الإحكام شرح أصول الأحكام

جمع الفقير إلى الله تعالى
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
الحنبلي النجدي
رحمه الله تعالى
(1312 - 1392 هـ)

المُجَلّد الثَّاني

(2/3)


بسم الله الرحمن الرحيم

(2/4)


كتابُ الجَنَائِز
أي صفة عيادة المريض وتلقينه وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وغير ذلك وأحكام ذلك. والجنائز بفتح الجيم جمع جنازة بكسرها اسم للميت أو للنعش عليه ميت وإلا فسرير.
وأتبع الصلاة لأن الصلاة على الميت من أهم ما يفعل بالميت كما يأتي وإلا فحقه أن يذكر بين الوصايا والفرائض وأفرد وأخر لمغايرتها لمطلق الصلاة نظرا لتلك المغايرة فإنها ليست صلاة من كل وجه ولتعلقها بآخر ما يعرض للحي وهو الموت.
وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - في الجنائز أكمل الهدي مخالفا لهدي سائر الأمم. مشتملا على إقامة العبودية لله تعالى على أكمل الأحوال وعلى الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده من عيادة وتلقين وتطهير وتجهيز إلى الله تعالى إلى أحسن أحواله وأفضلها. فيقفون صفوفا على جنازته يحمدون الله ويثنون عليه ويصلون على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويسألون للميت المغفرة والرحمة والتجاوز. ثم على قبره يسألون له التثبيت. ثم الزيارة إلى قبره

(2/5)


والدعاء له كمايتعاهد الحي صاحبه في الدنيا ثم بالإحسان إلى أهله وأقاربه وغير ذلك.
قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ} وهو مفارقة الروح الجسد وليس بإفناء وإعدام {وَالْحَيَاةَ} أوجد الخلائق من العدم وقدم الموت لأنه إلى القهر أقرب. أو لأنه أقدم ولما مجد تعالى نفسه وأخبر أنه بيده الملك وأنه المتصرف في جميع خلقه وعلى كل شيء قدير وأنه الذي خلق الموت والحياة أوضح لنا الحكمة في ذلك فقال {لِيَبْلُوَكُمْ} يختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي خيرا وأزكى وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعته.
قال الفضيل: أيكم أحسن عملا أخلصه وأصوبه أو قال: العمل لا يكون خالصا حتى يكون لله. ولا يكون صوابا إلا إذا كان على السنة. ولا يقبل يكون خالصًا صوابًا ولا بن أبي حاتم من حديث قتادة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دارة جزاء ثم دار بقاء وهو العزيز في انتقامه ممن عصاه الغفور لمن تاب إليه".
وقال: {لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي كونوا على الإسلام فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك وأول الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} بأداء ما يلزمكم على

(2/6)


قدر طاقتكم كقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فمن اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته. فإذا جاء الأجل إذا أنتم مسلمون مؤمنون مخلصون مفوضون أموركم إلى الله محسنون الظن به.
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه" رواه أحمد وغيره. ويأتي قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح "لايموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" وقال تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وفي هذه الآيات وغيرها الحض على التأهب للموت قبل نزوله. وفي الحديث "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".
(وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكثروا
ذكر هاذم اللذات الموت) أي قاطع اللذات ومفرق
الجماعات بعد رغد عيشهم. وميتم البنين والبنات بعد
عزهم بوالديهم (رواه الخمسة) بأسانيد صحيحة وصححه
ابن حبان والحاكم وابن السكن وابن طاهر وغيرهم وله
شواهد. وهو دليل على أنه لا ينبغى للإنسان أن يغفل عن
ذكر أعظم المواعظ وهو الموت فكفى به واعظا.

(2/7)


وفيه (فإنكم لا تذكرونه في كثير إلا قلله) ففي كثرة ذكره قصر الأمل وانتظار الأجل "ولا ذكر في قليل إلا كثره) لاستقلال ذاكره ما بقي من عمره لأن قليل الدنيا إذا علم انقطاعه بالموت استكثره ما عنده. وللديلمي "أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيا الله قلبه وهون عليه الموت" ولابن حبان وغيره "أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكره عبد قط في ضيق إلا وسعه ولا في سعة إلا ضيقها".
فإنه لا بد للإنسان في هذه الدار من ضيق وسعة.
ونعمة ونقمة. فيحتاج إلى ذكر الموت لينخفض عنه بعض ما هو فيه من صعوبة الشدة وغفلة النعمة. وروي من حديث أنس "أكثروا ذكر الموت فإن ذلك تمحيص للذنوب وتزهيد في الدنيا" ولابن أبي الدنيا "فإنه يمحق الذنوب ويزهد في الدنيا فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم" وللترمذي وغيره عن ابن مسعود "وليذكر الموت والبلى" ولابن ماجه وغيره بسند جيد سئل أي الناس أكيس وأحزم؟ قال: أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة".
ودلت هذه الأحاديث ونحوها على تأكد سنية الإكثار من ذكر الموت لأنه أدعى إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي
وإلى الاستعداد له بالمبادرة إلى التوبة من المعاصي
والخروج من المظالم لئلا يفجأه الموت بغتة.

(2/8)


(وعن أنس مرفوعا "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) من بلاء ومحنة أو خشية من عدو أو مرض أو فاقة أو نحوها من مشاق الدنيا لما في ذلك من الجزع وعدم الصبر على القضاء وعدم الرضا. والخبر خرج مخرج العالب لأن المرء لايتمنى الموت إلا من ضر. فيكره تمنيه ولو لغير ضر أصابه. ولهما "لا يتمنين أحدكم الموت إما محسنا فلعله أن يزداد وإما مسيئا فلعله أن يستعتب" ولمسلم "لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به قبل أن يأتيه. إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا".
ولأحمد وغيره: "إن من السعادة أن يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الإنابة". وعن بعض السلف: إن كان من أهل الجنة فالبقاء خير له. وإن كان من أهل النار فما يعجله إليها. ولما في التمنى المطلق من الاعتراض ومراغمة القدر. والمرض ونحوه كفارة له. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" وقال "ما من شئ يصيب المؤمن إلا يكفر الله به عنه سيئاته ".
وهو موعظة في المستقبل إلا لضرر في دينه من خوف وقوع في فتنة ونحوها فلا يكره فإن الخبر يرشد إلى أنه لا بأس به بل يستحب. وفي الحديث "وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" صححه الترمذي وغيره ولقوله تعالى {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقوله {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} ويستحب تمني

(2/9)


الشهادة لا سيما عند حضور أسبابها لما في الصحيح وغيره "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء".
(فإن كان لا بد) أي لا محالة (متمنيا) وفي لفظ "فاعلا" (فليقل) بدلا عن لفظ التمنى (اللهم أحينى إذا كانت الحياة خيرا لي) أي من الموت. وهو أن تكون الطاعة غالبة على المعصية (وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) أي من الحياة بأن يكون الأمر عكس ما تقدم (متفق عليه) والأولى أن لا يفعل. وعن عمار مرفوعًا "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينى إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي" رواه أحمد وغيره.
وهذا الحديث ونحوه يدل على وجوب الصبر وحكاه الشيخ وغيره إجماعا: فإن الثواب في المصائب معلق على الصبر عليها. وأما الرضى: فمنزلة فوق الصبر. فإنه يوجب رضى الله عز وجل. والصبر حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التشكي. والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر. بل مطلوبة شرعا مندوب إليها اتفاقا.
ومن شكا إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله لم يكن ذلك جزعا لقوله (مسني الضر) وقوله عليه السلام "أجدني مغموما" و"أنا وارأساه"، "كما يوعك رجلان منكم" ونحو

(2/10)


ذلك مما يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من المصائب وإذا كانت مما يمكن كتمانه فكتمانها من أعمال الله الخفية.
وذكر الشيخ أن عمل القلب من التوكل وغيره واجب باتفاق الأئمة. وفي الصحيحين "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" فيحسن العبد ظنه بربه عند إحساسه بلقاء الله بأن يغفر له ويرحمه لئلا يكره الله لقاءه ويتدبر ما ورد في الآيات والأحاديث من كرم الله وعفوه ورحمته وما وعد به أهل توحيده وطاعته. وفي الصحيح "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" وفيهما "أنا عند ظن عبدي بي" ولأحمد "فليظن بي خيرا".
ويسن لمن عند المريض ونحوه تحسين ظنه وتطميعه في رحمة ربه ويذكر له الآيات والأحاديث في الرجاء وينشطه لذلك وقيل بوجوبه إذا رأى منه إمارات اليأس والقنوط لئلا يموت على ذلك فيهلك فهو من النصيحة الواجبة. ويغلب الرجاء لقوله {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} قال إبراهيم: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته ليحسن ظنه بربه بخلاف الصحة يغلب الخوف ليحمله على العمل.
ونص أحمد: يكون خوفه ورجاؤه واحدا فأيهما غلب على صاحبه هلك قال الشيخ هذا العدل لأن من غلب عليه حال

(2/11)


الخوف أوقعه في نوع من اليأس. ومن غلب عليه الرجاء أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله والرجاء بحسب رحمة الله يجب ترجيحه. وأما الخوف فيكون بالنظر إلى تفريط العبد. وينبغي للمريض أن يشتغل بنفسه وما يعود عليه ثوابه.
(ولهما عن ابن مسعود قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) فدل الحديث على تحريم التداوي بمحرم مأكولا كان أو غيره. وهو مذهب جماهير العلماء ولأبي داود عن أبي الدرداء مرفوعا "إن الله أنزل الداء والدواء. وجعل لكل داء دواء. فتداووا ولا تداووا بحرام" ولأحمد وغيره "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث" وفي صحيح مسلم في الخمر "إنه ليس بدواء ولكنه داء".
ويحرم التداوي بسم ونحوه لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ويدخل فيما تقدم ترياق فيه لحوم حيات أو ضفدع. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الضفدع لذلك. وقال شيخ الإسلام وغيره في التلطخ بالخمر ونحوه ثم يغسله بعد ذلك. الصحيح أنه يجوز للحاجة كما يجوز استنجاء الرجل بيده وإزالة النجاسة بيده. وكلبس الحرير للتداوي به لا ما أبيح للضرورة كالمطاعم الخبيثة فلا يجوز التداوي بها وذكر الدليل والتعليل في غير موضع.
ويحرم بصوت ملهاة وغيره كسماع الغناء، ويجوز ببول

(2/12)


مأكول اللحم لقصة العرنيين وتحرم التميمة وهي: عوذ أو خرز أو خيوط ونحوها يتعلقها، لقوله عليه الصلاة والسلام "من تعلق تميمة فلا أتم الله له) وفي رواية "من تعلق تميمة فقد أشرك" ولا بأس بكتب قرآن وذكر في إناء ثم يسقى منه مريض وحامل لعسر ولادة.
ويباح التداوي بمباح إجماعا. ولا يجب عند جمهور العلماء. ولو ظن نفعه واختار القاضي وغيره فعله وفاقا لأكثر الشافعية. وعند الحنفية أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب.
ومذهب مالك أن التداوي وتركه سواء. والمشهور في مذهب أحمد وغيره أن تركه أفضل لأنه أقرب إلىلتوكل لحديث السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون. ولا يكتوون. ولا يتطيرون. وعلى ربهم يتوكلون.
وصفهم بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم. أن يرقيهم لرضاهم عنه. وثقتهم به. وصدق الالتجاء إليه. وإنزال حوائجهم به تعالى. واعتماد قلوبهم عليه. مع أن مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه غير قادح في التوكل فلا يكون تركه مشروعا لحديث "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" كما أنه لا يقدح فيه دفع ألم الجوع والعطش.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "حق المسلم على المسلم خمس) والمراد الحق الذي لا ينبغي تركه ويكون فعله

(2/13)


إما واجبا وإما مندوبا مؤكدا شبيها بالواجب الذي لا ينبغي تركه وفي لفظ "خمس" تجب للمسلم على أخيه (وذكر) من الخمس (عيادة المريض متفق عليه) وهي سنة إجماعا حكاه النووي وغيره.
وقال شيخ الإسلام الذي يقتضيه النص وجوب عيادة المريض. كرد السلام وأوجبها البخاري وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما. والسنة تدل على أنها واجبة أو سنة مؤكدة شبيهة بالواجب. ففي الصحيح "عودوا المريض" ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب. قال الحافظ يعني على الأعيان وعامة في كل مرض ولعل المراد مرة ويسن أكثر لقصة سعد فيقال هو واجب على الكفاية. أو في حق بعض دون بعض. ولابن ماجه بالمعروف أي يأتي به على الوجه المعتاد عرفًا.
ويعاد من كل مرض. وكان عليه الصلاة والسلام "يعود من الرمد وغيره" قال ابن القيم في عيادته - صلى الله عليه وسلم - زيد بن أرقم من وجع كان بعينه فيه رد على من زعم أنه لا يعاد من الرمد وعللوه بأنه يرى في بيته ما لا يراه وهذا باطل من وجوه اهـ، ويغيب بها عند الأكثر والأوجه أنها تختلف باختلاف حال الناس والعمل بالقرائن وظاهر الحال ونحو قريب ومن يشق عليه عدم رؤيته كل يوم يسن لهم المواصلة ما لم يفهموا كراهيته.
ومن أول المرض لخبر "إذا مرض فعده" قال ابن القيم

(2/14)


وغيره لم يخص - صلى الله عليه وسلم - يوما من الأيام ولا وقتا من الأوقات بعيادة بل في سائر الأوقات. ولا يطيل الجلوس في الجملة. ويعمل بالقرائن، وظاهر الحال، وورد في فضلها آثار كثيرة منها ما رواه مسلم وغيره "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في مخرفة الجنة" أي في اجتناء ثمارها حتى يرجع وورد عن أكثر من عشرة من الصحابة مرفوعا "من عاد مريضا خاض في الرحمة حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح" وهو عند الخمسة وغيرهم.
ونص أحمد وغيره لا يعاد المبتدع والداعية فقط. وفي النوادر تحرم عيادة المبتدع ومن جهر بالمعصية. ومن فعل بحيث يعلم جيرانه ولو في داره فمعلن. والمستتر من لا يعلم به غالبا إما لبعد أو نحوه غير من حضره واعتبر الشيخ المصلحة في ذلك. وقال في عيادة النصراني: لا بأس بها فإنه قد يكون في ذلك مصلحة لتأليفه على الإسلام وعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - يهوديا فأسلم. وعاد عمه وهو مشرك.
ويسن السؤال عن حاله ويقول: كيف تجدك؟ ويسأل عما يشتهيه ويخبره المريض بما يجده بلا شكوى. ويأخذ الزائر بيده ويقول: لا باس طهور إن شاء الله. وينفس له في أجله لما رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما "إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله. فإن ذلك لا يرد شيئا". وإنما هو تطييب لنفسه.

(2/15)


وإدخال السرور عليه. وتخفيف لما يجده من الكرب وقيل لهارون وهو عليل: هون عليك وطيب نفسك فإن الصحة لا تمنع من الفناء والعلة لا تمنع من البقاء فقال والله لقد طيبت نفسي. وروحت قلبي.
ويسن أن يدعو له لما ورد كما في صحيح مسلم أنه دعا لسعد "اللهم اشف سعدا" ثلاثًا وكان أحيانا "يضع يده على جبهة المريض ثم يمسح صدره وبطنه ويقول: "اللهم اشفه ويمسح بيده اليمنى على المريض ويقول أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" متفق عليه ولأحمد أنه قال "ما من مسلم يعود مريضا لم يحضره أجله فيقول سبع مرات: أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عوفي".
وعاد جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "باسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك" رواه مسلم وكان يرقي عليه السلام من به قرحة أو جروح أو شكوى فيضع سبابته بالأرض ثم يرفعها فيقول "بسم الله بتربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا" متفق عليه ولهما أنه كان ينفث على نفسه. وقال لعثمان بن أبي العاص "ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا. وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر".

(2/16)


ويسن أن يذكره التوبة لأنه أحوج إليها من غيره لنزول مقدمات الموت به. ويذكره الخروج من المظالم لأنه شرط لصحة التوبة. ويذكره الوصية ويرغبه فيها. ولو كان مرضه غير مخوف لأن ذلك مطلوب حتى من الصحيح. وذهب بعضهم إلى وجوبها. والجمهور على استحبابها في المتبرع به. وأما بأداء الديون ورد الأمانات ونحو ذلك مما يتوقف على الإيصاء به فواجب عليه.
وينبغي له أن يحرص على تحسين خلقه. وأن يجتنب المخاصمة والمنازعة في أمور الدنيا. وأن يستحضر في ذهنه أن هذا آخر أوقاته في دار العمل فيختمها بخير. ويستحل أهله وجيرانه ومن بينه وبينه معاملة. ويوصي أهله بالصبر عليه والدعاء له.
(ولمسلم) والخمسة وغيرهم عنه مرفوعا "لقنوا موتاكم" أي ذكروهم عند الاحتضار (لا إله إلا الله) ولابن عدي "أكثروا من لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها. ولقنوها موتاكم" أي لتكون آخر كلامهم وروي من حديث عطاء عن أبيه عن جده "من لقن عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة" ولأحمد وغيره عن معاذ مرفوعا "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" ولمسلم "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" وله "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" ولابن أبي حاتم من حديث

(2/17)


حذيفة "فإنها تهدم ما قبلها من الخطايا".
وسماهم موتى باعتبار ما يؤولون إليه. والمراد من قرب منه الموت. ولا يقال له قل بل يتشهد عنده ليقولها فيموت عليها فتنفعه بحصول ما وعده الله عليها. ولأن تلك حالة يتعرض فيها الشيطان لإفساد اعتقاد الإنسان فيحتاج إلى مذكر له. ومنبه على التوحيد. والتلقين سنة مؤكدة مأثورة عمل بها المسلمون وأجمعوا عليها وعلى القيام بحقوق الميت واستفاض من غير وجه. في الصحيحين وغيرهما أن قول لا إله إلا الله من موجبات دخول الجنة من غير تقييد بحال الموت فبالأولى إذا كان في وقت لا تعقبه معصية. وإن لم يجب أعاد تلقينه برفق إجماعا ليكون آخر كلامه الشهادة. وفي قصة أبي طالب فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه.
ويسر التلقين برفق لأنه مشغول بما هو فيه فربما حصل له التأذي به إذا كان بعنف. ويسن تعاهد أرفق أهله وأتقاهم وأعرفهم بمدارات المريض ببل حلقه بماء. أو شراب. فيجرع الماء والشراب إن ظهرت أمارة تدل على احتياجه له. كأن يهش إذا فعل به ذلك لأن العطش يغلب عند شدة النزع. وقبض الروح.
ويندي شفتيه بقطنة لأن ذلك يطفئ ما نزل به من الشدة. ويسهل عليه النطق بالشهادة. وأجمع أهل العلم على

(2/18)


وجوب الحضور عنده لتذكيره وتأنيسه. وتغميضه والقيام بحقوقه كما هو ظاهر الحديث. ويستحب لأهل المريض ومن يخدمه الرفق به واحتمال الصبر على ما يشق من أمره. وكذا من قرب موته بسبب حد أو قصاص أو نحوهما لقوله عليه الصلاة والسلام لولى التي زنت "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها"
(ولأبي داود عن معقل) بن يسار بن عبد الله المزني حفر نهر معقل بالبصرة بأمر عمر فسمي به ومات في آخر خلافة معاوية رضى الله عنهما (مرفوعا) يعنى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (اقرءوا على موتاكم يس) بسكون النون على الحكاية ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه وأعله الدارقطني وابن القطان. وقال أحمد حدثنا صفوان قال كانت المشيخة يقولون إذا قرئت يس عند الموت خفف عنه بها. وفي الفردوس عن أبي الدرداء وأبي ذر مرفوعا "ما من ميت يموت فتقرأ عنده يس إلا هون الله عليه".
وذكر ابن القيم رواية: "عند موتاكم" أي من حضره الموت منكم لأن الميت لا يقرأ عليه. وقال ابن حبان المراد من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه. وقال شيخ الإسلام القراءة على الميت بعد موته بدعة. بخلاف القراءة على المحتضر فإنها تستحب بيس وقيل الحكمة في قراءتها: اشتمالها على أحوال القيامة وأهوالها، وتغير الدنيا وزوالها ونعيم الجنة وعذاب جنهم

(2/19)


فيتذكر بقراءتها تلك الأحوال الموجبة للثبات.
(وأوصى البراء) بن معرور الأنصاري الخزرجي السلمي أول من بايع واستقبل القبلة حيا وعند وفاته ما تقبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهر فأوصى عند وفاته (أن يوجه إلى القبلة إذا احتضر فقال - صلى الله عليه وسلم - أصاب السنة) وفي رواية أصاب الفطرة ثم صلى عليه وقال "اللهم اغفر له وأدخله الجنة" (صححه الحاكم) محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حمدويه الضبي النيسابوري الشافعي الحافظ سمع من نحو ألفي شيخ مات سنة خمس وأربعمائة ورواه البيهقي وغيره.
وقال الحاكم لا أعلم في توجيه المحتضر غيره. وأمر حذيفة أصحابه عند موته أن يوجهوه إلى القبلة وروي عن فاطمة وغيرها ويأتي ما رواه أبو داود وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال عن البيت الحرام "قبلتكم أحياء وأمواتا" ولا نزاع في توجيه المحتضر إلى القبلة بل العمل عليه خلفا عن سلف. وعلى جنبه الأيمن أفضل إن كان المكان واسعا وهو مذهب الجمهور.
وفي الصحيحين وغيرهما: "إذا أخذت مضجعك فتوضأ ثم اضطجع على شقك الأيمن" وفيه "فإن مت من ليلتك
فأنت على الفطرة" وغيره مما فيه إشارة إلى أن يكون المحتضر على تلك الهيئة وإن ضاق المكان فعلى ظهره مستلقيا
ورجلاه إلى القبلة كوضعه على مغتسله. وعند أكثر

