقط مادام بإذنه. فهم من كلام المؤلف أنها إذا
سافرت لحاجة الزوج لا لحاجتها فإنّ النفقة لا تسقط مطلقا لأنها سافرت في
حاجته ففوات الاستمتاع كان بسببه فتبقى النفقة كما هي ولا تسقط.
قال - رحمه الله - (ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها)
المتوفى عنها لا نفقة لها ولا سكنى إذا كانت حائلا بالإجماع , لأمرين: -
الأمر الأول" أنه بالموت سقط سبب وجوب النفقة وهو الاستمتاع. الأمر الثاني:
أنه بموت الزوج انتقل المال إلى الورثة , والورثة لا يجب عليهم أن ينفقوا
على الزوجة المتوفى عنها. إذا مات الزوج والزوجة حائل لا إشكال في سقوط
النفقة والسكنى.
مسألة/ إذا مات الزوج والزوجة حامل فترجع
المسألة إلى لمسألة السابقة هل النفقة على الحمل لها من أجله أو له؟ فإذا
قررنا أن النفقة له فإنّ النفقة تسقط لماذا؟ لأنه بموت الأب صار لهذا
الجنين مال ينفق عليه منه ولا يجب أن ننفق من التركة لأنّ التركة أصبحت
مالا موروثا للورثة. والورثة لا يجب عليهم أن ينفقوا على الحمل ولهذا مذهب
الحنابلة أنه لا نفقة لها لأنه يرون أنّ النفقة للحمل لا لها من أجله وهذا
القول الثاني أنه لها من أجله تجب النفقة وهؤلاء قاسوا المتوفى عنها على
الزوجة المفارقة في الحياة وتقدم معنا أنّ الزوجة المفارقة في الحياة تجب
لها النفقة أليس كذلك؟ والراجح المذهب وهو أنه لا يجب النفقة ولو كانت
حاملا , فإذا توفي الزوج والزوجة حامل وليس للزوج مال فنفقة الحمل على من؟
فنفقة الحمل على من تجب عليه نفقته بعد الولادة أليس كذلك؟ فننظر أي
الأقارب عليه نفقة هذا الحمل فنلزمه بالنفقة أثناء مدة الحمل وسيأتينا من
الأقارب يجب عليه أن ينفق.
قال - رحمه الله - (ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله)
للزوجة أن تأخذ نفقة كل يوم من أوله يعني من أول اليوم والمقصود بأول اليوم
عند الحنابلة ليس طلوع الفجر وإنما طلوع الشمس لأنه بطلوع الشمس تحتاج
المرأة إلى النفقة , وطلوع الشمس هو أول وقت الوجوب فيجب على الزوج أن يعطي
زوجته نفقة كل يوم بطلوع شمسه.
قال - رحمه الله - (ليس لها قيمتها ولا عليها أخذها)
يعني أنه لا يجب على المرأة أن تقبل القيمة إذا بذلها الزوج وليس على الزوج
أن يبذل القيمة إذا طلبتها الزوجة. يعني بعبارة أخرى لا يجب على كل من
الزوجين أخذ القيمة أو بذل القيمة بالنسبة للزوجة والزوج عند طلب أحدهما
لأنّ بذل القيمة إنما هو من أو المعاوضات لا تكون إلاّ بالرضا , فإذا قالت
الزوج أن تنفق علي طعاما وكسوة في كل يوم مائة ريال فأعطني مائة ريال نقدا
فهل يجب على الزوج أن يعطيها؟ لا يجب كذلك العكس. إذا قال هو أنا أنفق عليك
كل يوم مائة فسأعطيك المائة فإنه لا يجب عليها أن تقبلها لما تقدم من أنّ
المعاوضات يشترط فيها الرضا.
قال - رحمه الله - (فإن اتفقا عليه , أو على تأخيرها , أو تعجيلها مدة
طويلة أو قليلة جاز)
إذا اتفقا على أخذ القيمة أو على تأجيل
النفقة أو على تقسيطها أو على أي صفة فيها جاز. لأنّ الحق لا يخرج عنهما
فإذا رضي بشيء جاز فعله والنفقات إنما هي من باب المعاوضات وكل شيء من باب
المعاوضات فإنه يصح برضا الطرفين , ولهذا يقول فإن اتفقا عليه أي على أخذ
القيمة أو على التأخير أو على التأجيل سواء كان التأجيل مدة قليلة أو قصيرة
جاز مادام برضا الطرفين.
قال - رحمه الله - (ولها الكسوة كل عام مرة في أوله)
لها الكسوة في كل عام ثم بيّن وقت الوجوب وهو في أوله , فللزوجة أن تأخذ
الكسوة في أول كل عام علمنا من هذا أنّ المؤلف حين تحدث عن وجوب النفقة في
أول كل يوم فهو يتحدث عن ماذا؟ الطعام. والسكن أنه معلوم أنه من أول السنة.
أما الكسوة فليست في كل يوم لن يأتي لها بكسوة كل يوم وإنما في السنة مرة
واحدة ,استدل الحنابلة على هذا بأنه جرى العرف بوجوب النفقة في كل سنة مرة
واحدة وإنما عيّن الحنابلة أول السنة لأنه وقت والوجوب.
والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يعطيها كسوة الشتاء في أوله وكسوة الصيف في
أوله , ويظهر لي أنه لا فرق بين القولين لأنّ الذين يرون أنه يعطي الكسوة
في أول السنة يعني كسوة تصلح لكل السنة ولا يظهر أنّ مقصودهم أن يعطيها
كسوة تكفي للستة الأشهر الأولى التي تتسم مثلا ببرودة الجو دون الستة
الأشهر الأخيرة التي تتسم بحرارة الجو. فليس بين القولين فرق. والخلاصة من
هذا أنه يجب أن يعطيها كسوة الشتاء وكسوة الصيف.
قال - رحمه الله - (وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى)
يشير المؤلف بهذه العبارة وهي قوله وإذا غاب إلى آخره يشير إلى مسألة تحدثت
عنها الدرس السابق وهي أنّ نفقة الزوجة لا تسقط بالتقادم وأخذنا علة عدم
سقوط النفقة بالتقادم وهي أنّ سبب وجوب نفقة الزوجة هو المعاوضة. وإذا وجب
الشيء على سبيل المعاوضة فإنه لا يسقط بالتقادم بينما نفقة الأقارب إنما
وجبت على سبيل المواساة والصلة فهي تسقط بالتقادم تقدمت معنا هذه المسألة
فهو يشير المؤلف - رحمه الله - إليها بقوله (وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة
ما مضى)
قال - رحمه الله - (وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتا غرمها الوارث ما
أنفقته بعد موته)
إذا غاب الزوج وأنفقت الزوج من ماله سواء
استطاعت أن تأخذ من ماله مباشرة أو اقترضت عليه فإنه إذا تبيّن أنّ الزوج
مات في مدة هذه النفقة فإنّ الورثة يرجعون على الزوجة ويأخذون ما أخذت من
مال زوجها الذي تبيّن أنه مات وعلة ذلك أنه بموته تبيّن أنها أخذت مالا لا
تستحقه لماذا؟ لأنه تقدم معنا أنه بموت الزوج تسقط النفقة فإذا تبيّن أنّ
الزوج مات فإنّ الورثة يرجعون على الزوجة بما أخذت من مال هذا الميت.
فصل
قال - رحمه الله - (ومن تسلم زوجته , أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ وجبت
نفقتها)
بيّن المؤلف أنّ النفقة تجب بشرطين. أي نفقة الزوجة: - الشرط الأول: أن
تبذل نفسها. الشرط الثاني: أن تكون هذه الزوجة مثلها يوطأ. نبدأ بالشرط
بالأول: الزوجة لا تستحق النفقة إلاّ إذا تسلمها الزوج تسلما حقيقيا أو
حكميا. والتسلم الحقيقي أن تذهب إلى بيته. والحكمي أن تبذل نفسها فإذا بذلت
نفسها استحقت النفقة سواء أخذها حقيقة أو بقيت في بيت أهلها مادامت الزوجة
بذلت نفسها فإنها تستحق النفقة بالشروط التي ستأتينا. وهذا أمر واضح وهو أن
يتسلم الزوج زوجته.
الثاني: أن تكون هذه الزوجة مما يوطأ مثلها , والزوجة التي يوطأ مثلها هي
بنت تسع.
والقول الثاني: أنّ الزوجة التي يوطأ مثلها تختلف باختلاف النساء فمن
النساء من يوطأ مثلها وإن كانت دون التسع ومنهن من لا يوطأ مثلها وإن كانت
بنت تسع وهذا يختلف بوضع المرأة وجسمها وملابسات أخرى وهذا القول الثاني
أنّ المرأة التي يوطأ مثلها يرجع في تحديدها إلى العرف ويرجع إلى طبيعة
المرأة اختيار العلامة المرداوي وهو الصحيح ولا نحدد هذا بسن معيّن بل نقول
ينظر إلى المرأة بحيث تنظر النساء التي لهن خبرة هل مثل هذه المرأة توطأ أو
لا توطأ. عرفنا الآن أنه يشترط لوجوب النفقة أن تكون الزوجة ما يوطأ مثلها
, في هذه المسألة يعني في اشتراط هذا الشرط خلاف.
فذهب الأئمة الأربعة إلى أنّ الزوجة وإن
استلمها الزوج إذا كان مثلها لا يوطأ فإنه لا يجب عليه النفقة. ولو كانت
مما يمكن أن يستأنس بها بالحديث أو تقوم بخدمته. يعني الأئمة الأربعة
يشترطون لوجوب النفقة أن يوطأ مثلها ولو كانت امرأة كبيرة يمكن أن يستأنس
بها الزوج بوجودها في البيت ويمكن أن تقوم بخدمته بإعداد الطعام وغسل
الثياب وتنظيف البيت وغيره من الأشياء ولو كانت هذه صفتها لا تجب لها
النفقة مادام مثلها لا يوطأ.
القول الثاني: أنه إذا كانت المرأة يمكن للزوج أن يستأنس بها بالحديث أو
بالخدمة فإنه يجب عليه أن ينفق عليها وإن كان لا يوطأ مثلها إذا سلمت نفسها
له. واختار هذا القول أبو يوسف من الأحناف.
والقول الثالث: أنّ المرأة إذا سلمت نفسها للزوج وتسلمها فإنه يجب أن ينفق
عليها مطلقا بلا شرط ولا قيد. والراجح مذهب أبي يوسف فإنّ كلامه في هذه
المسألة وجيه مادام الزوج أخذ زوجته إلى بيته وأمكن الانتفاع بها
بالاستئناس والخدمة فإنه ينفق عليها نظير الاستئناس والخدمة.
