الإحكام شرح أصول الأحكام

كتاب الطهارة
كتاب مصدر كتب يكتب كتبًا خط على القرطاس ما يريد إبلاغه لغيره أو حفظه من النسيان ومدار المادة على الجمع.
والطهارة مصدر طهر يطهر. والاسم الطهر. ومعناها النظافة من الأقذار. وحقيقتها استعمال المطهرين على الصفة المشروعة بدأ بها لأنها مفتاح الصلاة وشرطها الذي لا تصح
إلا به.

باب المياه
الباب لغة المدخل إلى الشيء. واصطلاحًا اسم لجملة من العلم تحته فصول ومسائل غالبًا. والمياه جمع ماء. اسم جنس ساغ جمعه باعتبار ما تنوع إليه. والألف واللام فيه لبيان حقيقة الجنس لا للجنس الشامل قال الله تعالى: {وينزل عليكم من السماء} أي السحاب {ماء} وهو المطر وكل ما علاك فهو سماء {ليطهركم به} من الأحداث والنجاسات وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل تسوخ فيه الأقدام. وكان المشركون سبقوهم إلى ماء بدر.
فأصبح المسلمون على غير ماء. وبعضهم محدث.

(1/16)


وبعضهم جنب. وأصابهم العطش. فأنزل الله مطرًا سال منه الوادي فشربوا واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملؤا الأسقية ولبد الأرض. وكان دليلاً على نصره تعالى لهم ويأتي قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا} وهو الطاهر في ذاته المطهر لغيره فدلت الآية على أن الماء آلة يحصل به التطهير.
وقال تعالى: {فلم تجدوا ماء} وهذا عام من جوامع الكلم فسواء كان الماء نازلاً من السماء كماء المطر وذوب الثلج والبرد أو ماء الأنهار والعيون والآبار والبحار. ولو تصاعد ثم قطر ما لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة أو يخرج عن اسم الماء كماء ورد.
(وعن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي –رضي الله عنه- لازم النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن أحد أكثر حديثًا منه توفي سنة تسع وخمسين، وله ثمان وسبعون (قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في البحر) أي في حكم ماء البحر والبحر الماء الكثير أو المالح (هو الطهور ماؤه) بفتح الطاء وشدها صيغة مبالغة أي ماء البحر هو معظم الماء الذي يتطهر به لا يخرج عن الطهورية إلا ما سيأتي من تخصيصه بما إذا تغيرت أحد أوصافه وبه قال جميع العلماء. إلا ما روي عن ابن عمر وابن سرين وابن عبد البر ولا حجة في قول عارض المرفوع والإجماع وتعريفه بالألف واللام لا ينفي طهورية غيره لوقوعه جواب سؤال عن ماء البحر مخصص بالمنطوقات الصحيحة.

(1/17)


(الحل) مصدر حل الشيء ضد حرم ولفظ الدارقطني الحلال (ميتته) أي ما مات فيه حتف أنفه من حيواناته وفيه مشروعية الزيادة في الجواب على سؤال السائل إذا علم أن به حاجة إليه (رواه الخمسة) الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ورواه غيرهم (وصححه البخاري) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي الشهير الحافظ الكبير إمام هذا الشأن صاحب الصحيح وغيره ولد سنة أربع وتسعين ومائة وتوفي سنة ست وخمسين ومائتين والصحيح ما نقله عدل تام الضبط عن مثله من غير شذوذ ولا علة وصححه أيضًا الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وابن عبد البر وغيرهم وتلقته الأئمة بالقبول وتداوله فقهاء الأمصار.
(وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري (الخدري) بضم الخاء نسبة إلى بني خدرة حي من الأنصار كان من علماء الصحابة روى كثيرًا وشهد البيعة ومات سنة أربع وسبعين، وله ست وثمانون (قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - الماء طهور لا ينجسه شيء) أي لا ينجس بوقوع شيء فيه سواء كان قليلاً أو كثيرًا ما لم يتغير بنجاسة. وقال الشيخ هو عام في القليل والكثير وفي جميع النجاسات.
والحديث له سبب وهو أنه قيل لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن

(1/18)


فقال: «الماء طهور لا ينجسه شيء» (رواه الثلاثة) أبو داود والترمذي والنسائي، ورواه غيرهم من غير وجه عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - (وصححه أحمد) بن حنبل الشيباني ناصر السنة المجمع على إمامته صاحب المسند والتفسير وغيرهما قال شيخ الإسلام كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين وصححه أيضًا ابن معين وابن حزم والحاكم وشيخ الإسلام وغيرهم والترمذي من حديث ابن عباس.
(زاد ابن ماجه) أبو عبد الله محمد بن يزيد الربعي مولاهم القزويني الحافظ صاحب السنن المتوفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين (من حديث أبي أمامة) صدي بن عجلان الباهلي أحد المكثرين من الروايات مات بحمص سنة إحدى وثمانين (إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) ريح الشيء هو ما يدرك بحاسة الشم. وطعمه حلاوته أو مرارته وما بين ذلك. ولونه ما فصل بينه وبين غيره. وصفته أو هيئته كالبياض والسواد.
وغلب أي قهر أحد هذه الثلاثة صفة الماء التي خلق عليها كما فسره رواية البيهقي الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو طعمه. أو لونه. بنجاسة تحدث فيه وسنده ضعيف أي سند ما روي به الزيادة؛ لأن فيه رشدين بن سعد قال الشافعي روي من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، ولكن هذه الزيادة قد أجمع العلماء على القول بحكمها وقال أحمد ليس فيه حديث ولكن الله حرم الميتة فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه فذلك طعم الميتة أو

(1/19)


ريحها فلا يحل له وحقيقة الحديث الضعيف هو ما اختل فيه أحد شروط الصحيح أو الحسن.
(والأصل في ذلك الإجماع) حكاه جماعة منهم ابن المنذر وابن رشد وشيخ الإسلام وقال ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوص عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم مسألة واحدة أجمع عليها أنه لا نص فيها. والإجماع لغة العزم والاتفاق. واصطلاحًا اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر. قال وهو أحد الأصول الثلاثة. وينبغي للمجتهد أن ينظر إليه أول شيء في كل مسألة فإن وجده لم يحتج إلى النظر في سواه لكونه دليلاً قاطعًا ثابتًا في نفس الأمر لا يقبل نسخًا ولا تأويلاً. وكثير من الفرائض التي لا يسع جهلها إذا قلت أجمع الناس لا تجد أحدًا يقول هذا ليس بإجماع.
(وعن ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب أسلم صغيرًا بمكة وشهد الخندق كان من أوعية العلم وروى عنه خلائق توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الماء قلتين) تثنية قلة وهي اسم لكل ما ارتفع وعلا والمراد هنا الجرة الكبيرة من قلال هجر تسع قربتين أو أكثر وهما خمسمائة رطل عراقي تقريبًا (لم يحمل الخبث) بفتح المعجمة والموحدة أي يدفع النجاسة عن نفسه كما يقال فلان لا يحمل الضيم إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه وأصله أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن

(1/20)


الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع فقال ذلك (رواه الخمسة) والشافعي وغيرهم وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم وتكلم فيه ابن عبد البر وغيره.
قال شيخ الإسلام وأكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به وأجابوا عن كلام من طعن فيه. ومنطوقه موافق لغيره. وأما مفهومه فلا يلزم منه أن يكون كلما لم يبلغ القلتين ينجس. ولم يذكر هذا التقدير ابتداء وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاة. والتخصيص إذا كان له سبب لم يبق حجة بالاتفاق والمسئول عنه كثير، ومن شأنه أنه لا يحمل الخبث.
فدل على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولاً فحيث كان الخبث محمولاً موجودًا في الماء كان نجسًا وحيث كان مستهلكًا غير محمول في الماء كان الماء باقيًا على طهارته فصار حديث القلتين موافقًا لقوله – - صلى الله عليه وسلم - "الماء طهور لا ينجسه شيء" لم يرد أن كلمها لم يبلغ القتلين فإنه يحمل الخبث فإن هذا مخالفة للحس. إذ قد يحمل وقد لا يحمل. ونكتة الجواب أن كونه يحمل أو لا يحمل أمر حسي يعرف بالحس. فإنه إذا كان الخبث موجودًا فيه كان محمولاً. وإن كان مستهلكًا لم يكن محمولاً.
قال والذي دلت عليه السنة وعليه الصحابة وجمهور السلف أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وإن كان يسيرًا. وقال إذا

(1/21)


تغير فإنما حرم لظهور جرم النجاسة فيه بخلاف ما إذا استهلكت. وقال ابن القيم الذي تقتضيه الأصول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس فإنه باق على أصل خلقته وهو طيب فيدخل في قوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}.
وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون. ولا طعم ولا ريح. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إذا كان دون القلتين فكثير من أهل العلم أو أكثرهم على أنه طهور داخل في قوله، فلم تجدوا ماء. اهـ
والعدول عنه مع وجود غيره أولى احتياطًا. وخروجًا من الخلاف. وكلاهما مطلوبان.
(وعن أبي هريرة قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم) أي الراكد الذي لا يجري (وهو جنب) قال شيخ الإسلام. لما يفضي إلى إفساده. وإلى الوسواس اهـ.
وطهارته بحالها لما تقدم إلا أنه مكروه وأبلغ من ذلك البول فيه.
وقد ثبت النهي عنه لما فيه من إفساد مياه الناس ومواردهم.
والجنب من جامع أو أنزل (رواه مسلم) بن الحجاج القشيري النيسابوري الحافظ في صحيحه الذي هو ثاني الصحيحين المجمع على صحتهما وقد فاق صحيح البخاري بحسن ترتيبه وسياقه المتوفي سنة إحدى وستين ومائتين.
(وله) أي لمسلم في صحيحه (عن ابن عباس) عبد الله

(1/22)


بن عباس حبر الأمة ولد قبل الهجرة بثلاث سنين دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفقه في الدين توفي بالطائف سنة ثمان وستين (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة) أم المؤمنين بنت الحارث الهلالية كان اسمها برة فسماها النبي – - صلى الله عليه وسلم - ميمونة تزوجها سنة سبع وتوفيت سنة إحدى وستين، وفي السنن قالت إني كنت جنبًا فقال إن الماء لا يجنب صححه الترمذي.
وحكى الوزير والنووي وغيرهما الإجماع على جواز وضوء الرجل بفضل المرأة وإن خلت بالماء إلا في إحدى الروايتين عن أحمد، وما رواه أهل السنن من النهي عن ذلك لا يقاوم الرخصة في ذلك، وحمل النهي عن وضوء الرجل بفضل المرأة على التنزيه أولى جمعًا بين الأدلة، وأما وضوء المرأة بفضل الرجل فجائز بلا نزاع.

باب الآنية
أي هذا باب يذكر فيه أحاديث في أحكام الآنية. وجلد الميتة والآنية هي الأوعية جمع إناء. لما ذكر الماء وكان سيالاً محتاجًا إلى ظرف ناسب ذكر ظرفه.
(عن حذيفة) بن اليمان بن حسل العبسي صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين مات سنة خمس وثلاثين (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها) جمع صحفة وهي دون القصعة

(1/23)


(فإنها) أي آنية الذهب والفضة وصحافها (لهم في الدنيا) أي للمشركين في الحياة الدنيا يتمتعون بها فيها. وهذا إخبار عما هم عليه لا بحلها لهم. ولمسلم من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة.
(ولكم في الآخرة) معشر المسلمين تتنعمون بها فيها (متفق عليه) أي اتفق على تخريجه البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة بالإجماع، وما كان فيهما أو في أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث لأنهما اشترطا الصحة وتلقتها الأمة بالقبول.
قال الشيخ وما فيهما متن يعلم أنه غلط. وهذا الحديث رواه غيرهما أيضًا لكن ما فيهما أو في أحدهما غني عن التقوية بالإضافة إلى ما سواهما.
(ولهما) أي للبخاري ومسلم في صحيحيهما (عن أم سلمة) أم المؤمنين زوج النبي – - صلى الله عليه وسلم - واسمها هند بنت أبي أمية كانت تحت أبي سلمة وتوفي عنها فتزوجها النبي – - صلى الله عليه وسلم - سنة أربع وتوفيت سنة تسع وخمسين ولها أربع وثمانون (قالت قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - الذي يشرب في إناء الفضة) ولمسلم والذهب (إنما يجرجر) بكسر الجيم الثانية والجرجرة صوت وقوع الماء في الجوف جعل الشرب والجرع جرجرة (في بطنه نار جهنم) بنصب نار أي كأنما يجرع نار جهنم. وجهنم علم على طبقة من طبقات النار أعاذنا الله منها من الجهومة، وهي الغلظ لغلظ أمرها

(1/24)


في العذاب أو لبعد قعرها. والتوعد بالنار يدل على آكدية التحريم.
وإذا كانت الأواني التي تستعمل للأكل والشرب مطلوب لها الأناقة ومع ذلك جاء فيها هذا الوعيد فالتي يتطهر بها أولى وحكى النووي وغيره الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيها وجميع أنواع الاستيلاء. وقال الشيخ ما حرم استعماله حرم اتخاذه كآلة اللهو فكذا تحصيلها بنحو شراء أو اتهاب ولو لم يقصد الاستعمال. وحكى اتفاقهم على أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام على الذكر والأنثى وكذا الآلات كلها واستعمالها وحكاه القرطبي: قول الجمهور:
وعلله بعضهم لما فيه من السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء. وقال ابن القيم الصواب أن العلة ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة للعبودية منافاة ظاهرة. ولهذا علل عليه الصلاة والسلام بأنها للكفار في الدنيا إذ ليس لهم نصيب في العبودية التي ينالونها بها في الآخرة. فلا يصلح استعمالها لعبيد الله وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة. وقال الشيخ لأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بتنعم المشركين والمسرفين اهـ.
وما سوى ذلك من أواني الخشب والحديد يباح اتخاذه واستعماله ولو ثمينًا كالجوهر والزمرد. قال في المبدع وغيره في قول عامة أهل العلم.

(1/25)


(وعن أنس) بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - خدمه عشر سنين ومات سنة ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة (إن قدح النبي – - صلى الله عليه وسلم - انكسر) أي: انشق وفي لفظ "وكان انصبدع" والقدح إناء يروي الرجلين. واسم يجمع الصغار والكبار.
(فاتخذ مكان الشعب) أي: الصدع الذي كان فيه (سلسلة من فضة) بكسر السين القطعة وبالفتح إيصال الشيء بالشيء ينقب من جانبي الشق ويسلسل بخيوط من فضة (رواه البخاري) في صحيحه المشتهر أي: اشتهار الذي هو خير كتاب صنف وأصحه بلا مرية. وذكر أنه رأى القدح بالبصرة وشرب فيه. ولأحمد عن عاصم رأيت عند أنس قدح النبي – - صلى الله عليه وسلم - فيه ضبة فضة، ولا خلاف في جواز الأكل والشرب في المضبب لحاجة. وكذا سائر الاستعمالات. وصوب الشيخ أنه يباح إذا كان التضبيب أقل مما هو فيه، ولم يستعمل. وقال إذا ضبب الإناء تضبيبًا جائزًا استعماله مع وجود غيره بلا خلاف.
(وعن عمران بن حصين) بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي أسلم عام خيبر وكان من فضلاء الصحابة مات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه توضؤا من مزادة) امرأة (مشركة) أي من راويتها ولا تكون الراوية إلا من
جلدين (متفق عليه) وفيه دلالة ظاهرة على طهارة آنية

(1/26)


المشركين وحديث أبي ثعلبة فاغسلوها. محمول على كراهة الأكل فيها للاستقذار لا للنجاسة. فقد قال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم}. ودعا النبي – - صلى الله عليه وسلم - يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة رواه أحمد. وغير ذلك من الأدلة على طهارة آنيتهم ولو حرمت رطوباتهم لا استفاض نقله. وفيه دلالة على طهارة جلد الميتة الطاهر في الحياة بالدباغ.
(وعن ابن عباس قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا دبغ الإهاب) على وزن كتاب اسم للجلد قبل الدبغ وذلك أن جلد الميتة ينجس بموتها فإذا دبغ بقرظ أو غيره مما ينزع فضوله من لحم ودم ونحوهما مما يعفنه (فقد طهر) بضم الهاء وفتحها، (رواه مسلم).
(وعن ميمونة مرفوعًا) يعني إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه (قال يطهره) أي يطهر الإهاب (الماء والقرظ) أي ورق شجر السلم وكذا بكل شيء ينشف فضلاته ويطيبه ويمنع ورود الفساد عليه (رواه أبو داود) سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني الحافظ المشهور المتوفى سنة خمس وسبعين ومائتين في سننه التي أحسن وضعها وعرضها على أحمد فاستجادها. ورواه النسائي
وغيره.
ودباغ الأديم طهوره متواتر عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من طرق عن جماعة من الصحابة دال على طهارة جلد الميتة بالدباغ. وهو

(1/27)


مذهب جماهير العلماء. وحديث ابن عكيم ضعيف وليس فيه ذكر الدباغ. قال الشيخ وأما بعد الدبغ فلم ينه عنه قط.
وما رواه أهل السنن. أيما إهاب دبغ فقد طهر. ضعفه أحمد وغيره. وقال الشيخ الذي عليه الجمهور أن جلود السباع لا تطهر بالدبغ لما روي من وجوه متعددة أنه نهى عن جلود السباع وقال في هذا القول جمع بين الأحاديث.
(وعن أبي واقد الليثي) واسمه الحارث بن عوف الكناني أحد الطلقاء توفي سنة ثمان وستين (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال ما قطع من البهيمة) أي بهيمة الأنعام ونحوها سميت بهيمة لما في صوتها من الإبهام (وهي حية) أي حال حياتها كألية شاة (فهو ميتة) قال شيخ الإسلام، وهذا متفق عليه بين العلماء (حسنه الترمذي) محمد بن عيسى بن سورة الإمام الحافظ المتوفي سنة سبع وستين ومائتين. وقال العمل عليه عند أهل العلم. ورواه أحمد وأبو داود وغيرهما وابن ماجه من حديث ابن عمر وله شواهد.
واستثني مسك وفأرته بالسنة والإجماع. وقال الشيخ المسك وفأرته بمنزلة البيض والولد والصوف واللبن ليس مما يبان من البهيمة وهي حية اهـ. واستثنى أيضًا الطريدة بين قوم لا يقدرون على ذكاتها فيأخذونها قطعًا. قال الحسن وغيره لا بأس به كان الناس يفعلونه في مغازيهم.

(1/28)


باب الاستنجاء
وآداب التخلي. الاستنجاء والاستطابة والاستجمار. إزالة النجو وهو الخارج من السبيل الذي تطلب إزالته. وعبر بعضهم بقضاء الحاجة وغيره. والباب شامل لذلك كله. وما يلتحق به. ومن كمال شريعته – - صلى الله عليه وسلم - أن علم أمته كل شيء حتى آداب قضاء الحاجة.
(عن أنس قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء) وفي الأدب المفرد كان إذا أراد أن يدخل الخلاء بالخاء المعجمة ممدود أي: إذا أراد أن يدخل الخلاء بالخاء المعجمة ممدود أي إذا أراد دخول المكان المعد لقضاء الحاجة. وفي غير الأمكنة المعدة له في أول الشروع عند تشمير الثياب (قال اللهم) أصلها يا الله أدخلوا الميم المشددة عوضًا عن جمع الأسماء وعن حرف النداء (إني أعوذ بك) أي ألوذ والتجئ وأستجير بك (من الخبث) بضم الباب وتسكن جمع خبيث (والخبائث) جمع خبيثة. فكأنه استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم أو من الشر وأهله (متفق عليه) فدل على مشروعيته هذا الدعاء توقيًا لشرهم.
(ولسعيد بن منصور) بن شعبة الخراساني الحافظ صاحب السنن المشهورة مات سنة سبع وعشرين ومائتين (كان يقول) أي إذا أراد دخول الخلاء (بسم الله) اللهم إلى آخره.
ورواه المعمري بلفظ الأمر. وإسناده على شرط مسلم. وعن علي مرفوعًا ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف

(1/29)


أن يقول بسم الله. رواه الترمذي وقال ليس إسناده بالقوي.
(وعن عائشة) بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين زوج النبي – - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بنت ست، سنة عشر من النبوة ودخل بها في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع ولم يتزوج بكرًا غيرها.
وكانت فقيهة كثيرة الحديث. وروى عنها جماعة توفيت بالمدينة سنة ثمان وخمسين قالت كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (إذا خرج) أي من الخلاء (قال غفرانك) أي أسألك غفرانك.
من الغفر وهو المحو مع الستر، استغفر من تقصيره في شكر الله على إخراج ذلك الخارج منه بعد أن أنعم عليه فأطعمه ثم هضمه ثم سهل خروجه عليه (رواه الخمسة) وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.
(زاد ابن ماجه) على ما روت عائشة بعد غفرانك (عن أنس الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) من احتباسه.
ورواه النسائي وابن السني عن أبي ذر وحسنه الحافظ. ولا تشترط الصحة للحديث في مثل هذا ولا خلاف في مشروعية هذه الأدعية. وفي الحمد هنا إشعار بأن هذه نعمة جليلة فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها.
(وعن المغيرة بن شعبة) بن أبي عامر الثقفي أحد دهاة العرب أسلم عام الفتح وتوفي بالكوفة عاملاً عليها سنة خمسين

(1/30)


(قال انطلق رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) يعني لما أراد قضاء الحاجة (حتى توارى عني) أي استتر عني (فقضى حاجته) كنى به عن نفس الحدث كراهية لذكره باسمه الصريح (متفق عليه) وللترمذي وصححه كان إذا ذهب أبعد. ولأبي داود حتى لا يراه أحد. ففيها دلالة على مشروعية التواري عن الأعين عند قضاء الحاجة. ويشهد لذلك أدلة ستر العورة.
(وعن جابر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي الأنصاري أحد المكثرين مات بالمدينة سنة أربع وسبعين وله أربع وتسعون (مرفوعًا) إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أي أنه قال (إذا تغوط الرجلان) أي جاءا الغائط وهو المنخفض من الأرض كنى به عن حاجة الإنسان كراهية لذكره بصريح اسمه (فليتوار) أي يستتر (كل واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدثا) حال تغوطهما.
(فإن الله يمقت على ذلك) والمقت أشد البغض (صححه ابن السكن) الحافظ أبو سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغدادي المتوفى سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وصححه ابن القطان وغيرهما. وضعفه بعض الحفاظ لأنه من رواية عكرمة ابن عمار. وقد احتج به مسلم واستشهد بحديثه البخاري.
ولأحمد وأبي داود وغيرهما نحوه من حديث أبي سعيد ولمسلم عن ابن عمر أن رجلاً مر ورسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه.

