اختلاف الأئمة العلماء

كتاب الرَّهْن

اتَّفقُوا على جَوَاز الرَّهْن فِي الْحَضَر وَالسّفر.
لقَوْله تَعَالَى: {فرهان مَقْبُوضَة} .
وأصل الرَّهْن فِي اللُّغَة حبس الشَّيْء على حق نقُول: رهنتك الشَّيْء، وَلَا نقُول: أرهنتك.
وَاخْتلفُوا هَل يَصح الرَّهْن على الْحق قبل وُجُوبه؟
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يَصح ذَلِك.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز وَيصِح.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا قَالَ لَهُ: قد رهنتك دَاري على مَا لَك عَليّ من الدّين، فَقَالَ لَهُ: قد قبلت إِلَّا أَنه لم يقبض فَهَل يكون الرَّهْن لَازِما قبل الْقَبْض؟

(1/415)


فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا يلْزم إِلَّا بِالْقَبْضِ سَوَاء كَانَ الرَّهْن متميزا أَو غير متميز.
وَقَالَ مَالك: لَا يلْزم بِنَفس القَوْل فِي الْكل على الْإِطْلَاق.
وَاخْتلف عَن أَحْمد فَروِيَ عَنهُ إِن كَانَ متميزا من مَال الرَّاهِن كَالْعَبْدِ وَالثَّوْب وَالدَّار لزم بِنَفس القَوْل وَإِن كَانَ غير متميز كالقفيز فِي صبرَة لم يلْزم إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى كمذهب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ.
وَاخْتلفُوا فِي صِحَة رهن الْمشَاع.
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: يجوز.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز.
وَاخْتلفُوا فِي الِانْتِفَاع بِالرَّهْنِ.
فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد: لَا يملك الرَّاهِن الِانْتِفَاع بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِي: للرَّاهِن أَن ينْتَفع بِهِ مَا لم يضر بالمرتهن وَهل للْمُرْتَهن أَن ينْتَفع بِالْعينِ الْمَرْهُونَة؟
فَمَنعه أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك.

(1/416)


وَمَا حَكَاهُ الْخرقِيّ من قَوْله: وَلَا ينْتَفع من الرَّهْن بِشَيْء إِلَّا أَن كَانَ محلوبا أَو مركوبا فيحلب ويركب بِمِقْدَار الْعلف فَإِنَّهُ مَحْمُول على مَا إِذا امْتنع الرَّاهِن من الْإِنْفَاق على الرَّهْن، فاتفق عَلَيْهِ الْمُرْتَهن، فَلهُ ذَلِك بِمِقْدَار علفه.
ذكره أَبُو حَفْص العكبري فِي شَرحه على مُخْتَصر الْخرقِيّ.
وَاتَّفَقُوا على أَن مَنَافِع الرَّهْن للرَّاهِن.
وَاخْتلفُوا فِي نَمَاء الرَّهْن هَل يدْخل فِي الرَّهْن أم لَا؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يدْخل فِي ذَلِك الْوَلَد وَالصُّوف وَالتَّمْر وَاللَّبن، وَأُجْرَة الْعقار وَالدَّوَاب وَيكون للرَّاهِن رهنا مَعَ الأَصْل.
وَقَالَ مَالك: لَا يدْخل فِي الرَّهْن من ذَلِك إِلَّا الْوَلَد وفسيل النّخل.
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يدْخل شَيْء من ذَلِك فِي الرَّهْن على الْإِطْلَاق.
وَقَالَ أَحْمد: يدْخل ذَلِك كُله فِي الرَّهْن.
وَاخْتلفُوا فِي الْكسْب.

(1/417)


فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يدْخل فِي الرَّهْن.
وَقَالَ أَحْمد: يدْخل فِيهِ.
وَاخْتلفُوا فِي النَّفَقَة من الْمُرْتَهن على الرَّهْن فِي غيبَة الرَّاهِن إِذا كَانَ الرَّهْن محلوبا أَو مركوبا.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يكون الْمُتَّفق عَلَيْهِ مُتَطَوعا إِن لم يَأْذَن لَهُ الْحَاكِم.
وَقَالَ أَحْمد: لَا يكون مُتَطَوعا، وَإِن لم يَأْذَن لَهُ الْحَاكِم وَتَكون النَّفَقَة دينا على الرَّاهِن، وللمرتهن استيفاؤها من ظَهره ودره.
وَقَالَ مَالك: أَن أشهد على الْإِنْفَاق استخفه، وَإِن لم يشْهد وَلم يرفع إِلَى الْحَاكِم كَانَ مُتَطَوعا.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا اشْترط فِي عقد الرَّهْن أَن يَبِيعهُ الْمُرْتَهن عِنْد الْمحل.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد: يجوز الشَّرْط وللمرتهن أَن يَبِيعهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِي: الشَّرْط بَاطِل، وَهُوَ يبطل الرَّهْن على قَوْلَيْنِ.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا عتق الرَّاهِن العَبْد الَّذِي كَانَ رَهنه هَل ينفذ عنفه أم لَا؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: ينفذ عتقه سَوَاء كَانَ الْمُعْتق مُوسِرًا أَو مُعسرا، إِلَّا أَنه إِن

