شرح زاد المستقنع للخليل

الدرس: (1) من الجنايات

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

كتاب الجنايات
الجناية في لغة العرب: هي الذنب الذي يؤاخذ عليه الإنسان بين قومه أو عند الله , فلا تطلق الجناية في اللغة على أي ذنب , وإنما على الذنب الذي إذا ارتكبه الإنسان صار محط لوم وتعنيف من قومه.
والأصل في الجناية أنها تطلق على كل اعتداء وإضرار في النفس أو غيرها كالأموال , لكن الفقهاء اصطلحوا على قصر تسمية الجنايات على الاعتداء على النفس فقط وصاروا يسمون الاعتداء على الأموال سرقة وغصبا ونحو ذلك. فالجناية يختص بالاعتداء على النفس في عرف الفقهاء. ولا يعمم عند الفقهاء فلا يطلق على الجناية على الأموال وبهذا عرفنا معنى الجناية في اللغة وفي الشرع.
ثم - قال رحمه الله - (وهي عمد يختص القود به بشرط القصد)
بدأ المؤلف بالكلام عن أنواع القتل ولم يتطرق إلى حكم القتل لأن حكم القتل معلوم من الدين بالضرورة فالقتل محرم بالكتاب والسنة والإجماع ولم يختلف فيه أحد بل هو محرم في جميع الشرائع , ولعله لهذا لم يتطرق إليه المؤلف - رحمه الله -.
والأدلة على تحرينه كثيرة كقوله تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [النساء/29]
وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزان والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) وأما الإجماع فهو معلوم بالضرورة من كلام أهل العلم قاطبة انه محرم.
وقول الشيخ رحمه الله (وهي) أي والجناية على النفس تنقسم إلى ثلاثة أقسام سيذكرها إجمالا ثم يذكرها رحمه الله تعالى تفصيلا.
ثم - قال رحمه الله - (وهي عمد يختص القود به بشرط القصد وشبه عمد وخطأ)
إذا الجناية على النفس ثلاثة أنواع عمد وشبه عمد وخطأ. إلى هذا التقسيم ذهب الجماهير فاعتبروا القتل ينقسم إلى هذه الثلاثة أنواع في الجملة.
واستدل الجمهور بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ألا إن دية القتل الخطأ شبه العمد مائة من الإبل في بطونها أولادها) وقال في الحديث قتيل العصا والسوط. فدل هذا الحديث على قسم ثالث وهو شبه العمد.
والقول الثاني: أنه لا يوجد إلا عمد وخطأ. ولا يوجد شيء اسمه شبه عمد وهو مذهب المالكية. واستدل المالكية على هذا أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه نوعين من الجناية على النفس الخطأ والعمد
الجواب على هذا: أن القران ذكر قسمين وأضافت السنة قسما ثالثا ..


مسألة: إذا لم يكن عند المالكية شيء اسمه شبه عمد ,فالجنايات التي تعتبر شبه عمد عن الجمهور تعتبر عمد إذا هم يعتبرونها عمد ويجرون عليها أحكام العمد. ولهذا كلما جاءنا خلاف يتعلق بالقتل شبه العمد لن تجد للمالكية قول لأنه لا يوجد عندهم شي اسمه شبه عمد.
وقول المؤلف (وعمد يختص القود)
قوله القود يعني القصاص وسمي بذلك لأن القاتل يقاد إلى أولياء المقتول ليقتصوا منه فسمي نفس القصاص قود وإلا أصله أنه يقاد إلى أولياء المقتول ثم لما ذكر المؤلف أنواع الجنايات على النفس بدا بها مفصلة واحدا واحدا فبدأ بالعمد.
ثم - قال رحمه الله - (فالعمد أن يقصد من يعلمه ادميا معصوما فيقتله بما يغلب على الظن موته به)
اشتمل التعريف على ركنين إذا توفرا فالقتل عمد:
الركن الأول: أن يقصد المجني عليه , الركن الثاني: أن يقصده يما يقتل غالبا.
فإذا قصد الجاني المجني عليه بما يقتل غالبا صارت الجناية تسمى عمدا , وكيف نعرف أن الجاني يقصد القتل.؟ أجاب الفقهاء عن هذا بأنه يُعرف الجاني قصد القتل من خلال الآلة ولا ننظر إلى القصد الداخلي لأنه مجهول فإذا صارت الآلة تقتل غالبا حكمنا على الجاني أن قصده كان القتل. فإذا جاء إنسان معه سيف وضرب شخصا وقتله وقال لم أقصد قتله مطلقا إنما أردت أن أمزح معه فوقع السيف في بطنه .. نقول هذه الدعوة مردودة ونحن نعتبر أن قصدك القتل بدلالة الآلة إذا عرفنا الآن أن يقصده وهو أن القصد يعرف من خلال الآلة لأن القصد الداخلي لا يمكن الوقوف عليه ولو فتح هذا الباب لكان كل يقتل ويقول لم أقصد القتل. ثم لما ذكر حقيقة القتل العمد انتقل إلى الصور وسيذكر المؤلف تسع صور لا يكاد يخرج عنها صورة من صور القتل العمد

1ـ ثم - قال رحمه الله - (مثل أن يجرحه بما له مور في البدن)
هذه الصورة الأولى: أن يجرحه بما له مور في البدن ..
المور: الدخول والتردد داخل البدن. فإذا جرحه بما له تردد ودخول داخل البدن فإنا نعتبر الجناية عمدا من أمثلة هذا: أن يطعنه بالسكين أو بالسيف أو بالخنجر أو بكل ماله مور.


واشترط الأحناف للقتل العمد أن يكون بمدبب أو بمحدد .. فهذه الصورة الأولى تدخل عند الجمهور والأحناف لأنهم يشترطون في القتل لكي يكون عمدا أن يستعمل الجاني آلة حادة أو مدببة لأنها الذي يظهر منها قصد القتل بوضوح وأما الجمهور فإنهم لا يشترطون.
في آلة القتل أن تكون محددة بل كل آلة يغلب على الظن القتل بها فيعتبر استعمالها قتلا عمدا واستدل الجمهور بالحديث المشهور بقصة اليهودي الذي قتل الجارية بجحر حتى قتلها فهذا اليهودي استعمل محدد أو مدبب أو ماله ثقل؟ ماله ثقل ويقتل غالبا وأقاده النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجارية فدل الحديث على ضعف قول الأحناف وصحة قول الجمهور.
2 - قال - رحمه الله - (أو يضربه بجحر كبير ونحوه أو يلقي عليه حائطا أو يلقيه من شاهق)
الصورة الثانية ذكر المؤلف لها ثلاث أمثلة أن يضربه بجحر أو يلقي عليه حائطا أو يلقيه من شاهق. والضابط الذي يجمع هذه الصور أنّ نقول [أن يقتله مثقل] وما هو المثقل هو الآلة أو الأداة التي تقتل بثقلها. فإذا قتله بمثقل فإنه يعتبر عمدا كالأمثلة التي ذكرها المؤلف أن يضربه بحجر كبير أو يلقي عليه حائطا أو يلقيه من شاهق , ومن تلك الصور أيضا أن يضربه بعمود كبير فإذا ضربه بعمود كبير فقد قتله بمثقل , ومن تلك الصور أن يضربه بعصا صغير لكن بشرط أن يكون الضرب في موضع يقتل غالبا , فأما إن ضربه بعصا صغير في موضع لا يقتل غالبا ومات فهو كما سيأتينا شبه عمد.
3 - قال - رحمه الله - (أو في نار , أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما)
الصورة الثالثة أو في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما , إذا ألقاه في النار وأغلق عليه الباب أو في الماء ولم يمكنه من الخروج فهو قتل عمد ولا يوجد فيما وقفت عليه يجمع هذه الصور إنما هو قتل بالإغراق أو الإحراق ويشترط في هذا القتل ليكون عمدا أن لا يتمكن المجني عليه من الخروج فإن تمكن من الخروج وتساهل فإنه لا يعتبر من القتل العمد لأنه جنا على نفسه.
4 - قال - رحمه الله - (أو يخنقه)
وهذه هي الصورة الرابعة وضابطها القتل بقطع النفس سواء بالخنق أو بالشنق أو بلف رأسه بوسادة أو بأي طريقة تمنع من خروج النفس فهذا يعتبر من القتل العمد الذي يقاد به.


5 - قال - رحمه الله - (أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالبا)
الخامسة القتل بالمنع عن الطعام والشراب فإذا منعه من الطعام والشراب حتى مات فإنه يعتبر قتلا عمدا ويشترط في هذه الصورة أن يمنعه في مدة مثلها تقتل عادة أما إذا منعه لساعة ثم مات فإنه لا يعتبر قتل عمد بل يجب أن يمنعه لمدة في مثلها يموت الإنسان فإذا منعه فيقاد به.
6 - قال - رحمه الله - (أو يقتله بسحر)
القتل بالسحر قتل عمد ولو زعم الساحر أنه ظن أن لن يموت بمثل هذا العمل , نقتله ونعتبر هذا القتل عمد لكن إذا قتلنا الساحر فهل نقتله حدا أو قصاصا فيه خلاف بين الفقهاء يأتينا في كتاب الحدود الذي يعنينا هنا أنه إذا قتلناه على أساس أنه حد فإنه يجب أن نعطي أهل المجني عليه دية لأنه لم يقتل قصاصا وإن قتلناه على أساس أنه قصاص فليس لأهل المقتول دية , وهذا صحيح بقي الترجيح هل يقتل حدا أو قصاصا وهذا سيأتينا في كتاب الحدود.
7 - قال - رحمه الله - (أو سُم)
الصورة السابعة أن يقتله بالسُم ومقصود الحنابلة سواء كان هذا السم مخلوطا بغيره أو صرفا أعطاه المقتول وسواء جعله يأكل من حيث لا يشعر أو أجبره على الأكل في كل الصور يعتبر من القتل العمد.
8 - قال - رحمه الله - (أو شهدت عليه بيّنة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا عمدنا قتله ونحو ذلك)
الصورة الثامنة أن تشهد عليه بيّنة بما يوجب قتله ثم يرجع ويقول عمدنا , فصارت الشروط ثلاثة. أن يشهدوا بما يوجب القتل.
الثاني: أن يرجعوا. الثالث: أن يعترفوا أنهم صنعوا هذا عمدا. إذا توفرت الشروط الثلاثة فإنهم يقادون به ويجب عليهم القصاص لأنّ هذا من القتل العمد. والدليل على هذا أنه روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه حكم بهذا وأنه رأى أن من شهد على شخص بقطع أو قتل عمدا فإنه يقاد به.
قال - رحمه الله - (وشبه العمد: أن يقصد جناية لا تقتل غالبا)
شبه العمد يقول المؤلف - رحمه الله - أن يقصد جناية لا تقتل غالبا ولم يجرحه بها. عناصر شبه العمد هو أن يقصد ضربه لكن بما لا يقتل غالبا فقصد الضرب موجود ولكن الآلة لا تصلح للقتل العمد فإذا توفر الشرطان أصبح هذا من شبه العمد من أمثلته المشهورة


