شرح زاد
المستقنع للخليل كتاب الإقرار
الدرس (1) من الإقرار
قوله - رحمه الله - كتاب الإقرار
الإقرار في لغة العرب / هو ثبوت الشيء بعد أن كان متزلزلا. ويقصد به
الاعتراف.
وأما في الشرع/ فهو الاعتراف بحق للغير في مجلس القضاء والإقرار مشروع
بالكتاب والسنة والإجماع.
ثم - قال رحمه الله - (يصح من مكلف)
يعني يشترط له التكليف. والتكليف كما تعلمون هو البلوغ والعقل , أما العقل
فهو شرط بالإجماع وأما التمييز فهو شرط عند الجماهير واستثنى الحنابلة منه
ما إذا أقرّ بما سمح وأذن له بالتعامل فيه أيّ المميز الذي أذن له بما يأذن
له عادة من أنواع التجارات فإذا أقرّ بهذا الذي أذن له فيه صح.
والقول الثاني: أنّ المميز لا يقبل إقراره مطلقا لا فيما أذن له ولا فيما
لم يأذن له لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة ,
والراجح أنّ إقراره إن شاء الله مقبول فيما أذن له لأنّ الشارع إذا دلت
أدلته على أنه يأذن له أن يتصرف فكذلك ينبغي أن يقبل منه الإقرار.
ثم - قال رحمه الله - (مختار)
الاختيار شرط بالإجماع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عفي عن أمتي
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. فهو لا شك شرط صحيح بل إنّ الإكراه
مناقض تماما للإقرار لأنّ الإقرار هو أن يقرّ من نفسه ومن دوافع شرعية
داخلية بحق الآخرين فهو يناقض تماما الإكراه ولهذا صار محل إجماع.
ثم - قال رحمه الله - (غير محجور عليه)
المحجور عليه إما أن يحجر عليه لسفه , أو أن يحجر عليه لفلس كما تقدم معنا
والمحجور عليه لا يقبل منه الإقرار مطلقا عند الحنابلة وتقدم معنا أنّ
المحجور عليه لفلس الراجح أنه يقبل منه إذا أقرّ بدين بشرط أن يأتي ببيّنة
أو أن تدل القرائن ولو لم توجد بيّنة وكذلك المحجور عليه لسفه يقبل إقراره
ولكن لا يؤاخذ إلاّ بعد فك الحجر فالصحيح أنّ المنع مطلقا ضعيف والجواز
مطلقا ضعيف والصواب هو هذا التفصيل.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يصح من مكره)
يعني أحيانا الحنابلة يكررون وأي فرق بين قوله مختار ومكره. لكن غالبا إنما
يأتون بالشيء المكرر ليبني عليه ما بعده ولكن مع ذلك في الحقيقة هو غير
مقبول لأنه تكرار ليس له فائدة واضحة. إذن قوله ولا يصح من مكره تقدم وهو
محل إجماع.
قال - رحمه الله - (وإن اكره على وزن مال فباع ملكه لذلك صح)
إذا أكره على وزن مال يعني اكره على أن
يسلم مال ثم ذهب ليبيع بيته ليسلم هذا المال فالبيع الثاني صحيح لأنه لم
يكره عليه وإنما أكره على دفع المال. ولكن الحنابلة مع هذا يرون أنّ الشراء
منه مكروه وإن صح لأنه من الشراء من المضطر ولأنّ فيه تقوية للمكره
واستدلوا بدليل ثالث وهو الخلاف في صحة بيعه.
والقول الثاني: أنه لا يكره لأنّ في القول بكراهيته إدخال المشقة والضيق
والعنت على المكره إذ كيف سيوفر المال وقد امتنع الناس من الشراء منه
والراجح. الآن صحة الشراء محل إجماع؟ الخلاف هل يكره أو لا؟ هل يجوز الشراء
من المضطر؟ هل نقول للناس لا تشتروا منه حتى يرتدع الغاصب أو نقول اشتروا
منه؟ أنه نفرق ودائما قاعدة في باب القضاء والمعاملات لو تأملت في مسائل
كثيرة
التعميم غير دقيق كونك تقول نحكم بكذا ونحكم بكذا والمعمم نفسه من قال أنه
ينبغي الشراء سيأتي في بعض الصور ويقول لا تشتروا منه أليس كذلك؟ إذن
التعميم دائما وما ذكره هو من وجهة نظري الراجح واليوم توجد صور لما امتنع
من السراق أو من الشراء منهم تركوا هذا الجانب لأنه رأوا أنّ الناس لا
يشترون منهم.
ثم - قال رحمه الله - (وإن أقرّ في مرضه بشيء فكإقراره في صحته إلاّ في
إقراره بالمال لوارث فلا يقبل)
الإقرار ينقسم إلى قسمين: إما أن يقر بمال أو بغير مال. فإنّ أقرّ بغير
المال ولو في مرض موته المخوف صح بالإجماع , وإن أقرّ بمال فينقسم إلى
قسمين: إما أن يقر بمال لوارث أو لغير وارث فإنّ أقرّ بمال لغير وارث صح
عند جماهير الأمة وحكي إجماعا واستدلوا على هذا بعدم التهمة وإن أقرّ في
مرض موته المخوف لوارث وهي مسألة الكتاب فالجماهير يرون أنه لا يصح إقراره
لأنه متهم بمحاباة هذا الوارث.
والقول الثاني: أنّ إقراره في مرض موته المخوف ولو لوارث صحيح قياسا على
حال على الصحة.
والقول الثالث والأخير: أنه إذا أقرّ لوارث
صح إذا لم توجد تهمة وبطل إذا وجدت تهمة وهذا مذهب الإمام مالك - رحمه الله
- وهو غاية في الجودة والإتقان وتحصيل المصالح للمقر له وللمقِر ومن أكثر
صور انتفاء التهمة أن يشفع المقِر إقراره بسبب الإقرار كأن يقول له عليّ
كذا ثمن هذه السيارة ونحن نعلم أنّ هذه السيارة ملك للمُقر له أو كانت ملك
للمقر له , أو أن يكون سبب لهذا البيت أو سبب لهذه السلعة المهم أن يبيّن
السبب إذا بيّن السبب انتفت التهمة ومن صور انتفاء التهمة أن لا يظنّ بهذا
الرجل أبدا أنه يريد محاباة هذا الوارث ومن صور إثبات التهمة أن يقرّ لوارث
صغير مريض هنا يتهم أو لا يتهم؟ يتهم لأنه يغلب على الظنّ أنه أراد أن
يحابيه فهذا القول الراجح إن شاء الله.
