الإحكام شرح أصول الأحكام

جمع الفقير إلى الله تعالى
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
الحنبلي النجدي
رحمه الله تعالى
(1312 - 1392 هـ)

(1/4)


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرح صدر من اجتباه لمعرفة الأحكام.
وأبدع الإحكام أحمده سبحانه على ما أولاه من جزيل الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الأحد الصمد الملك العلام ذو الجلال والإكرام أبان الحجة وأوضح المحجة ورفع أعلام السنة بالكتاب والسنة ووفيا بالأحكام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام- ومن سار على منهاجهم واستقام وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد فإن أجل ما اشتغل به المشتغلون وأعلى ما شمر إليه العاملون وأشرف ما تنافس فيه المتنافسون هو معرفة الكتاب والسنة فهما النعمة المسداة والرحمة المهداة نصبهما الله لنا أعلى علم للهداية وأوضح محجة للعناية وهما ينبوع الرسالة وأساس الملة والديانة وأعظم العلوم منزلة وأرفعها قدرًا وأقربها فهمًا وأغزرها علمًا وأسهلها عبارة، وأوضحها دليلاً، ومع ذلك سلك الكثير سواهما سبيلاً، وقطعوا أعمارهم فيما لا يتخذ معتمدًا

(1/5)


ولا تأصيلاً، ومن له رغبة فيهما وفي الشرب من معينهما قد تكاثفت عليه العوائق وتداعت عليه الطرائق وتكالف تناول تلك الحقائق فساهمت في تسهيل ما استصعب.
وجمعت مختصرًا لطيفًا انتقيته من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الأحكام الفقهية سهل المنال واضح المنوال وهذا شرح له موجز مقتبس من كلام الأئمة الأعلام.
يوضح معانيه. ويؤيد مبانيه. أردفته بآيات وأخبار. وبإجماع الأئمة الأخيار أو قول جمهور السلف الأطهار وبترجيح شيخ الإسلام وغيره من فحول أماثل الأحبار. يغنيك في وقت قليل عن مطالعة عدة من الأسفار وعلى الله اعتمادي وإليه تفويضي واستنادي لا إله غيره ولا رب سواه.
(بسم الله الرحمن الرحيم) ابتدأ بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز فقد بدأ تعالى بها في محكم كتابه وتأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في مكاتباته ومراسلاته. وعملاً بحديث (كل أمر ذي بال) أي حال وشأن يهتم به شرعًا (لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع)، وفي رواية (أجذم)، وفي رواية (أبتر) والمعنى أنه ناقص البركة. قال الحافظ، وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالتسمية، وكذا معظم الرسائل. والاسم مشتق من السمو، وهو العلو، فكأنه علا على معناه وظهر عليه، فصار معناه تحته.

(1/6)


والله أعرف المعارف الجامع لمعاني الأسماء الحسني والصفات العليا، وهو مشتق أي دال على صفة له تعالى. وهي الإلهية وأصله الإله حذفت همزته وأدغمت اللام في اللام فقيل الله. ومعناه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. والرحمن رحمة عامة لجميع المخلوقات. والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين. اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة.
(الحمد لله) الحمد ثناء والألف واللام لاستغراق جميع المحامد
قال شيخ الإسلام: الحمد ذكر محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، وثنى بالحمدلة بعد البسملة اقتاداء بالقرآن العظيم وبالنبي الكريم وعملاً بحديث (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) فتستحب البداءة بالحمد لله من كل مصنف ودارس ومدرس، وخطيب وخاطب ومزوج ومتزوج. وبين يدي سائر الأمور المهمة.
(الذي أرسل رسوله) محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (بالهدى) أي بالقرآن العظيم الذي أنزله عليه هدى للمتقين. وبما جاء به من الأخبار الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع (ودين الحق) وهو الإسلام والأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة. وقد امتن تعالى عليه وعلى أمته بما أنزل عليه من الكتاب والحكمة في غير موضع من كتابه منها قوله {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}.

(1/7)


وأخبر أن الفرح به خير مما يجمعون، وقال - صلى الله عليه وسلم - "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي"، فهما أصل الأصول وعمدة الملة والطريقة الحقة بل لا طريق إلى الله والجنة إلا بالكتاب والسنة فمن أخذ بهما فاز كل الفوز. وظفر كل الظفر.
أرسله الله تعالى بهما "رحمة للعالمين" كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة فهو رحمة له في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنه ورفع الخسف والمسخ والاستئصال. قال عليه الصلاة والسلام "إنما أنا رحمة مهداة" هدى به تعالى من الضلالة وبصر به من الغواية. فتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا ووضع به الآصار والأغلال.
(وأشهد) أي أقطع وأجزم (أن لا إله إلا الله) أي لا معبود حق إلا الله (وحده) حال من الاسم الشريف تأكيد لإثبات (لا شريك له) تأكيد للنفي.
قال الحافظ: تأكيد بعد تأكيد. اهتمام بمقام التوحيد {إله الأولين والآخرين} أي مألوههم ومعبودهم المستحق أن يطاع ويتقى. قال تعالى {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}.
(وأشهد أن محمدًا) هو أشرف أسمائه - صلى الله عليه وسلم - اسم مفعول من حمد فهو محمد إذا كان كثير الخصال التي يحمد عليها