(1/31)


والحديث دال على أن تكلم الاثنين حال التغوط ينظر كل منهما إلى عورة صاحبه ويتحدثان كأنهما في مجلس مسامرة من الفعل الشنيع الموجب لمقت الله –عز وجل- والتعليل بمقت الله يدل على تأكد حرمة الفعل المعلل ووجوب اجتنابه. وأما تكلم الواحد للضرورة كإنقاذ أعمى أو إرشاد ضال. أو طلب حاجة. للاستنجاء مثلاً فلا بأس بذلك. ويأتي أنه – - صلى الله عليه وسلم - كلم ابن مسعود عندما أتاه بالروثة والحجرين وبال قائمًا فتنحي عنه فقال أدنه فدنا حتى قام عند عقبه.
(وعن أنس قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه رواه الأربعة) أبو داود والترمذي والنسائي، وابن ماجه (وصححه الترمذي) ورد تصحيحه النووي. وقال المنذري الصواب تصحيحه فإن رواته ثقات أثبات. وأخرجه ابن حبان والحاكم وغيرهما وأورد له البيهقي شاهدًا والجوزجاني وفيهما مقال.
والخاتم حلي يجعل للإصبع وقد يركب فيه فص من ياقوت وغيره وكان نقش خاتم رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "محمد رسول الله" متفق عليه. فيضع – - صلى الله عليه وسلم - خاتمه إعظامًا لاسم الله من أن يدخل به الخلاء. ودل الحديث على صيانة ما فيه ذكر الله عن المحلات المستخبثة فلا يدخل بها الخلاء. وليس خاصًا بالخاتم. وإن خاف ضياعه لم يكره. أو غفل عن تنحية ما فيه ذكر الله غيبه في

(1/32)


عمامة ونحوها. وأما المصحف فيحرم دخول الخلاء به من غير حاجة قطعًا.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال من أتى الغائط فليستتر) وذلك أن الشيطان يحضر تلك الأماكن وقت قضاء الحاجة ويرصدها بالأذى والفساد لخلوها عن الذكر الذي يطرده ولأنه تكشف فيه العورات (رواه الخمسة) وحسنه الحافظ وصححه ابن حبان وغيره. وفي إسناده مقال.
وفيه "فإن لم يجد" أي ما يستره "إلا كثيبًا من رمل" يعني فليجمعه فليستتر به حال قضاء الحاجة. ويستتر ولو بإرخاء ذيله "فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم. من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" ومحله إن لم يكن ثم من ينظره ممن يحرم عليه نظره. وإلا وجب الاستتار للأخبار.
(وعنه) أي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- (قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - استنزهوا) من التنزه وهو البعد. أي أبعدوا واستتروا وتطهروا (من البول) وعن عبادة: «فإذا مسكم منه شيء فاغسلوه» رواه البزار بسند حسن (فإن عامة عذاب القبر منه) أي من البول بسبب ملابسته له وعدم التنزه منه. لأنه يفسد الصلاة وهي عماد الدين.
(رواه الدارقطني) الحافظ أبو الحسن علي بن عمر
ابن أحمد بن مهدي البغدادي صاحب السنن وغيرها توفي سنة

(1/33)


خمس وثمانين وثلاثمائة. ولأحمد وغيره "أكثر عذاب القبر من البول". قال الحافظ وهو صحيح الإسناد وله شواهد (وأصله في الصحيحين) في القبرين يعذبان أحدهما "لا يستنزه" أي لا يستبرئ من البول ولا يتحفظ منه. ولابن عساكر "لا يستبرئ من البول" والاستبراء طلب البراءة باستفراغ ما في المخرج من الخبث ولا يستبعد منه وينبغي له أن يختار المكان الرخو ليأمن من رشاشة. وعند أبي نعيم "لا يتوقي" والكل مفيد نجاسة بول الإنسان ووجوب اجتنابه والتحرز منه وتحريم ملابسته وهو إجماع.
(وعن أبي قتادة) الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - شهد أحدًا وما بعدها وتوفي سنة أربع وخمسين (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) مسكت بالشيء أخذت به وأمسكته بيدي إمساكًا قبضته بها وفي رواية "فلا يأخذن أحدكم ذكره بيمينه"، وفي رواية "لا يمسن" تشريفًا وصيانة لها عن الأقذار (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه متفق عليه).
وفيه النهي عن مس الذكر باليمين حالة البول والتمسح بها من الغائط. وكذا من البول كما يأتي، وهذا مجمع عليه، فلا يجوز استعمال اليمين في الأمرين والجمهور على أنه نهي تنزيه، ولا صارف له عن الحرمة. وهذا حيث استنجى بألة كالماء والاستجمار أما لو باشر النجاسة بيده، فحكى النووي الإجماع

(1/34)


على تحريمه. ويذكر فيه خلاف عند المالكية وغيرهم.
(ولهما عن أبي أيوب) خالد بن زيد الأنصاري من أكابر الصحابة شهد بدرًا نزل عليه النبي – - صلى الله عليه وسلم - حال قدومه مات غازيًا سنة خمسين بالروم (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها) أي: لا تستقبلوا الكعبة بفروجكم عند خروج غائط وبول ولا تستدبروها. وهو ضد الاستقبال (ولكن شرقوا أو غربوا) أي وجهوا إلى المشرق أو المغرب.
وهذا خطاب منه – - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ومن جرى مجراهم. وأما من كانت قبلته إلى المشرق أو المغرب، فإنه يتحول إلى الجنوب أو الشمال، وعن أبي هريرة مرفوعًا "إذا جلس أحدكم على حاجة فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" رواه مسلم. وله عن سلمان نهانا ونحوه عن معقل وغيره. قال الحافظ جاء النهي عن استقبال القبلة واستدبارها في غير ما حديث صحيح مشهور تغني شهرته عن ذكره لكونه نهيًا مجردًا.
وقال شيخ الإسلام الأحاديث وردت على المنع من استقبالها واستدبارها ببول أو غائط لتضمنه أمرين: أحدهما خروج الخارج المستقذر. والثاني كشف العورة قال ابن القيم ولا فرق بين الفضاء والبنيان لبضعة عشر دليلاً، وهو أصح المذاهب في هذه المسألة وليس مع من فرق ما يقاومها
ألبتة اهـ.

(1/35)


وينبغي لمن نسي أو غلط أن ينحرف ويستغفر الله تعالى قال أبو أيوب فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله –عز وجل.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتقوا اللاعنين) أي اتقوا الأمرين الجالبين للعن الباعثين الناس عليه، فإنه سبب للعن من فعله فنسب إليهما بصيغة المبالغة أحدهما (الذي يتخلى في طريق الناس) أي سبيلهم الذي يسلكونه. والأمر الثاني قوله (أو في ظلهم) الذي يستظلون به ويعتادون الجلوس فيه أو يتخذونه مقيلاً ومناخًا (رواه مسلم).
وإضافة السبيل والظل إليهم دليل على إرادة الطريق المسلوك والظل المنتفع به. وإلا فقد قضاها – - صلى الله عليه وسلم - تحت حائش نخل وغيره. وروى البيهقي أنه قال (من سل سخيمته على طريق عامر من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وذلك لما فيه من أذية المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره.
(زاد أبو داود عن معاذ) بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري كان إليه المنتهى في العلم توفي سنة ثماني عشرة وله ثمان وثلاثون. ولفظه "اتقوا الملاعن الثلاث" (و) ذكر (الموارد) أي المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد.
فإنه إذا بال أو تغوط فيها نجسهم كما إذا فعل ذلك في طريقهم.

(1/36)


(و) زاد (أحمد) عن ابن عباس (أو نقع ماء) والمراد به الماء المجتمع. وفي الصحيحين النهي عن البول في الماء الراكد ويقال المراد مكان الماء الذي يستقي منه وينتفع به.
(وأخرج الطبراني) سليمان بن أحمد الإمام الحجة صاحب المسند الكبير وغيره المتوفي بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين (من حديث ابن عمر النهي عن التخلي "تحت الأشجار المثمرة وفيها ضعف) الأول مرسل لم يسمع أبو سعيد من معاذ. والثاني فيه ابن لهيعة. والراوي عن ابن عباس مبهم.
والثالث فيه فرات بن السائب متروك. لكن قال النووي وغيره اتقاؤها متفق عليه بين أهل العلم، وذلك لما فيه من أذية المسلمين وإلقاؤها كذلك.
(وعن ابن مسعود) عبد الله بن مسعود الهذلي أحد السابقين والفقهاء الربانيين توفي سنة اثنتين وثلاثين وله ستون (قال أتى النبي – - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين ولم أجد ثالثًا فأتيته بروثة) الروث للفرس والبغل والحمار (فأخذهما وألقى الروثة وقال أنه ركس) بكسر الراء وسكون الكاف. أي نجس (رواه البخاري) زاد أحمد ائتني بغيرها. وفيه مشروعية الاستجمار بالأحجار. قال شيخ الإسلام وغيره قد تواترت به السنة.
ودل هذا الحديث وغيره على جواز الاجتزاء به. وأجمع

(1/37)


المسلمون عليه. ولم يخص الحجر إلا لأنه كان الموجود غالبًا لا لأن الاستجمار بغيره لا يجوز. ونهيه عن الرجيع والعظم يدل على أنه لو تعينت الحجارة لنهي عما سواها. قال شيخ الإسلام والصواب قول الجمهور في جواز الاستجمار بغير الأحجار.
وقال أمر – - صلى الله عليه وسلم - بالاستجمار بثلاثة أحجار. فمن لم يجد فثلاث حثيات من تراب. قال أبو حامد وغيره هو قول العلماء كافة.
وقال ابن القيم. فلو ذهب معه بخرقة وتنظف بها أكثر من الأحجار أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز. وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة. فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز وأولى. قال شيخنا وغيره. كل جامد طاهر ليس بعظم ولا روث ولا محترم فيه خشونة تنق المخرج حكمه حكم الحجر.
(ولمسلم عن سلمان) الفارسي ويقال له سلمان الخير.
مولى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أصله من فارس سافر لطلب الدين وتنقل حتى انتهى إلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فآمن به. وقال (سلمان منا أهل البيت) قيل إنه عاش مائتين وقيل ثلاث مائة وخمسين ومات سنة خمسين (قال نهانا رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) وتقدم في المتفق النهي عن استدبارها وتحريمه مجمع عليه.
(أو أن نستنجي باليمين) أي أن نغسل بها أثر الخارج صيانة لها عن الأقذار. فيصب باليمين ويسنجي بالشمال.

(1/38)


وتقدم ولا يتمسح من الخلاء بيمينه. وذلك لغير ضرورة كقطع شماله. وحاجة كجرحها (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) أي نزيل النجو وهو الغائط بها. ولأحمد عن جابر إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثًا.
فدل على أنه لا بد في طهارة المحل من ثلاثة. أو ما يقوم مقامها. قال شيخ الإسلام عليه تكميل المأمور به وإن أنقى بدونه. وعلامة الإنقاء أن لا يبقى في المحل شيء لا يزيله إلا الماء (أو أن نستنجي برجيع أو عظم) والرجيع العذرة والروث سمي رجيعًا لأنه رجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعامًا أو علفًا. ولأحمد عنه نهانا أن نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم. ولمسلم والترمذي (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن) وقال العمل عليه عند أهل العلم.
(وعن أبي هريرة "نهى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجى بعظم أو روث، وقال أنهما لا يطهران" صححه الدارقطني) وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب إسناده جيد.
وقال شيخ الإسلام. الاستنجاء بالرجيع لا يجوز بحال إما لنجاسته. وإما لكونه علفًا لدواب إخواننا من الجن. وقد تنازع العلماء فيما إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار أو استجمر بمنهي عنه كالروث والرمة واليمين هل يجزئه؟ والصحيح أنه إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار فعليه تكميل المأمور به، وأما إذا

(1/39)


استجمر بالعظم واليمين فإنه قد يجزئه فإنه قد حصل المقصود بذلك. وإن كان عاصيًا. والإعادة لا فائدة فيها. ولكن يؤمر بتنظيف العظم مما لوثه به اهـ والجمهور أنهما لا يطهران ولعله لم يثبت عنده الخبر.
(وعنه مرفوعًا من استجمر فليوتر) أي يقطع على وتر (متفق عليه) زاد أحمد "من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" أي أن القطع على وتر سنة فيما زاد على ثلاث جمعًا بين النصوص ولا تحديد في الماء بل يستنجي به حتى يرى أنه أنقى المحل.
(واتفقا) أي البخاري ومسلم (على) إخراج أحاديث (استنجائه) – - صلى الله عليه وسلم - (بالماء من حديث أنس) ولفظه "كان يدخل الخلاء. فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء" (و) كذلك على إخراج (غيره) كحديث عائشة وميمونة ويأتي. ولأبي داود والنسائي من حديث أبي هريرة وجرير والترمذي وصححه عن عائشة أنها قالت مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحيهم. وأن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فعله وتقدم حكاية الإجماع على جواز الاجتزاء بالاستجمار.
ولا يكره الاقتصار عليه لكن الماء أفضل من الحجر إجماعًا لأن الماء يزيل عين النجاسة. والجمهور على أن الجمع بينهما أفضل. وروى أحمد والبزار بسند ضعيف أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء لما نزلت (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) فقالوا إنا

(1/40)


نتبع الحجارة الماء. وأصله في سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة وصححه ابن خزيمة أنهم كانوا يستنجون بالماء ولكن ليس فيه أنهم كانوا يجمعون بينهما.

باب السواك
وسنن الفطرة. السواك يذكر ويؤنث وجمعه سوك ويهمز من التساوك وهو التمايل أو التسوك وهو التردد. لأن السواك يتردد في الفم أو من ساك الشيء إذا دلكه. وفي الاصطلاح استعمال عود أو نحوه في الأسنان ليذهب نحو صفرة ورائحة. وأول من استاك الخليل عليه الصلاة والسلام.
(عن عائشة) –رضي الله عنها- (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال السواك مطهرة) بفتح الميم وكسرها أي منظف (للفم) والمطهرة كل آلة يتطهر بها شبه السواك بها لأنه ينظف الأسنان وسائر الفم والطهارة النظافة (مرضاة للرب) أي يرضي الرب تبارك وتعالى وفي فضله أكثر من مائة حديث واتفقوا على أنه سنة مؤكدة لحث الشارع عليه وترغيبه فيه. وقال داود بوجوبه. وقال النووي سنة وليس بواجب في حال من الأحوال بإجماع من يعتد به في الإجماع.
(وعن أبي هريرة) –رضي الله عنه- (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) أي لولا خشيته - صلى الله عليه وسلم - المشقة أي الثقل على أمته لأمرهم باستعمال

(1/41)


السواك عند كل وضوء أمر إيجاب فإنه – - صلى الله عليه وسلم - ترك الأمر به لأجل المشقة لا أمر الندب فإنه قد ثبت بلا مرية وأجمع عليه (رواهما أحمد) وغيره بأسانيد صحيحة (والبخاري تعليقًا) والمعلق هو ما يسقط من أول إسناده راو فأكثر.
والحديث دليل على تعيين وقته عند كل وضوء وهو حال المضمضة فهو من المطهرات. وعند عدم السواك يجزئ بأي شيء يزيل التغير حكاه الموفق والنووي وغيرهما. وروى البيهقي، والحافظ في المختارة "يجزئ من السواك الأصابع" ولأحمد عن علي في صفة الوضوء "فادخل بعض أصابعه في فيه" فيصيب من السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء.
(وفي الصحيحين) عن أبي هريرة –رضي الله عنه- بلفظ (عند كل صلاة) وفي معناه عدة أحاديث عن جماعة من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولأبي نعيم بسند جيد (لأن أصلي ركعتين بسواك أحب إلي من أن أصلي سبعين ركعة بلا سواك) ولأنا مأمورون في كل حالة من أحوال التقرب إلى الله أن نكون في حال كمال ونظافة إظهارًا لشرف العبادة.
(وفيهما) أي وفي الصحيحين أيضًا (عن حذيفة "كان - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك) والشوص الدلك من شاصه يشوصه وماصه يموصه إذا دلكه. وفي حديث أبي موسى الأشعري "وطرف السواك على لسانه وهو يقول أع أع والسواك

(1/42)


في فيه كأنه يتهوع" أي من أجل المبالغة. ولأحمد عن عائشة كان لا يرقد ليلاً ولا نهارًا فيستيقظ إلا تسوك. ولمسلم وغيره نحوه من وجوه تدل على تأكد استحبابه عند القيام من النوم لأنه مقتض لتغير الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة والسواك ينظفه.
(ولمسلم عن عائشة كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك) فيه بيان فضيلة السواك في جميع الأوقات وشدة الاهتمام به وتكراره ويتأكد عند قراءة القرآن لحديث علي "أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك" رواه ابن ماجه. ويتأكد عند تغير رائحة الفم مطلقًا فإنه مشروع لتطييب الفم وإزالة رائحته. حكاه الوزير وغيره اتفاقًا وله فوائد جمة.
(وعن عامر بن ربيعة) بن كعب بن مالك أحد السابقين مات سنة سبع وثلاثين (قال رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصي يتسوك وهو صائم رواه الخمسة) وحسنه الترمذي والحافظ وعلقه البخاري وله شواهد. وعن عائشة، قالت قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (من خير خصال الصائم السواك) رواه ابن ماجه وفيه ضعف.
فدل هذان الحديثان وغيرهما على استحباب السواك
للصائم من غير تقييد بوقت وأنه من خير خصال الصائم
من غير فرق بين ما قبل الزوال وما بعده. وما روي عن علي

(1/43)


استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي ضعيف. ولا يعارض به ما تواتر من الأحاديث المطلقة. قال الشيخ والزركشي وغيرهما.
وهو قول أكثر العلماء. وأكثر الأحاديث الواردة فيه تدل على استحبابه للصائم بعد الزوال كما يستحب قبله والإطلاق في سائرها يدل عليه. ولم يثبت في كراهته شيء قال شيخنا وعدم كراهته أصح القولين. وخلوف فم الصائم ليس في محل السواك إنما هو من المعدة ومرضاة الرب أطيب من ريح المسك. قال الشيخ والقياس يقول بموجبه.
والسواك نوع من التطهير المشروع لأجل الرب سبحانه لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه ولأجله شرع السواك. قال الحافظ والحق أنه يستحب السواك للصائم أول النهار وآخره وهو مذهب جمهور الأئمة.
(وعن أبي هريرة) –رضي الله عنه- (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس من الفطرة) أي هذه الخمس إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات واشرفها صورة وقال البيضاوي هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع (الاستحداد)، وفي رواية لمسلم "حلق العانة" سمي استحدادًا لاستعمال الحديدة فيه وهي الموسى. والعانة الشعر فوق ذكر الرجل وحول فرج المرأة وهو سنة بالاتفاق ويكون بالحلق والقص والنتف والنورة.