قال - رحمه الله - (وإن أقرّ لامرأته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا
بالإقرار)
إذا أقرّ لها بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره يعني أننا إنما
استفدنا من إقراره أنه زوج والزوجية تقتضي المهر ولهذا لم نعطيها إلاّ
ماذا؟ مهر المثل لأنّا استفدنا من الإقرار أنها زوجية فلا نأخذ قيمة
الإقرار وإنما نأخذ مقتضى الزوجية. ومقتضى الزوجية هو ماذا؟ مهر المثل.
والقول الثاني: أنه لا يقبل مطلقا لأنّ هذا من الإقرار لوارث.
والقول الثالث: أنه يقبل وأنها تأخذ الصداق بالإقرار لا بالزوجية والراجح
المذهب. والقول بعدم قبول الإقرار جملة وتفصيلا أيضا قوي لأنه يغلب على
الذهن أنّ الإنسان إذا أقر لزوجته في مرض موته المخوف غالبا أنه فيه تهمة
ومراعاة لها وعطف عليها وأنه يخشى بعد أن يموت أن تهمل إلى آخره. لكن نقول
قول الحنابلة أنه يعطى بهذا المقدار مهر المثل لأنه تبيّن أنه لم يعطيها
المهر بمقتضى الزوجية فهذا وسط إن شاء الله.
قال - رحمه الله - (وإن أقرّ أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها)
إذا أقرّ في مرض موته المخوف أنه أبانها في
صحته لم يسقط الإرث بلا إشكال لأنه متهم أنه أراد منعها من الإرث بشكل واضح
بدليل أنه أخر الإقرار إلى مرض موته المخوف وظاهر كلام الحنابلة أنه ولو
دلت القرائن على أنه أبانها فإنه ربما تدل القرائن على ذلك بأن يكون كل من
الزوجين انفصل لمدة طويلة لسنين ثم أراد أن يخبر في مرض موته أنها ليست
بزوجة , يعني إن دلت القرائن فيحتمل أن يقبل قوله. وهل يقبل في مرض موته
المخوف إذا أتى ببيّنة ولا نقول أنت متهم؟ أنتم يا إخوان أخذتم في أول باب
القضاء أنه يجب على القاضي أن يحكم بالبيّنة مطلقا إذا وجدت البيّنة في أي
صورة من الصور فإنه يحكم بها مادام بيّنة ونحن إذا قلنا بيّنة يعني أنها
مكتملة الشروط فلا يأتي في ذهنك أنه ربما يكذب الشاهد ربما لا يكون دقيق
نحن نقول بيّنة والبيّنة الشرعية هي المكتملة الشروط فإذا سئلت عن قضية
البيّنة لا تردد في أنّ القاضي يحكم بمقتضى البيّنة.
قال - رحمه الله - (وإن أقرّ لوارث فصار عند الموت أجنبيا لم يلزم إقراره
لأنه باطل)
إذن العبرة في الإقرار بوقت الإقرار لا بوقت الموت عكس الوصية. العبرة في
الوصية بالموت لا بوقت صدور الوصية. هنا العبرة بوقت الإقرار لماذا؟ لأنّ
تعليل إبطال أو تصحيح الإقرار يقوم على التهمة والتهمة إنما تعرف في وقت
الإقرار لا في وقت الموت فإذا أقر له وهو وارث ثم صار حين الموت أجنبيا فلا
يستحق شيء لماذا؟ لأناّ تبيّنا أنّ هذا الإقرار شرعا باطل وقد يتوهم كثير
من الناس أنه مستحق للإقرار باعتباره أنه الآن أجنبي وهذا خطأ لأنّ الإقرار
عقد من العقود الشرعية يصح تارة ويبطل تارة أخرى نحن نقول أنّ الإقرار هنا
باطل فلا يترتب عليه أثر. إذن تقرر معنا الآن أنّ الاعتبار بحال الإقرار لا
بحال الموت لما قرر هذا المبدأ فرع عليه أيضا بعكس الصورة.
قال - رحمه الله - (وإن أقرّ لغير وارث أو أعطاه صح وإن صار عند الموت
وراثا)
إذن إذا أقرّ لغير وارث ثم صار عند الموت وارثا فإنّ الإقرار صحيح لأنه حال
صدوره صح شرعا واستوفى الشروط وهذا ينبني على القاعدة الأولى أنّ الاعتبار
بحال الإقرار لا بحال الموت.
يقول - رحمه الله - (أو أعطاه)
أفادنا المؤلف أنّ العطية أيضا كالإقرار
والاعتبار فيها بحال الإعطاء لا بحال الموت.
والقول الثاني: أنّ العطية كالوصية الاعتبار فيها بحال الموت. وهذه المسألة
الراجح فيها أنّ العطية كالوصية وليست كالإقرار لأنه هنا لا يأتي معنا
مسألة التهمة. التهمة في الإقرار لأنّ الإقرار عقد ملزم بخلاف العطية
فسيعطى المعطى بحسب الشروط فإذا كانت حكمها حكم الوصية فلا وصية لوارث
وتأخذ الشروط المذكورة للوصية ولهذا هي في الحقيقة أقرب للوصية منها
للإقرار لأنّ طبيعة الإقرار أمر ملزم فهو حق أصلي للمقر له بخلاف العطية
فيجب أن لا يعطى من أعطيها إلاّ إذا استوفى الشروط ولهذا الأقرب أنه تحلق
بالوصية كما أنّ ذكرها هنا غير مناسب بل المناسب أن تذكر في باب العطية
مادام أنّ المؤلف خصص باب كامل للعطية فكان الواجب أن يبيّن هل العطية
الضابط فيها حال الإعطاء أو حال الموت والغريب أنه بيّنه هنا ولم يبيّنه في
بابه الخاص.