قال - رحمه الله - (ولو مع صغر زوج ومرضه وجبه وعنته)
يقول المؤلف ولو مع صغر زوج ..... إلى آخره إذا تحقق الشرطان سلمت الزوجة
للزوج وأمكن أن يطأها فإنه يجب عليه أن ينفق ولو لم يتمكن من الجماع لسبب
فيه , سواء كان هذا السبب مرض أو كان عنينا أو لأي سبب من الأسباب لأنّ
المرأة بذلت نفسها البذل الواجب وترك الاستمتاع بسبب الزوج فلا تسقط
النفقة.
مسألة / إذا تسلم الزوج زوجته بالشرطين السابقين فيجب أن ينفق ولو كانت لا
يمكن أن توطأ الآن لكونها حائض أو مريضة لأنّ البذل الواجب حصل وهذا السبب
سبب عارض وتقدم معنا أن الزوجة المريضة عند الأئمة الأربعة يجب على الزوج
أن ينفق عليها وإن لم يتمكن من الاستمتاع بها.
قال - رحمه الله - (ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال)
للمرأة أن تمتنع من الانتقال إلى بيت الزوج
حتى تقبض الصداق الحال يعني وتجب لها النفقة في هذه الحال لأنّ المؤلف لا
يتحدث عن مسألة استلام الزوجة أو تمكين الزوجة من نفسها أو عدمه إنما يتكلم
عن ماذا؟ عن النفقات أما مسألة تمكين الزوجة نفسها للزوج وانتقاله البيت
فتحدث عنها في موضع سابق بالتفصيل أين؟ تحدث في باب الصداق تحدث متى يجب أن
تسلم نفسها ومتى يجوز لها أن تمتنع هو لا يتحدث عن هذه المسألة هو يتحدث عن
النفقات. فالمرأة إذا جاز لها أن تمتنع من تسليم نفسها بسبب شرعي فإنّ
النفقة تجب في هذه الحال فهنا نقول إذا امتنع الزوج من تسليم الصداق الحال
فلها أن تمتنع ولها النفقة , السبب قالوا أنّ عدم الاستمتاع في هذه الصورة
هو في الحقيقة بسبب الزوج لأنه امتنع عن تسليم الصداق وليس بسبب الزوجة
لأنها امتنعت من الانتقال إلى بيت الزوج لأنها امتنعت بسبب امتناعه عن أداء
الواجب وهذا صحيح.
قال - رحمه الله - (فإن سلمت نفسها طوعا ثم أرادت المنع لم تملكه)
إذا سلمت المرأة نفسها طوعا يعني قبل أن
تقبض الصداق الحال فإنها بعد التسليم ليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها
للزوج , وليس لها أن تمتنع من الوطء بل يجب عليها أن تبقى وأن تمكنه فإنّ
امتنعت سقط حقها في النفقة لماذا؟ لأنها امتنعت عن تسليم نفسها امتناعا غير
شرعي قدرنا أو وضعنا ضابط في الأول أنها إذا امتنعت من تسليم نفسها امتناعا
شرعيا لم تسقط النفقة عكسه إذا امتنعت امتناعا غير شرعي فإنها تسقط نفقتها
, لكن تقدم معنا في باب الصداق أنّ المرأة إذا سلمت نفسها للزوج قبل أن
يسلم الصداق ضانة أنه سيبذل الصداق ثم امتنع عن بذل الصداق فإنّ لها أن
تمتنع من الوطء ولها أن ترجع إلى بيتها فعلى هذا القول الراجح إذا سلمت
نفسها ثم تبيّن لها أنه لن يبذل الصداق فلها أن ترجع والنفقة تسقط أو لا
تسقط؟ على هذا القول الثاني لا تسقط لأنه رجحنا هناك أنّ لها أن تمتنع
مادام امتنع عن أداء الصداق إذا هذه المسألة مبنية على هل الامتناع شرعي أو
ليس بشرعي؟ إذا قررت وقدرت أنه شرعي فلها النفقة وإلاّ فليس لها النفقة.
ومما يقوي وجوب النفقة إذا امتنعت أنّ المرأة إذا سلمت نفسها ومكنت الزوج
من الوطء فإنه بعد الوطء لن تتمكن من استرجاع ما بذلته أليس كذلك؟ ما هو
الذي بذلته؟ البكارة والبضع. وليس الذي بذلته التمكين من الوطء حتى نقول
ترجع ولا تمكنه من الوطء الذي بذلته هو البكارة وهذا لا يمكن أن ترجع به
ولهذا لها أن تمتنع حتى لا تفقد أمرا لا يمكن الرجوع فيه
ولهذا الراجح إن شاء الله كما تقدم لها أن تمتنع وتجب عليه النفقة
قال - رحمه الله - (وإذا أعسر بنفقة القوت , أو الكسوة , أو بعضها , أو
المسكن , فلها فسخ النكاح)
الزوج المعسر هو الزوج العاجز عن بذل الواجب عليه من نفقة الزوجة إذا صار
عاجزا حكمنا عليه أنه من المعسرين وترتبت عليه الأحكام التي ذكرها المؤلف.
يقول (وإذا أعسر بنفقة القوت والكسوة أو بعضها ...... إلى آخره
إذا أعسر الزوج فللمرأة الخيار بين الفسخ أو الصبر فلها الحق أن تفسخ ولها
الحق أن تصبر , واستدل الحنابلة على هذا بأمرين: -
الأول: أنّ المرأة إنما سلمت نفسها وبذلت المنفعة مقابل النفقة فإذا لم
يتمكن استحقت الفسخ.
الثاني: وهو الأقوى كان ينبغي أن نبدأ به ,
هو أنه صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أرسل لأمراء الأجناد أنّ
من كان من الجند له زوجة فإما أن يرسل بالنفقة أو يرسل بالطلاق , قال رضي
الله عنه وإذا أرسل بالطلاق فليرسل بنفقة ما مضى] فهذه الفتوى من عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - فيها أنّ الزوجة لها حق الطلاق إذا لم يتمكن من
النفقة.
الدليل الثالث: حديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أنفق
أو فارق - والصواب في هذا الحديث أنه موقوف ولا يصح مرفوعا إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - وإذا كان موقوفا فقد صح عن عمر وعن أبي هريرة ولا يعلم
لهما مخالف.
القول الثاني: أنّ المرأة لا تملك الفسخ بل تملك أن تستدين على الزوج أو
يرسلها لتكتسب ولا تملك الفسخ بل عليها أن تنظر الزوج واستدل هؤلاء بقوله
تعال {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة/280] وهذه الآية في الديون
والنفقات من جملة الديون.
القول الثالث: فيه تفصيل إذا دخلت الزوجة على الزوج وهي عالمة بعسره أو كان
موسرا فأعسر فإنها لا تملك الفسخ. وإن كان الزوج غرّها بإيهامه إياها أنه
موسر ثم تبيّن أنه معسر أو كان موسرا وامتنع عن النفقة فلها الفسخ استدل
أصحاب هذا القول بأنه إذا كانت الزوجة تعلم بإعساره فقد دخلت على بصيرة فلا
حق لها بالفسخ , وإذا كان موسرا ثم أعسر فإنه مازال الصحابة الواحد منهم
يصيبه العسر وقلة ذات اليد ولم ينقل أنّ زوجات الصحابة كن يطالبن بالفسخ.
كما أنّ عائشة - رضي الله عنها - وحفصة لما طلبا من النبي - صلى الله عليه
وسلم - النفقة همّ أبو بكر وعمر بضربهما مما يدل على أنّ المطالبة كانت غير
شرعية وأنه يجب على حفصة وعائشة الصبر وهذا القول اختاره العلامة ابن القيم
وهذا القول صحيح إلاّ أني لا أراه صحيحا في نقطة واحدة وهي إذا كان الزوج
موسرا ثم أعسر هذه النقطة الراجح فيها أنها تملك الفسخ وقول ابن القيم أنه
لم يعهد في الصحابة بل عهد فهذه فتوى عن عمر وعن أبي هريرة.
وأيضا ثبت في مراسيل ابن المسيب جواز فسخ
المرأة بالإعسار , ومراسيل سعيد من أقوى المراسيل ففي هذا الباب توجد آثار
عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فنحن لا نوافق ابن القيم على مسألة
إذا كان موسرا ثم أعسر أما باقي الذي ذكره فهو سديد
وقوي وفيه من التحرير والمتانة ما لا يخفى. فهو الراجح باستثناء مسألة إذا
كان موسرا ثم أعسر.
قال - رحمه الله - (لا في الماضي)
هذه العبارة وهي قوله [لا في الماضي] ليست في كل النسخ وإنما في بعضها
ومعنى هذه العبارة أنّ الزوج إذا أعسر في وقت من الأوقات ثم زال عسره وأصبح
موسرا وأنفق فإنّ الزوجة لا تملك المطالبة بالفسخ باعتبار أنه أعسر في وقت
من الأوقات وهذا واضح ولهذا لعل هذه العبارة لم توجد في كل النسخ لأنّ هذا
الحكم واضح أنها لا تملك الفسخ إلاّ بإعسار حاضر.
قال - رحمه الله - (فإن غاب ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله
واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن الحاكم)
إذا غاب الزوج فإنّ حكم الزوج الغائب كحكم المعسر وذلك بالقياس على المعسر
بل الغائب أعظم من المعسر لأنّ المعسر قد يجد وينفق والغائب لا يمكن أن
ينفق لأنه ليس موجودا أصلا فإذا غاب الزوج فإنّ المرأة تملك الفسخ عن طريق
الحاكم لكن اشترط المؤلف شروطا: الشرط الأول: أن لا يدع لها نفقة. الشرط
الثاني: أن يتعذر عليها الأخذ من ماله. يعني الموجود في البلد.
الثالث: أن يتعذر عليها أن تستدين عليه. إذا وجد الشروط الثلاث فللمرأة أن
تطلب الفسخ من الحاكم قياسا على المعسر بل هو أولى لما سبق. وإذا تمكنت من
أخذ ماله والاستدانة عليه أو ترك لها نفقة فليس لها ولا للحاكم أن يفسخ.
باب نفقة الأقارب والمماليك والبهائم
لما انتهى المؤلف في الكلام عن نفقة الزوجة انتقل إلى الكلام عن نفقات
الأقارب والمماليك والبهائم وبدأ بنفقة الأقارب.