(1/418)


كَانَ مُوسِرًا سعر العَبْد فِي قِيمَته، إِن كَانَت أقل من الدّين وَيرجع على الرَّاهِن.
وَقَالَ مَالك: إِن كَانَ مُوسِرًا نفذ عتقه، وَعجل الْحق للْمُرْتَهن أَو رَهنه غَيره، وَإِن كَانَ مُعسرا لم ينفذ عتقه وَبَقِي رهنا، فَإِن أَفَادَ مَالا قبل الْأَجَل نفذ الْعتْق وَعجل الْحق، وَإِن بَقِي على إِعْسَاره بيع عِنْد الْأَجَل.
وَقَالَ أَحْمد: إِن كَانَ مُوسِرًا ضمن قِيمَته، وَتَكون الْقيمَة رهنا مَكَانَهُ رِوَايَة وَاحِدَة، وَإِن كَانَ مُعسرا فَهَل ينفذ عتقه.
قَالَ أَصْحَابه على الرِّوَايَتَيْنِ: يخرجَانِ من عتق الْمُفلس مَنْصُوصا عَلَيْهِ، وَالْمَنْصُوص فِي الرَّهْن جَوَاز عتقه مُوسِرًا كَانَ أَو مُعسرا.
وَللشَّافِعِيّ أَقْوَال، أَحدهَا: كَقَوْل مَالك، وَالْآخر: كَقَوْل أَحْمد، وَالثَّالِث: لَا ينفذ عتقه بِحَال، وَهُوَ الَّذِي ينصره أَصْحَابه.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا وكل وَكيلا فِي بيع الرَّهْن ثمَّ عَزله.
فَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَهُ ذَلِك.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ ذَلِك إِلَيْهِ إِذا كَانَ التَّوْكِيل فِي نفس الرَّهْن، فَأَما إِذا وَكله فِي البيع بعد تَمام الرَّهْن فَلهُ عَزله.
وَقَالَ مَالِكًا: لَهُ عَزله على الْإِطْلَاق.
وَاخْتلفُوا فِي الرَّهْن هَل هُوَ أَمَانَة فِي يَد الْمُرْتَهن أَو مَضْمُون؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ مَضْمُون بِالْأَقَلِّ من قِيمَته أَو الدّين فَإِن هلك فِي يَد الْمُرْتَهن وَقِيمَته سَوَاء صَار الْمُرْتَهن مُسْتَوْفيا لدينِهِ حكما وَإِن كَانَ قيمَة الرَّهْن أَكثر

(1/419)


فالفضل أَمَانَة، وَأَن كَانَ أقل سقط من الدّين بِقَدرِهَا وَيرجع الْمُرْتَهن بِالْفَضْلِ.
وَقَالَ مَالك: يضمن مِنْهَا مَا يخفي هَلَاكه كالذهب وَالْفِضَّة وَالْعرُوض بِقِيمَتِه بَالغا مَا بلغ، وَلَا يضمن مَا يظْهر هَلَاكه كالحيوان وَالْعَقار.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: هُوَ أَمَانَة فِي يَد الْمُرْتَهن إِذا تلف كَانَت الْمُصِيبَة فِيهِ من راهنة.
وَأَجْمعُوا على أَن الْمُرْتَهن إِذا تعدى فِي الرَّهْن فَتلف ضمنه.
وَأَجْمعُوا على أَن نَفَقَة الرَّهْن على الرَّاهِن.
وَأَجْمعُوا على أَنه إِذا أنْفق الْمُرْتَهن على الرَّهْن بِإِذن الْحَاكِم أَو غَيره مَعَ غيبَة الرَّاهِن أَو امْتِنَاعه كَانَ دينا للمنفق على الرَّاهِن.