الدرس: (2) من الإقرار
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف - رحمه الله - (وإن أقرّت امرأة على نفسها بنكاح ولم يدعه اثنان
قبُل)
إذا أقرّت المرأة على نفسها بأنها زوجة لفلان قبل لأنها تقر بحق عليها
باعتبار أنّ النكاح عند الحنابلة من حقوق الزوج فيكون اعترافها بالنكاح
كاعترافها بالمال فيقبل لهذا الأمر.
والقول الثاني: أنه لا يقبل لأنّ اعترافها بالنكاح يتضمن الدعوى بالنفقة
والميراث فيتضمن بناء على هذا حقا لها فلا يقبل.
ثم - قال رحمه الله - (ولم يدعه اثنان قُبل)
مفهوم عبارة المؤلف أنه إذا ادعاه اثنان
فإنه لا يقبل واعترض الشارح الشيخ منصور - رحمه الله - على الماتن بأنه
خالف المذهب لأنّ المذهب أنه يقبل واعتمد في هذا على ما في المنتهى وشرحه.
والصواب أنّ ما في المنتهى وشرحه يختلف عن مسألتنا لأنّ الذي في المنتهى
إذا ادعاه اثنان فقبلت وأقرّت لهما هذه هي مسألة المنتهى أما مسألتنا فهي
أن يدعي لواحد وتقرّ لواحد. وفرق بين أن يدعيه واحد وأن يدعيه اثنان ولهذا
نقول أنّ الأقرب أنّ المؤلف هنا مسألته غير مسألة المنتهى التي أشار إليها
الشيخ منصور. يبقى إذا كانت مسألة المنتهى غير مسألة الزاد بقينا في مسألة
أخرى هل يعتبر المؤلف خالف المذهب في هذه المسألة. المذهب ليس فيه نص صريح
على هذه المسألة لكن يفهم منه من عموم إطلاق الحنابلة الجواز مطلقا خلاف
لما ذكره المؤلف وهذا كما قلت يفهم من إطلاقات الحنابلة ولا يوجد منصوص
بخلاف ما أشار إليه الشيخ منصور أنّ كلام المؤلف يخالف منصوص ما في المنتهى
وشرحه هذا ليس بصحيح.
ثم - قال رحمه الله - (وإن أقرّ وليها المجبر بالنكاح صح)
صح إقراره لأنّ المرأة في حال الإجبار لقول لها , وإذا لم يكن لها قول صار
قول وليها هو المعتمد فصار إقراره كإقرارها.
ثم - قال رحمه الله - (أو الذي أذنت له)
إذا أذنت المرأة للزوج بأن يزوجها فلما أذنت أقرّ أنه زوجها صح إقراره لأنه
مبني على إذنها واستدل الحنابلة على هذا بأنه يملك أصل التزويج فيملك
الإقرار به وهذا صحيح وفهم من كلام المؤلف أنها إذا لم تقرّ أنها أذنت له
فإقراره ليس بصحيح وهو كذلك إقراره بدون إذن لا عبرة ولا قيمة له شرعا إنما
يكون له قيمة إذا كانت أذنت له فتبيّن معنا أنّ إقرار الولي يكون صحيحا
ومعتبرا في صورتين.
الأولى: أن تكون المرأة مجبرة. وهو مجبرا. الصورة الثانية: إذا أذنت له في
النكاح بمجرد الإذن بالنكاح يصح الإقرار.
ثم - قال رحمه الله - (وإن أقرّ بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب وأنه ابنه
ثبت نسبه منه ...... إلى آخره)
إذا أقرّ الإنسان بنسب شخص آخر فإنّ الإقرار صحيح والمقر به أي الولد ينسب
إلى المُقِر بشروط:
الشرط الأول: أن يكون مجهول النسب. فإن كان
معلوم النسب فإنّ الإقرار باطل لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من
انتسب إلى غير أبيه.
الشرط الثاني: أن يمكن نسبة هذا الولد إلى المقُِر يعني من حيث السن والأصل
أنّ الشرط عام أن يمكن نسبة هذا الولد للأب من حيث السن أو من حيث غيره مثل
أن يقّر شخص بولد وبينهما آلاف الكيلوات ولم يلتقيا يوما من الزمن فإنّ مثل
هذا لا يقر بإقراره لأنه لا يمكن أن يكون ابنه لعدم التلاقي.
الشرط الثالث: أن لا يكون مكلفا فإن كان مكلفا فلا نقول الإقرار باطل بل
يشترط صحة ورضا المقر به فإذا أقرّ بمن له خمسة عشر سنة؟ لا نقول صحيح ولا
غير صحيح وإنما نقول موقوف فإن رضي المقر به وإلاّ صار باطلا إذا اكتملت
هذه الشروط الثلاث صحت نسبة الولد لهذا المقر لأنّ الشارع يتشوف إلى إثبات
النسب وإلحاق الأولاد بآبائهم.
ثم - قال رحمه الله - (فإن كان ميتا ورثه)
نص المؤلف على هذه المسألة لأنها محل خلاف وإلاّ فالأصل أنه بمجرد ما تقول
يصح النسبة يتبعها هذا الإرث ذهب الحنابلة إلى صحة الإقرار وأنه يستحق
الإرث واستدلوا على هذا بأنّ الإرث فرع لثبوت النسب فإذا ثبت الأصل ثبت
الفرع إذ يمتنع عقلا أن تثبت الأصل وتنفي الفرع.
القول الثاني: أنّ النسب يثبت والإرث لا يثبت لأنّ من أقرّ بميت فالتهمة في
حقه كبيرة وإلى هذا مال المرداوي.
القول الثالث: أنّ النسب لا يثبت ولا الإرث لأنه لما أقرّ به بعد الموت
صارت أيضا كبيرة فلم نثبت بهذا الإقرار شيء والراجح إن شاء الله بلا إشكال
ما اختاره المرداوي. وهو القول الثاني أناّ نثبت النسب ولا نثبت الإرث.
ثم - قال رحمه الله - (وإذا ادعى على شخص بشيء فصدقه صح)
في المقنع قبل هذه المسألة بوّب الشيخ ابن قدامة باب ما يحصل به الإقرار
وهو تبويب مفيد جدا ولو أنّ المؤلف ذكره لكان أنفع لأنه يبيّن بماذا يكون
الإقرار لكن لعله رأى أنه مسألة واحدة لا تستحق لا التبويب ولا أن يوضع لها
فصل خاص.