أن يضرب ابنه تأديبا أو تلميذه تأديبا. بما لا يقتل غالبا فهنا يعتبر شبه عمد أما إذا ضربه بما يقتل غالبا صار عمد والفرق بين شبه العمد والعمد في الآلة. فالآلة هي التي تحدد هل هو عمد أو شبه عمد أما قصد الضرب فهو موجود في الصورتين وهذا الذي جعل المالكية يقولون أنه عمد فهم يقولون هذا الرجل قصد أن يضرب هذا الرجل ومات بسبب الضرب المقصود فهو قتل عمد ولم ينظروا لمسألة الآلة لكن الجمهور كما تقدم أحظ بالدليل وأحظ بالنظر لأنه هذا وإن قصد الضرب إلاّ انه لم يقصد القتل وعلمنا أنه لم يقصد القتل من خلال الآلة.
ثم - قال رحمه الله - (ولم يجرحه بها)
في الحقيقة هذه العبارة لم يذكرها ابن قدامة في الأصل يعني المقنع وإنما ذكرها صاحب الإقناع والمنتهى فقط وعندي فيها نظر ظاهر أرى أنها لا تصح فقها لأنه قد يضربه بما يجرح إلاّ انه لا يقتل غالبا فصح الحد عليه وإن جرحه فالجرح ربما يوجد مع آلة لا تقتل غالبا كأن يضربه بعصا مكسور فإنّ العصا الصغير المكسور يسبب جرحا ومع هذا نعتبره شبه عمد ولهذا نقول لو أنّ المؤلف تابع ابن قدامة وترك ما أضافه صاحب الإقناع والمنتهى لكان أدق.
قال - رحمه الله - (كمن ضربه في غير مقتل بسوط , أو عصا صغيرة , أو لكزه ونحوه)
إذا ضربه بعصا أو سوط فإنه يعتبر شبه عمد ولكن لاحظ أنّ المؤلف اشترط لهذا أن لا يكون في غير مقتل , فإن كان في مقتل فإنه يعتبر من العمد. وتلاحظ في الأمثلة توفر الشروط وهي قصد الضرب بغير آلة تقتل غالبا.
قال - رحمه الله - (والخطأ)
الخطأ ينقسم إلى قسمين: - وهو مهم لكثرة وقوعه.
1 - خطأ في القصد.
2 - وخطأ في الفعل.
القسم الأول: خطأ في القصد وينقسم إلى قسمين: - القسم الأول: أن يرمي مايظنه صيدا أو حربيا فيبين مسلما. رجل رمى شيئا يظنه صيدا فتبيّن انه مسلما معصوم الدم فهذا خطأ بالقصد.
القسم الثاني: أن يرمي رجلا في دار الحرب يظنه كافرا وهو أسلم خفية هذه أنواع الخطأ في القصد سيأتينا كيف نفرق بين هذه.


الثاني: الخطأ في الفعل وهو نوع واحد كأن ينقلب النائم على الطفل فيقتله أو أن يرمي صيدا فيصيب معصوما. الآن عرفنا أنّ الخطأ على نوعين خطأ في القصد وخطأ في الفعل. الفرق بينهما الخطأ في القصد الأول هو رمى ما يظنه صيد فأصبح معصوما. في الصورة الأولى هل يوجد أصلا صيد , لا يوجد صيد أصلا وإنما ظن أنه صيد فتبيّن أنه إنسان في الخطأ في الفعل لما نقول أراد أن يقتل صيدا فأصاب إنسانا يوجد صيد حقيقة لكنه أراد أن يرميه فأخطأ فأصاب إنسانا.
في القسم الثاني من الخطأ في القصد. أن يرمي كافرا في دار الحرب فيتبيّن أنه مسلم هنا الخطأ في القصد لا في الفعل لأنّ هذا الشخص زيد لما رمى عمرو هو يريد عمرو لكنه لم يعلم أنّ عمرو أصبح مسلما. وهذا التقسيم للتقريب والمعنى واضح وهو أن يخطأ في القصد أو في الفعل طبعا النائم إذا انقلب على الطفل لا يوجد منه قصد حتى نقول خطأ في القصد وإنما هو خطأ في الفعل.
يقول - رحمه الله - (أن يفعل ماله فعله)
قوله أن يفعل ماله فعله تبيّن من كلام المؤلف أنه لو فعل ما ليس له فعله فإنه يكون عمدا وهذا منصوص عن الإمام أحمد مثاله / لو أراد الإنسان أن يرمي شاة ملك لرجل فأخطأ وأصاب إنسان هل فعل ماله فعله أو ما ليس له فعله؟ ما ليس له فعله. بخلاف من أراد أن يصيد فإنه فعله وهو الصيد أما هنا فأراد أن يعتدي على مال الآخرين فهنا نص الإمام أحمد على أنّ هذا عمد يعني إذا أراد الإنسان أن يصيد شاة في ملك إنسان عامدا ثم أصاب إنسان فإنّا نعتبر هذا عمد لأنّا نشترط في الخطأ أن يفعل ماله فعله وهنا فعل ما ليس له فعله.
القول الثاني: أنه يعتبر خطأ وإن فعل ما ليس له فعله لأنه أخطأ في القصد فهو يقصد الشاة في المثال لا الرجل المعصوم وإلى هذا القول ذهب ابن قدامة - رحمه الله -


القول الثالث: أنه إن قصد معصوما فأصاب معصوما آخر فإنه يعتبر عمد , وإن قصد ما هو أقل من المعصوم كالحيوانات فأصاب معصوما فإنه يعتبر خطأ وإلى هذا ذهب شيخنا - رحمه الله - والراجح إن شاء الله بلا إشكال مذهب ابن قدامة بلا إشكال لماذا؟ لأنه هذا الرجل لا يقصد القتل مطلقا والخطأ في قصده ظاهر ولو قصد معصوما فإذا أراد أن يرمي زيد فأصاب عمرو فهو الآن أخطأ أو لم يخطأ هل أراد قتل عمرو؟ لم يرد لكن بقي عليه أن يبيّن وأن يأتي بدليل على أنه لم يرد عمرو وإنما أراد زيد مثلا فإذا استطاع أن يثبت هذا فإنه لا حرج عليه.
قال - رحمه الله - (مثل أن يرمي صيدا أو غرضا , أو شخصا فيصيب آدميا لم يقصده)
يقصد بقوله شخصا يعني مباح الدم. هذه ثلاثة أمثلة أن يرمي صيد أو يرمي غرض أو يرمي آدميا غير معصوم الدم هذه من الخطأ في القصد أو في الفعل؟ من الخطأ في الفعل. هذه الأمثلة كلها من الخطأ في الفعل ولهذا لو أنّ المؤلف شكل فمثل لخطأ القصد وخطأ الفعل لكان أولى.
قال - رحمه الله - (وعمد الصبي والمجنون)
خطأ بلا نزاع عند الحنابلة لأنه لا قصد لهما أصلا فعملهما يشبه عمل النائم. بهذا انتهى هذا الفصل نختمه


بمسألة / الذي يظهر من أمثلة الفقهاء وما ذكروه في القتل الخطأ أنه يشترط ليترتب على الجناية الضمان أن يكون من الجاني شيء من التفريط أو من التعدي أو من التقصير أو من مخالفة النظام فإن لم يكن شيء من ذلك فليس من الخطأ. يعني نشترط في القتل الخطأ لنرتب عليه أحكام القتل الخطأ أن يكون من القاتل شيء من التقصير أو التفريط أو مخالفة النظام أو عدم الاحتياط فإذا كان مع الإنسان بيده خشبة وضرب بها وسقطت على إنسان فهذا من القتل الخطأ لماذا؟ لأنه لم يحتط الاحتياط الكافي. أما لو كان يركب الدابة ثم تجاوز الإنسان وهو متحكم بالدابة فرفست الدابة إنسان فمات فليس من الخطأ لأنّ الإنسان يتمكن بمقدمة الدابة مالا يتمكن من التحكم بمؤخرة الدابة. فما قتلته بالمقدمة يعتبر فيه تفريط ولو كان بغير قصد إذ كان عليه أن يحتاط وأن يحذر بخلاف ما قتلته بمؤخرتها فإنه لا يعتبر من التفريط من هنا نقول حوادث السيارات تتنزل على هذا المعنى فإن كان من السائق تفريط في تفقد السيارة أو في السرعة أو في تنبه الطريق أو في أي شيء من الأشياء التي كان ينبغي عليه أن يحتاط فيها فهو قتل خطأ , وإن لم يكن منه أي تفريط وليس منه أي سبب كأن يمشي مشيا صحيحا ثم يخرج رجل راجل فجأة بما لا يتمكن معه السائق من الوقوف فإنّ هذا لا يعتبر من القتل الخطأ لأنه لا تفريط من السائق مطلقا هذا القول لعله هو أحسن الأقوال في مسألة القتل الخطأ وتنزيل حوادث السيارات عليه.
فصل
قال - رحمه الله - (تقتل الجماعة بالواحد)
ذهب الحنابلة إلى أنّ الجماع تقتل بالواحد واستدلوا على هذا بأدلة: -
الدليل الأول: قوله تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة/179] والقصاص هو قتل من قتل واحدا كان أو أكثر.
الثاني: أنّ هذا ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إفتاء وقضاء , فإنه أفتى بهذا وأنّ الجماعة يقتلون بالواحد. وحكم فيمن قتل بصنعاء من قبل عدد أن يقتلوا به , وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به.
الثالث: أنه لو لم نقل بقتل الواحد بالجماعة لصار سببا إلى الاحتيال على الحدود بأن يجتمع العدد ليقتلوا شخصا وبهذا يسلموا من القصاص.


القول الثاني: أنه لا يقتل العدد بالواحد لقوله تعالى {النفس بالنفس} [المائدة/45] فتأخذ منهم الدية لعدم التساوي فالمقتول واحد والقتلة جماعة.
القول الثالث: أنه يقتل من الجماعة واحد وتقسم الدية على الباقين لأنّ النفس تأخذ بالنفس والباقين لم يقتلوا لمعنى ولوجود مانع فبقيت في ذمتهم الدية. والراجح المذهب بلا إشكال فتقتل الجماعة بالواحد.
قال - رحمه الله - (وإن سقط القود أدوا دية واحدة)
إذا سقط القود إما لعفو الأولياء أو لأي سبب من الأسباب فإنّ على الجماعة أن يؤدوا الدية. ولا نقول على كل واحد دية لأنّ النفس الواحدة فيها دية واحدة فتقسم الدية عليهم وإنما صار القصاص منهم كلهم لأنه لا يمكن أن نقتص إلاّ بقتلهم جميعا , ففرق بين القصاص وبين دفع الدية.
قال - رحمه الله - (ومن أكره مكلفا على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما)
هذه مسألة الإكراه إذا أكره شخص آخر على قتل الثالث , فالقتل أو الدية عليهما يعني على المُكره والمكرَه وهذا هو مذهب الحنابلة واستدل الحنابلة على هذا بأنّ المُكره عمل ما يؤدي إلى الموت غالبا وهو إكراه القاتل. وأما القاتل فأمره واضح فقد باشر القتل.
القول الثاني: لأبي يوسف أنه لا قتل عليهما. أما المباشر فلأنه مكرَه. وأما المُكره فلأنه لم يباشر.
والقول الثالث: أنه يقتل المُكره فقط دون المباشر. واستدلوا على هذا بأنّ المُكره هو القاتل في الحقيقة وأما المباشر فهو كالآلة لأنه قتل بسبب الإكراه.
والقول الرابع: أنه يقتل المباشر فقط دون المُكره لأنه هو المباشر والراجح مذهب الحنابلة. وأضعف الأقوال الذي يقول لا قتل عليهما ولا ينتهي عجب الإنسان من هذا القول بناء عليه إذا أراد الإنسان أن يقتل آخر فما عليه إلاّ أن يجبر غيره وبهذا ينجوا هو والمجبر المُكره من القتل يعني أتعجب من صدور هذا الرأي من فقيه مثل أبي يوسف - رحمه الله - فهو بعيد كل البعد عن الفقه وعن قواعد الشرع ولكن هكذا ظهر له - رحمه الله -
قال - رحمه الله - (وإن أمر بالقتل غير مكلف أو مكلفا يجهل تحريمه أو أمر به السلطان
ظلما من لا يعرف ظلمه فيه فقتل فالقود أو الدية على الآمر) هذه ثلاث صور تستثنى من الصور السابقة.


