الإحكام
شرح أصول الأحكام كِتابُ الزكَاة
لغة: النماء، والزيادة والطهارة. يقال زكا الزرع إذا نما وزاد. ولا ينمو
إلا إذا خلص من الدغل. وتطلق على الصدقة المفروضة والمندوبة.
وشرعًا: حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. وهي آكد أركان
الإسلام بعد الشهادتين. والصلاة. وفرضت بالمدينة في السنة الثانية من
الهجرة.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} أي أدوا زكاة
أموالكم المفروضة. وقرنها تعالى بالصلاة في كتابه العزيز في اثنين وثمانين
موضعًا على كمال الاتصال. لعظم شأنها. وكمال الاتصال بينهما. وفي الحديث
"من لم يزك فلا صلاة له".
(وقال) تعالى {خُذْ} أي يا محمد {مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} أي الزكاة
الواجبة فيها. فكان - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده يأخذونها من
الأغنياء ويدفعونها إلى الفقراء {تُطَهِّرُهُمْ} به من ذنوبهم
{وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ترفعهم بها وتمني أموالهم.
(2/126)
{وَصِلْ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم واستغفر
لهم. فإن الصلاة في الاصل الدعاء. ولأبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم -
قال: "وليدعوا لكم" ويستحب قول الساعي للمتصدق. آجرك الله فيما أعطيت. بارك
لك فيما أبقيت {إِنَّ صَلَاتَكَ} دعاءك {سَكَنٌ لَهُمْ} رحمة لهم وطمأنينة
وتثبيت لقلوبهم {وَاللهُ سَمِيعٌ} لدعائك {عليم} بمن يستحق ذلك ومن هوأهل
له ثم ذكر تعالى أنه من فضله ورحمته يقبل الصدقات أي ينميها ويربيها. كما
يربي أحدنا فلوه أو فصيله. وجاء ذكرها في القرآن مجملا. وبينه الرسول - صلى
الله عليه وسلم - في السنة مفصلاً. يعلمهم به كما يعلمهم السورة من القرآن.
(وعن معاذ) ابن جبل رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما
بعثه) سنة عشر (إلى اليمن) داعيا معلما وجابيا (قال) له (أخبرهم) وفي لفظ
"أعلمهم" (أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم) وهذا لفظ البخاري وفي
رواية له "زكاة في أموالهم" والمراد فيما تجب فيه على ما يأتي تفصيله.
وفي خبر جرير "وتؤدى الزكاة المفروضة"وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -
"بني الإسلام على خمس" وفيه "وإتياء الزكاة" ويأتي قوله "أمرت أن أقاتل
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاة" وغير ذلك من النصوص المستفيضة في فرضيتها. وأنها أحد أركان
الإسلام الذي لا يصح بدونها. وأجمع المسلمون على فرضيتها وركنيتها.
(2/127)
(وتؤخذ) أي الزكاة (من أغنيائهم) أي أغنياء
المسلمين. وأما الكافر الأصلي والمرتد فلا تجب عليه وجوب أداء بلا نزاع.
وليس من أهلها. وأما وجوب الخطاب فلا خلاف فيه. ويدل لذلك حديث معاذ قال له
"فادعهم إلى شهادة أن لا إله الله. وأن محمدا رسول الله. فإن هم أطاعوك
لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك
لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم".
فلم يأمره بالزكاة ابتداء. وفيه أن الذي يتولى قبضها الإمام أو نائبه.
وعمومه يدل على وجوبها في مال الصغير الغني ولعموم ما يأتي. وتجب في دين
ونحوه إذا قبضه. قال الشيخ لسنة من الماضي. وهو قول الجمهور. واختاره هو
وغيره. وقال الصداق ونحوه أقرب الأقوال قول من لا يوجب فيه شيئا بحال حتى
يحول عليه الحول. أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض.
وقال والدين يسقط زكاة الأموال الباطنة عند الجمهور.
قال عثمان من كان عليه دين فليؤده ولم يخالفه منهم أحد؛ لأنها مواساة
(فترد) أي الزكاة (على فقرائهم) أي فقراء المسلمين بالإجماع (متفق عليه)
ويجزئ إلى شخص واحد للأخبار وهو مذهب الجمهور وخص الفقرء لأنهم أكثر من
تدفع إليهم. ولأن حقهم آكد من بقية الأصناف الثمانية المنصوصة في الكتاب
العزيز. وأجمعوا على أن الزكاة تجب في
(2/128)
الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة والبر
والشعير والتمر والزبيب إذا بلغ من كل صنف منها ما تجب فيه الزكاة.
باب زكاة بهيمة الأنعام
وهي الإبل والبقر والغنم سميت بهيمة لما في صوتها من الإبهام. بدئ بها
اقتداء بالشارع - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. لأن أكثر العرب إذ ذاك أهل
نعم وأجمع المسلمون على وجوب الزكاة فيها. وفي الصحيحين من حديث أبي ذر "ما
من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما
كانت أسمته تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها".
(عن أنس أن أبا بكر) الصديق رضي الله عنهما (كتب له) هذا الكتاب لما وجهه
إلى البحرين عاملا عليها. ولأبي داود وعليها ختمه - صلى الله عليه وسلم -
(بسم الله الرحمن الرحيم) (هذه فريضة الصدقة) أي هذه نسخة فريضة الصدقة.
حذف المضاف للعلم به. وفيه جواز إطلاق الصدقة على الزكاة (التي فرضها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -) على المسلمين أي قدر أنواعها وأجناسها،
والقدر المخرج منها. وإلا فالإيجاب ثابت بالقرآن (والتي أمر الله بها)
رسوله. وفي لفظ "التي أمر الله بها ورسوله" فمن سألها من المسلمين على
وجهها فليعطها، ومن سأل فوق ذلك فلا يعط.
(2/129)
(في أربع وعشرين من الإبل) بخات أو عراب
ذكور أو إناث إجماعا (فما دونها) أي دون الأربع والعشرين من الإبل فزكاتها
من الغنم (في كل خمس) ذود من الإبل (شاة) من الغنم بصفة الإبل إجماعا. ففي
خمس إلى تسع كرام سمان شاة كريمة سمينة. وفي معيبة شاة صحيحة تنقص قيمتها
بقدر نقص الإبل وفي العشر إلى أربع عشرة شاتان وفي خمس عشرة إلى تسع عشرة
ثلاث شياه. وفي العشرين إلى أربع وعشرين أربع شياه بصفتها.
(فإذا بلغت) الإبل (خمسا وعشرين) إلى أن تنتهي (إلى خمس وثلاثين ففيها بنت
مخاض) بفتح الميم. أي بنت ناقة مخاض إجماعًا. وهي ما تم لها سنة. سميت بنت
مخاض لأن أمها قد حملت غالبًا والماخض الحامل. وليس شرطا (فأن لم تكن) أي
توجد عنده بنت مخاض (فإبن لبون) ذكر ويجزئ عنها إجماعًا. وهو ما استكمل
السنة الثانية. ودخل في الثالثة إلى تمامها. سمي بذلك لأن أمه ذات لبن
غالبًا.
وجاز العدول إلى ابن اللبون عند عدم ابنة المخاض. قال بعضهم ولا يجزئ عنه
بغير ولاهما ولا البقرةولا نصفا شاتين عن شاة. وقيل يجزئ إذا كان أكثر قيمة
من الواجب. وهو مذهب أبي حنيفة، لحديث أبي بن كعب: مررت برجل فلم أجد عليه
إلا بنت مخاض فقال لا لبن فيها ولا ظهر. ولكن هذه ناقة سمينة فخذها. فقال
له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ذاك الذي عليك
(2/130)
وإن تطوعت بخير قبلناه منك وآجرك الله فيه"
رواه أبو داود بسند صحيح.
وقال النووي وغيره لو بذل الحامل ونحوها قبلت منه عند أهل العلم كافة إلى
داود. وقال في الخمس واجبها الشاة. فإن أخرج بعيرًا أجزأ. وهو قول جمهور
العلماء وحكى الموفق وغيره الإجماع على جواز إخراج سن أعلى من الفرض الواجب
(فإذا بلغت) الإبل (ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون) إجماعًا.
وهي ما تم لها سنتان (فإذا بلغت الإبل ستًا وأربعين إلى ستين ففيها حقة)
طروقة الجمل إجماعًا. وهي ما تم لها ثلاث سنين. سميت بذلك لأنها استحقت أن
يطرقها الفحل. وأن يحمل عليها وتركب.
(فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة) أجماعًا. وهي ما تم لها
أربع سنين ودخلت في الخامسة. سميت بذلك لأنها تجذع إذا سقط سنها. وهي آخر
أسنان الزكاة. وأعلى سن يجب فيها. وغاية كماله. والأسنان المذكورة باتفاق
أهل اللغة والأئمة (فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون)
إجماعًا (فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان) إجماعًا حكاه
ابن المنذر والوزير والشيخ وغيرهم ممن يحكي إجماع أهل العلم.
(فإذا زادت) أي الإبل (على عشرين ومائة) أي
(2/131)
واحدة فصاعدًا (ففي كل أربعين) منها (بنت
لبون وفي كل خمسين حقة) وهذا قول الزهري وأبي ثور وأبي عبيد وأحمد والشافعي
وسائر أئمة الحجاز. وصححه الوزير وغيره. وفي المبدع وغيره هو المختار
للعمة. وقال الشيخ وهو أولى عند العلماء لهذا الخبر وخبر عمر ولفظه "فإذا
زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون" رواه أبو
داود وحسنه الترمذي. وقال العمل على هذا الحديث عند عامة العلماء.
وبهذه الفرائض اشتهرت كتب الصدقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وخلفائه. وفي مائة واحدى وعشرين ثلاث بنات لبون. وليس فيما لا يبلغ الشعرة
منها شيء حتى تبلغ العشرة. وفي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون. وفي مائة
وأربعين حقتان وبنت لبون. وهكذا. ولأبي داود عن عمر معناه مرسلا. وهو مقتضى
حديث أنس. وقال مالك إذا زادت واحدة على عشرين ومائة فالساعي بالخيار بين
أن يأخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون عند الكوفيين يستقبل الفريضة، وحجة
الجمهور هذه الأحاديث. وما خالفها لا تقوم به حجة.
قال الشيخ أحمد وأهل الحديث متبعون في الزكاة لسنة النبي - صلى الله عليه
وسلم - وخلفائه. آخذون بأوسط الأقوال أو بأحسنها. فأخذوا في أوقاص الإبل
بكتاب الصديق. ومتابعته المتضمن. إن في الإبل الكثيرة في كل أربعين بنت
لبون. وفي كل خمسين
(2/132)
حقة. لأنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -. بخلاف الكتاب الذي فيه استئناف الفريضة. بعد مائة
وعشرين. فإنه متقدم على هذا. لأن استعمال عمرو بن حزم على نجران قبل موته -
صلى الله عليه وسلم - بمدة. وأما كتاب الصديق فإنه كتبه ولم يخرجه إلى
العمال حتى أخرجه أبو بكر رضي الله عنه.
فإذا تباينت أسنان الإبل في فرائض الصدقات فقد قال - صلى الله عليه وسلم -
(ومن بلغت عنده) من الإبل (صدقة الجذعة) وتقدم أنها تجب في إحدى وستين إلى
خمس وسبعين (وليست) الجذعة (عنده) في ملكه أو عنده وكانت معيبة (وعنده حقة
فإنها تقبل منه) الحقة عوضًا عن الجذعة (ويجعل معها) أي مع الحقة توفية لها
(شاتين إن استيسرنا له) أي تسهلتا له (أو عشرين درهمًا) إذا لم تتيسر له
الشاتان. ويجب على المصدق قبوله جبرا لتفاوت ما بين الحقة والجذعة. وليس له
تكليفه غير ما وجد اتفاقا ويجزئ شاة وعشرة دراهم.
(ومن بلغت عنده صدقة الحقة) وهي تجب في ست وأربعين إلى ستين (وليست عنده
الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه) وإن كانت زائدة على ما يلزمه فلا يزلمه
تحصيل ما ليس عنده (ويعطيه المصدق) أصله المتصدق. أي يعطيه العامل على أخذ
الزكاة (شاتين أو عشرين درهما) مقابل ما زاد عنده.
(2/133)
ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده
ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما.
قال الخطابي وغيره يشبه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل
الشاتين أو عشرين درهما تقديرا في جبران الزيادة والنقصان. ولم يكل الأمر
في ذلك إلى اجتهاد الساعي ولا غيره. لأن الساعي إنما يأخذ منهم الزكاة عنده
المياه غالبا. وليس هناك حاكم ولا مقوم يفصل بينهما إذا اختلفا. فضبطت
بقيمة شرعية قطعا للنزاع. ولا دخل لجبران في غير إبل لأن النص إنما ورد
فيها فيقتصر عليه.
(ومن لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فليس فيها شيء) أي ليس فيها زكاة واجبة
إجماعا. وفي الصحيحين "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" (إلا أن يشاء ربها) أي
إلا أن يتطوع (رواه البخاري) ورواه مالك وغيره من حفاظ الإسلام واعتمدوه.
وعدوه من قواعد الإسلام. وقالوا إنه أصل عظيم يعتمده. وقال أحمد لا أعلم في
الصدقة أحسن منه.
وفيه دليل على أنه ليس في الأوقاص شيء. وأخرج الدارقطني عن عبيد بن صخر قال
"عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عماله أهل اليمن أنه ليس في
الأوقاص شيء" وفي السنن نحوه من حديث ابن عباس. والوقص ما بين الفريضتين
كما بين خمس وعشر يستعمل فيما لا زكاة فيه كأربع.
(2/134)
(ولأبي داود والنسائي، وأحمد وغيرهم) (من
حديث بهز) بن حكيم عن أبيه عن جده سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول (في كل سائمة إبل) والسائمة الراعية. قال الجوهري وغيره سامت الماشية
رعت واسمتها أخرجتها للمرعي. وتكلم بعضهم في بهز. وقال ابن معين سنده صحيح
وحكى الحاكم الاتفاق على تصحيح حديث بهز عن أبيه عن جده ونص عليه أحمد
وغيره. ويأتي خبر أنس في سائمة الغنم والإبل في معناها.
قال شيخ الإسلام إذا كانت راعية أكثر الحول في أظهر قولي العلماء. فلا تجب
في معلوفة أكثر الحول. ولا إذا اشترى لها ما تأكل. أو جمع لها من المباح ما
تأكله. وعن علي: "ليس في العوامل صدقة" رواه أبو داود. وجاء عن جماعة من
الصحابة. ولا مخالف لهم منهم. هو قول أهل الحديث وفقهاء الأمصار. فإن
المراد بها إذا الانتفاع بظهرها لا الدر والنسل. أشبهت البغال والحمير.
وإنما تجب الزكاة فيها إذا كانت للدر والنسل والنماء. لأنها تكثر منافعها
ويطيب نماؤها فتجب فيها المواساة.
فصل في زكاة البقر
أي فيما يجب في سائمة البقر. والأصل في السنة والإجماع. وتقدم ذكر الوعيد
في تركها. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة "أنه إذا لم يؤد حق الله فيها
بطح لها في صعيد
(2/135)
قرقر فوطئته بأظلافها ونطحته بقرونها إذا
مر عليه آخرها كر عليه أولها، حتى يرى مصدره إما من الجنة وإما من النار"
وذكر الإبل والبقر والغنم.
(وعن معاذ) رضي الله عنه (قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
اليمن) أي داعيا، معلما، جابيا للزكاة (وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من
البقر) من بقرت الشيء إذا شققته لأنها تبقر الأرض بالحراثة. والبقر اسم جنس
يشمل العراب والجواميس والذكور والإناث وكذا البقرة تقع على الذكر والأنثى.
دخلت عليها الهاء على أنها واحدة البقرات.
(تبيعا) وهو ماله سنة. ودخل في الثانية. وهو جذع البقر. سمي تبيعا لأنه
يتبع أمه في المسرح. وقد حاذى قرنه أذنه غالبا (أو تبيعة) أي المخرج
والساعي مخير بينهما (ومن كل أربعين) بقرة (مسنة) أي صارت ثنية لها سنتان
فأكثر (رواه الخمسة) وحسنه الترمذي. وصححه النسائي وابن حبان والحاكم. وقال
ابن عبد البر هو حديث متصل ثابت.
ولا خلاف بين العلماء أن السنة في الزكاة البقر على ما في حديث معاذ. وأنه
النصاب المجمع عليه. وقال الشيخ قد ثبت عن معاذ أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لما بعثه إلى اليمن "أمره أن يأخذ صدقة البقر من كل ثلاثين تبيعا
ومن كل أربعين مسنة" وكذلك في
(2/136)
كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي
كتبه لعمرو بن حزم ورواه مالك في موطئه عن معاذ. ومن حديث علي مرفوعا. ومن
حديث ابن مسعود. وحكى أبو عبيد وابن المنذر والوزير والموفق وغيرهم الإجماع
عليه.