(1/44)


(والختان) وهو قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى ينكشف جميع الحشفة. والجمهور أنه زمن صغر أفضل لأنه أسرع برءًا ولينشأ على أكمل الأحوال. والختان في المرأة قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج. ولقوله "اخفضي ولا تنهكي فإنه أبهى للوجه وأحضى عند الزوج". والمقصود من ختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة. ومن المرأة تعديل شهوتها وهو مكرمة لها.
وأما وجوبه فقال شيخ الإسلام عليه أن يختتن إذا لم يخف ضرر الختان فإن ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة وهو واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقال ابن المنذر ليس في وجوب الختان خبر يرجع إليه والمتيقن السنة (وقص الشارب) وهو ما سال على الفم من الشعر جمعه شوارب.
وللترمذي وصححه من لم يأخذ شاربه فليس منا. وقصه سنة بالإجماع (ونتف الإبط) بكسر الهمزة وسكون الباء باطن المنكب جمعه آباط. ونتف الشعر ينتفه نتفًا نزعه أي فيسن نتف شعر إبطه إجماعًا ويحصل أيضًا بالحلق والنورة (وتقليم الأظفار متفق عليه) تقليم تفعيل من القلم وهو القطع والأظفار جمع ظفر وتقليمها سنة مجمع عليه.
ولمسلم عشر من الفطرة. وذكر إعفاء اللحية. والسواك واستنشاق الماء. وغسل البراجم. وهي عقد الأصابع وانتقاص الماء يعني الاستنجاء. قال شيخنا فيه مشروعية هذه المذكورات

(1/45)


إلا الختان ففيه قول أنه للوجوب وذكرت مع السواك بجامع أن كلاً منها فيه نقاء ونظافة وتحسين كالسواك وبعضها فيه كمال للطهارة.
(ولهما عن ابن عمر مرفوعًا: «احفوا الشوارب») أي بالغوا في قصها واستقصوا في أخذها؛ وحفها أولى من قصها عند الجمهور وما ورد بلفظ القص لا ينافي الإحفاء؛ لأن الإحفاء معين للمراد (وأعفوا اللحى) بكسر اللام وضمها واحدتها لحية بكسر اللام اسم للشعر النابت على الخدين والذقن، وفي الصحيحين أيضًا: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب»، وفي رواية: «أوفوا اللحى» أي اتركوها وافية. قال شيخ الإسلام وغيره يحرم حلقها للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد. وحكى ابن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض.
(وعنه نهى) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن القزع) وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه مأخوذ من قزع السحاب وهو تقطعه. والقزعة الخصلة من الشعر تترك على رأس الصبي. وهذا الحديث متفق عليه وزاد أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح. قال: «احلقوه كله» أي كل رأس الصبي: «أو دعوه كله» قال ابن القيم. والزع أربعة أنواع أن يحلق من رأسه مواضع من ههنا ومن ههنا، وأ، يحلق وسطه ويترك جوانبه. وأن يحلق جوانبه ويترك وسطه، وأن يحلق مقدمه ويترك مؤخره فهذا كله من القزع.

(1/46)


(وعن أبي هريرة مرفوعًا "أن اليهود والنصارى لا يصبغون) يعني الشيب (فخالفوهم) وهذا أيضًا متفق عليه والعلة في شرعية الصباغ وتغيير الشيب هي مخالفة أهل الكتاب فيتأكد استحبابه لذلك.
وقد كان – - صلى الله عليه وسلم - يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها ومن فوائده تنظيف الشعر وهذه السنة قد اشتغل السلف بها وبه قال جماعة من العلماء وفي صحيح مسلم اختضب أبو بكر بالحناء والكتم (1)، واختضب عمر بالحناء بحتًا، ولهما عن أنس بالحناء والكتم. وعن ابن عمر وأبي رمثة أنه اختضب – - صلى الله عليه وسلم - وللترمذي وصححه عن أبي ذر أن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم.
(ولمسلم عن جابر في شعر أبي قحافة) والد أبي بكر الصديق وكان جيء به إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - وكأن رأسه ثغامة (قال غيروه بشيء وجنبوه السواد) ولأحمد عن أنس لحيته ورأسه كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - غيروهما وجنبوهما السواد. فدلت هذه الأحاديث على مشروعية تغيير الشيب وعلى تحريم الخضاب بالسواد. وعن ابن عباس قال قال رسول
__________
(1) قال ابن القيم الكتم نبت ينبت بالسهول ورقه قريب من ورق الزيتون يعلو فوق القامة وله ثمر قدر حب الفلفل داخله نوى إذا رضخ أسود وقد ظن بعض الناس أن الكتم الوسمة وهي ورق النيل وهذا وهم فإن الوسمة غير الكتم، والحناء والكتم يجعلان الشعر بين الأحمر والأسود بخلاف الوسمة.

(1/47)


الله - صلى الله عليه وسلم - يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يرحون رائحة الجنة رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم والحافظ.
وللطبراني عنه "من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق" قال الزمخشري صيره مثلة بأن نتفه أو حلقه من الخدود أو غيره بسواد قال النووي والصحيح بل الصواب أنه حرام وذكر ابن القيم أن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من تغيير بغير الشيب نتفه وتغييره بالسواد والذي أذن فيه هو صبغه وتغييره السواد كالحنا والصفرة وهو الذي عمله الصحابة ومن رخص فيه ففي ثبوته عنهم نظر. ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته أحق بالاتباع. ولو خالفها من خالفها.

باب فروض الوضوء وصفته
الفروض جمع فرض والفرض في الأصل الحز والقطع أو التقدير. لأن الفروض مقدرات. وفي الشرع ما أثيب فاعله وعوقب تاركه. والوضوء بالضم فعل المتوضئ. وهو إمرار الماء على الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة من الوضاءة وهي النظافة سمي بذلك لأنه ينظف المتوضيء ويحسنه وصفة الوضوء كيفيته مصدر وصفه يصفه وصفًا وصفة: نعته بما فيه لما ذكر الماء الذي تحصل به الطهارة وأردفه بالاستنجاء أتبعه بالوضوء لأن مشروعية الاستنجاء قبله لا نزاع فيها وإنما قدم السواك على

(1/48)


الوضوء. للإتيان به في أوله عند المضمضة ثم أعقب ذلك بسائر مقاصد الطهارة.
والوضوء من أعظم شرائط الصلاة والدليل على وجوبه وشرطيته الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فالآية المذكورة.
وأما السنة فمنها ما في الصحيحين "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ولمسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور". وغيرهما وأما الإجماع، فقال ابن رشد لم ينقل في ذلك خلاف. واتفق المسلمون على شرطيته. وورد في فضله أحاديث كثيرة منها قوله "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" وقوله: "من توضأ كما أمره الله خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
(قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} قال ابن مسعود إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فاصغ سمعك لجوابها فهو إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه {إذا قمتم إلى الصلاة} يعني وأنتم على غير طهر {فاغسلوا وجوهكم} بالماء والغسل في الأصل من غسل الشيء سال وغسله يغسله غسلاً طهره بالماء وأزال الوسخ ونحوه عنه بإجراء الماء عليه وقدم الوجوه جمع وجه وهو في الأصل من المواجهة فشرع غسله الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب. وشرع بعده غسل اليدين لأنهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعده فقال: {وأيديكم إلى المرافق} جمع مرفق موصل الذراع في العضد.
والأيدي جمع يد وإلى تستعمل بمعنى مع كقوله {ولا تأكلوا

(1/49)


أموالهم إلى أموالكم} أي مع أموالكم. وفعله عليه الصلاة والسلام يبينه. وعن جابر: "أدار الماء على مرفقيه" رواه الدارقطني. ولمسلم "غسل يده حتى أشرع في العضد". وذكروا أن المغيا لا يدخل في الغاية إلا في ثلاث.
غسل اليدين إلى المرفقين. والرجلين إلى الكعبين. والتكبير المقيد {وامسحوا برؤوسكم} الباء للإلصاق أي إلصاق الفعل بالمفعول فكأنه قال الصقوا المسح برؤوسكم يعني بالماء فشرع الله سبحانه مسح جميع الرأس وأقامه مقام الغسل تخفيفًا.
{وأرجلكم إلى الكعبين} أي مع الكعبين فإلى بمعنى مع كما تقدم. والأحاديث في صفة الوضوء. ولمسلم حتى أشرع في الساق. والكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدم. وهما مجمع مفصل الساق والقدم. قال النووي. وهذا بإجماع الناس خلافًا للشيعة. وأرجل بالنصب أعاد الأمر إلى الغسل. وعلى القراءة بالخفض لا يخالف ما تواتر عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من غسل الرجلين.
قال شيخ الإسلام فإن المسح جنس تحته نوعان. الإسالة وغير الإسالة كما تقول العرب تمسحت للصلاة. فما كان بالإسالة فهو غسل. وعن عمرو "ثم غسل رجليه" كما أمره الله وتواتر عنه – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ويل للأعقاب من النار قال الشيخ والله أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين. وهذا هو الغسل وذكر المسح على الرجلين تنبيهًا على قلة الصب على الرجل فإن السرف يعتاد فيها كثيرًا اهـ.

(1/50)


وهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله. وبها يعصى الله ويتقى. وهي أسرع ما يتحرك من البدن للمخالفة. ورتب غسلها على ترتيب سرعة حركتها في المخالفة. أو لشرفها. وتنبيهًا بغسل ظاهرها على تطهير باطنها. وأخبر – - صلى الله عليه وسلم - أنه كلما غسل عضوًا منها حط عنه كل خطيئة أصابها بذلك العضو. وفي آخر الآية {ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}. وهل هذه الآية مؤسسة للحكم أو مقررة للحكم الثابت. روى ابن ماجه من طريق رشدين أن جبرائيل علم النبي – - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وقال ابن المنذر معلوم عند جميع أهل السير أنه لم يصل قط إلا بوضوء.
ولأحمد قال "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي".
وقال شيخ الإسلام الوضوء من خصائص هذه الأمة. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة "أنهم يبعثون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء" وأنه يعرفهم بهذه السيماء. فدل على أنه لا يشاركهم فيها غيرهم. وما رواه ابن ماجه لا يحتج به وليس له عند أهل الكتاب خبر عن أحد من الأنبياء أنه يتوضأ وضوء المسلمين.
(وعن عمر بن الخطاب) بن نفيل بن عبد العزى العدوي أمير المؤمنين الخليفة الثاني أفضل الصحابة بعد الصديق
–رضي الله عنهما- ولي بعده عشر سنين ونصفًا وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر، أستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث

(1/51)


وعشرين (قال سمعت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقول "إنما الأعمال بالنيات) أي إنما المنوي بحسب ما نواه العامل ونوى الشيء ينويه نواء ونية قصده وعزم عليه. والألف واللام للاستغراق وأكده بقوله (وإنما لكل امرئ ما نوى متفق عليه) وعن علي لا عمل لمن لا نية له.
فالنية سر العبودية وروحها. قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، ومعلوم أن إخلاص النية للمعبود أصل النية. والعمل الذي لم ينو ليس بعبادة. ولا مأمورًا به فلا يكون فاعله متقربًا إلى الله. وهذا لا يقبل نزاعًا وكيف يؤدي وظائف العبودية من لم يخطر بباله التمييز بين العبادات والعادات. ولا بين مراتب تلك الوظائف هذا أمر ممتنع عادة وعقلاً وشرعًا كما قاله الشيخ وغيره فلا يصح الوضوء ولو مستحبًا إلا بالنية. وكذا سائر العبادات. وفي حديث عثمان. أن الوضوء طاعة من الطاعات وعمل من الأعمال أي فلا بد فيه من النية.
(وعن أبي هريرة قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" رواه أحمد وغيره) فرواه أبو داود وابن ماجه والترمذي عن سعيد بن زيد (بسند ضعيف) وله شواهد لا تخلو من مقال. قال الحافظ مجموعها يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً وقال ابن أبي شيبة ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله. وقال بعض أهل العلم. لا وضوء حقيقة في نفسه، فهو نص فيها أنها

(1/52)


ركن أو شرط. ولو صلحت للاحتجاج لم يصح وضوء تاركها عمدًا. بخلاف الساهي فإن وضوءه صحيح وعن أحمد سنة وفاقًا، وقال أرجو أن يجزئه الوضوء لأنه ليس في التسمية حديث أحكم به. قال ابن سيد الناس. روي في بعض الروايات لا وضوء كاملاً. وإن صح فيحمل على تأكد الاستحباب ونفي الكمال بدونها. قال شيخ الإسلام ولا تشترط في الأصح. والمراد من ذكره هنا أن التسمية مشروعة في الوضوء ولا نزاع في ذلك.
(وعنه أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا استيقظ أحدكم من نومه) أي انتبه منه (فلا يغمس يده في الإناء) أخرج البرك والحياض. قال شيخ الإسلام أي الإناء الذي للماء المعتاد لإدخال اليد وهو الصغير (حتى يغسلها ثلاثًا) فدل الحديث على المنع من إدخال اليد إلى إناء الوضوء عند الاستيقاظ حتى يغسلها ثلاثًا ويتأكد من نوم الليل لقوله (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده متفق عليه). وقال النووي وغيره ليس مخصوصًا بالقيام من النوم. بل المعتبر الشك في نجاسة اليد فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها سواء كان قام من نوم ليل أو نهار أو شك.
(ولهما عن عثمان) بن عفان الأموي القرشي ثالث الخلفاء الراشدين هاجر إلى الحبشة مرتين وتزوج ابنتي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف سنة أربع وعشرين واستشهد سنة خمس
وثلاثين وله اثنتان وثمانون (أنه دعا بوضوء) أي بماء يتوضأ به

(1/53)


(فغسل كفيه ثلاث مرات) وهو سنة باتفاق أهل العلم (ثم تمضمض) أي حرك الماء في فمه ثم إن شاء مجه (واستنشق) أي أوصل الماء إلى أنفه ثم جذبه بريح الأنف إلى داخله ليزول ما فيه (واستنثر) أي طرح الماء من أنفه بنفسه بعد الاستنشاق مع وضع إصبع يساره على أنفه. يمضمض ثلاثًا ويستنشق ويستنثر ثلاثًا. يجمع بينهما بثلاث غرفات كما في حديث علي، "تمضمض واستنشق واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات" متفق عليه.
ولهما من حديث عبد الله بن زيد "توضأ فمضمض واستنشق ثلاثًا بكف واحد" يأخذ غرفة فيجعل بعضها في فمه وبعضها في أنفه ثم ثانية وثالثة هكذا كل ذلك من كف واحد.
وفيها دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق والبداءة بهما، وكل من وصف وضوءه – - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل أنه ترك المضمضة والاستنشاق وهما في حكم الظاهر. وفي الصحيحين "من توضأ فليستنشق" وقال "استنشقوا مرتين بالغتين أو ثلاثًا" وللترمذي وصححه "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" قال أحمد وأنا أذهب إليه لأمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - وعنه سنة وفاقًا لمالك والشافعي.
وحكى ابن المنذر أنه لا خلاف في أن تاركهما لا يعيد.
(ثم غسل وجهه ثلاث مرات) ولا نزاع في أن الثلاث سنة وإن المرة واجبة (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث
مرات) وفيه بيان لما أجمل في الآية من قوله {وأيديكم
إلى المرافق} (ثم اليسرى مثل ذلك) أي ثم غسل يده اليسرى

(1/54)


مثل غسل اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات. وللطبراني عنه "غسل يديه إلى المرفقين حتى مسح أطراف العضدين". وللبزار من حديث وائل "حتى جاوز المرافق" ولمسلم والطبراني، وغيرهما نحوه. وخبر حتى أشرع في العضدين وحتى أشرع في الساقين إنما يدل ونحوه على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء.
وفي الحديث مشروعية تقديم اليمين على الشمال. ولهما عن عائشة مرفوعًا "كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله" وللخمسة عن أبي هريرة "إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم" وأجمعوا على سنيته فمن تركه تم وضوءه وفاته الفضل. قال الموفق وغيره لا نعلم في عدم وجوبه خلافًا (ثم مسح برأسه) وهذا موافق للآية للإتيان بالباء للإلصاق قال شيخ الإسلام اتفق الأئمة على أن السنة مسح جميع الرأس كله كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة. والذين نقلوا وضوءه – - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل أحد منهم أنه اقتصر على مسح بعضه. وقياس مسح الرأس على مسح الوجه واليدين في التيمم في وجوب الاستيعاب والفعل. والباء والأمر في الموضعين سواء. ومسحه مرة يكفي بالاتفاق. ولا يستحب ثلاثًا.
وقال ابن القيم الصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس هكذا جاء عنه صريحًا. ولم يصح عنه خلافه ألبتة. وقال أبو داود أحاديث
عثمان الصحاح تدل على أن مسح الرأس مرة وقال غير واحد

(1/55)


أجمع الناس قبل الشافعي على عدم التكرار. وحكي عنه مرة واختاره البغوي والبيهقي وغيرهما (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم اليسرى مثل ذلك) أي إلى الكعبين ثلاث مرات.
(ثم قال) يعني عثمان –رضي الله عنه- (رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا) أي توضأ وضوءًا مثل وضوئي هذا ثم قال. "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" وروى صفة وضوئه – - صلى الله عليه وسلم - على نحو من هذه الصفة جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. وغسل هذه الأعضاء فرض بإجماع المسلمين.
وحكى النووي وغيره الإجماع على أن الواجب غسل الأعضاء مرة مرة. وعلى أن الثنتين والثلاث سنة. وفي الصحيح وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه "توضأ مرة مرة، وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وعن عبد الله بن زيد مرتين مرتين وعن غير واحد نحوه وبعض الأعضاء ثلاثًا وبعضها بخلاف ذلك.
(وعن عبد الله بن زيد) بن عاصم الأنصاري المازني النجاري قاتل مسيلمة هو ووحشي استشهد سنة ثلاث وستين، في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (ومسح - صلى الله عليه وسلم - رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة)، وفسر الإقبال باليدين والإدبار بهما وكونه مرة واحدة بقوله (بدأ بمقدم رأسه) أي: وضع كفيه وأصابعه عند جبهته وأمرهما على رأسه (حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما

(1/56)


إلى المكان الذي بدأ منه متفق عليه).
فإن الفاء في "أقبل" والواو في "أدبر" لا يقتضيان الترتيب، فالتقدير أدبر وأقبل كما في صحيح البخاري "فأدبر به، وأقبل" لأن ذهابه إلى جهة القفاء إدبار ورجوعه إلى جهة الوجه إقبال.
وقد يحمل الاختلاف في الروايات على تعدد الحالات. ولأبي داود عن المقدام "وضع كفيه على مقدم رأسه فأمرهما حتى بلغ القفا، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه". وله من حديث علي في صفة الوضوء "ومسح برأسه واحدة"، وقال الترمذي وقد روي من غير وجه عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح برأسه مرة واحدة. والعمل عليه عند أكثر أهل العلم.
(ولمسلم عنه) أي عن عبد الله بن زيد في صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - قال (ومسح رأسه بماء غير فضل يديه) فأخذ ماء جديد للرأس لا بد منه. وهو مقتضى الأحاديث بل دل على أن كل عضو يجدد له ماء. ولا يغسل بفضل العضو قبله. ولقوله في حديث عبد الله بن زيد "ثم أدخل يده أي في الإناء فاستخرجها".
(ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو) بن العاص بن وائل السهمي القرشي أسلم قبل أبيه وكان أبوه أكبر منه بثلاث عشرة سنة توفي سنة ثلاث وأربعين. في صفة وضوء النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهو كالأحاديث السابقة في وصفه قال (ثم مسح برأسه وأدخل

(1/57)


إصبعيه السباحتين) أي مسبحة اليد اليمنى واليسرى وسميت سباحة لأنه يشار بها عند التسبيح (في أذنيه) يعني: في صماخي أذنيه (ومسح بإبهاميه) تثنية إبهام. أي مسح بإبهامي يديه (ظاهر اذنيه) اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى، "وبالسباحتين باطنهما".
وللترمذي وصححه عن ابن عباس ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما. فدل الحديثان على شرعية مسح الظاهر بالإبهامين والباطن بالسباحتين قال ابن القيم ولم يثبت أنه أخذ لهما ماء جديدًا. وقال الحافظ المحفوظ أنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه والأذنان من الرأس في غير ما حديث. واختار شيخ الإسلام وغيره أنهما يمسحان بمائه وهو مذهب الجمهور.
(وعن جابر في صفة الحج) أي حج النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهو حديث طويل جليل من حين خروجه من المدينة إلى أن قضى حجه – - صلى الله عليه وسلم -. ويأتي إن شاء الله تعالى ومنه قال (ابدءوا بما بدأ الله به" رواه النسائي) هكذا (بلفظ الأمر وهو عند مسلم بلفظ الخبر) أي: بلفظ نبدأ أو أبدأ وذلك لما دنا من الصفا.
فأفاد الحديث أن الذي بدأ الله به ذكرًا نبتدئ به فعلاً فإن كلامه تعالى وتقدس كلام حكيم لا يبدأ ذكرًا إلا بما يستحق البداءة به فعلاً فإنه مقتضى البلاغة وهو وإن كان في الصفا والمروة فهو دليل على البداءة في الوضوء بما بدأ الله به. والعرب