إذا أمر غير مكلف كصغير ومجنون. أو أمر مكلفا إلاّ أنه يجهل التحريم بأن ظن يجوز أن يقتل هذا الشخص أو كان الآمر به السلطان ظلما والمأمور لا يعرف ظلمه. في هذه الصور القود أو الدية على الآمر لماذا؟ لأنه في الصورة الأولى والثانية. لا قصد لهما ونحن أخذنا أنه مع عدم القصد يكون القتل خطأ وإذا لم يجب عليهما القصاص هؤلاء صار القصاص على الآمر لأنّ نفس المؤمن لا تذهب هدرا فإذا لم يمكن تحميل الضمان عليهم صار على الآمر لأنه هؤلاء أصبحوا كالآلة والآلة لا تضمن.

قال - رحمه الله - (وإن قتل المأمور المكلف عالما بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر)
إذا أمر شخص شخصا بلا إكراه أن يقتل غيره فقتله فالضمان على المباشر لأنّ الآمر لم يكره والمباشر باشر القتل حفاظا على نفسه فيكون الضمان عليه وبهذا تختلف هذه المسألة وهي مسألة إذا أُمر بغير إكراه عما إذا أُمر بإكراه. إذا تقرر معنا أنه إذا أمر شخص شخصا بالقتل فالضمان على المأمور لأنه الظالم المباشر للقتل. يبقى علينا ماذا على الآمر؟ على الآمر التعزير فقط. يعزر على هذا الأمر تعزيرا بالغا يردع أمثاله عن مثل هذا الأمر.
قال - رحمه الله - (وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفردا لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك)
رجع المؤلف لمسائل الاشتراك في القتل فيقول المؤلف فإنّ اشترك فيه اثنان ..... الخ إذا اشترك في القتل اثنان أحدهما عليه القود والآخر يوجد مانع من أن يقع عليه القصاص كأن يقتل رجل وآخر ابنه , فالأبوة تمنع من القصاص وكأن يقتل حر وعبد عبدا. فالعبد سيقتل بالعبد والحر لا يقتل بالعبد إذا يوجد الآن مانع , ذكر المؤلف الحكم انه يقتل الشريك الذي ليس فيه مانع واستدل الحنابلة على هذا بأنّ كلا منهما يستحق القود والقصاص فرفعناه عن أحدهما لوجود المانع فبقي في حق الآخر بلا مانع فأمضيناه لأنّ الموجب موجود بلا مانع.
والقول الثاني: أنه لا قصاص عليهما لأناّ لا نعلم جرح أيهما قتل ربما الذي أدى إلى الوفاة جرح الأب في المثال الاول أو الحر في المثال الثاني.


والقول الثالث: التفريق فإذا كان المانع من قتل الشريك يختص به كالأبوة فإنا نقتل الآخر وإذا كان المانع لا يختص به كنقص السبب والمكافأة فإناّ لا نقتص منه. وهذا الثالث هو المذهب والراجح ما ذكره المؤلف لأنه لا يوجد في الشريك مانع فيجب أن نجري عليه القصاص.
ثم - قال رحمه الله - (فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية)
أي إن عدل الأولياء عن القصاص إلى الدية فإنّ هذا الذي كنا سنقتله لا يجب عليه إلاّ نصف الدية لأنه كان سيقتل ويرفع القتل عن الآخر لوجود المانع فإذا صرنا إلى الدية فهما مشتركان في القتل فعليهما الدية إذ لا يوجد فأي منهما مانع يمنع من إلزامه بالدية.
والقول الثاني: أنّ على المقتول الدية كاملة لأنه كان سيقتل وهذا القول الثاني ضعيف جدا. ويكون الراجح إن شاء الله القول الأول إذا عدل الأولياء إلى الدية فإنها تكون على المشترك.


الدرس: (2) من الجنايات

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف - رحمه الله - باب شروط القصاص.
لما ذكر المؤلف - رحمه الله - أحكام القصاص وما يتعلق به وأنواع الجناية على النفس انتقل إلى الشروط التي تشترط ليتم القصاص من الجاني فقال - رحمه الله - (وهي أربعة الأول عصمة المقتول فلو قتل مسلم أو ذمي حربيا أو مرتدا لم يضمنه)
الشرط الأول للقصاص من الجاني: أن يكون المقتول معصوم النفس , فإن قتل حربيا أو مرتدا فلا قصاص ويلحق بهم الزاني المحصن إذا ثبت زناه سواء ثبت قبل القتل أو بعد القتل , المهم أن يثبت زناه. فإذا قتل الجاني شخصا غير معصوم الدم فلا قصاص.
استدل الحنابلة على هذا: أنه قتل من يستحق القتل وأما أنه افتات على الإمام فيعزر لهذا الافتيات.
القول الثاني: أنه إذا قتل الزاني المحصن أو غيره فإنه يقتاد منه لأن القتل من خصائص الإمام , فإذا قتل فقد فعل ما لم يؤذن له فيه , وكل فعل لم يؤذن فيه فعليه ضمانه.


هذا الخلاف بطبيعة الحال كما قلت في ما إذا قتل الزاني المحصن ونحوه أما إذا قتل الحربي فلا ضمان بالإجماع.
ثم - قال رحمه الله - (الثاني التكليف فلا قصاص على صغير ولا مجنون)
لا قصاص لا على الصغير ولا المجنون إجماعا. حكي الإجماع
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (رفع القلم عن ثلاث عن الصغير حتى يبلغ والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق)
وإذا كان القلم مرفوع عنه فإنه لا يؤاخذ لأن التكليف مرفوع أيضا عنه. وهذه المسألة كما قلت محل إجماع.
مسألة: لم يتطرق إليها المؤلف: السكران: فيه عن الإمام أحمد روايتان. الرواية الأولى أنه يقتل والراوية الثانية انه لا يقتل.
والصحيح أنه يقتل لدليلين: الأول: أن الصحابة أقاموه مقام القاذف في حد الخمر. فقالوا إنه إذا سكر قذف فاجلدوه ثمانين جلدة.
فقاسوا على حد القذف مما يعني أن الصحابة يؤاخذونه بأفعاله.
الدليل الثاني: انه لو قيل بأن السكر يرفع الضمان عن القاتل فلا يقتل بمن قتل لصار هذا بابا يستغله من أراد أن يقتل غيره , فلسد هذا الباب نقول من قتل يقتل ولو كان سكرانا.
ثم - قال رحمه الله - (الثالث: المكافأة بان يساويه في الدين والحرية والرق)
الشرط الثالث: المكافأة والمقصود بالمكافأة: ألا يفضل القاتل المقتول في دين ولا في حرية ولا في رق. والفرق بين الحرية والرق أنهم يقصدون بالرق أن يكون أن يكون المقتول مملوكا للقاتل. فإذا كان مملوكا للقتل فإنه ليس بينهما تكافؤ من جهتين:
الأول: تفاوت الحرية. والثاني: أنه مملوك له.
مسألة: ووقت المكافأة المعتبر هو حال الجناية , فإذا قتل عبد عبدا ثم أعتق القاتل فإنه يقتل وإن كان حال تنفيذ القصاص حرا, لكن المعتبر في المكافأة حال أداء عمل الجناية.
ثم لما ذكر الشيخ المكافأة فصل فيها.
ثم - قال رحمه الله - (فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد)
لا يقتل مسلم بكافر ولو كان هذا الكافر ذميا. وقد حكي الإجماع على هذا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه البخاري (لا يقتل مسلم بكافر)
والقول الثاني: أن المسلم يقتل بالكافر ومقصودهم إذا كان ذميا أو مستأمنا أي إذا كان معصوم الدم.


واستدل أصحاب هذا القول: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قتل مسلما بكافر) وهذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والراجح المذهب. قد شدد الإمام احمد وأنكر إنكارا شديدا على من ذهب إلى القول الثاني لكونه خالف الحديث الصريح الذي في صحيح البخاري , ولهذا أنكر عليه إنكارا شديدا , وهذا الإنكار من الإمام احمد إشارة إلى ما ذكره شيخ الإسلام: أن مسائل الخلاف تنقسم إلى قسمين: مسائل خلاف ومسائل اجتهاد , وأن المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف هي مسائل الاجتهاد لا مسائل الخلاف, والفرق بينهما أن مسائل الاجتهاد: هي المسائل التي تبني على أدلة صحيحة ولها وجهة صحيحة من النظر , أما مسائل الخلاف فتشمل هذه وتشمل المسائل التي لم تبن على دليل صحيح كخلاف الحنفية في الطمأنينة وعدة مسائل يعتبر الخلاف فيها شاذا وينكر على من خالف فيها فهذا الإنكار من الإمام احمد يشير إلى أن هذا التقسيم صحيح.
ثم - قال رحمه الله - (ولا حر بعبد)
لا يقتل الحر بالعبد لعدم مكافأة , فإذا قتل حر عبدا صرنا إلى الدية لعدم المكافأة , واستدل الحنابلة على هذا بأمرين:
الأول: انه مروي عن عمر وعلي.
الثاني: حديث (لا يقتل حر بعبد)
أما الحديث فهو ضعيف وأما الآثار فلم أقف على أسانيدها.
القول الثاني: أن الحر يقتل بالعبد. واستدلوا بدليلين:
الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (المؤمنون تتكافأ دمائهم) والعبد مؤمن.
الدليل الثاني: العمومات فإنها عامة تشمل ما إذا كان المقتول حرا أو عبدا. واختار هذا القول شيخ الإسلام وقال ليس في استثناء العبد حديث صحيح صريح. وأيد شيخ الإسلام قوله بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قتل عبده قتلناه) لكن أيضا هذا الحديث فيه ضعف. والراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام.
ثم - قال رحمه الله - (وعكسه يقتل) إجماعا ..
لأنه إذا أخذ بالأدنى فيؤخذ بالأعلى فإذا قتلنا الحر بالحر فلأن نقتل العبد بالحر من باب أولى. لأن الحر أرفع درجة في باب المكافأة من العبد عن الحنابلة.
ثم - قال رحمه الله - (ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر)