قال الشيخ والجواميس بمنزلة البقر حكى ابن المنذر فيه الإجماع. وروي من
حديث علي مرفوعا ومن حديث ابن مسعود. زاد أحمد من حديث معاذ. "ومن الستين
تبيعين. ومن السبعين مسنة. وتبيعًا. ومن التسعين ثلاثة أتباع. ومن المائة
مسنة وتبيعين. ومن العشر ومائة مسنتين وتبيعا. ومن العشر ومائتين مسنتين
وأربعة أتباع. وهو معنى ما تقدم. وإذا بلغت ما يتفق فيه الفرضان خير
اتفاقا".
قال "وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك سنا إلا أن يبلغ مسنة. أو جذعا. وزعم
أن الأوقاص لا فريضة فيها. وللبيهقي وغيره "أمرني أن لا آخذ من البقر شيئًا
حتى تبلغ ثلاثين" وأتي بما دون ذلك فأبى. وهو قول جمهور العلماء إلا ما حكي
عن ابن المسيب والزهري، والنصوص دالة على خلافه.
(زاد أبو داود عن علي: "وليس في العوامل صدقة" أي ليس في التي يسقى عليها
ويحرص وتستعمل في الأثقال زكاة. صححه الدارقطني ولابن ماجه عن ابن مسعود
(2/137)
نحوه ولهما شواهد لا تخلو من مقال. وظهرها
سواء كانت سائمة أو معلوفة. وشرط السوم فيها مقيس على ما ثبت في الإبل
والغنم. من حديث أنس عند البخاري. وحديث بهز. ولأن النماء معتبر في الزكاة.
ولا نماء في غير السائمة.
فصل في زكاة الغنم
أي فيما يجب في سائمة الغنم. وقد استفاضت السنة من غير وجه. وتقدم ذكر
الوعيد على تاركها. ومنه "والغنم كذلك" أي "إذا لم يؤد حق الله فيها بطح
لها بصعيد قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها عقصاء ولا جماء حتى
يرى مصدره إما من الجنة وإما من النار" متفق عليه.
(وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (في كتاب الصدقات) الذي كتبه له أبو بكر
الصديق رضي الله عنه لما وجهه إلى البحرين عاملا عليها "هذه فريضة الصدقة
التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين" وذكر الإبل
"قال وفي صدقة" أي زكاة (الغنم) ضأنا كانت أو معزا ذكورا أو إناثا. سميت
غنما لأنها ليس لها آلة الدفاع فكانت غنيمة لكل طالب.
(في سائمتها) أي الراعية الحول أو أكثره عند جماهير أهل العلم. وحكي أنه
إجماع الصحابة. قال البغوي فيه دليل
(2/138)
على أن الزكاة إنما تجب في الغنم. إذا كانت
سائمة فأما المعلوفة فلا زكاة فيها. ولذلك لا تجب الزكاة في عوامل البقر
والإبل عند عامة أهل العلم. وإن كنت سائمة (إذا كانت أربعني) شاة: شاة
إجماعا. جذع ضأن أو ثني معز عند الجمهور.
لحديث سويد بن غفلة قال أتانا مصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال:
"أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن والثنية من المعز" (إلى عشرين ومائة) شاة
فليس فيها إلا (شاة فإذا زادت على عشرين ومائة) شاة ففيها شاتان إجماعا.
قال الوزير وغيره أجمعوا على أن أول النصاب في الغنم أربعون ففيها شاة.
وأنه لا شيء في زيادتها إلى مائة وعشرين. فإذا زادت واحدة وجب فيها شاتان
(إلى مائتين فـ) لميس (فيها) إلا (شاتان) إجماعا. حكاه غير واحد.
(فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه) إجماعا. حكاه الوزير
وغيره على أنها إذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إجماعا (فإذا زادت
على ثلاثمائة) أي مائة أخرى (فـ) صارت أربعمائة استقرت الفريضة (في كل مائة
شاة) ففي أربعمائة أربع شياه قال البغوي هو قول عامة أهل العلم. وفي
خمسمائة خمس شياه وهكذا.
وعند بعض الكوفيين إذا زادت على ثلاثمائة واحدة ففيها
(2/139)
أربع شياه وللخمسة إلا النسائي "فإذا كثرت
الغنم ففي كل مائة شاة" (فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة على أربعين شاة شاة
واحدة فليس فيها صدقة) أي واجبة إجماعا (إلا أن يشاء ربها) أي إلا أن يتطوع
ربها بإخراجها نفلا (ولا يجمع) بالبناء للمفعول (بين متفرق) خشية الصدقة
(ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) أي: خشية وجوبها أو كثرتها أو سقوطها أو
قلتها. فهو خطاب للمالك من جهة. وللساعي من جهة.
فأمر كل واحد أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة. فرب المال
يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل. والساعي يخشى أن تقل الصدقة فيجمع
أو يفرق لتكثر. كما لو كان لثلاثة مائة وعشرون شاه. وجمعوها. أو كان لهم
تسعون ففرقوها. أو لكل واحد أربعون. ففرقها الساعي. ومقتضاه أن للخلطة
تأثيرا في تخفيف المؤونة فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم. ولا تعتبر النية
في الخلطة إجماعا. فتؤثر ولو وقعت اتفاقا أو بفعل راع.
(وما كان من خليطين) أي شريكين من أهل وجوب الزكاة (فإنهما يتراجعان
بينهما) أي يرجع أحدهما على الآخر (بالسوية) أي العدالة بمقتضى الحصة لأن
الخلطة تصير المالين كالمال الواحد في المؤن. فوجب أن تكون زكاته كزكاة
المال الواحد. لأنه لو لم يكن كذلك لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- عن جمع المتفرق
(2/140)
وعكسه خشية الصدقة. ولا فرق بينهما أن يكون
المال مشتركا بينهما شركة أعيان أوخلطة أوصاف وجوار وهي المقصودة هنا.
وكل واحدة منهما تؤثر في الزكاة إيجابا أو إسقاطا. وتغليظا وتخفيفا. وحكى
أبو حامد وغيره الإجماع على أنه لا فرق بين الخلطتين في الإيجاب أو
الإسقاط. والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي هذا مذهب الجمهور.
ولابد أن يكونوا من أهل الزكاة. وأن يكون. نصابا. وأن تكون في ماشية. وأن
تكون الخلطة جميع الحول أو أكثره. وأن يشتركوا في محلب ومسرح ومرعى.
واشتراط الفحل إن اتحد النوع.
وأما خلطة الأعيان فيزكي الشركاة ما لهم زكاة خلطة ولو لم يشتركوا في شيء
من ذلك. وللساعي أخذ الزكاة من أي مالي الخليطين شاء اتفاقا وإن أخذ فوق
الواجب بتأويل. أو أخذ القيمة أجزأت. ورجع على شريكه بذلك. واستظهر الشيخ
وغيره أنه يرجع عليه بما أخذ منه ظلما. لأجل ماله "ولا يخرج) بالبناء
للمفعول (هرمة) بفتح فكسر أي كبيرة سقطت أسنانها.
(ولا ذات عوار) بفتح أي عيب اصلا. وتضم.
وبالفتح تشمل ذات العيب ويدخل في ذلك المرض (ولا تيس) فحل الغنم (إلا أن
يشاء المصدق) بتشديد الصاد
(2/141)
المالك. واختاره أبو عبيد وضبط بتخفيفها.
وهو الساعي تفويضا إلى اجتهاده (رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم.
(ولأبي داود) وغيره (من حديث عبد الله) بن معاوية رضي الله عنه (الغاضري)
من غاضرة قيس صاحبي شامي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا
تعطى الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرطاء اللئيمة (ولكن من أوسط
أموالكم) قال شيخ الإسلام وغيره وعليه جماعة فقهاء الأمصار. لأن المأخوذ في
الصدقات العدل. كما قال عمر عدل من عدل المال وخياره.
وقال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَيِبثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ولا تؤخذ
كرائم المال (فَإِنَّ اللهَ) تعالى (لَمْ يَسْأَلْكُمْ خياره) فلا تؤخذ
الحامل ولا الربا ولا طروقة الفحل ولا الأكولة ولا الكريمة إلا أن يشاء
ربها" وفي الصحيحين "إياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم (ولم يأمركم
بشراره) وقال {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فلا تجعلوا له ما تكرهون.
وتؤخذ مريضة من مراض إجماعا. وكذا معيبة من معيبات. لأن الزكاة مواساة ودلت
الأحاديث: أنها تخرج من أوساط المال. لا من خياره ولا من شراره. ولا نزاع
في ذلك.
(2/142)
باب زكاة الخارج من
الأرض
من الحبوب والثمار والعسل والمعادن والركاز وغير ذلك. والأصل في زكاة
الحبوب والثمار الكتاب والسنة والإجماع. وكذا الكاز والمعادن وأما لعسل
فتواردت به الآثار.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ}
من خيار {مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} من
الثمار كتمر وزيبب والحبوب كبر وشعير التي أنبتناها لكم. ويدخل فيه الركاز
والمعادن وغيرها. قال البغوي وغيره هذا أمر بإخراج العشور من الثمار
والحبوب واتفق أهل اعلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم. وفيما يقتات من
الحبوب. إن كان بسانية أو نضح ففيه نصف العشر.
ورجح الشيخ أن المعتبر لوجوب زكاة الخارج من الأرض هو الادخار لا غير.
لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة فيه. بخلاف الكيل فإنه تقدير محض
فالوزن في معناه {وَلَا تَيَمَّمُوا} تقصدوا {الْخَبِيثَ} الرذل والدنيء.
وما لا خير فيه {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي الخيبث
{إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم.
والمراد إذا كان المال كله جيدا. وإلا فمن جنسه إجماعا.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} وإن أمركم بالصدقات فهو (غني)
عنها وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير (حميد):
(2/143)
محمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره.
وقال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال ابن عباس وغيره حقه
الزكاة المفروضة.
(وعن أبي سعيد) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليس
فيما دون) أي أقل من (خمسة أوسق صدقة متفق عيه) والأوساق جمع وسق. ووسقت
الشيء، ضممت بعضه إلى بعض. والوسق ستون صاعا إجماعا. وجاء مرفوعا. وهو
المعتمد في تقديره. والصاع أربعة أمداد فالخمسة الأوساق ثلاثمائة صاع بصاع
النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهي ألف وستمائة رطل عراقي تقريبا. وتعتبر
بالبر الرزين. ولمسلم: "ليس فيما دون خمسة أوساق من ثمر" بالمثلثة "ولا حب
صدقة" ولأبي داود "زكاة".
قال ابن عبد البر الخطابي والنووي وغيرهم هذا الحديث أصل في مقادير ما
يحتمل حال الأموال من المواساة وإيجاب الصدقة فيها. وإسقاطها عن القليل
الذي لا يتحملها. لئلا يجحف بأرباب الأموال. ولا يبخس الفقراء حقوقهم. وإذا
بلغه النصاب وجب الحق ولا يجب فيما دونه. وهو مذهب جماهير العلماء مالك
والشافعي وأحمد وغيرهم وتضم أنواع ثمرة الجنس من العام الواحد وزرعه بعضها
إلى بعض في تكميل النصاب. وقال الشيخ يضم القمح والشعير والسلت في الزكاة
وتضم القطاني بعضها إلى بعض في تكميل النصاب. قال ابن القيم والسلت نوع غير
البر أدق منه حبًا.
(2/144)
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال فيما سقت السماء) يعني بمطر أو ثلج أو برد أو طل
العشر (و) فيما سقت (العيون) الأنهار الجارية التي يسقى منها بإساحة الماء
من غير اغتراف له. وفي لفظ "ما سقت الأنهار" (أو كان عثريا العشر) إجماعا
حكاه جماعة.
قال الشيخ وغيره العثري ما تسقيه السماء. وقيل ما يجمع له ماء المطر فيصير
سواق يتصل الماء بها اهـ. ـ. قيل سمي عثريا لأنه يجعل في مجرى الماء
عاثورا. فإذا صدمه الماء تراد فدخل تلك المجاري فتستقيه وقال الجمهور
المراد منه ههنا ما يشرب بعروقه من غير سقي. سمي عثريا لأنه عثر على الماء.
حيث كان قريبا من وجه الأض. فهو البعل. وفي الموطأ وغيره "فيما سقت العيون
والبعل".
قال الشيخ أيضا وغيره: البعل هو ما شرب بعروقه يمتد بها في الأرض الندية.
ولا يحتاج إلى سقي من الكرم والنخل. وهو ظاهر لعطفه على ما سقت السماء.
والعطف يقتضي المغايرة (وفيما سقي بالنضج) أي السانية من إبل أو بقر وغيرها
من الحيوانات. جمع ناضح. سمي بذلك لأنه ينضح الماء أي يصبه. أو بالدوالي
يستقى بها الماء من بئر ونهر للزرع والنخيل والأشجار وغيرها (نصف العشر.
رواه البخاري) وغيره.
ولمسلم من حديث جابر "وفيما سقي بالسانية نصف
(2/145)
العشر" وللشافعي وغيره "وما سقي بالدوالي
نصف العشر" والمراد ما كان بتعب وعناء قال النووي وجماعة هو قول أهل العلم.
ويجب ثلاثة أرباع العشر فيما يشرب نصفين بمؤنة وبلا مؤنة. قال في المبدع
وغيره بلا خلاف. وإن كان أحدهما أكثر فالحكم له اتفاقا ومع الجهل العشر
ليخرج من عهدة الواجب بيقين. ويجتمع العشر والخراج في أرض خراجية. لأن
العشر حق الزرع. والخراج حق الأرض. وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأهل
الحديث وغيرهم.
(وعن عتاب) بالتشديد ابن أسيد بفتح الهمزة الأموي رضي الله عنه قال (أمر -
صلى الله عليه وسلم - أن يخرص) أي يحزر (العنب) وهو على عروشه (كما يخرص
النخل) أي كما يقدر ما على النخل من الرطب حين يبدو صلاحه وقبل أن يؤكل
منه. وفي رواية "كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم" وظاهره
أنه خرص النخل كان معروفا عندهم. ففي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم -
"خرص حديقة امرأة عشرة أسوق".
وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يبعث عبد الله بن
رواحة إلى يهود خيبر يخرص عليه النخل حين يبدو صلاحه وقبل أن يؤكل منه
فيقول في ذه كذا وكذا ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص. أو يدفعونه إليهم
بذلك الخرص لكي يحصي
(2/146)
الزكاة قبل أن تؤكل أو تفرق" رواه أحمد
وأبو داود. وصح عن عمر أنه أمر بذلك.
وله شواهد تدل على مشروعية بعث الإمام خارصًا إذا بدا صلاح الثمر. وهو مذهب
مالك والشافعي وأحمد وجماهير أهل العلم. ويقاس عليه غيره مما يمكن ضبطه
بالخرص من الحبوب وغيرها. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر "فخرصها عليهم"
وحديث عائشة وحديث جابر عند أبي داود وغيرهما ما يدل على مشروعية الخرص مما
يمكن ضبطه به كالزرع. وقال بعضهم لا تخرص الحبوب. وعمل المسلمين على خلافه.
لإمكانه فيه كالثمر.
وفائدة الخرص أمن الخيانة من رب المال. ولذلك يجب عليه البينة في دعوى
النقص بعد الخرص ومطالبة القابض بقدر ما خرص. ويكون الخارص عالما بالخرص
عدلا. قال ابن القيم والصحيح في الخارص الاكتفاء بالواحد كالمؤذن والمخبر
بالقبلة. ولاجتزائه بعبد الله بن رواحة (وتؤخذ زكاته) يعني العنب (زبيبا
كما تؤخذ زكاة التمر يابسا إجماعا (رواه الخمسة) وفيه مقال. والعمل عليه
عند الأئمة الأربعة وغيرهم.
ولا يسمى زبيبا وتمرا إلا اليابس. وقيس عليهما ما سواهما من الثمار وكذا
الحبوب يجب إخراجها مصفاة إجماعا.
(2/147)
قال الشيخ وغيره ويعتبر عندهم اليبس
والتصفية في الحبوب والجفاف في الثمار. ومالا يزبب من العنب ولا يتمر من
الرطب تخرج زكاته من ثمنه أو غيره وفي الإنصاف إن احتيج لقطعة قبل كماله
أخرج منه رطبا وعنبا وتجب فيه إجماعا. وإن قطعه قبل. سقطت. وفرارا تجب،
اهـ.
