الإحكام شرح أصول الأحكام

كتابُ المناسِك
جمع منسك المتعبدات كلها. وقد غلب إطلاقها على أفعال الحج لكثرة أنواعها. وفي المطالع مواضع متعبدات الحج. (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) المواضع التي تقصد في الحج. والأفعال التي تفعل هناك. كالطواف والسعي والوقوف والرمي. والحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام. ودعائمه الخمس. وفرض من فروضه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهو من العلم المستفيض الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف.
وقال ابن إسحاق لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا حج هذا البيت. وقال غيره ما من نبي إلا حج. ولأحمد وغيره بسند حسن عن ابن عباس مرفوعا "إن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة" يعني الكعبة "حق تعظيمها فإذا ضيعوا ذلك هلكوا" فهو خاصة هذا الدين الحنيف. وسر التوحيد (حُنَفَاءَ لِلَّهِ) أي حجاجًا (قِيَامًا لِلنَّاسِ) عمود العالم لو ترك خرت السماء على الأض. وبه كمل بناء الدين وتم بناؤه على أركانه الخمسة. وهو فرض كفاية كل عام على من لم يجب عليه ولو

(2/319)


عينا. وإنما أخروا الحج عن الصلاة والزكاة والصوم لأن الصلاة عماد الدين وتكرر كل يوم خمس مرات. فالحاجة إليها أشد ثم ثنوا بالزكاة لكونها قرينة الصلاة في مواضع كثيرة في الكتاب والسنة. ولشمولها المكلف وغيره. ثم الصوم لتكرره كل سنة. والحج في العمر مرة لكن البخاري قدم الحج على الصوم للتغليظ في تركه. ولعدم سقوطه بالبدل.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} بالكسر الحالة والهيئة. وبالفتح المرة. اي ولله فرض واجب على الناس حج البيت. والمراد منهم المسلم المكلف الحر اتفاقا. فلا يجب على الكافر والمجنون ولا يصح منهما. ولا يجب على الصبي والمملوك ويصح تطوعا. ولا يسقط به الفرض. وعن ابن عباس مرفوعا "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه أن يحج حجة أخرى" رواه البيهقي. ونحوه لأبي داود مرسلا. قال الشيخ والمرسل إذا عمل به الصحابي حجة اتفاقا.
قال وهذا مجمع عليه. لأنه من أهل العبادات فيصح ولا يجزئه أنه فعله قبل أن يخاطب به اهـ. ومن سواهم يجب عليه على الفور مع الاستطاعة. وحرف (على) للإيجاب لا سيما إذا ذكر المستحق. واتبع بقوله (ومن كفر) والحج لغة القصد. وشرعا قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص. وقال الشيخ غلب في الاستعمال الشرعي والعرفي على حج بيت الله

(2/320)


وإتيانه. فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد. لأنه هو المشروع الموجود كثيرا لقوله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وقال الجوهري تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك. ويقال الحج حشر الخلائق من الأقطار للوقوف بين يدي الخالق.
{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} من بدل من الناس. فتقديره ولله على المستطيع من المكلفين حج البيت. ويأتي ما رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما عن أنس قيل يا رسول الله ما السبيل قال "الزاد والراحلة" ولابن ماجه عن ابن عباس ونحوه. وعن جماعة من الصحابة. وللترمذي عن ابن عمر جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما يوجب الحج؟ قال" الزاد والراحلة" وقال العمل عليه عند أهل العلم.
وقال الشيخ بعد سرد الآثار فيه هذ هـ الأحاديث مسندة من طرق ومرسلة وموقوفة. تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة. ولأن الخطاب إنما هو للمستطيع لانتفاء تكليف ما لا يطاق شرعا وعقلاً. وليس شرطًا للصحة. بل متىوصل وفعل أجزأه. بلا نزاع. وإنما هو شرط للوجوب. قال الوزير وغيره أجمعوا على أن الحج يجب على كل مسلم عاقل حر بالغ صحيح مستطيع في العمر مرة واحدة. وأن المرأة في ذلك كالرجل. وأن الشرائط في حقها كالرجل. واشترط الجمهور وجود المحرم.

(2/321)


وإذا فقد من هذه الشروط شيء لم يجب.
(ومن كفر) سمي تاركه كافرًا. فقد دل على كفره. وإذا دل على كفره فقد دل على آكدية ركنيته. بل أكده بعشرة أوجه من التأكيدات كلها تقتضي بفرضيته. وأكده بأعظم الوعيد والتهديد بالكفر. ثم بإخباره باستغنائه عنه فقال {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وحجهم وعملهم وعن جميع خلقه. فله الغنى الكامل التام من كل وجه عن كل أحد بكل اعتبار.
وأنه تعالى إنما شرع حج البيت ليشهدوا منافع لهم. لا لحاجة به إلى الحجاج. كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه. وافتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت. وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده. وحجه. فقال {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وكل ذلك مما يدل على الاعتناء به والتنويه بذكره. والتعظيم لشأنه والرفعة من قدره.
ولو لم يكن إلا إضافته إلى نفسه الكريمة بقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} لكفى بها شرفا وفضلا. وهي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه حبا وشوقًا إلى رؤيته كيف وقد أوجبه وجمهور أهل العلم على الفور بشرطه لأن الأمر يقتضي المأمور به على الفور. قال السدي من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفر به. وعن علي مرفوعا "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله

(2/322)


ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" وذلك أن الله يقول {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قال الترمذي غريب وفيه مقال.
وصح عن عمر اهـ. قال من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا. وهم أن يبعث إلى الأمصار بضرب الجزية عل كل من كان عنده جدة فلم يحج ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. ولأحمد "تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" وله أيضا "من أراد الحج فليتعجل" وليست الإرادة هنا على التخيير لانعقاد الإجماع على خلافه. بل كقوله "من أراد الصلاة فليتوضأ" وروي "حجوا قبل أن لا تحجوا" أي اغتنموا فرصة الإمكان والفوز بالحصول على هذا الشعار قبل فواته بحادث موت أو غيره.
ولأنه أحد مباني الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقت معين كبقية المباني وأما تأخيره - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه بناء على أنه فرض سنة تسع. كما صححه القرطبي وغيره. فيحتمل أنه كان في آخرها. أو لعدم استطاعته. أو حاجة خوف في حقه منعه. وأكثر أصحابه. أو لأن الله كره له الحج مع المشركين عراة. أو لاستدارة الزمان. أو غير ذلك. ومن جملة الأقوال أنه فرض سنة عشر. قاله إمام الحرمين وغيره. فلا تأخير عند أكثر أهل العلم. وجزم به غير واحد من أهل التحقيق.
قال ابن القيم لما نزل عليه فرض الحج بادر. فإن فرضه

(2/323)


تأخر إلى سنة تسع أوعشر عام تبوك. وأردف الصديق بعلي ينادي بذلك. وهو قول جمهور المفسرين. والتقدم إليه أفضل إجماعا. ولو حج في آخر عمره ليس عليه إثم بالإجماع. ولو مات ولم يحج مع القدرة أثم إجماعا. وله تأخيره لمصلحة الجهاد. كتأخير الزكاة الواجبة لانتظار قوم أصلح من غيرهم. أو تضرر أهل الزكاة. وتأخير الفائتة للانتقال عن مكان الشيطان، ويقدم النكاح من خاف العنت عند الجمهور. وحكاه المجد إجماعًا. ولحاجة إليه. وإلا قدم الحج إجماعًا.
(وعن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج) وهذا تقرير وتفسير لقوله (ولله على الناس حج البيت) (فحجوا) أمر إيجاب بلانزاع (فقال رجل) هو الأقربع بن حابس (أكل عام) يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا زجرا له عن السؤال الذي كان السكوت له أولى (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لو قلت نعم) أي يجب عليكم كل عام (لوجبت) أي عليكم كل عام فريضة الحج أو هذه العبادة كل عام. وفي رواية ولو وجبت ما قمتم بها (ولما استطعتم) أي كل عام ذروني ما تركتكم (رواه مسلم) ورواه غيره من طرق.
ولأحمد وغيره عن ابن عباس قال خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال "أيها الناس كتب عليكم الحج" فقام الأقرع بن حابس فقال أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال "لو قلتها لوجبت. ولو

(2/324)


وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها. الحج مرة فما زاد فهو تطوع" ولابن ماجه عن أنس بسند جيد نحوه وفيه "ولو وجبت لم تقوموا بها. ولو لم تقوموا بها عذبتم" ولأحمد وغيره "الحج مرة وما زاد فهو تطوع".
فدلت هذه الأحاديث على فرضية الحج وهو إجماع. وأنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة إجماعا. حكاه النووي والحافظ والوزير وغيرهم. وقال الخطابي لا خلفًا بين العلماء في أن الحج لا يتكرر وجوبه اهـ. إلا أن ينذره أو العمرة فيجب الوفاء بالنذر بشرطه. وفيها رأفته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقته عليهم.
(وعن عائشة قلت يا رسول الله على النساء جهاد) إخبار يراد به الاستفهام (قال نعم عليهن جهاد لا قتال فيه) إيضاح للمراد وكأنها قالت ما هو فقال (الحج والعمرة) أطلق عليهما لفظ الجهاد وشبههما به فهما منه. ويأتي "الحج جهاد" وتقدم قوله "اركبيها فإن الحج من سبيل الله" وفيهما من الفضل وجزيل الأجر ما فيهما مما هو معلوم. ولجامع المشقة.
وفيه أن الحج والعمرة تقوم مقام الجهاد في حق النساء. رواه أحمد وابن ماجه و (صححه الحافظ) وللبخاري عنها أنها قالت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال "لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور" واستدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على وجوبهما في العمر مرة واحدة.

(2/325)


(وللخمسة عن أبي رزين) لقيط بن عامر العامري العقيلي وافد بني المنتفق. روى عنه جماعة (أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة) ولا الظعن (فقال حج عن أبيك) الذي كبر (واعتمر صححه الترمذي) وقال أحمد لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا. ولا أصح منه. وهو المشهور عنه. وعن الشافعي. وجماعة من أهل الحديث مستدلين بهذا الحديث. وبحديث عمر في رواية الدارقطني وفيه "وتحج البيت وتعتمر" واستأنسوا بقوله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}.
وقال بعضهم على الآفاقي. قال أحمد ليس على أهل مكة عمرة. قال تعالى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهلهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي وأحمد واختيار الشيخ وغيره أن العمرة سنة. لحديث جابر مرفوعًا سئل عن العمرة أواجبة هي قال لا "وأن تعتمر خير لك" صححه الترمذي قال وهو قول بعض أهل العلم. قالوا ليست العمرة بواجبة. وللدارقطني بسند ضعيف قال "الحج جهاد والعمرة تطوع" ونحوه عن طلحة وابن عباس.
ولأن الأصل عدم وجوبها. والبراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف. ولا دليل يصلح لذلك مع اعتضاد الأصل بالأحاديث القاضية بعدم الوجوب ويؤيده اقتصاره تعالى علىلحج في قوله {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} واقتصار