(1/58)


تبدأ بالأهم فالأهم، فإن آية الوضوء داخلة تحت الأمر بقوله (ابدؤا بما بدأ الله به). وترتيبه الأعضاء الأربعة وإدخاله الممسوح بين المغسولات، وهي جنس واحد دال على الترتيب.
والآية سيقت لبيان الواجب.
والنبي – - صلى الله عليه وسلم - رتب الوضوء كذلك. وقال "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" فيجب غسل الوجه ثم ما بعده على الترتيب. قال شيخ الإسلام ولم يتوضأ – - صلى الله عليه وسلم - قط إلا مرتبًا. ولا مرة واحدة في عمره. كما لم يصل إلا مرتبًا. وهو قول جماهير العلماء. وما روي عن الحنفية مستدلين بحديث ابن عباس أنه "مسح رأسه بفضل وضوئه" لا يعرف له طريق صحيح يتم الاستدلال به.
(وله) أي لمسلم (من حديث عمر في رجل) توضأ و (ترك موضع ظفر على قدمه) فابصره النبي – - صلى الله عليه وسلم - فـ (قال إرجع فأحسن وضوءك) ولأحمد وأبي داود عن أنس نحوه. وعن بعض أزواج النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه "رأى رجلاً يصلي، وفي بعض قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة".
فهذا الخبر يدل على الوجوب. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - لم يتوضأ إلا متواليًا ومن معنى الآية أن يتوضأ متواليًا وهو مذهب مالك.
ورواية عن أحمد لكن في سند الحديث مقال. وما رواه مسلم لا يدل على وجوب الإعادة لأنه لم يأمر فيه بسوى الإحسان. فلا

(1/59)


يدل على وجوب الموالاة وهو مذهب أبي حنيفة. قال شيخ الإسلام وهو أشبه بأصول الشريعة. ونصوص أحمد. وقال لو فرق لعذر لم يضره وقال النووي وغيره التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع المسلمين. ودل الحديث على أن من ترك جزءًا يسيرًا مما يجب تطهيره لا تصح طهارته، وهذا متفق عليه. وكذا التيمم عند الجمهور وإن تركه جاهلاً.
(وعن عثمان أنه – - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته في الوضوء) رواه الخمسة ولأبي داود عن أنس نحوه. وتخليل اللحية تفريقها وإسالة الماء بينها وأصله من إدخال الشيء في خلال الشيء فيأخذ كفًا من ماء يضعه من تحتها بأصابعه مشتبكة أو من جانبيها ويعركها. قال ابن القيم، وكان – - صلى الله عليه وسلم - يخلل لحيته ولم يكن يواظب على ذلك.
(وعن لقيط) بن عامر بن صبرة صحابي مشهور وهو أبو رزين العقيلي (مرفوعًا) إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال (أسبغ الوضوء) والإسباغ الإتمام والإنقاء واستكمال الأعضاء أي عمم الأعضاء واستوعبها ولا تترك شيئًا من فرائض الوضوء وسننه. ولأحمد وغيره إسباغ الوضوء شطر الإيمان (وخلل بين الأصابع) رواه الخمسة و (صححهما الترمذي) ولهما شواهد منها ما في السنن من حديث ابن عباس "إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك" حسنه البخاري.
ولا خلاف في سنيته، وهو في الرجلين آكد لأنها ألصق من

(1/60)


اليدين. وفي السنن أنه – - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ دلك أصابع رجليه. قال ابن القيم وكان – - صلى الله عليه وسلم - يخلل الأصابع. ولم يكن يواظب على ذلك إنما يفعله أحيانًا. ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه.
(وعن عمر عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء) أي: يبلغه ويكمله فيوصله مواضعه على الوجه المسنون (ثم يقول) يعني بعد إتمام الوضوء وقيل يستحب متوجهًا إلى القبلة. ولأحمد وأبي داود "ثم يرفع نظره إلى السماء" فيقول (أشهد أن لا إله إلا الله) أي أقطع وأجزم أن لا معبود بحق إلا الله (وحده لا شريك له) تأكيدان للإثبات والنفي (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) أي وأقطع أن محمدًا عبد ورسوله. قدم عبده لأنه أحب الأسماء وأشرفها لديه تعالى. قال وسميتك عبدي المتوكل – - صلى الله عليه وسلم - (إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" رواه أحمد ومسلم) وأبو داود. والنسائي. وابن ماجه.
وزاد الترمذي "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" جمع بينهما إلمامًا بقوله (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) ولما كانت التوبة طهارة الباطن من أدران الذنوب والوضوء طهارة الظاهر عن الأحداث المانعة عن التقرب إلى الله تعالى ناسب الجمع بينهما غاية المناسبة. وهذه الزيادة رواها البزار والطبراني وغيرهما.

(1/61)


باب المسح على الخفين
أي باب أدلة مشروعية المسح على الخفين وغيرهما من الحوائل. والمسح لغة إمرار اليد على الشيء. وشرعًا إصابة البلة لخف مخصوص في زمن مخصوص والخفين تثنية خف واحد الخفاف التي تلبس على الرجل سمي به لخفته وهو شرعًا الساتر للكعبين من جلود ونحوها أعقب الوضوء به لأنه بدل عن غسل ما تحته. وهو رخصة .. وهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح. وهو أحاديث المسح.
قال أحمد ليس في قلبي من المسح شيء. فيه أربعون حديثًا عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وقال الحسن حدثني سبعون من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين. وقال ابن المبارك ليس في المسح على الخفين بين الصحابة اختلاف. وصرح جمع من الحفاظ بأنه ثبت بالتواتر. واتفق عليه أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام السنة مبينة لآية المائدة. وحمل قراءة الخفض عليه.
(عن جرير بن عبد الله) البجلي الصحابي الجليل. روي أنه –عليه الصلاة والسلام- قال من أهل البيت توفي سنة إحدى وخمسين (قال رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه) قال إبراهيم فكان يعجبهم هذا الحديث لأن
إسلام جرير كان بعد نزول المائدة (متفق عليه) زاد أبو داود.
ما أسلمت إلا بعد المائدة. وهذا الحديث نص واضح في جواز

(1/62)


المسح على الخفين قال بعض أهل العلم المراد به الخف الكامل يعني غير ممزق.
وقال شيخ الإسلام. أجاز المسح على الخفين مطلقًا.
والتحديد لا بد له من دليل. فدخل المفتوق. والمخرق وغيرهما بل علق المسح بمسمى الخف من غير تحديد. فمن فرق بين خف وخف فقد فرق فرقًا لا أصل له.
(ولهما عن المغيرة بن شعبة "توضأ) أي أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء (فأهويت) أي مددت يدي أو قصدت الهوي من قيام (لأنزع خفيه) لعله ظن أنه لم يحصل شرط المسح (فقال دعهما) أي الخفين (فإني أدخلتهما طاهرتين) حال من الخفين. أي أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان.
وهذا يدل على اشتراط الطهارة في اللبس لتعليله عدم النزع بإدخالهما طاهرتين.
وهو مقتض أن إدخالهما غير طاهرتين يقتضي النزع. وهو مذهب الجمهور. ويأتي حديث صفوان "إذا نحن أدخلناهما على طهر". قال النووي إن لبس محدثًا لم يجزئه المسح إجماعًا. بل إن لبس على طهارة. فإذا أحدث حدثًا أصغر جاز له بعد ذلك المسح عليهما. قال المغيرة (فمسح عليهما) يعني على الخفين.
وذكر البزار. أنه روي عن المغيرة من ستين طريقًا. وفيه الدلالة الواضحة على جواز المسح على الخفين إذا توضأ وضوءًا كاملاً ثم أدخلهما. قال الشيخ فله المسح عليهما بلا نزاع.

(1/63)


(وعنه) أنه – - صلى الله عليه وسلم - (توضأ ومسح على الجوربين) وأحدهما جورب والجمع جوارب أعجمي معرب يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير جلد (والنعلين) أي الملبوسين فوق الجوربين. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. و (صححه الترمذي) وتكلم فيه بعضهم وله شواهد. وقال ابن المنذر يروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة. ولأنهما في معنى الخف لأنه ساتر لمحل الفرض. وإذا كانا منعلين فلا نزاع في جوازه. أما النعلان والخفان المقطوعان وكلما يلبس تحت الكعب من مداس وجمجم وغيرهما فلا يجوز المسح عليهما. قال شيخ الإسلام باتفاق المسلمين.
(وعن عمرو بن أمية) بن خويلد الضمري صحابي مشهور له أحاديث وشجاعة مات قبل الستين قال (رأيته) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (يمسح على عمامته وخفيه) رواه البخاري) والعمامة ما يلف على الرأس جمعها عمائم سواء كانت محنكة أو ذات ذوآبة ولمسلم عن المغيرة "ومسح بناصيته وعلى العمامة والخفين". وللترمذي وصححه عنه ومسح على الخفين والعمامة.
والمسح على العمامة أخرجه غير واحد من طرق قوية متصلة الأسانيد. وقال عمر من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله. وهو قول أبي بكر وغيره من الصحابة. ولم يعرف لهم

(1/64)


مخالف ولفظ مسلم "بناصيته وعلى العمامة" لا يوجب الجمع بينهما. لأنه لو وجب لما اكتفى بالعمامة عن الباقي.
(ولأحمد عن بلال) بن رباح الحبشي المؤذن اشتراه أبو بكر لما عذبه المشركون وأعتقه فلزم النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأذن له وشهد المشاهد كلها مات بالشام سنة العشرين (رأيته) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (يمسح على الموقين) تثنية موق فارسي معرب من موزة وهو الجرموق. وهما ضرب من الخفاف قاله ابن سيدة وغيره.
وأخرج المسح عليهما أبو داود وغيره وجواز المسح عليهما مذهب جمهور العلماء. وقال أبو حامد قول كافة العلماء ومن تدبر ألفاظ الشريعة وأعطى القياس حقه علم أن الرخصة في هذا الباب واسعة. وإن ذلك من محاسن الشريعة. ومن الحنيفية السمحة (والخمار) وفي رواية عنه "امسحوا على الخفين والخمار" متفق عليه. والخمار جمعه خمر. وكل ما ستر شيئًا فهو خماره. والخمار العمامة لأنها تخمر الرأس أي تغطيه.
والخمار النصيف. وفي رواية لسعيد بن منصور عنه "على النصيف" والنصيف هو الخمار. وما تغطي به المرأة رأسها ولمشقة نزعه كالعمامة فقد يعطي حكمها. وذكر ابن المنذر أن أم سلمة كانت تمسح على خمارها. قال شيخ الإسلام في خمر النساء من الرخصة التي تشبه أصول الشريعة. وتوافق الآثار الثابتة عن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فإن خافت من البرد ونحوه مسحت على خمارها فإن أم سلمة كانت تمسح على خمارها. وينبغي أن

(1/65)


تمسح مع هذا بعض شعرها. وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك ففيه نزاع بين العلماء.
(ولأبي داود عن جابر مرفوعًا) في قصة صاحب الشجة (قال ويعصب) من عصب الشيء لواه وشده (على جرحه خرقة) أي يشد على الشق على بعض جسده خرقة. وهي القطعة من الثوب (ثم يمسح عليها) أي على العصابة. ولابن ماجه عن علي قال انكسرت إحدى زندي فسألت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فأمرني أن أمسح على الجبائر". ومسح ابن عمر على العصابة وأجمع الأئمة عليه إلا في أحد قولي الشافعي. وقال البيهقي هو قول الفقهاء من التابعين ومن بعدهم.
قال شيخ الإسلام مسح الجبيرة يقوم مقام غسل العضو لأن مسحه على حائل فأجزأ من غير تيمم كمسح الخف بل أولى. والحاصل أنه إن قدر على غسل الجرح من غير ضرر وجب. وإن خاف ضررًا مسح على الجرح مباشرة. فإن خاف ضررًا من وصول البلل إليه من المسح، فإنه يجعل عليه جبيرة. ثم يمسح على الجبيرة مسحة واحدة.
(وعن علي) بن أبي طالب –رضي الله عنه- هو ابن عم رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته فاطمة –رضي الله عنها- وأول من أسلم من الصبيان والخليفة الرابع ومناقبه مشهورة استشهد سنة أربعين (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر

(1/66)


ويوم وليلة للمقيم) يعني في المسح على الخفين (رواه مسلم) وأصحاب السنن وغيرهم وللترمذي وغيره ونحوه وصححه وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس على الصحيح لأنه الموجب للوضوء.
وعن صفوان بن عسال قال "أمرنا رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناها على طهر ثلاثًا إذا سافرنا. ويومًا وليلة إذا أقمنا. ولا نخلعهما من غائط ولا بول. ولا نخلعهما إلا من جنابة" رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي وغيره. وقال البخاري هو أحسن حديث في هذا الباب. وقال الترمذي هو قول العلماء من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - والتابعين، ومن بعدهم من الفقهاء. وقال أحمد هو من أجود حديث في المسح لأنه في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها النبي – - صلى الله عليه وسلم -.
وله عن عوف بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام للمسافر ولياليهن وللمقيم يومًا وليلة" وقال الطحاوي ليس لأحد أن يترك الآثار المتواترة في التوقيت إلى مثل حديث ابن عمارة. وفي حديث صفوان زيادة اختصاص الوضوء دون الغسل، وهو إجماع. وفيه دلالة على الندبية وليس بواجب إجماعًا وقال ابن المنذر وغيره المسح أفضل لهذا الخبر وغيره. ولأجل من طعن في المسح من أهل البدع والخوارج والروافض. وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه وقال شيخ الإسلام وغيره الأفضل في حق كل أحد ما هو الموافق لحال قدمه. فالأفضل للابس الخف أن يمسح

(1/67)


عليه ولا ينزع خفيه اقتداء بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. والأفضل لمن قدماه مكشوفتان غسلهما ولا يتحرى لبس الخف ليمسح وهذا أعدل الأقوال.
(وعنه لو كان الدين بالرأي (1) أي لو كان بمجرد استحسان العقل من غير نظر إلى الاتباع والاقتداء (لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه) أي لكان ما تحته أحق بالمسح من الذي هو أعلاه لأنه الذي يباشر المشي ويقع على ما ينبغي إزالته ولكن الأصل في العبادات التشريع (وقد رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه رواه أبو داود) ورواه أحمد وغيره. وقال الحافظ إسناده صحيح. وعن المغيرة مرفوعًا "رأيته يمسح على ظهور الخفين" صححه الترمذي وغيره. وقال البخاري هو أصح من حديث رجاء بن حيوة أنه مسح أعلى الخف وأسفله فإنه ليس بصحيح. وكذا قال أبو زرعة. وكان أحمد يضعفه.
وقال ابن القيم لم يصح عنه – - صلى الله عليه وسلم - مسح أسفلهما وإنما جاء في حديث منقطع. والأحاديث الصحيحة على خلافه. وقال الوزير أجمعوا على أن المسح يختص بما حاذى ظاهر الخف.
ويسن أن يمسح بأصابع يديه على ظهور قدميه اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى ويفرج أصابعه. وكيف ما مسح أجزأ
__________
(1) يعني العقل، ولا يلزم منه إبطال العقل من كل وجه، فإن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصريح، ولكن قد ينسب ما هو في باطن الأمر بخلاف ذلك، وقد يكون هذا هو العقل، ولكن خفف عن الأمة مسح الأسفل وجعل بدله الأعلى للنظافة فالله أعلم.

(1/68)


إذ لم يرد في كيفية المسح ولا الكمية حديث يعتمد عليه. فحيث فعل ما يسمى مسحًا على الخف لغة أجزأ. وأجمعوا على أن المسح عليه مرة واحدة مجزئ وأنه لا يسن تكراره.

باب نواقض الوضوء
النواقض جمع ناقض. والنقض في الأصل حل المبرم، فالنقض في الأجسام إبطال تركيبها، وفي المعاني إخراجها عن إفادة ما هو المطلوب منها. كنقض الوضوء بما عينه الشارع مبطلاً. ونواقض الوضوء هي العلل المؤثرة في إخراج الوضوء عما هو المطلوب منه.
(قال تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط) عبر به عن حاجة الإنسان. ولا نزاع في أنه يجب منه الوضوء. قال ابن القيم وألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها على الغائط.
(وعن صفوان بن عسال) المرادي صحابي مشهور سكن الكوفة روى عنه أكثر من ثلاثين نفسًا وتوفي سنة ثمانين (في) توقيت (المسح) على الخفين وتقدم قال (ولكن) أي لا ننزع خفافنا (من غائط وبول ونوم) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والشافعي وغيرهم و (صححه الترمذي) وابن خزيمة فالغائط.

(1/69)


ناقض للوضوء بالكتاب والسنة والإجماع. وأما البول فناقض أيضًا. وتقدم عن جرير أنه – - صلى الله عليه وسلم - بال فتوضأ فهو ناقض بالسنة المستفيضة والإجماع وللقياس على الغائط، وأما النوم الناقض على ما صرح به أهل التحقيق، فهو المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك. ويأتي تمام الكلام فيه.
(وعن علي في المذي) ولفظه قال كنت رجلاً مذاء فأمرت المقداد أن يسأل رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فـ (قال "فيه الوضوء" متفق عليه)، وهو دليل على أن المذي ينقض الوضوء. وهو إجماع. وفي رواية "يغسل ذكره ويتوضأ" والحكمة فيه إذا غسله تقلص فبطل خروج المذي وخروج المني والودي ينقض من باب أولى.
ويأتي أمره عليه الصلاة والسلام فاطمة بنت أبي حبيش بالوضوء عند كل صلاة وكانت تستحاض فلا تطهر. وكذا أم حبيبة وهو دليل إلى أن دم الاستحاضة حدث من جملة الأحداث ناقض للوضوء. وهو قول عامة أهل العلم.
(وعن أبي هريرة قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث) أي من السبيلين وتفسير أبي هريرة بقوله فساء أو ضراط تنبيه بالأخف على الأغلظ. والنقض بالريح معلوم بالسنة المستفيضة والإجماع. والمراد نفي قبول وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة (حتى يتوضأ) وهو معنى الصحة لترتيب الآثار عليه (متفق عليه) وفيهما "فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا".