(2/20)


أصحاب الأئمة وغيرهم. وهو رواية عن أحمد أنه يوجه مستلقيا على قفاه. سواء كان المكان واسعا أو ضيقا لأنه أيسر لخروج الروح. وندي شفتيه وتغميضه وشد لحييه وأمنع من تقويس أعضائه. وقال جماعة ويرفع رأسه قليلا ليصير وجهه إلى القبلة.
(وعن أم سلمة قالت دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة" بن عبد الأسد الأسدي هاجر إلى الله ورسوله وتوفي سنة أربع فدخل عليه (وقد شق بصره) بفتح الشين يقال شق الميت بصره إذا حضره الموت وصار ينظر إلى شئ لا يرتد عنه طرفه (فأغمضه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه مسلم) والحديث دليل على استحباب تغميض بصره إذا مات وهذا بإجماع المسلمين وذكر أبو داود أن أبا ميسرة غمض جعفرا المعلم في حالة الموت فرآه في منامه يقول. أعظم ما كان علي تغميضك لي قبل الموت. وفيه أن الأرواح أجسام هوائية لطيفة وليست بعرض.
ولأحمد عن شداد مرفوعا "إذا حضرتم الميت فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح" ولأنه إذا لم تغمض العينان
بقيت مفتوحة فيقبح منظره ويساء به الظن. وفي حديث
أم سلمة: قال صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر لأبي سلمة. وارفع درجته في المهديين. واخلفه في عقبه في الغابرين.
واغفر لنا وله يا رب العالمين. وأفسح له في قبره ونور
له فيه" فينبغى أن يقال نحو ذلك وفيه:

(2/21)


"لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" وفي حديث شداد "وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت" ويقول حال تغميضه "بسم الله وعلى وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لما رواه البيهقي وغيره عن بكر بن عبد الله المزني ولفظه "وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
ويسن إذا مات شد لحييه بعصابة ونحوها تجمع لحييه ويربطها فوق رأسه لئلا يبقى فمه مفتوحا. ويتشوه خلقه وتدخله الهوام. وقال عمر لما حضرته الوفاة لابنه عبد الله: إذا رأيت روحي بلغت لهاتي. فضع كفك اليمنى على جبهتى واليسرى تحت ذقنى وينبغى تليين مفاصله عقب موته ليسهل تغسيله فإن شق تركه.
(ولهما عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي سجي) أي غطي جميع بدنه صلوات الله وسلامه عليه (ببرد حبرة) وزن عنبة ويجوز إضافة البرد إلى الحبرة ووصفه بها والحبرة ما كان لها أعلام. والتسجية مستحبة إجماعا بعد نزع الثياب التي توفي فيها لئلا يتغير بدنه بسببها. والحكمة صيانته من الانكشاف وستر عورته المتغيرة عن الأعين. قال الجوهري: سجيت الميت إذا مددت عليه ثوبا.
وكانت وفاته - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين بعد أن زاغت الشمس لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة عشر. ودفن صلوات الله

(2/22)


وسلامه عليه ليلة الأربعاء وله ثلاث وستون سنة. منه أربعون قبل النبوة وسيرته - صلى الله عليه وسلم - وشرفه ملء النفوس والمكاتب. وتولى غسله ودفنه علي والعباس وأسامة. وقيل: والفضل وشقران.
ويسن وضع حديدة أو نحوها على بطنه فوق ثوبه المسجى به. قال أنس: ضعوا على بطنه شيئا من حديد لئلا ينتفخ بطنه ويقبح منظره. وقدر بعضهم ما يوضع عليه بقدر عشرين درهما. ويوضع على سرير غسله ليرتفع عن الهوام ونداوة الأرض منحدرا نحو رجليه لينصب عنه ما يخرج منه.
(وعن الحصين) بن وحوح الأنصاري قال البخاري: له صحبة قال ابن السكن: قتل بالعذيب (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لاينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني) زيد فيه الألف والنون تأكيدا وفي لفظ "أظهر" وفي لفظ "ظهري" (أهله) وذلك أن طلحة بن البراء الأنصاري مرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقال "إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا" الحديث (رواه أبو داود) ولأحمد وغيره عن علي نحوه.
ويشهد له أحاديث الحث على الإسراع بالجنازة وأجمع العلماء على سنية الإسراع في تجهيزه إن مات غير فجأة وسماه جيفة لما يؤول إليه حاله. والجيفة جثة الميت إذا أنتن فالإسراع

(2/23)


في تجهيزه أحفظ له وأصون من التغير وإن كان صالحا فخير يقدم إليه كما سيأتي. وقال أحمد: كرامة الميت تعجيله ولا بأس أن ينتظر به من يحضره من ولي أوغيره إن كان قريبا ولم يخش عليه أو يشق على الحاضرين.
ولا بأس بتقبيله والنظر إليه بعد تكفينه. قالت عائشة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل عثمان بن مظعون. وقبل جابر أباه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولتقبيل أبي بكر له - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر فكان إجماعا. ويباح إعلام الناس بموت قريبهم للمبادرة لتهيئته وشهود جنازته والصلاة عليه وغير ذلك بخلاف نعي الجاهلية من النداء بموت الشخص وذكر مآثره ومفاخره.
قال ابن العربي وغيره: يؤخذ من مجموع الأحاديث في النعي ثلاث حالات إعلام الأقارب والأصحاب وأهل الصلاح فسنة. ودعوة الحفل للمفاخرة فتكره. والإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فتحرم اهـ. ونعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي في اليوم الذي مات فيه ونعى الأمراء والنعي ليس ممنوعا كله وإنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق.
وإن مات فجأة بسبب صعقة أو هدم أو حرق أو خوف من حرب أو سبع أو ترد من جبل أو في بئر ونحو ذلك أو كان مبطونا أو مطعونا ونحو ذلك انتظر يه حتى يتيقن موته بعلامات

(2/24)


تدل عليه كانخساف صدغيه. وغيبوبة سواد عينيه. وميل أنفه. وانفصال كفيه. واسترخاء رجليه. وامتداد جلدة وجهه. وغير ذلك مما يدل على موته. ووجه جواز تأخيره لاحتمال أن يكون عرض له سكتة ونحوها وقد يفيق بعد يوم أو يومين. أو ثلاثة. وقد يعرف موت غير الفجأة بهذه العلامات وغيرها.
وموت الفجأة أشق وفي الأثر "وأعوذ بك من موت الفجأة" ولأحمد قال: أكره موت الفوات ولعله لما فيه من خوف حرمان الوصية وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة والأعمال الصالحة. وعن عائشة وابن مسعود: موت الفجأة راحة للمؤمن. وأسف على الفاجر. وذكر المدائني أن الخليل في جماعة من الأنبياء ماتوا فجأة. قال: وهو موت الصالحين وهو تخفيف على المؤمنين وقد يقال: إنه لطف ورفق بأهل الاستعداد للموت.
(وعن أبي هريرة مرفوعا نفس المؤمن) أي روحه الذي إذا فارق البدن ليس بعده حياة (معلقة بدينه) أي مطالبة بما عليه ومحبوسة عن مقامها الكريم أو عن دخولها الجنة في زمرة الصالحين ولأحمد عن سمرة أنه قال - صلى الله عليه وسلم - "إن صاحبكم محتبس على باب الجنة في دين عليه" (حتى يقضى عنه) دينه أي يقضيه وارث ونحوه ففيه الحث على قضاء دينه في الحياة وقضاء الولي
والورثة وغيرهم. عنه بعد الوفاة رواه أحمد والشافعي وغيرهما و (حسنة الترمذي) ولحديث "قضى بالدين قبل

(2/25)


الوصية" ولما فيه من إبراء ذمته ويجب إن أمكن قبل الصلاة عليه لعدم صلاته عليه الصلاة والسلام على من عليه دين وقوله "صلوا على صاحبكم".
فإن تعذر قضاؤه في الحال استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل عنه لقصة أبي قتادة لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أعليه دين" قالوا نعم قال: "صلوا على صاحبكم" فقال أبو قتادة صل عليه يا رسول الله وعلي دينه. ولما قال له: قضيتها، قال نعم، قال: "الآن برد عليه جلده" وسواء كان الدين عليه من نذر أو زكاة أو حج أو كفارة أو غير ذلك أو لآدمي كرد أمانة وغصب وعارية وغير ذلك أوصى به أو لم يوصِ به ويقدم على الوصية. وإنما قدمها في القرآن لمشقة إخراجها على الوارث. فقدمت حثًّا على الإخراج ولذلك جيء بكلمة أو التي تقتضي التسوية. فاستويا في الاهتمام وعدم التضييع وإن كان الدين مقدمًا عليها وهو مقيد بمن له مال يقضى منه دينه أو وجد من يتبرع عنه بالقضاء أو من لا مال له ومات عازمًا على القضاء فقد ورد أحاديث تدل على أن الله يقضي عنه. بل محبته لقضائه موجبة لقضاء الله عنه. ويقضى عنه. من بيت مال المسلمين وهو أحد المصارف الثمانية. ولما في الصحيح "ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني" وفي لفظ "فإليَّ وعليَّ" وثبت أنه كان يصلي بعد أن وسع الله على من مات مديونا ويقضي عنه.

(2/26)


فصل في غسل الميت
أي في أحكام غسل الميت وما يتعلق به. وهو فرض كفاية إجماعا على من علم به وأمكنه حكاه النووي وغيره وهو حق لله تعالى. فلو أوصى به لم يسقط وإن لم يعلم به إلا واحد تعين عليه. وخالف بعض المالكية. ورد ابن العربي وغيره على من لم يقل به وقال. قد توارد به القول والعمل ويأتي الأمر به.
(عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليله) أي ليل غسل الميت (أقربكم إن كان يعلم) فدل الحديث على أن الأحق بغسل الميت من الناس الأقرب إلى الميت بشرط أن يكون عالما بما يحتاج إليه من العلم فيه "فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة" (رواه أحمد) والطبراني (وفيه ضعف) فإن في إسناده الجعفي وفيه مقال.
والجمهور على تقديم الاقرب فالأقرب. والأقرب الأب لاختصاصه بالحنو والشفقة. ثم الجد وإن علا لمشاركته الأب في المعنى. ثم الابن فابنه وإن نزل. ثم الأخ لأبوين. ثم لأب. وهكذا على ترتيب الميراث. ثم ذووا أرحامه. ثم الأجانب ويقدم الأصدقاء منهم ثم غيرهم الأدين. ويقدم الجار على الأجنبي اتفاقا لا على صديق.
وإن كان الميت أوصى لمن يغسله قدم فأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين. وأوصى غيره بذلك. ولأن أبا بكر

(2/27)


الصديق أوصى أن تغسله امرأته أسماء أخرجه مالك. وأوصى جابر وعبد الرحمن بن الأسود امرأتيهما أن تغسلاهما رواه سعيد. وروى ابن المنذر أن عليا غسل فاطمة ولم ينكر. وغسل أبو موسى زوجته وغيرهم. ولا خلاف في جوازه إلا ما روي عن أبي حنيفة في المنع من تغسيل الزوج امرأته والمعتمد القياس على غسلها له وهو إجماع.
ويشهد لذلك قول عائشة لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه رواه أحمد. وله عنها أنه قال "ما يضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك" فدلت هذه الآثار على جواز تغسيل أحدهما لصاحبه وإن لم يوص به قال النووي وغيره: إنما المنع رواية عن أحمد فإن ثبتت فمحجوج بالإجماع اهـ. وأكثر الأصحاب لم يذكرها عنه منهم القاضي والشريف وأبو الخطاب والشيرازي وغيرهم.
وأما إذا أوصى به لعدل زوجا كان أو غيره تعين. لأن حق للميت فقدم فيه وصية على غيره كباقي حقوقه. ولم يزل المسلمون يقدمونه من غير نكير فكان إجماعا. والأولى بغسل أنثى وصيتها العدل ثم القربى فالقربى من نسائها. ويجوز للرجل والمرأة غسل من له دون سبع سنين. قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه أن المرأة تغسل الصبي الصغير فتغسله مجردا من غيرسترة وتمس عورته لأنه لا عورة له. قيل إن إبراهيم بن

(2/28)


النبي - صلى الله عليه وسلم - غسله النساء كما يأتي. وذكرابن كثير وغيره أن عليًّا هو الذي غسله ورواه أحمد وغيره.
وقال بعضهم إن مات رجل بين نسوة ليس فيهن زوجة له ولا أمة مباحة يمم اتفاقًا. وكذا إن ماتت امرأة بين رجال ليس فيهم زوج ولا سيد لها يممت. ولا تشترط مباشرة الغاسل. فلو ترك تحت ميزاب ونحوه وحضر من يصلح لغسله ونوى وسمى وعمه الماء كفى. أو يغسل في ثوب واسع ويلف الغاسل على يده خرقة.
ويحرم أن يغسل مسلم كافرا أو يدفنه إجماعا للآية وإنما يوارى لعدم من يواريه لإلقائهم في القليب وقوله لعلي لما أخبر بموت أبي طالب "أذهب فواره" ويشترط لغسل الميت إسلام غاسل. فلا يصح من كافر إجماعا ويشترط عقل اتفاقا. لا بلوغ ويشترط طهورية ماء. ولا يكره من حائض وجنب عند الجمهور. وكره مالك تغسيل الجنب.
(وله) أي لأحمد وأبي داود وغيرهما (عنها) أي
عائشة رضى الله عنها (قالت: لما أرادوا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -
قالوا والله ما ندري نجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نجرد
موتانا) وذلك أنهم اختلفوا كما في سنن أبي داود
وغيرها فألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم من أحد إلا
وذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا
يدرون من هو: اغسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثيابه فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون

(2/29)


أيديهم. وفي لفظ يفاض عليه الماء والسدر ويدلك الرجال بالقميص.
ولابن ماجه وغيره عن بريدة ناداهم مناد من الداخل لا تنزعوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه. ولابن حبان من حديث عائشة وكان الذي أجلسه في حجره علي بن أبي طالب. وللحاكم أيضا من حديث عبد الله بن الحارث قال: غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي. وعلى يد علي خرقة فأدخل يده تحت القميص فغسله والقميص عليه. ولابن أبي شيبة والبيهقي والشافعي وغيرهم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا بسدر. وغسل وعليه قميص وولي سفلته علي والفضل محتضنه والعباس يصب الماء. قال الحافظ: مرسل جيد والرواية الأولى أن عليا أسنده إلى صدره فالله أعلم.
والحديث يدل على تجريد الميت وأنه كان معلوما عندهم بأمره - صلى الله عليه وسلم - وإقراره. وحكي أنه إجماع منهم فيستحب للغاسل إذا أخذ في غسل الميت ستر عورته وجوبا وستره عن العيون وتجريده ندبا لأنه أمكن في تغسيله وأبلغ في تطهيره وأشبه بغسل الحي وأصون له من التنجيس إذ يحتمل خروجها منه وتلويثه ويدل على رفع رأسه بحيث يكون كالمحتضن في صدر غيره.
وينبغي عصر بطنه برفق ليخرج ما هو مستعد للخروج ويكون هناك بخور لئلا يتأذي برائحة الخارج ويلف الغاسل على يده خرقة خشنة أو يدخل يده في كيس لئلا يمس عورته الممنوع من مسها فينجيه. وذكر المروذي عن ابن سيرين أن

(2/30)


عليا لف على يده خرقة حين غسل فرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة لفعل علي.
(وعن أم عطيه) الأنصارية رضى الله عنها (قالت: دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته) ولمسلم أنها زينب زوج أبي العاص وكانت وفاتها سنة ثمان. وفي رواية أنها أم كلثوم زوج عثمان بن عفان وكان وفاتها سنة تسع (فقال اغتسلنها ثلاثا) وهو سنة إجماعا وتغسل الحائض والجنب غسلا واحدا في قول أهل العلم إلا ما روي عن الحسن أنها تغسل غسلين وتداخل الأغسال وغيرها معلوم (أو خمسا) للتخيير وإن لم ينق الغسل الوسخ بثلاث زيد حتى ينقي. وذكره في الفروع اتفاقا.
(أو أكثر من ذلك) بكسر الكاف خطاب للمؤنث وفي لفظ "اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا) زاد البخاري وغيره "أو أكثر من ذلك" ـ وإن خرج منه شئ بعد سبع حشي المحل بقطن. وغسل المتنجس إجماعا ووضئ كالجنب إذا أحدث بعد الغسل. وإن خرج شئ بعد تكفينه لم يعد الغسل للمشقة.
(إن رأيتن ذلك) والمراد اغسلنها وترا وليكن ثلاثا فإن احتجتن إلى زيادة عليها للإنقاء فليكن خمسا. فإن احتجتن إلى زيادة الإنقاء فليكن سبعا. ورجع الشارع النظر إلى الغاسل ويكون ذلك بحسب الحاجة لا التشهي لقوله "إن رأيتن" اي احتجتن. والحاصل أن الثلاث مأمور بها ندبا. فإن حصل

(2/31)


الإنقاء بها لم تشرع الرابعة ولاخامسة. وإلا زيد حتى يحصل الإنقاء. ويندب كونها وترا.
واتفق أهل العلم على استحبابه وكرهوا الاقتصار على المرة الواحدة للأمر بالثلاث. ولأنه لا يحصل بها كمال النظافة وتجزئ كالحي وحكي إجماعا (بماء وسدر) عين السدر لأن فيه مادة حادة تشبه الصابون. وتقدم جعلهم له في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويأتي الأمر به في غسل الذي وقصته دابته. ويغسل برغوته رأسه ولحيته لأنها لا تعلق بالشعر. بخلاف التفل قال القرطبي يجعل السدر في ماء ثم يخضخض إلى أن تخرج رغوته ثم يدلك به جسد الميت.
(واجعلن في الغسلة الآخرة كافورا متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم وجعل الكافور في الماء هو قول الجمهور وقالت الحنفية: يجعل في الحنوط والحديث حجة عليهم. واختار جمهور الأصحاب جعله مع السدر. قال الخلال والعمل عليه. والحكمة في الكافور كونه يصلب الجسد ويطيبه ويبرده ويطرد عنه الهوام برائحته. ويمنع ما يتحلل من الفضلات. ويمنع أيضا إسراع الفساد. ويطيب رائحة المحل. وذلك وقت تحضر فيه الملائكة وهو أقوى الأراييح الطيبة في ذلك وكونه في الآخرة لئلا يذهب به الماء. وإن عدم قام غيره مقامة مما فيه هذه الخواص أو بعضها. وإن احتيج إلى الماء الحار والأشنان لإزالة وسخ ونحوه. جاز للحاجة إليه. وإلا كره لعدم ورود السنة به.