ولا يستقر وجوب الزكاة إلا بجعله في البيدر. فإن تلف بغير تعد سقطت. ويحرم
شراء زكاته أو صدقته بعد دفعها. لحديث عمر "لا تشتره ولا تعد في صدقتك. فإن
العائد في صدقته كالعائد في قيئه" متفق عليه لا بإرث ونحوه. لحديث بريدة
"وجب أجرك وردها عليك الميراث" رواه مسلم.
(ولهم) أي للخمسة إلا ابن ماجه "عن سهل" بن أبي حثمة "مرفوعا" إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال "إذا خرصتم" أي حزرتم الثمار على أهلها. وحزر
الخارص باطراد العادة كالمكيال (فخذوا) أي الزكة من المخروص إن سلم من
الآفة. جواب للشرط تقديره إذا خرصتم فبينوا مقدار الزكاة. ثم خذوا ثلثي ذلك
المقدار.
(ودعوا) أي اتركوا (الثلث) لأهل المال (فإن لم تدعوا الثلث) لهم مما
تخرصونه (فدعوا الربع) توسعة لأجل ما يخرج من الثمرة لضيف ونحوه. واختاره
الشيخ وغيره. وقال هذا الحديث جار على قواعد الشريعة ومحاسنها. موافق لقوله
(2/148)
"ليس في الخضروات صدقة" لأنها قد جرت
العادة أنه لا بد لرب المال بعد كمال الصلاح أن يأكل هو وعياله ويطعم
الناس. ما لا يدخر. فكان ما جرى العرف بإطعامه وأكله بمنزلة الخضراوات التي
لا تدخر.
وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خففوا على الناس فإن في المال
الوطية والأكلة والعربة" رواه سعيد. وأمر عمر عماله أن يتركوا لهم ما
يأكلونه. وقال ابن عقيل والآمدي وغيرهما يترك قدر أكلهم وهديتهم بالمعروف
بلا تحديد للأخبار الخاصة. وللحاجة للأكل والإطعام وغير ذلك. وهو قول أكثر
أهل العلم. قال الشيخ وتسقط فيما خرج منه مؤنة للزرع والثمرة لأن الشارع
أسقط في الخرص زكاة الثلث والربع من أجل ما يخرج من الثمرة بالإقراء ونحوه.
وهو تبرع فما يخرج عنه لمصلحته التي لا يحصل إلا بها أولى بإسقاط الزكاة
عنه.
قال في الخلاف وأسقط أحمد عن أرباب الزرع الزكاة في مقدار ما يأكلون. كما
أسقط في الثمار. وإن ترك الساعي شيئا من الواجب وجب إخراجها. لأنها لا تسقط
بتركه. ولا يزكي ما نقص عما قال الخارص لأنه لا زكاة عليه فيما ليس في
ملكه.
(وعن معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليس في الخضراوات) الفواكه
والبقول (صدقة) لكونها لا تدخر (رواه الترمذي) وغيره وللدارقطني عن علي.
وعائشة معناه. وللأثرم
(2/149)
وعن موسى بن طلحة. وروي بألفاظ متعددة عن
عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الترمذي لا يصح فيه شيء.
والعمل عليه عند أهل العلم أنه ليس في الخضروات صدقة. وقال البيهقي إلا
أنها من طرق مختلفة يؤكد بعضها بعضا. ومعها أقوال الصحابة.
وقال الخطابي يستدل بحديث "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" إنها لا تجب في
شيء من الخضراوات. وهو دليل في أنها إنما تجب فيما يوسق ويدخر من الحبوب
والثمار دون ما لا يكال ولا يدخر من الفواكه والخضراوات ونحوها. وعليه عامة
أهل العلم اهـ. وتركه - صلى الله عليه وسلم - أخذ الزكاة منها وخلفائه من
بعده والناس يزرعونها بجوارهم ولا يؤدون زكاتها هو السنة المتبعة.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال (في العسل) هو مجاج النحل ويسمى الشهد (من كل عشر قرب)
بالكسر وهي ما تخرز من جانب للماء ونحوه (قربة رواه أبو داود) وابن ماجه
وأبو عبيد والأثرم وغيرهم (وفيهما ضعف) الأول ضعفه الترمذي وغيره واعتضد
بغيره. والثاني له شاهد عند الترمذي من حديث ابن عمر في عشرة ازقاق زق.
وفيه ضعف.
وعن أبي سيارة المتعي قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال "فأد العشور" قلت
احم لي جبلها "فحمى لي جبلها" رواه أحمد
(2/150)
وابن ماجه وفيه ضعف أيضا. وعن ابن أبي ذئاب
نحوه قال ابن المنذر ليس في الباب شيء ثابت. وذهب إليه الشافعي ومالك. وقال
أحمد اذهب إلى أن في العسر زكاة العشر. قد أخذها منهم عمر. يشير إلى قوله:
إن أديتم صدقتها من كل عشر أفراق فرقا حميتها لكم. وقاله ابن عباس وعمر بن
عبد العزيز وغيرهم. وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق. وأحد قولي الشافعي. وحكاه
الترمذي عن أكثر أهل العلم.
فإذا حصل له من ملكه أو موات ثلاثون صاعا مائة وستون رطلا ففيه عشرة. قال
شيخ الإسلام أوجبها أحمد في العسل لما فيه من الآثار التي جمعها. وإن كان
غيره لم يبلغه إلا من طريق ضعيف. وتسوية بين جنس ما أنزل الله من السماء
وما أخرجه من الأرض. ولكونه يبقى ويدخر. فاشبه التمر.
ولا زكاة فيما ينزل من السماء على الشجر كالمن والزنجبيل. ولا تجب الزكاة
في المعشرات بعد الاول لأن الله علق وجوب الزكاة بحصاده. والحصاد لا يتكرر.
وهذا قول العلماء كافة. إلا ما روي عن الحسن. وقال الماوردي خالف الإجماع.
(وله عن بلال بن الحارث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ من
المعادن القبلية) المعادن جمع معدن. والمعدن المكان الذي عدن فيه شيء من
جواهر الأرض. سمي معدنا لعدون ما أنبته الله
(2/151)
فيه. والقبلية بفتحتين اسم موضع من ناحية
الفرع. القرية المشهورة بين مكة والمدينة من جهة البحر. أقطعه إياها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ليعمل فيها. ويخرج منها الذهب والفضة لنفسه.
فأخذ منها (الصدقة) قال ربيعة عن غير واحد فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا
الزكاة إلى اليوم. ورواه مالك وغيره.
وهو داخل في قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} فإن
كان ذهبا أو فضة ففيه ربع عشرة إن بلغ نصابا في الحال إجماعا. وقال الشيخ
هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وأما أبو حنيفة فيجعل فيه الخمس. وإن
كان غير الذهب والفضة فربع عشر قيمته إن بلغت نصابا في الحال. وفاقا بعد
السبك والتصفية.
وقال ابن الجوزي أحصيت المعادن فوجودوها سبعمائة معدن. قال أحمد وكلما وقع
عليه اسم معدن ففيه الزكاة حيث كان في ملكه أو البراري. لا البحار اتفاقا.
إذا كان المخرج له من أهل وجوب الزكاة.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فذكر الحديث وفيه (وفي الركاز الخمس متفق عليه) والركاز هو ما وجد من دفن
الجاهلية. قاله الموفق وغيره وقال مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا
والذي سمعت أهل العلم يقولون
إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية. ما لم يطالب
(2/152)
بمال. ولم يكلف فيه بنفقة. ولا كبير عمل
ولا مؤنة. سمي ركازا لأنه ركز في الأرض أي أقر فيها أو من الركوز وهو
التغيب.
والحق الشيخ وغيره بالمدفون حكما الموجود ظاهرا بخراب جاهلي. أوطريق غير
مسلوك ونحوه. عليه أو على بعضه علامة كفر لا إسلام ففيه الخمس في قليله
وكثيره في الحال إجماعا إلا ما روي عن الحسن. ولأنه مال مظهور عليه من مال
الكفار. فوجب فيه الخمس كالغنيمة وسوءا كان واجده ذميا أو صغيرا أو مجنونا.
وإن كان عليه علامة المسلمين فلقطة أو لم تكن عليه علامة تغليبا لحكم دار
الإسلام وإن وجده في فلاة أو في ملك أحياه فله. وإن وجده في أرض الحرب
فركاز. وبجماعة لهم منعة فغنيمة.
باب زكاة النقدين
الذهب والفضة. حكم المصوغ منهما. والتحلي بهما. وما يتعلق بذلك. سميا
بالنقدين للأخذ بهما ولإعطاء أو لجودتهما وهما الأثمان فلا تتدخل فيهما
الفلوس. والأصل في زكاة النقدين الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ} يجمعون (الذهب والفضة)
وأصل الكنز جعل المال بعضه على بعض. ومال
(2/153)
مكنوز مجموع. وقال أهل التفسير كل مال وجبت
فيه الزكاة فلم تؤد زكاته فهو كنز. فإذا أديت زكاته فليس بكنز. وإن كان
مدفونا "وَلَا يُنْفِقُونَهَا" أي لا يؤدون زكاة الأموال المكنوزة.
وهي أعيان الذهب والفضة {فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ} {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا
جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} ويقال لهم {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا} بـ {مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.
وفي الصحيحين "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها" يعني زكاتها "إلا
إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار" الحديث وغيره. واتفق أئمة
الفتوى بأن المراد بالكنز المذكور في الكتاب والسنة كل ما وجبت فيه الزكاة
فلم تؤد.
(وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال ليس فيما دون) أي أقل من (خمس أواق) جمع أوقية (من الورق) أي الفضة
الخالصة مضروبة كانت أوغير مضروبة (صدقة) أي زكاة (متفق عليه) ولمسلم وغيره
عن جابر نحوه. قال ابن عبد البر وغيره فيه إيجابها في هذا المقدار. ونفيها
عما دونه.
وقال الشيخ وغيره هو نص على العفو فيما دونها. وإيجاب لها في الخمس. وعليه
أكثر العلماء. وذكره مذهب الأئمة الثلاثة
(2/154)
وأبي يوسف ومحمد وغيرهم وفي الصحيح وغيره
"وفي ارقة ربع العشر" "فإن لم يكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن
يشاء المصدق" ولأحمد وغيره عن علي نحوه وفي رواية "وليس فيما دون المائتين
زكاة" وحكاه الموفق عن علي وابن عمر. وقال ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة
فكان إجماعًا. والزيادة فيهما بحسابه عند جماهير العلماء مالك والشافعي
وأحمد وغيرهم. والأوقية أربعون درهمًا اتفاقًا.
(وعن علي مرفوعا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا
كانت لك مائتا درهم) والدرهم نصف مثقال وخمسة والعشرة سبعة مثاقيل قال أحمد
قد اصطلح الناس على دراهمنا ودنانيرنا لا اختلاف فيها. ورتب الشارع الأحكام
عليها. وقال الشيخ ما سماه الناس درهمًا وتعاملوا به تكون أحكامه أحكام
الدرهم من وجوب الزكاة فيما يبلغ مائتين منه. وكذلك ما سمي دينارا.
(وحال عليها الحول) ولابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن عائشة نحوه
وقال ابن القيم إسناد صحيح.
وللدارقطني عن ابن عمر وأنس من طرق. فالحول فيها شرط إجماعًا (ففيها) أي
المائتين (خمسة دراهم) إجماعًا لم اتقدم في الصحيح وغيره "في الرقعة ربع
العشر) مضروبة أو غير مضروبة إجماعًا (وليس عليك شيء) يعني في الذهب
(حتى يكون لك) منه (عشرون دينارا) وهو مثقال
(2/155)
مضروبًا كان أو غير مضروب وزنه اثنتان
وسبعون حبة من حب الشعير الممتلئ.
(وحال عليها الحول) فيعتبر فيه الحول كالفضة اتفاقا (ففيها) أي العشرين
دينارا (نصف دينار) إجماعا (رواه أبو داود) وحسنه الحافظ وغيره. قال الشيخ
ابن المنذر وغيرهما تجب الزكاة في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم.
وإنه دل القرآن والحديث على إيجاب الزكاة في الذهب كما وجبت في الفضة. وإن
مالكًا حكى إجماع أهل المدينة. وما حكى خلافًا إلا عن الحسن.
وقال النووي وغيره المعول فيه على الإجماع. وليس في الأحاديث الصحيحة تحديد
كالفضة. ولكن أجمع من يعتد به في الإجماع على ذلك. وعن عمرو بن شعيب مرفوعا
"ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب. ولا في أقل من مائتي درهم صدقة"
رواه أبو عبيد وغيره. قال غير واحد لم تتغير المثاقيل في جاهلية ولا إسلام.
وإنه مما اجتمع المسلمون عليه. والمثقال في الأصل مقدار من الوزن. أي شيء
كان ثم غلب إطلاقه على الدينار قال شيخ الإسلام.
وأما ما دون العشرين فإن لم تكن قيمته مائتين درهم فلا زكاة فيه بالإجماع.
وإن كان أقل من عشرين وقيمته مائتي درهم ففيه الزكاة عند بعض العلماء من
السلف اهـ. فإن كان أقل
(2/156)
وعنده ذهب أو عرض تجارة أكمل به بلا نزاع.
وكذا إن كان عنده أقل من مائتي درهم. يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب
بالأجزاء. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم لأنه متيقن.
وتضم قيمة العروض إلى كل منهما إجماعا. ولا يزكي مغشوش منهما إلا إذا بلغ
خالصة نصابا. ويخرج من كل نوع بحصته من جنسه. قال الشيخ إذا كان آخذ الزكاة
يريد أن يشتري بها كسوة فاشترى رب المال له بها كسوة وأعطاه فقد أحسن إليه.
وقال أحمد وغيره ولا يجوز للمسلمين أن يضربوا إلا جيدا. ولا يضرب إلا في
دار الإسلام بإذن السلطان قال الشيخ ينبغي له أن يضربها قيمة العدل في
معاملاتهم من غير ظلم وفي السنن "نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة" وتجوز
المعاملة بغير الجيد لعموم البلوى.
فصل في الحلي
أي فيما يباح استعماله من الحلي للذكور والإناث وما يحرم وحكم زكاته.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزع) أي
جذب (خاتم الذهب) من يده اليمنى وألقاه (وقال والله لا ألبسه أبدا) ولمسلم
أنه رأى رجلا في يده خاتم ذهب
(2/157)
فنزعه وطرحه وقال "يعمد أحدكم إلى جمرة من
نار فيجعلها في يده" قال شيخ الإسلام اتخاذه حرام باتفاق الأئمة الأربعة.
فإنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن ذلك.
(واتخذ) - صلى الله عليه وسلم - (خاتمًا من ورق) نقش فيه محمد رسول الله.
وكتب كثير من السلف ذكر الله على خواتيمهم. وتقدم أنه "إذا دخل الخلاء وضع
خاتمه" وكان - صلى الله عليه وسلم - يجعل فص خاتمه مما يلي بطن كفه "متفق
عليه" وورد مما يلي ظهر كفه. وصح تختمه في يساره. وفي يمينه أصح. وأفضل.
ولأنه زينة. ويجعل فصه منه ومن غيره.
واتفقوا على إباحته بجميع الأحجار ولا يجوز نقش صورة حيوان بلا نزاع.
للنصوص الثابتة في ذلك. ويحرم لبسه. وأجمعوا على أن السنة للرجل جعله في
خنصره. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -. ونهى عن الوسطى والتي تليها.
ولا زكاة فيه عند الجمهور ما لم يتخذ منها أكثر من العادة أو سرفا أو
مباهاة.
(وعن أنس) رضي الله عنه قال (كان قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- من فضة رواه أبو داود) والترمذي وغيرهما.
والقبيعة هي الثومة التي فوق المقبض. واتفق الأئمة على جوازها. وكذا حلية
الجوشن والخوذة والخف والران وحمائل السيف وشعيرة السكين ونحو ذلك. وقال
الشيخ وغيره وتركاش النشاب والكلاليب وغشاء القوس والنشاب ورأس
(2/158)
الرمح والقواقل وحلية المهماز الذي يحتاج
إليه لركوب الخيل. وقال لا حد للمباح من ذلك.
وقال في الكلاليب ونحوها إذا كانت بزنة الخواتيم كالمثقال ونحوه فهو أولى
بالإباحة من الخاتم. فإن الخاتم يتخذ للزينة وهذا للحاجة. وقال الحياصة إذا
كان فيها فضة يسيرة فإنها تباح على أصح القولين. وقد اتخذ الصحابة المناطق
محلاة بالفضة. وهي كالخواتيم. ولا تباح حلية المراكب ولباس الخيل كاللجم.
وتحلية الدواة والمقلمة والكمران والمشط والمكحلة والميل والمرآة والقنديل
ونحو ذلك عن جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وفيه الزكاة عند
الجمهور.