(2/326)


الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "بني الإسلام على خمس" على الحج. وقوله للذي قال لا أزيد عليهن ولا أنقص "لئن صدق ليدخلن الجنة" وحديث "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وغيرها.
وما استأنسوا به من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل وهو بالجعرانة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فنزلت {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} والسائل قد أحرم. وإنما سأل كيف يصنع. وقد انعقد الإجماع على وجوب إتمام الحج والعمرة. ولو أفسدهما.
قال ابن القيم وليس في الآية فرضها. وإنما فيها إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما. وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، وأجمع أهل العلم على مشروعيتها كالحج. وأن فعلها في العمر مرة واحدة كالحج. وورد في فضلها أحاديث كثيرة. وفيه جواز الحج عن العاجز.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن امرأة رفعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صبيا) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي راكبا بالروحاء. محلة قرب المدينة فقال من القوم؟ قالوا المسلمون. فقالوا من أنت؟ فقال "رسول الله" (فقالت ألهذا حج؟ قال نعم) أي يكتب له حج فضلاً من الله ونعمة. وكذا أعمال البر كلها تكتب له. ولا تكتب عليه (ولك أجر) يكتبه الله لمن يأمره ويرشده إليه

(2/327)


(رواه مسلم) وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وللبخاري عن السائب ابن يزيد قال "حج بي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن سبع" ولأحمد عن جابر "حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنا النساء والصبيان. فنلبي عن الصبيان ورمينا عنهم" وبعث ابن عباس في الثقل ولم يبلغ.
فيصح من الصبي نفلاً اتفاقًا. إلا أن أبا حنيفة قال لا يتعلق به وجوب الكفارات ولا يجب عليه الحج بالاتفاق لأنه غير مكلف. ولا يجزئ عن حجة الإسلام. قال الترمذي والوزير وغيرهما أجمع أهل العلم على أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا وجد وأدرك. وصح عن ابن عباس "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى" ولأنه فعله قبل وجوبه فلم يجزئه إذا صار من أهله.
ويعقد الإحرام ولي الصبي. والأم تقوم مقامه لقوله "ولك أجر" فلم يستفصل. ولقول جابر أحرمنا عن الصبيان، ويحرم المميز بإذن وليه. ويفعل ما يعجزه. لقول جابر لبينا عن الصبيان ورمينا عنهم. اي نيابة عنهم رواه أحمد. وطاف أبو بكر بابن الزبير في خرقة رواه الأثرم. وإذا كان له أجر فمن لازمه أن يوقف به المواقف كلها. ويطاف به إن لم يطق المشي. وكذا السعي ونحوه.
وقال الشيخ إن لم يمكنه الطواف ماشيًا فطاف به راكبا أو

(2/328)


محمولا أجزأ اتفاقا. وكانت عائشة تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم. وقال عطاء وغيره يفعل به كما يفعل بالكبير. ويشهد المناسك كلها. إلا أنه لا يصلي عنه. ويجتنب في حجه ما يجتنبه الكبير من المحظورات. ويقع لازما كالمكلف. وإن فسد أو دخله نقص وجب جبرانه كالكبير. والوجوب متعلق بالولي.
والرقيق كالصغير يصح منه نفلا إجماعا. وإن عتق فعليه الحج إن استطاع. قال الترمذي وغيره أجمع أهل العلم أن المملوك إذا حج في رقه ثم عتق فعليه الحج إذا وجد. ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقه.
(وعنه) أي ابن عباس (أن امرأة من خثعم) علم علي القبيلة المشهورة باسم جدها. واسمه أفتل بن أنمار وكان ذلك في حجةالوداع بمنى بعد الرمي عند المنحر والفضل بن عباس رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - (قالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج) أي لما نزلت (أدركت أبي شيخًا كبيرًا) أي حال كونه شيخا كبيرًا (لا يستطيع أن يستوي على الراحلة).
وفي لفظ لا يثبت على الراحلة يعني لضعفه من الكبر. وإن شددته خشيت عليه. وفي معنى الراحلة ما حدث من المراكب البرية والبحرية والهوائية. ولأحمد والترمذي وصححه من حديث علي جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت إن أبي كبير وقد أفند أي هرم وأدركته فريضة الحج ولا يستطيع أداءها. والمعنى

(2/329)