(2/32)


(وفي رواية ابدأن بميامنها) أي ما يلي الجانب الأيمن وهو مذهب جمهور أهل العلم وخالفت الحنفية في البداءة بالميامن والحديث نص في ذلك فيسن البداءة بالشق الأيمن المقبل من عنقه. وصدره. وفخذه وساقه. ثم يغسل شقه الأيسر كذلك مرة في دفعتين وقيل: مرة في أربع، يده اليمنى وصفحة عنقه وشق صدره. وفخذه وساقه ثم الأيسر كذلك. ثم يرفعه من جانبه الأيمن. فيغسل الظهر وما هناك من وركه وفخذه وساقه. ثم الأيسر كذلك قال أبو البركات: والأول أقرب إلى قوله ابدأن بميامنها. وأشبه بغسل الجنابة وكيف ما فعل أجزأ.
(ومواضع الوضوء منها) ولا تنافي بين الأمرين لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معا فيوضيه ندبا كوضوئه للصلاة ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه وفي منخريه فينظفهما ولا يدخلهما الماء خوف تحريك النجاسة بدخول الماء جوفه وينجيه كما يستنجي الحي اتفاقا بعد لف خرقة على يده كما تقدم. وينوي غسله ويسمي كغسل الجنابة.
(وفيه فضفرنا شعرها ثلاثة قرون) أي ثلاث ضفائر قرنيها وناصيتها وأصل الضفر الفتل قالت: مشطناها ثلاثة قرون. وروي سعيد بن منصور عنها قال لنا: "اغسلنها وترا
واجعلن شعرها ضفائر". ولابن حبان "واجعلن لها ثلاثة
قرون" (وألقيناه) أي شعرها ثلاثة القرون (خلفها) أي
خلف ظهرها وهذا مذهب الجمهور. قال ابن المنذر ليس في

(2/33)


أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطية وعليه عول الأئمة. وذهبت الحنفية إلى إرساله مفرقا.
وهذه الأحاديث تدل على استحباب جعله ثلاث ضفائر من خلفها. ولا يسرح شعره لما فيه من تقطيع الشعر من غير حاجة إليه. ومرت عائشة بقوم يسرحون شعر ميتهم فنهتهم عن ذلك ويحرم حلق رأس الميت لأنه إما لزينة أو نسك. وشعر عانة لما فيه من مس عورته. كما يحرم ختن الميت الأقلف. ولا يقص شاربه. ولا تقلم أظفاره. لأن أجزاء الميت محترمة فلا تنتهك بذلك. ولم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة في هذا شئ فيكره فعله اتفاقا.
(ولهما عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في محرم مات) قال ابن عباس رضي الله عنهما. بينما رجل واقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته يعنى صرعته فدقت عنقه فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (اغسلواه بماء وسدر) فدل على تأكد استحباب جعل سدر في ماء الغسل وتقدم (وكفنوه في ثوبيه) لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة.
(ولا تحنطوه) من الحنوط وهو الطيب الذي يوضع للميت ذكرا كان أو أنثى. وللنسائي "ولا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة محرما" وفي رواية "ولا تمسوه طيبا فإنه يبعث يوم

(2/34)


القيامة ملبيا" (ولا تخمروا رأسه) أي لا تغطوه. وفي رواية ولا تغطوا وجهه والأشهر في أكثر الروايات ذكر الرأس فقط. فقال أحمد: يغطى وجهه وسائر بدنه وتجوز الزيادة على ثوبيه إذا كفن كبقية كفن حلال.
وفيه دليل على بقاء حكم الإحرام وعلله بقوله فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" وفي رواية "محرما" وهذا مذهب الشافعي وأحمد وجمهور السلف والخلف. وقال الداودي عن مالك لم يبلغه هذا الحديث. وجامع الكلام فيه أنه يجب تجنيبه ما يجب اجتنابه حال إحرامه وهو مذهب الجمهور. ولا تمنع معتدة من طيب لسقوط الأحداد بموتها.
(ولهما عن جابر في قتلى أحد) سنة ثلاث من الهجرة (وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" قال إمام الحرمين: معتمدنا الأحاديث الصحيحة أنه لم يصل عليهم ولم يغسلوا قال الشافعي جاءت من وجوه متواترة ولعل الحكمة في ترك الغسل والصلاة أن يلقوا الله بكلومهم لما جاء أن ريح دمهم ريح المسك. واستغنوا بإكرام الله لهم عن الصلاة مع التخفيف على من بقي من المسلمين لما يكون فيمن قاتل في الزحف من الجراحات وخوف عود العدو ورجاء طلبهم وهمهم بأهلهم وهم أهلهم بهم.
ولأحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أحد "لاتغسلوهم فإن

(2/35)


كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة ". فالصحيح أن لا يغسلوا لئلا يزول أثر العبادة المطلوب بقاؤها كما دلت عليه الأخبار. وقطع الموفق وغيره بالتحريم وهو مذهب جمهور أهل العلم ولا يوضأ حيث لا يغسل. ولو وجب قبل لأنه أثر العبادة والشهادة.
وقال ابن القيم: حديث جابر في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح والذي يظهر من أمر شهداء أحد أنه لم يصل عليهم عند الدفن. وذكر ما ورد في الصلاة ثم قال والصواب أنه مخير في الصلاة عليهم وتركها لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين. وأصح الأقوال أنهم لا يغسلون ويخير في الصلاة عليهم. وبهذا تتفق جميع الأحاديث وقال في موضع آخر: السنة في الشهيد أن لا يغسل ولا يصلى عليه، اهـ. ـ.
فإن كان جنبا قبل أن يقتل فقيل يغسل. ومذهب مالك وغيره لا يغسل. ولأبي داود، إن صاحبكم يعني حنظلة لتغسله الملائكة فسألوا أهله فقالت خرج وهو جنب حين سمع الهائعة.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلذلك غسلته الملائكة" وأسلم أصيرم بني عبد الأشهل يوم أحد ثم قتل ولم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بغسله. ولو كان شهيد المعركة أنثى أو غير مكلف فكالذكر المكلف فيما تقدم عند الجمهور وصاحبي أبي حنيفة لأنهم مسلمون أشبهوا المكلف.
وشذ أبو حنيفة في غير المكلف واحتج بأنه لا ذنب
له وهو باطل من وجوه.

(2/36)


وإن سقط عن دابته أو شاهق بغير فعل العدو أو وجد ميتا ولا أثر به أو مات حتف أنفه أو برفسة. وقيل أو عاد سهمه عليه غسل وصلي عليه لأنه لم يمت بفعل العدو ولا مباشرته ولا تسببه وهو مذهب جمهور أهل العلم أبي حنيفة وأحمد وغيرهما.
ومذهب الشافعي ونصره القاضي لا يغسل إن عاد عليه سهمه ولا يصلى عليه لأن عامر بن الأكوع بارز رجلا يوم خيبر فعاد عليه سهمه فقتله فلم يفرد عن الشهداء بحكم.
وإن حمل فأكل أو شرب أو نام أو بال أو تكلم وطال بقاؤه عرفا بعد حمله غسل وصلي عليه. لأن سعد بن معاذ أصابه سهم يوم الخندق فحمل إلى المسجد ثم مات بعد ذلك "فغسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى عليه" وإن كانت هذه الأمور قبل حمله من المعركة ثم مات فيها فكشهيد المعركة إلا أن يطول مكثه فيها.
والمقتول بمثقل يغسل ويصلى عليه إجماعا. وقيس عليه المقتول ظلما كمن قتله نحو لص أو الكفار صبرا في غير الحرب أو في البلد بحديد أو غيره وهو مذهب جماهير أهل العلم مالك والشافعي وأحمد وغيرهم لقصة عمر وعلي وابن الزبير وغيرهم وكل شهيد غسل صلي عليه وجوبا. ويدفن شهيد المعركة وجوبا بدمه إلا أن تخالطه نجاسة فيغسل الدم والنجاسة لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ويدفن في ثيابه التي قتل فيها. قال النووي وغيره: هو قول

(2/37)


العلماء كافة بعد نزع السلاح والجلود عنه لما روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم" وله شواهد في الصحيح وغيره تقضي بمشروعية دفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب ونزع الحديد والجلود عنه وكل ما هو آلة حرب.
وعن علي ينزع من الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل إلا أن يكون أصابها دم.
وإن سلبها كفن بغيرها وجوبا كغيره. والشهداء ثلاثة. شهيد في الدنيا والآخرة. وهو من قاتل في سبيل الله حتى قتل.
لترتب أحكام الشهداء عليه من ترك تغسيل، ونحوه لإرادته وجه الله والدار الآخرة. وشهيد في الآخرة فقط من أصابه جرح في سبيل الله ثم مات منه بعد مدة. وشهيد في الدنيا فقط من قاتل في سبيل الله وسريرته باطلة فتجري عليه أحكام الشهيد من ترك غسل وغيره.
ولأبي داود والترمذي وصححه عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قتل دون دينه فهو شهيد. ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد" قال شيخ الإسلام وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الغريق شهيد. والمبطون شهيد. والحريق شهيد. والنفساء شهيدة. وصاحب الهدم شهيد" وجاء ذكر غير هؤلاء.

(2/38)


وذكر أن من غلب على ظنه عدم السلامة ليس له ركوب البحر للتجارة فإن فعل فغرق فيه لا يقال له إنه شهيد. وذكر بعض أهل العلم غير ذلك. منهم متمني الشهادة. والمتجرد لله في جهاد نفسه. ومن مات وهو يطلب العلم إلى أربعين وإلى خمسين والمراد أنهم شهداء في ثواب الآخرة لا في أحكام الغسل والصلاة.
وقال غير واحد: ويغسل الباغي ويصلى عليه. ويقتل قاطع الطريق ويغسل ويصلى عليه بلا نزاع ثم يصلب. والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه وإن لم يستهل عند أحمد والشافعي لما يأتي من قوله عليه الصلاة والسلام "والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة"رواه أحمد وأبو داود وغيرهما ولأنه نسمة نفخ فيها الروح وقد كتب عليه الشقاوة أو السعادة ولأنه يبعث فيسمى.
وفي الصحيحين أنه ينفخ فيه يعني بعد الأربعة الأشهر وأما دونها فلا يصلى عليه قال العبدري: بلا خلاف. وإن كان له أربعة أشهر ولم يتحرك لم يصل عليه عند جمهور العلماء. قال بعضهم لأنه لا يبعث قبلها واختار الأكثر يبعث. قال الشيخ وهو قول كثير من الفقهاء وتستحب تسميته وأما الطفل فللترمذي وصححه "والطفل يصلى عليه" ولابن ماجه
"صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم".

(2/39)


وحكى غير واحد إجماع المسلمين على وجوب الصلاة على الطفل لهذه الأخبار ولعموم النصوص الواردة بالصلاة على المسلمين وهو داخل في عمومهم. والتغسيل والصلاة على الميت متلازمان في الجملة. قال ابن كثير غسل علي إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر ابن عبد البر وغيره أن مرضعة إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي غسلته. وقال صلي عليه وكبر أربعا" وأنه قول جمهور أهل العلم وهو الصحيح. وأما من تعذر غسله فييمم أو بعضه فيغسل ما أمكن وييمم للباقي كالحي.

فائدة
يجب على الغاسل ستر ما رآه من الميت إن لم يكن حسنا لما رواه أحمد وغيره عن عائشة مرفوعا "من غسل ميتا وأدى فيه الأمانة ولم ينشر عيبه، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ولقوله "من سترة مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة" وقال جمع إلا على مشهور ببدعة أو فجور ليرتدع نظيره.
ونرجو للمحسن ونخاف على المسيء ولا نشهد لأحد بجنة أو نار إلا من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ أو اتفقت الأمة على الثناء عليه أو الإساءة. وظاهر كلامه ولو لم تكن أفعال الميت موافقة لقولهم وإلا لم تكن علامة مستقلة. وفي الصحيحين أنه مر بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(2/40)


"وجبت" ثم بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال "وجبت" فقال عمر ما وجبت قال: "هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة. وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض". والحديث على عمومه.
فلما ألهم الناس الثناء عليه كان دليلا. سواء كانت أفعاله تقتضيه أولا. وهذا إلهام يستدل به على تعيينها ولأحمد "ما من مسلم يموت فيشهد له ثلاث أبيات من جيرانه الأدنين بخير إلا قال الله قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا وغفرت له ما لم يعلموا" وللحاكم نحوه قال الشيخ وتواطؤ الرؤيا كتواطئ الشهادات. ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهره العدالة. بخلاف من ظاهره الفسق فلا حرج بسوء الظن به. ويستحب ظن الخير بالمسلم للأخبار.

فصل في كفنه
أي: كفن الميت ومؤونة تجهيزه وما يتعلق بذلك. أجمع العلماء على أنه فرض كفاية على من علم به وأمكنه. وقال غير واحد: وحنوطه وطيبه وهو مذهب مالك وأحمد وقول للشافعي.
(عن خباب) بن الأرت بن جندلة بن سعد بن زيد مناة أسلم قديما وشهد المشاهد وتوفي بالكوفة سنة سبع وثلاثين (أن مصعبا) يعني ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف أحد

(2/41)


السابقين هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة (قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة) هي شملة لها خطوط بيض وسود أو بردة من صوف (فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي بها رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر) وفيه قال: فكنا، إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه (متفق عليه).
وظاهره أنه لم يكن له مال غيرها. وفي رواية البخاري أن عبد الرحمن بن عوف قال: قتل مصعب بن عمير وكان خيرا مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة. وقتل حمزة أو رجل آخر فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة. ولأحمد عن خباب أن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر فدلت هذه الأحاديث على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس لشرفه وجعل النقص مما يلي الرجلين. قال النووي فإن ضاق عن ذلك سترت العورة، فإن فضل شيء جعل فوقها، وإن ضاق عن العورة سترت السوأتان لأنهما أهم، وهما الأصل في العورة وهذا قول جمهور أهل العلم.
وفيه أن الواجب ثوب يستر جميعه مع القدرة وفيه. وفي قصة المحرم الذي وقصته دابته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفنوه في ثوبيه" دليل على أنه يجب تكفين الميت في ماله مقدما

(2/42)


على دين وغيره وكذا مؤونة تجهيزه اتفاقا. غير حنوط وطيب فمستحب. وقال ابن المنذر وغيره قال بذلك جميع أهل العلم ولأن المفلس يقدم بالكسوة على الدين فكذا الميت يقدم عليه بل أولى. ولأن سترته واجبة في الحياة فكذا بعد الموت.
واتفق الجمهور على وجوب ثوب لا يصف البشرة يستر جميع بدن الميت ذكرا كان أو أنثى ما لم يكن محرما. ويكون من ملبوس مثله في الجمع والأعياد ما لم يوص بدونه فيجوز إجماعا.
ونقل أبو البركات الإجماع على جواز الوصية بالثوب الواحد والجديد أفضل من العتيق كما فعل به - صلى الله عليه وسلم - وللأمر بتحسينه رواه مسلم وغيره ما لم يوص بغيره فيمتثل لقول الصديق كفنوني في ثوبي هذين لأن الحي أحوج إلى الجديد من الميت، وإنما هما للمهلة والتراب رواه البخاري.
فإن لم يكن للميت مال فكفنه ومؤونة تجهيزه على من تلزمه نفقته لأن ذلك يلزمه حال الحياة فبعد الموت أولى إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته وفاقا لأحد القولين عند أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك ولو كان غنيا لأن الكسوة وجبت عليه بالزوجية والتمكن من الاستمتاع وقد انقطع ذلك بالموت فأشبهت الأجنبية. وعن أحمد يلزمه كفنها وفاقا لمالك وأحد القولين لأصحاب أبي حنيفة والشافعي ورجحوه لأن من لزمته كسوتها في الحياة لزمه كفنها بعد الوفاة كالأمة مع السيد.

(2/43)


وإن عدم مال الميت ومن تلزمه نفقته فكفنه ومؤونة تجهيزه في بيت المال إن كان مسلما اتفاقا لأنه للمصالح وهذا من أهمها فإن لم يكن بيت مال فعل المسلمين العالمين بحاله كنفقة الحي وكسوته. قال الشيخ تقي الدين: من ظن أن غيره لا يقوم به تعين عليه. وقال النووي وغيره لو مات إنسان ولم يوجد ما يكفن به إلا ثوب مع مالك له غير محتاج إليه لزمه بذله بقيمته كالطعام للمضطر.
(ولهما عن عائشة كفن رسول - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض) ولابن ماجه "أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض) وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - "البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم" (سحولية) نسبة إلى سحول قرية باليمن وهو الأبيض النقي. جمع سحل ولا يكون إلا من قطن ولم يكن الله ليختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا الأفضل. واستمر عمل الصحابة ومن بعدهم عليه. قال الترمذي: وهو الذي استحبه أهل العلم. وقال: النووي وهو مجمع عليه.
(ليس فيها قميص ولا عمامة) أي لم يكن في كفنه - صلى الله عليه وسلم - قميص ولا عمامة وإنما كفن في ثلاثة أثواب غيرهما أدرج في الثلاثة الأثواب إدراجًا ولا يكره إن جعل فيها قميص لقصة أبي ولا عمامة لفعل ابن عمر. قال الحاكم وغيره تواترت الأخبار عن علي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن مغفل وعائشة في تكفينه - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة.

(2/44)


وقال أحمد: أصح الأحاديث في كفن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث عائشة لأنها أعلم من غيرها. وقال الترمذي: قد روي في كفن النبي - صلى الله عليه وسلم - روايات مختلفة وحديث عائشة أصح الروايات التي رويت في كفنه - صلى الله عليه وسلم - والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم فدل الحديث على سنية تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض من قطن تبخر بعد رشها بماء ورد أو غيره لتعلق رائحة البخور إن لم يكن محرما ويكون البخور بالعود أو نحوه لفعل ابن عمر وابن عباس وأسماء وغيرهم ولأن هذا عادة الحي.
وروي مرفوعا ثلاثا ثم تبسط الثلاثة الأثواب بعد التبخير بعضها فوق بعض ليوضع الميت عليها مرة واحدة وأوسعها وأحسنها أعلاها لأن عادة الحي جعل الظاهر أفخر ثيابه.
ويجعل الحنوط وهو أخلاط من طيب يعد للميت خاصة فيذر فيما بين اللفائف وهو مشروع بدليل الخطاب من قوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم "ولا تحنطوه" ولا يجعل فوق العليا لكراهة عمر وابنه وأبي هريرة وغيرهم له وذكره في الفروع اتفاقا. ولا يجعل على الثوب الذي على النعش لكراهة السلف له. ثم يوضع الميت على اللفائف مستلقيا لأنه أمكن لإدراجه فيها. ويجب ستره حال حمله بثوب. ويوضع برفق متوجها ندبا.
ويجعل من الحنوط في قطن بين إليتيه ويشد فوقها خرقة كالسراويل بلا أكمام تجمع إليتيه ومثانته ليرد ما يخرج ويخفي ما يظهر من الروائح ويجعل الباقي من الحنوط على منافذ وجهه

(2/45)


منعا للهوام وعلى مواضع سجوده تشريفا لها وعلى مغابنه لأن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك قال الزركشي ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن طيب الميت كله فحسن لأن أنسا طلي بالمسك وكذا ابن عمر وغيرهما.
وكره أن يجعل في داخل عينيه اتفاقا لأنه يفسدهما وأن يطيب بورس وزعفران ويرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن ويرد طرفها الآخر فوقه ثم الثانية والثالثة كذلك ويجعل أكثر الفاضل على رأسه لشرفه ثم يعقدها لئلا ينتشر الكفن وتحل في القبر لقول ابن مسعود "إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد".
(وللبخاري عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - ألبس عبد الله بن أبي) ابن سلول رأس المنافقين (قميصه لما مات) وذلك أنه لما توفي عدو الله أتى ابنه عبد الله رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال "أعطني قميصك أكفنه فيه فأعطاه إياه" متفق عليه من حديث ابن عمر وحديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - "أتى عبد الله بن أبي بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه" ولعل المراد بالإعطاء أنه أنعم عليه بذلك وقيل تكرمة لابنه. وقيل إنما كساه قميصه لأنه كان كسا العباس لما أسر ببدر فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يكافئه.
وفيه دليل على مشروعية التكفين في القميص وأن قميص الميت كقميص الحي. وأجمعوا على أنه إن كفن في قميص ومئزر

(2/46)


ولفافة جاز من غير كراهة ولو لم تتعذر اللفائف. وعن عمرو بن العاص أن الميت يؤزر ويقمص ويلف بالثلاثة. قال في الفروع لا يكره في خمسة اتفاقا. ولا يكره تعميمه. ولا يكره تكفينه في ثوبين لما تقدم. ولا ريب أن الواجب ثوب يستر جميعه. وجاءت الأخبار بالأمر بتحسين الكفن صنفا ونظافة ونقاء وجمالا وحسن وضعه عليه وتوسيطه لا السرف والمغالاة ولا الوضع في غير جهة لائقة به.
(وعن أم عطية في غسل ابنته) فعند أحمد وابن ماجه أنها أم كلثوم وعند مسلم أنها زينب زوج أبي العاص وكانت وفاتها سنة ثمان (قالت كفناها في خمسة أثواب صححه الحافظ) من رواية الخوارزمي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية.
ولفظ أحمد وأبي داود من حديث ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان "أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحقاء يعني الإزار ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر. قالت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الباب معه كفنها يناولنا ثوبا ثوبا، وفي إسناده مقال.
وقال ابن المنذر أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب والجمهور أنها تؤزر بالمئزر ثم تلبس

(2/47)


القميص ثم تخمر ثم تلف باللفافتين. وقال المجد: يشد فخذاها بمئزر تحت درع ويلف فوق الدرع الخمار باللفافتين جمعا بين الأخبار. ويسن أن تكفن صغيرة في قميص ولفافتين وصبي في ثوب واحد اتفاقا لأنه دون الرجل.
ويجوز تكفين المرأة في ثوب الرجل حكاه ابن بطال اتفاقا لإعطائهن حقوه يشعرن ابنته. ويكره برقيق يحكي الهيئة وبصوف وشعر لأنه خلاف فعل السلف ويحرم بجلود لنزعه له عليه الصلاة والسلام ويجوز في حرير لضرورة اتفاقا.

فصل في الصلاة عليه
أي على الميت وهي مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وفرض كفاية إجماعا على غير شهيد معركة وقيل ومقتول ظلما. قال الفاكهي: والصلاة على الميت من خصائص هذه الأمة.
قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على عبد الله بن أبي رأس المنافقين.
فأنزل الله هذه الآية أن يتبرأ منهم وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات وهو عام في كل من عرف نفاقه ولأحمد:
فما صلى بعده على منافق. ومفهوم الآية مشروعية
الصلاة على المسلمين كما ثبتت به السنة وأجمع عليه
المسلمون إجماعا ضروريا لا ينكره إلا كافر معاند.