بَاب الْحجر

أَجمعُوا على أَن الْحجر على الْمُفلس إِذا طلب الْغُرَمَاء ذَلِك وأحاطت الدُّيُون بِهِ

(1/420)


مُسْتَحقّ على الْحَاكِم وَله مَنعه من التَّصَرُّف حَتَّى لَا يضر بالغرماء وَيبِيع أَمْوَاله إِذا امْتنع الْمُفلس عَن بيعهَا ويقسمها بَين غُرَمَائه بِالْحِصَصِ.
إِلَّا أَبَا حنيفَة فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يحْجر عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّف بل يحبس حَتَّى يقْضِي الدُّيُون، فَإِن كَانَ لَهُ مَال لم يتَصَرَّف الْحَاكِم فِيهِ وَلم يَبِعْهُ إِلَّا أَن يكون لَهُ دَرَاهِم، وَدينه دَرَاهِم، فَإِن القَاضِي يقبضهَا بِغَيْر أمره ويقضيها.
وَإِن كَانَ دينه دَرَاهِم وَله دَنَانِير بَاعهَا القَاضِي فِي دينه، وَمعنى الإفلاس فِي اللُّغَة أَنه مَأْخُوذ من الْفُلُوس وَالْمرَاد أَن هَذَا صَار ذَا فلوس بعد أَن كَانَ ذَا دَرَاهِم.
وَاخْتلفُوا فِي تَصَرُّفَات الْمُفلس فِي مَاله بعد الْحجر عَلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز الْحجر عَلَيْهِ، وَإِن حجر عَلَيْهِ قَاض لم ينفذ قَضَاؤُهُ مَا لم يحكم بِهِ قَاض ثَان، وَإِذا لم ينفذ الْحجر عَلَيْهِ صحت تَصَرُّفَاته كلهَا سَوَاء احتملت النّسخ أَو لم تحْتَمل.

(1/421)


فَإِن نفذ الْحجر بِحكم قَاض ثَان صَحَّ من تصرفه مَا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاق وَالتَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد وَالْعِتْق وَلم يَصح مَا يحْتَمل الْفَسْخ كَالْبيع وَالْإِجَارَة وَالْهِبَة وَالصَّدَََقَة وَنَحْو ذَلِك.
وَقَالَ مَالك: لَا ينفذ تصرفه فِي أَعْيَان مَاله بِبيع وَلَا هبة وَلَا عتق.
وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ، أَحدهمَا: كمذهب مَالك. وَهُوَ الْأَظْهر مِنْهَا، وَالْآخر: يَصح تَصَرُّفَاته فِي مَاله إِلَّا أَنَّهَا تكون مَوْقُوفَة فَإِن قضيت الدُّيُون من غير نقص للتَّصَرُّف نفذ التَّصَرُّف، وَإِن لم يكن قَضَاؤُهَا إِلَّا بِنَقص التَّصَرُّف فسخ مِنْهَا الأضعف فالأضعف يبْدَأ بِالْهبةِ ثمَّ بِالْبيعِ ثمَّ بِالْعِتْقِ.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق: يحْتَمل عِنْدِي أَن يُقَال بِفَسْخ الآخر فالآخر.
وَقَالَ أَحْمد فِي أظهر روايتيه: لَا ينفذ لَهُ تصرف فِي شَيْء من مَاله إِلَّا فِي الْعتْق خَاصَّة فَإِنَّهُ شَيْء لله عز وَجل.

بَاب الإفلاس

اخْتلفُوا فِيمَا إِذا كَانَت عِنْده سلْعَة فأدركها صَاحبهَا وَلم يكن قد قبض من ثمنهَا شَيْئا، والمفلس حَيّ.

(1/422)


فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: صَاحبهَا أَحَق من الْغُرَمَاء بهَا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا وجدهَا صَاحبهَا، وَلم يكن قبض شَيْئا من ثمنهَا لَكِن بعد موت الْمُفلس.
فَقَالَ الشَّافِعِي وَحده: هُوَ أَحَق بهَا من الْغُرَمَاء كَمَا لَو كَانَ الْمُفلس حَيا.
وَقَالَ الْبَاقُونَ: هُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء.
وَاخْتلفُوا فِي الدّين إِذا كَانَ مُؤَجّلا هَل يحل بِالْحجرِ؟
فَقَالَ مَالك: يحل.
وَقَالَ أَحْمد: لَا يحل.
وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ: كالمذهبين.
وَاخْتلفُوا فِي الدّين الْمُؤَجل هَل يحل بِالْمَوْتِ؟
فَقَالَ أَحْمد وَحده: لَا يحل بِالْمَوْتِ فِي أظهر روايتيه إِذا وَثَّقَهُ الْوَرَثَة.
وَقَالَ الْبَاقُونَ: يحل كالرواية الثَّانِيَة عَنهُ.
وَاتَّفَقُوا على أَنه إِذا أقرّ بدين بعد الْحجر تعلق بِذِمَّتِهِ وَلم يكن الْمقر لَهُ مشاركا للْغُرَمَاء الَّذين حجر عَلَيْهِم لأجلهم.