يقول المؤلف - رحمه الله - (تجب أو تتمتها لأبويه وإن علوا , ولولده وإن
سفل)
يجب على الإنسان أن ينفق على أبويه وأن
ينفق على ولده وإن علوا وإن سفل ووجوب نفقة الوالدين والأولاد محل إجماع
بلا خلاف لشدة القرب ولظهور النصوص فيه كقوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا
إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء/23] والنفقة من الإحسان وكقول النبي
- صلى الله عليه وسلم - خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. وكقوله - صلى الله
عليه وسلم - إنّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإنّ ابنه من كسبه. وهذا محل
إجماع أنه يجب عليه أن ينفق على والديه وأبنائه.
* مسألة / / فإذا كان للإنسان أم وليس له أب. أو كان له أم غنية والأب فقير
فإنه يجب على الأم أن تنفق لأنه يصدق على الابن أنه ابن لها وهذا واضح أنه
يجب على الأم أن تنفق واضح. لكن هل يجب على الأم أن ترجع إلى الأب إذا أيسر
أو لا ترجع؟ فيه خلاف
الراجح في ما يبدوا لي أنها لا ترجع إذا أنفقت حال إعسار الأب فإنها لا
ترجع إذا أيسر وعلة ذلك ما تقدم معنا أنّ نفقة الأقارب من باب ماذا؟
المواساة والصلة فإذا لا ترجع بها ثم سيذكر المؤلف التفصيل المتعلق بنفقة
الوالدين والأبناء.
قال - رحمه الله - (حتى ذوي الأرحام منهم حجبه معسر أو لا)
مقصود المؤلف بقوله (حتى ذوي الأرحام منهم .... إلخ) أنه لا يشترط في نفقة
عمودي النسب أن يكون المنفق وارثا لهما. بل يجب عليه أن ينفق ولو لم يرث.
وذكر المؤلف صورتين لعدم الإرث الأولى" ذوي الأرحام. والثانية" المحجوب.
فإذا كان للإنسان ابن من ذوي الأرحام أو أب من ذوي الأرحام فإنه يجب عليه
أن ينفق على هذا الأب والابن وإن لم يرث. مثاله. مثل أب الأم. ومثل ابن
البنت. فهؤلاء من ذوي الأرحام يعني لا يرثهم هو ومع ذلك يجب عليه أن ينفق
عليهم.
المثال الثاني: الحجب أن يكون للشخص أب فقير وجدّ فقير فهذا الابن محجوب
بالأب فإنه لا يرث هذا الجد ومع ذلك يجب عليه أن ينفق عليه ونحن نقول أب
فقير لماذا؟ لأنه لو كان غني لأنفق هو على أبيه. إذا صلة الإنسان بعمودي
النسب قوية جدا ولذلك لا يشترط أن يرث.
قال (وكل من يرثه بفرض , أو تعصيب لا برحم ....
قوله وكل يعني ويجب أن ينفق على كل من يقول
يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم يجب على الإنسان أن ينفق على كل شخص يرثه بفرض
أو تعصيب وإلى هذا ذهب الجمهور واستدلوا على هذا بقوله تعالى {وعلى المولود
له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا
مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة/233] فأوجب النفقة على
المولود له ثم عطف عليه قوله وعلى الوارث مثل ذلك.
الدليل الثاني: أنّ صلة القرابة بينهما قوية. بسبب الإرث يعني علامة قوة
القرابة أنه يرث.
القول الثاني: أنه لا يجب على الإنسان أن ينفق إلاّ على الوالدين والأولاد
فقط. دون بقية الأقارب ولو كان يرثهم استدل هؤلاء بأنّ رجلا قال للنبي -
صلى الله عليه وسلم - عندي دينار. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفقه
على نفسك. قال عندي آخر قال أنفقه ولدك. قال عندي آخر. قال أنفقه على زوجك.
قال عندي آخر قال أنفقه خادمك. قال عندي آخر. قال أنت أبصر به.
وفي لفظ تقديم الزوجة على الولد. استدل أصحاب هذا القول بأنّ النبي - صلى
الله عليه وسلم - لم يذكر الأقارب في الحديث.
والجواب عليه أنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل من أولى
بصحابتي. فقال أمك. ثم أمك. ثم أمك. ثم أبيك. ثم أدناك أدناك وهذا اللفظ في
مسلم يعني إلى أبيك في الصحيحين وزيادة ثم أدناك في مسلم فدل الحديث على
وجوب النفقة على الأقارب.
القول الثالث: أنه تجب النفقة على كل ذي رحم من محرم مسلم في غير عامودي
النسب , يعني لا يشترط الإسلام في عامودي النسب
ولو لم يكن بينهما توارث. واستدل أصحاب هذا القول بأنّ الله سبحانه وتعالى
أمر بالإحسان إلى الوالدين ثم عطف عليه بقوله وبذي القربى. واستدلوا بعموم
الحديث السابق الذي في مسلم ثم أدناك أدناك. فهو عام وحقيقة هذا القول أنهم
يرون أنّ النفقة تجب بسببين: السبب الأول: الإرث وهو المذكور في القرآن.
السبب الثاني: الرحم وهو المذكور في السنة.
وذهب إلى هذا القول ابن القيم وانتصر له
بقوة وأطال في تقريره , وبعد التأمل في المسألة كثيرا في الحقيقة وينبني
على مسألة وجوب النفقة مسائل كثيرة وهي مسألة مهمة. بعد التأمل ظهر لي أنّ
قول الجمهور أرجح لأنه وإن ودلت السنة على وجوب النفقة على ذوي الأرحام
إلاّ أنه مفسر بالكتاب بأنه لمن يرث. والجمع بين النصوص وحمل بعضها على بعض
طريقة الأئمة أضف إلى هذا لأدري هل سبق ابن القيم أو لا هل يوجد أحد أنا لا
يحضرني الآن هل هو سبق أو لا. لا شك أنّ الجماهير على القول الأول الأئمة
الأربعة والفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المسلمين على هذا القول الأول
ولكن يبقى هل قيل به من غير ابن القيم أو لا ومع أنّ الإنسان يرجح القول
الأول إلاّ أني أقول مسألة فيها تردد وتحتاج إلى تأمل لكن هذا الذي يظهر
الآن يعني بعد التأمل وإن كانت تحتاج إلى مزيد تأمل وأيضا مزيد طلب أدلة
إذا في المسألة أدلة غير ما ذكر.
قال - رحمه الله - (لا برحم سوى عمودي النسب)
إذا كنت ترث الإنسان برحم فلا يجب عليك أن تنفق عليه مثل الخال والخالة.
فهم من ذوي الأرحام. إذا كان الإنسان يرث هذا الخال أو الخالة بالرحم فإنه
لا يجب عليه أن ينفق عليه. لأنه ليس من العصبات ولا من الأقارب الذين يرثهم
إرثا مباشرا وإنما الخال والخالة يورث إذا لم يوجد معصب ولا صاحب فرض.
القول الثاني: أنّ ذوي الأرحام إذا كان الإنسان يرثهم فإنه يجب أن ينفق
عليهم وهذا القول اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهذا القول وجيه لأنّ
الله سبحانه وتعالى مادام ربط الأمر بالإرث فإنه إذا كان الإنسان يرث أحدا
من ذوي أرحامه فإنه يجب عليه أن ينفق على هذا الذي يرثه.
ثم - قال رحمه الله - (سوى عمودي النسب)
عمودي النسب لا يشترط فيهم الإرث كما تقدم معنا لا يشترط أن يكون المنفق
وارثاً واستدلوا على هذا بأنّ الوالد والولد يدخل في مطلق اسم الوالد
والولد فتجب نفقته.
الثاني: أنّ هذه قرابة توجب العتق فيستوي فيها إذا كان وارثا أو لم يكن
وارثا.
القول الثاني: أنه يشترط حتى في عمودي النسب الإرث. فمن كان من عمودي نسبه
لا يرثه فإنه لا يجب عليه أن ينفق عليه والراجح الأول انه لا يشترط في
عمودي النسب الإرث.
ثم - قال رحمه الله - (سواء ورثه الآخر كأخ
أو لا كعمة وعتيق)
مراد المؤلف بهذا انه لا يشترط أن يكون الإرث من الطرفين بل يشترط أن يكون
الإرث من طرف واحد وهو طرف المنفق إذا كان المنفق وارثا يجب عليه أن ينفق
ولو كان المنفق عليه لا يرث من المنفق. وذكر المؤلف المثال بقوله كعمة.
فالعمة يرثها المنفق لأنه يعتبر ابن أخ بينما هي لا ترثه لأنّ العمة من
الأرحام فلا ترث. إذا في العمة الإرث من جهة واحدة وهي من جهة المنفق ولا
المنفق عليه؟
من جهة المنفِق. يعني أنّ المنفِق هو الوارث فيجب عليه أن ينفق. وكذلك
العتيق لا يرث معتقه بينما معتقه يرثه.
ثم قال - رحمه الله - (بمعروف)
قوله بمعروف يعني النفقة تجب بالمعروف وليس لها حدا وقدرا معيّنا بل يرجع
في تحديدها إلى المعروف لقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف} [البقرة/233]
ولقوله في حديث جابر الذي تقدم معنا [فلهن عليكم كسوتهن ونفقتهن بالمعروف]
فإذا لا شك أنّ النفقة بالمعروف.
ثم - قال رحمه الله - (مع فقر من تجب له وعجزه عن كسبه)
بدأ المؤلف بذكر شروط النفقة فالشرط الأول: تقدم معنا وهو أن يكون المنفق
وارثا.
الشرط الثاني: أشار إليه بقوله [مع فقر من تجب له وعجزه عن كسبه] يشترط
لوجوب النفقة أن يكون القريب المنفق عليه فقيرا عاجزا عن التكسب فإن كان
غنيا أو فقيرا لكن يستطيع أن يتكسب فإنه لا يجب على المنفق أن ينفق عليه.
الدليل قالوا إنّ النفقة إنما وجبت على سبيل البر والصلة. وإذا كان غنيا أو
ممتنعا عن التكسب فليس محلا للبر والصلة. وهذا الشرط صحيح أنه يشترط لوجوب
النفقة أن يكون فقيرا وعاجزا عن التكسب.