(1/70)


(وعن علي مرفوعًا "العين) يعني جنس العين (وكاء السه) أي الدبر. والوكاء ما يربط به الخريطة ونحوها. كنى بالعين عن اليقظة لأن النائم لا عين له تبصر. أي اليقظة وكاء الدبر حافظة ما فيه عن الخروج لأنه ما دام مستيقظًا يحس بما يخرج منه فيمسك ما في بطنه ما لم تنم عيناه ومتى نام زالت قوته الماسكة (فمن نام فليتوضأ" رواه الثلاثة) وفيه ضعف.
وحسنه المنذري وغيره. ولأبي داود من حديث معاوية "فإذا نامت العينان استطلق الوكاء" أي انحل وفيه ضعف أيضًا.
وفيهما مع ما تقدم دليل على النقض بالنوم لكونه مظنة للحدث والمظنة أقيمت مقام الحقيقة كما أعطيت الوسائل والذرائع حكم الغايات.
(وعن أنس قال كان أصحاب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم) من باب ضرب أي تميل من النوم (ثم يصلون ولا يتوضؤن" رواه أبو داود) وصححه الدارقطني (ولمسلم "ينامون) وللترمذي "يوقظون للصلاة" وفيه. وحتى إني لأسمع لأحدهم غطيطًا. فيقومون فيصلون ولا يتوضؤن" وللبخاري عن ابن عباس "حتى رقد الناس واستيقظوا". ولهما "نام القوم ثم استيقظوا" ويقيد نومهم بعدم الاستغراق لجلالة قدرهم. والجزم بأنهم لا يجهلون ما ينقض الوضوء.
وقال شيخ الإسلام إن ظن بقاء ظهره. وقال النوم اليسير

(1/71)


من المتمكن بمقعدته لا ينقض الوضوء عند جماهير العلماء الأئمة الأربعة وغيرهم لأن النوم ليس بحدث ولكنه مظنة للحدث.
وقال ابن رشد ومن ذهب مذهب الجمع حمل الأحاديث الموجبه للوضوء من النوم على الكثير. والمسقطة للوضوء على القليل وهو مذهب الجمهور وهو أولى وقال الوزير اجمعوا على أن نوم المضطجع والمستند والمتكيء ينقض الوضوء. وقال الزركشي لا بد في النوم الناقض من الغلبة على العقل. والأمر بالوضوء للنائم تنبيه على ما هو أوكد منه كالجنون. والإغماء. والسكر. والنقض بها إجماع أهل العلم.
(وعن أبي الدرداء) عويمر بن عامر الخزرجي الأنصاري مشهور بكنيته أحد الحكماء والعلماء مات سنة اثنتين وثلاثين (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قاء فتوضأ" رواه الترمذي) وأحمد وأبو داود وغيرهم قال ابن مندة بإسناد صحيح وفي سنده اختلاف قال البيهقي وغيره لا تقوم به حجة. وقد استدل به من قال إن القيء من نواقض الوضوء. وعن عائشة قالت قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ رواه ابن ماجه. وضعفه أحمد وغيره وصوب الحفاظ إرساله. وذهبت الحنفية إلى النقض بالقيء. وذهب مالك والشافعي والجمهور من السلف إلى أن القيء لا ينقض. قال البغوي وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وهو أحد القولين لأحمد لعدم ثبوت الدليل في النقض به. والأصل عدم النقض

(1/72)


فلا يخرج عنه إلا بدليل قوي.
قال شيخ الإسلام الظاهر أنه لا يجب الوضوء من خروج النجاسات من غير السبيلين. فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح. بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب لعموم البلوى بذلك. لكن استحباب الوضوء من القيء ونحوه متوجه ظاهر وأما الرعاف والدم الخارج فالمشهور عن أحمد ومذهب أبي حنيفة أنه ينقض إذا كان كثيرًا. قال الخطابي وهو قول أكثر الفقهاء. وأما اليسير فلا ينقض عند جماهير العلماء. لما روي عن ابن عمر أنه عصر بثرة فخرج دم فصلى ولم يتوضأ. وابن أبي أوفى عصر دملاً. وابن عباس قال اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك. قال الموفق وغيره. ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعًا.
(وعن أنس أنه – - صلى الله عليه وسلم - "احتجم وصلى ولم يتوضأ" رواه الدارقطني ولينه) ففيه ابن مقاتل ضعيف وهو مقرر للأصل وهو عدم النقض ولمفهوم قوله "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" صححه الترمذي. قال شيخ الإسلام وغيره لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء من الدم الخارج. ومذهب مالك والشافعي وغيرهما أنه لا ينقض ولو كثر لكن يستحب الوضوء منه. وعن جابر في اللذين يحرسان في غزوة ذات الرقاع فرمي أحدهما بسهم فنزعه ثم بآخر ثم بالثالث وركع وسجد ودمه يجري رواه أبو داود وقال الحسن ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم.

(1/73)


(وعن بسرة بنت صفوان) بن نوفل القرشية الأسدية كانت من المبايعات (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال من مس ذكره) أي لمسه بيده من غير حائل (فليتوضأ رواه الخمسة وصححه الترمذي) وابن معين وغيرهما وقال البخاري هو أصح شيء في هذا الباب. وعن أم حبيبة معناه صححه أحمد واحتج بقوله "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس بينهما سترة فليتوضأ" ولأن مس الذكر مذكر بالوطء. وهو في مظنة الانتشار غالبًا، فأقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة كما أقيم النوم مقام الحدث وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين. والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد.
(وعن طلق بن علي) اليمامي الحنفي السحيمي مشهور له صحبة ووفادة ورواية (قال رجل مسست ذكري أو قال الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه وضوء فقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - لا) أي لا وضوء عليه (إنما هو) يعني الذكر (بضعة) بفتح الموحدة أي قطعة لحم، فلا يبطل الوضوء بمسه كما لا يبطل بمس سائر الأعضاء (منك) كاليد والرجل ونحوهما وقد علم أنه لا وضوء من مس البضعة منه (رواه الخمسة وصححه ابن حبان).
بكسر الحاء الحافظ أبو حاتم محمد ابن حبان بن أحمد البستي صاحب المسند الصحيح وغيره توفي سنة أربع
وخمسين وثلاثمائة وقد ناهز الثمانين. وقال الحافظ بن المديني. وعمرو بن الفلاس هو أصح وأحسن من حديث بسرة. وقال

(1/74)


الطحاوي إسناده مستقيم غير مضطرب بخلاف حديث بسرة. وصححه أيضًا ابن خزيمة وغيره.
وقال الترمذي هو أحسن شيء روي في هذا الباب وهو دليل على ما هو الأصل من عدم نقض الوضوء من مس الذكر. وهو قول غير واحد من الصحابة والتابعين ومذهب أبي حنيفة. والرواية الثانية عن أحمد. وأما مالك –رحمه الله- فقال يندب الوضوء منه. وقال شيخ الإسلام الأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح. بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب. لكن الاستحباب متوجه ظاهر.
وقال ابن القيم دليل الأمر دال على الاستحباب. ودليل الرخصة دال على عدم الوجوب فإن مس الذكر مذكر بالوطء وهو في مظنة الانتشار غالبًا. والانتشار الصادر عن المس في مظنة خروج المذي ولا يشعر به. فأقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة لخفائها وكثرة وجودها. كما أقيم النوم مقام الحدث ومسه يوجب انتشار حرارة الشهوة والوضوء يطفئها.
(وعن عائشة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قبل بعض نسائه) قال عروة من هي إلا أنت فضحكت (ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ رواه الخمسة) وضعفه البخاري وغيره. وصححه ابن عبد البر وجماعة. وله طرق يشد بعضها بعضًا. وللنسائي عنها حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله. وفي الصحيحين "إذا سجد غمزني

(1/75)


فقبضت رجلي" ولمسلم "وضعت يدي على باطن قدميه وهما منصوبتان" وغير ذلك مما يدل على أن اللمس غير موجب للنقض ويؤيده بقاء الأصل وقال الشيخ لا خلاف أنه لم ينقل عنه – - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ من المس ولا أمر بذلك مع أن الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة. ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر بالوضوء من ذلك والقرآن لا يدل على ذلك. بل المراد بالملامسة الجماع وهو مقتضي أسلوب الآية وبه فسرها النبي – - صلى الله عليه وسلم - وحبر الأمة.
وقال الأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس النساء فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح. بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب. لكن الاستحباب متوجه ظاهر. فيستحب أن يتوضأ من مس النساء بشهوة. وعلله غير واحد بأنه مظنة لخروج المني والمذي فأقيم مقامه كالنوم. قال شيخنا ومنهم من توسط وقال إن كان بشهوة وإلا فلا. وبه تجتمع الأدلة.

تتمة:
أورد بعض المصنفين هنا حديث من غسل ميتًا فليغتسل. ومن حمله فليتوضأ. وقال أحمد وغيره لا يصح في
هذا الباب شيء. فأما الوضوء من أجل حمله فلا قائل به وأما الوضوء من تغسيل الميت فقال أبو هريرة وابن عمر وابن
عباس أقل ما فيه الوضوء. قال الموفق ولم يعلم لهم مخالف من

(1/76)


الصحابة فكان إجماعًا. ولأن الغاسل لا يسلم غالبًا من مس عورته وقال شيخ الإسلام استحبابه متوجه ظاهر وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب وعند أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم لا ينقض الوضوء لأنه لم يرد بالنقض به نص صحيح. ولا هو في معنى المنصوص عليه.
(وعن جابر بن سمرة) بن جنادة السوائي صحابي ابن صحابي نزل الكوفة وتوفي بها سنة أربع وسبعين (أن رجلاً سأل النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنتوضأ من لحوم الإبل قال نعم توضؤا من لحوم الإبل رواه مسلم) أي من أكل لحومها وهو المادة الحمراء الرخوة التي تؤكل وخص لما فيه من القوة دون بقية الأجزاء قال الشيخ سواء كان نيئًا أو مطبوخًا لأن الأمر بالوضوء يقتضي ذلك.
وفي السنن من حديث البراء توضؤا من لحوم الإبل. قال ابن خزيمة لم أر خلافًا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه وقال أحمد فيه حديثان صحيحان حديث جابر وحديث البراء ولهما شواهد من وجوه ولأن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي – - صلى الله عليه وسلم - من قوله "إنها جن خلقت من جن" فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول بما أمر الله به من الوضوء من لحمها. وقال النووي وغيره ذهب الأكثر إلى أنه لا ينقض.
وذهب أحمد ابن المنذر وابن خزيمة والبيهقي وأصحاب

(1/77)


الحديث إلى النقض به مطلقًا. وهذا المذهب أقوى دليلاً وإن كان الجمهور على خلافه. فلعلهم لم يسمعوا هذه النصوص أو لم يعرفوا العلة اهـ وكان أحمد يعجب ممن يدع حديث لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها. والتحقيق أن يخرج على مذاهبهم. فإن المذهب لا يكون خلاف ما فيه نص صريح صحيح أو إجماع كما صرحوا به.
(وله عن أبي هريرة مرفوعًا "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا") من نحو ريح وقراقر مترددة من شأنها أن تخرج (فأشكل عليه) أي التبس وأبهم عليه (أخرج منه شيء) أي أحدث (أم لا) أي أو لم يخرج منه شيء (فلا يخرجن من المسجد) إذا كان فيه لإعادة الوضوء (حتى يسمع صوتًا) للخارج يعني الحدث (أو يجد ريحًا) له. قال النووي وغيره أي حتى يعلم وجود أحدهما. ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين. ولهما عن عبد الله بن زيد نحوه.
وهذا الحديث أصل من أصول الدين. وقاعدة من قواعده. وهي أن الأشياء يحكم ببقائه على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك. ولا يضر الشك الطارئ عليها. ومن ذلك أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة.
ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة أو خارجها وهو مذهب جماهير السلف والخلف. وإن تيقن الحدث وشك
في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. قال الشيخ وإن

(1/78)


شك هل عليه غسل أو وضوء لم يجب. لكن يستحب له التطهر احتياطًا. وإذا فعل ذلك وكان واجبًا عليه في نفس الأمر أجزأ عنه.
(وفي كتاب عمرو بن حزم) بن زيد الخزرجي النجاري استعمله النبي – - صلى الله عليه وسلم - على نجران وهو ابن سبع عشرة يفقههم في الدين. ويأخذ صدقاتهم. وكتب له كتابًا في الفرائض والسنن والصدقات وغيرها توفي سنة إحدى وخمسين (أن لا يمس القرآن إلا طاهر) ورواه النسائي وابن حبان وغيرهما. وكتاب عمرو هذا تلقاه الناس بالقبول وقال ابن عبد البر أنه أشبه التواتر لتلقي الناس له بالقبول. وشهد له بالصحة غير واحد.
وأعله قوم. وقال أحمد لا شك أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كتبه. وفي مجمع الزوائد عن ابن عمر مرفوعًا. لا يمس القرآن إلا طاهر ووثقه.
وقال ابن القيم إذا تأملت قوله تعالى: {إنه لقرآن كريم} الآيات وجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر. قال شيخ الإسلام مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس القرآن إلا طاهر. وقال الوزير أجمعوا أنه لا يجوز للمحدث مس المصحف فيحرم مسه. أو بعضه بيد أو غيرها من أعضائه بلا حائل للعموم.

باب الغسل:
أي باب ما يوجب الغسل وما يسن له وصفته وما
يمنع منه وغير ذلك. والغسل بضم الغين الاغتسال وهو

(1/79)


واستعمال الماء في جميع بدنه. وبالفتح الماء أو الفعل. وبالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره (قال تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} أصل الجنابة البعد. وسمي جنبًا لأنه يجتنب البيت الحرام في تلك الحال. ومواضع الصلاة أو لمجانبته الناس وبعده منهم حتى يغتسل.
والآية دالة على وجوب التطهر من الجنابة وهو الغسل منها وذكر السهيلي وغيره. أن الغسل من الجنابة كان معمولاً به في الجاهلية من بقايا دين إبراهيم كما بقي فيهم الحج والنكاح.
ولذلك عرفوه مع قوله {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} ولم يحتاجوا إلى تفسيره وكذا قال الشيخ وغيره كان مشروعًا
قبل.
(وقال تعالى: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل}) فجنبًا نصب على الحال يعني ولا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبًا {حتى تغتسلوا} أي تتطهروا بالماء. وكذلك المساجد إلا عابري سبيل أي مجتازين فيه للخروج منه. مثل نومه في المسجد فيجنب أو يصير جنبًا والماء في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله. وكذلك إن كان طريقه عليه فيمر به ولا يجلس والسنة واضحة في ذلك.
واحتج الأئمة رحمهم الله بهذه الآية على أنه يحرم
على الجنب المكث في المسجد. ويجوز له المرور إجماعًا.
وكذا الحائض والنفساء مع أمن التلويث. ومنع الشيخ وغيره من

(1/80)


اتخاذه طريقًا. وذهب أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث فيه لفعل الصحابة رضي الله عنهم قال الشيخ وحينئذ يجوز أن ينام في المسجد حيث ينام غيره. وإن كان النوم الكثير ينقض الوضوء فذلك الوضوء الذي يرفع الحدث الأصغر ووضوء الجنب لتخفيف الجنابة.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس) أي الرجل (بين شعبها) أي شعب المرأة (الأربع) قيل رجلاها وفخذاها وقيل ساقاها وفخذاها والمراد جلس منها مجلس الرجل من امرأته (ثم جهدها) كدها بحركته وبلغ جهده في العمل. وهو كناية عن معالجة الإيلاج وتمكن صورة العمل. ولمسلم عن عائشة "ثم مس الختان الختان" وفي لفظ "جاوز" ولأبي داود "ألزق الختان بالختان" ولابن أبي شيبة "وتوارت الحشفة في الفرج" (فقد وجب الغسل" متفق عليه زاد مسلم) وغيره (وإن لم ينزل)
وحكى الوزير والنووي وغير واحد الإجماع عليه. وكلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع. وإن لم يكن فيه إنزال فاتفق الكتاب والسنة والإجماع على إيجاب الغسل من الإيلاج أنزل أو لم ينزل. فهو أحد موجبات الغسل ويترتب عليه جميع أحكامه.
(وعن علي مرفوعًا قال: "وفي المني الغسل رواه الخمسة

(1/81)


وصححه الترمذي) وقال قد روي عن علي عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه. وهو قول عامة أهل العلم. وحكاه الطبري إجماع المسلمين. ولأحمد وأبي داود "إذا فضخت المني فاغتسل" وهذا الحديث يقيد مطلق حديث علي فإنه لا بد من كون خروجه في اليقظة دفقًا. وسمي منيًا لأنه يمني أن يصب ويراق ويدفق. وهو من الرجل ماء غليظ أبيض يخرج عند اشتداد الشهوة يتلذذ بخروجه ويعقب البدن بعد خروجه فتور.
قال النووي خواصه المعتمدة الخروج بشهوة مع الفتور عقبة. والرائحة التي تشبه الطلع أو العجين. والخروج بتزريق ودفق في دفعات. وكل واحدة من هذه الثلاث كافية في كونه منيًا. وهو من المرأة ماء رقيق أصفر. وفي صحيح مسلم "ماء الرجل غليظ أبيض. وماء المرأة رقيق أصفر".
(وعن أم سلمة) زوج النبي – - صلى الله عليه وسلم - (أن أم سليم) بنت ملحان بن خالد الأنصارية امرأة أبي طلحة أم أنس بن مالك –رضي الله عنها- المشهورة بكنيتها (قالت يا رسول الله هل على المرأة الغسل إذا احتملت) من الحلم بضم المهملة وسكون اللام، ما تراه في النوم. ثم غلب على ما تراه من الجماع. يقال احتلم جامع في نومه (قال نعم) أي يجب عليها الغسل (إذا رأت الماء) أي المني بعد استيقاظها (متفق عليه) ولأحمد وغيره "ليس عليها غسل حتى تنزل. كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل" وفي رواية "إن النساء شقائق الرجال".

(1/82)


وعن أنس قال. قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل. قال "تغتسل" متفق عليه. زاد مسلم فقالت أم سلمة وهل يكون هذا قال "نعم فمن أين يكون الشبه" أي فإن الولد تارة يشبه أباه وأعمامه وتارة يشبه أمه وأخواله. فأي المائتين غلب كان الشبه له وحديث "إذا علا ماء الرجل اذكر".
وهذه الأحاديث دالة على وجوب الغسل على المرأة إذا أنزلت.
وكذا الرجل إذا أنزل. وحكاه ابن بطال. وابن المنذر. والموفق وغيرهم إجماع المسلمين.
وإن لم يجد الرجل والمرأة بللاً فلا غسل على واحد منهما إجماعًا. ولو وجد لذة الإنزال وإن لم يتحققه منيًا. وكان سبق نومه انتشار. أو ملاعبة. أو نظر، أو فكر، ونحوه أو كان به أبردة لم يجب الغسل اتفاقًا، ويطهر ما أصاب من ثوبه أو بدنه.
(وعن قيس بن عاصم) بن سنان بن منقر التميمي قال الأحنف تعلمت الحلم منه (أنه أسلم) وذلك حين قدم على النبي – - صلى الله عليه وسلم - في وفد تميم. وقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - هذا سيد أهل الوبر (فأمره النبي – - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر. رواه أحمد والثلاثة) وابن حبان وغيرهم وصححه ابن السكن. ولأحمد وغيره أن ثمامة بن أثال أسلم فقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "مروه أن يغتسل". وأصله في الصحيحين. لكن بدون الأمر. فأما وجوبه على الجنب فللأدلة القاضية بوجوبه. وعن أحمد يجب مطلقًا. فقد جاء أمر

(1/83)


بعض من أسلم بالاغتسال وبدنه نشأ على رجس الشرك فعليه أن يزيل آثاره.
وذهب الجمهور إلى الاستحباب لأنه – - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر كل من أسلم بالغسل ... ولو كان واجبًا لما خص بالأمر به بعضًا دون بعض.
وقد أسلم الجم الغفير ولو أمرهم لنقل نقلاً متواترًا وقال شيخ الإسلام إذا وجد منه سبب يوجب الغسل فاغتسل في حال كفره ثم أسلم لم يلزمه إعادة الغسل إن اعتقد وجوبه بناء على أنه يثاب على طاعته في الكفر إذا أسلم.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من أربع) حالات فسرها بقوله (من الجنابة) وتقدم الأمر به منها (ويوم الجمعة) وهو سنة مؤكدة ويأتي في باب الجمعة (ومن الحجامة) وقال علي سنة وذلك لما يخلف البدن ما خرج من قوته. وتقدم أنه احتجم وصلى ولم يتوضأ. فلعله – - صلى الله عليه وسلم - يفعله تارة ويتركه أخرى (ومن غسل الميت) المسلم فينبغي له الغسل وتقدم تأكد الوضوء (رواه أو داود) ورواه أحمد وغيره وصححه ابن خزيمة. وفي إسناده مصعب بن شيبة فيه مقال.
وذكر ابن القيم وغيره أن له طرقًا تدل على أنه محفوظ.
والغسل من الجنابة واجب بالكتاب والسنة والإجماع. وغسل يوم الجمعة لا نزاع في سنيته بل قيل بوجوبه. وأما الغسل من الحجامة، ومن غسل الميت، فقد دل هذا الحديث

(1/84)


وغيره على استحبابه. وقال ابن القيم يستحب ولا يجب عند الأكثرين.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا "من غسل ميتًا فليغتسل) رواه الخمسة وغيرهم و (حسنه الترمذي) وصححه ابن حبان. وصحح بعضهم وقفه. وقال أحمد وغيره لا يصح في هذا الباب شيء. وخرج بعضهم له طرقًا كثيرة.
وفيه والذي قبله دلالة على استحباب الغسل لمن غسل ميتًا.
وهو قول الجمهور لخبر منا من يغتسل ومنا من لا يغتسل.
وغسلت أسماء أبا بكر رضي الله عنهما ثم سألت المهاجرين هل عليها من غسل فقالوا لا. وقيل لا يستحب. قال ابن عقيل هو ظاهر كلام أحمد. ومذهب أبي حنيفة. والاستحباب جمع بين الأدلة.
(وعن عائشة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أغمي عليه) أي غشي عليه فالإغماء غشية ثقيلة على القلب يزول معها الإحساس (ثم أفاق) أي رجع عليه حاله (فاغتسل" متفق عليه) وفيه أنه فعله ثلاثًا. فدل على استحبابه ولا يجب. حكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا. وتأتي بقية الاغتسال في مواضعها إن شاء الله تعالى.
(وعن علي) رضي الله عنه (قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبه من القرآن شيء) وفي لفظ "لا يحجزه من القرآن شيء"

(1/85)


أي لا يمنعه من تلاوة القرآن شيء من سائر الأحداث (ليس الجنابة) أي ليس شيء من الأحداث مانعًا من القرآن إلا الجنابة (رواه الخمسة) والحاكم والبراز وغيرهم (وصححه الترمذي) ولفظه "يقرئنا القرآن ما لم يكن جنبًا" وصححه أيضًا ابن حبان وابن السكن. وقال ابن خزيمة هذا ثلث رأس مالي.
وفيه عبد الله بن سلمة تكلم بعضهم فيه.
وعنه قال: "رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثم قرأ شيئًا من القرآن. وقال هكذا لمن ليس يجنب فأما الجنب فلا ولا آية" قال الهيثمي ورجاله موثقون. ولأبي داود وغيره بسند ضعيف "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن" ومذهب الجمهور أحمد وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم تحريم قراءة الجنب القرآن.
وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. ولم ير به ابن عباس بأسًا. واستأنس من لم ير تحريمه بحديث عائشة يذكر الله على كل أحيانه ويخصص بحديث علي وغيره. وقال شيخ الإسلام يباح للحائض إذا خافت نسيانه بل يجب.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إني لا أحل المسجد) أي دخوله والبقاء فيه (لحائض ولا جنب" رواه أبو داود) وصححه ابن خزيمة، وعن أم سلمة نحوه رواه ابن ماجه وكلاهما من حديث أفلت بن خليفة. وقال أحمد لا بأس به والحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد للجنب والحائض. وهو قول أهل العلم وتقدم.