الإقرار يصح بأن يصدقه فإذا صدقه فقد صح الإقرار وهذا معنى قول الشيخ (وإذا
ادعى على شخص بشيء فصدقه صح) فإذا قال أنا أطلب زيد مئة ألف. فقال زيد صدق
فإنه صح الإقرار بهذا اللفظ.
الصورة الثانية: الإنكار أن يقول أنا أطلب
زيد مئة ألف فيقول كذب. أو يقول لا يطلبني شيء.
الصورة الثالثة: العبارات التي لا تفيد هذا ولا هذا كأن ينكر فإذا قال زيد
أنا أطلب عمرو مئة ألف وقال عمرو أنا أنكر هذا هذه العبارة لا تعتبر رفض
ولا قبول وإنما وسط واستدل الفقهاء على هذا بأنه يوجد مرحلة بين الإنكار
والقبول هي السكوت.
واستدلوا بأمر آخر أقوى من هذا وهو أنه يصح أن تقول أنا لا أنكر ولا أقرّ
أليس كذلك؟ ألاّ يصح أن تقول هذه العبارة إذن معناه إذا قلت أنت أنا لا
أنكر ولا أقرّ إذا أنت تسكت في الوسط. فصح نفي القبول ونفي الإنكار في لفظ
واحد فدل على أن الإنكار مرحلة بين القبول والرفض.
والقول الثاني: أنّ الإنكار رفض وهو أنه إذا قال أنا أنكر فإنه لا يثبت
عليه شيء والأقرب والله أعلم أنه يرجع إلى العرف. واليوم الإنكار في العرف
أقوى من قوله لا يطلبني شيء أليس كذلك؟ إذا قال أنا أنكر فهذا اللفظ أقوى
من قوله لا يطلبني شيء فإذا أردنا في عرفنا اليوم نعتبر الإنكار رفض وليس
بتوسط.
فصل
قال المؤلف - رحمه الله - فصل إذا وصل هذا الفصل لبيان حكم ما يوصل
بالإقرار مما يغيره هل يعتبر أو لا يعتبر ففي صور يعتبر وفي صور لا يعتبر
وبدأ الشيخ بالصور التي لا يعتبر فيها.
يقول - رحمه الله - (إذا وصل بإقراره ما يسقطه مثل أن يقول له: عليّ ألف لا
تلزمني ونحوه لزمه الألف)
إذا قال له عليّ ألف لا يلزمني فإناّ نقبل الجزء الأول من كلامه ونرد الجزء
الثاني من كلامه واستدلوا على هذا بأمرين:
الأمر الأول: أنّ الجزء الثاني يتضمن نفي الجزء الأول فبينهما تنافي وتعارض
فلا نقبل الجزء الثاني لمنافته للجزء الأول.
الدليل الثاني: القياس على ما لو استثنى الكل فلو قال هو يطلبني ألف إلاّ
ألف فإنه تقدم معنا أنّ استثناء الكل باطل.
الدليل الثالث: أنّ فحوى هذا الكلام وجود إقرار ودعوى فالإقرار يقبل
والدعوى ترد إلى أن يقيم عليها بيّنة استدلوا بهذه الثلاث أدلة
وقول الشيخ لا يلزمني ونحوه مثل أن يقول له عليّ ألف ولكنها قيمة خمر أو
قيمة كلب أو قيمة ميتة أو دم. الكل يرد لأنّ في إقراره ونفيه الثاني بينهما
تعارض.
القول الثاني: التفصيل وهو أنه إن قال له
عليّ ألف قيمة خمر قبل وإن قال له عليّ ألف لا يلزمني لم يقبل لأنه في
الصورة الأولى لا يوجد تنافي له عليه ألف لكن سببها أنها قيمة خمر وفي
الصورة الثانية يوجد تنافي حيث أقرّ ثم نفى. والإقرار والنفي لا يجتمعان
هكذا وجدت الأقوال في هذه المسألة ولو قيل بقول ثالث. أنه لا يلزمه مطلقا
لأنه إنما أقرّ بألف لا تلزمه هو لم يقرّ بألف مطلقا وإنما أقرّ بألف من
صفتها أنها تلزمه لو قيل بهذا لكان وجيه وبدل أن يتحايل كثير من الناس على
الإقرار ثم النفي إذا عرف أنه إذا أقرّ لم يقبل منه النفي بأن ينفي وينكر
الدعوى من أصلها ويتأول أنه لا يطلبه بسبب القضاء بدل هذا لوقيل يقبل منه
هذا لكان وجيها. لكن جمهور الفقهاء أنّ عبارة عليّ ألف لا يلزمني تقتضي
وجوب الألف والمطالبة بالبيّنة على قوله لا يلزمني.
قال - رحمه الله - (وإن قال: كان له عليّ وقضيته فقوله بيمينه)
إذا قال الإنسان كان له عليّ فقضيته صح الإقرار والنفي لأنه ليس بين
الإقرار والنفي تعارض ولا تنافي وجه ذلك أنه يقول كان ولم يقل له عليّ
ومعلوم أنه إذا أخبر بأنه قد كان عليه ثم قضي فإنه لا يوجد تعارض بين
الأمرين.
والقول الثاني: أنه في هذه الصورة لا يقبل أيضا ويلزم بالبيّنة أو يثبت
الألف في ذمته لأنّ بين الإقرار والنفي تعارض فلا يقبل. والراجح هنا بلا
إشكال المذهب كيف ونحن نميل في المسألة الأولى أنه لا يلزمه فهم من كلام
المؤلف أنه لو قال له عليّ وقضيته لا يقبل إن أسقط كان ومن هنا تعلم أنّ
النسخة التي ليس فيها كان لا يعتبر من اختلاف النسخ وإنما يعتبر خطأ فإثبات
كان مع اختلاف النسخ يتحتم وتركها مهما كانت النسخة التي ليست فيها كان هي
الأصل تركها خطأ لأنّ المعنى ينتقض من أصله.