أما قتل الأنثى بالذكر فهو إجماع وتدل عليه العمومات. إلا أن بعض الفقهاء وروي عن علي ولا أظنه يثبت أنه قال (إذا قتلت المرأة الرجل فإنا نقتل المرأة ونعطي أهل المقتول نصف الدية) لكونها أقل مرتبة. فقتلها مع نصف الدية يوازي الرجل. ولكن المجد ابن تيمية أنكر هذا القول جدا وقال إنه قول ضعيف ولذلك أنا أقول إن هذا القول لا أظنه يثبت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
المسألة الثانية: أن الرجل يقتل بالمرأة , والدليل على هذا ما في حديث عمرو بن حزم أنه قال (وأن الرجل يقتل بالمرأة)
واستدلوا على هذا بالعمومات (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر).
والقول الثاني: أن الرجل لا يقتل بالمرأة لأنها أقل منه بل نصير إلى الدية. وهذا القول الثاني ضعيف.
والراجح بلا إشكال إن شاء الله أن الرجل يقتل بالمرأة , ومما يدل على تعين القول بهذا المذهب حديث اليهودي الذي قتل الجارية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقاده بها. وهو نص في قتل الرجل بالمرأة.
ثم - قال رحمه الله - (الرابع: عدم الولادة)
يشترط لتنفيذ القصاص ألا يكون القاتل أبا للمقتول وإلا فإنه لا يقاد به. واستدل الجمهور على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يقتل والد بولده) وهذا الحديث فيه خلاف شديد في ثوبته أو عدم ثبوته والأقرب والله أعلم أنه صحيح.
والقول الثاني: انه يقتل به. وهو اختيار ابن المنذر واستدل على ذلك بالعمومات. وكأنه يضعف الحديث.
والقول الثالث: اختيار الإمام مالك: أنه إن قتله قتلة لا يشك فيها بالعمد كان أضجعه وذبح فإنه يقاد به وإلا فلا.
والراجح الأول مادمنا نصحح الحديث. والحديث يجب المصير إليه فإنه يقول لا يقاد والد بولده.
ثم - قال رحمه الله - (فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل)
فلا يقتل احد الأبوين الأب أو الأم سواء علا أو سفل بناء على هذا لا يقتل أبو الأب ولا أبو الأم بحفيدهما. واستدلوا على هذا بأمرين:
الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن ابني هذا سيد) وهو يقصد ابن بنته فسماه ابن فيدخل في الحديث.
الثاني: أنه يطلق على الجد أنه والد.


القول الثاني: أن الحديث لا يتناول الجد فإذا قتل الجد حفيده أقدناه به. وذهب إلى هذا القول الحسن بن حيي واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. وكأنه خص الحديث بالوالد المباشر فقط.
يعني كأن اختيار شيخ الإسلام قوي والسبب في هذا أن النصوص الدالة على وجوب القصاص محكمة وواضحة الدلالة فالاستثناء منها ينبغي على مورد النص فقط كما أن العلاقة بين الأب والابن ليست كالعلاقة بين الأب والجد. والحقوق والواجبات تختلف من الأب إلى الجد. ولهذا نقول استثنائه جيد
ثم - قال رحمه الله - (ويقتل الولد بكل منهما)
يعني بالأب أو بالأم .. وهذا إجماع. بل قتل الولد لأبيه أشنع من قتله لأجنبي. كما أن حق الأب على الابن أكبر من حقه على أجنبي القول الثاني: أن الابن لا يقتل بالأب وهو قول نستطيع أن نقول عنه أنه ساقط مخالف للنصوص حتى انه مخالف لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يقتل والد بولده) وجه المخالفة: أن الحديث نص على الوالد فكأنه يؤكد الوجوب في الولد لأن استثناء البعض يبقي الباقي على الحكم الأول فيتوافق حديث (لا يقتل والد بولده) مع العمومات على وجوب قل الولد بوالده كما انه شنيع وغاية في العقوق فكيف يستثنى من القتل ولهذا كله أقول يمكن أن نقول أنه قول ساقط.

باب استيفاء القصاص
لما ذكر في الباب السابق شروط استحقاق القصاص أراد أن يبين هنا أنه إذا ثبتت الشروط وصار الجاني مستحقا للقتل فلابد أيضا للقيام باستيفاء هذا القصاص من تحقق شروط أخرى.
وقبل أن نذكر باب استيفاء القصاص نسينا أن نذكر تعريف القصاص وهو ملحق بباب شروط القصاص.
القصاص في لغة العرب: تتبع الأثر مأخوذ من القص.
وأما في الاصطلاح: أن يُفعل في الجاني مثل ما فعل.
نأتي إلى باب استيفاء القصاص.
- قال رحمه الله - (يشترط له ثلاثة شروط أحدهما: كون مستحقه مكلفا فإن كان صبيا أو مجنونا لم يستوف)


الشرط الأول: أن يكون المستحق للقصاص مكلف فإن كان غير مكلف فإنه ينتظر به إلى أن يبلغ الصغير أو يفيق المجنون. ولا يجوز للولي ولو كان الأب أن يستوفي القصاص , واستدل الحنابلة على هذا بان الغرض من القصاص الردع وأن يحصل التشفي من أولياء الدم. وهذه الحكمة لا تحصل إذا قتل وولي الدم صغيرا أو مجنونا بل ينتظر به إلى أن يبلغ ليحصل له التشفي ودرك الغيظ.
والقول الثاني: أن للأب أن يقتص وأن يستوفي وإن لم يبلغ الصغير أو يفيق المجنون. لأن له ولاية تخوله أن يستوفي القصاص.
الراجح المذهب. لكن لو قيل بقول ثالث لكان قولا حسنا جدا لكني لم أقف عليه لو قيل إذا كان مستحق القصاص مجنون فلوليه أن يستوفيه وإذا كان صغير فليس له أن يستوفيه وإنما ينتظر به إلى أن يبلغ لو قيل بهذا القول لكان قولا متجها جدا لأنّ الصغير يكبر ويستوفي بنفسه وربما صفح. أما المجنون فإنه قد يستمر مجنون وقلما يبرأ المجنون أليس كذلك؟ قلما يبرأ المجنون الذي فقد عقله. لو قيل بهذا القول كان قولا متجها لكني بحثت لم أجد من قال به المهم إذا كان قيل به فهو قول جيد.
قال - رحمه الله - (فإن كان صبيا أو مجنونا لم يستوف وحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة)
إذا انتظرنا الصبي والمجنون فإنه في حال الانتظار يجب أن نحبس الجاني إلى أن يبلغ الصبي أو يفيق المجنون والدليل على هذا من وجهين: -
الأول: أنه مروي عن معاوية - رضي الله عنه -
الثاني: خشية أن يهرب فلا يتمكن منه عند بلوغ الصبي وإفاقة المجنون.
مسألة / هل لولي من له الحق في الاستيفاء هل له أن يعفو إلى الدية. الجواب ليس له أن يعفو إلى الدية إلاّ في حال واحدة فقط إذا كان ولي الدم مجنونا فقيرا أما إن كان صغيرا فقيرا فلا يعدل إلى الدية لأنه إذا كان مجنونا وفقيرا فالعدول إلى الدية في هذه الحال يعني مصلحة ولي الدم فيها ظاهرة لأنه مجنون فلا يشعر باستيفاء حقه ولا يشعر بالتشفي كما انه فقير فهو بحاجة إلى الدية. ففرقوا هنا بين ماذا وماذا؟ ففرقوا بين الصغير والمجنون. وهذا القول جيد إذا رأى ولي الدم أنّ المصلحة في هذا وصنع ذلك فتصرفه حسن وهو مذهب الحنابلة وصحيح.


قال - رحمه الله - (اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه وليس لبعضهم أن ينفرد به)
الشرط الثاني: أن يتفق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه ولا يجوز أن ينفرد به أحدهم وهذا يرجع إلى قاعدة أخرى وهي [أنّ حق الاستيفاء موزع على جميع الورثة] فكل من يرث الميت له الحق في الاستيفاء فإذا صفح أحدهم سقط القصاص والدليل على هذا من وجهين الأول" قوله - صلى الله عليه وسلم - من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إما أن يقتل أو يعفو - وفي رواية صحيحة فأهله بخير النظرين. وكلمة أهله تشمل جميع الورثة فالحديث أسند الحق إلى جميع الورثة.
الوجه الثاني: أنّ هذا مروي عن الصحابة أي أنه إذا عفي واحد من مستحقي الدم سقط القصاص.
القول الثاني: أنّ حق الاستيفاء خاص بالعصبة دون النساء لأنّ المقصود من القصاص التشفي ورد العار وهو يتعلق بالرجال يعني رد العار وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام.
القول الثالث: عكس المذهب أنه إذا اختار أي واحد من ورثة الدم القصاص فإنه يقتص من الجاني ولو عفي سائر الباقين عكس المذهب واستدل أصحاب هذا القول بأنّ لكل واحد من الورثة الحق في القصاص فإذا أسقط بعضهم حقه بقي حق الباقين بدليل أنّ النفس تأخذ ببعض النفس كما في قتل الجماعة بالواحد فهذا أخذ للنفس ببعض النفس. الراجح المذهب يليه في القوة اختيار شيخ الإسلام والذي يجعل الإنسان لا يقول باختيار شيخ الإسلام أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه درأ القصاص بعفو امرأة وهي أخت المقتول فلما عفت درأ القصاص فأخذ عمر بمحضر من الصحابة بعفو امرأة لولا هذا الأثر لكان اختيار شيخ الإسلام وجيه لكن مع هذا الأثر وعموم
الحديث من قتل له قتيل يكون قول الحنابلة هو أرجح هذه الأقوال.

قال - رحمه الله - (وإن كان من بقي غائبا , أو صبيا , أو مجنونا , انتظر القدوم والبلوغ والعقل)
يقول المؤلف تفريعا على الشرط الثاني وإن كان من بقي غائبا أو صبيا أو مجنونا , انتظر القدوم والبلوغ والعقل. إذا كان بعض الورثة غائب أو بعضهم صغير أو بعضهم مجنون فيجب أن ننتظر الغائب والصغير ليبلغ والمجنون ليفيق فهذه مسألتان:


المسألة الأولى: انتظار قدوم الغائب وهي محل إجماع إذا كان أحد أولياء الدم فننتظره بالإجماع.
المسألة الثانية: انتظار بلوغ الصبي أو إفاقة المجنون فالمذهب أنه ينتظر فننتظر إفاقة المجنون وبلوغ الصبي واستدل الحنابلة على هذا بأنه لو عفي عن القصاص إلى الدية لكان لهم حق في الدية فدل هذا على أنّ لهم حقا في القصاص ينتظرون.
الثاني: أنّ هذا الصبي والمجنون لو كان منفردا لانتظرناه أليس كذلك؟ في المسألة السابقة أخذنا إذا كان منفردا ننتظره فكذلك إذا كان مع غيره من أولياء الدم.
القول الثاني: أنه إذا كان الباقون من أولياء الدم كبار بالغون فإنّ لهم الحق في الاستيفاء قبل بلوغ الصبي وإفاقة المجنون واستدلوا على هذا بأنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما قتل كان في ذريته الكبار والصغار , إلاّ أنّ الحسن - رضي الله عنه - بادر
بقتله قبل بلوغ الصغار ولم ينتظر فدل هذا على أنه لا يجب أن ننتظر الصغار والراجح المذهب والجواب عن حديث الحسن أنه - رضي الله عنه لما قتل علي أصبح الحسن هو الإمام فقتله على سبيل الحرابة لا على سبيل القصاص ولهذا لم ينتظر وهذا القول الثاني هو الراجح
قال - رحمه الله - (الثالث: أن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى الجاني)
يعني أن يتعدى الجاني إلى غيره ويكاد هذا ينحصر في الحامل ولهذا
قال بعدها (فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد)
يجب أن نأمن من أن نتعدى الجاني إلى غيره لأنه عند التعدي ندخل في قوله تعالى {فلا يسرف في القتل} [الإسراء/33] وإذا قتل الحامل وما في بطنها فقد أسرف لأنه أخذ نفسين بنفس واحدة وهذا هو الإسراف ولهذا صارت هذه المسألة محل إجماع لم يختلفوا في أنه يجب أن ننتظر الحامل إلى أن تضع.
قال - رحمه الله - (وتسقيه اللبأ)
يجب أيضا أن ننتظر بعد الولادة إلى أن تسقيه هذا الحليب اللبأ وهو أول ما يخرج من المرأة وعلل الحنابلة هذا بأنّ فقدان الطفل لأول
حليب يخرج من أمه يلحق به ضررا بالغا كبيرا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (لا ضرر ولا ضرار) فإذا يجب أن ننتظر إلى أن تسقيه هذا اللبأ ولا نقتلها بعج الولادة مباشرة.