(1/86)


(وعنها قالت كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - " إذا اغتسل من الجنابة) ولأحمد إذا أراد أن يغتسل من الجنابة (يبدأ فيغسل يديه) وفي حديث ميمونة مرتين أو ثلاثًا (ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه) ولأحمد وغيره فيوضع له الإناء فيه الماء "فيفرغ على يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثم يأخذ بيمينه فيصب على شماله فيغسل فرجه" وفي رواية " حتى ينقيه ثم يغسل يده غسلاً حسنًا" وفي حديث ميمونة "ثم أدخل يده في الإناء فأفاض على فرجه ثم دلك يده بالحائط أو الأرض".
فابتداؤه غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء سنة إجماعًا.
ويتأكد إذا كان مستيقظًا من النوم كما ورد صريحًا وكان الغسل من الإناء (ثم يتوضأ" ولأحمد "ثم تمضمض واستنشق ثلاثًا وغسل وجهه ثلاثًا وذراعيه ثلاثًا". وفي حديث ميمونة "ثم توضأ وضوءه للصلاة" وذكرت المضمضة والاستنشاق في الوضوء والمضمضة والاستنشاق في الغسل سنة وكذا الوضوء فيه سنة وليس بواجب ولا شرط حكاه ابن جرير وغيره إجماعًا لأن الله أمر بالغسل ولم يذكر الوضوء. وللأحاديث الدالة عليه كقوله "فأفرغ عليك" وقوله "فأمسه بشرتك".
(ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات) والحفنة ملء الكف وفي رواية "ثم يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه قد روى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات" ولأحمد "ثم يخلل أصول الشعر حتى إذا ظن

(1/87)


أنه قد استبرأ". ولا نزاع في مشروعية تخليل الشعر. ولهما من وجه آخر. "فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه" وفي حديث ميمونة "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه". ولمسلم "ملء كفه وظاهره أنه لم يمسح رأسه كما يفعل في الوضوء.
(ثم أفاض الماء على سائر جسده) أي بقية بدنه. ولأحمد "ثم يغسل سائر جسده" وفي حديث ميمونة "ثم غسل" بدل أفاض. والإفاضة الإسالة بلا دلك. وحقيقة الغسل إفاضة الماء على الأعضاء وفي لفظ "أفرغ" والمراد أسال الماء على سائر جسده. فلا يجب الدلك إلا لما ينبو عنه الماء. وما لا ينبو عنه فمندوب بلا نزاع. لما في قوله (فاطهروا) وغيره من المبالغة.
وأما إفاضة الماء على جميع البدن فواجب بإجماع المسلمين سواء كان الشعر خفيفًا أو كثيفًا.
ولا يشرع التثليث في غسل البدن. قال شيخ الإسلام وكل من نقل غسل النبي – - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر أنه غسل بدنه كله ثلاثًا.
ولا يصح قياسه على الوضوء. والسنة قد فرقت بينهما (ثم غسل رجليه" متفق عليه) ولأحمد "فإذا خرج غسل قدميه" وفي حديث ميمونة "ثم تنحى فغسل قدميه". وفي رواية للبخاري "ثم توضأ وضوءه للصلاة" غير رجليه. قال الحافظ فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين وقال بعضهم يغسلها مرتين لقولهم توضأ وضوءًا كاملاً ثم غسلهما بعد فراغه.

(1/88)


واستحبه مالك إذا كان المكان غير نظيف. قالت ميمونة فأتيته بخرقة فلم يردها وجعل ينفض الماء بيديه. والأشهر أنه يستحب ترك التنشيف.
وصفة هذا الغسل في الصحيحين والسنن وغيرها من حديث عائشة وميمونة وابن عباس وغيرهم من طرق بألفاظ متقاربة. وهو الغسل الكامل. ولا يستحب الوضوء بعده فللخمسة. وصححه الترمذي "كان لا يتوضأ بعد الغسل".
(وعن أم سلمة قالت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي) بفتح الضاد وسكون الفاء قال النووي وغيره هذا المعروف في رواية الحديث والمستفيض عند المحدثين ويجوز ضمهما وضفر الشعر فتله وإدخال بعضه في بعض (أفأنقضه لغسل الجنابة وفي رواية والحيضة) أي في إحدى رواياته له أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة (فقال لا) أي لا يجب عليك نقضه لهما (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) يقال حثيت وحثوت والحثية الحفنة من ماء وغيره.
قال ابن العربي والنووي وغيرهما: قال الجمهور لا تنقضه إلا أن يكون ملبدًا لا يصل الماء إلى أصوله إلا بنقضه فيجب. وعن أحمد تنقضه في الحيضة والثانية كالجماعة أنه لا يجب نقضه.
وبلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن فقالت أو ما يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن رواه

(1/89)


مسلم.
ولأبي داود عنها مرفوعًا: "لا عليها أن لا تنقضه" وإسناده حسن.
(ثم تفيضين عليك الماء) أي تسيلين الماء على سائر جسدك كما تقدم نحوه (فتطهرين) فيه دلالة على أنه إذا جلل بدنه بالماء أو انغمس فيه من غير دلك أجزأه (رواه مسلم) وأصحاب السنن وغيرهم، وفي لفظ واغمزي قرونك. قال الشيخ فيه دليل على وجوب بل داخل الشعر المسترسل اهـ
وهذه صفة الغسل المجزئ أن يعمم بدنه بالغسل. قال ابن عبد البر وغير واحد يجزئ بالإجماع.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن تحت كل شعرة جنابة) فلو بقيت شعرة واحدة لم يصل إليها الماء بقيت الجنابة (فاغسلوا الشعر) لأنه إذا كان تحت كل شعرة جنابة فبالأولى أنها فيه. ففرع غسل الشعر على الحكم بأن تحت كل شعرة جنابة.
("وانقوا البشر" رواه أبو داود وضعفه) ورواه أحمد وغيره وضعفه أيضًا وأنقوا البشر أي نظفوا ظاهر البدن ولو كانت البشرة تحت الشعر كثيفًا كان أو خفيفًا وسواء كان على بعض أعضائه أو شعره حناء أو شمع أو عجين أو طين ونحو
ذلك فمنع وصول الماء إلى البشرة أو إلا نفس الشعر لم يصح غسله. فعن علي مرفوعًا "من ترك موشع شعرة من جنابة
فعل الله به كذا وكذا" صححه الحافظ وهو دليل على وجوب

(1/90)


إيصال الماء إلى جميع البشرة وأنه لا يعفى عن شيء منه. وحكى الإجماع فيه غير واحد.
(وعن أنس كان النبي – - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد) يعني من الماء (ويغتسل بالصاع) وهو أربعة أمداد ولذا قال (إلى خمسة أمداد" متفق عليه) والمد رطل وثلث عراقي. وفي الصحيحين عن عائشة "كنت أغتسل أنا ورسول الله – - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد يقال له الفرق" وقال شيخ الإسلام مقدار طهور النبي – - صلى الله عليه وسلم - في الغسل ما بين ثمانية أرطال عراقية إلى خمسة وثلث. والوضوء ربع ذلك. وقال الجمهور على أن الصاع والمد في الطعام والماء واحد. وهو أظهر وإن زاد جاز ما لم يبلغ إلى حد الإسراف.
(وعن يعلي بن أمية) بن عبيدة التميمي الحنظلي المتوفى سنة سبع وأربعين رضي الله عنه (مرفوعًا "إذا اغتسل أحدكم فليستتر" رواه أبو داود) ورواه النسائي وغيره ورجاله
موثقون.
وللبزار نحوه من حديث ابن عباس. وقال الحسن والحسين إن للماء سكانًا والجمهور على أنه أفضل. وحكى القاضي عياض جواز الاغتسال عريانًا عن أكثر العلماء لقصة اغتسال موسى وأيوب. ويحرم بين الناس عريانا عن أكثر العلماء لقصة اغتسال موسى وأيوب. ويحرم بين الناس عريانًا جزم به الشيخ وغيره. وتدل عليه أخبار وجوب ستر العورة.
(وعن عائشة إذا كان) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - "جنبًا فأراد
أن يأكل أو ينام توضأ" رواه مسلم)، وللترمذي وصححه من

(1/91)


حديث عمار "أرخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة" وفي الصحيحين عن عائشة "إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة" ولهما من حديث عمر أيرقد أحدنا وهو جنب قال "نعم إذا توضأ".
فالوضوء عند إرادة الأكل والشرب والنوم سنة بل يستحب الدوام على الطهارة وتتأكد السنية عند النوم للأمر به وخشية أن تقبض روحه وهو نائم فلا تشهد الملائكة جنازته والأرواح تسجد تحت العرش إذا نام على طهارة فالكبرى أولى. قال ابن القيم وهي والله أعلم العلة التي أمر الجنب لأجلها أن يتوضأ إذا أراد النوم انتهى. ولأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه جنب.
(وله عن أبي سعيد مرفوعًا "إذا أتى أحدكم أهله) كنى به عن الجماع وقال (ثم أراد أن يعود) أي إلى إتيان أهله (فليتوضأ بينهما وضوءًا) ولابن خزيمة والبيهقي "وضوءه للصلاة" وفيه دلالة على شرعية الوضوء لمن أراد معاودة أهله.
وزاد الحاكم "فإنه أنشط للعود" أي معاودة الوطء. والغسل أفضل لأنه أزكى وأطهر. ولأبي داود وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - "طاف على نسائه في ليلة فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلاً. وقال هذا أطهر وأطيب" واستحباب مبادرة الجنب بالغسل أول الليل مجمع عليه. وجواز النوم والأكل والشرب للجنب وكذا العودة إلى
الجماع قبل الغسل مجمع عليه أيضًا لما ثبت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه

(1/92)


ربما اغتسل في أول الليل وربما اغتسل في آخره. ولمسلم وغيره يجنب ويتوضأ ثم ينام.

باب التيمم
في اللغة القصد. ثم كثر استعماله حتى صار علمًا على مسح الوجه واليدين بالتراب. وهو من خصائص هذه الأمة لم يجعله الله طهورًا لغيرها توسعة لها. وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وبدل من الطهارة بالماء إجماعًا (قال تعالى: "فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا) أي أقصدوا ترابًا طاهرًا هذا مذهب الشافعي وأحمد لقوله "وجعلت تربتها لنا طهورًا" وقال ابن كثير وغير واحد الصعيد هو كلما صعد على وجه الأرض فيدخل فيه التراب والرمل وغير ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك. والقول الثاني لأحمد. وقال الزجاج وغيره لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن الصعيد وجه الأرض ترابًا كان أو غيره وذهب أهل التحقيق إلى أن المتعين التراب مع وجوده. وإلا فالرمال ونحوها. والطيب الطاهر بالإجماع.
{فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} أي من الصعيد الطيب وفيه وجوب مسح الوجه واليدين في التيمم وهو
إجماع.
وأن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر. وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها. {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ}، فلهذا سهل عليكم إذا عدمتم الماء أو لو تقدروا على استعماله {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ} من

(1/93)


الأحداث والنجاسات {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بتكفير الخطايا {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} نعمه فيما شرع لكم من التوسعة والرحمة والتسهيل.
وجمعت الشريعة بين الماء والتراب في التطهير فما أحسنه من جمع وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة كما قال ابن القيم وقد عقد سبحانه الإخاء بينهما قدرًا وشرعًا. خلق منهما آدم وذريته وجعل منهما حياة كل حيوان وأخرج منهما الأقوات وكانا أعم الأشياء وجودًا وأسهلها تناولاً، وكان تعفير الوجه بالتراب من أحب الأشياء إلى الله تعالى.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} الآية.
قال إذا كان بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح فيخاف أن يموت إن اغتسل تيمم رواه البزار وصححه ابن خزيمة. والمراد مرض يضره معه استعمال الماء. أو كان على موضع الطهارة جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التلف فإنه يصلي بالتيمم.
أو يخاف زيادة الوجع فإنه يمسح عليه إن أمكن. أو يعصب على الجرح ويمسح على العصابة. فإن خشي ضررًا تيمم للجرح.
والمرض على ثلاثة أضرب أحدها يسير لا يخاف من استعمال الماء معه تلفًا ولا مرضَا ولا بطء برء ولا زيادة ألم كصداع ووجع ضرس وحمى لا يضر معها وشبه ذلك
فهذا لا يجوز له التيمم بلا نزاع. الثاني مرض يخاف معه من

(1/94)


استعمال الماء تلف النفس أو عضو أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس أو عضو أو فوات منفعة عضو فهذا يجوز له التيمم إجماعًا. والثالث أن يخاف بطء البرء أو زيادة المرض أو حصول شيء أو بقاء أثر شين على عضو ظاهر جاز في قول جماهير العلماء سلفًا وخلفًا لظاهر الآية وعموم البلوى. واستنبط أكثر العلماء من الآية أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء فمتى طلبه فلم يجده جاز له التيمم وإلا فلا. قال ابن القيم وألحقت الأمة واجد ثمن الماء بواجده. ومن خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بالعادم.
(وعن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أعطيت خمسًا) أي خصه الله بخصائص خمس (لم يعطهن أحد) من الأنبياء (قبلي) ومعلوم أنه لا يعطاهن أحد بعده إذا الخاصة هي ما توجد في الشيء دون غيره (نصرت بالرعب) يعني الخوف (مسيرة شهر) أي بينه وبين العدو مسافة شهر. وللطبراني "نصرت بالرعب على عدوي مسيرة شهرين" وإنما جعل مسافة شهر أو شهرين لأنه لم يكن بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين عدوه أكثر من هذه المسافة حتى أنه ليخافه ملك بني الأصفر.
(وجعلت لي الأرض مسجدًا) موضع سجود ولا يختص به موضع دون موضع سوى ما ورد فيه النهي كالمقبرة والحش.
وهذه الخصلة لم تكن لغيره - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية "وكان من قبلي إنما

(1/95)


كانوا يصلون في كنائسهم" وفي أخرى "ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه" (وطهورًا) بفتح الطاء أي مطهرًا وهذا الشاهد من الحديث جعلنا الله لنا طهورًا كما جعلها مسجدًا (فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) أي بالتيمم على أي حال إذا لم يجد الماء (متفق عليه) قال الشيخ وكل من امتنع عن الصلاة بالتيمم فإنه من جنس اليهود والنصارى. فإن التيمم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وفي لفظ "فعنده مسجده وطهوره" وللترمذي وغيره وصححه "والصعيد الطيب طهور المسلم" وفيه دلالة على أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في الطهورية. قال الشيخ وهو الصحيح وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار.
ومن قال إن التراب لا يطهر من الحدث فقد خالف الكتاب والسنة. وقال أحمد القياس أن تجعل التراب كالماء وفيه دلالة أيضًا على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض. ولأحمد وغيره من حديث أبي أمامة "وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدًا وطهورًا"، وكان - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجتازون الرمال، ولم ينقل أنهم حملوا التراب ولا أمروا بحمله ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن الرمال في تلك المفاوز أكثر من التراب. وإنما كانوا إذا أدركتهم الصلاة تيمموا بالأرض التي صلوا عليها ترابًا أو غيره.
وتمام الحديث قال "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي"

(1/96)


وكان غنائم من قبله – - صلى الله عليه وسلم - تأكلها النار. "وأعطيت الشفاعة" ولا ينكرها إلا كافر "وكان النبي – - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وثبت غير هذه الخمس وعد النيسابوري وغيره أن الذي اختص به - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الأنبياء أكثر من ستين خصلة وعدها بعض المتأخرين إلى ثلاثمائة. والتحقيق أنها لا تحصر فمفهوم العدد في هذا الحديث غير مراد.
(وعن أبي ذر) -رضي الله عنه- (مرفوعًا "الصعيد الطيب طهور المسلم) وللبزار وصححه ابن القطان "وضوء المسلم" (وإن لم يجد الماء عشر سنين) المراد بالعشر التقريب لا التحديد فمعناه أن يفعل مرة بعد أخرى وإن بلغ عدم الماء ما بلغ (فإذا وجد الماء فـ) ليتق الله و (ليمسه بشرته" رواه الخمسة وصححه الترمذي) وصححه أيضًا ابن حبان والدارقطني وسببه أن أبا ذر اجتوى المدينة فأمر له رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بإبل فكان فيها. فأتى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فقال هلك أبو ذر. قال "ما حالك قلت كنت أتعرض للجنابة وليس قربي ماء. قال الصعيد طهور" الحديث.
وفيه دليل على وجوب إمساسه الماء بشرته عند إرادة الصلاة وذلك مع القدرة وسماه طهورًا ووضوءًا وهو حجة لمن قال حكمه حكم الماء يرفع الجنابة والحدث ويصلي به ما شاء.
وإذا وجد الماء وجب عليه أن يمسه بشرته للمستقبل من الصلاة

(1/97)


لأن الله تعالى جعله قائمًا مقام الماء فلا يخرج عنه إلا بدليل.
وأجمعوا على أنه يجوز للجنب كما يجوز للمحدث لا فرق وإذا وجده الجنب وجب عليه الاغتسال لما استفاض من الأمر به.
ولم يصح عنه – - صلى الله عليه وسلم - التيمم لكل صلاة ولا أمر به بل أطلق التيمم وجعله قائمًا مقام الماء فاقتضى أن يكون حكمه حكمه إلا فيما اقتضاه الدليل. قال الشيخ يقوم مقام الماء مطلقًا ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده. وهذا القول هو الصحيح وعليه يدل الكتاب والسنة. وقال في موضع آخر التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الأخرى أعدل الأقوال.
واستحسنه شيخنا وقال العمل عليه عند أهل العلم وهو أحوط وخروجًا من الخلاف ولا مشقة فيه.
(وعن جابر) رضي الله عنه (في الرجل الذي شج فاغتسل فمات) قال جابر خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات. فلما قدمنا على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك (فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما
شفاء العي السؤال (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها) أي على الجبيرة (ويغسل سائر جسده" رواه أبو داود) وفيه الزبير بن خريق تكلم فيه بعضهم

(1/98)


وله طرق وشواهد يصلح معها للاحتجاج به.
فدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر وهو مذهب الجماهير من أهل العلم. وتقدم خبر ابن عباس وقول شيخ الإسلام وغيره أنه إن خاف ضررًا مسح على الجرح مباشرة. فإن خاف ضررًا جعل جبيرة ثم مسح عليها. وإن لم يمكنه تيمم للجرح. قال شيخ الإسلام ومسح الجرح أولى من مسح الجبيرة وهو خير من التيمم. وقال فيما إذا كان الجرح بين أعضاء الوضوء لا يلزمه مراعاة الترتيب. وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره. والفصل بالتيمم بين أعضاء الوضوء بدعة وهذا الخبر والله أعلم من باب المقدم والمؤخر.
(وعن عمرو بن العاص وكان تيمم في ليلة باردة وصلى بأصحابه) وذلك في غزوة ذات السلاسل قال فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكر ذلك لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبرته بالذي منعني وقلت ذكرت قول الله -عز وجل- {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} علم منها أنه نهى عن إهلاك نفسه قال فتيممت ثم صليت.
جعل خشية مشقة الاستعمال كعدم عين الماء قال: (فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا).
فدل على جواز التيمم عند شدة البرد ونحوه. وقال ابن القيم وألحقت الأمة من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض

(1/99)


في العدول عنه إلى البدل (رواه الخمسة) وغيرهم والبخاري تعليقًا ولم يعد مطلقًا. قال شيخ الإسلام وهذا هو الصحيح لأنه فعل ما قدر عليه فلا إعادة عليه. وهذا مذهب جماهير العلماء.
مالك. وأحمد. وأبي حنيفة. وابن المنذر. وغيرهم. لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فإن أمكنه تسخينه والاغتسال في الوقت لزمه ذلك. فإن خاف الضرر باستعمال البعض غسل ما لا يتضرر به وتيمم للباقي ويكون قد فعل ما أمر به من غير تفريض ولا عدوان.
(وعن عمار بن ياسر) بن عامر بن مالك العنسي حليف بني مخزوم أسلم قديمًا وعذب بمكة على الإسلام وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد وقتل بصفين وهو ابن ثلاث وسبعين (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بعثه في حاجة قال فاجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فقال "إنما كان يكفيه أن تقول) أي تفعل ولأبي داود وغيره أن تصنع (بيديك هكذا) ثم بينه بفعله (ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة) قال أحمد من قال ضربتين إنما هو شيء زاده (ثم مسح الشمال على اليمين وظهر كفيه ووجهه" متفق عليه)، وللبخاري "وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه". وللترمذي وصححه "أمره بالتيمم للوجه والكفين" وصح أنه تيمم بالجدار وهو جائز عند السلف والخلف.