(2/48)


وقال الشيخ لما نهى الله نبيه عن الصلاة على المنافقين كان دليل الخطاب أن المؤمن يصلى عليه قبل الدفن ويقام على قبره بعده. ودلت الآية أيضا على أن الصلاة على المسلمين من أكبر القربات وأفضل الطاعات ورتب الشارع عليها الجزاء الجزيل كما في الصحاح وغيرها. ودلت الآية على أن الصلاة عليه كان: عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين وأمرا متقررا عند المسلمين واستمروا عليه. وفرض كفاية.
قال الشيخ: وفروض الكفايات إذا قام بها رجل سقط الإثم عن الباقين ثم إذا فعل الكل ذلك كان كله فرضا وذكره ابن عقيل محل وفاق. وتسقط بثلاثة اتفاقا فجاء أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على عمير بن أبي طلحة في منزلهم وأبو طلحة وراءه وأم سليم وراء أبي طلحة.
(وعن مالك) بن هبيرة بن خالد السكوني ويقال: الكندي مات في زمن مروان قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من ميت يموت) وفي لفظ "ما من مؤمن يموت "فيصلي عليه ثلاثة صفوف إلا غفر له) وفي رواية كان مالك بن هبيرة إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جرأهم ثلاثة أجزاء أي فرقهم جعل
القوم الذين يمكن أن يكونوا صفا واحدا ثلاثة صفوف ثم
قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من صلى عليه ثلاثة صفوف
فقد أوجبت" ولأبي داود "وجبت له الجنة" (رواه الخمسة)

(2/49)


وغيرهم (إلا النسائي) وصححه الحاكم وغيره وله شواهد كثيرة.
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه". وله من حديث ابن عباس "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعوا فيه" قال النووي والقاضي الأحاديث كلها معمول بها وتحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين وفيها استحباب تكثير جماعة الجنازة.
وروى ابن بطة عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد جنازة وهو سابع سبعة "فأمرهم أن يصفوا ثلاثة صفوف خلفه فصف ثلاثة واثنين وواحدا خلف الصف فصلى على الميت ثم انصرف" وصرح القسطلاني وغيره أن الثلاثة في الفضيلة سواء وأنه إنما لم يجعل الأول أفضل محافظة على المقصود من الثلاثة الصفوف.
ويأتي في صلاته على النجاشي أنه "صف بهم" وفي لفظ "فصففنا خلفه فصلى عليه ونحن صفوف" ودلت هذه الأحاديث وغيرها على سنية صلاة الجنائز جماعة صفوفا وهو إجماع المسلمين لفعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه واستمرار عمل المسلمين عليه. وتجوز فرادى.
(ولهم أن أنسا صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه)

(2/50)


وهو مذهب الشافعي وقال ابن المنذر وغيره هو قول جماهير العلماء ولم يذكر عن أحمد غيرها. وعنه عند صدره وهو مذهب أبي حنيفة أو يكون بالقرب منهما فإن رأس الرجل قريب من صدره فالواقف عند أحدهما واقف عند الآخر (و) لما رفعت (أتى بـ) جنازة (امرأة) فصلى عليها (فقام وسطها) بفتح السين (وقال هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وفيه فلما فرغ قال احفظوا (حسنهما الترمذي) فحديث مالك تقدم رواته.
وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم بألفاظ منها ما رواه أبو غالب الحناط قال. شهدت أنسا صلى على جنازة قال وفينا العلاء بن زياد فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة قال يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يقوم من الرجل حيث قمت ومن المرأة حيث قمت قال نعم" وفي لفظ لأبي داود قال العلاء هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يصلي على لجنازة كصلاتك يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة قال نعم".
وفي الصحيحين من حديث سَمُرة أنه - صلى الله عليه وسلم - "صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها" قال غير واحد هذا مذهب جمهور العلماء الشافعي وأحمد وغيرهما. وفي الحديثين دلالة واضحة على مشروعية ذلك وماعداه لا مستند له من المرفوع ولا يدل على الوجوب فإنما الواجب هو استقبال جزء من الميت رجلا كان أو امرأة. والنزاع فما هو الأولى والأحسن ولا أولى ولا أحسن

(2/51)


من الكيفية التي فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والحكمة والله أعلم أن القلب في الصدر ووسط المرأة محل حملها والصبي والصبية كذلك. والسنة وضع رأسه مما يلي يمين الإمام كما هو المعمول به ويسوي بين رؤوس كل نوع ويجعل وسط أنثى حذاء صدر أو رأس رجل ليقف الإمام موقف من الكل. وجمعهم بصلاة أفضل وهو مذهب مالك وأحمد.
(وللبخاري عن الحسن) البصري هو ابن أبي الحسين الأنصاري واسمه يسار بن بلال الأنصاري مولاهم ثقة ففيه إمام جليل من خيار التابعين مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين قال (أدركت الناس) وهم إذ ذاك متوافرون في القرن المفضل المثنى عليهم (وأحقهم بالصلاة على جنائزهم من رضوه) إماما (لفرائضهم) وتقدم ذكر من يقدم في الإمامة.
وقال أبو هريرة شهدت حسينا حين مات الحسن وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص أمير المدينة وهو يقول: لولا السنة ما قدمتك. ومقتضاه أنه سنة وخلفه يومئذ ثمانون صحابيا. قال الموفق ولم ينكر فكان إجماعا وهو مذهب جماهير أهل العلم أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم لأنه - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده كانوا يصلون على الموتى. ولم ينقل عنهم استئذان العصبة ولا غيرهم. قال ابن رشد أكثر أهل العلم على أن الوالي أحق بالصلاة على الميت، اهـ.

(2/52)


وتقديمهم ليس على سبيل الوجوب فإن الصحابة رضي الله عنهم ما زالوا يوصون بالصلاة فأبو بكر أوصى أن يصلي عليه عمر. وعمر صهيبا. وأم سلمة سعيد بن زيد. وأبو بكرة أبا برزة وغيرهم وهذه قضايا اشتهرت من غير إنكار ولا مخالف فكانت إجماعا. ثم الأولى بعدهم الأولى بغسل على ما تقدم.
(وجعل ابن عمر الرجال في صلاة الجنازة مما يلي الإمام) لشرفهم وكالفريضة (والنساء مما يلي القبلة رواه البيهقي) ولفظه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة. ولأبي داود والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن عمار قال: شهدت جنازة أم كلثوم وابنها "فوضع الغلام مما يلي القبلة والمرأة وراءه فصلى عليهما. وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة فقالوا: هذه السنة" وفي رواية للبيهقي ونحو من ثمانين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر ابن المنذر خلافا في ذلك.
(وفي الصحيحين) وغيرهما من غير وجه عن ابن عباس وأبي هريرة وجابر وغيرهم (أنه - صلى الله عليه وسلم - يكبر في صلاة الجنازة أربعا) فمن حديث أبي هريرة وجابر في قصة صلاته على النجاشي. ومن حديث ابن عباس في الصلاة على القبر وستأتي. وجمع عمر الناس على أربع تكبيرات. وقال لا يجوز النقص عن الأربع. وقال النخعي اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت أبي مسعود فأجمعوا على أربع.

(2/53)


وقال ابن عبد البر وغيره أنه قد أجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحيحة. وما سوى ذلك عندهم شذوذ. وقال النووي قد كان لبعض الصحابة وغيرهم خلاف في أن التكبير المشروع خمس أم أربع أم غير لك ثم انقرض ذلك الخلاف وأجمعت الأمة الآن على أنه أربع تكبيرات بلا زيادة ولا نقص. والأولى أن لا يزيد على أربع لأن المداومة تدل على الفضيلة.
وقال ابن القيم وكان - صلى الله عليه وسلم - يكبر أربع تكبيرات وصح أنه كبر خمسًا وكان الصحابة بعده يكبرون أربعًا وخمسًا وستًا وسبعًا وحكى الوزير عن الأئمة الأربعة أنه لا يتابع على ما زاد على الأربع. وقال الموفق: لا خلاف أنه لا يتابع على الزيادة عليها، ولا تستحب إجماعا فيباح الزيادة على الأربع إلى السبع وليس إخلالا بصورة الصلاة فلا تبطل.
(وفي البخاري صلى ابن عباس) رضي الله عنهما (على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال لتعلموا أنها سنة) أي طريقة متبعة ورواه ابن خزيمة وغيره والنسائي من رواية طلحة قال فأخذت بيده فسألته عن ذلك فقال نعم يا بن أخي إنه حق وسنة وهو عند ابن ماجه وغيره مرفوعًا وسنده ضعيف. وقال الحاكم أجمعوا على أن قول الصحابي من السنة حديث مسند وللنسائي وغيره عن أبي أمامة قال: "السنة في الصلاة على

(2/54)


الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة".
وقال مجاهد سألت ثمانية عشر رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القراءة على الجنازة فكلهم قالوا يقرأ. ولها شواهد فدلت على وجوب قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى وهي تكبيرة الإحرام وبعد التعوذ والبسملة وهو مذهب جمهور العلماء الشافعي وأحمد وغيرهما من السلف والخلف إلا التعوذ فقيل لا يتعوذ. وقد ورد الأمر به.
وأما البسملة فأجمعوا على الإتيان بها وأما الاستفتاح فالأكثر أنه لا يستفتح لأن مبناها علىلتخفيف كما أنه لا يقرأ السورة بعد الفاتحة. وقال الشيخ لا تجب قراءة الفاتحة بل هي سنة وهو مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد.
(وللحاكم) عن ابن عباس أنه صلى على جنازة فكبر ثم قرأ الفاتحة (ثم صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -) يعني بعد التكبيرة الثانية ثم دعا بعد الثالثة. وللشافعي وابن الجارود وغيرهم بسند رجاله رجال الصحيحين عن أبي أمامة "السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب سرًا في نفسه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - " وذكر أبو أمامة عن جماعة من الصحابة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على الجنازة.
فدلت على مشروعية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجنازة كالصلاة عليه في التشهد الأخير. ولنقل الخلف

(2/55)


عن السلف ولا يتعين لفظ صلاة مخصوصة لأن المقصود مطلق الصلاة. والجمهور على قول اللهم صل على محمد كالتشهد الأخير.
(وعن أبي هريرة مرفوعا إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء رواه أبو داود) وصححه ابن حبان وفي حديث أبي أمامة ويخلص الدعاء للميت وحسنه الحافظ وذلك لأن المصلين عليه شفعاء والشافع يبالغ في طلب الشفاعة يريد قبول شفاعته فيه فيدعو بعد الثالثة بأحسن ما يحضره من الدعاء المأثور إجماعا لأنه هو المقصود بالصلاة عليه فلا يجوز الإخلال به. ونقل فيه ما لم ينقل في القراءة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولأحمد عن أبي الزبير سألت جابرًا ما يدعى للميت فقال ما أتاح أي ما قدر لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا أبو بكر. ولا عمر. فدل على أنه لا يتعين دعاء مخصوص والأمر المطلق بإخلاص الدعاء للميت يقضي بأن يخلص للمسيء كالمحسن فإن ملابس المعاصي أحوج إلى دعاء إخوانه المسلمين ولذلك قدموه بين أيديهم ليشفعوا له.
(ولمسلم) والخمسة وغيرهم (عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى على جنازة يقول) يعنى بعد التكبيرة الثالثة (اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا وشاهدنا) أي حاضرنا (وغائبنا وصغيرنا) لعله لرفع الدرجات (وكبيرنا وذكرنا وأنثانا) المقصود الشمول والاستيعاب كأنه قيل اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات

(2/56)


(اللهم من أحييته منا) معشر المسلمين (فأحيه على الإسلام) الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد لأمره.
(ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) وهو اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان ولما كان الإسلام هو العبادات كلها والإيمان شرط فيها ووجودها في حال الحياة ممكن بخلاف حالة الموت فإن وجودها متعذر. فلهذا اكتفى بالموت على الإيمان خاصة وطلب الحياة على الإسلام الذي الإيمان جزء منه.
(اللهم لا تحرمنا أجره) أي لا تمنعنا من أجره وحرمه الشيء منعه إياه (ولا تضلنا بعده) أي لا تصيرنا إلى الضلال ضد الهدى والرشاد. قال ابن القيم روي من طرق تدل على أن له أصلا وله شواهد. ولأبي داود عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في الصلاة على الجنازة "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها. وأنت هديتها للأسلام وأنت قبضت روحها. وأنت أعلم بسرها وعلانيتها. جئنا شفعاء له فاغفر له ذنبه".
ولابن ماجه من حديث واثلة قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة رجل من المسلمين فسمعته يقول "اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك قِه عذاب القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحمد اللهم فاغفر له وارحمه فإنك أنت الغفور الرحيم" صححه ابن القيم.

(2/57)


(وله عن عوف) ابن مالك الأشجعي شهد الفتح ومعه راية أشجع وسكن دمشق ومات سنة ثلاث وسبعين (أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول) يعنى على جنازة صلى عليها (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه) الضمير عائد إلى الميت فلا يحول الضمير (وأكرم نُزُله) بضم الزاي وقد تسكن ما يهيء للضيف أول ما يقدم (ووسع مَدْخَلَهُ) بفتح الميم مكان الدخول وبضمها الإدخال والفتح أولى.
(واغسله بالماء والثلج والبرد) بفتح الراء المطر المنعقد وليس المراد بالغسل وإنما هو استعارة بديعة للطهارة العظيمة من الذنوب (ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقَ الثوب الأبيض من الدنس) يغنى الوسخ (وأبدله دارًا خيرًا من داره. وزوجًا خيرا من زوجه) ولا يقول أبدلها لعود الضمير على الميت وإن لم يكن زوج والمراد بالإبدال الفعلي أو التقديري أي خير من زوج لو تزوج إذ منهم من ليس له دار بالدار الدنيا.
(وأدخله الجنة. وأعذه من عذاب القبر. وعذاب النار) قال عوف فتمنيت أن لو كنت أنا الميت لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك الميت" وهذا من أجمع الأدعية ورواه النسائي والترمذي وغيرهما وصححه وإن شاء قال وأفسح له في قبره ونور له فيه.
(وعن المغيرة مرفوعًا والسقط) أي الولد لغير تمام (يصلى عليه) إذا بلغ أربعة أشهر عند أحمد والشافعي وعند

(2/58)


الجمهور إذا تحرك وتقدم (ويدعى لوالديه) كما سيأتي (بالمغفرة والرحمة رواه أحمد) ورواه أبو داود وابن حبان والحاكم وصححه وقال على شرط البخاري.
ورواه النسائي (وصححه الترمذي لكن بلفظ "الطفل) يصلى عليه" واحتج به أحمد. وفي سنن ابن ماجه مرفوعا "صلوا على أطفالكم" وتقدم ذكر الإجماع عليه وأورد الأصحاب وغيرهم بدل الاستغفار دعاء يقوله المصلي لهذا الخبر وغيره بعد ما تقدم من قوله وتوفه على الإيمان. اللهم اجعله أي الطفل ذخرا لوالديه وفرطا أي سابقا أمام والديه سواء مات في حياتهما أو بعدهما.
قال القاضي وهو في هذا الدعاء الشافعي شفع لوالديه وللمؤمنين المصلين عليه وأجرا وشفيعا مجابا. اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم إشارة إلى ما رواه ابن أبي الدنيا وغيره عن خالد بن معدان "إن في الجنة لشجرة يقال لها طوبى كلها ضروع من مات من الصبيان الذين يرضعون رضع من طوبى وحاضنهم إبراهيم خليل الرحمن" وقه برحمتك عذاب الجحيم.
فما ذكروه من الدعاء لائق بالمحل مناسب لحاله. فإن الدعاء لوالديه أولى من الدعاء له لأنه شافع غير مشفوع فيه. وإذا لم يعرف إسلام والديه دعا لمواليه إن كان له موالٍ يعلم

(2/59)


إسلامهم فيقول ذخرا لمواليه. قال شيخ الإسلام ومن كان من أمة أصلها كفار لم يجز أن يستغفر لأبويه إلا أن يكونا قد أسلما للآية، اهـ. وأما ولد الزنا فيدعى لأمه فقط وكذا المنفي بلعان.
واستحب الجمهور أن يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلا لحديث زيد بن أرقم "كان يكبر أربعًا ثم يقف ما شاء الله" ومن حديث ابن أبي أوفى يدعو قال أحمد لا أعلم شيئا يخالفه وقال المجد لا خلاف في جوازه فيقول. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وكان أنس لا يدعو بدعاء إلا ختمه بهذا الدعاء. واختار بعض أهل العلم أن يقول. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله.
(ولابن ماجه عن ابن أبي أوفى) عبد الله بن علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي صحابي شهد الحديبية وتوفى سنة سبع وثمانين بالكوفة رضي الله عنه (مرفوعا كان يكبر أربعًا) وهو إجماع وفيه أنه يدعو بعد الرابعة وتقدم (ثم يسلم) ورواه البيهقي وغيره وقال الحاكم هذا حديث صحيح. وقد استفاض السلام عنه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجنازة وهو واجب فيها إجماعا. وزاد أحمد وغيره من رواية شريك عن يمينه وشماله لكن.
قال ابن القيم رحمه الله المعروف عن ابن أبي أوفى تسليمه واحدة ذكره عنه أحمد وغيره. ويجوز أن يسلم تسليمة ثانية عن

(2/60)


يساره كتسليم الصلاة وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي. وله أن يتابع الإمام فيه كالقنوت وظاهركلام ابن الجوزي يسر بالثانية وفاقًا. وعن أحمد يسلم واحدة عن يمينه وفاقًا لمالك. ويجوز تلقاء وجهه يجهر بها الإمام كالمكتوبة لهذا الخبر ولما روى الجوزجاني عن عطاء بن السائب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم على الجنازة تسليمة واحدة.
وقيل لأحمد أتعرف عن أحد من الصحابة أنه كان يسلم على الجنازة تسليمتين قال لا ولكن عن ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفيفة وذكره البيهقي عن عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه أشبه بالحال ومبناها على التخفيف وأكثر ما روي في التسليم وقول أكثر العلماء من الصحابة والتابعين بل قال ابن المبارك من سلم على الجنازة تسليمتين فهو جاهل. قال الموفق واختار القاضي أن المستحب تسليمتان وواحدة تجزئ واختياره مخالف لإمامه وأصحابه وإجماع الصحابة والتابعين.
ويسن وقوف المصلي بعده عليها مكانه حتى ترفع قال مجاهد رأيت ابن عمر لا يبرح من مصلاة حتى يراها على أيدي الرجال. وقال الأوزاعي لا تنفض الصفوف حتى ترفع الجنازة وهو قول عاملة العلماء. وسن رفع يديه مع كل تكبيرة قال الشافعي وغيره ترفع للأثر والقياس على السنة في الصلاة. ورواه عن ابن عمر وأنس وسعيد عن ابن عباس والأثرم عن

(2/61)


عمر وزيد بن ثابت. ورواه البيهقي مرفوعا بسند ضعيف وفيه ويضع اليمنى على اليسرى.
واشترط الجمهور فيها النية وحكي اتفاقا. ولا يشترط معرفة عين الميت. والشرط الثاني إسلام الميت لأن الصلاة شفاعة له ودعاء والكافر ليس أهلاً لذلك. وقال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} قال شيخ الإسلام من كان مظهرًا للإسلام فإنه يجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة من تغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ونحو ذلك.
لكن من علم منه النفاق والزندقة فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه وإن كان مظهرا للإسلام وذكر الآية. وقوله {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية ثم قال وأما من كان مظهرًا للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر فلا بد أن يصلي عليهم بعض المسلمين. ومن امتنع زجرًا لأمثاله كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حسنًا وإن صلى يرجو رحمة الله ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة كان حسنا وإن امتنع في الظاهر ودعا في الباطن كان أولى.
وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الاستغفار له والصلاة عليه ويؤمر به كما قال تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وإن اختلط المسلمون بالمشركين ولم يتميزوا غسل الجميع وصلي عليهم سواء كان عدد المسلمين أقل

(2/62)


أو أكثر وهذا مذهب جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، اهـ.
والشرط الثالث طهارته من الحدث والنجس مع القدرة اتفاقا لأن العجز عن الطهارة لا يسقط فرض الصلاة كالحي وكباقي الشروط وإن خاف فوت الجنازة. وقال أبو حنيفة يجوز إن خاف فوتها إن اشتغل بالوضوء وحكاه ابن المنذر عن جماعة من التابعين واختاره الشيخ. وإن عجز عن طهارة الميت يمم ويصلي عليه.
والرابع والخامس الاستقبال والسترة كمكتوبة والسادس حضور الميت بين يديه قبل الدفن. وصرح به جماعة في المسبوق اتفاقا ولأنه لا صلاة بدون الميت سوى ما يأتي في الصلاة على الغائب. فلا تصح على جنازة محمولة. ولا من وراء جدار. ولا من وراء خشب كتابوت اتفاقا. بخلاف السترة من غير ذلك.
ويشترط تكفينه فلا تصح قبل أن تغسل أو ييمم لعدم ويكفن ويسن دنوه منها وقال المجد وغيره قربه من الإمام مقصود لأنه يسن الدنو منها ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته وهو مذهب الشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن مالك وقول جمهور العلماء وإن خشي رفعها تابع التكبير وإن سلم مع الإمام ولم يقضه صحت لقول عائشة لا قضاء عليك والأولى قضاؤها اتفاقا ويدخل المسبوق بين التكبيرتين كالحاضر إجماعًا.