(1/8)


فهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره من البشر (عبده) أشرف اسم له وصفة أيضًا فإنه: لا أشرف ولا أتم للمؤمن من وصفه بالعبودية لله تعالى. وهو أحب الأسماء إلى الله تعالى وأشرفها لديه. ولذا وصفه به في أشرف المقامات (أنزل على عبده الكتاب) (أسرى بعبده) وإضافته إليه إضافة تشريف. ومعناه المملوك العابد والعبودية الخاصة وصفه (ورسوله) أي مرسله وسفيره بأداء شريعته (الصادق) فيما يبلغه عن الله قال تعالى {والذي جاء بالصدق} وقال: {مصدق لما معكم}.
(الأمين) على وحيه وكان يسمى قبل بعثته الأمين وأيده الله بالآيات والدلالات الواضحات القاطعات بصدقه وأمانته ومن كان كذلك فالنعمة به على العباد أكبر وأعظم وأتم وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} أي على هدايتكم {بالمؤمنين رؤوف رحيم} {فإن تولوا} أي أعرضوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة الكاملة الشاملة {فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم}.
(صلى الله عليه) الصلاة من الله عليه هو الثناء والعناية به وإظهار شرفه وفضله (وعلى آله) أهل بيته وقيل أتباعه وآل الشخص هم من يأوون له ويؤولون إليه ويرجعون إليه ونفسه أولى فطلبت تبعًا له (وأصحابه) جمع صاحب وهم من اجتمع

(1/9)


بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا ومات على ذلك (والتابعين) لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(وسلم) من السلام بمعنى التحية أو الأمان ضد الخوف أو السلامة من النقائص أو طلب السلامة له من الله أو اسم الله عليه إذا كان اسم الله يذكر على الأعمال توقعًا لاجتماع معاني الخيرات فيه (تسليمًا) مصدر مؤكد (كثيرًا) دائمًا أبدًا والصلاة والسلام عليه – - صلى الله عليه وسلم - مستحبة كل وقت وتتأكد عند ذكر اسمه – - صلى الله عليه وسلم - مستحبة كل وقت وتتأكد عند ذكر اسمه – - صلى الله عليه وسلم - وآله وأصحابه والتابعون تبع له.
ووجه الثناء على الآل والأصحاب والأتباع هو وجه الثناء على النبي – - صلى الله عليه وسلم - بعد الثناء على الله –عز وجل- لأنهم الواسطة في إبلاغ الشرائع إلى العباد فاستحقوا سؤال الثناء عليهم من الله –عز وجل- ولإتيانه بذكرهم في الصلاة فلا يتم الامتثال إلا بذكرهم (إلى يوم الدين) أي مستمرة إلى يوم القيامة.
(أما بعد) أي: بعد ما ذكر من حمد الله والشهادتين والصلاة على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وآله وأتباعه. وهذه الكلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره. ويستحب الإتيان بها في الخطب والمكاتبات اقتداء به – - صلى الله عليه وسلم - وهي مبنية على الضم لقطعها عن الإضافة مع نية المضاف إليه.
(فهذا) إشارة إلى ما تصور في الذهن وأقيم مقام المكتوب الموجود، وقد يترك موضعها مبيضًا إلى فراغ الكتاب (مختصر)

(1/10)


أي موجز وهو ما قل لفظه وكثر معناه (يشتمل) أي يحتوي (على أصول الأحكام) مع صغر حجمه لأصالة مبانيه وكثرة معانيه. وأصول جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيره.
والأحكام جمع حكم. وهو خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين والمراد هنا الأحكام الشرعية الفرعية. من عبادات ومعاملات وغيرها. وتنقسم الأحكام إلى خمسة أقسام. واجب. وحرام. ومستحب. ومباح. ومكروه (من الكتاب) يعني القرآن العزيز المنزل تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. (والسنة) المطهرة المتلقاة من أقوال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته. فهما اللذان أمرنا باتباعهما والأخذ بهما. فيهما الهدى والنور. والشفاء لما في الصدور. وفي الاعتناء بهما الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة. من اتبعهما لا يضل، ولا يشقى.
ومن أعرض عنهما فإن له معيشة ضنكًا ويحشر يوم القيامة أعمى كما عمي عنهما. وأرباب النهاية في علو الهمة لا يرضون بدون بعثها في علم الكتاب والسنة. فهما حجة الرب على العباد وعصمة العباد في المعاش والمعاد. والآيات الواردة في الأحكام نحو من خمسمائة آية. والأحاديث التي تدور عليها الشريعة نحو خمسمائة حديث. هذه أصولها. وأما تقاسيمها وتفاصيلها، فنحو من أربعة آلاف حديث ما بين صحيح وحسن محتج به وغالبها في هذا المختصر. وما فيه من ضعيف فلملاءمته لأصول الشرع.