(1/423)


إِلَّا الشَّافِعِي فَإِنَّهُ قَالَ: يشاركهم.
وَاخْتلفُوا هَل تبَاع على الْمُفلس دَاره الَّذِي لَا غَنِي بِهِ عَن سكانها وخادمه.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: لَا تبَاع، وزاده أَبُو حنيفَة فَقَالَ: لَا يُبَاع عَلَيْهِ شَيْء من الْعقار وَالْعرُوض كَمَا قدمنَا.
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يُبَاع ذَلِك كُله.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا قَامَ الْمُفلس الْبَيِّنَة بإعسارة هَل يحلف بعد ذَلِك عَلَيْهِ؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: لَا يسْتَحْلف.
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يسْتَحْلف إِن طلب الْغُرَمَاء ذَلِك.
وَاخْتلفُوا فِيهِ بَعْدَمَا يثبت عِنْد الْحَاكِم.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يُخرجهُ الْحَاكِم من الْحَبْس وَلَا يحول بَينه وَبَين غُرَمَائه بعد خُرُوجه من السجْن يلازمونه وَلَا يمنعونه من التَّصَرُّف وَالسّفر، وَيَأْخُذُونَ فضل كَسبه بَينهم بِالْحِصَصِ.
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: يُخرجهُ الْحَاكِم من الْحَبْس ويحول بَينه وَبَين غُرَمَائه.

(1/424)


وَاتَّفَقُوا على أَنه ينْفق على من حجر عَلَيْهِ يفلس من مَاله الْبَاقِي لَهُ وعَلى وَلَده الصغار وَزَوجته.
وَاتَّفَقُوا على أَن الْبَيِّنَة تسمع على الْإِعْسَار بعد الْحَبْس ثمَّ اخْتلفُوا هَل تسمع قبله؟
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: تسمع قبله.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي ظَاهر مذْهبه: لَا تسمع إِلَّا بعده.
وروى الْبَزْدَوِيّ فِي شرح الْمَبْسُوط فِي كتاب النَّفَقَات، وَفِي كتاب الْكفَالَة: أَنه إِن أخبر الْحَاكِم وَاحِد ثِقَة أَن مُفلس قبل الْحَبْس لَا يحْبسهُ لِأَنَّهُ لم تثبت جِنَايَته وَالْحَبْس عُقُوبَة لَا يَسْتَحِقهَا إِلَّا الْجَانِي.

(1/425)


كتاب الْحجر

اتَّفقُوا على أَن الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للحجر الصغر وَالرّق وَالْجُنُون.
وَالْحجر فِي اللُّغَة: الْحَظْر وَالْمَنْع، وَهُوَ فِي الشَّرِيعَة عبارَة عَن منع شخص معِين أَن يتَصَرَّف فِي مَاله.
وَاتَّفَقُوا على أَن الْغُلَام إِذا بلغ، غير رشيد لم يسلم إِلَيْهِ.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي حد الْبلُوغ فِي حَقه وَفِي الْجَارِيَة مَعًا.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: بُلُوغ الْغُلَام بالاحتلام والإنزال إِذا وطئ، فَإِن لم يوجدا، فحتى تتمّ لَهُ ثَمَانِي عشرَة سنة، وَقيل: تِسْعَة عشرَة سنة، وبلوغ الْجَارِيَة بِالْحيضِ والاحتلام وَالْحَبل، فَإِن لم يُوجد ذَلِك، فحتى تتمّ لَهَا سبع عشرَة سنة.
وَلم يجد مَالك فِيهِ حدا إِلَّا أَصْحَابه قَالُوا: سبع عشرَة سنة وثماني عشرَة فِي حَقّهَا، وروى ابْن وهب: خمس عشرَة سنة.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي أظهر روايتيه حَده فِي حَقّهَا خمس عشرَة سنة.

(1/426)


وَعَن أَحْمد فِي الْجَارِيَة خَاصَّة رِوَايَة أُخْرَى أَنه لَا يحكم ببلوغها إِلَّا بِالْحيضِ.
وَاخْتلفُوا فِي الإنبات هَل هُوَ علم للبلوغ مُحكم بِهِ.؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا اعْتِبَار بِهِ أصلا.
وَقَالَ أَحْمد وَمَالك: يعْتَبر بِهِ وَهُوَ علم من أَعْلَامه.
وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ علم فِي الْمُشْركين يُمَيّز بَين الذُّرِّيَّة والمقاتلة.
وَهل هُوَ علم فِي الْمُسلمين؟ على قَوْلَيْنِ.
وَاخْتلفُوا على أَنه إِذا أونس الرشد من صَاحب المَال دفع إِلَيْهِ المَال.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي الرشد مَا هُوَ.
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد: الرشد فِي الْكَلَام هُوَ إصْلَاح مَاله وتأديبه لتثميره، وَأَن لَا يكون مبذرا لَهُ وَلَا يُرَاعى عَدَالَته فِي دينه وَلَا فسقه.
وَقَالَ الشَّافِعِي: الرشد الصّلاح فِي الدّين وَالْمَال.