(2/63)


(وعن أبي هريرة أن امرأة سوداء) سماها البيهقي أم محجن وفي رواية أو شابًّا (كانت تقم المسجد) أي تخرج القمامة منه (ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها فقالوا ماتت) قال أفلا آذنتموني قال أبو هريرة فكأنهم صغروا أمرها (فقال دلوني على قبرها فدلوه فصلى عليها متفق عليه) وعن ابن عباس قال "انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعا" متفق عليه.
وللدارقطنى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى على ميت بعد ثلاث" وفي رواية "صلى على قبر بعد شهر" وللترمذي عن سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر ولها شواهد كثيرة تدل على سنية الصلاة على الجنازة المدفونة. وقال أحمد من يشك في الصلاة على القبر. والصلاة على القبر مشهورة متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال غير واحد لا نزاع فيها.
فأما من لم يصل عليه ففرض الصلاة عليه الثابت بالأدلة والإجماع باق ومن صلي عليه فقد قال بمشروعية الصلاة عليه الجمهور. قال أحمد يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستة أوجه أو ثمانية أوجه أنه صلى على ميت بعد ما دفن. واختاره الشيخ وجمهور السلف. ومن اعتذر عن هذه السنة المشهورة فلعله لم يظهر له السبب في الإعادة. وقال ابن حامد يصلى عليه لأنه دعاء.

(2/64)


وقال المجد يصلي تبعًا وإلا فلا إجماعا. وقال تستحب إعادتها تبعًا مع الغير ولا تستحب ابتداء. وقال الشيخ لا تعاد الصلاة عليها إلا لسبب مثل أن يعيد غيره فيعيد معه. أو يكون أحق بالإمامة من الطائفة الثانية فيصلي بهم. وقال ابن المبارك إذا دفن الميت ولم يصلي عليه صلي على القبر. وذكر ابن القيم أن الأحاديث إنما تدل على هذا.
وحدد بعض أهل العلم الصلاة عليه بعد الدفن إلى شهر قال أحمد إذ هو أكثر ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -. وحده الشافعي بما إذا لم يبل الميت ومنع منه مالك وأبو حنيفة إلا للولي إذا كان غائبا وقال ابن القيم: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبر بعد ليلة ومرة بعد ثلاث ومرة بعد شهر ولم يوقت في ذلك وقتا.
وقال ابن عقيل يجوز مطلقًا لقيام الدليل على الجواز. وما وقع من الشهر فاتفاق ويؤيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين" رواه البخاري وغيره وفي السنن وغيرها أنه - صلى الله عليه وسلم - "صلى على قبر بعد شهرين" والحق أنه لم يرد توقيت ولأن المراد من الصلاة عليه الدعاء له وهو جائز في كل وقت. قال ابن القيم والعظام تبقى مدة طويلة ولا تأثير لتمزق اللحوم.
(ولهما عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه) سنة تسع في رجب (وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات) ولهما عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "توفي

(2/65)


اليوم رجل صالح من الحبشة فهلموا فصلوا عليه فصففنا خلفه فصلى عليه ونحن صفوف". وفي رواية "صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعاً".
وللترمذي وغيره وصححه عن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه" قال فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت. والنجاشي هو ملك الحبشة وكان اسمه أصحمة. ومعناه بالعربية عطية. ويسمى كل ملك للحبشة نجاشي. كما يسمى كل خليفة للمسلمين أمير المؤمنين. وملك الروم والفرس قيصر وكسرى.
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على مشروعية الصلاة على الغائب عن البلد بالنية. قال الحافظ وهو قول الشافعي وأحمد وجمهور السلف. وقال ابن حزم لم يأت عن أحد من الصحابة منعه وقال الشافعي الصلاة على الميت دعاء له فكيف لا يدعى له غائب وقيل إن لم يكن صلي عليه وإلا فلا اختاره الشيخ. وقال ولا يصلى كل يوم على كل غائب لأنه لم ينقل.
وقال ابن القيم مات خلق عظيم وهم غيب فلم يصل عليهم. وإنما صلي على النجاشي وفعله سنة وتركه سنة وصوب أنه إن مات ببلد لم يصلي عليه كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على

(2/66)


النجاشي وإلا فلا، اهـ. ولا يصلى على غائب في أحد جانبي البلد ولو كان كبيرا ولو لمشقة مطر أو مرض. ويصلى على غريق وأسير ونحوهما.
وإن وجد بعض ميت لم يصلَ عليه غسل وكفن وصلي عليه وجوبا لأن أبا أيوب صلى على رجل إنسان رواه أحمد. وصلى عمر على عظام بالشام. وأبو عبيدة على رؤوس رواهما عبد الله بن أحمد. وقال الشافعي ألقى طائر يدًا بمكة من وقعة الجمل عرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب فصلى عليها أهل مكة وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير أهل العلم ولأنه بعض من ميت فثبت له حكم الجملة.
فإن كان بعضا من ميت صلي عليه ندبا. وقيل يصلى عليه مطلقا. وأما تغسيله وتكفينه ودفنه فيجب اتفاقا. ثم إن وجد الباقي بعد غسل البعض وتكفينه ودفنه غسل وكفن وصلي عليه ودفن بجنب القبر أو في جانبه.
ولا يصلى على مأكول ببطن آكل لفقد الشرط من غسل وتكفين. ولا يصلى على مستحيل بإحراق ونحوه لأنه لم يبق منه ما يصلى عليه. ولا يصلى على بعض حي مدة حياته لأن الصلاة دعاء له وشفاعة وهذا عضو لا حكم له في الثواب. وفي الحديث دليل على أفضلية الصلاة عليه خارج المسجد.

(2/67)


(وعن جابر) بن سمرة رضي الله عنه. (أن رجلا قتلا نفسه بمشاقص) جمع مشقص كمنبر نصل عريض أو سهم فيه ذلك. أو نصل طويل أو سهم فيه ذلك يرمي به الوحش (فلم يصلِ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه مسلم) والخمسة وغيرهم وللنسائي "أما أنا فلا أصلي عليه" ومراده - صلى الله عليه وسلم - من تركه الصلاة عليه عقوبة له وردعا لغيره عن مثل فعله وهو استعجال إزهاق النفس.
وفي الصحيح في الرجل الجري الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو في النار وكان في غزوة خيبر وجرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي لا يصلى عليه مطلقا. الجمهور أنه لا يصلي عليه الإمام الأعظم.
(وعن زيد بن خالد في الذي غلَ في سبيل الله) أي كتم شيئا مما غنمه وذلك أن رجلا من المسلمين توفي بخيبر وأنه ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال صلوا على صاحبكم) فتغيرت وجوه القوم لذلك فلما رأى الذي بهم قال "إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين (رواه الخمسة إلا الترمذي) واحتج به أحمد ورجال إسناده رجال الصحيح.
وفيه تحريم الغلول وإن كان حقيرا وفي الوعيد عليه أحاديث شهيرة وإنما ترك - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عليه زجرا له ولأمثاله عن

(2/68)


الغلول. كما امتنع عن الصلاة على قاتل نفسه. وعلى المديون وأمرهم بالصلاة عليه أولاً حتى كفله أبو قتادة رضي الله عنه فدل الحديثان على سنية ترك الإمام الأعظم وإمام كل قرية وهو واليها في القضاء الصلاة على قاتل نفسه عمدا. والغال من الغنيمة. قال أحمد ما نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه.
ولو صلى عليهما الإمام فلا بأس كبقية الناس اختاره ابن عقيل وغيره وذكره في الفروع اتفاقا. وقال الشيخ: وإن تركهما أئمة الدين زجرًا فهو أولى. وإن صلى يرجو رحمة الله ولم يكن في الامتناع مصلحة راجحة فيحسن. وإن امتنع في الظاهر ودعا في الباطن فحسن. وأما من سواهما من سائر العصاة كالسارق والشارب والمقتول قصاصا أو حدًّا ونحو ذلك فيصلى عليهم. كما أن على سائر المسلمين أن يصلوا على موتى المسلمين كما دل عليه الحديثان وغيرهما.
وقال النووي وغيره مذاهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم. ومحدود. ومرجوم. وقاتل نفسه .. وولد الزنا. ونحوهم لقوله "صلوا على من قال لا إله إلا الله" المراد عاملا بمقتضاها. فلو قالها وأشرك لم تنفعه ولم يجز الصلاة عليه.
(وعن عائشة قالت صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد" رواه مسلم) وفي رواية سهيل وأخيه يعني سهلا

(2/69)


وفي رواية: أمرت أن تمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه فأنكر الناس ذلك عليها فقالت ما أسرع ما نسي الناس، والله ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد" قال الحافظ لما أنكرت ذلك سلموا لها. فدل على أنها حفظت ما نسوه. وفي رواية أرسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر نحوه وبنو بيضاء ثلاثة سهل وسهيل وصفوان وأمهم البيضاء وصف لها واسمها دعد وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري.
فدل هذا الحديث على جواز الصلاة عليه في المسجد وهو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم. وصلى عمر على أبي بكر في المسجد. وصهيب على عمر في المسجد رواهما ابن أبي شيبة وغيره قال الخطابي وغيره ثبت ذلك ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا ذلك وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك. وكرهه أبو حنيفة ومالك.
وقال ابن القيم وغيره لم يكن من هدية - صلى الله عليه وسلم - الراتب الصلاة على الجنائز في المسجد وإنما كان يصلي خارجه وربما صلى عليها فيه ولكن لم يكن من سنته وعادته وكلاهما جائز والأفضل خارجه لأنه الغالب وتقدم في قصة صلاته على النجاشي أنه خرج بهم إلى المصلى وكان هو المعهود في عصره - صلى الله عليه وسلم -. وحديث عائشة ظاهر الدلالة في الجواز إن أمن تلويثه وإلا حرم لتنجيسه.

(2/70)


(ولهما عن أبي هريرة مرفوعًا من شهد الجنازة حتى يصلى عليها) وللبخاري من "شيع" وفي لفظ "من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلى عليها" وفي لفظ لمسلم "من خرج مع جنازة من بيتها حتى يصلى عليها (فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) وللبخاري "فإنه يرجع بقيراطين" ولمسلم "ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط".
فدل على أنه لا يستحق الأجر المذكور إلا من صلى عليها وتبعها حتى تدفن، قال ابن القيم كان مجموع الأجر الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحده وقضاء حق أهله دينار مثلاً فللمصلي عليه قيراط من هذا الدينار والذي يتعارفه الناس من القيراط أنه نصف السدس فإن صلى عليه وتبعه كان له قيراطان منه هما سدسه وعلى هذا فيكون نسبة القيراط إلى الأجر الكامل بحسب عظم ذلك الأجر الكامل في نفسه وكلما كان أعظم كان القيراط منه بحسبه، اهـ. ولا سيما بحسب الإخلاص والمشقة.
ولما كان المتعارف به حقيرًا نبه الشارع على عظم القيراط الحاصل لمن فعل ذلك لما (قيل) له (وما القيراطان) أي الحاصلان لمن شهد الجنازة حتى يصلى عليها وتبعها حتى تدفن (قال مثل الجبلين العظيمين) ولمسلم "كل قيراط مثل أحد"

(2/71)


وللنسائي "كل واحد منهما أعظم من أحد" ولمسلم "أصغرهما مثل أحد". وعند ابن عدي. من رواية واثلة "كتب له قيراطان من الأجر أخفهما في ميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد".
فبين أن زنة الثواب المترتب على ذلك العمل مثل الجبلين العظيمين. وكثيرًا من يمثل الشارع أمور الآخرة بأمور الدنيا للتقريب إلى الأفهام وإلا فذرة من ذرات الآخرة خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معها. وخص الصلاة عليه والدفن بالذكر لكونهما المقصود بخلاف باقي أحوال الميت فإنها وسائل.
وسأل ابن عمر عائشة هل قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت صدق أبو هريرة. فقال ابن عمر لقد فرطنا في قراريط كثيرة وكان يصلي عليها ثم ينصرف فلما بلغه جد في اتباعها حتى تدفن. وفيه الترغيب في حضور الميت والصلاة عليه ودفنه. وفيه أيضا الدلالة على عظم فضل الله وتكريمه للميت وإكرامه بجزيل الثواب لمن أحسن إليه بعد موته.

فصل في دفنه
أي في صفة حمل الميت ودفنه والقيام عليه وأحكام القبور ووصول الثواب إلى الميت وغير ذلك ودفن الميت المسلم مشروع بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وفرض كفاية إجماعا. وكذا حملة ومؤونتهما والمراد على علمه كباقي مؤن

(2/72)


التجهيز. وفعلها بر وطاعة وإكرام للميت. ويكره أخذ الأجرة على ذلك ويسقط بفعل كافر وغيره كتكفينه لعدم اعتبار النية اتفاقا.
قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} وعاء ومعنى الكفت الضم والجمع {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم وتكفتهم أمواتا في بطنها أي تحوزهم إذ يدفنون فيها.
(وقال: ثم أماته فأقبره) أي جعل له قبرًا يوارى فيه. ولم يجعله ملقى للسباع والطيور. أو أقبره أي ستره الله بحيث يقبر وجعله ذا قبر يدفن وهذه مكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات.
(وقال: وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) أي لا تقف عليه ولا تول دفنه. وقال أكثر المفسرين لا تقم على قبره بالدعاء والاستغفار بعد الفراغ من دفنه وذلك أنه كان عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين وتقدم أصل القصة. قال شيخ الإسلام لما نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن القيام على قبور المنافقين كان دليل الخطاب أن المؤمنين يقام على قبورهم بعد الدفن واستحبه هو وغيره من أهل العلم وفعله علي وغيره ويأتي.
(وقال ابن مسعود: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها) فيضع قائمة السرير اليسرى في المقدمة على كتفه

(2/73)


الأيمن ثم ينتقل إلى المؤخرة ثم يضع قائمته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى المؤخرة فتكون البداءة من الجانبين بالرأس والخاتمة من الجانبين بالرجلين وهو مذهب أبي جنيفة والشافعي وأحمد وأصحاب مالك. وقال مالك وهو وما بين العمودين سواء لما فيها من الموافقة لكيفية غسله. قال ابن مسعود رضي الله عنه (فإنه من السنة) وقول الصاحبي من السنة له حكم الرفع (رواه ابن ماجه) وابن أبي شيبة وغيرهما ورواته ثقات. وكره الآجري وغيره الازدحام عليها لمخالفة الإسراع المأمور به.
ويباح أن يحمل كل واحدة على عاتقه بين العمودين وهو الأفضل عند الشافعية لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين. وروي عن سعد وابن عمر وأبي هريرة أنهم فعلوا ذلك. وعثمان حمل سريرًا بين العمودين فلم يفارقه حتى وضع. ويبدأ من عند رأسه ثم من عند رجليه لكن المؤخر إن توسط بين العمودين لم ير ما بين قدميه فلا يهتدي إلى المشي فيحمله حينئذ ثلاثة.
ويستحب أن يكون على نعش بعد أن يغسل ويكفن مستلقيا على ظهره إن أمكن وتغطية نعشها بمكبة كالقبة لأنه أستر لها. ويروى أن فاطمة صنع لها ذلك بأمرها. قال ابن عبد البر هي أول من غطي نعشها في الإسلام. ثم زينب بنت جحش ويجعل فوق المكبة ثوب وكذا إن كان بالميت حدب.

(2/74)


وكره تغطيته بغير أبيض ولا بأس بحمله على دابة لغرض صحيح كبعد قبره وسمن مفرط. ويجزئ الحمل على سرير أو لوح أو محمل وأي شيء حمل عليه ولا يحرم حمله على هيئة مزرية كفي قفة وغرارة وزنبيل ومكتل وعلى هيئة يخاف معها سقوطه بل يكره. وفي الفروع يتوجه احتمال يحرم وفاقا للشافعي. ولا بأس بحمله على الأيدي والرقاب كطفل.
(وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أسرعوا بالجنازة) أي بحملها إلى قبرها والإسراع ضرب من العدو وهو عدو فسيح سريع دون العنق وفوق السعي والجمهور أن المراد بالإسراع ما فوق سجيه المشي المعتاد. قال الموفق وغيره هذا الأمر للاستحباب بلا خلاف بين العلماء وشذ ابن حزم فقال بوجوبه والمراد شدة المشي. ولأبي داود وغيره بأسانيد صحيحة عن أبي بكرة "لقد رأيتنا ونحن نرمل رملاً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وللبخاري في تاريخه عن محمود "أسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ".
وذكر غير واحد من أهل العلم: لا يفرط في الإسراع فتمخض مخضا ويؤذي متبعها. ولأحمد عن أبي موسى أنه عليه الصلاة والسلام "مر بجنازة تمخض مخضا فقال عليكم بالقصد في جنائزكم" فيستحب الإسراع بها بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسد بالميت أو مشقة على الحامل

(2/75)


والمتبع. وتراعى المصلحة والحاجة اتفاقا. فإن خيف عليه من الإسراع مشي به الهوينا.
ولا ينبغي الإبطاء في شيء من حالاتها من غسل ووقوف عند القبر. وقال ابن القيم وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة فبدعة مكروهة مخالفة للسنة ومتضمنة للتشبه بأهل الكتاب. وأخبر عليه والسلام بالعلة في الإسراع فقال (فَإِنْ تَكُ) أي الجنازة والمراد به الميت (صالحة) ولفظ الترمذي خيرًا أي ذات خير (ف) ـهو (خير تقدمونها إليه) أي فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيبة.
(وإن تك سوى ذلك) ولفظ الترمذي وغيره وإن تك شرا (فشر تضعونه عن رقابكم متفق عليه) وفي لفظ وإن كان غير ذلك وللطبراني من حديث ابن عمر يقول إذا مات أحدكم فلا تحبسوه. وأسرعوا به إلى قبره قال الحافظ إسناده حسن. وتقدم حديث "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله" وفيها المبادرة بتجهيز الميت ودفنه. وفيه دلالة على أن حمل الجنازة يختص بالرجال للإتيان فيه بضمير الذكور.
(وعن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الراكب يمشي خلف الجنازة) قال الخطابي لا أعلمهم يختلفون أن يكون خلفها ولأن سيره أمامها يؤذي متبعها وقال النخعي كانوا يكرهونه وكره جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ركوب تابع

(2/76)


الجنازة لغير حاجة لما وراه الترميذي وغيره أنه عليه الصلاة والسلام "رأي رجلا راكبا مع جنازة فقال ألا تستحيون ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب".
ولأبي داود عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن يركبها فلما انصرف أُتي بدابة فركب فقيل له فقال "إن الملائكة تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت" وأما لحاجة فلا يكره وكذلك لا يكره رجوعه راكبا ولو لغير حاجة لما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "تبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس" رواه مسلم (والماشي كيف شاء منها رواه الخمسة وصححه الترمذي) قال الموفق وغيره حيث مشى فحسن يمينها أو شمالها أو خلفها أو أمامها. ويؤيده سنية الإسراع وأنهم لا يلزمون مكانا واحدا يمشون فيه لئلا يشق عليهم أو على بعضهم.
وقال البيهقي وغيره الآثار في المشي أمامها أكثر وأصح وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء. قال ابن المنذر ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة ورواه الخمسة وغيرهم. وقال الترمذي روي عن بعض الصحابة أنهم يتقدمون الجنازة فيجلسون قبل أن تنتهي إليهم.
ولا يكره أن يكونوا خلفها. وقال الأوزاعي: إنه الأفضل لأنها متبوعة والقرب من الجنازة أفضل فإن بعد أو تقدم إلى القبر

(2/77)


فلا بأس لكن بحيث أن ينسب إليها. وتقدم حديث "من تبعها وكان معها حتى يفرغ من دفنها فله قيراط". وفي الصحيحين من حديث البراء أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع الجنازة وهو من حقوق الإسلام لقوله للمسلم على المسلم ست وعدَّ منها اتباع جنازته وفي لفظ يشهدها أي يحضرها ليصلي عليه ويدفنه.
واتباعها سنة باتفاق المسلمين. وفي الرعاية فرض كفاية للأمر به وهو حق للميت وأهله. قال الشيخ لو قدر أنه لو انفرد الميت لم يستحق هذا الحق لمزاحم أو لعدم استحقاقه بتعه لأجل أهله إحسانا إليهم لتألف أو مكافأة أو غير ذلك وذكر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الله بن أُبي وذكر الآجري أنه من القضاء لحق أخيه المسلم.
واتباعها على ثلاثة أضرب أحدها أن يصلي عليها، ثم ينصرف. والثاني أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن. والثالث أن يقف بعد الفن على القبر ويسأل له التثبيت ويدعو له بالمغفرة والرحمة.
(وعن أم عطية نهينا) أي معشر النساء (عن اتباع الجنائز متفق عليه) أي أن نصل إلى القبور وظاهرة التحريم ولأبي يعلى من حديث أنس قال "أتحملنه قلن لا. قال أتدفنه قلن لا. قال فارجعن مأزروات غير مأجورات" ونقل النووي أنه لا خلاف في ذلك ولم يكن يخرجن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا

(2/78)


على عهد خلفائه. وقولها ولم يعزم علينا ظن منها رضي الله عنها أنه ليس نهي تحريم والحجة في قوله - صلى الله عليه وسلم - لا في ظن غيره.
ويكره أن يتبعها مع منكر إن عجز عن إزالته. وقيل يتبعها وينكره بحسبه وإن قدر وجب الإنكار وتأكد الاتباع لحصول المقصودين. ويكره رفع الصوت معها ولو بقراءة أو تهليل حكاه الشيخ وغيره اتفاق المسلمين لأنه بدعة ولنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتبع الجنازة بصوت أو نار رواه أبو داود. قال ابن المنذر يكرهه كل من نحفظ عنه.
وكان من فعل أهل الكتاب وقد شرط عليهم أن لا يفعلوا ذلك. ونهينا عن التشبه بهم فيما ليس هو من سلفنا الأول فكيف. وقد نهينا عنه وحرمه جماعة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم وكذا قوله (استغفروا له) ونحوه بدعة. قال ابن عمر وسعيد بن جبير لا غفر الله لك بعد وأجمعوا على النهي على اتباعها بنار إلا لحاجة.
وروى ابن ماجه عن أبي بردة قال. أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال لا تتبعوني بجمر فقالوا له أو سمعت فيه شيئا قال نعم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وللترمذي عن أبي هريرة مرفوعا "لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ولا يمشي بين يديها بصوت ولا نار" وله شواهد وذلك لأنه من شعار الجاهلية والنصارى ولما فيه من التفاؤل ومن ثم قالوا يحرم.