يقول - رحمه الله - (إذا فضل عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه يومه وليلته وكسوة
وسكنى)
هذا هو الشرط الثالث أن يكون مع المنفق قوتا فاضلا عن قوت نفسه وزوجته وعن
الكسوة وعن السكن فإذا فضل عند شيء وجب عليه حينئذ أن ينفق وإذا لم يفضل
فإنه لا يجب عليه أن ينفق بل يبدأ بنفسه ثم بزوجه ثم بولده ووالده.
ثم - قال رحمه الله - (من حاصل أو متحصل)
يعني يجب عليه أن ينفق سواء كان المال حاصل
وهو الموجود بيده الآن أو متحصل وهو الذي يحصل عليه بصنعة أو براتب يأتي
مقدرا كل شهر سواء كان المتحصل يأتي بصنعة وتجارة أو براتب مقرر من وظيفة
ونحوها فيجب عليه إذا وجد الحاصل أو المتحصل أن ينفق.
إذا لا يشترط في وجوب النفقة أن يوجد المال الآن بل إذا كان متحصل فيجب
عليه أن ينفق منه.
الدرس: (3) من النفقات
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ثم قال - رحمه الله -: (لا من رأس مال)
معنى قول المؤلف يعني لا يجب على المنفق إذا لم يجد إلا رأس ماله أن ينفقه
على من تلزمه نفقته من الأقارب لأن رأس المال إذا هلك لم يكن له مصدر للرزق
كما أن رأس المال إذا نقص نقص الربح فدخل النقص على الزوجة والنفس والأولاد
وحقهم مقدم على الأقارب ولهذا فإنه لا نوجب على المنفق أن ينفق على أقاربه
من نفس المال.
ثم قال - رحمه الله -: (وثمن ملك وآلة صنعة)
لا يجب على المنفق إذا لم يجد نقدا أن يبيع الملك سواء كان هذا الملك بيتا
أو أرض أو مزرعة أو سيارة فإنه لا يلزم ببيع هذه الأعيان لأنه أمره بالبيع
فيه ضرر وفيه مشقة وكذلك لا نلزمه ببيع الآلة للسبب نفسه وتحصل من هذا أنه
ينفق مما يجد لا يُلزم ببيع ملكه والته التي يعمل بها ولا بالإنفاق من رأس
مال.
ثم قال - رحمه الله -: (ومن له وارث غير أب فنفقته عليهم على قدر إرثهم)
إذا كان للإنسان أكثر من وارث سوى الأب فإن النفقة تجب على هؤلاء الوارثين
على قدر إرثهم لأن سبب وجوب النفقة هو الإرث وإذا كان هو السبب فإنه تقسم
النفقة عليهم على قدر إرثهم مراعاة لسبب الوجوب ولما قرر المؤلف القاعدة
ذكر مثالين.
ثم قال - رحمه الله -: (وعلى الأم الثلث والثلثان على الجد)
إذا كان للإنسان أم موسرة وجد موسر فالنفقة
عليهما على قدر إرثهما ولهذا يقول المؤلف (فعلى الأم الثلث والثلثان على
الجد) لأنه لو مات لورثت الأم الثلث والجد الباقي وهو الثلثان , فثلث
النفقة على الأم وثلثي النفقة على الجد , كما تقسم المواريث تقسم النفقة
تماما , يعني والمسألة مفروضة على أساس انه لا يوجد من يرثه إلا الأم
والجد.
ثم قال - رحمه الله -: (وعلى الجدة السدس والباقي على الأخ)
لو مات ميت عن جدة وأخ فللجدة السدس والباقي للأخ , كذلك نفقته عليهم هكذا
,فعلى الجدة أن تنفق سدس النفقة والباقي على الأخ.
ثم قال - رحمه الله -: (والأب ينفرد بنفقة ولده)
إذا كان يرث الإنسان عدد من أقاربه منهم الأب فإن النفقة على الأب وينفرد
بتحمل النفقة. وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ألا يكون مع الأب ابن , والقسم الثاني: أن يكون مع الأب ابن
..
بالنسبة للقسم الأول إذا لم يكن مع الأب ابن فإنه يجب عليه النفقة بالإجماع
لقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة/233]
وإذا كان مع الأب ابن فقد اختلف الفقهاء فمنهم من قال النفقة على الأب ولا
شي على الابن لظاهر الآية. ومنهم من قال بل النفقة عليهما على قدر الإرث.
ومنهم من قال بل النفقة على الابن لأن حق الأب على الابن أعظم من حق الابن
على الأب , وحملوا الآية على أن المولود له هذا الابن لن يكون له ابن لأنه
يفترض أنه صغير.
ثم قال - رحمه الله -: (ومن له ابن فقير وأخ موسر فلا نفقة له عليهما)
إذا لم يكن للإنسان إلا ابن فقير وأخ موسر
فإنه لا يجب عليهما أن ينفقا عليه .. أما الابن فلأنه فقير , وتقدم معنا من
شروط وجوب النفقة القدرة , وأما الأخ الموسر فلأنه لا يرث , وتقدم معنا أن
من شروط وجوب النفقة على الأقارب من غير عامودي النسبة أن يكونوا وارثين ,
وفي هذه الصورة الأخ لا يرث لأنه محجوب بالابن , ويبقى هذا الشخص فقيرا
معدما لأن ابنه فقير وأخوه غني لكنه محجوب بالابن. هذه المسألة التي جعلت
ابن القيم - رحمه الله - ينتصر للقول الثالث في ضابط وجوب النفقة لأنه يقول
لا يُعقل أن هذا الشخص يبقى جائعا عريانا فقيرا معدما وأخوه من أغنى
الأغنياء لمجرد أنه لا يرث , فهو يقول في مثل هذه الصورة ينكشف ضعف قول
الجمهور في مثل هذه الصورة , فيستأنس بمثل هذه الأمثلة على ضعف قول
الجمهور. وتقدمت معنا هذه المسألة لكن احببت أن أشير إلى ما يتعلق بها في
هذا المثال.
ثم قال - رحمه الله -: (ومن أمه فقيرة وجدته موسرة فنفقته على جدته)
لأنه في عامودي النسب لا يشترط الإرث. نرجع فنقول ومن أمه فقيرة وجدته
موسرة فنفقته على جدته وان كانت محجوبة بالأم لأنه لا يشترط في عامودي
النسب أن يكون وارثا , بل يجب عليه أن ينفق ولو لم يكن وارثا.
ثم قال - رحمه الله -: (ومن عليه نفقة زيد عليه نفقة زوجته)
مقصود المؤلف الإشارة إلى قاعدة وهي (كل من وجبت عليه نفقته فيجب عليه
إعفافه) يعني كل شخص يجب على الإنسان أن ينفق عليه يجب عليه أن يعفه, ولا
يتمكن من الإعفاف بدون أن ينفق على زوجته ولهذا أوجبنا عليه أن ينفق على
زوجته.
ثم قال - رحمه الله -: (كظئر لحولين)
معنى عبارة المؤلف إذا وجب على الإنسان أن ينفق على طفل فإنه يجب عليه أن
ينفق على ظئر هذا الطفل وهي المرضع لمدة حولين لأن نفقة الطفل تستلزم
النفقة على الظئر لتتمكن من إرضاعه فإذا زاد الأمر على الحولين فإنه لا يجب
عليه أن ينفق على الظئر ولو كان الطفل بحاجة إلى الحليب.
والقول الثاني أن الوجوب لا يتحدد بالحولين بل بالحاجة فمادام الطفل محتاجا
للحليب فإنه يجب على من ينفق عليه أي الطفل أن ينفق عليها أي الظئر
ثم قال - رحمه الله -: (ولا نفقة مع اختلاف دين)
هذه قاعدة عن المؤلف إذا اختلف الدين فلا
نفقة , فإذا كان للإنسان ابن كافر فلا يجب عليه أن ينفق عليه وكذا أخ وأخت
وابن وابنة , وهذا الضابط كما تعلمون يتعلق بنفقة الأقارب لا بنفقة الزوجة
لأنه ذكر هذا الحكم في باب نفقة الأقارب , إذا .. إذا اختلف الدين فلا
نفقة. السبب: أنا نقرر انه من شروط النفقة التوارث ولا توارث بين الكافر
والمسلم ,فإذا لم يتوارثا فلا نفقة , القول الثاني: أن اختلاف الدين لا
يمنع من وجوب النفقة. واستدل هؤلاء بالعمومات فإن الأدلة العامة الدالة على
وجوب النفقة لم تفرق بين أن يكون المنفق عليه يتحد مع المنفق في الدين أو
يختلف , القول الثالث: أنه يشترط اتحاد الدين إلا عامودي النسب. واستدل
هؤلاء بأن صلة القرابة في عامودي النسب قوية يُتجاوز معها اختلاف الدين ,
أما القول الثاني فهو أضعف الأقوال , والإنسان يتردد بين القول الأول وهو
المذهب وبين القول الثالث الذي يجعل للوالدين خصوصية في اختلاف الدين .. في
الحقيقة فيه تردد , لا يظهر أيهما أرجح.
ثم قال - رحمه الله -: (إلا بالولاء)
فلا يشترط اتفاق الدين بل يجب النفقة على الوارث وان اختلف الدين , لأن سبب
الوجوب هو الولاء فلا يشترط معه اتفاق الدين.
ثم قال - رحمه الله -: (وعلى الأب أن يسترضع لولده ويؤدي الأجرة)
هذه المسألة مفروضة فيما إذا لم يكن للطفل أم أو كان له أم وامتنعت عن
الإرضاع , فيجب على ولي الطفل على أبيه أن يسترضع يعني أن يطلب له امرأة
ترضعه بأجرة لأن هذا من النفقة الواجبة ولأن الله - سبحانه وتعالى - يقول:
{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة/233]
فيجب عليه أن يسترضع لأن هذا من النفقة الواجبة ولأن الطفل لو لم يسترضع له
لمات فتعين الوجوب على الأب وهو أمر واضح.
ثم قال - رحمه الله -: (ولا يمنع الأم من الإرضاع)
إذا طلبت الأم أن ترضع الطفل فهي الأحق به سواء كانت متزوجة بأبيه أو مطلقة
منه وسواء طلبت الإرضاع بأجرة أو مجانا فالأم أحق بإرضاع الطفل مطلقا.
واستدل الحنابلة على هذا بقوله - تعالى - {والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة/233]
واستدلوا أن من مصلحة الطفل العظمية أن
يرضع من أمه فإنها احن عليه وأكثر شفقة وهذا لا إشكال فيه أن الام أحق
بالإرضاع , لكن سيأتينا بعد قليل مسألة إذا كانت الأم طلبت الأجرة سيأتينا
حكم هذه المسألة. لكن الذي يعنينا الآن أن الأم أحق بالطفل من غيرها وتُقدم
على الأخريات ولو بأجرة.