(زاد الترمذي عن مزيدة) بن مالك العبدي العصري القيسي قال البخاري له صحبة
قال (دخل) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يوم الفتح) أي فتح مكة سنة
ثمان في رمضان (وعلى سيفه ذهب وفضة) وكان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب وعثمان
ابن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب ذكرها أحمد. وقيدهما باليسير مع أنه ذكر
أن قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وزنها ثمانية مثاقيل.
وظهر الخبر والآثار إباحة تحلية السيف الشاملة للقبيعة وغيرها بالذهب
كالفضة. واختاره الشيخ وغيره.
(ولأبي داود عن معاوية) رضي الله عنه (نهى)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب إلا مقطعًا) أراد الشيء
(2/159)
اليسير منه في السلاح والحلي وكذا قال
الشيخ الأظهر إباحة اليسير منه في السلاح والحلي. وقال يسير الذهب التابع
لغير كالطراز ونحوه جائز في الأصح من مذهب أحمد وغيره.
(وفي السنن عن عرفجة) بن أسعد بن كرز التميمي السعدي أحد فرسان الجاهلية.
وكان قطع أنفه يوم الكلام ماء بين الكوفة والبصرة وقع فيه حرب في الجاهلية
بين ملوك كندة وتميم. ثم أسلم (قال اتخذت أنفا) مصنوعا على صفة الأنف (من
فضة) ليمنع به تشوه منظره بذهاب أنفه (فانتن علي) أي فسد وتغير ريحه علي
فشق علي بقاؤه منتنا (فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتخذت أنفا من
ذهب).
فدل على جواز اتخاذ أنف من ذهب وربط أسنان ونحو ذلك. وروى الأثرم وغيره عن
موسى بن طلحة وأبي حمزة الضبغي وأبي رافع وثابت البناني وإسماعيل بن زيد بن
ثابت والمغيرة بن عبد الله أنهم شدوا أسنانهم بالذهب. وهو ضرورة فأبيح
كالأنف إجماعا بل أولى. وذكر أهل الخبرة أن الذهب لا ينتن ولا يصديه الندى
ولا يبليه الثرى ولا تنقصه الأرض وأما الفضة فإنها تبلى وتصدى ويعلوها
السواد وتنتن قال غير واحد ويتوجه جوازه في الأنملة كالسن.
(وتقدم حديث) أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (حرم الذهب على ذكور أمتي)
فيحرم مفردا كخاتم إجماعا.
(2/160)
وأبيح اليسير منه غير المفرد لما تقدم.
وأنف ونحوه للضرورة (وأحل لإناثهم) رواه أحمد وغيره من طرق عن جماعة من
الصحابة. وصححه الترمذي والنسائي وابن خزيمة.
وأجمعوا على إباحته لهن فقالوا يباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن
بلبسه كالخواتيم والأسورة والخلاخل والأطواق في المخانق والمقالد والتاج
وما أشبه ذلك. وحكوه اتفاقا لأن الشارع أباح التحلي لهن مطلقا. فلا يجوز
تحديده بالرأي. وما لم تجر العادة بلبسه كالثياب المنسوجة بالذهب والنعال
لا يباح لهن لانتفاء التجمل. فلو اتخذته حرم وفيه الزكاة.
(وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعا) قال (ليس في الحلي زكاة رواه
الدارقطني وضعفه) لأنه من رواية أبي حمزة ميمون وهو ضعيف. والمراد بالحلي
المباح لذكر أو أنثى إذا كان معدا للاستعمال أوالعارية. وهذا مذهب مالك
وأحمد وإحدى الروايتين عن الشافعي والحديث وإن كان فيه مقال فيعضده
الاستعمال في عصر النبوة وبعده بدون زكاة. وكونه لم يرصد للنماء. والزكاء
إنما شرعت في الأموال النامية.
والحلي بضم الحاء وتكسر جمع حلي بفتح فسكون ما يتزين به من مصاغ الذهب
والفضة. وسائر المعدنيات والجواهر. والمراد هنا الحلي من الذهب والفضة.
(2/161)
(قال أحمد خمسة من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم -) أنس وجابر وابن عمر وعائشة وأسماء غيرهم (كلهم يقولون ليس
فيه) يعني الحلي المباح (زكاة) رواه البيهقي ومالك والدارقطني وغيرهم. وقال
الأثرم وغيره عن جماعة من التابعين. ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل المباح
أشبه ثياب البذلة وعبيد الخدمة ودور السكنى.
ونقل الشيخ وغيره عن غير واحد أن زكاته عاريته. وقال ينبغي إذا لم تخرج
زكاته أن يعيره. قال ابن القيم وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وهو
الراجح. وأنه لا يخلو الحلي من زكاة أو عارية. وقيل تجب للعمومات وحديث
المسكتين وعائشة. وفيهما كلام. وأجيب بالتخصيص. أو النسخ لتظاهر الآثار عن
الصحابة والإجماع على الإباحة.
وإن اتخذ فرارا من الزكاة أو أعد للكراء أو النفقة أو كان محرما ففيه
الزكاة إن بلغ نصابا. لأنها إنما سقطت مما أعد للاستعمال بصرفه عن جهة
النماء. فيبقى ما عداه على مقتضى الأصل اتفاقا. قال الشيخ وغيره وما يحرم
اتخاذه فيه الزكاة. ولم يحك جمهور العلماء فيه خلافا. وكذا إن أعد للكراء
أو للتجارة في قيمته كالعروض. ولا زكاة في جوهر ولؤلؤ ونحوها
وإن كثر أو كان في حلي إلا أن يكون للتجارة فيقوم جميعه تبعا للنقد.
(2/162)
باب زكاة العروض
جمع عرض بإسكان الراء. وهو ما أعد لبيع أو شراء من جميع صنوف الأموال. سمي
عرضا لأنه يعرض ليباع ويشترى. أو لأنه يعرض ثم يزول. والأصل في وجوب الزكاة
فيه عموم الكتاب. والسنة والإجماع. بشرط ان يكون ملكها بفعله. وبنية
التجارة. وبلغت قيمتها نصابا.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا كَسَبْتُمْ} يعني بالتجارة قاله مجاهد وغيره. قال شيخنا هذه الآية أوضح
آي القرآن دلالة على وجوب الزكاة في مال التجارة.
وقال البيضاوي وغيره {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أي
الزكاة المفروضة. فتجب في عروض التجارة. أنه يوصف بأنه مكتسب. وهو مذهب
جمهور أهل العلم. وقال ابن المنذر والوزير وغيرهما أجمع أهل العلم أن في
العروض التي يرد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول. سواء في ذلك
الخيل والرقيق وغيرهما.
وقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ} أي المتقين {الحق} أي نصيب {معلوم} مقدر بينه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهوربع العشر. ومال التجارة أعم الأموال
فكانت أولى بالدخول في الآية من سائر الأموال.
(وعن سمرة) بن جندب رضي الله عنه قال (كان
(2/163)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا
أن نخرج الصدقة) يعني الزكاة ربع العشر (مما نعده للبيع) والشراء أي نهيئه
للتجارة وخص البيع لأنه الأغلب (رواه أبو داود وفيه ضعف) فإنه من طريق سمرة
وروي من طريق. وله شواهد وعن أبي ذر "وفي البز صدقة" وقال عمر لحماس أد
زكاة مالك فقال مالي الاجعاب وأدم. فقال قومها وأد زكاتها. واشتهرت القصة
من غير نكير فكان إجماعا. واحتج أحمد وغيره بها. وقال المجد وغيره هو
إجماع.
وقال شيخ الإسلام الأئمة الأربعة وسائر الأمم إلا من شذ متفقون على وجوبها
في عرض التجارة. سواء كان التاجر مقيما أو مسافر وسواء كان متربصا. وهو
الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر. كالتجار الذين
في الحوانيت. وسواء كانت التجارة بزا من لبيس أو سلاح. أو طعاما من قوت أو
فاكهة. أو أدم أو غير ذلك. أو كانت آنية كالفخار ونحوه. أو حيوانا من رقيق
أو خيل أو بغال. أو حمير أو غنم معلوفة أو غير ذلك.
فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة كما أن الحيوانات الماشية هي
أغلب الأموال الظاهرة. وتجب في جميع أجناس الأجر المقبوضة اهـ. أي بشرطها.
وتقوم عند تمام الحول بالأحظ للفقراء. قال الشيخ يجوز أن يخرج عنها جميعها
دراهم بالقيمة. ويجوز منها. لأنه قد واسى الفقراء فأعطاهم.
(2/164)
من جنس ماله. ولا زكاة في آلة الصباغ
وأمتعة التجار وقوارير العطار إلا أن يريد بيعها. ولا قيم ما أعد للكراء من
عقار وحيوان.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وأما خالد) بن
الوليد رضي الله عنه. وكان الساعي طالبه بالزكاة عن أعيان أو أثمان ما عنده
للتجارة (فـ) أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه (قد احتبس) أي حجر ووقف
(أدراعه) جمع درع الحديد (وأعتده) بضم التاء ما أعده الرجل من السلاح
والدواب وآلة الحرب (في سبيل الله) أي جعلها حبسا في سبيل الله تبرعا
وتقربا إلى الله (متفق عليه) أي فلا زكاة عليه فيها لتحبيسها وتوفيقها لله
تعالى. قال النووي وغيره فيه وجوب زكاة التجارة وإلا لما اعتذر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عنه. وهو قول جمهور السلف والخلف. وقال الخطابي هو
كالإجماع من أهل العلم.
(ولهما عنه مرفوعا ليس على المسلم في عبده) أي مملوكة (و) لا في (فرسه) أي
الذي لم يعد للتجارة (صدقة) أي زكاة واجبة قال ابن رشد لا خلاف في عدم وجوب
الزكاة في العبد المتصرف والفرس المعد للركوب ويقاس عليه سائر أموال
القنية. ولا خلاف في أنها لا تؤخذ منها. وأما إذا كانت للتجارة فثابتة
بالإجماع.
وقال النووي وغيره هذا الحديث أصل في أن أموال القنية
(2/165)
لا زكاة فيها. وهو قول العلماء من السلف
والخلف إلا أبا حنيفة في الخيل والحديث حجة عليه وقال الوزير وغيره أجمعوا
على أنه ليس في دور السكنى وثياب البذلة واثاث المنزل ودواب الخدمة وعبيد
الخدمة وسلاح الاستعمال زكاة اهـ. فالعبيد ورباط الخيل وآلات السلاح والحرب
وسائر أموال القنية كل ما كان منها ما عساه أن يكون ولم يكن للتجارة لم يكن
فيه زكاة.
فإن سائر أمول القنية مشغولة بالحاجة الأصلية. وليست بنامية أيضا. وكل منها
مانع من وجوب الزكاة ولو لم ينص على كل فرد منه فإن الشارع إنما اعتنى
ببيان ما تجب فيه الزكاة لأنه خارج عن الاصل فيحتاج إلى بيان. لا ببيان ما
لا تجب فيه اكتفاء بأصل عدم الوجوب.
باب زكاة الفطر
أضيفت إليه إضافة الشيء إلى سببه. وهو اسم مصدر من أفطر الصائم إفطارا.
ويراد بها الصدقة عن البدن. تزكية للنفس وتطهيرا لها. وتنمية لعملها. وجبرا
لنقص الصوم والأصل في وجوبها عموم الكتاب. والسنة والإجماع ومناسبتها هنا
لأنها من الوظائف المالية.
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ} فاز وظفر كل الفوز والظفر {مَنْ تَزَكَّى} أي
زكى نفسه بالصدقة نماها وطهرها. قال
(2/166)
طائفة من السلف أدى زكاة الفطر ولابن خزيمة
وغيره مرفوعا "نزلت في زكاة الفطر" وكان عمر بن عبد العزيز يأمر بها ويتلو
هذه الآية. وقال مالك هي داخلة في عموم "وَآَتُوا الزَّكَاةَ" وبين - صلى
الله عليه وسلم - تفاصيل ذلك. ومن جملتها زكاة الفطر. وكان أهل المدينة لا
يرون صدقة أفضل منها.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال فرض) أي أوجب وألزم (رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - زكاة الفطر) من رمضان نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على
فرضيتها. فتجب بغروب شمس ليلة الفطر. لأنه وقت الفطر. أضيفت إليه والإضافة
تقتضي الاختصاص والسببية. ووجوبها به مذهب مالك والشافعي وأحمد. فمن أسلم
بعده أو تزوج أو ملك عبدا أو ولد له بعده لم تلزمه اتفاقا. وكذا لو أيسر.
واختار الشيخ وجماعة تلزم لحصول اليسار وقت الوجوب. وبعده. إن فعل فقد
أحسن. وفي رواية "أمر بزكاة الفطر (صاعا من تمر) بالمثناة الفوقية وصاعا
تمييز. أو مفعول ثان (أو صاعا من شعير) إجماعا. وكان أكثر أقوات أهل
المدينة إذا ذاك (على العبد) الصغير والكبير والحاضر والغائب والآبق
والمرهون والمغصوب. وكل من أضيف إلى ملكه. ولو مكاتبا.
وثبت من حديث أبي هريرة وغيره "ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة
الفطر".
(2/167)
(والحر والذكر والأنثى) إجماعا (والصغير
والكبير) سواء كان من أهل القرى أو البوادي بإجماع من يعتد به. ويخرج ولي
اليتيم عنه من ماله. قال الموفق وغيره لا نعلم أحدا خالف فيه إلا محمد بن
الحسن والخبر حجة عليه. ونقل ابن المنذر الإجماع على أنها لا تجب على
الجنين واستحبه أحمد.
وهي فرض على من ذكر إذا كان (من المسلمين) إجماعًا (متفق عليه) دون
الكافرين لأنها طهارة. والكافر لا يطهره إلا الإسلام. فلا تجب عليه عن نفسه
باتفاق أهل العلم. ولا عن مستولدته المسلمة حكاه ابن المنذر إجماعا. ولا
المسلم عن عبده الكافر عند الجمهور.
(زاد الدارقطني ممن تمونون) يعني ممن تلزمه مؤنة نفسه أو غيره ولا تجب على
من لا يمون نفسه لأن الله خاطب بالوجوب غيره. ومن وجبت عليه فطرة نفسه
وغيره يبدأ بنفسه وثبت قوله "ابدأ بنفسك" في غير ما حديث. والمراد من ماله.
ويخرج عمن يمونه من زوجة غير ناشز وولد صغير إجماعا. وكبير في عياله عند
الجمهور. ووالديه والأقرب فالأقرب في الميراث وفي صحيح مسلم "فإن فضل شيء
فلذي قرابتك".
إذا فضل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته وقت عياله وحوائجه الأصلية
اتفاقا. فلا يعتبر ملك نصاب. قال الشيخ وهو قول الجمهور ولا تجب على من لم
يفضل له قدرها اتفاقا
(2/168)
لقوله {فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ} واعتباره كونه واجدا لقوت يوم وليله أمر لا بد منه لأن
المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم. ولو لم يعتبر لكان ممن
أمرنا بإنائه في ذلك اليوم. لا بإخراجه وإغناء غيره. ولا قائل بوجوبها
علىمن لم يملك قوته.
وقوله "فرض رسول الله صدقة الفطر على الغني والفقير" لا يدخل فيه من لم
يقدر إلا على قوت نفسه أو عياله. لأن القوت ضروري وحفظ النفس مقدم على غيره
ولا واجب مع ضرورة. ولا يمنعها الدين إلا بطلبه لوجوب أدائه إذا. ولقوله
"لا صدقة إلا عن ظهر غنى" فيبدأ به، وهو قول الجمهور. لأنه لا فضل عنده.
(وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (قال كنا في زمن النبي - صلى الله عليه
وسلم -) وهذا من قبيل المرفوع (نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام) أي حنطة.
فإنه اسم خاص له وحكي اتفاقا. بدليل ذكر الشعير والبر على تلك الأقوات. وهو
الطعام في عرف أهل الحجاز. وقال الخطابي يستعمل فيه عند الإطلاق وللدراقطني
من حديث أبي هريرة "أو صاعا من قمح" وله أيضًا "أدوا صاعا من بر".
وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. يرون أنه لا يجزئ أقل من صاع من بر
أو غيره. ولهما من حديث أبي سعيد: كنا نخرج صاعًا من طعام. حتى قدم معاوية
المدينة
(2/169)
فقال إني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل
صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك. ولأبي داود وجعل نصف صاع حنطة مكان صاع. قال
الشيخ وهو قياس المذهب في الكفارة. وهو مذهب أبي حنيفة ولأبي داود عنه لا
أخرج أبدا إلا صاعا. وقال تلك قيمة معاوية لا أقبلها. ولا أعمل بها حكاه
ابن خزيمة.
وقال جمهور أهل العلم خالف معاوية أبا سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة منه.