(2/79)


(ولهما عن أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا) ولمسلم "إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا" وروي غير ذلك وكلها ترجع لتعظيم أمر الله وتعظيم أمر القائمين به، وللترمذي "فقوموا حتى تخلفكم أو توضع" وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قام لجنازة يهودي وجاء عن علي أنه - صلى الله عليه وسلم - "قام ثم قعد".
قال النووي المختار في القيام للجنازة أنه مستحب واختاره الشيخ وغيره وقال أحمد إن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس. وقال قوم بالتخيير وبه تتفق الأدلة (فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع) ولأحمد في الأرض وقال البخاري باب من شهد الجنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال وللنسائي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ما راينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "شهد جنازة قط فجلس حتى توضع" وللبيهقي عن أبي هريرة وابن عمران القائم مثل الحامل في الأجر.
قال النووي وغيره مذهب جمهور أهل العلم استحبابه وقد صحت الأحاديث باستحباب القيام إلى أن توضع، ولم يثبت في القعود شيء إلا حديث علي ويحتمل أنه لبيان الجواز أو نسخ قيام القاعد دون استمرار قيام مشيعها كما هو المعروف من مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة وإن سبق إلى القبر وشق جلس لما في انتظاره قائما حتى تصل إليه وتوضع من المشقة ولأبي داود وغيره عن البراء خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فانتهينا إلى

(2/80)


القبر ولم يلحد بعد فجلس مستقبلا القبلة وجلسنا معه وتقدم أن بعض الصحابة يتقدمون الجنازة فيجلسون قبل أن تنتهي إليهم.
واستحب الجمهور أن يسجى قبر المرأة لأنها عورة فلا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون ويكره لرجل بلا عذر كمطر ونحوه ولأنه ليس بعورة وكشفه أبعد عن التشبه بالنساء وقال علي رضي الله عنه وقد مر بقوم يدفنون ميتًّا وبسطوا على قبره الثوب فجذبه وقال إنما يصنع هذا بالنساء رواه سعيد وغيره.
(ولمسلم عن سعد) يعني ابن أبي وقاص رضي الله عنه (قال الحدوا) بوصل الهمزة وفتح الحاء (لي لحدا) وأصل اللحد الميل وسمي لحدا لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسطه وهو هنا الشق تحت الجانب القبلي من القبر يسع الميت، ولولا مزيد فضله ما عانوه وهو الذي اختاره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا يختار له إلا الأفضل.
فإنه كان في المدينة رجلان أحدها يلحد والثاني يشق فأرسلوا إليهما وقالوا من جاء عمل عمله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء الذي يلحد فأمروه أن يلحد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وللخمسة "اللحد لنا والشق لغيرنا"، وللترمذي وصححه "فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، واتفق الأئمة وغيرهم على أن اللحد أفضل من الشق.

(2/81)


واتفقوا على أن السنة اللحد وأن الشق ليس بسنة. وأجمعوا على أن الدفن في اللحد والشق جائزان. والشق أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبني جانباه فإن كان ثم عذر بأن كانت الأرض رخوة لا يثبت فيها اللحد ولا يمكن رفع انهيارها بنصب لبن ولا حجارة ونحوها شق فيها للحاجة، وإلا كره كإدخاله خشبا وما مسته النار لكراهة السلف لذلك. وكذا دفن في تابوت ولو امرأة إجماعا ويسن أن يوسع ويعمق لقوله في قتلى أحد: "احفروا وأوسعوا وعمقوا" صححه الترمذي قال سعد رضي الله عنه (وانصبوا عليَّ اللبن) بفتح فكسر (نصبا كما فعل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وله شواهد. واتفق الصحابة على ذلك ونقلوا عددا اللبن تسعا.
فيسن نصب اللبن عليه نصبا اتفاقا. ويجوز ببلاط وغيره. ويتعاهد خلاله بالمدر ونحوه. ثم يطين فوق ذلك لئلا ينتخل عليه التراب منها لقوله "سدوا خلال اللبن" ثم قال "وليس هذا بشيء ولكن يطيب نفس الحي" رواه أحمد وغيره. ومن مات بسفينة ولم يمكن دفنه في البرية –ولو حبس يوما أو يومين ما لم يخافوا عليه الفساد- ألقي في البحر بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه وتثقيله بشيء ليستقرَ في قرار البحر.
وإن مات في بئر أُخرج وجوبا ليغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن وإلا طمت إن لم يحتج إليها. والسنة أن يسل في القبر وكذا في البحر من قبل رجلي القبر لأنه عليه الصلاة والسلام

(2/82)


سل من قبل رأسه رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح. وأدخل عبد الله بن زيد بن الحارث من قبل رجلي القبر وقال هذا من السنة رواه أحمد وغيره.
وله عن أنس أنه كان في جنازة فأمر بالميت فسل من عند رجلي القبر وهو المعروف عن الصحابة والتابعين. قال الشافعي لا يختلفون أنه يسل سلا وإن لم يكن أسهل أدخل من حيث سهل. وقال أبو حنيفة يدخل معترضا وقال مالك هما سواء.
(وعن ابن عمر كان - صلى الله عليه وسلم - إذا وضع الميت في القبر قال بسم الله) أي وضعناك (وعلى ملة رسول الله) - صلى الله عليه وسلم - أي دينه وشريعته. وفي رواية "وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي سلمناك: وفي رواية "إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا بسم الله وعلى ملة رسول الله" - صلى الله عليه وسلم - رواه الخمسة و"حسنه الترمذي".
فيستحب هذا الذكر عند وضع الميت في قبره. وإن قرأ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أو أتى بذكر أو دعاء لائق بالمحل فلا بأس لفعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل أصحابه.
ويقدم بدفن رجل من يقدم بغسله لأنه عليه الصلاة والسلام تولى دفنه العباس وعلي وأسامة وهم الذين تولوا غسله. ولأنه أقرب إلى ستر أحواله.
ويدفن امرأة محارمها الرجال الأقرب فالأقرب ممن يحل له النظر إليها. قال الزركشي لا نزاع في ذلك والترتيب مستحب.

(2/83)


ثم أجانب لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا طلحة فنزل قبل امرأة وهو أجنبي.
(وعن عبيد بن عمير) بن قتادة بن سعد الليثي وعبيد تابعي مشهور وأبوه عمير له صحبة سكن مكة ولم يرو عنه غير ابنه (قال - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة) بعد أن ذكر الكبائر ثم قال "واستحلال البيت الحرام (قبلتكم أحياء وأمواتا، رواه أبو داود) والنسائي.
فأما التوجه إليها في الحياة في الصلاة فبالكتاب والسنة والإجماع. وأما إذا وضع في اللحد فبلا نزاع. وقد دل الحديث وغيره على سنية وضع الميت في لحده متوجها إلى القبلة ويكون على شقه الأيمن. والنبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه صُنِعَ بهم كذلك بلا نزاع وهو طريق المسلمين. بنقل الخلف عن السلف لا يمتري فيه مسلم. ولأنه يشبه النائم وسنته أن ينام على شقه الأيمن مستقبل القبلة.
وينبغي أن يدنى من الحائط لئلا ينكب على وجهه فيسند وجهه ورجلاه إلى جدار القبر أو يسند أمامه بتراب ومن ورائه لئلا ينقلب ويجعل تحت رأسه لبنة فإن لم توجد فحجر. وتكره المخدة والمضربة اتفاقا. وكذا قطيفة ونحوها وتحل العقد لما تقدم وللاستغناء عنها لأنها إنما تعقد لخوف الانتشار عند حمله ونحوه.
(وعن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - حثى عليه) أي على قبر الميت

(2/84)


والحثو الأخذ بالكفين معا أو أحدهما (من قبل رأسه ثلاثا رواه ابن ماجه) بسند جيد ونحوه للدارقطني والبيهقي عن عامر بن ربيعة. ولأن مواراته فرض كفاية وبالحثو يكون فيمن شارك فيها. ولأن في ذلك أقوى عبرة واستذكار فاستحب ذلك.
ولأحمد بسند ضعيف أنه عليه الصلاة والسلام لما وضع ابنته في القبر قال {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}. وفَيهِا نعيدكم. ومنها نخرجكم تارة أخرى) واستحب بعض أهل العلم أن يقال بذلك عند حثي التراب استئناسا بهذا الخبر. وروي عن علي أنه كان إذا حثى على ميت قال اللهم إيمانا بك وتصديقا برسولك وإيقانا ببعثك "هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله رسوله" ثم يهال التراب على القبر.
(وعن عثمان) بن عفان رضي الله عنه (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه) أي على قبر الميت (وقال استغفروا لأخيكم سلوا له التثبيت) أي عند سؤال الملكين له (فإنه الآن) أي هذا الوقت (يسأل) من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ أو يقال له ما كنت تبعد. فيقول: أعبد الله فيقال له ما هذا الرجل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله. أو يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أو يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته أو

(2/85)


يقول غير ذلك مما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رواه أبو داود) وصححه البزار والحاكم وتقدم قوله تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وقال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وقال: {اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال ابن المنذر وغيره جمهور أهل العلم قالوا بمشروعية الوقوف على قبره والاستغفار له.
وقال الترمذي الوقوف على القبر والسؤال للميت مدد للميت بعد الصلاة عليه. لأن الصلاة بجماعة المسلمين كالعسكر له قد اجتمعوا بباب الملك يشفعون له والوقوف على القبر وسؤال التثبيت مدد للعسكر وهو ثمرة دعاء العسكر في الصلاة عليه وتلك ساعة شغل الميت لأنه استقبله هول المطلع وسؤال الفتانين كما هو مستفيض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجمع عليه.
وقد أجلسته لتسأله فيستحب الوقوف عليه والدعاء له بالتثبيت فهو في قبره كالغريق ينتظر دعوة تلحقه من قريب أو صديق.
(وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُفِعَ قبره) أي رفعه الصحابة رضي الله عنهم (عن الأرض قدر شبر رواه الشافعي) محمد بن إدريس القرشي الشافعي الإمام الشهير المتوفى سنة أربع ومائتين. ورواه ابن حبان في صحيحه وأبو بكر الساجي وغيرهم.
ولأبي داود وغيره بإسناد صحيح عن القاسم. قلت
لعائشة اشكفي لي عن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه رضي الله

(2/86)


عنهما فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء.
فدلت هذه الأخبار مع ما يأتي من النهي عن رفع القبور والزيادة على ترابها أن يرفع القبر عن الأرض قدر شبر واستحبه أهل العلم ليعرف فيزار ويحترم. وما يأتي من الأمر بتسويتها محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء. قال ابن القيم وهذه الآثار لا تضاد بينها. والأمر بتسوية القبور إنما هو تسويتها بالأرض وأن لا ترفع مشرفة عالية. وهذا لا يناقض تسنيمها يسيرا في الأرض ولا يزاد على الشبر. فإن الزيادة على المشروع محرم.
وينبغي أن يسنم لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنما. وعن الحسن مثله وهو مذهب الجماهير أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم إلا ما ذهب إليه بعض الشافعية من التسطيح وينبغي وضع حصباء عليه لفعل الصحابة بقبره - صلى الله عليه وسلم -. وللبزار أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر به أن يجعل على قبر عثمان بن مظعون. وللشافعي أنه وضع على قبر ابنه. ولابن ماجه أنه فعل بقبر سعد ولأنه أثبت له وأبعد لدروسه وأمنع لترابه من أن تذهب به الرياح واستمر عمل المسلمين عليه.
وينبغي رشه بماء لما روى الشافعي وغيره أنه عليه الصلاة والسلام رش على قبر ابنه إبراهيم ماء ولا بأس بتعليمه بحجر

(2/87)


ونحوه لما رواه أبو داود وغيره أنه وضع حجرا عند رأس عثمان وقال: "أعلم به قبر أخي أدفن إليه من مات من أهلي" وليعرفه به إذا زاره.
(وعنه) أي عن جابر رضي الله عنه قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر) أي يبيض بالجص أو بالجير وهو من البدع المحدثة ومن الوسائل المفضية إلى الشرك. وكذا تخليقه يعني طليه بالطيب وتزويقه. وتبخيره ووضع الستائر عليه. وأما تقبيله والتمسح به وكتابة الرقاع عليه ودسها في الأنقاب والاستشفاء به والطواف به والتبرك به والعكوف عنده وسؤاله النفع والضر فمن البدع المحدثة. ومن الشرك بالله. بل عبادة القبور أول شرك حدث على وجه الأرض.
(و) نهى (أن يقعد عليه) وللترمذي وصححه "نهى أن تجصص وأن يكتب عليها وأن توطأ لما فيه من الاستخفاف. ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعا "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر" وله عن أبي مرثد "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" قال الخطابي وغيره ثبت أنه نهى أن توطأ القبور وكذا يكره الاتكاء عليها عند الجمهور لما روى أحمد أنه عليه الصلاة والسلام رأى عمرو بن حزم متكئا على قبر فقال: "لا تؤذه" وأفظع منه التخلي عليها وبينها. ولا نزاع في تحريمه إذ هو بيت المسلم فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق. وكلما

(2/88)


كان الميت أفضل كان حقه أوكد.
ويكره المشي في المقبرة بالنعل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألق سبتيتيك" لئلا يطأ بها فوق رءوسهم إلا خوف نجاسة أو شوك ونحوهما مما يتأذى به. وذكر ابن القيم أن إكرامها عن وطئها بالنعال واحترامها من محاسن الشريعة. وقال من تدبر نهيه عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه علم أن النهي إنما كان احتراما لسكانها أن يوطأ بالنعال فوق رءوسهم. وأخبر أن الجلوس على الجمر حتى تخرق الثياب خير من الجلوس على القبر. ومعلوم أن هذا أحق من المشي بين القبور بالنعال. والقبور هي دار الموتى ومنازلهم ومحل تزاورهم وعليها تنزل الرحمة من ربهم. فهي منازل المرحومين ومهبط الرحمة ويلقى بعضهم بعضا على أفنية قبورهم يتجالسون ويتزاورون كما تظافرت به الآثار، اهـ.
قال مالك بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت. قال الشيخ: ولهذا روي أنها على أفنية القبور وأنها في الجنة والجميع حق اهـ. ولا يجاورون بما يؤذي الأموات من الأقوال والأفعال الخبيثة فإن لها من الحرمة ما جاءت به السنة.
(وأن يبنى عليه رواه مسلم) وأبو داود والترمذي وغيرهم وصححه وللنسائي "نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه" وظاهره تحريم الكتابة عليه. ولمسلم

(2/89)


عن علي مرفوعا "لا تدعن صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته" والمشرف ما رفع كثيرا عن المأذون فيه. وأمر فضالة بقبر فسوي وقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها رواه مسلم.
والنهي عن البناء على القبور مستفيض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجهه وأمر عليه الصلاة والسلام بهدمه. وقال الشافعي رأيت العلماء بمكة يأمرون بهدم ما يبنى عليها. والبناء عليها من وسائل وذرائع وعلامات الكفر وشعائره والمنع من ذلك كله قطع لتلك الذرائع المفضية إلى الشرك. والله جل ذكره بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بهدم الأوثان. ولو كانت على قبر رجل صالح. لأن اللات رجل صالح فلما مات عكفوا على قبره وبنوا عليه بنية وعظموها. قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} يعني التي كنتم تعبدونها هل نفعت أو ضرت؟ فلما أسلم أهل الطائف أمر - صلى الله عليه وسلم - بهدمها فهدمت.
وفيه وفي غيره أوضح دليل على أنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القبب التي بنيت على القبور واتخذت أوثانا ولا لحظة واحدة. وإذا كانت تعبد فهي أوثان كاللات والعزى ومناة بلا نزاع وقال عليه الصلاة والسلام "لا تجعل قبري وثنا يعبد" وقال "لا تجعلوا قبري عيدا" بل تعظيم القبور بالبناء ونحوه هو أصل شرك العالم الذي أرسلت الرسل وأنزلت الكتب بالنهي عنه والوعيد على فاعله بالخلود في النار.

(2/90)


ويحرم إسراجها واتخاذ المساجد عليها. قال شيخ الإسلام: يتعين إزالتها لا أعلم فيه خلافا بين العلماء سواء كانت قبور أنبياء أو غيرها لما في السنن وغيرها "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وفي الصحيحين "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ولهما أيضا "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" والنهي عنه مستفيض عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن القيم: لو وضع المسجد والقبر معا لم يجز. ولم يصح الوقف ولا الصلاة "وعن هشام" بن عامر الأنصاري استشهد في غزوة كابل بعد أن أبلى فيها "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أحد احفروا وأوسعوا" وتقدم الندب في توسيعه "وأحسنوا" وفيه الأمر بتحسين القبر "وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد" وذلك أنه شكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرة الجراحات "رواه الأربعة وصححه الترمذي" وفي لفظ قالوا: الحفر علينا لكل إنسان شديد فقال "ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد" وفي الصحيح عن جابر "كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فيقدمه في اللحد" فيجوز دفن اثنين وثلاثة للضرورة عند الجمهور أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
وروى عبد الرزاق عن واثلة أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه. وكان يجعل

(2/91)


بينهما حائلا من تراب ليصير كل واحد كأنه في قبر منفرد ولا سيما إن كانا أجنبيين. وإذا دفن اثنين فأكثر في قبر واحد فإن شاء سوى بين رءوسهم وإن شاء حفر قبرا طويلا وجعل رأس كل واحد عند رجلي الآخر أو وسطه كالدرج ويجعل رأس المفضول عند رجلي الفاضل.
ويكره دفن اثنين فأكثر معا من غير ضرورة وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد اختارها الشيخ وغيره. وكذا دفن واحد بعد واحد قبل بلاء السابق لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن كل ميت في قبر. وعلى هذا استمر فعل الصحابة ومن بعدهم من السلف والخلف. وإذا وجد عظام ميت دفنها في محلها.
ولا يدفن آخر عليه بل يحرم نبش قبر ميت باق لذلك. ومتى ظن أنه بلي جاز ومتى كان رميما جازت الزراعة والحرث وغير ذلك ما لم يخالف شرط واقف إجماعا وإلا فلا. وفي المدخل اتفق العلماء على أن الموضع الذي دفن فيه المسلم وقف عليه ما دام منه شيء ما موجودا فيه حتى يفنى فإذا فني حينئذ يدفن غيره فيه فإن بقي شيء ما من عظامه فالحرمة باقية كجميعه والعظام تبقى مدة طويلة ولا تأثير لتمزق اللحوم.
ولا يجوز أن يحفر عليه ولا يدفن معه غيره ولا يكشف عنه اتفاقا قال تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}

(2/92)


فالستر في الحياة ستر العورات. وفي الممات ستر جيف الأجساد وتغير أحوالها. فالبنيان في القبور ونحو ذلك سبب لخرق هذا الإجماع وانتهاك حرمة موتى المسلمين في حفرهم قبورهم والكشف عنهم، اهـ.
ومن نبش القبور التي لم تبل أربابها وأدخل أجانب عليهم فهو من المنكر الظاهر وليس من الضرورة المبيحة لجمع ميتين فأكثر في قبر. وكره الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها وقيامها. وتقدم الحديث في ذلك ويجوز ليلا ذكره النووي وغيره قول جماهير العلماء لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليهم إلا أنه كفن في ثوب غير طائل ولم يعلموه به.
ودفنوا أبا بكر ليلا. وفاطمة. وكان ذلك كالإجماع على الجواز. وذكر الوزير اتفاقهم على كراهته ليلا. ونهارا أولى إجماعا لحضور كثرة المصلين وتحسين الكفن وغير ذلك وللأحاديث الصحيحة. والخروج من الخلاف. وقال ابن القيم الذي ينبغي أن يقال إنه متى كان الدفن ليلا لا يفوت به شيء من حقوق الميت والصلاة عليه فلا بأس به. وعليه تدل أحاديث الجواز وإن كان يفوت بذلك حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام عليه نهي عن ذلك. وعليه يدل الزجر. اهـ.
ودفن في صحراء أفضل من الدفن بعمران. لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن أصحابه بالبقيع واستمر عمل المسلمين على ذلك في سائر