أنه وجب عليه الحج بأن أسلم وهو بهذه الصفة فيجزء عنه أن أؤديها عنه وهل لها أجر.
ولأحمد والنسائي من حديث عبد الله بن الزبير قال جاء رجل من خثعم. وفيه "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزئ ذلك عنه" قال نعم. ففي بعض الروايات أنه رجل. والأكثر أنه امرأة وذكر الحافظ طرقه. ثم قال الذي يظهر الذي يظهر من مجموعها أن السائل رجل وكانت ابنته معه فسألت. وكان معلوما عندهم فريضة الحج (قال فحجي عنه متفق عليه) وفي لفظ أفأحج أنا نيابة عنه قال؟ "نعم" وذلك في حجة الوداع. ولفظه للرجل "فأحجج عنه" والمراد أنه وجب عليه الحج وهو بهذه الصفة.
فدل على أنه يجزئ عنه إذا كان مأيوسًا منه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه وكذا ثقل لا يثبت عل الراحلة. وما في معناها إلا بمشقة غير محتملة. ويسمى العاجز عن السعي لزمانة ونحوها المعضوب. من العضب وهو القطع. كأنه قطع من كمال الحركة والتصرف. ومن وجد الاستطاعة وهو معذور أو طرأ عليه العذر وجب عليه باتفاق أهل العلم وعند الجمهور يلزم أن يقيم من يحج عنه ويعتمر عنه فورا عند الشافعي وأحمد وغيرهما.
ويجزئ من حيث وجب. ويقع الحج عن المحجوج عنه. قال الترمذي قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب غير حديث

(2/330)


والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبه يقول الشافعي وأحمد. وقوله "فدين الله أحق بالقضاء" قال الشيخ فجعل الشارع عمل الغير عنه يقوم مقام فعله فيما عجز عنه. مثل من وجب عليه الحج وهو معضوب أو مات ولم يحج. أو نذر صوما أو غيره ومت قبل فعله فعله عنه وليه. دين الله أحق بالقضاء. أي أحق أن يستوفي من وارث الغريم. لأنه أرحم من العباد. فهذا تشهد له الأصول اهـ.
ولا يصح عن مريض أو مجنون يرجى برؤهما. واتفق القائلون بإجزاءا لحج عن فريضة الغير أنه لا يجزئ إلا عن موت أو عدم قدرة من عجز ونحوه. وإن عوفي بعد فراغ النائب من النسك فكما لو لم يبرأ لأنه أتى بما أمر به فخرج من العهدة وقال الشيخ المعضوب إذا أحج عن نفسه ثم برأ لا يلزمه إعادة الحج من غير خلاف أعلمه. واتفقوا على أنه إن عوفي قبل إحرام النائب عنه لم يجزئه للقدرة على المبدل قبل الشروع. في البدل. كالمتيمم يجد الماء. وكما لو استناب من يرجى زوال علته.
والجمهور على أنه لا يجزئ لو عوفي بعد الإحرام. وقبل فراغ النسك. لأنه تبين أنه لم يكن مأيوسا منه. قال في المبدع وهو الأظهر عند الشيخ تقي الدين. ويصح عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما أن يستنيب قادر وغيره وفي نفل حج أو بعضه للتوسعة في النفل. وكالصدقة. ولأنها لا تلزم القادر ولا غير القادر بنفسه. فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب.

(2/331)


(وعن أنس) رضي الله عنه قال (قيل يا رسول الله ما السبيل) أي الذي ذكر الله في الآية (قال الزاد والراحلة رواه الدارقطني) والبيهقي وغيرهما وصححه الحاكم ورجح الحافظ إرساله. وأخرجه الترمذي وغيره من حديث ابن عمر وغيره وحسنه. وقال الحافظ في إسناده ضعف. وله طرق لا تخلو من مقال إلا أنها جاءت من طرق يقوي بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج بها.
وتقدم قول الشيخ أنه جاء من طرق تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة. وهو قدر زائد على القدرة المعتبرة في جميع العبادات. وهو مطلق المكنة. والمراد هنا كفاية فاضلة عن كفايته وكفاية من يعول حتى يعود. لقوله "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول" وبعد قضاء الواجبات من الديون والكفارات والنذور والحوائج الأصلية. والكفاية المعتبرة وجود زاد وراحلة بكراء أو شراء لذهابه وعودته.
ويعتبر الزاد مع قرب المسافة وبعدها إن احتاج إليه. فإن وجده في المنازل لم يلزمه حمله إن وجده يباع بثمن مثله. والزاد ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة. وتعتبر الراحلة مع بعد المسافة فقط. ولو قدر على المشي. والمعتبر في حق كل أحد ما يليق بحاله عرفا وعادة. لاختلاف أحوال الناس. فإذا كان ممن يكفيه الرحل والقتب ولا يخشى السقوط اكتفى بذلك.

(2/332)


وإلا اعتبر وجود محمل وما أشبهه مما لا يخشى سقوطه عنه. ولا مشقة فيه.
وإن لم يكن ممن يقدر على خدمة نفسه اعتبر من يخدمه. وإن أمكنه من غير ضرر يلحقه أو غيره. مثل من يكتسب بصناعة كالخراز أو مقارنة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ولا يسأل الناس استحب له الحج ويكره لمن حرفته المسألة. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وأكثر أهل العلم. وقال مالك ليستا من شرط وجوبه. فإذا قدر راجلاً وله صنعة أومن عادته السؤال فهو مستطيع. وما عليه الجمهور هو مقتضى القواعد الشرعية. ونقل ابن الجوزي الإجماع على أن اكتساب الزاد والراحلة لا يجب. فتقرر أن تحصيل سبب الوجوب لا يجب ولا يصير مستطيعًا ببذل غيره.
قال الشيخ وكل عبادة اعتبر فيها المال فالمعتبر ملكه. ولا القدرة على ملكه. كتحصيله بصنعة أو قبول هبة. أو مسألة أو أخذ من صدقة أو بيت مال اهـ. ـ. فإن قبل المال المبذول وقدر به وجب عليه الحج إجماعا. ويعتبر أمن الطريق. لأن عدم ذلك ضرر. وهو منتف شرعا. ولا يتأتى الحج بدونه. وإن استوى السلامة والهلاك فاختار الشيخ وغيره الكف وإن قتل فقال الشيخ أعان على نفسه فلا يكون شهيدًا وإن غلب الهلاك لم يلزمه إجماعا في البحر. وإن كان غالبه السلامة وجب اتفاقا.