ثم - قال رحمه الله - (ما لم تكن بيّنة)
يعني إذا كانت عليه بيّنة بهذه الألف فإنه لا ينفعه أن يقول كان له عليّ
ألف فقضيته مادام الدين ثبت ببيّنة فإنه لا يرتفع بقول المدعي فقضيته وتقدم
معنا أنّ البيّنة تقضي على كل شيء صاحب البيّنة الصحيح أنه مقدم على غيره.
ثم - قال رحمه الله - (أو يعترف بسبب الحق)
إذا اعترف بسبب الحق فقال كان له عليّ ألف
ثمن سيارة فقضيته أو قال كان له عليّ ألف قرض فقضيته الآن بيّن الحق وسبب
الحق والقاعدة عند الحنابلة أنه إذا بيّن الحق وسببه فإنه لا يقبل منه دعوى
القضاء والراجح أنه يقبل منه ولو بيّن السبب وسبب الترجيح أنه من المعلوم
أنّ أي حق لا يثبت إلاّ بسبب فكونه يصرح بالسبب أو لا يصرح لا يخرج القضية
ولا يغيرها عن حقيقتها فنحن نقول صرح أو لم يصرح فإنه إذا قال كان ثم زعم
أنه قضى فإنه يعتبر قضى.
قال - رحمه الله - (وإن قال له عليّ مائة ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم
قال زيوفا أو مؤجلة لزمه مائة جيدة حالة)
السبب في هذا أنّ الأصل في إطلاق الاسم الحلول والكمال فلما أطلق علمنا
أنها ثبتت في ذمته حالة كاملة جيدة غير معيبة. وأما قوله بعد ذلك زيوفا أو
مؤجلة فإنه لا يعتبر شيئا لأنه لم يتصل وإذا لم يتصل فهو ملغى. والفصل يكون
بأحد أمرين: إما أن يسكت سكوتا يمكنه فيه الكلام أو أن يتكلم بموضوع آخر.
وقولهم يمكنه فيه الكلام. يعني أنه لو سكت سكوتا لا يمكنه فيه الكلام مثل
أن يسكت ليشرب أو يسكت ليكح أو يسكت ليوجه أمر ضروري في بيته إلى آخره إذا
كان سكوتا لا يتمكن معه من الكلام فإنه لا يعتبر كلاما منفصلا. أما إذا فصل
الكلام فإنه لا يعتبر فإذا جلس وقال له علي ألف فلما مضت ساعة قال زيوفا
مؤجلة فإنه لا يقبل منه لأنّ هذا الاستثناء ملغي.
قال - رحمه الله - (وإن أقرّ بدين مؤجل فأنكر المقر له الأجل فقول المقر مع
يمينه)
يعني بكلام متصل فإنه لا يلزمه إلاّ مؤجلا واستدلوا على هذا بأنه إنما
اعترف بدين من صفته أنه مؤجل والفرق بين هذه المسألة وبين قوله له عليّ ألف
لا تلزمني. أنّ التأجيل لا يتنافى مع الدين أليس كذلك. بينما زعم القضاء
يتنافى تماما مع وجوب الدين في ذمة المقر ولهذا رأوا أنه لا يلزمه ويكون
القول قول المقر لكن مع يمينه.
والقول الثاني: أنها تلزمه حالة واستدلوا
على هذا بأنّ التأجيل يمنع من استيفاء الحق حالا وهذا الدليل من جنس الأدلة
التي تقدمت معنا والتي قلنا فيها أنها استدلال بمحل النزاع. نحن نقول هل
يملك التأجيل وهم يقولون لا يملك التأجيل لأنها لا بد أن تكون حالة كيف لا
بد أن تكون حالة نحن ننازع في هذه القضية ونقول هو أقرّ بها مؤجلة هذا شيء
والشيء الثاني أنّ تعليل الحنابلة في هذه المسألة وإن كنت قلت ونبهت إلى
أنّ له عليّ ألف مؤجلة تختلف عن له عليّ ألف لا تلزمني من حيث التعارض إلاّ
أنها تشبهها من حيث أنه اعترف بها بصفة معينة وقبلنا الاعتراض بصفة بحسب ما
ورد في لفظ المقر يعني بالصفة التي قيد بها المقر المبلغ اللازم له في ذمته
وهذا يؤيد القول الذي أشرت إليه إن كان قيل به أنه لا يلزمه إذا قال له
عليّ ألف لا تلزمني لأنه أقر بألف وصفها بكونها لا تلزمه.
قال - رحمه الله - (وإن أقرّ أنه وهب أو رهن وأقبض , أو أقرّ بقبض ثمن أو
غيره ثم أنكر القبض ولم يجحد الإقرار وسأل إحلاف خصمه فله ذلك)
هذه ثلاثة مسائل ثم أنكر القبض يعني ولم ينكر أصل العقد ولم يجحد الإقرار
أيضا بأنه أقرّ بأصل العقد وأقرّ أنه قبض وسأل إحلاف خصمه فله ذلك. صورة
المسألة: أن يقر فيما سبق أو في مجلس الحكم أو عند الناس أنه قبض الرهن
والمن والهبة يقر ثم بعد ذلك ينكر ويقول أنا أقررت فهنا أقرّ بإقراره أنا
أقررت أني قبضت الثمن لكن في الواقع لم أقبض الثمن هنا جعل له الحنابلة
الحق في شيء واحد وهو أنه يملك طلب اليمين من المدعى عليه فيقول اطلب يمينه
أنه أقبضني قيمة السلعة أو الرهن أو الهبة إلى آخره. له الحق في المطالبة
باليمين واستدلوا على هذا بأنه جرى العرف كثيرا أن يتقدم إقرار على قبض
وإذا كان هذا عرف جاري صار ما قاله المدعي محتمل وإذا كان محتملا مقبولا
صدقناه في طلب اليمين من المدعى عليه.