وأعلم بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال النووي ظاهر الحديث
والقياس على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرة.
فوجب اعتباره (أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر) وقيل هو أفضل. ومذهب مالك
والشافعي وأحمد والجمهور البر أفضل ثم التمر (أو صاعا من أقط أو صاعا من
زبيب متفق عليه) والزبيب أفضل من الشعير. ثم الأقط عند الجمهور.
وإن عجم الخمسة أجزأ كل حب وثمر يقتات. وقال الشيخ وغيره قول الجمهور مالك
والشافعي وأحمد وغيرهم يجزئ كل حب وثمر يقتات ولو لم تعدم الخمسة واختاره
واحتج بقوله {مِنْ أَوْسَطِ مِا تُطْعِمُونَ أهليكُمْ} وبقوله (صاع من
طعام) والطعام قد يكون برا أو شعيرا. وقال أيضا هو قول أكثر العلماء. وهو
أصح الأقوال. فإن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء.
وذكر الآية والحديث. ثم قال ولأن هذا كان قوت أهل
(2/170)
المدينة. ولو كان غير قوتهم بل يقتاتون
غيره لم يكلفهم أن يخرجوا ما لا يقتاتونه اهـ. ـ. وكذا قال غير واحد من
أئمة الإسلام. أي أهل بلد ومحلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم
كائنا ما كان. وأنه قول جمهور العلماء. وقال ابن القيم وهو الصواب الذي لا
يقال بغيره. إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما
يقتات أهل بلدهم. لقوله "أغنوهم في هذا اليوم".
(ولهما عن ابن عمر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر أن تؤدى"
أي تخرج وتعطى للمساكين بعد الصبح "قبل خروج الناس إلى الصلاة) أي صلاة
العيد اتفاقا. قال عكرمة في قوله {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} هو الرجل
يقدم زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته. وقال جماعة من أهل العلم الأفضل إذا
خرج إلى المصلى.
(زاد البخاري وكانوا) أي قال ابن عمر كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (يعطون) المساكين زكاة الفطر (قبل الفطر بيوم أو يومين) وعلى هذا
اتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم. وفي قوله: كانوا إشارة إلى جماعة الصحابة
فيكون إجماعا. ولا يجوز أكثر منها وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما. والنص واضح
فيما ذهب إليه مالك وأحمد وقيل يجوز بثلاث ونحوها إلى من تجمع عنده ليفرقها
يوم العيد قبل الصلاة.
(2/171)
ويؤكد الأمر بإخراجها قبل الصلاة ما رواه
الدارقطني وغيره من حديث ابن عمر "أغنوهم عن الطواف" أي في الأسواق لطلب
المعاش "في هذا اليوم" يعني يوم العيد. وإغناؤهم يحصل بصرفها إليهم في أول
اليوم.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
زكاة الفطر طهرة) أي تطهيرًا (لـ) نفس (الصائم) رمضان (من اللغو) ما لا
ينعقد عليه القلب من القول (والرفث) وو هنا الفحش من الكلام (وطعمة
للمساكين) بضم الطاء هو الطعام الذي يؤكل. وفيه أنها تصرف للمساكين دون
غيرهم لهذا الخبر. ولقوله "أغنوهم عن الطواف".
قال الشيخ ولا يجوز دفعها إلا لمن يستحق الكفارة وهم الآخذون لحاجة أنفسهم.
ويجوز دفعها إلى واحد كما عليه المسلمون قديما وحديثا. وقال إذا كان
الفقراء مجتمعين في موضع وأكلهم جميعا في سماط واحد وهم مشتركون فيما
يأكلونه في الصوم ويوم العيد لم يكن لأحدهم أن يعطي فطرته لواحد من هؤلاء.
(فمن أداها) اي أعطاها لهم (قبل الصلاة) أي صلاة العيد (فهي زكاة مقبولة)
أي صدقة الفطر وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة الله (ومن أداها بعد
الصلاة) أي
(2/172)
صلاة العيد (فهي صدقة من الصدقات) التي
يتصدق بها في سائر الأوقات (رواه أبو داود) وابن ماجه والدارقطني والحاكم
وصححه. فدل على فواتها وأنها قد خرجت عن ماهيتها. وكان كأن لم يخرجها.
وقال ابن القيم مقتضاه أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد. وأنها تفوت
بالفراغ من الصلاة. وصوبه وقال قواه شيخنا ونصره. وقال الشيخ وغيره إن
أخرها بعد صلاة العيد فهي قضاء. ولا تسقط بخروج الوقت. وقال الوزير اتفقوا
على أنها لا تسقط بخروج الوقت وقال الوزير اتفقوا على أنها لا تسقط عمن
وجبت عليه بتأخيرها وهي دين عليه. حتى يؤديها. وأن تأخيرها عن يوم العيد
حرام ويقضيها آثما إجماعا إذا أخرها عمدًا.
باب إخراج الزكاة
أي زكاة المال المستقرة بشروطها وما يتعلق بالإخراج من حكم النقل والتعجيل
وغير ذلك.
قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ} لما ذكر تعالى ما أنعم به على عباده من
الثمار. وأنه أباح لهم الأكل منها. أمرهم بأداء حقها وهو الزكاة المفروضة
{يَوْمَ حَصَادِهِ} أي يوم الجذاذ والقطع. وبعد التصفية. ولا تجب إلا بعد
حصوله في يد مالكه. وتقدم
(2/173)
تقدير الشارع لها. والأمر بالإيتاء يوم
الحصاد يقتضي الفورية. وكذا قوله {وَآَتُوا الزَّكَاةَ} ولأن المؤخر يستحق
العقاب. ولو جاز التأخير لكان إما إلى غير غاية وهو مناف للوجوب. أو إلى
غاية ولا دليل عليه.
ولأنها عبادة تتكرر فلم يجز تأخيرها. ولأنه إن طالبه الساعي بها اقتضت
الفورية إجماعا فكذا بطلب الله تعالى. وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وبعض
الحنفية وجمهور العلماء. ولأن حاجة الفقير ناجزة وربما أدى التأخير إلى
الفوات ولأن النفوس طبعت على الشح فربما أدى التأخير إلى البخل بالواجب
والتعجيل أخلص للذمة وابعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب.
(عن ابن عمر مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أمرت أن
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) بدأ بها لأنها أصل الدين الذي
لا يصح شيء منه إلا بها. وهي تقتضي شهادة أن محمدا رسول الله. وجاءت في هذا
الحديث وغيره مقرونة بها {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}
المفروضة "فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فجعل غاية
المقاتلة وجود ما ذكر. وثبت أيضا أنه قال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به" فإذا قالها وجب الكف عنه حتى
يختبر. فإن التزم أحكام الإسلام قبل منه وإلا قوتل.
(2/174)
(وقال أبو بكر) الصديق رضي الله عنه لما
منع طائفة من العرب الزكاة. وتأولوا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً} أنه خاص به - صلى الله عليه وسلم - حتى قال له عمر كيف تقاتلهم
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله
إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" قال أبو بكر:
إن الزكاة من حقها "والله لو منعوني عناقا) هو على المبالغة والتحدي. وحلف
عليه لتأكده. قال أبو الخطاب وغيره يؤخذ منه أخذ العناق إذا كانت الغنم
كلها سخالا. وروي عقالا (كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- لقاتلتهم على ذلك) أي على المنع.
قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه
الحق. وأجمع الصحابة عليه (متفق عليهما) وفيه قال لأقاتلن من فرق بين
الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. فمن نصب نفسه للحرب دونها قوتل.
وحاصله أنهم متى منعوا شيئا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وإن قل فقد منعوا شيئا واجبا. إذ لا فرق بين منع الواجب وجحده. وبين
القليل والكثير.
لكن من منع الزكاة جاحدا وجوبها كفر. إذا كان عارفا الحكم إجماعا، لتكذيبه
الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين.
وأخذت منه وقتل. وإن كان بخلا أخذت منه فقط. وعزر إن علم التحريم. وقوتل إن
احتيج إلى قتاله. ولم يكفر به اتفاقا.
(2/175)
قال الشيخ من تركها أخذت منه قهرا فإن غيب
ماله قتل في أحد قولي العلماء وفي الآخر لا يزال يضرب حتى يظهر ماله فتؤخذ
منه الزكاة.
(ولهما عن ابن مسعود قال - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء) يعني أمراء
الجور. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنها ستكون بعدي
أثرة وأمور تنكرونها" قالوا فما تأمرنا. يعني إذا كان ذلك. قال (تؤدون الحق
الذي عليكم) من زكاة وخمس ونحو ذلك.
ولأبي داود "خلو بينهم وبين ما يبتغون. فإن عدلوا فلأنفسهم" وللطبراني
"ادفعوا لهم الخمس ما صلوا" وللبيهقي وأبي سعيد وغيرهما عن جماعة من
الصحابة الأمر بدفعها إليهم "وتسألون الله الحق الذي لكم) وكان بعضهم يقول:
اللهم إني أحتسب عندك ما أخذ مني.
وينبغي للإمام بعث السعادة قرب زمن وجوبها لقبضها منهم. فإن من الناس من لا
يصلي ولا يزكي وإهمالهم إضاعة للزكاة. ويجب دفعها إليه إذا طلبها اتفاقا.
بذلا للطاعة. وله طلبها من الأموال الظاهرة والباطنة إن وضعها في مواضعها
اتفاقا. ومذهب أحمد وجمهور العلماء جواز دفعها إليه عدلاً أو غير عدل.
ويجزئ قيل لابن عمر يشربون بها الخمور قال ادفعها إليه. وللمالك أن يفرق
زكاة ماله الباطن بنفسه قال النووي بلا خلاف.
(وفيهما كان) - صلى الله عليه وسلم - (إذا أتاه قوم بصدقاتهم) أو مع
(2/176)
رسلهم (قال اللهم صل عليهم) وفي رواية
"اللهم صل على آل أبي فلان" وفي رواية "اللهم صل على آل أبي أوفى" متفق
عليها وورد أنه دعا لهم بالبركة. رواه النسائي. وله "اللهم بارك فيه وفي
أهله" (وصل عليهم) أدع لهم. واستحب أهل العلم أنه يقول آجرك الله فيما
أعطيت. وبارك لك فيما أبقيت. وجعله لك طهورا. وإلا دعا له بالغيبة. وللرسول
الحاضر كرد السلام. ويقول عند دفعها اللهم اجعلها مغنما. ولا تجعلها مغرما.
للخبر: ويحمد الله على توفيقه لأدائها.
ولا يصح إخراجها إلا بنية من مكلف. لحديث "إنما الأعمال بالنيات" وحكاه
الوزير وغيره إجماعا. والجمهور أنها شرط. واعتبره الأكثر عند الدفع. وجوز
حال عزلها تيسيرا. وينوي عن صبي ومجنون وليهما وإن أخذت منه قهرا أجزأت
ظاهرا فلا يطالب بها ثانيا بلا نزاع. وأما باطنا فلا تجزئ لعدم النية
اختاره الشيخ وغيره. وإن تعذر إخراج المالك وأخرجت قهرا أجزأت مطلقا. لأن
للسلطان أخذها من الممتنع بالاتفاق. ولو لم تجز لما جاز له أخذها. قال
الشيخ وما يأخذه الولاة يسقط عن صاحبه إذا صرفه في مصارفه باتفاق العلماء
وبغير اسم الزكاة لا يعتد به منها.
(وللخمسة) أحمد وأبي داود والنسائي عن عمرو (مرفوعا تؤخذ صدقات المسلمين)
أي زكاة أموالهم من ماشية وغيرها (على مياههم) وفي رواية لأحمد وأبي داود
"لا
(2/177)
جلب ولا جنب. ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في
دورهم" ولهم أيضا من حديث عمران بن حصين ونحوه. وحصصه الترمذي. ومن حديث
أنس وغيره.
وفيها دليل على أن المصدق هو الذي يأتي للصدقات. ويأخذها على مياه أهلها
وفي دورهم. وعمل المسلمين عليه. لأن ذلك أسهل لهم. والأفضل أن يفرقها في
فقرائهم. لما تقدم من قوله "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" وغيره.
فيفرقها في مكان رب المال وما قاربه. ويبدأ بأقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم.
وإن لم يكن فيه فقراء ففي اقرب مكان إليه. حكاه الوزير وغيره اتفاقا.
ويجوز نقلها وتجزئ عند جمهور العلماء. حكاه الموفق وغيره. لأنه دفع الحق
إلى المستحق فبرأ كالدين. ولعموم الخبر. فإن الضمير فيه عائد إلى فقراء
المسلمين. وللآية. ولم يفرق بين فقراء وفقراء. ولقوله لقبيصة "أقم حتى
تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" بل قد علم بالضرورة أنه - صلى الله عليه وسلم
- كان يستدعي الصدقات من الأعراب وغيرهم إلى المدينة. ويصرفها في فقراء
المهاجرين والأنصار.
قال شيخ الإسلام يجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية. وإذا نقلها
إلى المستحقين بالمصر الجامع. مثل أن يعطي من بالقاهرة من العشور التي بأرض
مصر فالصحيح
(2/178)
جواز ذلك. فإن سكان المصر إنما يعانون من
مزارعهم. بخلاف النقل من إقليم إلى إقليم مع حاجة أهل المنقول عنهم. وإنما
قال السلف جيران المال أحق بزكاته. وكرهوا نقل الزكاة إلى بلد السلطان
ليكتفي أهل كل ناحية بما عندهم من الزكة.
ولهذا في كتاب معاذ "من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف
جيرانه" والمخلاف عندهم يقال له المعاملة. وهو ما يكون فيه الوالي والقاضي
وهو الذي يستخلف فيه ولي الأمر جابيا يأخذ الزكاة من أغنيائهم فيردها في
فقرائهم. ولم يقيد ذلك بمسيرة يومين. وتحديد المنع من نقل الزكاة ليس عليه
دليل شرعي.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (في زكاة العباس) وذلك لما بعث النبي - صلى
الله عليه وسلم - عمر على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد والعباس قال -
صلى الله عليه وسلم - "وأما العباس فـ "هي" أي زكاته (علي ومثلها) معها
(متفق عليه) وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - استسلف منه صدقة عامين رواه
البيهقي وغيره عن علي مرفوعا قال: "كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة
عامين" وللطبراني والبزار من حديث ابن مسعود نحوه. ولأبي داود من حديث رافع
قال لعمر "إنا كنا تعجلنا زكاة العباس عام الأول" وبمجموعها استدل على أنه
تعجلها منه. وللخمسة أن العباس سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل
صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك.
(2/179)
وفيها جواز تعجيل الزكاة قبل وجوبها. ولو
لعامين. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير أهل العلم لأنه حق مال
أجل للرفق فجاز تعجيله قبل أجله كالدين. والمراد بعد كمال النصاب. قال
الموفق بغير خلاف أعلمه. وقال الشيخ وغيره يجوز تعجيل الزكاة قبل وجوبها
بعد سيب الوجوب عند جماهير العلماء. فيجوز تعجيل زكاة الماشية والنقدين
وعروض التجارة إذا ملك النصاب. ويجوز تعجيل العشريات قبل وجوبها إذا كان قد
طلع الثمر قبل بدو صلاحه ونبت الزرع قبل اشتداد حبه وصرح جماعة بجواز
تعجيلها من ولي كمالك.
ولا يستحب تعجيلها خروجًا من خلاف من منعه. وإن أخذ الساعي منه زيادة على
الواجب ونواه قال الشيخ باسم الزكاة ولو فوق النصاب بلا تأويل اعتد به.
ويجوز للإمام التأخير إذا كان لصاحبها حاجة إليها ونحوه. لما روي عن عمر
أنه أخرها عام الرمادة لجدب اتفق فيه. ثم أخذت منهم العام القابل.
باب أهل الزكاة
أي ذكر اصناف من يجوز دفع الزكاة إليه من أهلها الذين جعلهم الله محلا
لدفعها. وذكر من لا يجوز دفعها إليه. وما يتعلق بذلك من بيان شروطهم. وقدر
ما يعطاه كل واحد منهم.
قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتِ} أي الزكاة المفروضة. قال
(2/180)
الشيخ ويدخل فيها صدقة التطوع وسائر
المعروف اهـ. وسبب نزول هذه الآية لما لمز بعض المنافقين رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في قسم الصدقات. بين تعالى المستحقين لها. وأنه - صلى
الله عليه وسلم - لا تعلق له منها بشيء. فلا مطعن عليه. وأتى تعالى بإنما
المفيدة للحصر. المفصحة بإثبات ما بعدها. ونفي ما سواه.