(2/333)


(وعن ابن عباس) رضي الله عنه (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول لا تسافر المرأة) في كل ما يسمى سفرا (إلا مع ذي محرم متفق عليه) ولمسلم من حديث أبي سعيد "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها" أي فيحل لها السفر معه.
والمحرم هو زوجها أو من تحرم عليه بنسب أو سبب مباح. وفيه فقال رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وليس معها محرم وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال "فانطلق فحج مع امرأتك" وللدارقطني وصححه أبو عوانة من حديث عمرو بن دينار "لا تحج امرأة إلا ومعها ذو محرم" وفي لفظ "مسيرة يوم" وفي لفظ "يومين" وفي لفظ "ثلاث" ولعله لتعدد القضايا.
وقال النووي ليس المراد من التحديد ظاهره. بل كلما يسمى سفرا فالمرأة منهية عنه إلا بمحرم. وإنما التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمعهوده. وقال الشيخ وغيره كلما يسمى سفرا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم. ولا يجب عليها مع عدمه. فيعتبر لوجوب الحج على المرأة وجود محرم لها زيادة على ما تقدم من الشروط. وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وأحد قولي الشافعي.
وذهب مالك وغيره إلى عدم اشتراطه. قال ابن المنذر

(2/334)


تركوا القول بظاهر الحديث. واشترط كل واحد ما لا حجة معه عليه وقال أحمد المحرم من السبيل فمن لم يكن لها محرم لم يلزمها الحج بنفسها ولا بنسائها. فالمحرم في حق المرأة من جملة الاستطاعة على السفر التي أطلقها القرآن مع النص الصريح باشتراط المحرم في سفر الحج بخصوصه. وإباحة الخروج لها في سفر الحج مع عدم هذا الشرط خلاف السنة.
ونفقة محرمها عليها. فيشترط في وجوبه عليها ملك زاد وراحلة لها ولمحرمها. ولا يلزمه مع بذلها ذلك سفره معها. وإن أيست استنابت. وإن حجت بدونه أثمت بارتكاب النهي وأجزأ اتفاقا وأجمعوا على عدم جواز السفر لها بلا محرم سدا لذريعة ما يحاذر منه الفتنة وغلبات الطباع. واستثني مواضع الضرورة كالخروج من بلد الشرك. وانقطاعها في برية ونحو ذلك. لحديث عائشة في قصة الإفك. وعند الشيخ تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم. وإماء المرأة يسافرون معها ولا يفتقرون إلى محرم. لأنهن لا محرم لهن في العادة الغالبة.
(وعنه أن امرأة من جهينة) قبيلة مشهورة من قضاعة (قالت يا رسول الله إن أمي) توفيت وقد (نذرت أن تحج) وكان معلوما عندهم في الجاهلية وجوب الوفاء بالنذر (فلم تحج) يعني ما نذرته (حتى ماتت) وظاهره أنها أدركت الإسلام قالت الجهينية (أفأحج عنها)؟ فأقضي ما نذرته (قال نعم حجي عنها) أي تلك الحجة التي نذرتها أمك (أرأيت لو

(2/335)


كان على أمك دين) يعني لآدمي (أكنت قاضيته).
فيه دليل على أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله. كما أن عليه قضاء ديونه. وقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس ماله. فكذا ما شبه به في القضاء. ويلحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من نذر أو كفارة أو زكاة أو غير ذلك (أقضوا الله) أي حقه اللازم عليكم من نذر وغيره (فالله أحق بالوفاء) وأداء الواجبات (رواه البخاري) وله نحوه وفيه جاء رجل فقال إن أختي نذرت أن تحج.
وللدارقطني عن ابن عباس: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال إن أبي مات وعليه حجة الإسلام افأحج عنه؟ قال "أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه" قال نعم. قال "فاحجج عن أبيك" وظاهره لا فرق بين الواجب بأصل الشرع أو بإيجابه على نفسه. ولأنه حق استقر عليه فلن يسقط بموته. سواء فرط بالتأخير أو لا.
وفيها دليل على جواز حج الولد وغيره عن الميت حجة الإسلام بعد موته. وإن لم يقع منه وصيته. ولا نذر. ويسقط بحج أجنبي عنه. لا عن حي بلا إذنه.
كدفع زكاة مال غيره بلا إذنه. لا إن جعل ثوابه له. ويحج النائب من حيث وجب الحج على الميت. لأن القضاء

(2/336)