والقول الثاني: أن قوله أنه أقرّ أنه قبض
وإنكاره القبض بعد هذا إقرار ودعوى فنقبل الإقرار ونرد الدعوى إلاّ ببيّنة
والراجح بلا إشكال المذهب وهو اختيار العلامة ابن قدامة وشيخ الإسلام بن
تيمية وغيرهم من المحققين. ويتأكد هذا في زمننا هذا يتأكد جدا ومن لم يحكم
به فقد خالف العرف في الحقيقة اليوم مثلا كُتَاب العدل لا يكتبون المبايعة
إلاّ بعد الإقرار بقبض الثمن فتسعين بالمئة من المبايعات التي تتم بدون قبض
ثمن تثبت في صك كُتَاب العدل مقبوضة الثمن لا يرضى أصلا أن يتمم الكتابة
إلاّ إذا أقرّيت أنك فعوام الناس وكثير منهم في المجلس حتى لا يضيع عليه
الوقت يقرّ أنه قبض وهو في الواقع لم يقبض فيتوجه جدا أن يحسن القاضي أنّ
هذا أمر واقع وأنّ كثيرا من الناس يقر بالقبض وهو لم يقبض فأقلّ ما يستحق
هو طلب اليمين من المدعى عليه على أنّ القاضي الفطن لأظنه أنه يكتفي بطلب
اليمين مع علمه المتعين أنّ هذا الشخص لم يقبض وأنه جرى كثيرا أن يقر
بالقبض بدون أن يقبض. ولهذا نقول لا شك في رجحان المذهب وهو أقّل حقوق
المقر في هذه الصورة نحن نتكلم عن صورة معيّنة.
قال - رحمه الله - (وإن باع أو وهبه , أو أعتقه ثم أقرّ أنّ ذلك كان لغيره
لم يقبل قوله ولم ينفسخ البيع ولا غيره)
أي يترتب على هذا حكمان: لم يقبل قوله ولم ينفسخ البيع وهذه المسألة ترجع
لقاعدة مرت معنا مرارا في كتاب البيوع والقضاء وهو أنه لا يقبل إقرار الشخص
على غيره. صورة أنّ هذا الإقرار هو أنه إقرار على غيره أنه بمجرد ما تم
العقد فإنّ السلعة تعتبر ملك من أملاك المشتري فإذا أقرّ هذا الإقرار فهو
يقرّ على غيره فلا نقبل هذا الإقرار وتبقى السلعة في ملك المشتري ولا يفسخ
العقد ولكن مع ذلك حفظ الحنابلة صاحب السلعة كما يلي:
قال - رحمه الله - (ولزمته غرامته)
للمقر له. المقر له تلزمه الغرامة دون
السلعة فنقول أنت أقررت أنّ هذه السلعة لفلان بعد ما بعتها فتبقى السلعة في
يد المشتري وعليك أن تدفع ثمن السلعة إلى المقر له الذي تزعم أنت أنّ
السلعة ملك له في هذا في الحقيقة عدل وإنصاف ولكن يشكل عليه شيء واحد وهو
أنه دائما ما تكون السلعة أهم بكثير من قيمة السلعة وربما كانت السلعة لا
يمكن تعويضها بالثمن الذي أعطي للمقر له فمن هذا في الحقيقة يدخل خلل على
مثل هذا الحكم وهي مشكلة ولم أجد فيها أقوال بحيث أنّ الإنسان يتفقه فيها
ويختار قولا يحصل فيه العدل لكن لو قيل أنّ القاضي أيضا له نظر في مثل هذه
المسائل وله تصرف فإذا رأى وعلم أنّ من شأن هذا البائع أن يسرق ويختلس
ويغتصب وأنّ هذه السلعة تناسب المقر له فلا يوجد من وجهة نظري مانع من قبض
العين من المشتري وإرجاعها إلى المالك الأصلي وتعويض المشتري لا البائع.
لأنه تبيّن معنا الآن أنّ العقد ورد على سلعة غير مملوكة للبائع والنبي -
صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ما لم يملك. وأصبح العقد باطل فما دمنا
نصدق هذا الإقرار ونرى أنه إقرار صحيح فيبدوا لي أنّ هذا التصرف أقرب للعدل
بكثير من أن نقر السلعة في يد المشتري ونبذل العوض للمقر له هذا في مثل هذه
الصورة يوجد صور أخرى يتحتم أن نفعل كما قال المؤلف وذلك إذا تبيّن للقاضي
أنّ هذا كله حيلة لاسترداد السلعة فبعض الناس بعد أن يبيع السلعة يندم ولا
يجد طريقة لاسترداد السلعة إلاّ أن يزعم لفلان حتى ينتقض العقد. ففي مثل
هذه الصورة يتوجه ما قال المؤلف ونقول السلعة تبقى عند المشتري وأنت أيها
المقر عوّض المقر له عن قيمة هذه السلعة. وهذا يؤكد ما تقدم معنا مرارا أنّ
الأحكام الفقهية بالنسبة للقاضي ليست قوالب يحكم بها دائما على ما جاءته
وإنما يحتاج أن يكون عنده نوع من النظر والتصرف.
قال - رحمه الله - (وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد وأقام بيّنة قبلت)
يقصد بعد بالبيع أو الهبة أو العتق ثم إذا أقام بيّنة على هذا الزعم قبلت
لما تقدم معنا أنّ البيّنة مقبولة دائما وأنها إنما وضعها الشارع لإثبات
الحق لأصحابه فإذا أتى ببيّنة قبلت وهذا واضح.
قال - رحمه الله - (إلاّ أن يكون قد أقرّ
أنه ملكه أو أنه قبض ثمن ملكه لم يقبل)
يستثنى مما سبق إذا أقرّ في ضمن الإقرار الأول أنها ملكه يعني إذا باعها
وقال وهي ملكي بعت عليك ملكي أو قال قبضت ثمن ملكي حينئذ أقرّ أنها ملكه
فصار الإقرار الأول متعارض مع البيّنة الثانية. فلا تقبل البيّنة هنا لأنها
تتعارض مع إقراره فإقراره يكذب بيّنته وهذا من المواضع القليلة التي لا
تقبل فيها البيّنة ولا أذكر الآن أنه مرّ علينا عدم قبول البيّنة إلاّ في
موضعنا هذا الموضع وموضع سابق فقط فيما عدا هذين الموضعين فإنه لا ترد
البيّنة الصحيحة.
فصل
قوله - رحمه الله - فصل الفصل هذا معقود للإقرار بالمجمل. والمجمل هو كل
لفظ لا يدل على معناه بمجرد لفظه.