(1/100)


وأصح حديث في صفة التيمم حديث عمار هذا. وحديث أبي جهيم وهو في الصحيح بلفظ "فمسح بوجهه وكفيه" وما سواهما ضعيف أو موقوف. وهذان الحديثان مفسران لمجمل الآية وهو مذهب فقهاء الحديث وجماهير العلماء. وفي حديث عمار التصريح بكفاية التيمم للجنب الفاقد للماء. ويقاس عليه الحائض والنفساء وهو قول عامة أهل العلم. إلا ما روي عن ابن عمر وابن مسعود.
(وعن أبي سعيد الخدري في الرجلين الذين تيمما وصليا) وذلك أنهما خرجا في سفر وليس معهما ماء فحضرت الصلاة فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا (ثم وجدا الماء في الوقت) أي وقت الصلاة التي صلياها بالتيمم.
(فأعاد أحدهما) الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له (فقال للذي لم يعد أصبت السنة) أي الطريقة الشرعية (وأجزأتك صلاتك) لأنها وقعت في وقتها والماء مفقود فالواجب إذًا التراب (وقال للآخر) الذي توضأ وأعاد الصلاة في الوقت (لك الأجر مرتين) أجر الصلاة بالتراب وأجر الصلاة بالماء (رواه أبو داود) ورواه ابن السكن والنسائي مسندًا ومرسلاً وله شاهد من حديث ابن عباس رواه
إسحاق في مسنده أنه – - صلى الله عليه وسلم - "بال ثم تيمم فقيل له إن الماء قريب منك قال فلعي لا أبلغه" واستدل بهما من لا يرى الانتظار واستأنس من قال فلعلي لا أبلغه" واستدل بهما من
لا يرى الانتظار واستأنس من قال بالانتظار بقول علي في
الجنب يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت والمراد وقت الاختيار

(1/101)


وحكي اتفاقًا وعللوه بأن الطهارة بالماء فريضة. والصلاة في أول الوقت فضيلة وانتظار الفريضة أولى.
وفي الحديث دلالة على عدم الإعادة لأشرفية إصابة السنة وعدم الأمر له بالإعادة ولصدورها منه صحيحة، وفي الصحيحين في قصة القلادة "فبعث رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - رجالاً في طلبها فوجدوها فأدركتهم الصلاة، وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء" ولم يأمرهم بالإعادة. قال شيخ الإسلام، وهو مذهب جمهور السلف وعامة الفقهاء. وهو الصحيح من أقوالهم لأنه لا إعادة على أحد فعل ما أمر به بحسب استطاعته لحديث ابن عمر مرفوعًا (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) رواه أبو داود والنسائي. وإنما يعيد من ترك واجبًا يقدر عليه كنسيانه أو نومه.

باب إزالة النجاسة
أي هذا باب بيان إزالة النجاسة وأحكامها وتطهير محالها وما يعفي عنه منها وما يتعلق بذلك. والمراد الحكمية وهي الطارئة على عين طاهرة فيمكن تطهيرها. وأما النجاسة العينية فلا تطهر بحال. والإزالة التنحية والنجاسة اسم مصدر وجمعها أنجاس والنجس هو المستقذر المستخبث. وشرعًا قذر مخصوص يمنع جنسه الصلاة كالبول والدم. واتفقوا على أن إزالتها مأمور بها شرعًا.
(قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء} يعني المطر

(1/102)


{طَهُورًا} أي آلة يتطهر به من الأحداث والنجاسات.
والطهور هو الطاهر في ذاته المطهر لغيره وهذه الآية كقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} ولا نزاع في أن الماء مطهر. وإنما النزاع في غيره. قال ابن القيم والنجاسة تزول بالماء حسًا وشرعًا، وذلك معلوم بالضرورة من الدين بالنص والإجماع.
(وعن أنس قال جاء إعرابي) يقال هو ذو الخويصرة نسبة إلى الأعراب وهم سكان البادية (فبال في طائفة المسجد) أي في ناحيته والطائفة القطعة من الشيء (فزجره الناس) أي نهروه وفي لفظ فقام إليه الناس ليقعوا به (فنهاهم النبي – - صلى الله عليه وسلم -) بقوله "دعوه" وفي لفظ "لا تزرموه" (فلما قضى بوله "أمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - بذنوب) بفتح الذال وهي الدلو الملآى (من ماء) تأكيد (فأهريق عليه) أصله فأريق عليه ثم أبدلت الهاء من الهمزة ثم زيدت همزة أخرى فصار فاهريق عليه أي صب عليه الماء (متفق عليه) وللبخاري نحوه من حديث أبي هريرة وقال صبوا عليه سجلاً أو قال ذنوبًا من ماء.
وفيه دليل ظاهر على نجاسة بول الآدمي وهو إجماع. وإذا كان على الأرض طهر بالماء كسائر النجاسات سواء صب على أرض رخوة أو صلبة وفيه احترام المساجد. وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر
إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن". وفيه الأمر بالرفق. ودفع أشد

(1/103)


المضرتين بأخفهما. لأنه لو قطع عليه بوله لأضر به مع ما يحصل بتنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد.
وفي الصحيح "أن الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك" وذلك أنها تطهر بالاستحالة حيث لم يبق فيها أثر النجاسة فلو كانت النجاسة باقية لوجب غسلها. والأمر بالصب على بول الأعرابي يحصل به تعجيل تطهير الأرض. فإذا لم يصب الماء عليها فإن النجاسة تبقى إلى أن تستحيل كما قاله شيخ الإسلام وغيره وقال إذا أصابت الأرض نجاسة فذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة فمذهب الأكثر طهارة الأرض. وجواز الصلاة عليها هذا مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد.
والقول القديم للشافعي وهذا القول أظهر من قول من لا يطهرها بذلك.
(وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب) أي شرب مما فيه بطرف لسانه أو أدخل لسانه فيه فحركه وهذا شامل لجميع الكلاب لا فرق بين كلب صيد أو غيره. ولهما "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم" أي فطهوره (أن يغسله) يعني الإناء (سبع مرات) قال الشيخ وذلك أن يلغ شيئًا فشيئًا فلا بد أن يبقى في الماء شيء من ريقه فيكون الخبث محمولاً والماء يسيرًا فيراق لأجل كون الخبث محمولاً ويغسل الإناء الذي لاقاه ذلك الخبث سبعًا "أولاهن

(1/104)


بالتراب رواه مسلم) وفي رواية "إحداهن" والأولى أولى لكثرة رواتها وحفظهم وليأتي بعده فينظفه.
والحكمة في ذلك أن ريق الكلب فيه لزوجة فأمر بالتراب لأن فيه طهورية وإزالة للزوجة. ويجزئ عن التراب أشنان وصابون ونحوهما. قال الشيخ والصابون ونحوه أبلغ من وجوه. وفيه دلالة ظاهرة على وجوب الغسلات السبع من ولوغ الكلب أو شربه. وهذا مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلا الحنفية فحملوا السبع على الندب. وظاهره العموم إلا الأرض وما اتصل بهنا فتكاثر بالماء.
وأما غير الكلب فلا يجب العدد لأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء لا من قوله ولا من فعله وإنما تكاثر بالماء حتى تذهب عين النجاسة ولونها إن أمكن اتفاقًا للأخبار. وقال النووي وغيره إن كانت كالبول وجب غسلها ولا تجب الزيادة لكن يستحب ثانية وثالثة. وإن كانت كالدم فلا بد من إزالة عينها. ويستحب بعد زوالها ثانية وثالثة ولا يضر لونها.
(وعن أسماء بنت أبي بكر) الصديق رضي الله عنهما أم عبد الله بن الزبير أسلمت بمكة قديمًا وماتت بها بعد قتل ابنها بشهر ولها مائة سنة (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال في دم الحيض يصيب الثوب) وفي رواية قالت جاءت امرأة إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - فقالت إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع فقال (تحته)

(1/105)


أي تقشره وتحكه وتنحته والمراد بذلك إزالة عينه (ثم تقرصه) بضم الراء أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها (بالماء) ليتحلل بذلك ويخرج ما تشربه الثوب منه (ثم تنضحه) قال الخطابي أي تغسله. وفي رواية "تغسله" وفي حديث معاذة قالت عائشة تغسله (ثم تصلي فيه" متفق عليه) ولأحمد وغيره قالت خولة فإن لم يذهب الدم قال "يكفيك الماء ولا يضرك أثره".
ويحكم بطهارته اتفاقًا.
والحاصل أن الماء أصل في التطهير لوصفه بذلك في الكتاب والسنة وأما تعيينه وعدم الاجتزاء بغيره فيحتاج إلى دليل ولم يرد دليل يقضي بحصر التطهير بالماء ومجرد الأمر به لا يستلزم الأمر به مطلقًا. وفيه دليل على أنه لا يحتاج في غسل نجاسة غير الكلب إلى عدد معين. قال شيخنا وهو أصح وهذا الحديث أصح حديث في الباب وإن من النجاسات ما يحتاج إلى ماء كثير ومنها ما لا يحتاج إلا إلى قليل فيكون بحسبها.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا "إذا وطئ أحدكم الأذى) أي المستقذر طاهرًا كان أو نجسًا وفي رواية "فإن رأي خبثًا (بخفيه فطهورهما التراب" رواه الأربعة) وفي سنده مقال. وعن أبي سعيد نحوه رواه أبو داود وغيره بسند جيد. وفي السنن أيضًا عن أم سلمة في الذيل قال "يطهره ما بعده" ولهما شواهد يقوي بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج بها، على أن النعل والذيل يطهر بدلكه رطبًا كان الأذى الذي بهما أو

(1/106)


يابسًا. ويلحق بهما ما يقوم مقامهما لقيام العلة وعدم الفارق.
وقال شيخ الإسلام، السنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله "اغسليه بالماء"، وقوله "صبوا على بوله" فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال النجاسة بالماء. وقد أذن بإزالتها بغير الماء في مواضع منها الاستجمار. ومنها قوله في النعل "ثم ليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور". ومنها قوله في الذيل "يطهره ما بعده" وهذا القول هو الصواب. قال وثبت الاستجمار بالأحجار في المقعدة والإحليل وهما أصل النجاسات فطهارة نحو ذلك بالمسح موافق للنص والقياس. وقال الصحيح أن النجاسة تزال بغير الماء لكن لا يجوز استعمال الأطعمة ولا الأشربة في إزالتها بغير حاجة لما في ذلك من فساد الأموال.
(وعن أنس قال سئل رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر تتخذ خلا قال "لا" الخمر كل مسكر مخامر للعقل من عصير العنب أو غيره. سميت خمرًا: لأنها تخامر العقل؛ أو لأنها تترك فتخمر. وهي رجس كما في الآية. وحكى أبو حامد وغيره الإجماع على نجاستها. وقال ابن رشد الاختلاف شاذ وتخليلها معالجتها بطرح شيء فيها كالملح. وثبت عن طائفة من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف في الصحابة رضي الله عنهم لكون تخليلها وسيلة إلى فعل المحرم وأخبر أنها داء إبعادًا عن اصطناعها الداعي إلى شربها (رواه

(1/107)


مسلم) وغيره وقال عمر لا تأكلوا خل خمر إلا خمرًا بدأ الله بفسادها وذلك لأن اقتناء الخمر محرم.
فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرمًا فلا يكون سببًا للحل. فإذا انقلبت بنفسها جاز وطهرت. قال الشيخ بإجماع المسلمين لأنه لا يريد تخليلها. وإذا جعلها الله خلاً كان معاقبة له بنقيض قصده فلا يكون في طهارتها ولا في حلها مفسدة. فما استحال إلى الطهارة طهر عند جماهير العلماء قال شيخ الإسلام والرواية صريحة في التطهير وهو الصحيح في الدليل ولا يدخل في نصوص التحريم لا لفظًا ولا معنى. ولا ينبغي أن يعبر بأن النجاسة طهرت بالاستحالة فإن نفس النجاسة لم تطهر لكن استحالت وهذا الطاهر ليس هو ذاك.
فمتى سقط ذلك الاسم سقط ذلك الحكم. وإن كان مستحيلاً منه كما أن الماء ليس هو الزرع. والاستحالة استفعال من حال الشيء عما كان عليه زال وذلك مثل تغير العين النجسة ونحو ذلك. وقال قول من قال الاستحالة لا تطهر فتوى عريضة مخالفة لإجماع المسلمين.
(وعن ميمونة) أم المؤمنين بنت الحارث الهلالية كان اسمها برة فسماها رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ميمونة تزوجها سنة سبع في عمرة القضية وكانت وفاتها سنة إحدى وستين (أن فأرة وقعت في سمن) هو ما يكون من الحيوان من سلإ زبدٍ وغيره وليس الخبر مختصًا بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات من زيت أو

(1/108)


دهن أو لبن أو ماء ورد أو عسل أو مرق أو طيب أو غير ذلك.
قال ابن القيم هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى لا يفرقون بين السمن والزيت والشيرج كما لا يفرقون بين الهرة والفأرة في ذلك (فقال – - صلى الله عليه وسلم - القوها) أي ألقوا الفأرة (وما حولها) أي ما حول تلك الفأرة من السمن (وكلوه) أي وكلوا ما بقي من السمن وذلك ما لم يتغير (رواه البخاري) وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. وقيل لابن عباس أن أثرها في السمن كله فقال إنما كان وهي حية.
قال شيخ الإسلام إذا وقعت في سمن ونحوه ولم يتغير بها ألقيت وما قرب منها ويؤكل ويباع في أظهر قولي العلماء. وقال إذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير فكذلك الصواب في المائعات ومن تدبر الأصول المجمع عليها والمعاني الشرعية المعتبرة تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال والأقيسة.
وقال ولم يبلغني إلى ساعتي هذه لمن ينجس المائعات الكثيرة بوقوع النجاسة فيها إذا لم تتغير حجة يعتمد عليها المفتي فيما بينه وبين الله.
وما رواه أبو داود وغيره إن كان مائعًا فلا تقربوه فهو من رواية معمر وهو كثير الغلط باتفاق أهل العلم. وقوله فلا
تقربوه متروك عند السلف والخلف من الصحابة والتابعين. وقال

(1/109)


البخاري وغيره خطأ. ومن عمل به من العلماء فلظنهم صحته وهو باطل. ولو علم أحمد العلة القادحة فيه لم يقل به. وقال ابن القيم غلط معمر من عدة وجوه ويكفي أن الزهري قد روى عنه الناس خلاف ما روى عنه معمر.
وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تلقى وما حولها ويؤكل الباقي. واستدل بالحديث فهذه فتياه وهذا استدلاله وهذه رواية الأمة عنه فقد اتفق على ذلك النص والقياس ولا يصلح للناس سواه. وما سواه من الأقوال فمتناقض لا يمكن صاحبه طرده.
وقال ما لم تغيره النجاسة لا ينجس وهو الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول.
(وله عن أبي هريرة مرفوعًا "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم) وفي لفظ "في طعام أحدكم" (فليغمسه) كله (ثم لينزعه) بكسر الزاي وفيه أن يمهل في نزعه بعد غمسه (فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) لفظ أبي داود ولفظ البخاري "ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء". وفي لفظ "سما" زاد أبو داود "وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء". ولأحمد وابن ماجه أنه "يقدم السم ويؤخر الشفاء".
وفيه دلالة ظاهرة على أنه إذا مات في ماء أو مائع أنه لا ينجسه قال ابن القيم وهذا قول جمهور العلماء ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك لأنه – - صلى الله عليه وسلم - أمر بغمسه ومعلوم أنه يموت

(1/110)


بذلك ولا سيما إذا كان الطعام حارًا وعدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك إذ الحكم يدور مع علته ونتفي بانتفاء سببه. فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته وكان ذلك مفقودًا فيما لا دم له سائل أنفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته وهذا بالاتفاق.
(وللخمسة) من حديث علي عند أحمد والترمذي (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال" ينضح بول الغلام) أي يكاثر بوله بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء وهو نجس وإنما خفف الشارع في تطهيره لكثرة حمله وانتشار بوله فتعظم المشقة بغسله. وقيئه كبوله وأولى بالتخفيف. والغلام يطلق على الصبي من حين يولد على اختلاف حالاته إلى بلوغه وفي لفظ بول الغلام الرضيع (ويغسل بول الجارية) وهي: فتية النساء سميت بذلك لكثرة جريها وأكثر استعماله للصغيرة في مقابلة الغلام قال قتادة وهذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا (حسنه الترمذي) وصححه الحاكم وغيره ولابن ماجه من حديث أم كرز نحوه.
ولأبي داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث أبي السمح "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام" ولأحمد وغيره من حديث أبي أمامة نحوه. وفي الصحيحين من حديث أم قيس أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله
– - صلى الله عليه وسلم - "فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه
ولم يغسله". ونضح بول الغلام ما لم يأكل الطعام وغسل بول

(1/111)


الجارية متواتر لا شيء يدفعه. ولابن حبان عن ابن شهاب "مضت السنة أن يرش من بول من لم يأكل الطعام من الصبيان".
والمراد ما لم يحصل لهم الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال. وقال شيخنا وغيره ليس المراد امتصاصه ما يوضع في فمه وابتلاعه بل إذا كان يريد الطعام ويتناوله ويشرئب أو يصيح أو يشير إليه فهذا هو الذي يطلق عليه أنه يأكل الطعام.
(وعن عائشة) –رضي الله عنها- قالت ("كنت أفرك المني من ثوب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) فركًا والفرك الدلك (فيصلي فيه" رواه مسلم)، وفي لفظ "كنت أحكه يابسًا بظفري من ثوبه". وصح عن ابن عباس أنه قال "إنه بمنزلة البصاق والمخاط" وفي الصحيحين "كنت أغسله" وفي لفظ "يغسل المني ثم يخرج إليه الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه". ودلت السنة على غسل رطبه وفرك يابسه فدل على طهارته. قال شيخ الإسلام وأما كون عائشة تغسله تارة وتفركه أخرى فلا يقتضي تنجيسه فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ وهذا قول غير واحد من الصحابة.
وقال مني الآدمي طاهر سواء كان مستجمرًا أو مستنجيًا ومن قال أن مني المستجمر نجس لملاقاته رأس الذكر فقوله ضعيف. فإن مالصحابة كان عامتهم يستجمرون ولم يكن

(1/112)


يستنجي بالماء منهم إلا القليل ومع هذا فلم يكن – - صلى الله عليه وسلم - يأمر أحدًا منهم بغسل مني ولا فركه اهـ وأما المذي والودي فتقدم أنهما نجسان إجماعًا.
ويعفى عن يسير المذي جذم به الموفق وغيره وصححه الشيخ وغيره خصوصًا في حق الشباب لكثرة خروجه فيشق التحرز منه فعفي عن يسيره كالدم ونحوه. قال وهو أولى بالتخفيف من بول الغلام ومن أسفل الحذاء. وفي حديث علي في المذي وتأخذ كفًا من ماء فتنضح به ثوبك واختار هو وغير واحد من أهل العلم العفو عن يسير النجاسات مطلقًا في الأطعمة وغيرها.
(وعن أبي قتادة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال في الهرة) الهر القط والحديث له سبب وهو أن أبا قتادة سكب له وضوءه فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت فقيل له في ذلك فقال. قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (إنها ليست بنجس) أي فلا ينجس ما لامسته وطهارة بعض الحيوان أمر غير حل أكله بالزكاة والمراد طهارة البدن وما أصاب. قال (إنما هي من الطوافين عليكم) جمع طواف والطواف الخادم الذي يخدمك برفق وعناية شبهها به لمشقة التحفظ منها وفيه إشارة إلى أنه لما جعلها بمنزلة الخادم خفف على عبادة بأن جعلها غير نجس دفعًا للحرج. قال الشيخ فسبب الطهارة الطواف لدفع الحرج (رواه الخمسة وصححه البخاري) والترمذي وغيرهما.
والحديث دليل على طهارتها وإن باشرت نجسًا. وقال

(1/113)


الشيخ إن طال الفصل جعلا لريقها مطهرًا لفمها لأجل الحاجة. قال وهو أقوى الأقوال وكذا حكم نحوها من طير وبهيمة اهـ فأما بهيمة الأنعام فحديث العرنيين متفق عليه وقد أمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها.
وقال الشيخ هو طاهر لبضعة عشر دليلاً من النص والإجماع القديم والاعتبار.
وأما سباع البهائم والطير والحمار الأهلي والبغل منه فمذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وقول الجمهور والخلف على أنه طاهر. قال الشيخ وهو الأصح والأقوى دليلاً لأنه عليه الصلاة والسلام يركبها ويركبان في زمنه وفي عصر الصحابة فلو كان نجسًا لبين النبي – - صلى الله عليه وسلم - ذلك وعليه فسؤرها وفضلاتها طاهرة وأكثر العلماء يجوزون الوضوء به كمالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وتعليله عليه الصلاة والسلام طهارة سؤر الهرة. وريق الكلب على الصيد يقضي أن الحاجة مقتضية للطهارة فإن الحاجة داعية إلى ذلك ولحديث "لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب طهور" وحديث أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال "نعم" وبما أفضلت السباع كلها قواها البيهقي ولها طرق.
وأما حديث "إنها رجس" فقال ابن القيم دليل النجاسة لا يقاوم دليل الطهارة ولم يقم على تنجيس سؤرها دليل. وهذا الخبر لا دليل فيه. لأنه إنما نهاهم عن لحومها ولكن من أين يلزم

(1/114)


أن تكون نجسة في حياتها حتى يكون سؤرها نجسًا. وأما ولوغ الكلب في الإناء فتقدم حكمه.