يكون بصفة الأداء وإن ضاق ماله حج به عنه من حيث بلغ. لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وإن مات من وجب عليه في الطريق حج عنه من حيث مات مسافة وقولا وفعلا.
قال الشيخ وغيره ويقع الحج عن المحجوج عنه كأنه فعله بنفسه. سواء كان من جهة المنوب عنه مال أو لم يكن. ويكون الفاعل بمنزلة الوكيل والنائب. لأنه ينوي الإجرام عنه ويلبي عنه. ويكفي نية النسك. ولا تعتبر تسمية المنوب عنه لفظا. وإن جهل اسمه أو نسيه لبى عمن أسلم عنه المال. ليحج به عنه. وإن أحرم عن اثنين وقع عن نفسه اتفاقا. لأنه لا يقع عنهما. وإن نسي عينه بالإحرام بتفريطه أعاد الحج. وإن فرط الوصي غرم.
والنائب أمين فيما يعطاه ليحج منه. ويرد ما فضل إلا أن يؤذن له فيه. وكرهت الإجارة عليه. لأنها بدعة. والأجير إنما يبيع عمله لمن استأجره. والحج من شرطه أن يكون قربة لفاعله. فلا يجوز الاستئجار عليه. لأن الله أوجب على العبد أن يعمل مناسكه لله كلها. وتعبده بذلك. فلو أنه عملها بعوض من الناس لم يجزئه إجماعا. فإذا عجز عن ذلك بنفسه جعل الله عمل غيره قائما مقام عمل نفسه. لما ثبت بالنص. وسادا مسده رحمة منه تعالى ولطفا فلا بد أن يكون مثله ليحصل به مقصوده.

(2/337)


وإذا كان هذا العامل إنما يعمل للدنيا ولأجل العوض الذي أخذه لم يكن حجه عبادة لله وحده. فلا يكون من جنس ما كان على الأول. وإنما تقع النيابة المحضة ممن غرضه نفع أخيه المسلم. لرحم بينهما أو صداقة. كما هو في الأخبار أو غير ذلك. وله قصد في أن يحج بيت الله الحرام ويزور تلك المشاعر العظام. فيكون حجه لله. فيقام مقام حج المستنيب.
واستحب بعضهم أن يحج عن أبويه إن كانا ميتين أو عاجزين. ويقدم أمه لأنها أحق بالبر. ويقدم واجب أيبه لإبراء ذمته. وعن زيد بن أرقم مرفوعا "إذا حج الرجل عن والديه يقبل عنه وعنهما واستبشرت أرواحهما في السماء وكتب عند الله برا" رواه الدارقطني. وله عن جابر نحوه. وتقدم ذكر ما في فعل القرب وإهدائها لقريب ونحوه. وأن فعلها عن نفسه ودعاءه لهم أفضل. وأنه الذي استمر عليه عمل السلف.
(ولأبي داود عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة) أي نيابة عنه في الحج والعمرة (قال من شبرمة) المنوب عنه (قال أخ لي) أي من النسب أو قريب لي شك من الراوي (قال) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سمعه يلبي عن شبرمة (حججت عن نفسك) وروي يا ابن نبيشة (قال لا) أيلم أحج عن نفسي (قال حج عن نفسك) يعني أولا (ثم حج عن شبرمة) قال الحافظ رواته ثقات. وله شاهد مرسل.

(2/338)


ورواه ابن ماجه وفيه "فاجعل هذه عن نفسك. ثم احجج عن شبرمة" والدارقطني وفيه قال "هذه عنك" اي: استدمه "وحج عن شبرمة" وصححه ابن حبان والبيهقي. وقال ليس في هذا الباب أصح منه. ورجح أحمد والحافظ وقفه. فيقوى المرفوع. لأنه من غير لجاله. وهو عبدة بن سليمان. قال الحافظ ثقة وتابعه غيره. ومال في التلخيص إلى صحته.
وقال الشيخ حكم أحمد في رواية صالح أنه مرفوع. فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه. وقال قد رفعه جامعة على أنه وإن كان موقوفا فليس لابن عباس فيه مخالف فدل على أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه. فإن أحرم عن غيره فإنه ينعقد إحرامه عن نفسه لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجعله عن نفسه بعد أن لبى عن شبرمة.
فدل على أنها لم تنعقد النية عن غيره. وإلا لوجب عليه المضي فيه. وذلك لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي والنهي يقتضي الفساد. وبطلان صفة الإحرام لا توجب بطلان أصله. وهذا قول أكثر الأمة: إنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه مطلقا. مستطيعًا كان أو لا. لأن ترك الاستفصال والتفريق في حكاية الأحوال دال على العموم. ولأن الحج واجب في أول سنة من سني الإمكان. فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره.

(2/339)


(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (العمرة إلى العمرة) اي العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرة (كفارة لما بينهما) يعني من الصغائر إن كانت. ولأحمد من حديث عامر "كفارة لما بينهما من الذنوب والخطايا" قال الشيخ فيه إشارة إلى أن كبار الطاعات تكفر ما بينها. لأنه لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارة لصغار ذنوبه بل إطلاقه يتناول الصغائر والكبائر.
وقال من عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها في القلوب من الإيمان وإن كان متفاضلا بلا ريب. وأنه لا يعلم مقاديره إلا الله عرف أن ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق. ولم يضرب بعضه ببعض. وقد يفعل النوع الواحد بكمال إخلاص وعبودية فيغفر له الكبائر. ورد ذلك في صاحب السجلات مع البطاقة. والبغي التي سقت الكلب فغفر لها اهـ.
وفيه دلالة على استحباب الإكثار من الاعتمار. وقال الوزير وغيره أجمعوا أن فعلها في جميع السنة جائز. فقد ندب - صلى الله عليه وسلم - عليها. وفعلها أشهر الحج ويكفي كونه أعمر عائشة من التنعيم سوى عمرتها التي كانت أهلت بها. فهو أصل في جوازها في شهر بل أقل. ولا وجه للمنع منها في جميع الأوقات ما لم يكن متلبسا بالحج. كما قاله الشيخ وغيره. فلا تكره يوم النحر ولا يوم عرفة. ما لم يكن متلبسًا بالحج. وحكي اتفاقا.