قوله - رحمه الله - (إذا قال: له عليّ شيء أو كذا قيل فسّره)
تضمنت كلمة المؤلف بيان حكمين: الحكم الأول أنّ الإقرار بالمجمل صحيح
ومشروع وهذا محل إجماع فالإقرار بالمجمل صحيح وصحته مجمع عليها واستدل
الحنابلة وغيرهم من الفقهاء على هذا الدليل بأنّ الإقرار اعتراف على النفس
فيقبل ولو كان مجهولا لأنه يعترف على نفسه. الحكم الثاني: أنه إذا أقرّ
بمجمل طولب بتفسيره ومطالبة المقر بالمجمل بالتفسير أيضا محل إجماع فإنهم
أجمعوا على أنه يجب أن يفسر واستدلوا على هذا بأنه إذا أقرّ بمجمل فإنه لا
يمكن أن يأخذ الحكم مجراه ولا أن تسلم العين المدعاه إلى صاحبها إلاّ بعد
التفسير فنلزمه إلزاما بالتفسير لهذا السبب وللإجماع. ثم سيبيّن المؤلف
فيما لو رفض أن يفسر.
قال - رحمه الله - (فإن أبى حبس حتى يفسر)
إذا أبى حبس حتى يفسر يعني حتى يفسر هذا المجمل الذي أقرّ به والسبب في هذا
ما تقدم معنا قاعدة أيضا مرارا وهو أنّ كل من امتنع عن حق متوجه عليه
فللقاضي أن يحبسه , هذا امتنع عن حق وهو بيان المجمل الذي أقرّ به وإذا
امتنع عن هذا الحق ألزمناه به وحبسناه حتى يقرّ.
القول الثاني: أنه إذا أبى أن يفسر
اعتبرناه ناكلا فإذا اعتبرناه ناكلا أسند التفسير إلى المقر له فنقول هو
يقر لك ولم يبيّن فبماذا؟ فإذا فسر المقر له المقر به رجعنا إلى المقر فإنّ
استمر رافضا للبيان ألزمناه بالعين التي فسرها المقر له. وهذا القول هو
الصحيح واختاره القاضي من الحنابلة وهذا الحكم فيه من فصل ونزعات وإرجاع
الحقوق لأهلها وتوفير الأوقات ما ليس في القول بحبسه فإنّ كثيرا من الناس
لا يمتنع من الحبس حتى يذهب مدة طويلة وهو يتمتع بالعين التي أقرّ بها أو
بالديون ثم يخرج بعد فترة ويسدد أهل الديون أو يؤدي المقر به إلى أصحابه
بعد فترة من الانتفاع بها. لذلك نحن نقول يعتبر ناكلا ونقول له إما أن
تبيّن أو أن تعتبر ناكلا ونقبل قول المقر له. والشخص الذي يصر على أن لا
يبيّن الشيء المجمل أو الذي أقرّ به في هذا أكبر دليل على أنه شيء عظيم
امتنع عن أدائه ولهذا نقبل تفسير المقر له ولو ارتفع أليس كذلك؟ من المعلوم
أنّ المقر له إذا أسندنا إليه الأمر ماذا سيصنع؟ سيقر بشيء رفيع جدا لأناّ
أعطيناه الفرصة أن يبيّن المقر به المجمل وهذا لا غبار عليه نظرا لأنّ
المقر رفض وهذا بحث نظري ولا عملي؟ لو في شيء أكثر من نظري لوصفانه بهذا
الوصف. لأنه يأتي ويقرّ ثم نتوقف عند التفسير يعني لا يمكن هذا أو لا يقع
إلاّ نادرا.
قال - رحمه الله - (فإن فسره بحق شفعة أو بأقّل مال قبل)
مقصود المؤلف أنه إذا فسره بأي شيء يتمول ولو قّل نقبله لأنه إنما أوجبنا
عليه الحق باعترافه فإذا فسر الاعتراف ولو بمال قليل قُبل.
قال - رحمه الله - (وإن فسره بميتة أو خمر أو قشر جوزة لم يقبل)
إذا فسره بميتة أو خمر لم يقبل لأنه اعترف بحق والحقوق مالية والخمر
والميتة ليس بمال في الشرع فإذا اعترف بحق وفسره بأنه ميتة أو دم كان تماما
كمن قال له عليّ ألف وقضيته لأنّ آخر الكلام ينفي أول الكلام لأنه اعترف
بما ليس بحق ونحن نقول هو اعترف في الأصل بحق ثم فسره بغير حق فصار فيها
تناقض وتنافي.
ثم - قال رحمه الله - (أو قشر جوزة)
إذا فسره بقشر جوزة أيضا لا يقبل لأنه لا
يثبت في الذمة وكل ما لا يثبت في الذمة لا يتمول وكل ما لا يتمول لا يصح
تفسير الإقرار المجمل به لأنّ هذا الأمر لا يعبأ به ولا ينظر إليه.
قوله - رحمه الله - (لم يقبل)
لو وضع الشيخ قاعدة فقال [إذا فسره بما لا يتمول لم يقبل] لكان هذا الضابط
يكفينا عن جميع الأمثلة إذا فسره بما لا يتمول عادة لم يقبل ولابد من إضافة
عادة لماذا؟ لأنّ من الأعيان مالا يتمول عادة في بلد ولكنه يتمول عادة في
بلد آخر. فلا يستقيم أن تقول بما لا يتمول لأنّ هذا يختلف من بلد إلى بلد.
قال - رحمه الله - (ويقبل بكلب مباح نفعه)
الكلب المباح النفع تقدم معنا في كتاب الغصب أنه يجب رده ولا يضمن أليس
كذلك؟ والقاعدة عند الحنابلة [أنّ أي عين يجب أن ترد فإنه يصح تفسير
الإقرار المجمل بها] فلما كان الكلب يجب رده جاز تفسير المجمل به.
والقول الثاني: أنه لا يصح تفسيره بكلب ولو كان مباحا لأنّ الكلب لا يضمن
ولو مباحا فلا يصح تفسير الإقرار المجمل به والحنابلة يقولون أنه لا يثبت
في الذمة يعللون الرد بالشيء اليسير أنه لا يثبت في الذمة كذلك الكلب لا
يثبت في الذمة لأنه لا يضمن لهذا يبدوا لي الأقرب إن شاء الله القول الثاني
أنه لا يفسره بكلب ولو مباحا.