ثم قال - رحمه الله -: (ولا يلزمها)
قوله ولا يلزمها: أي لا يلزم الأم أن ترضع الطفل.
وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون الأم مع الأب ولم تطلق , والمسألة الثانية: أن تكون
الأم ليست مع الأب.
فإذا كانت الأم ليست مع الأب فلا يلزمها الإرضاع بالإجماع , وإذا كانت مع
الأب فذهب الجماهير إلى أنه لا يلزمها أن ترضع واستدلوا على هذا بقوله {وإن
تعاسرتم فسترضع له أخرى} [الطلاق/6]. ومعنى فسترضع: أي فاسترضعوا له أخرى.
وإذا اختلفت الزوجة مع الزوج فقد تعاسرا وإذا تعاسرا فسترضع له أخرى.
والدليل الثاني: أن الرضاع إما أن يكون حق للزوج أو للزوجة أو للابن , ولا
يمكن أن يكون حقا للزوج ولا يمكن حقا للابن لأنه لا يلزم الزوجة أن ترضع
الابن إذا كانت مطلقة بالإجماع. ولو كان حقا له للزمها أن ترضعه ولو كانت
مطلقة. فلم يبقى إلا أن يكون حقا للزوجة وإذا كان حقا لها فلها أن ترضع
ولها أن تترك.
والقول الثاني: أنه إذا كانت المرأة مع الزوج فإنه يلزمها أن ترضع وجوبا
وليس لها أن تمتنع. لقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}
[البقرة/233]. ولأن الطفل يتضرر بترك أمه إرضاعه. والنبي - صلى الله عليه
وسلم - يقول (لا ضرر ولا ضرار). ولأن امتناع الزوجة عن الإرضاع ليس من
العشرة بالمعروف إذا طلبها الزوج. ولعل الأقرب الوجوب وإن كان قول الجمهور
فيه وجاهة. لكن الأقرب إن شاء الله الثاني وهو المتوافق مع قواعد الشرع من
حيث أن من أعظم مهام الأم أن ترضع ابنها.
ثم قال - رحمه الله -: (إلا ضرورة كخوف تلفه)
إذا خيف على الابن التلف بأن لا يقبل إلا من أمه حينئذ تعين عليها ووجب أن
ترضعه لا نزاع لأنه انتقلت المسألة إلى حال الضرورة.
ثم قال - رحمه الله -: (ولها طلب أجرة المثل)
يعني وللزوجة وإن كانت في عهدة الزوج ألا
ترضع إلا بأجرة. واستدلوا بقوله تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن}
[الطلاق/6]. والآية نص في أن للمرأة أن تطلب الأجرة إذا أرضعت للزوج.
القول الثاني: أنه ليس للمرأة أجرة إذا كانت مع الزوج إذا أرضعت الطفل.
واستدل هؤلاء بقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}
[البقرة/233]. فأوجب على الأب إذا أرضعت الزوجة فقط الرزق والكسوة
بالمعروف. ولم تذكر الآية الأجرة فدل هذا على انه لا يجب على الأب إلا
النفقة المعتادة. فإن زادت النفقة بسبب الإرضاع فهو داخل في الآية وليس من
الأجرة. ويجب على الزوج أن يبذله. لكن لا يجب عليه أن يبذل أجرة زائدة
منفصلة. والآية التي استدل بها الحنابلة تحمل على المطلقة. لأن الآية
الثانية {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة/233]. صريحة في
عدم وجوب الأجر وأنه لا يجب لها إلا الرزق والنفقة بالمعروف الذي يتناسب مع
مصاريف إرضاع الطفل ومصاريف الزوجة.
ثم قال - رحمه الله (ولو أرضعه غيرها مجانا بائنا كانت أو تحته)
هذه المسألة تكملة للمسألة السابقة يعني أنه للمرأة أن تطلب الأجرة ولو وجد
من يرضع الطفل مجانا ولو كانت بائنة أو مع الزوج. بعبارة أخرى: لها أن تطلب
الأجرة مطلقا. ولو وجد - لا حظ – ولو وجد من يرضع الطفل مجانا. فإذا وجد من
يرضع الطفل مجانا وقالت الأم أنا سأرضعه ولن أرضعه إلا بأجرة فهي أحق من
المرأة التي طلبت إرضاعه مجانا. وتقدم معنا أن كون الأم أحق بالإرضاع هذا
لا إشكال فيه وهو الراجح. لكن كون الأم تطلب الأجرة هذا محل نظر والراجح
أنه ليس لها أن تطلب الأجرة. بناءا على هذا يكون القول الراجح أن للزوج أن
يلزمها بالإرضاع بلا أجرة. لكن عرفنا أن مذهب الحنابلة أن للأم أن تطلب
الأجرة مقابل الإرضاع وإن وجد من يرضع الطفل مجانا.
ثم قال - رحمه الله -: (وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول)
إذا تزوجت آخر فله: أي فلهذا الآخر أن يمنع
الزوجة من الإرضاع أي من إرضاع الولد من الزوج الأول. والعلة في ذلك: أن
الزوج الثاني له الحق في الاستمتاع بالزوجة في كل الأوقات. وإرضاع الزوجة
ولدها يحول بين الزوج وبين حقه في الاستمتاع يعني في مدة الإرضاع , وحق
الزوج الثاني مقدم على حق الولد.
يقول الشيخ (ما لم يضطر إليها)
وجب على الزوج الثاني أن يمكنها من الإرضاع , لأنه صارت من مسائل
الضروريات. وهذا أمر واضح ولا أظن أن فيه خلاف.
فصل
هذا الفصل مخصص لنفقة الرقيق وما يتعلق بتكليفهم ما لا يطيقون.
ثم قال - رحمه الله -: (وعليه نفقة رقيقه)
نفقة المملوك واجبة بالسنة والإجماع.
أما السنة فأحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم - (وللملوك نفقته ورزقه
وكسوته بالمعروف وألا يكلف ما لا يطيق)
ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - (من كان أخوه تحت يده فلينفق عليه مما
ينفق وليكسه مما يكسوا وليطعمه مما يطعم ولا يكلفه ما لا يطيق فإن كلفه
فليعينه) فدلت الأحاديث على أن السيد يجب عليه أن ينفق على سيده. وهذا كما
قلت أمر لم يختلف فيه العلماء ولله الحمد.
ثم قال - رحمه الله -: (طعاما وكسوة وسكنى)
المقصود بالطعام والكسوة والسكنى يعني ما يكفيه من هذه الأمور.
والنفقة على الرقيق على قسمين: النفقة التامة والنفقة الواجبة.
النفقة التامة: أن ينفق عليه من جنس ما ينفق على نفسه في المطعم والملبس
والمسكن.
والنفقة الواجبة - القدر الواجب منها -: أن ينفق عليه ما يكفيه وإن كان دون
ما يأكل هو ويلبس ويسكن.
الدليل على هذا التفصيل: الأحاديث السابقة .. ففي الحديث الأول: أوجب على
السيد مطلق نفقة المملوك.
وفي الحديث الثاني: أمره أن يطعمه مما يطعم ويكسوه مما يسكوا.
فالجمع بين الأحاديث: أن الأكمل ما في الحديث الثاني والواجب ما في الحديث
الأول.
ثم قال - رحمه الله -: (وألا يكلفه مشقا كثيرا)
عليه ألا يكلفه مشقا كثيرا لما تقدم من
الأحاديث ولا يكلفه مالا يطيق. وذكر الفقهاء أن ضابط المشقة: أن يعجز عن
العمل , ويبدو لي أن هذا الضابط فيه نوع إجحاف لأنه لا يجب أن ننتظر إلى أن
يعجز العبد عن العمل. بل تعرف المشقة بالعرف وسؤال أهل الخبرة فإذا بلغ هذا
العمل أن يوصف بأنه مشقة فإنه لا يجوز على السيد أن يكلفه إياه وإن لم يعجز
عنه. فربما يتمكن الإنسان من أداء بعض الأعمال بالمشقة والعسر وإن كانت
توصف بالمشقة والضرر ولكنه لا يعجز عنها , يتمكن بالقيام بها. ولهذا الأولى
أن نرجع في مسالة التكليف بما لا يطاق إلى العرف وسؤال أهل الخبرة.
ثم قال - رحمه الله -: (وإن اتفقا على المخارجة جاز)
المخارجة: هي أن يتفق السيد والعبد على أن يؤدي العبد للسيد قدرا معلوما في
وقت معلوم وما زاد من الكسب فهو له أي للعبد.
المخارجة جائزة بالنص والقياس. أما القياس فتقاس على المكاتبة بجامع أن في
كل منهما عقد بين السيد والعبد.
وأما النص: فثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما احتجم طلب من موالي
الحجام أن يضعوا عنه من خراجه. وفي هذا إقرار للمخارجة. كما انه ثبت أن
عددا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملوا عبيدهم بالمخارجة. فلا
شك في مشروعية المخارجة.
ثم قال - رحمه الله -: (ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة)
أي في هذه الأوقات الثلاثة: وقت القائلة والنوم والصلاة. والدليل على انه
يريحه في هذه الأوقات أن العرف جرى بهذا. كما أن ترك الإراحة في هذه
الأوقات
يدخل على العبد المشقة والضرر , والشارع نفى الضرر عن المسلمين. فيجب عليه
أن يريحه في الأوقات الثلاثة. ومن المعلوم أن الإراحة في هذه الأوقات
الثلاثة يرجع فيها للعرف فقد يطلب من السيد أن يريحه في وقت آخر يكون العرف
أنه هو وقت الإراحة المهم يرجع في تحديد ما عدا الصلاة إلى العرف في البدن.
ثم قال - رحمه الله -: (ويركبه في السفر عقبى)
يعني تارة يركب السيد وتارة يركب العبد
أثناء السفر , والدليل على هذا: أنه لو لم يفعل لوصف بأنه كلفه ما لا يطيق.
لأن تكليف العبد أن يسير المسافة كاملة في السفر بين البلدان من التكليف
بما لا يطاق , وتقدم معنا أن الأحاديث نهت عن تكليف العبد ما لا يطيق ,
فيجب عليه وجوبا أن يركبه عقبى.
ثم قال - رحمه الله -: (وإن طلب نكاحا زوجه او باعه) يعني وجوبا.