(2/340)


وفي المبدع تكره الموالاة بينها باتفاق السلف. وهذا الحديث يدل على التفريق بينها وبين الحج في التكرار. وينبه على ذلك إذ لو كانت لا تفعل في السنة إلا مرة لسوى الشارع بينهما. واستحب بعضهم وقوعها في رمضان. لما صح أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أم معقل لما فاتها الحج معه أن تعتمر في رمضان. وأخبرها أن عمرتها في رمضان تعدل حجة. ولكن كانت عمره - صلى الله عليه وسلم - كلها في أشهر الحج مخالفة لهدي المشركين. فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج.
وقال ابن سيرين ما أحد من أهل العلم يشك أن عمرة في أشهرالحج أفضل من عمرة في غير أشهر الحج. قال ابن القيم وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل من سائر السنة. بلا شك سوى رمضان لخبر أم معقل. ولكن لم يكن الله ليختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا أولى الأوقات وأحقها بها. فكانت في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره. وهذه الأشهر قد خصها الله بهذه العبادة. وجعلها وقتًا لها. العمرة حج أصغر. فأولى الأزمنة بها أشهر الحج.
وقد يقال إنه يشتغل في رمضان من العبادات ما هو أهم منها فأخرها إلى أشهر الحج. مع ما فيه من الرحمة لأمته. فإنه لو فعله لبادرت إليه. ولم يخرج من مكة ليعتمر كما يفعله أهل مكة. وقال العمرة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعلها نوعان. لا ثالث لهما عمرة التمتع. وهي التي أذن فيها عند الميقات وندب

(2/341)


إليها في أثناء الطريق. وأوجبها على من لم يسق الهدي عند الصفا والمروة. والثانية العمرة المفردة التي ينشئ لها سفرًا كعمرته - صلى الله عليه وسلم -. ولم يشرع عمرة مفردة غيرها. وفي كليهما المعتمر داخل إلى مكة.
وأما عمرة الخارج منها إلى أدنى الحل فلم تشرع ولم يقل لأهل مكة اخرجوا إلى أدنى الحل فأكثروا من الاعتمار فإن عمرة في رمضان تعدل حجة. ولا فهم هذا أحد من أصحابه ولا السابقين الأولين. وأما عمرة عائشة فزيادة محضة. وإلا فعمرة قرانها قد أجزأت عنها بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكره هو والشيخ وغيرهما الخروج من مكة لعمرة تطوعًا. وقالوا إنه بدعة لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه على عهده إلا عائشة تطييبا لنفسها.
وكانت طلبت منه أن يعمرها. وقد أخبرها أن طوافها وسعيها قد أجزأها عن حجها وعمرتها. فأبت عليه إلا أن تعتمر عمرة مفردة. وكانت لا تسأله شيئًا إلا فعله. فلم يخرج لها في عهده غيرها لا في رمضان ولا في غيره اتفاقا. ولم يأمر عائشة بل أذن لها بعد المراجعة ليطيب قلبها. وقالا طوافه وعدم خروجه لها أفضل اتفاقًا.
(والحج المبرور) أي المقبول الذي لم يخالطه شيء من الإثم قد وفت أحكامه فوقع على الوجه الأكمل. والبر الطاعة وقيل المبرور المتقبل (ليس له جزاء إلا الجنة) أي إلا دخول الجنة

(2/342)


وقال الشيخ أي ز ادت قيمته فلم يقاومه شيء من الدنيا. وإلا فمطلق الدخول يكفي فيه الإيمان (متفق عليه) وفي الصحيح "أفضل الجهاد حج مبرور" "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" أي مشابها لنفسه في أنه يخرج بلا ذنب كما خرج بالولادة. وللترمذي وصححه "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة" "وليس للحج ثواب إلا الجنة" وجاء "وإن الحج يهدم ما كان قبله" "وإن النفقة فيه كالنفقة في سبيل الله" بسبعمائة ضعف. وجاء في فضله والحث عليه أحاديث وآثار كثيرة مستفيضة.
تتمة
وإذا لم يكن فرضًا ولم يعزم فليستشر من يثق به ويستخير الله تعالى فيصلي ركعتين ويدعو في آخرها بما تقدم. قال الشيخ وقبل السلام أفضل. وإذا استقر عزمه فليبادر فعل كل خير ويبدأ بالتوبة من جميع المعاصي والمكروهات. ويخرج من المظالم بردها لأربابها. وكذا الودائع والعواري والديون. ويستحل من له عليه ظلامه ومن بينه وبينه معاملة أو مصاحبة ويستمهل من لا يستطيع الخروج من عهدته.
ويكتب وصيته. ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه. ويترك لمن تلزمه نفقته نفقتهم إلى حيث رجوعه.