قال - رحمه الله - (أو حد قذف)
إذا فسره بحد قذف يقبل لأنه حق فلما كان حقا صح تفسير الإقرار المجمل به.
والقول الثاني: أنه لا يقبل لأنّ موضوع الإقرارات المال وهو الآن لم يقر
بمال وإنما أقرّ بحق والصحيح إن شاء الله بلا إشكال أنه يقبل.
قال - رحمه الله - (وإن قال: له عليّ ألف رجع في تفسير جنسه إليه , فإن
فسره بجنس أو أجناس قبل منه)
إذا قال له عليّ ألف فهو أقرّ ولم يبيّن
فنرجع في بيان هذا الألف إليه وعللوا هذا بأنّ كلامه محتمل لعدة أجناس وهو
المستحق لتفسير العين المقر بها كما أننا نلزمه بتفسير المجمل نقبل منه إذا
فسر وهذا صحيح وسواء فسر الإقرار بنقد أو بأعيان وسواء فسر الإقرار بنقد
حال أو بمؤجل لأنّنا نقبل تفسيره للألف مطلقا. وإن كان العرف اليوم إذا قال
له عليّ ألف يقصد من النقود لكن الفقهاء لا يلزمونه بالنقود فيقولون له أن
يفسر الألف بما شاء يستثنى من هذا إذا فسر الألف بما لا يتمول أو فسره بما
ليس بمال في الشرع كأن يفسره بألف كلب ولو مباح النفع إذن لا بد أن يفسره
بما يتمول عادة أو يفسره على الصحيح بحق ولو لم يكن حقا ماليا.
قال - رحمه الله - (فإن فسره بجنس أو أجناس)
له أن يقول له عليّ ألف ربعها دنانير والباقي دراهم , أو ربعها أراضي
والباقي بيوت , أو ربعها كتب والباقي أقلام. المهم أنه له أن يفسر بأكثر من
جنس لما تقدم أنّ له الحق في تفسير ما اعترف أو أقرّ به.
قال - رحمه الله - (وإن قال: له عليّ ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية)
لأنّ الثمانية هي التي بين الواحد والعشرة فإذا اسقطت الواحد وأسقطت العشرة
كم باقي؟ ثمانية , فهي التي بينهما. لكن إذا قال مثل هذا ينبغي إذا لم يكن
لقوله سبب أن يؤدب لأنه لماذا يتكلف ويقول له علي ّ ما بين درهم وعشرة.
لماذا لم يقل له عليّ ثمانية؟
قوله له عليّ ما بين درهم وعشرة يصلح في درس حساب يصلح في درس فقه. أما عند
القاضي في مجلس الحكم يعتبر هذا نوع من التنطع.
قال - رحمه الله - (وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة أو من درهم إلى عشرة
لزمه تسعة)
إذا قال ما بين درهم إلى عشرة فعليه تسعة لأنّ الحنابلة يرون أنّ الغاية
غير داخلة فإذا أسقطنا الأخير وهو العشرة بقي ما تحته وهي التسعة
القول الثاني: أنّ ما بين درهم إلى عشرة ثمانية لأن قوله (ما بين) يخرج
الدرهم وإذا أسقطنا الأول والأخير بقي عليه ثمانية.
أما قوله:" من درهم إلى عشرة" فعليه تسعة لأنّ ما بعد (من) داخل وما بعد
(إلى) غير داخل فتكون النتيجة أن عليه تسعة.
قال - رحمه الله - (وإن قال: له عليّ درهم أو دينار لزمه أحدهما)
مقصود المؤلف أنه لا يلزمه الجميع وإنما
يلزمه إما درهم أو دينار وعللوا هذا بأنّ أو تقتضي وجوب أحد الشيئين لا
وجوب الشيئين وهذه العبارة ليست كالسابقات وإنما يحتاج إليها لأنّ الإنسان
قد يتردد وينسى هل له على زيد درهم أو دينار فله أن يقول له عليّ درهم أو
دينار لأنه ناسي. لكن يقول ويعيّنه. والتعيين هنا يكون كما تقدم معنا في
التفسير تماما نقول عيّن وعلى المذهب إما أن تعيّن حتى يستطيع الحاكم أن
يحكم أو تحبس , وعلى القول الثاني: إما أن تعيّن أو نعتبرك ناكلا ونحيل
الأمر إلى المقر له. على ما تقدم في تفسير الإقرار المجمل.
قال - رحمه الله - (وإن قال له عليّ تمر في جراب أو سكين في قراب أو فص في
خاتم ونحوه فهو مقر للأول)
إذا قال له عليّ تمر في جراب إلى آخره. فهو مقر بالأول لا بالثاني لأنّ
القاعدة عند الحنابلة أنّ الاعتراف بشيء يعني الاعتراف بالمظروف دون الظرف.
والقول الثاني: أنه اعتراف بالأول والثاني لأنه اعترف بهما في سياق واحد
وبكلام واحد فلزماه جميعا. والراجح إذا لم نقل أناّ نحيل الأمر إلى القاضي
الثاني هذا إذا لم نقل نحيل الأمر إلى القاضي والعرف لأنه لا يفهم من قول
القائل له تمر في جراب إلاّ الجميع ولو أراد التمر فقط لقال له عندي تمر
لهذا أنا أقول أنّ الراجح هو القول الثاني إن شاء الله ما لم نقول أنه يرجع
للعرف ونظر القاضي وهل يعتبر هذه الصيغة في هذا البلد تعني الجميع أو تعني
أحدهما إذا لم نقل بهذا فالراجح إن شاء الله هو القول الثاني.
بهذا تم المتن ولله الحمد والنعمة والشكر ولولا أنّ الله سبحانه وتعالى لطف
ويسر لما انتهى هذا المتن وبقي فيه الفرائض والعتق لعله تيسر له فرصة أخرى
أما في هذا الأسبوع فلا أظن سنكمله لكن فيما عداه
لولا أنّ الله سبحانه وتعالى يسر لنا أن ننهي هذا المتن ووفق وأعان وسهل
لما تمكن الإنسان من إتمام هذا المتن بالنسبة للشارح وبالنسبة للمتلقي.
ولهذا نحن نسأل الله أن يتقبل منا أن هو السميع العليم.
ونسأله أن يقبل منا الشكر والحمد على مثل هذا التوفيق.
|