لقوله تعالى {وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا
فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} [النور/32]
فالآية نصت على وجوب الإنكاح وتمكين العبد من قضاء الوطر.
ويضاف إلى الآية دليل آخر: أن ترك العبد بلا زواج مع حاجته ورغبته إليه من
إدخال الضرر عليه وتكليفه بالمشقة. فلا شك إنه يجب عليه إما أن يزوجه أو
يبيعه.
ثم قال - رحمه الله -: (وإن طلبته الأمة وطئها أو زوجها أو باعها)
إذا طلبته الأمة فالسيد مخير بين هذه الثلاثة أمور: إما أن يطأ أو يزوج أو
يبيع. لأن الواجب على السيد أن يرفع المشقة الحاصلة بالرغبة في النكاح ,
ورفع هذه المشقة يكون بأحد هذه الأمور إما الوطء أو التزويج أو البيع ,
وكذلك هذا على سبيل الوجوب.
بهذا انتهى الفصل المتعلق بالمماليك وانتقل إلى نفقة البهائم.
فصل
(وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها)
على مالك البهيمة وجوبا أن ينفق عليها وليس له أن يتركها عنده بلا نفقة فإن
فعل فهو آثم.
والدليل على هذا حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (دخلت
امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا , فلاهي أطعمتها ولا هي تركتها
تأكل من خشاش الأرض) فهذه المرأة جمعت بين حبس هذا الحيوان وتركه يموت جوعا
وعدم إطعامه مع أن هذا الحيوان ليس بمأكول اللحم فهو أقل حرمة من أكول
اللحم ومع هذا دخلت هذه المرأة النار بهذا السبب مما يدل على انه يجب على
الإنسان إذا امتلك الحيوان أن ينفق عليه فإن تركه بلا نفقة وأجاعه فهو آثم.
يقول: وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها
.. ذكر ثلاثة أشياء: العلف والسقي: وهي الأكل والشرب. وما يصلحها: مثل
إكنانها عن المطر وعن الحر الشديد وعن البرد الشديد. ومثل علاجها. فإنه ليس
من الرأفة بالحيوان أن يترك مريضا حتى يهلك مع إمكانية معالجته.
لكن هل يجب عليه وجوبا مداواة الحيوان.؟
ذكرنا في مسألة تداوي الزوجة أن شيخ الإسلام يقول (أن التداوي ليس بواجب)
إذا كان التداوي ليس بواجب في الآدمي ففي الحيوان من باب أولى.
إذا ما يصلحها يستثنى منه مسألة المداواة وإنما ما يقصد بما يصلحها ما ذكرت
من إكنانها وتجنيبها المطر والحر الشديد والبرد الشديد.
ثم قال - رحمه الله -: (وألا يحملها ما تعجز عنه)
لا يجوز على مالك البهيمة تحميلها ما لا تطيق , والسبب في ذلك أنه في الشرع
للبهيمة حرمة. فيجب أن يراعي حرمة البهيمة بأن لا يؤذيها أو يحملها ما لا
تطيق.
مسألة: وليس من تحميل البهيمة ما لا تطيق أن يكلفها عملا لا تُستخدم في
مثله عادة. هذا ليس من المشقة. وأما حديث (أن رجلا هم بركوب بقرة فقالت ما
خلقنا لهذا) فالجواب عليه أنه ما خلقنا لهذا عادة. ولا يدل على المنع. فإذا
أراد الإنسان أن يستخدم الخيل للحرث أو البقر للركوب فإنه لا حرج عليه في
هذا , لكن إذا كان استخدامه في غير ما خلق له يؤدي إلى المشقة عليه وتحميله
ما لا يستطيع فهم ممنوع من هذه الجهة لا من جهة انه استخدمه في غير ما خلق
له.
بناءا على هذا ما حكم المسابقة إجراء المسابقة بين ذكور الغنم أو بين
الديكة.؟
لا شك أن هذا سفه وأنه محرم .. جعل التيوس يضرب بعضها بعض والديكة ينقر
بعضها بعض يدخل دخولا أولويا في قول المؤلف (ألا يحملها ما تعجز عنه) أيهم
أشق على البهيمة أن تحمل عليها ما تعجز عنه أو أن تجعلها في معركة مع ند
لها. ويزداد الأمر سوءا إذا وضعوا الضعيف مع القوي. ما عندي شك أنه محرم
وأنه نوع من السفه وأنه جرأة وجريمة في حق الحيوان وهو يدخل في كلام
الفقهاء.
ثم قال - رحمه الله -: (ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها)
تعليل هذا الحكم: أن على مالك الولد كفايته من النفقة - ولد البهيمة - وإذا
حلب الأم بما يضر بالولد فقد قصر بالنفقة الواجبة للولد , أليس كذلك.؟
ومن هنا نقول لا يجوز له أن يحلبها بما يضر
بولدها من هذا الباب انه يجب عليه هو نفقة الولد ونفقة الولد تتعين بأن
يرضع من أمه.
فإن حلب من لبنها ما لا يضر ولدها بأن تمكن من إرضاع ولدها من بهيمة أخرى
فهو جائز .. إذ الواجب على مالك الولد أن يكفله وان يطعمه.
ثم قال - رحمه الله -: (فإن عجز عن نفقتها اجبر على بيعها أو إجارتها أو
ذبحها إن أكلت)
إذا عجز عن النفقة فإنه يجبر بأحد هذه الثلاثة أمور. وتعليل ذلك: أنه لو
تركها بلا نفقة فإن في هذا هلاك البهيمة وهو محرم. فنخيره بين أن يبيع أو
يؤجر أو يذبح إن كان الحيوان مما يؤكل , وإن كان مما لا يؤكل تعين إما
البيع أو الإجارة. بهذا انتهى الباب المتعلق بالنفقات وننتقل إلى باب
الحضانة.
باب الحضانة
قوله باب الحضانة. الحضانة مشتق في لغة العرب من الحضن وهو الجنب.
وأما في الشرع: فهو رعاية الطفل وحفظه والقيام عليه بما يصلحه. والحضانة
واجبة إجماعا وممن حكى الإجماع ابن رشد.
ووجه الوجوب: أنه إذا كان يجب على الإنسان أن ينفق على من تحت يده فلأن
يقوم بالحضانة والحفظ والرعاية من باب أولى.
ثم قال - رحمه الله -: (تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون)
الحضانة تجب لهؤلاء وهم الصغير والمعتوه والمجنون لأن هؤلاء لا يتمكنون من
رعاية أنفسهم. وفي تركهم بلا حضانة ورعاية هلاك لهم وضياع لمصالحهم.
وكما قلت إذا وجب على الولي أن ينفق فمن باب أولى أن يجب عليه الحضانة أي
الرعاية والقيام على الطفل بما يصلحه. وقد ثبت بالتجربة أن ترك الطفل بلا
حضانة مؤد في الغالب إلى ضياعه وهلاكه إما في بدنه أو في دينه. فلا شك في
الوجوب إن شاء الله.
ثم قال - رحمه الله -: (والأحق بها أم)
لما قرر المؤلف وجوب الحضانة انتقل إلى الأحق بالحضانة عند التنازع ,
وترتيب الأحق بالحضانة فيه أقوال بين الفقهاء وصفها شيخ الإسلام بقوله (وفي
الأقوال في ترتيب الحضانة من التناقض والتعارض ما لا يوجد في غير باب
الحضانة من جنسه) فالأقوال في ترتيب من يجب له ومن يؤخر فيها من التعارض
والتناقض والتداخل وعسر الترتيب وفهم التعليل ما جعل الشيخ يصفها بهذا
الوصف وهو يعتبر أنها من أعظم الأبواب تعارضا يعني من جنسها.
سنأخذ مذهب الحنابلة إلى نهاية ترتيب
الحنابلة ثم نرجع إلى اختيار شيخ الإسلام. وهو يخالف مذهب الحنابلة تماما ,
ويضع ثلاث ضوابط تضبط للإنسان من يقدم ومن يؤخر من أقارب المحضون لكن نبقى
الآن مع ترتيب وأدلة الحنابلة.
يقول رحمه الله (والأحق بها أم)
الأم هي الأحق بالحضانة بالإجماع. لا يقدم على الأم أحد يعني ما دامت لم
تتزوج. وسيذكر المؤلف الحكم إذا تزوجت.
الدليل على هذا من وجوه الوجه الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتِ أحق
به ما لم تنكحي)
الدليل الثاني: أن عمر بن الخطاب تنازع مع زوجته في عاصم ابنه وارتفعوا إلى
أبي بكر - رضي الله عنه - فحكم أبو بكر الصديق بعاصم لأمه وقال لعمر ريحها
وشمها ولطفها خير له منك) فهذه السنة وفتاوى الصحابة .. ونستطيع أن نقول
اتفق على هذا أبو بكر وعمر لأن عمر لم يعترض. وتقديم الأم أمر ظاهر لمزيد
عناية وشفقة الأم.
ثم قال - رحمه الله -: (ثم أمهاتها القربى فالقربى)
علمنا من هذا أن أم الأم مقدمة على الأب لأنه لم يذكر الأب إلى الآن. عند
الحنابلة.
التعليل: قالوا أن أم الأم لها ولادة حقيقية وللأب ولادة حكمية ..
ما الفرق بين الولادة الحقيقية والولادة الحكمية .. ؟
الولادة الحقيقية: هي أن تلد المرأة الابن ولادة حقيقية ..
الولادة الظاهرة: هي ولادة الأب .. لأنه لم يلد حقيقة ولكنه والد .. ولهذا
نحن نسمي الأب والد .. ونقصد بكلمة والد ولادة ظاهرة .. قالوا أن أم الأم
لها ولادة حقيقية لأنها ولدت الأم والأم ولدت الابن .. بينما الأب له ولادة
ظاهرة فنقدم الأم على الأب.
ثم قال - رحمه الله -: (ثم أب ثم أمهاته كذلك)
يعني بعد الأم وأمهاتها يأتي الأب .. التعليل لهذا أن الأب هو الأصل في
النسب كما أنه له ولاية مقدمة في المال. فلأجل هذين السببين جعلوا الأب
يأتي في المرحلة الثالثة بعد أمهات الأم.
ثم قال - رحمه الله -: (ثم أمهاته كذلك)
علمنا من هذا أن أم الأب مقدمة على أب الأب .. واستدلوا على هذا بأمرين:
الأول: أنها تدلي بالعصبات .. والعصبة: هو كل من ليس بينه وبين الميت أنثى
.. وفيها وصف آخر مع كونها تدلي بالعصبة أنها أنثى .. والنساء في باب
الحضانة مقدمات على الرجال.