ثم - قال رحمه الله - (ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه)
مقصود الحنابلة في المسألة السابقة بقوله (تسقيه اللبأ) يعني ويُنتظر إلى أن ينتهي النفاس وليس المقصود فقط أن تسقيه هذا اللبن بل تسقيه هذا اللبن وننتظر إلى أن ينتهي النفاس لأنه إن لم نفعل ذلك أيضا تضرر الطفل لأنه بحاجة ماسة إلى أمه في مدة النفاس.
إذا وضعته وسقته اللبن وانتظرنا إلى أن ينتهي النفاس نظرنا فإن وجد من يكفل الصبي فذاك وإلا فإنه ينتظر لمدة حولين.
استدل الحنابلة على هذا بأنه إذا كان الشرع يراعي الجنين وهو في بطن أمه فلأن يراعيه بعد أن يولد من باب أولى لأن الإنسان بعد الولادة يكون في الشرع محترما أكثر منه بعد الولادة بدليل أمرين:
الأمر الأول: اختلفوا في إسقاطه قبل نفخ الروح.
الدليل الثاني: أن فطرة الجنين لا تجب بينما إذا وُلد فإن فطرته تجب. وفي هذا كله ما يدل على انه بعد الولادة تعظم حرمة الإنسان.
بناء على هذا نقول يجب أن يُنتظر إذا لم يوجد من يكفل هذا لصغير.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يقتص منها في الطرف حتى تضع)
المؤلف يريد أن يبين أنه كما ننتظر في الجناية على النفس كذلك ننتظر في الجناية فيما دون النفس. في الحالين ننتظر فننتظر المرأة الحامل إلى أن تضع.
والدليل: أن الاقتصاص من المرأة في الأطراف وهي حامل يؤثر على الجنين وربما أسقطه , بناءا عليه ينتظرونه إلى أن يولد.
وظاهر كلام المؤلف أن الاقتصاص في الأطراف يكون بعد الولادة مباشرة ولا ننتظر كما ننتظر في القصاص في النفس.
والصواب أنه كذلك في القصاص في الأطراف ننتظر إلى أن تسقيه هذا الحليب لكي لا يتضرر من تركه. فننتظر مدة النفاس. ثم نقتص منها في الطرف.
ثم - قال رحمه الله - (والحد في ذلك كالقصاص)
يعني حكم الانتظار في الحدود كحكمه في القصاص , فإن كان الحد يؤدي إلى إتلاف النفس كالرجم فحكمه حكم الاقتصاص من النفس , وإن كان الحد لا يؤدي إلى إتلاف النفس كحد الجلد فحكمه حكم الاقتصاص في الطرف ونحن أخذنا أن الحنابلة يرون انه بعد الولادة مباشرة يُقتص منها في الطرف كذلك هنا يرون أنه بعد الولادة مباشرة يُقام إليها الحد الذي لا يؤدي إلى إتلاف النفس كالجلد.


والراجح في تلك المسألة هو الراجح في هذه المسألة وهو انه يُنتظر أيضا في إقامة الحد ولو كان بغير متلف للنفس كالجلد ننتظر إلى أن ترضع هذا الطفل لكي لا يتضرر من ذلك.

فصل
- قال رحمه الله - (ولا يستوفى القصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه)
يشترط لاستيفاء القصاص أن يحضر السلطان أو يحضر نائب السلطان أي ولا يمكن أهل المجني عليه من إقامة القصاص منفردين. وعلة ذلك انه لا يؤمن إذا انفردوا به من أن يتعدوا عليه أو يعتدوا عليه في كيفية القصاص أو في غير ذلك. ولذلك اشترطوا وجود السلطان أو نائبه.
القول الثاني: أنه لا يُشترط بل إذا أذن السلطان أو الحاكم أو الإمام أذن في القصاص فإن ولي الدم يقتص من الجاني ولو بغير حضرة السلطان. واستدل أصحاب هذا القول: بأن رجلا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل آخر فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - إخوة المقتول وقال لهم اذهبوا به فاقتلوه) وهذا الحديث صحيح. ولهذا اختار هذا القول الثاني شيخ الإسلام ابن تيمية.
والراجح والله أعلم: أن يقال إذا امن السلطان من أي يحيف أولياء الدم على المقتول ويعتدوا عليه فلهم أن يقتلوه وله أن يمكنهم من ذلك , وإذا لم يأمن فإنه لا يجوز.
السبب في هذا: أن أولياء الدم يملكون من الجاني إقامة القصاص فقط. يعني يملكون القصاص فقط فلا يملكون توبيخه ولا شتمه ولا لطمه ولا ركله ولا يملكون أن يؤذوه بأي طريقه إنما يملكون شيء واحد فقط وهو القصاص. ملكهم الشارع هذا الحق.
فإذا أعطينا القاتل لأولياء المقتول ربما قبل القتل اعتدوا عليه قبل أن يقتلوه تشفيا وهذا لا يجوز لأن الشارع لم يبح لأولياء لدم أن يتشفوا إلى بالقتل الذي هو القصاص.
ولهذا نقول قول الحنابلة قوي ووجيه ولولا هذا الحديث الصحيح لكان حسم الباب هو المتعين لكن نقول هذا القول وسط: إذا أُمن من زيادتهم بأن كانوا أخيار وأمانتهم واضحة فإنه يدفع إليهم وإلا فلا.
ثم - قال رحمه الله - (وآلة ماضية)
ويشترط في تنفيذ القصاص أن تكون الآلة ماضية فلا يجوز أن يقتل بسيف كال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)


والدليل الثاني: أن الواجب هو القصاص لا التعذيب بتطويل مدة قطع الرقبة. وهذا لا خلاف فيه إن شاء الله.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يستوفى في النفس إلا بضرب العنق بسيف ولو كان الجاني قتله بغيره)
لا يجوز استيفاء القصاص إلا بالسيف ولا يجوز بغير السيف ولو كان الجاني استخدم طريقة بشعة في قتل المجني عليه.
واستدل الحنابلة على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا قود إلا بالسيف) وهذا حديث ضعيف. وهذا من مفردات الحنابلة.
القول الثاني: وهو للأئمة الثلاثة: أن يُفعل بالجاني كما فعل. واستدلوا بدليلين:
الأول: قوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل/126]. والآية نص في المقصود.
الدليل الثاني: أن اليهودي لما قتل الجارية برض رأسها بين حجرين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله بنفس الطريقة.
وهذا القول الثاني هو الراجح بلا إشكال إن شاء الله فيُقتل كما قتل. إلا انه يستثنى من هذا إذا قتل بطريقة محرمة كأن يقتله بتجريعه الخمر فإن الجاني لا يُقتل بهذه الطريقة لأن شرب الخمر محرم , أو قتله باللواط فإن الجاني لا يقتل بهذه الطريقة.
والضابط: أنه لا يُقتل بطريقة محرمة.

باب العفو عن القصاص
قال - رحمه الله - (يجب بالعمد: القود أو الدية فيخير الولي بينهما)
هذه المسألة مسألة مهمة يقول - رحمه الله - باب العفو عن القصاص وبدأ في هذا الباب بمسألة مهمة وهي موجب القتل العمد يعني ما هو الشيء الذي يجب لأولياء الدم إذا قتل وليهم عمدا في هذه المسألة ثلاث أقوال للفقهاء هي ثلاث روايات عن الإمام أحمد.
القول الأول: وهو المذهب أنه مخير بين القتل والعفو إلى الدية. واستدلوا على هذا بالحديث السابق من قتل له قتيل فهو بخير النظرين فأسند الاختيار إلى أولياء الدم.
القول الثاني: أنّ موجَبه القود فقط , ولا ننتقل إلى الدية إلاّ برضا الجاني لأنّ حق أولياء الدم هو في القتل فقط. واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتل عمدا فهو قود. وهذا الحديث إسناده حسن.
القول الثالث: أنّ موجب القتل العمد هو القود فقط إلاّ أنّ أولياء الدم لهم أن يختاروا الدية وليس للجاني أن يرفض واستدلوا بدليلين:


أما أنّ موجبه القود فدليلهم هو دليل القول الثاني. وأما أنه لا يشترط رضا الجاني إذا أرادوا الانتقال إلى الدية فلقوله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء/29] وإذا لم يرض بالدية فقد قتل نفسه والراجح المذهب.
والقول الثالث من حيث الخلاصة والثمرة كالقول الأول تماما لكن تفقهم في المسألة يختلف ولا النتيجة أنّ أولياء الدم لهم الحق بين القتل أو أخذ الدية.
قال - رحمه الله - (وعفوه مجانا أفضل)
بلا نزاع كونه يعفو إلى غير شيء أفضل لقوله تعالى {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى/40]
وذهب شيخ الإسلام إلى أنّ العفو أفضل إذا كان في العفو مصلحة وإلا فإنّ الاستيفاء أفضل واستدل على هذا بأنّ الله سبحانه وتعالى قال {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى/40] فقرن العفو بالإصلاح فليس من الإصلاح أن يعفى عن مفسد في الأرض لم يظهر توبة هذا ليس من الإصلاح في شيء بل الإصلاح أن يستوفى منه ليكون عبرة لغيره.
قال - رحمه الله - (فإن اختار القود , أو عفى عن الدية فقط فله أخذها)
إذا عفى عن القود يعني إلى الدية أو عفى عن الدية فقط يعني دون القصاص فله أن يأخذ الدية وإذا أخذ الدية في هذه الحال فهذه الدية دية جديدة مقابل القصاص وليست هي الدية التي نقول هو مخير بين أمرين وهذا الفرق بين قول المؤلف هنا له أن يختار بين الأمرين وبين هذه المسألة التي نتكلم عليها. بعبارة أخرى إذا قيل لولي الدم أنت مخير بين القصاص والدية فهو إما أن يختار الدية حينئذ يكون له الدية والأمر واضح. أو يختار العفو عن الدية دون القصاص فحينئذ يكون حقه في القصاص فله أن يتنازل عن هذا القصاص الذي اختاره إلى الدية وهذه الدية ليست هي الدية التي للتخيير وإنما بديل عن القصاص الذي اختاره ولولا هذا لكان كلام المؤلف ليس له معنى لأنّ التخيير سبق. وهو يقول في أول الباب [يجب بالعمد القود أو الدية] إذا هذا ليس هو من باب التخيير ولكن ليبيّن أنّ الإنسان له أن ينتقل من القصاص إلى الدية وهذا معنى قوله [فله أخذها]
قال - رحمه الله - (والصلح على أكثر منها)