باب الحيض
والاستحاضة والنفاس وما يتعلق بذلك. والحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا فهي حائض وحائضة إذا جرى دمها من حاض الوادي إذا سال وأخر هذا الباب وأفرد لاختصاصه بالأنثى ولما يختص به من الأحكام. وفي الصحيحين مرفوعًا "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" خلقه الله لحكمة غذاء الولد وتربيته.
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} أي الحيض ما يفعل النساء فيه {قُلْ هُوَ أَذًى} أي قذر والأذى ما يكره من كل شيء فمتى رأت دمًا اسود أو أحمر أو صفرة أو كدرة يصلح أن يكون حيضًا ولو قبل تسع سنين أو بعد ستين فحيض. قال شيخ الإسلام فلا حد لأقل سن ولا أكثره. ولا تسمى آيسة حتى ينقطع لكبر أو تغير لقوله {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ} وعليه العمل ولا يسع الناس غيره قال الدارمي المرجع فيه إلى الوجود فأي قدر وجد في أي حال وسن كان وجب جعله حيضًا وما سوى هذا القول خطأ.
وقال مالك والشافعي والشيخ وغيرهم ليس له حد.
وإنما الرجوع فيه إلى العادات في البلدان. قال النووي وفي
الدم الذي تراه الحامل قولان أصحهما أنه حيض وصوبه في

(1/115)


الإنصاف وغيره وهو مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد واختاره الشيخ وغيره. وقال الحافظ هو دم بصفات دم الحيض وفي زمان إمكانه فله حكم دم الحيض فمن ادعى خلافه فعليه البيان ولأنه دم لا يمنعه الرضاع فلا يمنعه الحمل.
{فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} أي اجتنبوا مجامعتهن في الفرج قال ابن عباس نكاح فروجهن. وقال الشيخ المراد اعتزال ما يراد منهن في الغالب وهو الوطء في الفرج لأنه قال {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ} فذكر الحكم بعد الوصف بالفاء فدل على أن الوصف هو العلة لا سيما وهو مناسب للحكم. فأمر بالاعتزال في الدم للضرر والنجس وهو مخصوص بالفرج فيختص الحكم بمحل سببه. ولهذا لما نزلت هذه الآية قال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" رواه مسلم والخمسة.
{وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} أي لا تجامعوهن بالوطء في الفرج توكيدًا لقوله {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} من الحيض وهو تفسير لقوله {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} نهى سبحانه عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودًا وهو حرام إجماعًا {فَإِذَا تَطَهَّرْ} يعني اغتسلن بالماء من حيضهن أو تيممن مع العذر {فَأْتُوهُنَّ} أي جامعوهن {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} أي من حيث أمركم الله أن تعتزلوهن وهو الفرج.
قال ابن كثير وغيره اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع

(1/116)


دمها لا يحل وطؤها حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه إلا أبا حنيفة فيقول تحل بمجرد الانقطاع والكتاب والسنة حجة عليه. قال الشيخ وقول الجمهور هو الصواب وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن والآثار فيتوقف الوطء على الاغتسال لأن حدثها لا يزول إلا به. وحكى إسحاق إجماع التابعين عليه.
والله تعالى ذكر غايتين حتى يطهرن غاية للتحريم الحاصل بالحيض وهو تحريم لا يزول بالاغتسال ولا غيره وإنما يزول بانقطاع الدم ثم بقي بالوطء جائزًا بشرط الاغتسال ولهذا قال {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} من الذنوب {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} من الأحداث والنجاسات.
(وعن عائشة أن أم حبيبة) بنت جحش أخت زينب وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف (شكت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الدم) أي كثرة جريانه. ولأبي داود استحيضت سبع سنين فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) يعني قبل استمرار جريان الدم (ثم اغتسلي) أي غسل الخروج من الحيض فكانت تغتسل لكل صلاة من غير أمر منه - صلى الله عليه وسلم - لها لذلك (رواه مسلم) وفي رواية البخاري "وتوضئي لكل صلاة" وهي لأبي داود وغيره من وجه آخر.
وعن أم سلمة أنها استفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة تهراق

(1/117)


الدم فقال "لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيض وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ثم لتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
(ولهما عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش) القرشية الأسدية زوج عبد الله بن جحش (كانت تستحاض) والاستحاضة جريان الدم في غير أوانه على سبيل النزف من عرق يقال له العاذل فجاءت إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - تستفتيه فقالت إني امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة (فقال – - صلى الله عليه وسلم - إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة) ولأبي داود "فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة"، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" ويحرمان عليها بإجماع المسلمين. وفيهما عن عائشة "فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" وهو إجماع (فإذا ذهب قدرها) أي قدر الحيضة.
قال الشيخ فالأصل في ذلك عدم التقدير من الشارع فإنه لم يقدر ذلك بقدر بل وكله إلى ما تعرفه من عادتها ومذهب مالك ولو دفعة فقط وقال الشيخ ولو ساعة، ولا حد لأكثره ما لم تصر مستحضاة وهو مذهب جمهور السلف. قال والمرجع في ذلك إلى العادة، ولم يثبت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في ذلك شيء، وما أطلقه الشارع عمل بمقتضى مسماه ووجوده ولم يجز تقديره وتحديده.
قال ابن رشد: وإنما أجمعوا على أن الدم إذا تمادى أكثر من

(1/118)


مدة أكثر الحيض أنه استحاضة لهذا الخبر اهـ ولهذا قال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "فإذا ذهب قدرها (فاغسلي عنك الدم وصلي)، وفي رواية "ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي".
فدلت هذه الأحاديث على أن المستحاضة المعتادة وهي التي تعرف شهرها ووقت حيضها وطهرها منه تجلس عادتها ثم تغتسل بعدها وتصلي ويباح وطؤها اتفاقًا؛ لأن حمنة وأم حبيبة وغيرهما استحضن وزوج كل واحدة منهن يغشاها.
وليست المستحاضة كالحائض من كل وجه فتقاس عليها بل فرق الشارع بينهما لأن دم الحيض أعظم وأدوم وأضر من دم الاستحاضة، ودم الاستحاضة دم عرق وهو في الفرج بمنزلة الرعاف في الأنف وخروجه مضر وانقطاعه دليل الصحة ودم الحيض بعكس ذلك ولا يستوي الدمان حقيقة ولا حكمًا ولا سببًا. قال النووي وغيره يجوز في الزمن المحكوم بأنه طهر ولا كراهة في ذلك ولا يثبت لها شيء من أحكام الحيض بلا خلاف.
ونقل ابن جرير الإجماع على أنها تقرأ القرآن وأن عليها جميع الفرائض التي على الطاهر. وحكى غيره أيضًا نحو ذلك لأنها كالطاهر في الصلاة والصوم وغيرهما فكذلك في الجماع.
وقال ابن عباس يأتيها زوجها، الصلاة أعظم. وللبخاري "ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت" ولأبي داود وغيره "ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير".

(1/119)


وعند الجمهور ليس لها الوضوء قبل دخول الوقت لأن طهارتها ضرورية فليس لها تقديمها قبل وقت الحاجة. وتغسل فرجها قبل الوضوء وتحشوه بقطنة أو خرقة دفعًا للنجاسة وتقليلًًا لها فإن لم يندفع شدت مع ذلك على فرجها وتلجمت واستثفرت كما هو معروف عند أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام "انعت لك الكرسف فتحشين به المكان قالت، إنه أكثر من ذلك قال تلجمي" وكذا به من سلس البول أو ريح أو جرح لا يرقى دمه أو رعاف دائم.
(ولأبي داود) والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وابن حزم واستنكره أبو حاتم. وقال ابن الصلاح يحتج به (فقال لها) يعني قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة (إن دم الحيض دم أسود يعرف) بضم الياء وكسر الراء أي له عرف ورائحة وقيل بفتح الراء أي تعرفه النساء "فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي".
ففيه رد المستحاضة إلى صفة الدم بأنه إذا كان بتلك الصفة فهو حيض، ولا مانع من اجتماع المعرفين في حقها وحق غيرها.
وإذا اتفقت العادة والتمييز جلستهما بلا نزاع. وإن كانت المعتادة مميزة جلست عادتها. قال الزركشي وهو اختيار الجمهور. وقال الشيخ هو أظهر الروايتين عن أحمد وهو ظاهر الحديث اهـ ولظاهر حديث أم حبيبة والتي استفتت لها أم سلمة ولم يستفصل عن كونها مميزة ولأن العادة أقوى لكونها لا تبطل

(1/120)


دلالتها بخلاف اللون إذا استمر بها الدم.
فإن لم يكن لها عادة أو كانت ونسيتها عملت بالتمييز الصالح للحيض. قال في الإنصاف بلا نزاع. قال شيخ الإسلام رحمه الله، الدم باعتبار حكمه لا يخرج عن خمسة أقسام مقطوع بأنه حيض كالدم المعتاد الذي لا استحاضة معه. ودم مقطوع بأنه استحاضة كدم صفرة ودم يحتمل الأمرين لكن الأظهر أنه حيض وهو دم المعتادة والمميزة ونحوهما من المستحاضات الذي يحكم بأنه حيض ودم يحتمل الأمرين والأظهر أنه دم فساد وهو الدم الذي يحكم بأنه استحاضة من دماء هؤلاء ودم مشكوك فيه لا يترجح فيه أحد الأمرين ويقول به طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما فيوجبون على أصحابها أن تصوم وتصلي ثم تقضي الصوم.
والصواب أن هذا القول باطل لوجوه منها أن الله بين لنا ما نتقيه فكيف يقال: إن الشريعة فيها شك ولا يقولون نحن شككنا فإن الشاك لا علم عنده فلا يجزم. وهؤلاء يجزمون بوجوب الصيام وإعادته لشكهم.
والثاني أن الشريعة ليس فيها إيجاب الصلاة مرتين ولا الصيام مرتين إلا بتفريط والصواب ما عليه جمهور المسلمين أن من فعل العبادة كما أمر بحسب وسعه فلا إعادة عليه.
(وعن حمنة) بنت جحش أخت أم حبيبة وزينب أم

(1/121)


المؤمنين وهي امرأة أبي طلحة (قالت كنت استحاض حيضة كبيرة شديدة) ولأبي داود إنما أثج ثجا "قالت فأتيت النبي – - صلى الله عليه وسلم - استفتيه فقال – - صلى الله عليه وسلم - فقال – - صلى الله عليه وسلم - (إنما هي ركضة من الشيطان) أي أن الشيطان قد وجد سبيلاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها حتى أنساها عادتها وصارت في التقدير كأنها ركضة منه والركضة ضرب الرجل في الأرض حال العدو ولا ينافي أنه عرق كما تقدم يقال له العاذل فيحمل على أن الشيطان ركضه حتى انفجر.
(فتحيضي) أي اقعدي عن الصلاة ايام حيضك (ستة أيام أو سبعة) أيام وكلمة "أو" ليست شكًا من الراوي ولا للتخيير بلا للإعلام بأن للنساء أحد العددين فترجع إلى الأقرب منهما (ثم اغتسلي) كما تغتسل الحائض إذا انقطع دمها (فإذا استنقأت) أي بالغت في التنقية (فصلي أربعة وعشرين) إن كانت أيام الحيض ستة (أو ثلاثة وعشرين) إن كانت أيام الحيض سبعة (وصومي وصلي) ما شئت من فريضة وتطوع (فإن ذلك يجزئك) أي الصوم والصلاة يجزئ من غير إعادة ولو مع سيلان الدم (وكذلك فافعلي) فيما يستقبل من الشهور ولأبي داود "فافعلي كل شهر " (كما تحيض النساء) ولأبي داود " وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن" (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وأحمد والبخاري وغيرهم.
والحاصر أن المعتادة ترد إلى عادتها. والمميزة تعمل
بالتمييز. والفاقدة لهما تحيض ستًا أو سبعًا. ومن محاسن مذهب

(1/122)


أحمد جمعه بين السنن الثلاث. قال شيخ الإسلام للعلماء نزاع في الاستحاضة فإن أمرها مشكل لاشتباه دم الحيض بدم الاستحاضة فلا بد من فاصل والعلامات التي قيل بها ست. أما العادة فإن العادة أقوى العلامات لأن الأصل مقام الحيض دون غيره. وأما التمييز لأن الدم الأسود والثخين أولى أن يكون حيضًا من الأحمر. وأما اعتبار غالب النساء لأن الأصل الحاق الفرد بالأعم الأغلب.
فهذه العلامات الثلاث تدل عليها السنة والاعتبار. ومن الفقهاء من يجلسها ليلة وهو أقل الحيض ومنهم من يجلسها الأكثر لأن الأصل دم الصحة. ومنهم من يلحقها بعادة نسائها وأصوب الأقوال اعتبار العلامة التي جاءت بها السنة وإلغاء ما سوى ذلك اهـ. وفي حديثها "وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعًا ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الصبح وتصلين. قال وهو أعجب الأمرين إلي" وهذا للندب لقوله "وإن قويت" فإنه يشعر أنه ليس بواجب عليها، وإنما الواجب الوضوء لكل صلاة بعد الاغتسال عن الحيض وهو إجماع.
(وعن أم عطية) نسيبة بنت الحارث الأنصارية من المبايعات وغزت معه سبع غزوات (قالت كنا) يعني زمن النبي – - صلى الله عليه وسلم -
(لا نعد الصفرة) وهو الماء الذي تراه المرأة كالصديد

(1/123)


(والكدرة) أي ما هو بلون الماء الكدر (بعد الطهر) أي بعد رؤية القصة البيضاء والجفوف (شيئًا) أي لا نعده حيضًا (رواه أبو داود) ورواه البخاري بدون لفظ الطهر وله حكم الرفع عند أهل الحديث وغيرهم لكونه تقريرًا منه – - صلى الله عليه وسلم - فما ليس بدم غليظ أسود يعرف فلا يعد بعد الطهر حيضًا. ولأحمد وأبي داود وغيرهما في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر قال " إنما هو عرق أو عروق" قال البغوي وهو قول أكثر الفقهاء.
ومفهومه أن الصفرة والكدرة قبل الطهر حيض وهو إجماع لقوله (حتى يطهرن) وهو يتناولها ولأن النساء يبعثن إلى عائشة بالدرج فيها الصفرة والكدرة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء يعني الطهر فعلامة انقطاعه والحصول في الطهر أن ينقطع خروج الدم والصفرة والكدرة سواء خرجت رطوبة بيضاء. أو لم يخرج شيء أصلاً. ولا حد لأقل الطهر فمتى طهرت اغتسلت وصلت قال الشيخ ولو ساعة.
(وعن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يواكلوها) وكانوا لا يساكنونها في بيت واحد ولا يجتمعون بها (فقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - اصنعوا كل شيء) من أنواع الاستمتاع (إلا النكاح) أي الوطء في الفرج. وفي رواية "إلا الوطء" يعني في الفرج حال جريان الدم (رواه مسلم) ورواه الخمسة وغيرهم.
وهذا الحديث مبين للمراد من الآية أن المأمور به من الاعتزال والمنهي عنه من القربان هو النكاح وأما المواكلة والمجالسة

(1/124)


والمضاجعة ونحو ذلك فجائز. وعن عائشة: "كان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض". وعن معاذ سئل ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال ما فوق الإزار، رواه أبو داود بسند ضعيف.
فأباح الاستمتاع بما فوق الإزار ولا نزاع فيه. ومطلقًا سوى الجماع كما هو نص حديث أنس وحديث عائشة: "كنت أبيت أنا ورسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في الشعار الواحد وأنا حائض" والشعار هو ما يلي الجسد من الثياب وهو مذهب الجمهور إذا كان يملك نفسه عن الوطء في الفرج وإلا فلا اتفاقًا لقوله "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه". ويعضده الأمر بالاتزار. وقال ابن القيم حديث أنس ظاهر في أن التحريم إنما وقع على موضع الحيض خاصة وهو النكاح وأباح كلما دونه وأحاديث الاتزار لا تناقضه لأن ذلك أبلغ في اجتناب الأذى. وقرر الشيخ قاعدة وهي إنما كان مظنة الفساد خفي علق الحكم به ودار التحريم عليه.
وعن ابن عباس في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال يتصدق بدينار أو نصف دينار رواه الخمسة وصححه الحاكم.
وقال الشيخ وابن القيم هو موجب القياس على الوطء في الصيام والإحرام فالصحيح وجوبه ولو لم تأت به الشريعة فكيف وقد جاءت به مرفوعًا وموقوفًا وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقال الحافظ الخبر مضطرب وقال أحمد لو صح لكنا نرى عليه

(1/125)


الكفارة فعنه لا كفارة وفاقًا، بل من تعمد ذلك أثم وليس عليه إلا الاستغفار. قال الترمذي وهو قول علماء الأمصار وقال ابن كثير وغيره قال أكثر العلماء لا شيء عليه ويستغفر الله والذمة بريئة إلا أن تقوم الحجة بشغلها فالله أعلم.
(وعن أم سلمة: كانت النفساء) بضم النون ونفست بضمها لا غير إذا ولدت والمصدر النفاس (تقعد) أي تكف نفسها عما تفعله الطاهرة (على عهد رسول – - صلى الله عليه وسلم - بعد نفاسها) أي ولادتها سميت به لأنه يصحبها خروج النفس وهو الدم ثم سمى الدم نفاسًا لأنه خارج بسبب الولادة (أربعين يومًا رواه الخمسة إلا النسائي) وأما ابن ماجه فمن حديث أنس وأثنى عليه البخاري وله شاهد عند الحاكم وصححه من حديث عثمان بن أبي العاص ومعناه أكثر ما تجلس إذ محال اتفاق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض. وقيل أكثره أربعون.
وقال الترمذي أجمع أهل العلم عن أن النفساء تدع الصلاة أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي وقال أبو عبيد وعلى هذا جماعة الناس. وقال إسحاق هو السنة المجمع عليها. قال ابن رشد وغيره لا خلاف أن الدم الذي يهراق بعد الولادة نفاس وابتداؤه خروج بعض الولد حكاه أحمد
وغيره عن عمر وغيره ولم يعرف لهم مخالف. وقال الشيخ لأحد لأكثره ولو زاد على السبعين وانقطع لكن إن اتصل فهو دم

(1/126)


فساد وحينئذ فالأربعون منتهي الغالب ولا حد لأقله اتفاقًا فيرجع فيه إلى الوجود وقد وجد قليلاً وكثيرًا.
ويثبت حكم النفاس بشيء فيه خلق الإنسان والنقاء زمنه طهر فمتى طهرت تطهرت وصلت. وأحكامه أحكام الحيض إجماعًا فيما يحل من الاستمتاع ونحوه وفيما يحرم كالوطء في الفرج والصوم والصلاة وفيما يجب كالغسل ويسقط كوجوب الصلاة فلا تقضي. ولأبي داود وغيره فلم يأمرها بقضاء صلاة النفاس.

(1/127)