(2/93)


الأمصار سوى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه قبر ببيته. وقالت عائشة خشي أن يتخذ قبره مسجدا رواه البخاري وغيره. ولما روي "تدفن الأنبياء حيث يموتون" وقال أبو بكر سمعته يقول "ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه". ورأى أصحابه تخصيصه بذلك.
واختار صاحباه الدفن عنده تشرفا به - صلى الله عليه وسلم -. وجاءت أخبار تدل على دفنهم كما وقع ويستحب قريبا من الشهداء والصالحين لينتفع بمجاورتهم ولأنه أقرب إلى الرحمة. قال الشيخ إنه يخفف العذاب عن الميت بمجاورة الرجل الصالح كما جاءت بذلك الآثار المعروفة ولتناله بركتهم. ويستحب جمع الأقارب في بقعة لتسهل زيارتهم ولأنه أبعد لاندراس قبورهم. وتقدم قوله في قبر عثمان "لأدفن إليه من مات من أهلي". وكذا في البقاع الشريفة فقد سأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة متفق عليه. وسأل عمر الشهادة في سبيل الله والموت في بلد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ولا بأس بتحويل الميت ونقله إلى مكان آخر لغرض صحيح كبقعة شريفة ومجاورة صالح مع أمن التغير لفعل الصحابة وغيرهم إلا القتلى في سبيل الله فلا يحولون لحديث ادفنوا القتلى في مصارعهم. وتدفن ذمية حامل من مسلم وحدها إن
أمكن. قال الشيخ لا تدفن في مقابر المسلمين ولا في
مقابر النصارى. لأنه اجتمع مسلم وكافر فلا يدفن
الكافر مع المسلم. ولا المسلم مع الكافر. بل تدفن منفردة لأنها إذا

(2/94)


دفنت في مقبرة المسلمين تأذوا بعذابها. وإذا دفنت في مقبرة النصارى تأذى الولد بعذابهم. وتأذيه بعذابها ضرورة وهو أخف من عذاب المجموع.
فإن لم يمكن دفنها وحدها فمعنا على جنبها الأيسر وظهرها إلى القبلة ليكون الجنين على جنبه الأيمن مستقبلا القبلة وهو مسلم بإسلام أبيه. وإن كانت أمه كافرة باتفاق المسلمين، وقال: لابد أن تكون مقابر المشركين متميزة عن مقابر المسلمين تميزًا ظاهرًا بحيث لا يختلطون بهم ولا يشبه المسلمين بقبور الكفار وهو أكبر من التميز بينهم حال الحياة فإن في مقابر المسلمين الرحمة وفي مقابر الكافرين العذاب.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي لو تكلمت تصدقت) وذلك أنها افتلتت نفسها فلم توص بشيء من أعمال البر (فهل لها أجر إن تصدقت لها؟ قال: نعم متفق عليه) وللبخاري عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: (نعم) قال فإن لي مخرفا أي حديقة من نخل وعنب أو غيرهما فإن أشهدك أني قد تصدقت بها عنها.
ولأحمد عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال"نعم قلت فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء" قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة وله من

(2/95)


حديث عمرو بن العاص إن أباه نذر أن ينحر مائة بدنة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "لو أقر أبوك بالتوحيد فصمت عنه أو تصدقت عنه نفعه ذلك" قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه.
وقال ابن القيم: من صلى أو صام أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة. وقال شيخ الإسلام اتفق أئمة الإسلام على انتفاع أهل الميت بالدعاء له وما يعمل عنه من البر وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام. وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فمن خالف ذلك كان من أهل البدع.
وذكر استغفار الملائكة والرسل والمسلمين للمؤمنين. وما تواتر من الصلاة على الميت والدعاء له. وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن توفيت أمه وقال أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال "نعم" وغير ذلك وذكر اتفاقهم على وصول الصدقة ونحوها وتنازعهم في العبادات البدنية كالصلاة والصوم والحج والقراءة. وذكر ما في الصحيحين من حديث عائشة "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". وعن ابن عباس وفيه "فصومي عن أمك" وحديث عمر وإذا صاموا عن المسلم نفعه وما ورد في الحج وغير ذلك.
ثم قال. فهذا الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم مفصل مبين. ثم قال ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة

(2/96)


الصريحة من بلغته وإنما خالفها من لم تبلغه ولا ينافي قوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ولا قوله "إذا مات ابن آدم انقطع عمله" إلخ لأن ذلك ليس من عمله والله تعالى يثيب هذا الساعي وهذا العامل على سعيه وعمله يرحم هذا الميت بسعي هذا الحي وعمله بسعي غيره وليس من عمله.
ثم ذكر أن أفضل العبادات ما وافق هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه وقول ابن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأن الذي كان معروفا بين المسلمين في القرون المفضلة أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها ويدعون للؤمنينن والمؤمنات كما أمر الله بذلك لأحيائهم وأمواتهم في قيام الليل وغيره. وفي صلاتهم على الجنائز وعند زيارة القبور وغير ذلك من مواطن الإجابة.
ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا وصاموا تطوعا وحجوا أو قرءوا القرآن يهدون ذلك لموتاهم المسلمين. بل كان من عادتهم الدعاء كما تقدم فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف إنه أفضل وأكمل. ولم ير هو وغيره من أهل التحقيق الإهداء للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال: فإن له كأجر العامل فلم يحتج إلى أن يهدى إليه ثواب صلاة أو صدقة أو قراءة من أحد.
ورآه هو وبعض الفقهاء بدعة. ولم يكن الصحابة يفعلونه وفي الاختيارات لا يستحب اهداء القرب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو بدعة

(2/97)


هذا هو الصوات المقطوع به، اهـ.
ومن البدع المحدثة القراءة علىلقبر والآثار في النهي عن العكوف على القبر واعتياده متظاهرة. وكان أحمد وغيره من السلف ينكر القراءة على القبر وكرهها أبو حنيفة ومالك بل عامة السلف أنكروها وشددوا فيها. قال شيخ الإسلام نقل الجماعة كراهتها وهو قول جمهور السلف وعليه قدماء الأصحاب. وعن أحمد بدعة وهو مذهب الشافعي لأنه ليس من فعله - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعل أصحابه فعلم أنه محدث.
وسأله عبد الله يحمل مصحفا إلى القبر فيقرأ عليه قال: بدعة. قال الشيخ ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن القراءة عند القبر أفضل. ولا رخص في اتخاذها عنده أحد منهم كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم. أو الذكر أو الصيام. وقال: واتخاذ المصاحف عندها ولو للقراءة فيها بدعة. ولو نفع الميت لفعله السلف ولا أجر للميت بالقراءة عنده. ومن قال إنه ينتفع بسماعها دون ما إذا بعد القارئ فقوله باطل مخالف للإجماع. ولا ريب أن القراءة على القبر عكوف كما يعتاد عباد القبور العكوف عندها بأنواع القرب. وهذا العكوف يضاهي العكوف في المساجد بالطاعات.
(وعن عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله هو أول من ولد بالحبشة من المسلمين وتوفي سنة سبع

(2/98)


وثمانين وله تسعون (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اصنعوا لآل جعفر) أي أهله الذين كانوا في نفقته أو الذي يأوون معه في بيته ويتولون أمره. والأول هو المعروف في اللغة أي اعملوا لهم "طعاما" ليشبعهم يومهم وليلتهم.
(فقد أتاهم) أي دهمهم من المصيبة بموت جعفر رضي الله عنه (ما يشغلهم) عن أنفسهم بفتح الياء والغين. قال الزبير فعمدت سلمى مولاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى شعير فطحنته وأدمته بزيت جعل عليه وبعث به إليهم (رواه الخمسة إلا النسائي وحسنه الترمذي) وصححه ابن السكن فدل على مشروعية القيام بمؤنة أهل الميت مما يحتاجون إليه من الطعام لاشتغالهم عن أنفسهم وهو مذهب الشافعي وأحمد. ويروى عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال. فما زالت تلك السنة فينا حتى تركها من تركها يعني من أمره عليه الصلاة والسلام بصنع الطعام لآل جعفر.
وكان قتل رضي الله عنه في جمادى سنة ثمان من الهجرة في غزوة مؤتة موضع معروف بالشام عند الكرك اقتحم عن فرسه فعقرها. وكان أول من عقر في الإسلام ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه. ووجد فيما أقبل من جسده بضعا وتسعين ما بين طعنة ورمية. وسمي ذا الجناحين لأنه قاتل حتى قطعت يداه. قالت عائشة لما جاءت وفاته رئي في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحزن. وهو أحد السابقين الأولين شقيق علي

(2/99)


ولد قبله بعشر سنين. قال أبو هريرة إنه أفضل الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الصحيح أنه قال له أشبهت خلقي وخلقي.
ويستحب لجيران أهل الميت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام يشبعهم. ويقصد بالطعام أهل الميت لا من يجتمع إليهم. قال شيخ الإسلام لكن إنما يطيب إذا كان بطيب نفس المهدي وكان على سبيل المعاوضة مثل أن يكون مكافأة عن معروف مثله. فإن علم الرجل أنه ليس بمباح لم يأكل منه وإن اشتبه أمره فلا بأس بتناول اليسير منه إذا كان فيه مصلحة راجحة مثل تأليف القلوب ونحو ذلك، اهـ.
ويكره لأهل الميت فعل الطعام للناس لما روى أحمد عن جرير قال. كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة وإسناده ثقات. قال أحمد هو من فعل أهل الجاهلية ولأنه معونة على مكروه. وهو اجتماع الناس عند أهل الميت. بل هو بدعة وخلاف السنة لأنهم مأمورون أن يصنعوا لأهل الميت طعاما فخالفوا الأمر وكلفوهم صنع الطعام لغيرهم. وقد علل - صلى الله عليه وسلم - بما هم فيه من الشغل بمصابهم. قال الموفق وغيره إلا من حاجة كأن يجيء من يحضر ميتهم من أهل القرى البعيدة ويبيت عندهم فلا يمكن إلا أن يطعموه، اهـ.
وأما جمع أهل المصيبة الناس على طعامهم ليقرءوا ويهدوا له. فقال شيخ الإسلام ليس معروفا عند السلف. وقد كرهه

(2/100)


طوائف من العلماء من غير وجه وقرب دفنه منهي عنه وعده السلف من النياحة. وذكر خبر جرير وهذا في المحتسب فكيف بمن يقرأ بالكراء. قال وأكثر من يقرأ ويهدي للميت بدعة لم يفعلها السلف ولا استحبها الأئمة والفقهاء تنازعوا في جواز الاكتراء على تعليمه فأما اكتراء من يقرأ ويهدي فما علمت أحدا ذكره ولا ثواب له فلا شيء للميت. قاله العلماء ولا تنفذ وصية بذلك.
وقال الطرطوشي: فأما المآثم فممنوعة بإجماع العلماء. والمأتم هو الاجتماع على المصيبة وهو بدعة منكرة لم ينقل فيه شيء. وكذلك ما بعده من الاجتماع في اليوم الثاني والثالث والرابع والسابع والشهر والسنة فهو طامة. وإن كان من التركة وفي الورثة محجور عليه أو من لم يأذن حرم فعله وحرم الأكل منه.
ويحرم الذبح عند القبور والأكل منه. قال شيخ الإسلام: يحرم الذبح والتضحية عند القبر ولو نذره. ولو شرطه واقف فشرطه باطل لحديث أنس "لا عقر في الإسلام" رواه أحمد بسند صحيح وكان من فعل أهل الجاهلية إذا مات فيهم الميت عقروا عند قبره شاة أو بعيرا ويقولون إنه كان يعقر للأضياف أيام حياته فيكافئونه بمثل صنيعه بعد وفاته أو ليكون مطعما في حياته وبعد وفاته.
وفي معنى الذبح عند القبر الصدقة عنده. وقال الشيخ

(2/101)


إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة. وهو يشبه الذبح عند القبر ولا يشرع شيء من العبادات عند القبور الصدقة وغيرها. وأنكر أن يوضع الطعام أو الشراب عند القبر ليأخذه الناس.

فصل في زيارة القبور
أي في بيان أحكام زيارة القبور وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع وأما الزيارة البدعية فمحرمة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة ويأتي الفرق بينهما.
قال تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فزيارة الميت المشروعة بالدعاء والاستغفار هي من هذا القيام المشروع وفيها دليل على أن زيارة قبور المسلمين أمر متقرر عند المسلمين وأن الدعاء لهم والاستغفار من أكبر القربات وأفضل الطاعات ورتب الشارع عليها الجزاء الجزيل.
(وعن بريدة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور) وذلك أنهم كانوا حدثاء عهد بعبادة القبور والتعلق بها فلما استقر عندهم التوحيد وصاروا هم يعيبون زيارتها أذن لهم فيها ولعل ما روي عن ابن سيرين والنخعي والشعبي من كراهة زيارة القبور: عدم اطلاعهم على نسخ النهي والأمر بالزيارة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فزوروها رواه مسلم) وغيره من أهل السنن والمساند.

(2/102)


ولهم عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - "زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي. واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" وتقدم الأمر بالإكثار من ذكر الموت وحكى النووي والحازمي وغيرهما إجماع أهل العلم على أن زيارة القبور سنة وهو ما استقر عليه الأمر بعد. وذهب ابن حزم إلى وجوب الزيارة ولو مرة لورود الأمر به وهو مستفيض من طرق كثيرة وتباح زيارة قبر الكافر للاعتبار لفعله - صلى الله عليه وسلم -.
(زاد ابن ماجه عن ابن مسعود فإنها تذكرة الآخرة) وصححه الترمذي من حديث بريدة (وتزهد في الدنيا) وسنده صححي وله نحوه عن عائشة. ولأحمد نحوه من حديث أبي سعيد وعلي وكلها دالة على تأكد سنية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها. وفي حديث ابن مسعود. فإنها عبرة وذكر للآخرة وتزهيد في الدنيا. ومن لم يتعظ بالموتى فلا تنفعه موعظة.
والحاصل أن المقصود من زيارة القبور الاعتبار والنفع المزور والزائر بالدعاء فلا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه وللميت ولا عن الاعتبار بحاله كيف تقطعت أوصاله وتفرقت أجزاؤه وكيف يبعث من قبره وأنه عما قريب يلحق به. وقال القرطبي ينبغي أن يتأدب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها ويتعظ بأهلها وأحوالهم ويعتبر بهم وما صاروا إليه.
(وعن بريدة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم) أي يعلم

(2/103)


أصحابه رضي الله عنهم (إذا خرجوا إلى المقابر) أن يقولوا (السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين) وله من حديث أبي هريرة أنه أتى المقبرة فقال "السلام علكيم دار قوم مؤمنين" ونحوه لأحمد وغيره من حديث عائشة وغيرها بلفظ "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" والمراد قبور المسلمين بقوله الزائر لهم أو المار بهم.
(وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) والاستثناء للتبرك في قول أكثر أهل العلم وصححه النووي وامتثالا لقوله (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله). وذكر البغوي وغيره أنه راجع للحوق لا الموت أو إلى البقاع والموت واقع لا محالة (نسأل الله لنا ولكن العافية) من كل مكروه (رواه مسلم) وله نحوه من حديث عائشة وفيه ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين.
(زاد أحمد عن عائشة اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي لا تمنعنا من أجرهم (ولا تفتنا بعدهم) أي لا تضلنا بعدهم وفتنة أضله (واغفر لنا ولهم) وللترمذي من حديث ابن عباس قال "مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر" وكان بعض السلف إذا وقف على المقابر يقول آنس الله وحشتكم ورحم غربتكم وتجاوز عن سيئاتكم وقبل حسناتكم.

(2/104)


والأدعية الواردة في الدعاء للميت المسلم عند زيارته مستفيضة وكان ابن عمر يقول إذا دخل المسجد. السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر. السلام عليكم يا أبت. قال الشيخ وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه. ويسلمون عليه مستقبلي الحجرة مستدبري القبلة عند الأئمة وغيرهم.
واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو مستقبلها فإن هذا منهي عنه باتفاق الأئمة. ويستقبل الزائر وجه والده وغيره قريبا منه كزيارته في حياته ويقول: السلام عليك ورحمة الله وبركاته اللهم اغفر له وارحمه والمزور يسمع كلام الزائر لمفهومها ولما في الصحيحين وغيرهما قال: "إنه ليسمع خفق نعالهم" وقال في قتلى بدر "ما أنت بأسمع لما أقول منهم" وقال إنهم يسمعون الآن وغير ذلك من الأدلة الدالة على أن الميت يسمع في الجملة.
وقال الشيخ وابن كثير وغيرهما سماع الموتى هو الصحيح من كلام أهل العلم ولم يكن ليأمر بالسلام علىمن لا يسمع ولا يجب أن يكون السمع له دائما. بل قد يسمع بحال دون حال كما يعرض للحي. وهذا السمع سمع إدراك لا يترتب عليه جزاء ولا هو السمع المنفي في القرآن وإن سمع فلا يمكنه إجابة الداعي ولا ينتفع بالأمر والنهي.
وقال ابن القيم الأحاديث والآثار تدل على أن الزائر متى

(2/105)


جاء علم به المزور وسمع سلامه وأنس به ورد عليه وذلك عام في حق الشهداء وغيرهم ولا توقيت في ذلك. وقال الشيخ استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا وإن ذلك يعرض عليه. وجاءت الآثار بأنه يرى ويدري بما فعل عنده ويسر بما كان حسنا ويتألم بما كان قبيحا.
وجاءت بتلاقيهم وتسائلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات فيجتمعون إذا شاء الله كما يجتمعون في الدنيا مع تفاوت منازلهم. وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا أو متقاربة لكن الأعلى ينزل إلى الأسفل والأسفل لا يصعد إلى الأعلى. وللروح اتصال بالبدن متى شاء الله وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم كما تظاهرت به الآثار.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تشد الرحال) جمع رحل وشدها كناية عن السفر ولمسلم "إنما يسافر" وكنى بشد الرحال لأنه لازمه وخرج ذكرها مخرج الغالب وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والحمير وغيرها والمشي إلى موضع فاضل والمراد النهي عن السفر. قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلى موضع يتعبد فيه وسدا لذريعة الشرك بالقبور.
(إلا إلى ثلاثة مساجد) أي إلا هذه البقاع لاختصاصها

(2/106)


بما اختصت به. قال القاضي عياض والجويني وغيرهما يحرم شد الرحل لغيرها كقبور الصالحين والمواضع الفاضلة للتعبد. وأما لزيارة صديق أو قريب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي. وكان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها.
فسد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذرائع المفضية إلى الشرك ولئلا يلحق غير الشعائر بالشعائر ولئلا يصير ذريعة إلى عبادة قبره ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها وبدأ بـ (المسجد الحرام) أي المحرم ككتاب بمعنى مكتوب والمراد جميع الحرم أو المسجد ورجح عطاء وغيره الحرم كله لأنه كله مسجد (ومسجدي هذا) وفي لفظ "ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - " ولعله من تصرف الرواة (والمسجد الأقصى) أي بيت المقدس سمي الأقصى لبعده في المسافة عن مكة.
وخص الثلاثة لأن الأول إليه الحج والقبلة. والثاني أسس على التقوى. والثالث قبلة بعض الأمم الخالية. ولأنها مساجد الأنبياء فمسجده - صلى الله عليه وسلم - بناه حين قدم المدينة مهاجرا بعد مسجد قباء طوله مما يلي القبلة نحو مائة ذراع والجانبين مثل ذلك أو دونه قليلا وفي الصحيحين عن أبي ذر قلت أي مسجد وضع أولا؟ قال المسجد الحرام قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى. قلت كم بينهما؟ قال أربعون سنة.

(2/107)


قال الشيخ فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم لكن سليمان بناه بناء عظيما. فكل من المساجد الثلاثة بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس. ولما كانت الأنبياء تقصد الصلاة في هذ المساجد شرع السفر إليها والعبادة فيها اقتداء بالأنبياء وتاسيا بهم وجاء في فضلها أحاديث كثيرة وفي الصحيحين عن أبي هريرة "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
ولأحمد وغيره عن جابر "وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" وللبيهقي وغيره عنه بسند حسن "صلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة. وصلاة في مسجدي الف صلاة. وفي بيت المقدس خمسمائة صلاة" وحديث الباب (متفق عليه) من غير وجه وهو في السنن والمساند وغيرها بألفاظ متقاربة. وقال شيخ الإسلام هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وهو مروي من طرق أخر.
واتفق الأئمة على صحته وأجمعوا على العمل به في الجملة فلا تشد الرحال إلا إلى المسجد الحرام ومسجد المدينة مسجده - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى والنية في السفر إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - وزيارة قبره مختلفة فمن قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه فهذا مشروع بالنص والإجماع. وكذا من قصد السفر إلى مسجده وقبره معا فهذا قصد مستحب مشروع بالإجماع.