هذا الاختيار الثالث وهو أن يختار الدية أو القصاص أو أن يختار أكثر من الدية ذهب الحنابلة إلى أنّ لأولياء المقتول أن يختاروا أكثر من الدية واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وما اصطلحوا عليه فهو لهم. وهو حديث صحيح.
الدليل الثاني: أنّ الشارع متشوف لحقن الدماء والعفو.
الثالث: أنّ هذا مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني الأخذ أكثر من الدية.
والقول الثاني: أنه ليس له إلاّ أن يقتص أو يأخذ الدية فقط واستدل أصحاب هذا القول بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له إلاّ أن يقتص أو يعفو أو يأخذ الدية فإنّ اختار الرابعة فخذوا على يده. [أي ولي الدم] ماذا بقي؟ أن يأخذ أكثر من الدية وهذا الحديث ضعيف. من وجهين:
الوجه الأول: أنه ضعيف لضعف إسناده.
الوجه الثاني: أنه يخالف متن الحديث السابق وهو أصح منه وهذا يشعر بالنكارة في المتن لمخالفته الأحاديث التي هي أصح منها وربما نضيف وجها ثالثا: وهو مخالفته لعمل الصحابة. ولهذا نقول إن شاء الله الراجح كما هو عليه العمل الآن أنه لهم أن يأخذوا أكثر من الدية ولو بأضعاف مضاعفة.
قال - رحمه الله - (وإن اختارها)
يعني فليس له غيرها إذا اختار الدية فإنه لا يتمكن من الرجوع إلى القصاص لأنه يكون رجع من الأدنى إلى الأعلى وإنما أجزنا له أن يرجع من القصاص إلى الدية لأنه رجوع من الأعلى إلى الأدنى فإذا اختار الدية انتهى الأمر وليس له أن يرجع بل يلزم بأخذ الدية مهما كان الأمر.
قال - رحمه الله - (أو عفا مطلقا)
يقول الشيخ فليس له غيرها يعني إذا عفا مطلقا فله الدية فإذا قال ولي الدم عفوت عنك ما نقول قوله عفوت عنك يعني عن القصاص والدية. بل نقول عليك الدية لماذا؟ لأنّ العفو المطلق ينصرف إلى القصاص لأنه المقصود الأعظم وعلى هذا عمل الناس فإذا قال عفوت يقصد عن القصاص وإذا أراد أن يعفو عن القصاص والدية فهو يؤكد هذا ويقول عفوت مجانا أو عفوت بلا مقابل ويؤكد هذا المعنى أما كلمة عفوت فبلا إشكال أنها لا تتناول الدية لأنّ المقصود الأعظم هو العفو عن القصاص.
قال - رحمه الله - (أو هلك الجاني فليس له غيرها)


إذا هلك الجاني ليس له إلاّ الدية لأنّ الجاني هلك فإن كان الجاني لا مال له سقط ليس له شيء.
والقول الثاني: أنه بمجرد موت الجاني لا شيء لأولياء الدم وهذا القول اختاره شيخ الإسلام والراجح إن شاء الله المذهب أنه إذا مات الجاني فإنه ننتقل إلى الدية تكون في ماله.
قال - رحمه الله - (وإذا قطع أصبعا عمدا)
المؤلف مقصوده بقوله إذا قطع أصبعا عمدا التمثيل والضابط هو [أن يحصل جرح في الطرف دون النفس مما فيه قصاص] مقصود المؤلف أن يتكلم عن الجروح التي في الأطراف التي فيها قصاص دون التي ليس فيها قصاص إذا يريد المؤلف أن يتكلم عن هذه المسألة
ولهذا لو أنه - رحمه الله - بيّن أنه يريد التمثيل فقط باستخدام حرف الكاف أو كلمة مثل لكان أوضح. نأتي إلى الحكم.
قال - رحمه الله - (وإذا قطع أصبعا عمدا فعفا عنها ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على غير شيء فهدر وإن كان العفو على مال فله تمام الدية)
هذه مسألة واحدة إذا قطعت أصبع شخص فعفا ثم سرت الجناية إلى النفس فإما أن يعفو على غير شيء أو يعفو على مال , فإن عفا على غير شيء فهدر نفسه كلها هدر , وإن عفا على مال استحق بقية الدية أو بتعبير المؤلف تمام الدية ما المقصود بتمام الدية؟
المقصود بتمام الدية أن يأخذ الدية كاملة محذوفة منها قدر دية الأصبع أو العضو المعفو عنه. فمثلا في المثال الذي ذكره المؤلف كم سيأخذ؟ دية الأصبع عشرة من الإبل سيأخذ تسعين من الإبل. هذا مقصود المؤلف بقوله تمام الدية. والمؤلف - رحمه الله - في هذه المسألة خالف المذهب ولكنه تابع الأصل أي المقنع يعني تابع ما ذكره ابن قدامة - رحمه الله -
القول الثاني: أنه إذا عفى على مال أو على غير مال وسرت الجناية فإنّ له تمام الدية في الحالين وهذا هو المذهب لا يفرقون بين أن يكون عفا على مال أو عفا مجانا.


والقول الثالث: أنه إذا عفا على مال أو على غير مال ثم سرت الجناية إلى النفس فله كمال الدية كلها. لأنّ هذه الجناية أصبحت جناية على النفس وهو إنما عفا عن جناية الأصبع فهذه الجناية الجديدة لم يعفو عنها وهذا القول في الحقيقة وجيه وجيد. لأنه هو عفا عن شيء والجناية أصبحت شيئا آخر إذ سرت إلى النفس كلها. إذا عرفتا الآن حكم هذه المسألة في المذهب وعند المؤلف وعلى القول الصحيح.
قال - رحمه الله - (وإن وكل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما)
إذا وكل من يقتص ثم عفا ولم يعلم الموكل فاقتص فلا شيء عليهما أما الموكل فلأنه لا تفريط منه فهو يعمل بأمر الموكِل. وأما الموكِل
فلأنه عفا والقاعدة [أنّ الإحسان لا يوجب الضمان] فهو محسن ولا نوجب عليه الضمان.
والقول الثاني: أنه على الموكِل الضمان لأنه فرط في المبادرة بإعلام الموكَل والراجح المذهب لأنه في الحقيقة ما على المحسنين من سبيل.

قال - رحمه الله - (وإن وجب لرقيق قود أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه إليه)
إذا وجب الحق للرقيق سواء جناية عليه أو قذف فإنّ الحق هو لنفس الرقيق سواء أراد أن يطالب أو يعفو واستدلوا على هذا بأنّ المقصود من إقامة الحدود والقصاص هو أخذ حق المجني عليه وأن يتشفى من الجاني وهذا المعنى يختص ويتعلق بالنفس.
والقول الثاني: أنّ العبد له أن يقتص أو يعفو إلى المال وليس له أن يعفو مجانا لأنه إذا عفا مجانا فقد أدخل الضرر على سيده أليس كذلك؟ لأنّ المال إذا جاء سيكون لمن للسيد فهو مخير بين أمرين إما أن يقتص وليس للسيد أن يلزمه أن يعفو , أو يعفو إلى المال وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.


ولو قيل بقول ثالث أنه ليس للعبد إلاّ أن يقتص أو يعفو على مال إلاّ إذا كان العفو على مال يدخل الضرر على السيد فحينئذ ليس له أن يأخذ حقه. صورة هذه المسألة أن يكون العبد باهظ الثمن جدا ثم يقذف فإذا قذف إذا عفا العبد على مال ربما تتطرق إليه الشك وهذا الشك ينقص من قيمته كثيرا وربما كان النقص من قيمته أكثر بكثير من الدية التي عفا عنها وحينئذ دخل ضرر عظيم على السيد فمن مصلحة السيد أن يقتص وأن يأخذ حقه وأن نجلد القاذف ليتبيّن للناس أنه كاذب فتبقى قيمة العبد كما هي وهذا القول يتوافق مع اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية من حيث حفظ حق السيد.
قال - رحمه الله - (فإن مات فلسيده)
أي إذا مات العبد فإن الحق ينتقل إلى سيده والسبب في هذا أنّ حقوق العبد تنتقل بموته إلى السيد المادية والمعنوية كحق القذف ينتقل إلى سيده فله أن يأخذ حقه أو يعفو مجانا أو إلى عوض.

باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس
قوله باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس المؤلف يريد بهذا التبويب أن يبّن أنّ القصاص كما يكون في الجناية على النفس يكون كذلك في الجناية على مادون النفس القصاص فيهما يكون على ما في النفس وما دون النفس وهذا مراده والتفصيل القادم كله يدور حول هذا المعنى.
قال - رحمه الله - (من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الطرف والجراح ومن لا فلا)
القاعدة [أنه من لا يجري بينهما قصاص في النفس لا يجري بينهما قصاص فيما دون النفس] فإذا قطع مسلم يد كافر فإناّ لا نقطع يد المسلم لأنه لا قصاص بينهما في النفس فلا قصاص بينهما فيما دون النفس فهذا الكلام من المؤلف يقرر هذه القاعدة.

قال - رحمه الله - (ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس)
يريد المؤلف الإشارة إلى أنّ التفصيل السابق معنا في العمد والخطأ وشبه العمد كذلك يأتي فيما دون النفس فمثلا الاعتداء على ما دون النفس خطأ لا يوجب القصاص كما أنه لا يوجبه في النفس ويأتي معنا الخلاف بين الجمهور والمالكية في إثبات شبه العمد أو نفيه فما قيل من التقسيم هناك نفسه هنا إلاّ أنه هناك في النفس وهنا فيما دون النفس.