ولأبي داود وغيره عن زياد بن الحارث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها
ثمانية أجزاء. فإن كنت منهم أعطيتك" قال الموفق وغيره لا نعلم خلافا بين
أهل العلم أنه لا يجوز دفعها إلى غيرهم. إلا ما روي عن أنس والحسن. فلا
يجوز صرفها في بناء المساجد والقناطر وسد البثوق وتكفين الموتى ووقف
المصاحف وغيرها من جهات الخير. وحكاه الوزير وغيره اتفاقا. لتعينها لمن
عينت له.
قال الشيخ ولا ينبغي أن تعطى إلا لمن يستعين بها على طاعة الله. فإن الله
فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين أو لمن يعاونهم. فمن لا
يصلي من أهل الحاجات لا يعطى منها حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة. قال ولا
يجوز أن يعطى من الزكاة من يصنع بها دعوة وضيافة للفقراء ولا يقيم بها
سماطا لا لوارد ولا لغير وارد بل أن تعطي ملكا للفقراء المحتاجين ينفقونها
على أنفسهم وعيالهم. ويقضون بها ديونهم ويصرفونها في حاجاتهم.
(2/181)
{لِلْفُقَرَاءِ} بدأ تعالى بهم لشدة
حاجاتهم ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم وهم من لا يجدون شيئا أو يجدون بعض
الكفاية والفقير من فقر الظهر فعيل بمعنى مفعول. أي مفقور. وهو الذي نزعت
فقرة ظهره. فانقطع صلبه. ومثلوه بالزمن والأعمى (وَالْمَسَاكِينَ) وهم
الذين يجدون أكثر الكفاية أو نصفها من كسب أو غيره. لخبر "ليس المسكين الذي
ترده اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف" وقال تعالى {أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ}.
والمسكين مفعيل من السكون وهو الذي أسكنته الحاجة. والفقر والمسكنة عبارتان
عن شدة الحاجة وضعف الحال. فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين
هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت وهما صنفان في الزكاة عند
الاقتران. وصنف واحد في سائر الأحكام لأن كل واحد من الاسمين ينطلق عليهما
فيعطى الصنفان من الزكاة كفايتهما مع عائلتهما لأن كل واحد مع عائلته مقصود
دفع حاجته سنة يتكرر بتكرر الحول.
ومن ملك ولو أثمانا لا تقوم بكفايته أعطي تمام كفايته. فإن الغني الذي لا
يجوز إعطاؤه منها هو ما يعده الناس غنيا. ويحصل به الكفاية على الدوام. إما
من إجارة أرض أو عقار أو غير ذلك. فمن كان محتاجا حلت له. وإن ملك نصبا.
قال الشافعي وغيره قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسبه. ولا
(2/182)
يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه. وكثرة عياله.
وقال أحمد وغيره إذا كان له عقار وضيعة يستغلها عشرة آلاف مثلا أو أكثر ولا
تكفيه يأخذ من الزكاة. ويكون له الزرع القائم وليس له ما يحصده يأخذ منها.
وقال الشيخ وفي معناه ما يحتاج إليه لإقامة مؤنته. وإن لم ينفقه بعينه
فيها. وكذا من له كتب يحتاج للحفظ والمطالعة. أول لها حلي للبس أو كراء
تحتاج إليه لا يمنع ذلك الأخذ من الزكاة.
{وَالْعَامِلِينَ} أي الساعين {عَلَيْهَا} الذين يبعثهم الإمام لأخذها من
أربابها. كجباتها وحفاظها وحسابها وكتابها وقسامها بين مستحقيها. وعدادها
وكيالها ووزانها. وجماع المواشي ورعاة وجمال. ومن يحتاج إليهم فيها.
لدخولهم في مسمى العاملين عليها فيجوز إعطاؤهم قدر أجرتهم. ولو أغنياء
إجماعا. وكان - صلى الله عليه وسلم - يبعث على الصدقة سعاة ويعطيهم عليها.
فبعث عمر وأبا موسى وغيرهما. ولانزاع في ذلك. ويلزمهم رفع حساب ما تولوه
إذا طلب منهم وفي الفروع مع التهمة.
ويشترط التكليف والإسلام والأمانة والكفاية اتفاقا. لأنها ضرب من الولاية.
ويأتي المنع من تولية أهل الذمة في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. وجوز
بعضهم أن يكون الحامل والراعي ونحوهما من ذوي القربى ومواليهما. قال في
الإنصاف بغير خلاف. لأن ما يأخذه للعمل لا للعالمة.
(2/183)
{الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} جمع مؤلف.
وهو السيد المطاع في عشيرته. وهم قسمان مسلمون وكفار. والمسلمون أقسام من
أشراف العرب كعيينة والأقرع. فيعطون لتقوى رغبتهم في الإسلام. وقسم نيتهم
قوية فيعطون تألفا لقومهم. وترغيبا لأمثالهم في الإسلام. وقسم بإزاء قوم
كفار في موضع لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بكلفة. وقوم بإزاء قوم يمنعون
الزكاة فيأخذها منهم.
ومؤلفة الكفار كصفوان بن أمية. لما يرى من ميلهم إلى الإسلام. فيعطون رجاء
إسلامهم. أو من يخشى شره فيرجى بعطيته كف شره وشر غيره. أو إسلام نظيره.
وحكمهم باق لإعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر. وأما ترك عمر
وعثمان فلعدم الحاجة إليهم في خلافتهم. لاف في سقوط سهمهم. وهذا مذهب جمهور
العلماء.
ومنع وجود الحاجة على ممر الزمان واختلاف أحوال الناس في القوة والضعف لا
يخفى فساده، وقال الشيخ ويجوز بل يجب الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف
قلبه. وإن كان لا يحل له أخذ ذلك كما في القرآن العزيز. وكما كان - صلى
الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم من الفيء {وَفِي الرِّقَابِ} اي وي
فك الرقاب رقاب المماليك. فيشتري بها رقبة لا تعتق عليه فيعتقها. وأما من
تعتق عليه فكدفعها إليه. ويعطى المكاتب وفاء دينه لعجزه عن وفاء ما عليه.
ولو مع قدرته على التكسب. وقال تعالى
(2/184)
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} والجمهور على
أنهم من الرقاب. ولا نزاع في ثبوت سهمهم.
{وَالْغَارِمِينَ} أي المدينين والغرم في الأصل لزوم ما يشق على النفس وسمي
الدين غرما لكونه شاقا على الإنسان والغارمون نوعان. غارم لإصلاح ذات البين
وهي الوصل لقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله
{أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وللخبر الآتي وغيره. وذلك بأن يقع بين
جماعة –كقبيلتين- تشاجر في دماء أو أموال. وتحدث بينهم الشحناء والعداوة.
فيتوسط بالصلح لهم. ويلتزم في ذمته عوضا عما بينهم. ليطفئ الثائرة بينهم
فقد أتى معروفا ومن المعروف حمله عنه من الزكاة. لئلا يجحف بسادات
المصلحين. أو يوهن عزائمهم. وقد جاء الشرع بجعل نصيب لهم في الزكاة. ولو مع
غناهم.
والنوع الثاني من استدان لنفسه فيعطي عنه دينه بلا نزاع. لكن مع الفقر في
مباح لا معصية. قال الشيخ من أظهر بدعة أو فجورا فإنه يستحق العقوبة بالهجر
والاستتابة فكيف يعان على ذلك اهـ. ومن به سببان أخذ بهما اتفاقا (وفي سبيل
الله) أي وفي النفقة في سبيل الله. والمراد الغزاة المتطوعة الذين لا ديون
لهم. أو لهم لكن دون ما يكفيهم والسبيل عند الإطلاق هو الغزو. لقوله {إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} وإنما استعملت
(2/185)
هذه الكلمة في الجهاد. لأنه السبيل الذي
يقاتل فيه على عقد الدين. ولا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم في الديوان
إذا كانوا متطوعة. لأن من له رزق راتب يكفيه فهو مستغن به.
وقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور يأخذ الغني منهم كما يأخذ الفقير ذهابا
وإيابا. وثمن سلاح ودرع وفرس ونحو ذلك لأنه مصلحة عامة. وفرضه الله ورسوله.
ومتى ادعى أنه يريد الغزو قبل قوله ودفع إليه دفعا مراعا من سائر ما يحتاج
إليه.
ويجزئ أن يعطي منها فقير لحج وعمرة لقوله - صلى الله عليه وسلم - "اركبها
فإن الحج من سبيل الله" ولا يحج بزكاة ماله ولا يغزو بها ولا يشتري بها
فرسا يحسبها في سبيل الله أو عقارا يقفه على الغزاة اتفاقا. لأن نفسه ليست
مصرفا لزكاته. كما لا يقضي بها دينه. ولأن الشراء المذكور ليس من الإيتاء
المأمور به.
{وَابْنَ السَّبِيلِ} أي الطريق. سمي من لزمها ابن سبيل. كما يقل ولد الليل
لمن يكثر خروجه فيه. وكل من لزم شيئا سمي به في الغالب. وابن السبيل هو
المسافر المنقطع به. لا المنشئ للسفر من بلد إلى غيره. لأنه ليس في سبيل.
ولا يتناوله النص اتفاقا. وإنما يصير ابن سبيل في ثاني حال. فيعطى ما يوصله
إلى بلده. ولو كان موسرا في بلده. وأما مع فقره فيعطى لفقره. ولكونه ابن
سبيل ما يوصله. ولا خلاف في استحقاق ابن السبيل. وبقاء سهمه ويدخل في ابن
السبيل الضيف.
(2/186)
وإن فضل مع ابن سبيل أوغاز أو غارم أو
مكاتب شيء رده. لأنهم لا يملكون ذلك من كل وجه. بل ملكا مراعا. ولزوال
السبب. فيجب رد الفاضل بزوال الحاجة. بخلاف الأربعة الأول. فإنهم لا يردون
شيئا لأن اللام في ذلك للملك. فثبت لهم ملك مستقر. والحاصل أن أهل الزكاة
قسمان. قسم يأخذ بسبب يستقر الأخذ به هو الفقر والمسكنة والعمالة والتأليف
وقسم يأخذ بسبب لا يستقر الأخذ به وهو الكتابة. والغرم. والغزو والسبيل.
فالأول من أخذ شيئا صرفه فيما شاء كسائر ماله. والثاني إذا أخذ شيئا صرفه
فيما أخذه له فقط. لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه فإن التعبير في الآية
للأول باللام للملك. وفي الثاني ينادي على المراعاة في ذلك بفي. وهي
للظرفية.
ثم لما أخبر تعالى أنه حصرها في الأصناف الثمانية قال {فَرِيضَةً مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالح عباده {حَكِيمٌ} فيما فرضه عليهم. لا
يدخل في تدبيره وحكمه نقص. ولا خلل. وذكر ابن جرير وغيره أن عامة أهل العلم
يقولون للمتولي قسمتها ووضعها في أي الأصناف الثمانية شاء بحسب المصلحة
الشرعية. وإنما سمى الله الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج من
هذه الأصناف إلى غيرها لا إيجابا بقسمتها بين الأصناف الثمانية.
(2/187)
ويؤيده قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} "تؤخذ من أغنائهم فترد
على فقرائهم" وذكر غير واحد أنها جعلت لسد خلة المسلمين ومعونة الإسلام.
وتقويته. فيلحق به من كان في مصلحة عامة للمسلمين مدة قيامه بها. وهو فعل
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه والسلف بعدهم. قال الشيخ ويجب تحري
العدل بحسب الإمكان.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - لا تحل الصدقة) أي الزكاة المفروضة (لغني)
إجماعا. وهو من عده الناس غنيا كما تقدم (ولا لذي مرة) بكسر الميم وتشديد
الراء أي قوة على الكسب (سوي) أي سوي الأعضاء سالمها (رواه الخمسة) أحمد
وأبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو. وأحمد أيضا والنسائي وابن
ماجه من حديث أبي هريرة.
وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - صلى
الله عليه وسلم - يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين فقال
"إن شئتما أعطيتكما، ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" رواه أحمد وأبو داود
والنسائي وغيرهم. وظاهرهما أن مجرد القوة لا تقتضي عدم الاستحقاق إلا إذا
اقترن بها الكسب. وهذا الحديث وما في معناه دليل على تحريمها على الغني سوى
ما استثناه الشارع. كما هو مفهوم الآية. وإن القوي المكتسب يصير بالحرفة في
حكم الغني تحرم عليه الصدقة.
(2/188)
(ولأبي داود) وأحمد وابن ماجه ومالك
والبزار وعبد الله بن حميد وأبي يعلى والبيهقي والحاكم وصححه (عن أبي سعيد
مرفوعا) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا تحل الصدقة) أي
ولا يجزئ دفعها (لغني إلا لخمسة) أي فتحل لهم مع الغنى لأنهم أخذوها بوصف
آخر (لعامل عليها) أي على الزكاة. وإن كان غنيا. لأنه يأخذ أجره على عمله
لا لفقره.
(أو رجل اشتراها) أي الزكاة (بماله) من الفقير الذي أخذها فإنها قد وافقت
مصرفها. وزال عنها اسم الزكاة وتغيرت الأحكام المتعلقة بها. وصارت ملكا لمن
صرفت إليه فإذا باعها فقد باع ما ليس بزكاة حين البيع بل ملك له (أو غارم)
والمراد لإصلاح ذات البين فتحل له وإن كان غنيا. فإنه يجوز أن يقضي ذلك
الغرم من الزكاة وتقدم (أو غاز في سبيل الله) فيحل له أن يتجهز من الزكاة.
وإن كان غنيا لأنه ساع في سبيل الله.
(أو مسكين تصدق عليه) أي على المسكين بشيء من الزكاة (فاهدى) ما دفع إليه
(منها لغني) فتحل له لأن الزكاة بلغت محلها. ويشهد له قوله - صلى الله عليه
وسلم - في قصة بريرة "هو عليها صدقة وهو لنا منها هدية" وليس بقيد ولأبي
داود "ورجل تصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك" قال ابن عبد البر وغيره هذا
الحديث مفسر لمجمل قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تحل الصدقة لغني ولا
لذي مرة سوي" وأنه لس على عمومه.
(2/189)
وأجمع أهل العلم على أن الصدقة المفروضة لا
تحل لغير الخمسة المذكورة. كما ذكره الباجي وغيره. فإن دفعها لغني غير
هؤلاء عالما بغناه لم تجز بلا خلاف. وما ورد بدليل خاص. كان تخصيصا لهذا
العموم "وفي لفظ أو ابن سبيل) وهو المسافر المنقطع به كما تقدم. فيأخذ من
الزكاة ما يوصله وإن كان غنيا في بلده.
(ولمسلم) وأحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم (عن قبيصة) ابن مخارق بن عبد
الله بن شداد العامري الهلالي. وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وله ستة أحاديث هذا الخبر (مرفوعا إن المسألة) أي الطلب من أموال الناس (لا
تحل إلا لأحد ثلاثة رجل) بالكسر بدل من ثلاثة ويصح الرفع بتقدير أحدهم
(تحمل حمالة) بفتح الحاء. وهو المال يتحمله الإنسان عن غيره. والحميل
الضامن سواء كان دينا أو دية أو غرامة أو ليصلح بمال بين طائفتين (فحلت له
المسألة) أي جازت له المسألة من أموال الناس مع غناه. لأنه لا يلزمه
تسليمها من ماله لكن بشرط (حتى يصيبها) أي يجد ما يؤدي حمالته. أو يأخذ
الصدقة (ثم يمسك) عن المسألة وهذا أحد الخمسة المتقدمة.
(ورجل أصابته جائحة) أي آفة مهلكة للثمار والأموال. سماوية أو أرضية كالبرد
والجراد والغرق ونحو ذلك (اجتاحت ماله) أي أهلكت ماله بحيث لم يبق له ما
يقوم
(2/190)
بعيشته (فحلت له المسألة) من أموال الناس
وإن كان قبل غنيا (حتى يصيب قواما) بكسر القاف ما يقوم بحاجته وسد خلته.
وقوام الشيء عماده القائم به (من عيش) أي ما يقوم بمعيشته يعني بحاجته
الضرورية من أكل ولباس وغيره.
(ورجل أصابته فاقة) أي حاجة شديدة اشتهر بها بين قومه (حتى يقول) على رءوس
الأشهاد (ثلاثة من ذوي الحجى) بكسر الحاء أي ذوي العقول الكمل (من قومه)
والمراد حيث كان معروفا بالغنى ثم افتقر. وخص ذوي الحجى من قومه لأنهم أخبر
بحاله يقولون (لقد أصابت فلانا فاقة) ولا يقبل من غلب عليه الغباوة
والتغفيل. وكونهم ثلاثة هو مذهب الجمهور.
(فحلت له المسألة) بسبب هذه القرائن الدالة على صدقه (حتى يصيب قواما من
عيش) يقوم بحاجته (فما سواهن من المسألة يا قبيصة) أي في هذه الأحوال
الثلاث.