ثم قال - رحمه الله -: (ثم جد ثم أمهاته
كذلك)
الجد: لأنه في معنى الأب .. ثم أمهاته: لنفس السبب في تقديم أمهات الأب ..
وكل شخص يأتي بعد قوله ثم تفترض أنت في المسألة أن السابقين غير موجودين ..
فإذا قال ثم جد .. إذا نفترض أن هذا الطفل ليس له أب ولا أمهات أب ولا أم
ولا أمهات أم. وهكذا كل شخص يأتي تفترض أن السابقين غير موجودين.
ثم قال - رحمه الله -: (ثم لأخت لأبوين)
يعني إذا انتفت الأصول انتقلنا إلى الأخوات .. فنقدم الأخت لأبوين ثم نقدم
الأخت لأم ثم الأخت لأب , وقدمنا الأخت لأم على الأخت لأب لأنها تدلي بالأم
والأم لها ولادة حقيقية.
ثم قال - رحمه الله -: (ثم الخالة)
إذا الخالة مقدمة على العمة. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في
الصحيحين (الخالة بمنزلة الأم) فالخالة مقدمة على العمة لهذا الحديث
ثم قال - رحمه الله -: (ثم عمات كذلك) يعني لأبوين ثم لأم ثم لأب
ثم قال - رحمه الله -: (ثم خالات أمه ثم خالات أبيه)
قدم خالات الأم على خالات الأب لأن خالات الأب يديلين بالأم والأم لها
ولادة حقيقية يعني نفس السبب الذي نقدم فيه الأخت لأم على الأخت لأب.
ثم قال - رحمه الله -: (ثم عمات أبيه ثم بنات إخوته وأخواته)
بعد خالات أبيه عمات أبيه ثم بنات إخوته وأخواته ثم بنات أعمامه وعماته ثم
بنات أعمام أبيه وبنات عمات أبيه .. وفي هؤلاء جميعا نقول تقدم من لأبوين
ثم من لأم ثم من لأب.
ثم قال - رحمه الله -: (ثم لباقي العصبة الأقرب فالأقرب)
إذا المذكورات في السابق كلهن إناث ولا يأتي دور الذكور إلا بعد ألا يوجد
جميع هذه الإناث.
يقول - رحمه الله -: (ثم لباقي العصبة)
باقي العصبة يأتون بعد هؤلاء فنبدأ بالابن ثم الأخ ثم العم وهكذا كما
نقدمهم في الميراث فالعصبات تقديمهم هنا كتقديمهم في الميراث ولكن لا يأتون
معنا إلا بعد ألا يوجد إناث.
ثم قال - رحمه الله -: (فإن كانت أنثى فمن محارمها)
هذا القيد متعلق بقوله (ثم لباقي العصبة)
يعني أن المحضونة إذا كانت بنت فإنه يشترط في الحاضن من العصبات أن يكون من
المحارم فإذا وجد من العصبات قريب ليس من المحارم وبعيد من المحارم فمن
يكون من محارمها مقدم على من لا يكون من محارمها. فإن لم يوجد من العصبات
إلا من ليس من محارمها فماذا نصنع.؟.
قال الفقهاء - رحمهم الله -: إذا لم يوجد إلا هذا فإنا ندفع المحضونة إلى
امرأة ثقة تجاه هذا القريب , أو وهو أحسن ندفع المرأة إلى امرأة قريبة من
هذا العاصب الذي ليس من محارمها فتعطى إلى زوجته أو إلى أخته أو إلى ابنته.
ثم قال - رحمه الله -: (ثم لذوي ارحامه ثم للحاكم)
ثم لذوي أرحامه بعد ألا يوجد أي نوع من النساء القريبات ولا من العصبات
ننتقل إلى ذوي المحارم كأبي الأم ويكون له الحق في الولاية بعد ألا يوجد
أحد من الأقارب ثم الحاكم لأن لو تركنا الطفل بلا رعاية لأدى هذا إلى هلاكه
فيجب على الحاكم وجوبا أن يتولى حضانة هذا الطفل وسيتولى كما هو معلوم
بإسناد هذا الأمر إلى الثقات ولن يتولى هو بنفسه حضانة أولاد المسلمين
الذين ليس لهم أقارب وإنما يقوم بحضانتهم عن طريق تكليف من يثق بهم.
الآن انتهى تفصيل الحنابلة وشيخ الإسلام له تفصيل آخر بينه من خلال ثلاث
ضوابط.
الضابط الأول: إذا اتفقت الجهة والدرجة فإنا نقدم النساء على الرجال فإذا
اجتمع أب وأم فالحضانة للأم. وإذا اجتمع خال وخالة فالحضانة للخالة وإذا
اجتمع عم وعمة فالحضانة للعمة.
الضابط الثاني: إذا اتفقت الجهة واختلفت الدرجة. فإنا نعطيه للأقرب: كأن
يكون للمحضون أخت وبنت أخت.
الضابط الثالث: إذا اختلفت الجهة كأقارب الأم وأقارب الأب فالقاعدة عند شيخ
الإسلام (أن نقدم أقارب الأب ما لم تكن أقارب الأم أقرب) فإذا اجتمعت أم
الأم وأم أبي الأب من نقدم.؟ .. نقدم أم الأم .. وإذا اجتمعت أم الأم وأم
الأب. القاعدة تقول (أنه إذا اجتمعوا من جهتين فالمقدم الأصل أقارب الأب)
فأم الأم وأم الأب نعطي الطفل لأم الأب.
هكذا قرر الشيخ - رحمه الله - وهذه القواعد أو الضوابط الثلاث أرجح من
الضوابط التي ذكرها الحنابلة لا سيما فيما يتعلق بالأب فإن الأب عند
الحنابلة مؤخر , فيكون الراجح ماذكره شيخ الإسلام على ان المسألة ليس فيها
دليل واضح ولهذا نقول أنه ينبغي للقاضي إذا اراد أن يحكم ألا يتمسك كثيرا
بالترتيب الذي ذكره الفقهاء , وأن يرجع إلى المصلحة التي تكمل للطفل ,
فينظر في واقع أهل الأم وينظر في واقع أهل الأب وأيهما أصلح للطفل ويعمل
بموجبه , ومن هنا نرى في واقعنا المعاصر أنه أحيانا تكون الأم أنفع للطفل
بكثير وأحيانا يكون الأب أنفع للطفل بكثير. فقول الحنابلة والفقهاء جميعا
أن تقدم الأم دائما ليس بصحيح , لأن نرى في الواقع أن أحيانا إسناد الطفل
للأم يؤدي إلى هلاكه لاسيما ما يتعلق بأخلاقه ودينه فضلا عن النفقة فإن
النفقة أمرها سهل لكن الإشكال بما يتعلق بدينه كذلك ..
الدرس: (4) من النفقات
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال - رحمه الله - (وإن امتنع من له الحضانة)
يعني انتقلت إلى من بعده إذا امتنع من له الحضانة صار وجوده كعدمه فانتقلت
الحضانة إلى من بعده بحسب الترتيب الذي ذكره المؤلف وهذا مبني على أصل آخر
وهو أنّ الحضانة عند الحنابلة حق للشخص وليس عليه.
والقول الثاني: أنّ الحضانة حق عليه , فيجب أن يقوم بما عليه من الحقوق
وليس له أن يمتنع.
والقول الثالث: أنه حق له وعليه ومعنى هذا القول أنه لا يجوز أن يمتنع إلاّ
إذا وجد البديل فإذا وجد من يريد الحضانة جاز لمن الحق أن يتنازل لتكون
الحضانة لمن بعده. وهذا القول الثالث هو الراجح
مسألة / إذا تنازل الإنسان عن حقه في الحضانة ثم أراد أن يعود إليه فله ذلك
لأنّ الحضانة حق متجدد وكل حق متجدد يجوز للإنسان أن يرجع إليه كما قلنا في
الزوجة إذا تنازلت عن حقها في المبيت فلها أن ترجع وتطلب أن يقسم لها في
المبيت.
يقول المؤلف - رحمه الله - (أو كان غير أهل
انتقلت إلى من بعده)
إذا كان من له الحق ليس بأهل للحضانة انتقلت إلى من بعده لأنّ من ليس بأهل
وجوده كعدمه , ومن ليس بأهل عند الحنابلة هم الرقيق والكافر والزوجة إذا
أسلمت والفاسق , هؤلاء الأربع هم من ليس أهلا. وسيذكرهم المؤلف - رحمه الله
-.
قال - رحمه الله - (ولا حضانة لمن فيه رق)
الرقيق ليس له حق في الحضانة لأنّ الحضانة نوع ولاية كولاية النكاح فليس
للعبد حق فيها كما أنه مشغول بخدمة سيده عن أداء واجبات الحضانة.
والقول الثاني: أنّ الرقيق له حق في الحضانة كما في الحر لأنه ليس في
النصوص ما يدل على منع الرقيق من اخذ حقه بالحضانة وإلى هذا القول يميل
العلامة ابن القيم وهو القول الراجح إن شاء الله لأنّ الحضانة مبناها على
الشفقة والقرب وهي تتحقق في الحر والعبد.
قوله - رحمه الله - (ولا لفاسق)
الفاسق ليس له حق في الحضانة لأنه لا يأمن على المحضون وقد يعلمه ما يكره
الله ورسوله فليس له الحق في الحضانة لهذه الأسباب وتقدم معنا من هو الفاسق
عند الفقهاء.
قوله - رحمه الله - (ولا لكافر على مسلم)
ليس للكافر حق في الحضانة على مسلم واستدل الحنابلة على هذا بأنّ الكافر
أبعد من الفاسق وأشد أذى وضررا.
ثانيا: أنّ الكافر قد يعلم المحضون الكفر ولهذا فهو ليس أهلا للحضانة.
القول الثاني: أنّه له الحق في الحضانة واستدل أصحاب هذا القول بأنّ رجلا
من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق زوجته وهو مسلم وهي كافرة ,
وتنازعوا في ولدهما فخيره النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم بالذهاب إلى
أمه يعني الكافرة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم أهده. فذهب إلى
أبيه وانصرف به أبوه. فهذا الحديث دليل على جواز ولاية الحضانة للكافر لأنّ
النبي - صلى الله عليه وسلم - خيره , ولو كانت الأم ليست أهلا للحضانة لم
يخيره وإنما صرفه إلى أبيه من الأصل. هذا الحديث فيه خلاف في تصحيحه
وتضعيفه. فالمتأخرون من المحدثين يصححونه. وذهب ابن المنذر إلى أنه لا يثبت
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتسنى لي دراسة الحديث دراسة مفصلة
للوقوف على أي القولين أصح فإن كان الحديث ضعيفا فالراجح مذهب الحنابلة.