الدرس: (3) من الجنايات

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كنا في الدرس السابق تحدثنا عن أول باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس ثم توقفنا على انواعه
قال المؤلف - رحمه الله - تعالى:" وهو نوعان"
أي أن القصاص فيما دون النفس ينقسم إلى قسمين: الأول: الأطراف والثاني: الجروح وسيخصص المؤلف كل واحد من النوعين بكلام يتعلق به , كما أنه توجد أشياء مشتركة كما سيأتينا أثناء الشرح
قال المؤلف - رحمه الله - تعالى:" أحدهما في الطرف"
يعني أنه يجب القصاص في الطرف ولهذا قال فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن وهذه الأربعة معروفة
ثم قال والجفن, والجفن هو غطاء العين,
ثم قال والشفة ويقصد المؤلف بالشفة العليا والسفلى ثم قال واليد يعني سواء كان من الكتف أو من المرفق
ثم قال الرجل والأصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والألية وهذه معروفة
ثم قال: والشفر , والشفر هو أحد اللحمين المحيطين بفرج المرأة , ثم ذكر الحكم فقال:
كل واحد من ذلك بمثله يعني العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن إلى آخره فأفادنا المؤلف انه يجب القصاص في الأطراف والدليل على هذا من وجهين الأول: قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة/45] , الوجه الثاني: ما صح أن عمة أنس بن النظر رضي الله عنهما وأرضاهما كسرت ثنية جارية في المدينة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس كتاب الله القصاص , فدل الكتاب والسنة والإجماع على انه يجب القصاص بالأطراف بشرطه الذي سيأتينا فإذاً يجب أن يقتص بالأطراف بهذه الأدلة الصحيحة الثابتة وقد ذكر المؤلف أمثلة ما يقتص بالأطراف وهو ما تقدم من قوله العين بالعين والأنف بالأنف إلى آخره , فإذاً عرفنا الآن وجوب القصاص في الأطراف والدليل عليه من الكتاب والسنة والإجماع. ثم انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إلى الشروط.
يقول ـ رحمه الله ـ وللقصاص في الطرف شروط


الواقع أن هذه الشروط ليست خاصة بالطرف بل تشمل الجروح فهي شروط في الطرف وفي الجرح, وهذه الشروط هي شروط جواز الاستيفاء أما شروط الوجوب فهي الأربعة التي تقدمت معنا في الدرس السابق, فإذا تبين معنا أن للقصاص شروط وجوب وشروط جواز , وهو الآن سيشرع في شروط الجواز.
الشرط الأول: الأمن من الحيف , والدليل على هذا الشرط أن القصاص مع عدم الأمن من الحيف فيه ظلم وجور , والظلم والجور لا يجوز , إذا يشترط الأمن من الحيف لجواز القصاص , ثم سيذكر المؤلف الفروع المترتبة على هذا الشرط.
القصاص لا يكون إلا إذا كانت الجناية بقطع من المفصل فإن كان القطع من وسط الساق مثلاً أو من وسط الساعد مثلاً فإنه لا قصاص لأنه ليس من المفصل , وتعليل هذا أن ما ليس من المفصل لا يمكن أمن الحيف فيه , إذ التقدير أصبح صعباً لا يمكن أن نعرف الحد الذي يؤخذ ليستوي القصاص مع أصل الجنية , وسيضيف المؤلف موضع آخر يجوز الاقتصاص منه.
إذا يجوز القصاص في صورتين فقط , إذا كانت الجناية من مفصل أو في شيء له حد , ومثل بما له حد بالأنف , فإن الأنف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: وهو أوله العظم الجامد في أوله ثم ينتهي بمارن وهو ما فيه المنخرين, فإذا كانت الجناية من حد المارن جاز الاقتصاص , وإذا كانت الجناية في العظم الذي قبل المارن فإنه لا قصاص, لأن المارن له حد وأما وسط العظم قبل المارن فليس له حد فهو يشبه قطع وسط الساق أو وسط الساعد ,إلى هذا ذهب الجمهور وهو أنه مالا يمكن القصاص فيه مع أمن الحيف فإنه لا يجوز أن تقتص , وتقدم دليلهم.


القول الثاني: أنه يقتص ولو في غير ماله حد ولو في غير المفصل , وطريقة القصاص أن نأتي بطبيب من أهل البصيرة أو المعرفة ويجتهد ما أمكنه في عدم الحيف والزيادة, وتتم عملية القصاص ولو من غير مفصل أو عظم له حد, وهذا القول الثاني هو الصحيح أن شاء الله , وهو مذهب المالكية , واختيار ابن المنذر لأن النصوص عامة وبالإمكان التحرز من الحيف بالاستعانة بمن له بصيرة من أهل الخبرة من الأطباء , هذا التقرير كله يتعلق بالوقت السابق الذي لم يتطور فيه الطب , أما اليوم فبالإمكان أن يقتص الطبيب من الجناية اقتصاصاً لا زيادة فيه ولا نقص عن الجناية , لأنه أمكن معرفة قدر الجناية بالآلات الحديثة وإيقاع نظيرها على الجاني بلا زيادة , فلا شك اليوم أنه يمكن أن يقوم ولي الأمر بالاقتصاص من غير حيف ولا زيادة.
مسألة/ المماثلة تكون بالمساحة لا بالقدر , بمعنى لو قطع الجاني من المجني عليه مثلاً سته صانتي من قدمه , فإن المماثلة تكون بأن ننظر هذه السته صانتي ماذا تمثل من قدم المجني عليه فإن كانت تمثل النصف قطعنا نصف قدم الجاني , وإن كانت تشكل الربع قطعنا ربع قدم الجاني, إذا تعرف بالنسبة لا بالمقدار فننظر إلى نسبة ما جمناه الجاني ونفعل فيه كما فعل.
الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع , يشترط لجواز الاقتصاص أن يستوي العضو المجني عليه مع عضو الجاني في الاسم والمكان , واستدل الحنابلة على هذا بأن الأعضاء إذا اختلفت أماكنها اختلفت منافعها فلم تتحقق المساوات , واستدلوا بدليل ثاني وهو أنه لا يجوز أن تقتص من العين بالأنف ولا بالأنف من الأذن فكذلك إذا اختلف الاسم والمكان , وسيذكر المؤلف ما المقصود بالاسم والمكان , عرفنا الآن حقيقة الشرط الثاني, ثم ذكر الأمثلة.


لا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين , هناك قاعدة تريح طالب العلم (كل ما كان في الجسم منه يمين ويسار أو كان فيه أعلى وأسفل فإنه لا يؤخذ أحدهما بالآخر) , فإذا قطع يده اليمنى فلا نقطع يده اليسرى , يعني إذا جنا جناية على يده اليمنى , فإنا لا نقتص من الجاني بأخذ يده اليسرى , لماذا؟ لاختلاف المكان والاسم , فإن هذه اسمها اليد اليمنى , وهي في اليمين وهذه اسمها اليد اليسرى وهي في اليسار , تقدم معنا دليلهم أن المنافع تختلف باختلاف الاسم والمكان ,وهذا صحيح.
ثم - قال رحمه الله - ولا خنصر ببنصر
الخنصر والبنصر كلاهما يمين وكلاهما في يد واحدة لكن لا يجوز أن نأخذ أحدهما بالآخر لاختلاف المنفعة وأيضاً لاختلاف المكان بالنظر إلى اليد.
لا يجوز أن نأخذ أصلي بزائد ولا العكس بأن نأخذ زائد بأصلي لعدم المساواة , فإن الأصلي أنفس وأعلى درجة من الزائد , ولا نأخذ الأعلى بالأدنى كما أنا لا نؤخذ الأدنى بالأعلى.
ولو تراضيا , دليل هذا أن الدماء لا تستباح بالإباحة.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى (ولو تراضيا لم يجز) هذا يرجع إلى المسائل السابقة كلها وليس خاص بالأصل في الزائد وإنما يشمل المسائل السابقة كلها , فإذا حصل التراضي فإن هذا التراضي لا أثر له في باب القصاص ويجب أن يستوي.
الشرط الثالث: استوائهما في الصحة والكمال , وهذا الشرط يرجع إلى الاستواء في الصفة , ودليلهم أن قاعدة القصاص تعتمد المساواة والمماثلة , وكما تكون المساواة والمماثلة في الاسم والموضع كذلك في الصفة , فالأدلة الدالة على الشرط السابق تدل على هذا الشرط الذي اعتبره المؤلف الشرط الثالث, ثم أيضاً بدأ بذكر الأمثلة.


لا تؤخذ صحيحة بشلاء ,فإذا كان الجاني له يد يمنى صحيحة وجنا على يد يمنى لشخص آخر شلاء فإنه لا يجوز أن نقتص منه لأن يد الجاني هنا أعلى مرتبة من يد المجني عليه فلا يجوز أن نقتص هنا , لماذا؟ لما تقدم من أنه يشترط المساواة , والدليل الثاني أنه لو أخذنا يد الجاني الصحيحة بالشلاء لكنا أخذنا حق الجني عليه وزيادة , والزيادة هي في الصفة ,تقدم معنا أن هذا ظلم وجور , ولشارع لا يقر الظلم والجور ول في باب القصاص , وما قيل في الصحيحة بشلاء كذلك ينطبق على كاملة الأصابع بناقصة ,فإذا جنا من له خمسة أصابع على من له أقل من ذلك فإنه لا قصاص , وكذلك ولا عين صحيحة بعين قائمة , والعين القائمة هي العين التي موجودة على حالها إلا أنه لا يبصر بها.
والقول الثاني وهو مذهب داود الظاهري أنه تؤخذ الصحيحة بالشلاء وكاملة الأصابع بناقصتها واستدل على هذا بأن الله تعالى قال: (العين بالعين) , (والسن بالسن) , ولم بفرق بين عين وأخرى وسن وأخرى , وهذا قول ضعيف مخالف لمذهب جماهير الفقهاء ومخالف لقاعدة الشرع في العدل والبعد عن الظلم والجور , فإن اليد الشلاء لا يمكن أبداً أن تستوي مع اليد الصحيحة وكيف نأخذ كاملة بمعيبة فنقول إن شاء الله الراجح مذهب الجمهور , ومذهب داود فيه ضعف.
إذا قطع الأشل يد الصحيح, وهذا هو العكس ولهذا يقول ويؤخذ عكسه ولا أرش , إذا قطع الأشل يد الصحيح فالمجني عليه مخير بين أمرين: الأمر الأول: أن يأخذ الدية وهذا جائز بالإجماع , وله أن يفعل بالإجماع , لأن القصاص على وجه الكمال متعذر فله أن يصير إلى الدية.
القسم الثاني: أن يختار القصاص , فإذا اختار القصاص فعلى الذهب له ذلك لكن لا يعطى أرش النقص , لأنها يد أخذت بيد باختيار المجني عليه , والقول الثاني أنه إذا اختار القصاص فله الحق في الأرش , لأنه باختياره القصا لم يؤخذ حقه كاملاً فقد أخذ معيبة بصحيحة , فصار له الحق بأخذ الفرق ,وإذا كنا نقول أن قاعدة الباب المساواة والعدل فالراجح القول الثاني ولأنه إذا اخذ صحيحة بمعيبة فهو لم يأخذ حقه في الواقع , يعني كاملاً في الواقع.