وكذا ما في حديث سمرة من جواز سؤال السلطان. وفي الأمر الذي لا بد منه
(سحت) بضم السين المهملة. والسحت الحرام الذي لا يحل كسبه. سمي سحتا لأنه
يسحت البركة ويذهبها (يأكلها) أي يأكل السائل ما لا يحل له من الصدقة
(سحتا) أي حراما لا يجوز سؤاله. فلا يجوز دفع الزكاة لغني إلا لمن قام به
أحد هذه الأوصاف ونحوها.
(2/191)
(ولهما أنه) - صلى الله عليه وسلم - (أعطى
المؤلفة قلوبهم) فمن حديث أبي سعيد وغيره - صلى الله عليه وسلم - أعطى
الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة العامري وزيد الطائي فقالت قريش: تعطي
صناديد نجد فقال: "لا تألفهم وأعطى صناديد الطلقاء وأشرافهم وعد ابن الجوزي
المؤلفة نحو الخمسين ولمسلم عن صفوان بن أمية قال أعطاني يوم حنين يعني قبل
إسلامه. وإنه لأبغض الناس إلي. فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
وذكر أنه استبصره أربعة أشهر لينظر في أمره وأومأ له عام حنين إلى إبل
محملة. فقال "هذا لك" فقال: صفوان هذا عطاء من لا يخشى الفقر.
وقال ابن عباس كانوا يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرضخ لهم من
الزكاة فإذا أعطاهم قالوا هذا دين صالح. وإلا عابوه. وتقدم أن سهمهم باق
للآية. وبراءة من آخر ما نزل. ومن زعم أنه منسوخ فقد أبعد النجعة.
(ولمسلم قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اقم يا قبيصة) أمر من
الإقامة. بمعنى أثبت أي امكث عندنا واصبر. وكن في المدينة مقيما. وكان تحمل
حمالة فأتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله فيها فقال اقم (حتى
تأتينا الصدقة) أي يحضرنا مال من الزكاة (فنأمر لك بها) أي بالصدقة أو
بالحمالة. وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر. فدل على جواز
الاقتصار على
شخص واحد من الأصناف الثمانية. قال في
(2/192)
المبدع وغيره في قول جماهير العلماء. ولأنه
لما لم يمكن استغراق الأصناف حمل على الجنس. وكالعامل اتفاقا. ولما في
الاستيعاب من العسر. وهو منتف شرعا. ويجوز دفعها لى غريمه أو مكاتبه ما لم
يكن حيلة. كأن يعطيه بشرط أن يردها عليه من دينه. فلا يجزئه. لأن من شرطها
تمليكا صحيحا فإذا شرط الرجوع لم يوجد التمليك. ولأنها لله فلا يصرفها على
نفعه وقال أحمد وسفيان وغيرهما كانت العلماء تقول: لا يحابي بها قريبا. ولا
يدفع بها مذمة ولا يقي بها ماله. وقال الشيخ الذي عليه الدين لا يعطيه
ليستوفي دينه. وإسقاط زكاة العين عن المعسر لا يجزئ بلا نزاع. وقدر زكاة
دينه فيه قولان أظهرهما الجواز.
وذكر ابن القيم من الحيل الباطلة دفع زكاته إلى غريمه المفلس ليطالبه
بالوفاء. فإذا وفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع. قال وهذه الحيلة باطلة
محرمة. سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفع إليه. أوملكه إياه
بنية أن يستوفيه من دينه. فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة. ولا يعد مخرجا لها
لا شرعا ولا عرفا. كما لو أسقط دينه وحسبه من الزكاة.
"وقال" يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لعمر) وكان حمل على فرس في
سبيل الله وقد أضاعه الذي هو عنده فأراد أن يشتريه منه برخص فسأل رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فقال (لا تعد في صدقتك) وفي لفظ "لا تشتره ولا تعد
في صدقتك" وفي لفظ "وإن أعطاكه
(2/193)
بدرهم" مبالغة في رخصه. فمنعه من العود في
صدقته بشراء أو نحوه. ولو وجده يباع في السوق. سدا لذريعة العود فيما خرج
منه لله. لو بعوض. فإن المتصدق إذا منع من تملك صدقته بعوض. فتمكلها بغير
عوض أشد منعا. وأفطم للنفوس عن تعلقها مما خرجت منه لله. وقال ابن عمر لا
تشتر طهور مالك.
(فإن العائد في صدقته) شمل البيع وغيره (كالعائد في قيئه متفق عليه) وفي
لفظ "كالكلب يعود في قيئه" أي كما يقبح أن يقيء ثم يأكل ما قاءه. كذلك يقبح
أن يتصدق بشيء ثم يجره إلى نفسه بأي وجه من الوجوه. وشبهه بأخس الحيوان في
أخس أحواله. تصويرا للتهجين. وتنفيرا منه. فدل على حرمة العود فيها. وهو
مذهب جمهور العلماء. وقال ابن المنذر ليس لأحد أن يتصدق ثم يشتري صدقته
للنهي. ويلزم من ذلك فساد البيع. إلا أن يثبت الإجماع على جوازه. ولم يثبت.
قال ابن القيم والصواب ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنع من
شرائها مطلقا. ولا ريب أن في تجويز ذلك ذريعة إلى التحيل على الفقير بأن
يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها. فمن محاسن الشريعة سد
هذه الذريعة. فإن رجعت إليه بإرث ونحوه جاز تملكها، لما روى مسلم وغيره أن
امرأة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كنت تصدقت على أمي بوليدة
وإنها ماتت وتركتها، فقال: "وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث".
(2/194)
(وعن سلمان بن عامر) بن أوس الضبي البصري
صحابي عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنهما (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال (الصدقة) وهي ما وقع لمحض التقرب إلى الله (على المسكين)
فرضا كانت أو تطوعا (صدقة) أي واحدة (و) الصدقة (على ذي الرحم) أي القرابة
ثنتان (صدقة وصلة) أي إحسان وعطف ورفق. وكله موجود في الصدقة على القرابة.
لأنه يعد بذلك محسنا متعطفا رافقا. ولأنه أولى الناس بالمعروف (رواه
الخمسة) وابن حبان وغيرهم وحسنه الترمذي.
ولأحمد وغيره من حديث أبي أيوب "إن أفضل الصدقة: الصدقة على ذي الرحم
الكاشح" ويأتي. فيسن أن يفرقها فيهم على قدر حاجتهم. ويبدا بالأحوج
فالأحوج. والأقرب فالأقرب إجماعا. وإن كان الأجنبي أحوج فلا يعطي القريب
ويمنع البعيد بل يعطي الجميع والجار أولى من غيره اتفاقا. والعالم والدين
وذو العيلة أولى من ضدهم.
فصل فيمن لا تحل له
أي في بيان من لا تحل له الزكاة. ولا يجزئ دفعها إليه.
(وعن المطلب) بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم سكن المدينة ثم
تحول إلى الشام. وتوفي بدمشق سنة اثنين وستين وكان المطلب والفضل بن العباس
انطلقا إلى رسول
(2/195)
الله - صلى الله عليه وسلم -. قال المطلب
ثم تكلم أحدنا فقال يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات. فنصيب ما
يصيب الناس من المنفعة. وتؤدي إليك ما يؤدي الناس ثم (إن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال إن الصدقة) أي الزكاة المفروضة (لا تحل لآل محمد).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ارم بها أما علمت أنا لا نأكل
الصدقة" وفي رواية "إنا لا تحل لنا الصدقة" فدل على تحريم الزكاة على محمد
- صلى الله عليه وسلم - هو إجماع ونقل الموقف الإجماع على أنها لا تحل لآل
محمد. وآله - صلى الله عليه وسلم - هم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل
وآل الحارث. وحكى الاتفاق على خمسة البطون غير واحد من أهل العلم.
وقال جمهور أهل العلم وآل أبي لهب ابن عبد المطلب. وأخرجهم بعض أهل العلم.
لأن أبا لهب كان حريصا على أذاه - صلى الله عليه وسلم -. فإن حرمة الصدقة
على آله - صلى الله عليه وسلم - كرامة من الله لهم. ولذريتهم. حيث نصروه في
جاهليتهم وإسلامهم. وفي جامع الأصول وغيره أن عتبة ومعتبا ابني أبي لهب
اسلما عام الفتح. وسر - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما. وشهدا معه حنينا
والطائف. ولهما عقب.
قال (إنما هي أوساخ الناس رواه مسلم) فكرم - صلى الله عليه وسلم - آله أن
يكونوا محلا للغسالة. وشرفهم عنها. وهذه هي العلة
المنصوصة في التحريم. ولأبي نعيم مرفوعا "لهم في خمس
(2/196)
الخمس ما يكفيهم ويغنيهم" والكفارة
كالزكاة. لأن مشروعيتها لمحو الذنب فهي من أشد أوساخ الناس. وتسميتها
أوساخا لأنها تطهير لأموالهم ونفوسهم. وذلك من الشتبيه البليغ.
ويجوز لهم أخذ صدقة التطوع وحكي إجماعا. لأنهم إنما منعوا من أخذ الزكاة
لأنها أوساخ الناس. والصدقة ليست كذلك. ولا خلاف في إباحة المعروف إلى
الهاشمي. وفي الصحيحين "كل معروف صدقة" قال في الفروع ومعلوم أن هذا
للاستحباب إجماعا. وكل من حرمت عليه الزكاة فله أخذها هدية اتفاقا لأكله -
صلى الله عليه وسلم - مما تصدق به على أم عطية. وتجزئ إليه إن كان غازيا أو
غارما لإصلاح ذات البيت لجواز الأخذ بذلك مع الغنى وعدم المنة فيه.
واختار الشيخ والقاضي وأبو البقاء وأبو صالح وأبو طالب البصيري وأبو يوسف
والأصطخري وغيرهم جواز الأخذ لبني هاشم إذا منعوا الخمس. لأنه محل حاجة
وضرورة. وقال الشيخ يجوز لهم الأخذ من زكاة الهاشمي ولهم أخذ وصية ونذر
لفقراء إجماعا. لأنه لا يقع عليهما اسم الزكاة.
(وقال) - صلى الله عليه وسلم - (لأبي رافع) مولى رسوله - صلى الله عليه
وسلم - قيل اسمه إبراهيم وقيل هرمز وقيل كان للعباس فوهبه لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فلما أسلم العباس بشر أبو رافع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بإسلامه فأعتقه.
مات في خلافة علي. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على
(2/197)
الصدقة من بني مخزوم فقال لأبي رافع اصحبني
فإنك تصيب منها. فقال حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاساله
فأتاه فسأله فقال (أنا لا تحل لنا الصدقة وإن مولى القوم منهم) وفي لفظ "من
أنفسهم) أي حكمه حكمهم "رواه أحمد والثلاثة وصححه الترمذي".
فموالي بني هاشم وهم الذين اعتقهم بنو هاشم تحرم الصدقة عليهم. وكتحريمها
على بني هاشم. قال الطحاوي تواترت عنه - صلى الله عليه وسلم - الآثار بذلك.
وقال ابن عبد البر لا خلاف بين المسلمين في عدم حل الصدقة للنبي - صلى الله
عليه وسلم - ولبني هاشم ومواليهم.
وفي الحديث نص على تحريم العمالة على الموالي فبالأولى على آل محمد. وتجوز
إلى موالي مواليهم لأنهم ليسوا من القوم ولا من مواليهم.
(وقال ابن عباس) رضي الله عنهما (إذا كان) لك (ذو قرابة) أي صاحب قرابة منك
وهم عشيرتك الأدنون. ويشمل الأصول والفروع والحواشي (لا تعولهم) أي تمونهم
(فاعطهم من زكاة مالك) ولعموم قوله "صدقتك على ذي الرحم صدقة وصلة" وفي
حديث زينب في الصدقة على أزواجهما وأيتام في حجورهما. فقال "لهما أجران أجر
القرابة وأجر الصدقة" متفق عليه.
قال شيخ الإسلام في دفع الزكاة إلى الوالدين والولد إذا
(2/198)
كانوا فقراء وهو عاجز عن الإنفاق عليهم
يجوز دفعها إليهم. وهو أحد القولين في مذهب أحمد. ويشهد له العمومات. وقال
الأقوى دفعها إليهم في هذه الحال. لأن المقتضي موجود. والمانع مفقود فوجب
العمل بالمقتضي السالم من المعارض المقاوم.
وقال إذا كان محتاجا إلى النفقة وليس لأبيه ما ينفق عليه ففيه نزاع.
والأظهر أنه يجوز له أخذ زكاة أبيه. وأما إن كان مستغنيا بنفقة أبيه فلا
حاجة به إلى زكاته. وفي الصحيح في الذي وضع صدقته عند رجل فجاء ولد المتصدق
فأخذها ممن هي عنده فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمتصدق "لك ما نويت"
وقال للآخذ "لك ما أخذت".
قال ابن رجب إنما يمنع من دفع زكاته إلى ولده خشية أن تكون محاباة. وإذا
وصلت إليه من حيث لا يشعر كانت المحاباة منتفية. وهو من أهل الاستحقاق.
وقال الشيخ إذا كانت الأم فقيرة ولها أولاد صغار لهم مال ونفقتها تضر بهم
أعطيت من زكاتهم. وإذا كان على الولد دين لا وفاء له جاز أن يأخذ النفقة من
زكاة أبيه في أظهر القولين في مذهب أحمد وغيره.
قال رضي الله عنه (وإن كنت تعولهم فلا تعطهم) فتكون صارفا لنفسك (ولا
تجعلها لمن تعول رواه الأثرم) وقد انعقد الإجماع: أنها لا تجزئ إلى أصله
وفرعه في حالة تجب عليه
(2/199)
نفقتهم. لأن ملك أحدها في حكم ملك الآخر.
وإذا كان كذلك لم يزل ملكه عنه. ومن شرط الزكاة زوال الملك. وقيل وسائر من
تلزمه نفقته لغناه بوجوب النفقة له. ولأن نفعها سيعود إلى الدافع وظاهر
المذهب وغيره ويجوز لما تقدم. واختاره الموفق والشيخ وهو مذهب أبي حنيفة
والشافعي. لوجود المقتضي. ودخولهم في العمومات. ولا نص ولا إجماع. وفي
الصحيح أن امرأة عبد الله سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبناء أخ
لها أيتام في حجرها افتعطيهم زكاتها قال "نعم" ولهذا لو دفع إليه شيئا في
غير مؤنته التي عوده إياها تبرعا جاز اتفاقا.
وكذا من تعذرت نفقته من زوج أو قريب بنحو غيبة أو امتناع اتفاقا. لوجود
المقتضي مع عدم المانع. وفي الصحيح "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم والأصل
عدم المانع. وتجوز إلى غير الوارث بلا نزاع. ولا يجزئ دفعها إلى غير أهلها.
وإن دفعها لمن ظنه غير أهل لها لم تجزئه لعدم جزمه بنية الزكاة حال دفعها
لمن ظنه غير أهل لها، أو دفعها لغير أهلها ظانا أنهم أهلها ككافر لم تجزئه
لكن قيل إلا لغني ظنه فقيرا لاعتقاده استحقاقه. والجمهور أنها لا تجزئه.
ويرجع عليه بها أو بقيمتها.
ويشترط لإجزائها تمليك المعطى. فلا يكفي إبراء فقير من
(2/200)
دينه. ولا حوالة بها. ولا يقضي منها دين
ميت غرم لمصلحة نفسه أو غيره. حكاه ابن عبد البر إجماعا. لعدم أهليته
لقبولها. وهذا مذهب الجمهور وقال شيخ الإسلام يوفى الدين عن الميت في أحد
قولي العلماء ولأن الله قال "والغارمين" ولم يقل وللغارمين فالغارم لا
يشترط تمليكه على هذا. وعليه يجوز الوفاء عنه. وأن يملك لوارثه ولغيره.
باب صدقة التطوع
الصدقة ما يعطى لوجه الله ديانة وعبادة محضة من غير قصد إلى شخص معين. ولا
طلب عوض من جهته وهي سنة كل وقت بإجماع المسلمين. لإطلاق الحث عليها في
الكتاب والسنة. وقال غير واحد من أهل العلم هي أفضل من الجاهد لا سيما إذا
كان زمن مجاعة على المحاويج. خصوصا صاحب العائلة. خصوصا القرابة. ومن الحج
لأنه متعد. والحج قاصر. وافضل من العتق لقوله لميمونة "لو أعطيتها أخوالك
كان أعظم لأجرك" متفق عليه وقد حث تعالى عليها في كتابه العزيز ورغب فيها -
صلى الله عليه وسلم - في غير ما حديث.
قال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
يعني أن التصدق خير لكم وأفضل. لأن في الثناء الجميل في الدنيا. والثواب
الجزيل في العقبى.