(2/108)


وإن لم يقصد إلا القبر ولم يقصد المسجد فهذا مورد النزاع فمالك والأكثرون يحرمون هذا السفر. وكثير من الذين يحرمونه لا يجوزون قصر الصلاة فيه وآخرون يجعلونه جائزا. وإن كان السفر غير جائز ولا مستحب ولا واجب بالنذر ولم يعرف أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال تستحب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لا تستحب ولا علق بهذا الاسم حكما شرعيا.
وقد كره كثير من العلماء التكلم به وذلك اسم لامسمى له ولفظ لا حقيقة له وإنما تكلم به من تكلم من بعض المتأخرين ومع ذلك لم يريدوا ما هو المعروف من زيارة القبور فإنه معلوم أن الذاهب إلى هناك إنما يصل إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم -. والمسجد نفسه يشرع إتيانه سواء كان القبر هناك أو لم يكن وذكر ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن اتخاذ قبره عيدا وسؤاله ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وأنه يدل على منع شد الرحل إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - وغيره من القبور والمشاهد. بل قبر غيره أولى بالمنع لأن قبره أفضل قبر على وجه الأرض. وقد نهى عن اتخاذه عيدا فغيره أولى بالنهي كائنا من كان. وشد الرحل إليها من اتخاذها أعيادا ومن أعظم أسباب الإشراك بها كما هو الواقع. واتفق الأئمة على المنع من ذلك أنه من وسائل الشرك وذرائعه. قال الشيخ والذي عليه أئمة المسلمين وجمهور العلماء على أن السفر للمشاهد التي على القبور

(2/109)


غير مشروع بل هو معصية من أشنع المعاص وقال ولم ينقل جوازه عن أحد من المتقدمين وذكر أنه بدعة واختار القاضي والجويني وغيرهما تحريم بالسفر لزيارة القبور مطلقا.
وغلط أهل التحقيق من استثنى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه الاستثناء في قوله "لا تشد الرحال" ونحوه عند أهل الاصول معيار العموم. وفي حديث النهي عن اتخاذ قبره عيدا قال: "فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" وقال ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". قال الشيخ وأما وقد منع الناس من الوصول إليه بثلاثة الجدران فلا تحصل المزية فسواء سلم عليه عند قبره أو في مسجده إذا دخله أو في أقصى المشرق أو المغرب فالكل يبلغه كما وردت به الأحاديث.
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه يسمع الصلاة من القريب وأنه يبلغ ذلك من البعيد. قال ولا يسافر للوقوف عند قبر أحد لا من الأنبياء ولا من المشائخ ولا غيرهم باتفاق المسلمين. بل أظهر قولي العلماء أنه لا يسافر أحد لزيارة قبر من القبور ولكن تزار القبور بالزيارة الشرعية فيزورها من كان قريبا ومن اجتاز بها كما أن مسجد قباء يزار من المدينة وليس لأحد أن يسافر إليه ولا إلى غيره من المساجد ونحو ذلك غير المساجد الثلاثة المستثناة في الحديث.
وذلك أن الدين مبني على أصلين. أن لا يبعد إلا الله

(2/110)


وحده. ولا يعبد إلا بما شرع. لا بالبدع وذكر أن الزيارة على قسمين شرعية وبدعية، فالشرعية المقصود بها السلام على الميت والدعاء له. كما يقصد بالصلاة على جنازته من غير شد رحل. والبدعية أن يكون المقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت وهذا شرك أكبر أو يقصد الدعاء عند قبره أو الدعاء به. وهذه بدعة منكرة ووسيلة إلى الشرك وليس من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها.
وقال في موضع آخر: على وجهين وجه نهي عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفق العلماء على أنه غير مشروع وهو أن يتخذها مساجد ويتخذها وثنا ويتخذها عيدا فلا يجوز أن تقصد للصلاة الشرعية ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان ولا أن تتخذ عيدا يجتمع إليها في وقت معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى. وذكر أن أحاديث النهي كثيرة مشهورة.
(وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور رواه الخمسة وصححه الترمذي) ولأبي داود وغيره عن أبي هريرة نحوه قاله شيخ الإسلام وغيره. وقال: وقد تعددت طرقهما وليس فيهما متهم ولا خالفهما أحد من الثقات. وقد روي هذا عن صاحب وهذا عن صاحب آخر وذلك يبين أن الحديث في الاصل معروف وتقدم في الصحيحين أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز.

(2/111)


وفي السنن وصححه أبو حاتم من حديث ابن عمر قال فلما فرغنا يعني من دفن الميت انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرفنا معه فلما توسطنا الطريق إذا نحن بامرأة مقبلة فلما دنت إذا هي فاطمة فقال ما أخرجك؟ قالت أتيت أهل هذا البيت فعزيناهم بميتهم فقال لعلك بلغت معهم الكدى قالت معاذ الله أن أكون بلغت معهم الكدى وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر فقال لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك. وقد فسر الكدى بالقبور وبالأرض الصلبة لأن مقابرهم كانت في مواضع صلبة.
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على تحريم زيارة النساء القبور. ولأبي يعلى من حديث أنس قال: "أتحملنه؟ قلن لا قال أتدفنه؟ قلن لا قال فارجعن مأزورات غير مأجورات" ونقل النووي أنه لا خلاف في ذلك والأحاديث صريحة في ذلك ورجحه الشيخ وغيره وقال وعلى هذا العمل في أظهر قولي أهل العلم.
واحتج أهل القول الآخر بالإذن وليس بجيد فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور أو متناول لغيرهم فإن كان مختصا فلا ذكر للنساء وإن كان متناولا كان لفظ الحديث في النهي مختصا. ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة فكان مقدما على العام عند عامة أهل العلم كما لو علم أنه بعدها.

(2/112)


والنبي - صلى الله عليه وسلم - علل بالإذن للرجال بأن ذلك يذكر بالموت ويرقق القلب ويدمع العين ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة لما فيها من الضعف وكثرة الجزع وقلة الصبر. وأيضا فإن ذلك سبب لتأذي الميت ببكائها والرجال بصوتها وصورتها كما في الخبر "فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت".
وإذا كان مظنة فمن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو غير منتشرة علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب سدًا للذريعة وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت وذلك ممكن في بيتها.
ولهذا قال الفقهاء إذا علمت من نفسها أنها إذا زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز من قول أو عمل لم تجز لها الزيارة بلا نزاع. وقال إذا كانت زيارة النساء مظنة ومنشأ للأمور المحرمة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع أما لومرت في طريقها على مقبرة وسلمت فلا بأس لأنها لا تسمى زائرة.

(2/113)


فصل في التعزية
أي في بيان التعزية وأحكامها ووجوب الصبر على المصيبة وتحريم الندب والنياحة وما يتعلق بذلك قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} على الرزايا والبلايا وقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ذكره في أكثر من تسعين موضعا من كتابه ووصفهم في هذه الآية بقوله {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} فجيعة في نفس أو مال {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} عبيد له وملك له يفعل فينا ما يشاء {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يوم القيامة فيجازي كلا بعمله.
قال ابن كثير وغيره تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله عبيد له يتصرف فيهم بما يشاء وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم اعترافهم بأنهم عبيده وراجعون إليه في الدار الآخرة. ثم أخبرهم بما وعدهم على صنيعهم بقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} في الدنيا والآخر.
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في العاجلة والآجلة فإنه إذا تحقق بمعرفتها تسلى عن مصيبته. وإذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه المصيبة والصبر المطلوب المبشر عليه بالصلاة والرحمة هو ما وقع عند الصدمة الأولى لما في الصحيحين وغيرهما أنه قال "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" وفي رواية "عند أول صدمة" يعني

(2/114)


إذا وقع الثبات عند أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع وذلك هوالصبر الكامل المرتب عليه الأجر الجزيل الذي وعد الله به.
والصبر واجب إجماعا حكاه شيخ الإسلام وغيره. وذكر في الرضى قولين ثم قال وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها اهـ. ـ. والصبر المنع والحبس منع النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود والجيوب ونحو ذلك وهو خلق فاضل يمتنع به من فعل ما لا يحسن فعله وقوة به صلاح العبد ووعد الله عليه جزيل الثواب.
وأما الرضا بالقضاء فمنزلة فوق الصر يوجب الله به رضاه ولا يجب بمرض وفقر ونحوهما ويحرم الرضى بفعل المعصية منه أو من غيره إجماعا حكاه ابن عقيل وغيره لوجوب إزالتها. وأما الرضى بالكفر فكفر إجماعًا.
(وعن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما من عبد تصيبه مصيبة) بلية أو محكروه في نفس أو ولد أو مال أو غيرها
(فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون) ملك له وراجعون إليه
في الآخرة (اللهم آجرني) بالمدو القصر وكسر الجيم
(في مصيبتي) ولابي داود وغيره اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها ومعنى آجره الله أعطاه أجره وجزاه صبره وهم في مصيبته (وأخلف) بقطع الهمزة وكسر اللام (لي خيرا

(2/115)


منها) أي مما أصبتني به.
يقال لمن ذهب منه مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله. أخلف الله عليك أي: رد الله عليك مثله. وما لا يتوقع مثله خلف الله عليك أي كان الله لك خليفة منه عليك (إلا آجره الله في مصيبته) أثابه عليها والأجر والثواب والمكافأة قال النووي وغيره هو بقصر الهمزة ومدها والقصر أفصح فيها وأشهر (وأخلف له) أي عوضه عنها (خيرا منها) في العاجل والآجل (رواه مسلم).
قالت أم سلمة فلما توفي أبو سلمة قلت من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت ثم عزم الله لي فقلت اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها قالت: فتزوجت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فدل الحديث وغيره على مشروعية الاسترجاع عند المصيبة وهو سنة إجماعا. ولأحمد وغيره عن الحسن مرفوعا "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث عند ذلك استرجاعا إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب".
(وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن جزاء) مكافأة وأجرا وثوابا (إذا قبضت صفيه) أي
حبيبه وصديقه. وصفيه: الرجل الذي يصافيه الود
ويخلص له (من أهل الدنيا ثم احتسبه) طلبا لوجه الله وثوابه واعتد صبره حال مباشرة المصيبة لله فليس له عنده جزاء (إلا

(2/116)


الجنة رواه البخاري) وغيره وفي معناه أحاديث كثيرة.
ولهما عن أنس وغيره من غير وجه "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد" وفي "اثنان فتمسه النار إلا تحله القسم" وفيها "وكانوا حجابا له من النار". وفيهما "ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة" قال ابن المنير ويدخل الكبير في ذلك بطريق الفحوى.
وللترمذي وغيره وحسنه "إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم. فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم. فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد، وفي الصحيح عن صهيب مرفوعا "عجبا للمؤمن إن أمر المؤمن له خير ولي ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" ولهما عن أبي سعيد مرفوعا "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".
وللترمذي وغيره "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم" الحديث والأحاديث في الصبر عليها أكثر من أن تذكر. وثبت أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى المرء على حسب دينه ولا يزال به حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة. وأيضا من نظر في كون المصيبة لم

(2/117)


تكن في دينه هانت عليه مصيبته.
(وعن عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة" أي يسليه فيها ويحثه على الصبر بوعد الأجر والدعاء للميت والمصاب وأصلها التصبير لمن أصيب بمن يعز عليه وعزاه تعزية سلاه وصبره وأمره بالصبر وقال له أحسن الله عزاك أي رزقك الصبر الحسن وإن قال أحسن الله عزاك وأعظم أجرك وغفر لميتك ونحوه فحسن. قاله شيخ الإسلام وغيره ولا يتعين شيء في ذلك ولأحمد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل رحمه الله وآجرك وإن شاء أخذ بيد من عزاه.
وذكر - صلى الله عليه وسلم - ما أعد الله للمعزي من الجزاء فقال: (إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة رواه ابن ماجه) وله عن ابن مسعود مرفوعا "من عزى مصابا بأن عمد إلى قلبه فداواه فله مثل أجره لأن كلا منهما رفع الجزع" ورواه الترمذي وغيره عن معاذ أنه مات ابن له فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر فإن أنفسنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله عز وجل وعطاياه وعواريه المستودعة متعك الله به في غبطة وسرور وقبضه منك في أجر كبير الصلاة والرحمة والهدى فالصبر لا تحبط به جزعك فتندم واعلم ان الجزع لا يرد شيئًا ولا يدفع قدرًا وما هو نازل فكائن لا محالة".
وله "من عزى ثكلى كسي بدرا في الجنة" والثكلى المرأة تفقد

(2/118)


ولدها أو من يعز عليها وللطبراني "من عزى مصابًا كساه الله حلتين من حلل الجنة لا تقوم بهما الدنيا" والأحاديث في التعزية مستفيضة وهي سنة متبعة وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أرسلت إليه إحدى بناته تخبره أن صبيا لها في الموت قال "أخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب".
وتسن لصغير لعموم الأخبار وصديق للميت وجار ونحوهما. وسواء قبل الدفن أو بعده من حين الموت. والأولى بعده لاشتغال أهل الميت بتجهيزه إلا أن يرى منهم جزعا. ولا بأس بالجلوس بقرب دار الميت ليتبع جنازته أو يخرج وليه فيعزيه. قال في الإنصاف وغيره فعله السلف وظاهر الأخبار تستحب مطلقا. وقال بعضهم ما لم ينس المصيبة ويرد معزى بقوله استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك. ونحوه لا تعيين في ذلك. وإن جائته التعزية في كتاب ردها على الرسول لفظا.
(وعن أسامة بن زيد) بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى الكعبي الحب بن الحب. زارت أم زيد أهلها فأغار عليهم خيل لبني القين فاحتملوه فباعوه بعكاظ. فاشتراه حكيم لخديجة فوهبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتى أبوه فخيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختار زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ابني. وطابت نفس أبيه به وأنزل الله (ادعوهم لآبائهم) استشهد زيد بمؤتة. وأسامة سنة أربع وخمسين.

(2/119)


قال رضي الله عنه (في قصة وفاة ابن بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -) ولابن أبي شيبة أنه ابن لزينب فأرسلت إليه تخبره أن صبيا لها في الموت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع إليها فأخبرها أن الله ما أخذ وله ما أعطى" نحو ما تقدم فعاد الرسول فقال إنها أقسمت لتأتينها فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل قال أسامة فانطلقت معهم (فرفع إليه الصبي) قيل هو علي بن أبي العاص بن الربيع ولكن ذكر أنه أردفه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة. ولأحمد أنه صبية ورجحه الحافظ ويؤيده ما في سنن أبي داود أن ابنتي قد حضرت.
(ونفسه تقعقع) كأنها في شنة أي لها صوت وحشرجة كصوت ما ألقي في قربة بالية. والقعقعة حكاية صوت الشن اليابس (ففضات عيناه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقال سعد ما هذا يا رسول الله؟ أي قاله سعد بن عبادة سيد الخزرج المتوفى سنة خمس (قال رحمة جعلها الله في قلوب عباده) أي هذه الدمعة أثر رحمة (وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) جمع رحيم من صيغ المبالغة. أي إنما تختص رحمة الله بمن اتصف بالرحمة (متفق عليه).
ولهما عن ابن عمر قال اشتكى سعد بن عبادة فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشية. فقال: "قد

(2/120)


قبض فقالوا لا يا رسول الله فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فلما رأى القوم بكاءه بكوا قال: ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم.
وقال: "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا" ولما قتل زيد وجعفر وابن رواحة جلس - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الحزن وحزن لما قتل القراء. وقال تعالى عن يعقوب {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} والبث شدة الحزن، ولأحمد عن ابن عباس لما ماتت زينب بكت النساء فجعل عمر يضربهن فقال "مهلا يا عمر ثم قال إياكن ونعيق الشيطان. ثم قال إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان". وله عن عائشة أنه لما حضر موت سعد بن معاذ ومعه أبو بكر وعمر قالت إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر.
فالبكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب وجائز مجرد الحزن والهم. ولا باس بيسير الندب إذا لم يخرج مخرج النوح ولا قصد نظمه كفعل أبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما.
ولا ينافي الصبر بل ولا الرضى وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرضى الخلق عن الله في قضائه وأعظمهم له حمدا. وكذلك أصحابه من بعده.
وما ورد من قوله "لا تبكين على هالك بعد اليوم" رواه

(2/121)


أحمد وقوله "إذا وجب فلا تبكين باكية" رواه أبو داود فمحمول على بكاء معه ندب أو نياحة أو أنه كثرة البكاء والدوام عليه أيامًا كثيرة. قال الشيخ ولا بد من حمل الحديث على البكاء الذي معه ندب ونياحة ونحو ذلك وما هيج المصيبة من وعظ وإنشاد شعر فمن النياحة.
وأما البكاء فيستحب رحمة للميت وهو أكمل من الفرح لقوله "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" وقوله "مهما كان من العين والقلب فمن الله وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" والاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم. فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق. ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، اهـ. ـ.
ويكره تغير حال المصاب من خلع رداء ونحوه وغلق حانوت وترك عمل ونحو ذلك ما فيه إظهار الجزع وهجر للزينة وحسن الثياب ثلاثة أيام وجعل علامة يعرف بها فإن السلف لم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك، قال الشيخ وغيره وكل ذلك مناف للصبر والآثار صريحة في النهي عن ذلك. وصرح غير واحد من الأصحاب وغيرهم بكراهة لبس خلاف زيه المعتاد.
(ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا: ليس منا) هذا من أبلغ الوعيد ومذهب أهل السنة والجماعة إمرار أحاديث الوعيد كما

(2/122)


جاءت واعتقاد معانيها حقيقة من غير تعرض لها بتأويل فإنه أبلغ في الزجر وأنكى في الردع عن الوقوع في مثل ذلك (من ضرب الخدود) وفي لفظ لطم الخدود وخص الخد لكونه الغالب في ذلك. وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك.
(وشق الجيوب) أي خرقها مزقها وجيب القميص طوقه وما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس وكل ذلك من علامات السخط (ودعا بدعوى الجاهلية) من النياحة ونحوها وكذا الندبة كقولهم واجبلاه، واناصراه. وكذا الدعاء بالويل والثبور، والجاهلية ما كان في الفترة قبل الإسلام. ولمسلم "بدعوى أهل الجاهلية".
ولهما عن أبي بردة قال وجع أبو موسى فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فأقبلت تصيح برنة فلم يستطع أن يرد عليها فلما أفاق قال: أنا بريء مما بريء منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنه بريء من الصالقة" وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة؛ "والحالقة" هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، "والشاقة" وهي التي تشق ثيابها عند المصيبة، ولمسلم "لعن النائحة والمستمعة" وفي الصحيحين "أخذ علينا أن لا ننوح".
وأجمع أهل العلم على تحريم النياحة إلا ما روي عن بعض المالكية لحديث أم عطية والحديث حجة عليهم. يقال ناحت المرأة علىلميت إذا ندبته بكت عليه وعددت محاسنه. ويقال

(2/123)


بكاء وصراخ، وقال القاضي النوح والنياحة اجتماع النساء للبكاء على الميت متقابلات ثم استعمل في صفة بكائهن بصوت ورنة وندبة والمراد التي تنوح على الميت وعلىما فاتها من متاع الدنيا فإنه ممنوع منه، وكذا المستمعة التي تقصد بسماعها. وقال عليه الصلاة والسلام "الناحئة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب".
(وعن ابن عمر مرفوعا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه متفق عليه) وتظاهرت الأخبار بتعذيب الميت بالنياحة عليه والبكاء عليه فيتألم من ذلك ولا يقال إنه يعاقب بذنب الحي.
قال شيخ الإسلام والصواب أنه يتأذى بالبكاء عليه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وفي لفظ "من نيح عليه يعذب بما نيح عليه" وأنكرت ذلك طوائف من السلف والخلف واعتقدوا أنه من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، وتنوعت طرقهم في ذلك بما لا يرد بمثله تلك الأحاديث الصحيحة. والشارع قال "يعذب" ولم يقل يعاقب ولاعذاب أعم من العقاب فإن العذاب هو الألم وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عاقاب له على ذلك السبب، وذكر الشارع أن "السفر قطعة من العذاب" والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها مثل الأصوات الهائلة والأرواح الخبيثة

(2/124)


والصور القبيحة فهو يتعذب بذلك ولم يكن عملا له عوقب عليه. فكذا الإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس ويتألم برؤية بعضهم وبسماع كلامه. فيتألم إذا عملت عنده المعاصي كما جاءت به الآثار كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم، ثم النياحة تسبب العذاب، وقد يندفع حكم السبب بما يمانعه، اهـ.
وينبغي أن يوصي بترك النياحة إذا كان من عادة أهله لأنه متى غلب على ظنه فعلهم لها ولم يوص بتركها مع القدرة فقد رضي بها.
(وللبخاري عن عائشة مرفوعا: لا تسبوا الأموات) وظاهره النهي عن سبهم على العموم وهو مخصوص بما في حديث أنس وغيره بالثناء بالخير الشر وقال "أنتم شهداء الله في أرضه" وكجرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتًا للإجماع ومساويء الكفار والفساق للتحذير منهم وما ذكره الله عن الأمم الماضية تحذيرًا للأمة من تلك الأفعال.
وأما المسلم فيحرم إلا لضرورة (فإنهم قد أفضوا) أي وصلوا (إلى ما قدموا) من خير وشر، ولأحمد وغيره عن ابن عباس (فتؤذوا الأحياء) أي يتسبب عن سبهم أذية الأحياء من قراباتهم.

(2/125)