قوله فصل النوع الثالث في الجراح , تقدم معنا في أول الدرس وفي آخر الدرس السابق الأدلة على وجوب القصاص في الجراح وأنه أمر تفق عليه إلا في مسائل معدودة اختلفوا في القصاص فيها بالنسبة للجراح , لكن من حيث هو وجملة هو محل إجماع.
لا يجوز الاقتصاص في الجروح إلا في الجروح التي تنتهي إلى عظم , فإن كان الجرح لا ينتهي إلى عظم فلا يجوز القصاص فيه , ستدل الحنابلة على هذا أن الجرح الذي لم ينتهي إلى عظم لا يمكن القصاص فيه بلا حيف , وإذا لم يمكن القصاص فيه بلا حيف لم يجز القصاص لأن الظلم محرم.
والقول الثاني أنه يجوز القصاص في الجروح وإن لم تنتهي إلى عظم وطريقة ذلك أن ننظر إلى مقدار الجرح في الطول والعرض والعمق ثم نحدث في الجاني نظيره , والخلاف في هذه المسألة قريب من الخلاف في مسألة القصاص في الأطراف والراجح إن شاء الله هو هذا , أنه يقتص في الجروح ولو لم تكن إلى العظم ولو لم تنتهي إلى عظم , لكن المؤلف سيفرع في المسائل التالية بناء على هذه القاعدة.
ثم - قال رحمه الله - (كالموضحة وجرح العضد والساق والفخذ والقدم)
هذه أمثلة لما يمكن قيها الاقتصاص وليست أمثلة لما لا يمكن فيه الاقتصاص.
فالمثال الأول هو الموضحة والموضحة هي: كل جرح ينتهي إلى العظم إذا كان في الرأس أو الوجه فالموضحة فيها القصاص.
والتعليل ظاهر: لأنها تنتهي إلى عظم. وفيها القصاص بالإجماع لأنها تنتهي إلى عظم.
وجرح العضد والساق والفخذ والقدم لأن هذه الأعضاء إذا جرح الإنسان فيها وصل الجرح إلى العظم لقرب العظم من الجلد , إذا لا إشكال فيها أيضا أنها تعتبر فيها قصاص.
لماذا قال المؤلف جرح العضد والساق ونحن نقول إن الموضحة كل جرح يوصل إلى العظم.؟
إذا هذه تعتبر موضحات .. لأن الموضحة تختص بالرأس والوجه ولهذا أراد أن يبين حكم باقي الأعضاء , وهو جميل جدا من المؤلف.
ثم - قال رحمه الله - (فلا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح)


أي لا يقتص من كل جرح لا ينتهي إلى عظم. من أمثلتها الجائفة: الجرح الذي يصل إلى الجوف , يعني ولا ينتهي إلى عظم. فهذا الجرح لا قصاص فيه لأنه لا ينتهي إلى عظم بناءا على هذا لا يمكن أمن الحيف فيه بناءا على هذا لا يجوز الاقتصاص فيه , وهذا كما تقدم بناءا على ما اختار الحنابلة - رحمهم الله - وأخذنا القول الراجح وهو انه يمكن الاقتصاص في الجائفة وفي غيرها مما لا ينتهي إلى عظم. ثم أراد المؤلف إن يستثني.
ثم - قال رحمه الله - (غير كسر سن)
يعني ففيه القصاص وهذا الاستثناء سببه أن السن عبارة عن عظم , ونحن أخذنا أن كسر العظم ليس فيه قصاص إلا إذا كان من مفصل او من حد ينتهي إليه كمارن الأنف فالسن ليس من مفصل وليس من حد يصل إليه ومع ذلك فيه القصاص.
الدليل الأول: قال تعالى {والسن بالسن} [المائدة/45]
الدليل الثاني: حديث أنس ابن النضر السابق.
الدليل الثالث: الإجماع , فإنهم أجمعوا أن السن فيه قصاص. لوضوح وظهور الأدلة من الكتاب والسنة.
قوله رحمه الله (غير كسر سن)
فهم من كلام المؤلف أن كسر العظام سوى السن ليس فيه قصاص. والتعليل: لا يمكن أمن الحيف فيه.
قال الإمام الشافعي - رحمه الله - عبارة جميلة جدا (لا يمكن أن يكون كسر ككسر)
مقصوده: أنه لا يمكن أن يستوي كسران فإذا كسر الجاني رجل رجُل لا يمكن أن نكسره كسر يساوي الكسر الأول لأنه لا يمكن أن يكون كسر ككسر لاختلاف الموضع وعدم معرفة مكانه بدقة. تقدم معنا الخلاف في هذا لما تحدثنا عن الأطراف فالأطراف والعظام الخلاف فيها واحد ولهذا نقول الراجح أنه يمكن الاقتصاص في كسر العظام إما بالطريقة التي ذكرها الفقهاء وهي أن نأتي بمختص دقيق حاذق يحسب لنا مساحة الكسر فيكسر يد أو رجل الجاني ككسره من المجني عليه , وإما على طريقة الأطباء المعاصرين وهذا ممكن بلا إشكال , والحديث الدال جواز القصاص في السن دليل على جواز القصاص فيما سواه من العظام , لأنه حتى في السن لا يمكن من الأمن من الحيف وإنما على المنفذ أن يتحرى الدقة قدر الإمكان ثم لا يكلف الله بعد ذلك نفسا إلا وسعها.
ثم - قال رحمه الله - (إلا أن يكون أعظم من الموضحة)


معنى هذه العبارة: انه لا يجوز القصاص في الجروح إلا في جرح بلغ الموضحة وتعداه وهو أن يصل إلى العظم ويتعدى العظم , فإذا وصل إلى العظم وتعداه فغنه يجوز القصاص الآن ,ولكن القصاص - كما سيذكر المؤلف - بالجرح الذي إلى العظم.
ثم - قال رحمه الله - (كالهاشمة والمنقلة والمامومة)
الهاشمة: هي الجراح التي توح العظم وتكسره , والمنقلة: هي التي توضح العظم وتكسره وتنقله من موضعه إلى موضع آخر.
والمأمومة: هي الجناية التي تصل إلى أم الدماغ , والمقصود بأم الدماغ: جلدة فيها الدماغ او جلدة تحتوي على الدماغ.
عرفنا الآن من كلام المؤلف أن الجناية الزائدة على الموضحة فيها قصاص لكن القصاص يكون بقدر الموضحة فقط ويأخذ أرش الباقي.
والمقصود بالأرش هنا: الفرق بين دية الموضحة والجناية التي هي أكثر منها كالهاشمة مثلا , فالفرق بين الديتين هو الأرش الواجب على الجاني , فإذا جن ى رجل على رجل هاشمة فالحكم كالتالي: نقتص من الجاني بقدر الموضحة ثم نعطي المجني الفرق بين دية الجنايتين.
فدية الموضحة كما سيأتينا في كتاب الديات خمس من الإبل ودية الهاشمة عشر من الإبل , الفرق بينهما خمس .. فله خمس من الإبل.
وهذا غاية في العدل في الحقيقة , فقد أخذنا للمجني عليه كامل حقه.
مسألة: الجنايات فوق الموضحة لا يُقتص منها بالإجماع , لأنه يخشى على الجاني في القصاص الهلاك. فالهاشمة والمنقلة والمامومة لا قصاص فيها.
ثم - قال رحمه الله - (إذا قطع جماعة طرفا)
انتقل المؤلف إلى بيان حكم ما إذا اجتمع جماعة في جناية سواء كانت الجناية في طرف أو في جرح. فالحكم على كلام المؤلف أن القود يكون منهم جميعا. فإذا اشترك خمسة في قطع يد رجل قطعت أيديهم فأخذنا باليد الواحدة خمس أيادي.
التعليل: أن الجناية كانت بفعلهم جميعا ولهذا وجب القصاص عليهم جميعا.
الدليل الثاني: قاسوا القصاص في الأطراف على القصاص في النفس , فإذا كانت النفس الواحدة يُقتص لأجلها من خمسة أنفس كذلك في القصاص.


القول الثاني: أنا لا نأخذ بالأيدي بيد واحدة. لأن قاعدة القصاص المساواة ولا مساواة .. ولأن الله - تعالى - يقول {والعين بالعين} [آل عمران/13]. فواحد بإزاء واحد. والراجح مذهب الجمهور وهو القول الأول لأن العدل هنا يقتضي أن نأخذ الأيدي باليد لأنهم اشتركوا في الجناية. ولأن القياس على النفس - من وجهة نظري - قياس جلي.
مسألة: يشترط عند الحنابلة لأخذ الأيدي باليد أن تكون جناية المجموعة غير متميزة وحصل القطع بمجموعها.
مثاله الذي يوضحه: لو استخدم الجناة فوضعوا السكين على يد المجني عليه ثم اتكئوا عليها جميعا حتى انفصلت اليد. الآن الجناية من مجموعة .. هل أفعالهم متميزة أو غير متميزة.؟ غير متميزة .. وهل وقعت بفعلهم جميعا أو بفعل بعضهم.؟ بفعلهم جميعا ..
إذا تحقق الشرط فيجب أن نقتص. علمنا من هذا أن الجناية من المجموعة لو اختلفت وتمايزت بأن قطع كل منهم من جانب ولم يتفقوا على جانب واحد فلا قصاص , لأن الجناية لم تقع من مجموع الفعل ولأن أفعالهم متمايزة وربما كان بعضها أعمق وأكثر تأثيرا من بعض
ويستثنى من هذا الشرط ما إذا حصل تمالؤا وتواطؤ على هذا الفعل ليتجنبوا القصاص حينئذ يجب القصاص على مجموعهم.
ثم - قال رحمه الله - (وسراية الجناية مضمونة)
سراية الجناية مضمونة , التعليل: لأن السراية أثر الجناية وإذا كانت الجناية مضمونة فأثرها مضمون كذلك.
إذا السراية مضمونة سواء كانت السراية في العضو أو في النفس. مثاله: إذا قطع الجاني أصبع المجني عليه فإما أن تسري الجناية إلى اليد بأن يلزم من هذا قطع اليد أو أن تسري الجناية إلى النفس بان يستمر في النزف إلى أن يموت. والسراية مضمونة في النفس وما دون النفس. والتعليل: هو ما تقدم معنا إلا أنه يشترط لهذا شرط سيذكره المؤلف.
ثم - قال رحمه الله - (سراية القواد مهدورة)


سراية القودة هدر لا فقيمة لها. والمقصود بالقود القصاص: فإذا تم القصاص على الجاني وأدى القصاص إلى سراية أودت بالعضو كاملا أو بالنفس فإنه تعتبر هذه السراية هدر لأن القصاص مأذون فيه شرعا والقاعدة المشهورة أن ما ترتب على المشروع غير مضمون فما دام العمل مشروع فما يترتب عليه فإنه لا ضمان فيه. ثم انتقل المؤلف للشرط الذي أشرت إليه سابقا.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يُقتص من عضو وجرح قبل برئه كما لا تطلب له الدية)
مذهب الحنابلة أنه لا يجوز ويحرم الاقتصاص من العضو وأخذ الدية عليه قبل برئه. أنه لا يجوز ويحرم أن نقتص قبل برئه.
واستدلوا على هذا أن رجلا جنا على ركبة صحابي فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال أقدني من فلان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (حتى تبرأ) ثم جاء أخرى وقال اقدني فاقتص له النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لما برئ الجرح جاء المجني عليه أصبت بالعرج. فهذه سراية لأن الجرح أصبح يشكل عاهة مستديمة وهي العرج فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (قد نهيتك أبعدك الله) ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاقتصاص قبل البرء. فاستدل الحنابلة بهذا الحديث على التحريم ورتبوا على هذا فرعا فقهيا آخر وهو أنه إذا أبى إلا الاقتصاص فإن السراية التي تكون بعد ذلك تكون هدر ولا يُقتص للمجني عليه منها لأنه ضيع حقه بنفسه.
والقول الثاني: أن الصبر إلى البرء مستحب يعني طلب الاقتصاص مكروه فقط وليس محرما.
والدليل: أنه أذن - صلى الله عليه وسلم - في الحديث واقتص منه.
والراجح انه يحرم لأمرين:
الأول: الاقتصاص قبل البرء دائما يفضل إلى النزاع فيما إذا قعت السراية.
الثاني: أنه في آخر الحديث قال ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاقتصاص قبل البرء.
بناءا على هذا لا يجوز لقاضي أن يقتص في الجناية قبل البرء بهذا انتهى هذا الفصل.
بهذا انتهى كتاب الجنايات ولله الحمد