وقال: {وَآتَى الْمَالَ} أي أعطى المال {عَلَى حُبِّهِ} أي
(2/201)
أخرجه وهو محب له راغب فيه. وفي الصحيح:
"أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر" {ذَوِي
الْقُرْبَى} قرابات الرجل. وهم أولى من أعطى من الصدقة. للآيات وللأخبار
(الآية) وآخرها {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} يعني
المسافر {وَالسَّائِلِينَ} يعني الطالبين المعترضين للصدقات. وفي الخبر
"وإن جاء على فرس" (وَفِي الرِّقَابِ) وتقدم.
وقال {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي جوع. وقلبها قوله
تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فهلا أنفق ماله فيما يجوز به
العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين. وهو مثل ضربه الله لمجاهدة النفس
والهوى والشيطان في عمل الخير والبر. فجعله كالذي يفك من صعود العقبة أو لم
يحمل نفسه المشقة بعتق الرقبة. والإطعام (يتيما) أي أطعم في هذا اليوم
يتيما (ذا مقربة) اي قرابة بينه وبينه (أو مسكينا ذا متربة) أي فقيرا مدقعا
قد لصق بالتراب من فقره وضره. ليس له شيء وفي الحديث "من أعطم مؤمنا جائعا:
أطعمه الله من ثمار الجنة" {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي: برحمة الناس.
وفيه الإشارة إلى تعظيم أمر الله. والشفقة على خلق الله.
وقال {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} أي تظهروها والصدقات. ما يظهره الإنسان
على وجه القربة. فيدخل فيه الزكاة الواجبة.
(2/202)
وصدقة التطوع {فَنِعِمَّا هِيَ} أي فنعمت
الخصلة هي {وَإِنْ تُخْفُوهَا} أي تسروا الصدقة {وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَرَاءَ} في السر {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} يعني إخفاء الصدقة أفضل من
إعلانهاز وكل مقبول إذا كانت النية صادقة. ولكن السر أفضل.
واتفق العلماء على أن إخفاء صدقة التطوع أفضل وخير من إظهارها. لأن ذلك أبد
من الرياء. وأقرب إلى الإخلاص. وفيه بعد عما تؤثره النفس من إظهار الصدقة.
وفائدة ترجع إلى الفقير الآخذ. وهي أنه إن أعطي في السر زال عنه الذل
والانكسار. إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به.
فيكون أفضل من هذه الحيثية.
والأصل أن السر أفضل لهذه الآية وغيرها {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ} أي بالصدقات. ولا سيما إذا كانت سرا {وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} سواء كان سرا أو علانية. والآيات في فضل الصدقة
كثيرة. منها قوله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}.
وقال {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} وذلك أن معاذا وثعلبة سألا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من
أموالنا فنزلت {قُلِ الْعَفْوَ} يعني الفضل. وذلك أن لا يجهد مالك ثم تقعد
تسأل الناس. وفي الخبر "ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسك شر لك
ولا تلام على كفاف"
(2/203)
فمعناه التصدق عن ظهر غنى. حتى لا يبقى كلا
على الناس كما سيأتي.
قال {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي يقدمون المحاويج على أنفسهم
ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به. وفي الصحيحين أن رجلا جاء إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت
والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء.
ثم الأخرى مثل ذلك. ثم قال "من يضيفه يرحمه الله" فقال أبوطلحة أنا. فقال
لامرأته هل عندك شيء قالت لا. إلا قوت صبياني. قال علليهم بشيء ونوميهم.
فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل. ثم اطفئ السراج ففعلت.
فلما أصبح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "عجب الله من صنيعكما"
فنزلت الآية. ثم أثنى الله عليهم فقال {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فالذين أنفقوا الفضل قد لا يكون لهم إليه
حاجة. ولا ضرورة. وهؤلاء آثروا على أنفسهم لشدة ثقتهم ومن هذا المقام تصدق
الصديق بجميع ماله. ويأتي أنه يختلف باختلاف أحوال الناس.
(وفي الصحيحين) وغيرهما (من حديث أبي هريرة) أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) ولسعيد بن منصور من
حديث سلمان في ظل عرشه
(2/204)
(وذكر منهم رجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا
تعلم شماله ما تنفق يمينه) وفيه فضيلة المبالغة في الإخفاء وإبعاد الصدقة
عن مظان الرياء. وفضل الإخفاء على الإبداء إلا للاقتداء. والمرأة كالرجل.
فلا مفهوم له.
وبقية السبعة "الإمام العادل، وشاب نشأ في طاعة الله. ورجل معلق قلبه
بالمساجد. ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه. ورجل دعته
امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله. ورجل ذكر الله خاليا ففاضت
عيناه" ووردت خصال أخرى تقتضي الظل. أبلغها الحافظ ثمانيا وعشرين والسيوطي
سبعين. ولابن حبان والحاكم من حديث عقبة "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين
الناس".
ومن فوائد صدقة التطوع أنها تطفئ غضب الرب. وتدفع ميتة السوء. رواه الترمذي
وفي الصحيحين "إن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها حتى تكون مثل
الجبل" وإنها تكون توفية للزكاة إن وجدت في الآخرة ناقصة كما تقدم في
التطوع. وللحاكم من حديث ابن عمر "انظروا في زكاة عبدي فإن كان ضيع منها
شيئا فانظروا هل تجدون لعبد نافلة من صدقة لتتموا بها ما نقص من الزكاة"
وذلك من رحمة الله وعدله.
(وفيهما) أي في الصحيحين البخاري ومسلم (عن ابن
(2/205)
عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أجود الناس أي في جميع خصال الخير وأكثرهم جودا. لكونه مطبوعا على الجود
مجبولا على الإعراض عن متاع الدنيا "وكان أجود ما يكون في رمضان" فإن
الحسنة فيه بسبعين حسنة فيما سواه وللترمذي عن أنس مرفوعا "أي الصدقة أفضل"
أي أعظم أجرا قال "صدقة في رمضان".
وفيه إعانة على أداء الصوم المفروض. ومن فطر صائما كان له مثل أجره وكذا
الصدقة في العشرة والحرمين. وكل مكان وزمان فاضل. وفي شدة حاجة. لما روي
"أيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الهل من ثمار الجنة" وبطيب نفس أفضل.
وكذا في الصحة كما تقدم.
(ولأحمد عن أبي أيوب مرفوعا أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" أي العدو
المضمر للعداوة. الطاوي عليها كشحه أي باطنه. والذي يطوي عنك كشحه ولا
يألفك. وتقدم أنها "على ذي الرحم صدقة وصلة" فمع العداوة هي أفضل منها على
ذي الرحم غير الكاشح. لما فيه من قهر النفس للإذعان لمعاديها. وهذا الحديث
صححه ابن طاهر وأقره المنذري والحافظ. ونحوه عند أبي داود والترمذي من حديث
أبي سعيد. والطبراني عن أم كلثوم بنت عقبة. ورجاله رجال الصحيح.
(2/206)
(وعن حكيم بن حزام أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال اليد العليا) وهي المعطية (خير من اليد السفلى) وهي
السائلة وروي "اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ" فالأيدي اثنتان: معطية
عليا. وسائلة سفلى. وباعتبار الأيدي أربعا: يد المعطي وتضافرت الأخبار
بأنها عليا. ويد السائل وتضافرت بأنها سفلى. أخذت أم لا. ويد المتعفف عن
الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلا فهي عليا علوا معنويا.
ويد الآخذ بغير سؤال قيل سفلى نظرا إلى المحسوس. وأما المعنوي فلا يطرد.
فقد تكون عليا في بعض الصور. وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا إذ محال
أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل سفلى باستعماله. دون من فرض عليه
إتيان الشيء فأتى به فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل من الذي يعطي. فأعلى
الأيدي المنفقة ثم المتعففة. عن الأخذ. ثم الآخذة بلا سؤال. وأسفل الأيدي
المانعة والسائلة.
(وابدأ) أيها المتصدق (بمن تعول) أي تمون ممن تلزمك نفقته فقدمه على التصدق
على غيرهم. تقديما للواجب على المندوب وفيه البداءة بالأهم فالأهم. فيبدأ
بنفسه وعياله. كما يأتي لأنهم الأهم (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي
عفوا قد فضل عن غنى أو فضل عن العيال. والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا
للكلام. وتمكينا. كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوي من المال.
(2/207)
فدل على أن افضل الصدقة ما بقي صاحبها بعد
إخراجها مستغنيا. إذ معنى أفضل الصدقة ما أبقى المتصدق من ماله ما يستظهر
به على حوائجه ومصالحه. فالاختيار للمرء أن يتبقى لنفسه قوتا. وأن لا ينخلع
من ملكه أجمع مرة واحدة لما يخاف عليه من فتنة الفقر. وشدة نزاع النفس إلى
ما خرج من يده فيندم ويذهب ماله ويبطل أجره. ويصير كلا على الناس.
بل يأثم إن تصدق بما ينقص مؤنة تلزمه لتركه الواجب. أو بما يضر بنفسه أو
غريمه أوكفيله في مال أو بدن. لقوله - صلى الله عليه وسلم - "كفى بالمرء
إثما أن يضيع من يفوت" رواه أبو داود. وقال ابن الجوزي الأولى أن يدخر
لحاجة تعرض. وأنه قد يتفق له مرفق فيخرج: ما في يده فينقطع مرفقه فيلاقي من
الضراء ومن الذل ما يكون الموت دونه. فلا ينبغي لعاقل أن يعمل بمقتضى
الحال. بل يصور كلما يجوز وقوعه. وأكثر الناس لا ينظر في العواقب. وقد تزهد
خلق كثير فأخرجوا ما بأيديهم. ثم احتجاجوا. فدخلوا في مكروهات.
والحازم من يحفظ ما في يده. والإمساك في حق الكريم جهاد. كما أن إخراج ما
في يد البخيل جهاد. وقال غير واحد نحن في زمان من احتاج فأول ما يبذل دينه.
وأما من أراد أن يتصدق بماله كله وله عائلة لهم كفاية. أو يكفيهم بكسبه
استحب له ذلك. لأن أبا بكر جاء بجميع ماله. فقال له رسول
(2/208)
الله - صلى الله عليه وسلم - "ما أبقيت
لأهلك" قال الله ورسوله. وكان تاجرا ذا كسب.
أو كان وحده ويعلم من نفسه حسن التوكل. واثقا بما عند الله. آيسا مما في
أيدي الناس استحب له. قال القاضي وغيره عند جمهور العلماء وأئمة الأمصار.
لقوله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وإلا حرم عليه ذلك. ويمنع منه.
ويحجر عليه لتبذيره. ولو تبرع بماله بحيث لا يبقى لأهل الحقوق ما يستوفونه
فهو باطل في أحد قولي العلماء. من جهة أن قضاء الدين واجب ونفقة الولد
كذلك.
فيحرم عليه أن يدع الواجب ويصرفه فيما لا يجب فيرد إلى ملكه. ويصرف في قضاء
دينه. ونفقة ولده. وعن جابر: جاء رجل بمثل بيضة من ذهب. وقال خذها ما أملك
غيرها. قال "فحذفه بها" وقال "يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة. ثم يقعد
يتكفف الناس. خير صدقة ما كان عن ظهر غنى" رواه أبو داود.
(ومن يستعفف) أي من يطلب من نفسه العفة ويتكلفها. ويكف عن سؤال الناس. أو
يطلب العفة من الله
(يعفه الله) أي يعطيه إياها ويعنيه عليها. ويجعله عفيفا والعفة الحفظ عن
المناهي (ومن يستغن) بما عنده وإن قل:
وعما في أيدي الناس (يغنه الله) بإلقاء القناعة في قلبه.
(2/209)
والقنوع بما عنده. وهي الكنز الذي لا يفنى
ويعطيه الله من فضله. ومن يظهر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس والتعفف عن
السؤال حتى يحسبه الجاهل غنيا من التعفف يغنه الله فيجعله غني القلب (متفق
عليه) وفي الخبر "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس".
(وعن أبي هريرة مرفوعا) قيل يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال (أفضل الصدقة
جهد المقل رواه أبو داود) الجهد بضم الجيم وسكون الهاء الوسع والطاقة.
وبالفتح المشقة. والمراد قدر ما يحتمله قليل المال. كما في حديث "سبق درهم
ألف درهم" رجل له درهما تصدق بأحدهما. ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه ألف
درهم فتصدق بها. لدلالة المقل على الثقة بالله. والزهد في الدنيا.
فصدقته أفضل الصدقة. وهو أفضل الناس. وإذا صدقت نية العبد وقصده رزقه الله
وحفظه من الذل. ودخل في قوله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وجمع البيهقي
وغيره بين الحديثين أن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في الصبر على الفاقة
والشدة والاكتفاء بأقل الكفاية.
(وله عنه) أي لأبي داود عن أبي هريرة (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال
تصدقوا) فحث على الصدقة ورغب فيها (فقال
(2/210)
رجل عندي دينار) أي أريد أن أتصدق به وهو
مثقال من الذهب مضروبا كان أو غير مضروب (قال تصدق به على نفسك) ففيه أن
النفقة على النفس صدقة. وأنه يبدأ بها (قال عندي آخر) أي دينار آخر (قال
تصدق به على ولدك) ففيه تقديم الولد على من بعده لشدة افتقاره إلى النفقة.
ولأنه بعض منه ولاسيما إذا كان صغيرا ونحوه.
قال أبو قلابة وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم. أو
ينفعه الله بهم ويغنيهم. ولمسلم "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على
عياله" (قال عندي آخر قال تصدق به على خادمك" إن كان مملوكا أو مطلق من
يخدمه (قال عندي آخر قال أنت أبصر) أي اعلم إن شئت تصدقت به وإن شئت أمسكت.
وتقدم تقديم الأهم فالأهم. رواه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم ولم يذكر
في الحديث الزوجة "وقدم في صحيح مسلم الزوجة على الولد" من حديث جابر ولفظه
"ابدأ بنفسك فتصدق عليها. فإن فضل شيء فأهلك. فإن فضل شيء فلذي قرابتك"
ويأتي تقديمها في النفقات إن شاء الله تعالى.
(وله) أي مسلم في صحيحه (عن أبي هريرة مرفوعا من يسأل الناس أموالهم تكثرا)
اي قصدا للجمع من غير حاجة
(2/211)
(فإنما يسأل جمرا) أي فإن الذي يسأل يصير
جمرا يكوى به كما في مانع الزكاة (فليستقل أوليستكثر) أي من جمر جهنم. ففيه
أن سؤال التكثر محرم. والنهي عن السؤال أكثر من أن يحصر. وتقدم طرف منه.
ومنه "لا يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم"
متفق عليه.
(وللبخاري عن الزبير مرفوعا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (لأن
يأخذ أحدكم حبله فيحتطب) وفي لفظ "فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف
بها وجهه (خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) وفي لفظ لهما من حديث
أبي هريرة "فيبيعها فيستغني بها عن الناس خير له" الخ. ولو أدخل على نفسه
المشقة. وذلك لما يدخل السائل على نفسه من ذل السؤال. وذلة الرد إن لم يعط.
ودل الحديث وما قبله على قبح السؤال مع الحاجة. وزاد بالحث على الاكتساب.
ومن له قدرة على الكسب فصحح بعضهم أنه حرام للأخبار. وكرهه بعضهم بشروط. أن
لا يذل نفسه ولا يلح في السؤال ولا يؤذي المسؤول فإن فقد أحدها حرم اتفاقا.
وعن سمرة مرفوعا "إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل
سلطانا" لأن لكل حقا في بيت المال. وإنما السلطان وكيل "أو في أمر لا بد
منه" نسأل الله السلامة.
(2/212)
ولأحمد عن خالد بن عدي مرفوعا "من بلغه
معروف من أخيه عن غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله. ولا يرده. فإنما هو رزق
ساقه الله إيه" وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا "إذا جاءك من هذا المال شيء
وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه. وما لا فلا تتبعه نفسك" وفي المال حقوق سوى
الزكاة: نحو مواساة قرابة وصلة إخوان. وإعطاء سائل. وإعارة محتاج. نحو دلو
وركوب ظهر. وإطراق فحل.
قال الشخ وإعطاء السائل فرض كفاية إن صدق. وقال القرطبي اتفق العلماء علىنه
إذا نزل بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال
مالك يجب على الناس فداء أسرهم. وإن استغرق ذلك أموالهم. وفي الإقناع وغيره
وإطعام الجائع ونحوه واجب إجماعا مع أنه ليس في المال حق واجب سوى الزكاة
اتفاقا. لكن ما يعرض لجائع وعار ونحوهما فيجب عند وجود سببه.
(2/213)
|