(1/11)


(هذبته) استخلصته من آيات وأحاديث كثيرة (تقريبًا) أدناء وتسهيلاً (لطالبي) أي آخذي (مناهج) أي: مسالك وطرق (الملة) يعني الشريعة واسم لما شرعه الله تعالى على لسان رسوله ليتوصل به إلى جواره. ولا تستعمل إلا في جملة الشريعة دون آحادها (ولوهن) أي: ضعف (القوى) في طلب العلم (وتفرقها) تبددها وتشتتها.
(وضعف الهمم) أي الإرادات جمع همة لسبق القضاء من الله –عز وجل- بأنه "لا يأتي عليكم زمان إلا وما بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" ومع ضعف الهمم وكثرة (تشعبها) أي كونها ذات شعب قد أخذ علم الخط والحساب والإملاء والإنشاء شعبة، وعلم العربية وقواعدها شعبة، وعلم التاريخ والتقويم والرياضات شعبة.
وكتب الفقه مع تعدد أجناسها واختلاف أنواعها وكثرة الأقوال فيها شعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة شعبة، والفكر في كلام المصنفين وشيوخهم على اختلافهم، وما أرادوا به شعبة، إلى غير ذلك ومكابدة المعيشة إن لم تكن الأغلب أو الالتفات إلى لين اللباس ورقيق العيش. أو المبارات في جمع المال والمباهات وغير ذلك فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية إن كان لهم همم تسافر إليها وصلوها بقلوب وأذهان قد كلت وأوهاها وأوهن قواها مواصلة السير في سواها.
فلذلك (بالغت) أي اجتهدت نهاية وسعي (في

(1/12)


اختصاره) لئلا تنفر النفوس عنه وتضعف عن حفظه قال علي –رضي الله عنه: خير الكلام ما قل ودل. ولم يطل فيمل، أي يمل منه ويضجر من طوله والقصد (ليسهل حفظه) عن ظهر قلب فيعم الانتفاع باستظهار نصوص هي أصول الأحكام الفقهية على ترتيب الفقهاء. ولم أذكر من الآية والحديث سوى الشاهد المعمول به.
وما أوردته من الأحاديث:
فإن كان قد رواه البخاري ومسلم أو أحدهما لم أذكر غيرهما من الرواة لاتفاق أهل العلم على صحة ما أخرجاه أو أخرجه أحدهما. أما ما لم يروه واحد منهما ورواه أهل السنن الأربعة أبو داود والترمذي والنسائي. وابن ماجه. وغيرهم كأحمد. ومالك. والشافعي وكابن خزيمة وابن حبان. والحاكم. والبيهقي. وغيرهم. وصححه أحمد. أو البخاري. أو الترمذي. أو شيخ الإسلام. أو ابن القيم. أو الحافظ ابن حجر. أو أمثالهم فاذكر بعض من رواه كالخمسة أحمد وأهل السنن. أوهم أو بلفظ الأربعة. أو الثلاثة وهم ما عدا ابن ماجه، أو اقتصر على أحد مخرجيه تسهيلا.
وقد اقتصر على بعض من صححه. أو تحسين الترمذي، وما رواه أهل السنن وغيرهم. أو بعضهم وصححه أحد الحفاظ. كابن خزيمة. وابن حبان. والحاكم. وأمثالهم. وسكت عنه أبو داود. والمنذري أو صححه. فاقتصر على بعض رواته دون من

(1/13)


صححه وتكلم فيه لاستناده إلى غيره من النصوص. أو الأصول الشرعية لاتفاق أهل العلم أو جمهورهم على جواز الاحتجاج والعمل بما صححه بعض الحفاظ.
وما لم يصححه أحد منهم أذكره وضعفه وإن كان أنه لا يلزم منه أن يدل على الحكم بانفراده لكن أثبته لانضمام غيره إليه وملائمته لأصول الشرع ونقل أهل العلم له وعملهم به أو جمهورهم وهم لا يجمعون إلا على ما له أصل في الكتاب والسنة.
وما ذكرته عن الصحابة –رضي الله عنهم- فهو إما إجماع أو قول الجمهور مع أنه لم يزل أهل العلم يحتجون بفتاويهم وأقوالهم في كل عصر ومصر لا ينكره منكر. وحكى بعض المالكية الإجماع على جواز الاحتجاج بأقوالهم.
وسنوضح إن شاء الله كل مسألة بدليلها وتعليها وإجماع العلماء عليها. أو جمهورهم. وكل مسألة لا بد فيها من حكم ثابت في نفس الأمر أو تفصيل وإن كان لا يمكن أن يعمل في كل مسألة بقول يجمع عليه لكن القول الصحيح عليه دلائل شرعية تبين الحق وتوضحه ومن له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع. وإذا تبين رجحان قول وصحة مأخذه خرج على قواعد الأئمة الأربعة وصار مذهبًا لهم.
(والله أسأل أن ينفع به) أي: ينفع بكتاب أصول الأحكام

(1/14)


فإنه سبحانه لا يضيع لديه عمل عامل (وأن يجعله خالصًا) ومن شائبة الرياء (لوجهه) جل وعلا وتقدس (وهو) تعالى (حسبنا) أي كافينا ومغنينا. عمن سواه (ونعم الوكيل) الموكل إليه أمورنا جل جلاله وتقدست أسماؤه.

(1/15)