(1/427)


وَاخْتلفُوا هَل بَين الْجَارِيَة والغلام فرق فِي الرشد؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا فرق بَينهمَا فِي الرشد وكل مِنْهُمَا على أَصله.
وَقَالَ مَالك: لَا يفك الْحجر عَنْهَا وَإِن بلغت وَكَانَت رَشِيدَة حَتَّى تزوج وَيدخل بهَا زَوجهَا وَتَكون حافظة لمالها كَمَا كَانَت قبل التَّزْوِيج.
وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا: كمذهب أبي حنيفَة أَنه لَا فرق بَينهمَا وَهِي الَّتِي اخْتَارَهَا الْخرقِيّ. وَالْأُخْرَى كمذهب مَالك وَزَاد عَلَيْهِ حَتَّى يحول عَلَيْهَا حول عِنْد الزواج أَو تَلد ولدا، وَتَكون ضابطة حِينَئِذٍ كَمَا كَانَت قبله. وَقَالَ مَالك أَيْضا مثل ذَلِك.
وَاخْتلفُوا فِي الْمَرْأَة الْمُزَوجَة هَل يَصح تصرفها فِي أَكثر من ثلث مَالهَا بِغَيْر مُعَارضَة، من غير إِذن الزَّوْج؟
فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَهَا أَن تتصرف فِيهِ بِالصَّدَقَةِ وَالْهِبَة من غير اعْتِبَار لإذنه.
وَقَالَ مَالك: لَا يجوز للْمَرْأَة الْمُزَوجَة التَّصَرُّف فِي أَكثر من ثلث مَالهَا بِغَيْر مُعَاوضَة إِلَّا بأذن زَوجهَا؟
وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهمَا كمذهب مَالك، وَالْأُخْرَى كمذهب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ.
وَاتَّفَقُوا على أَن الصَّبِي إِن بلغ لم يدْفع إِلَيْهِ مَاله حَتَّى يؤنس مِنْهُ الرشد.

(1/428)


إِلَّا أَن أَبَا حنيفَة قَالَ: إِذا انْتَهَت بِهِ السن إِلَى خمس وَعشْرين سنة دفع إِلَيْهِ مَاله بِكُل حَال.
ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَا إِذا طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفه بعد أَن أونس مِنْهُ الرشد هَل يحْجر عَلَيْهِ أم لَا؟
فَقَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ: يحْجر عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يحْجر عَلَيْهِ وَإِن كَانَ مبذرا.
وَاخْتلفُوا هَل يبْدَأ بِالْحجرِ على الْبَالِغ إِذا كَانَ غير رشيد.
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: يبْدَأ بِالْحجرِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يحْجر عَلَيْهِ وتصرفه فِي مَاله جَائِز وَإِن أتْلفه فِي حجره. وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا كَانَ الْمُكَلف بَالغا حرا إِلَّا أَنه مبذر سَفِيه مُفسد لمَاله متْلف لَهُ فِيمَا لَا يعود عَلَيْهِ محمدة فِي الدُّنْيَا وَلَا أجر فِي الْآخِرَة، هَل يحْجر عَلَيْهِ أم لَا؟

(1/429)


فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يحْجر عَلَيْهِ، ومصرفه جَائِز فِي مَاله.
وَقَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ: يحْجر عَلَيْهِ.
وَاخْتلفُوا فِي الْبَالِغ هَل يبْدَأ بِالْحجرِ عَلَيْهِ حَتَّى يؤنس مِنْهُ الرشد؟
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: يحْجر عَلَيْهِ أبدا حَتَّى يؤنس مِنْهُ الرشد على اخْتلَافهمْ فِي صفته.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يبْدَأ بِالْحجرِ على بَالغ، وَإِن بلغ خمْسا وَعشْرين سنة يسلم إِلَيْهِ مَاله، وَإِن كَانَ مبذرا وَلَا يمْنَع قبل ذَلِك من تصرف بِحجر وَلَا غَيره، وَإِنَّمَا يقف تَسْلِيم مَاله حَتَّى يبلغ هَذَا السن.