قال - رحمه الله - (ولمزوجة بأجنبي من
محضون من حين عقد)
الرابع ممن تسقط حضانتهم الأم إذا تزوجت من أجنبي واستدل الحنابلة بقول
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت أحق به ما لم تنكحي.
والقول الثاني: أنّ المحضون إذا تزوجت أمه إن كان ذكرا سقط حقها في الحضانة
وإن كانت أنثى ثبت حقها للحضانة واستدل هؤلاء بالجمع بين الأخبار. فقالوا
إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت أحق به ما لم تنكحي. وقال في مسألة
التنازع في ابنة حمزة لما أخذها جعفر قضى النبي - صلى الله عليه وسلم -
لجعفر بها لأنّ زوجة جعفر خالة لهذه البنت فدل الحديث على أنّ حضانة الأم
لا تسقط إذا كانت المحضونة أنثى وتسقط إذا كان ذكرا جمعا بين النصوص.
والراجح مذهب الحنابلة.
والجواب عن حديث ابنة حمزة أنّ جعفر - رضي الله عنه - ليس بأجنبي عن البنت
فهو ابن عمها , والحنابلة يشترطون في سقوط الحضانة أن يكون أجنبيا ولهذا
لاحظ معي أن المؤلف يقول ولا لمزوجة بأجنبي من محضون فإذا الجواب عن حديث
ابنة حمزة - رضي الله عنه - أن جعفر ليس بأجنبي ولهذا لم تسقط حضانة خالة
ابنة حمزة وصارت إليها.
وقوله (بأجنبي من محضون) تقدم معنا أنه من شط سقوط حق الحضانة أن يكون زوج
الأم أجنبي فإن كان زوج الأم ليس بأجنبي فإنه لا يسقط حق الأم في الحضانة
لأن الأجنبي يكمل الرعاية والتأديب لهذا المحضون.
في مسألة (ولا لمزوجة) ذكرنا قولين .. أنها تسقط مطلقا والقول الثاني أنها
تسقط إذا كان المحضون ذكرا وتبقى إذا كانت أنثى.
وبقي قول ثالث وهو انه لا تسقط إذا رضي الزوج وتسقط إذا لم يرض. سواء كان
الزوج أجنبيا او من قرابتها.
واستدل أصحاب هذا القول: أن الحق للزوج فإذا رضي بقي الحق للأم في الحضانة
اختاره الشيخ العلامة ابن القيم.
ويظهر لي أن الراجح القول الأول.
ثم - قال رحمه الله - (من حين عقد)
أي ولو قبل الدخول واستدل الحنابلة على هذا بقول النبي - صلى الله عليه
وسلم - (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) وإذا عقدت فقد نكحت , فيصدق عليها الحديث
ويسقط حقها في الحضانة.
ثم - قال رحمه الله - (وإذا زال المانع رجع إلى حقه)
إذا زال المانع بان أسلم الكافر وعتق العبد
وصار الفاسق عدلا رجع حقهم في الحضانة لأن سبب الحق موجود فإذا زال المانع
وجد الحكم لبقاء سببه وهذا لا إشكال فيه. وهذا يرجع إلى مسألة سابقة وهي أن
الحضانة حق متجدد وأن الحقوق المتجددة تبقى لأصحابها.
ثم - قال رحمه الله - (وإن أراد أحد أبويه سفرا طويلا إلى بلد بعيد ليسكنه
وهو وطريقه امنان فحضانته لأبيه)
إذا أراد أحد أبويه سواء كان الأم أو الأب السفر ويشترط في هذا السفر أن
يكون سفرا طويلا وأن يكون القصد من السفر الانتقال النهائي فإنه في هذا
الحال إذا توفر أيضا شرط الأمن في الطريق والبلد ينتقل الحق للأب سواء كان
هو المسافر أو الأم. إذا ينتقل الحق للأب إذا أراد أحدهما أن ينتقل إلى بلد
على سبيل السكنى فيه وليس سفرا عارضا.
والقول الثاني: أن الحق للأم.
والقول الثالث: أن الحق للأصلح منهما .. وهذا القول اختاره ابن القيم وهو
الراجح إن شاء الله.
وقوله الأصلح: لأنا نفترض أن كل منهما صالح لأن لو كان أحدهما ليس بصالح
لكان له الحق ابتداء لكن لما كان كل منهما صالحا وأراد أحدهما أن يسافر صار
الحق للأصلح منهما يعني الأكثر قياما بحق الحضانة.
ثم - قال رحمه الله - (وإن بعد السفر لحاجة أو قرب لها , أو للسكنى فلأمه)
يعني إذا سافر لحاجة سفرا طويلا أو قصيرا فالحق عند المؤلف للأم , وقد خالف
المؤلف هذه المسألة المذهب فإنه على المذهب الحق للمقيم منهما. والفرق بين
المسألتين أن السفر في المسألة الأولى يراد منه الانتقال والإقامة , بينما
السفر في المسألة الثانية سفر عارض لقضاء حاجة. عند الحنابلة الحق للمقيم
منهما. وعند المؤلف الحق للأم.
والراجح أن الحق للمقيم منهما لأن السفر متعب ويسبب تشتيتا للمحضون وقلقا
وتعبا , فيبقى عند المقيم منهما ويسافر المسافر ويرجع فيكون له الحق بعد
الرجوع.
ثم - قال رحمه الله - (أو للسكنى فلأمه)
إذا سافر سفرا قريبا للسكنى فالحق للأم عند
المؤلف والمذهب. فالمؤلف خالف المذهب في مسألتين فقط: إذا سافر سفرا قصيرا
لحاجة أو سافر سفرا طويلا لحاجة. أما إذا سافر سفرا قصيرا للسكنى فكما قال
المؤلف أن الحق للأم , لأنه إذا كان الأب من الابن استطاع أن يرعاه وأن
يقوم على حوائجه وأن ينتبه له لأن السفر قصير بإمكانه الاستمرار في مراعاته
فيبقى الحق للأم.
انتهى هذا الفصل وينتقل المؤلف للفصل الأخير الذي يريد أن يبين فيه متى
تنتهي ولاية الحضانة.
فصل
- قال رحمه الله - (وإذا بلغ الغلام سبع سنين عقلا خير بين أبويه فكان مع
من اختار منهما)
إذا بلغ الغلام سبع سنين فالحكم عند الحنابلة انه يخير بين أبويه , واستدل
الحنابلة على هذا بثلاث أدلة: الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- (خير غلاما بين أبويه)
الدليل الثاني: أن هذا قضى به اثنان من الخلفاء الراشدين عمر وعلي - رضي
الله عنهما -
الدليل الثالث: أن هذا مروي عن أبي هريرة.
فتكون الآثار ثلاثة وينتج عندنا الدليل الذي يستعمله ابن قدامة وهو انه نقل
عن الصحابة ولم يعلم لهم مخالف فصار إجماعا.
القول الثاني للأحناف: أن يكون مع الأب ولا يخير. القول الثالث للمالكية:
أن يكون مع الأم ولا يخير.
وعلمنا من سياق الخلاف أن الأحناف والمالكية يتفقون على قضية وهي عدم
التخيير.
واستدلوا على هذا: بأن الصبي الذي بلغ تسع سنين إذا خير فسيختار من أبويه
الأسهل الذي يمكنه من اللعب وترك الأمر الجاد فإذا لا تخيير عندهم. وكما
ترون دليلهم قوي في الحقيقة ووجيه. لكن يجاب عنه بأمرين: الأمر الأول: أن
الحنابلة الذين قالوا بالتخيير قالوا أن الصبي لا يقر في يد من لا يصلحه ,
فإذا تبين أن هذا الذي اختاره الصبي اختاره ليلعب عنده ويترك الأمر الجاد
من التعليم والتربية نزعت منه. الأمر الثاني: أن الحنابلة يستدلون على آثار
صحيحة بعضها عن النبي - صلى الله عليه وبعضها عن الصحابة لا يمكن العدول
عنها لمجرد دليل عقلي ولو كان قويا. بهذا القول - إن شاء الله - الراجح
مذهب الحنابلة.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه)
يعني ولو كان هو الاحق. لأن من لا يصونه
وجوده كعدمه إذا المقصود من الحضانة التربية والرعاية والصيانة وهي مفقودة
في حق من لا يصونه. فتنتقل الولاية إلى من بعده.
ثم - قال رحمه الله - (وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع)
وهذا من مفردات الحنابلة. فإذا بلغت السابعة صارت عند أبيها ليقوم عليها
بالحفظ والصيانة.
القول الثاني: أنها تبقى عند الأم. لأنها أشكل لها وأقرب إلى تربيتها.
القول الثالث: أنها تبقى عند الأم إلى أن تحيض. قال ابن القيم معلقا على
هذا القول (وهو الأشهر عن احمد والأقوى دليل) وما ذكره ابن القيم لعله أقرب
الأقوال لأنه بعد الحيض أصبحت امرأة وتحسن نفع نفسها. فتنتقل إلى الأب قبل
ذلك تبقى عند الأم هذا إذا افترضنا أنّ الجميع يقوم بما عليه سواء كانت عند
الأب أو الأم أما إذا كان أحدهما يفرط فالقاعدة عند الحنابلة [أنه لا يبقى
في يد من لا يصونه]
قال - رحمه الله - (ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء)
إذا رشد الذكر وبلغ وأصبح يعرف ما فيه نفع له فيعمله وما فيه مضرة فيتركه
فإنه يكون حيث يشاء , إن شاء استقل وإن شاء صار عند الأم وإن شاء صار عند
الأب , إلاّ أن الحنابلة قالوا لا ينبغي له أن يستقل بنفسه ليتمكن من بر
أبويه فليس من البر أن يترك الإنسان أباه ويترك أمه وحدها بلا خدمة ويستقل
ببيت.
قال - رحمه الله - (والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها)
هذا بناء على ما تقدم من أنها إذا بلغت السابعة انتقلت إلى الأب وإذا
انتقلت إلى الأب فإنّ الولاية له تبقى إلى أن يتسلمها الزوج فتنتقل الولاية
إلى الزوج فهذه المسألة مبنية على المسألة السابقة وهي متى تنتقل الأنثى
إلى الأب.
|