(2/343)


ويرضى والديه ومن يتوجه عليه بره وطاعته. ويحرص أن تكون نفقته حلالا. ويستكثر من الزاد والنفقة. ويكون طيب النفس بما ينفقه ليكون أقرب إلى قبوله. قال الشيخ ومن جرد مع الحاج من الجند المقطعين وجمع له ما يعينه على كلفة الطريق أبيح له أخذه. ولا ينقص أجره. وله أجر الحاج بلا خلاف.
ويجتهد في رفيق صالح. وإن تيسر عالم فليستمسك بغرزه. يكون سببا في بلوغه رشده ويجب تصحيح النية. ويصلي في منزله ركعتين. ثم يقول اللهم هذا ديني وأهلي ومالي ووليد وديعة عندك. الله أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد. اللهم أصبحنا في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى.
ويودع أهله وجيرانه وسائر أحبابه. ويودعونه. ويقول كل منهم استودعك الله الذي لا يضيع ودائعه. أو استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. زودك الله التقوى. وغفر ذنبك ويسر لك الخير حيثما كنت. للأخبار. ويدعو له من يودعه. ويطلب منه الدعاء. فيقول لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك. ويقول: آمنت بالله وتوكلت على الله. اللهم إني أعوذ بك أن أضل إلخ. بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا أراد ركوب دابته قال بسم الله. الحمد لله الذي سخر

(2/344)


لنا هذا إلخ. ولا يستصحب كلبًا ولا يعلق على دابته جرسًا ولا قلادة من وتر ونحوها. للخبر. ويراعي مصلحة الدابة. وإذا عرس اجتنب الطريق. فإنها طريق للدواب ومأوى لهوام الليل. ويسن مساعدة الرفيق. وإذا كان معه فضل ظهر أو زاد عاد به على من لا ظهر له ولا زاد.
ويستعمل الرفق وحسن الخلق. ويجتنب المخاصمة والمزاحمة. ويصون لسانه من الشتم والغيبة. وجميع الألفاظ القبيحة. وهذه الأمور مجمع عليها. ويستحب أن يكبر إذا صعد الثنايا ونحوها. ويسبح إذا هبط. وإذا أشرف على قرية قال اللهم إني أسألك خيرها إلخ. ويستحب أن يدعو في جميع سفره. فإن دعاءه مستجاب. وإذا جنه الليل قال يا أرض ربي وربك الله الحديث.
وإذا نزل منزلا قال أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق. وإذا فرغ عجل إلى أهله، ويقول في رجوعه آئبون تائبون الحديث. ويخبرهم لئلا يقدم بغتة ويكره أن يطرقهم ليلا بغير عذر. ويبدأ بالمسجد فيصلي ركعتين. ويستحب أن يقال للقادم من الحج قبل الله حجك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك.

(2/345)


باب المواقيت
جمع ميقات كمواعيد وميعاد لغة الحد. والتوقيت التحديد. وبيان مقدار المدة. وأصله أن يجعل للشيء وقت يختص به ثم اتسع فيه فأطلق على المكان. واصطلاحا موضع العبادة وزمنها. واعلم أن البيت الحرام لما كان معظمًا مشرفًا جعل له حصن وهو مكة. وحمى وهو الحرم. وللحرم حرم وهو المواقيت. حتى لا يجوز لمن دونه أن يتجاوزه إلا بالإحرام تعظيمًا لبيت الله الحرام.
قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي وقت الحج أشهر معلومات. حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فخصصه الله تعالى من بين سائر شهور السنة وفي الصحيح عن ابن عباس: من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج. وروي مرفوعا "لا ينبغي أن يحرم بالحج إلا بأشهره" قال ابن كثير وغيره لا بأس به. قال الموفق وغيره يكره أن يحرم بالحج قبل أشهر الحج بغير خلاف علمناه. ولا ينعقد عند الشافعي. وعند الجمهور: مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم ينعقد مع الكراهة، ولا نزاع في افضليته في أشهره لموافقته الأحاديث الصحيحة وفعله - صلى الله عليه وسلم -. وكالمكاني.
(قال ابن عمر) وجمع من الصحابة منهم عمر وعلي وابن مسعود وابن الزبير وابن عباس وغيرهم (أشهر الحج) أي التي شرع الله الإحرام بالحج فيها ثلاثة. وحكي إجماعا (شوال)

(2/346)


مأخوذ من شالة الإبل بأذنابها للطراق (ذو القعدة) لقعودهم عن القتال فيها والترحال (وعشر من ذي الحجة) لإقامتهم الحج فيه. وقاله جماعة من التابعين وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وابن جرير وغيرهم. قال وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب.
وقال مالك وذو الحجة جميعه. وقال الوزير ليست له فائدة تخصه حكمية ومن عشر ذي الحجة يوم النحر. وهو يوم الحج الأكبر وإنما فات الحج بفجر يوم النحر بخروج وقت الوقوف لا لخروج وقت الحج. فهذا وقت الحج الزماني.
(وعن ابن عباس مرفوعًا "عمرة في رمضان تعدل حجة" متفق عليه) أي في الثواب، لا أنها تقوم مقامها في إسقاط فرض الحج للإجماع على أن الاعتمار لا يجزء عن حج الفرض. وفيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت.
وتقدم أن الله اختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - العمرة أشهر الحج. وهذا الحديث دليل على أن رمضان وقت لفعل العمرة وهو اتفاق. وكذا جميع السنة وقت لفعل العمرة وتقدم أنها في أشهر الحج أفضل لاختيار الله ذلك لنبيه - صلى الله عليه وسلم -.
(وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت) أي جعل ميقاتا للإحرام. والمراد بالتوقيت هنا بالتحديد. أو تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشروط المعتبرة (لأهل المدينة ذا الحليفة) ولهما من حديث ابن عمر قال "يهل أهل المدينة من

(2/347)


ذي الحليفة" وفي لفظ "أمر أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة" والحليفة تصغير الحلفة بفتحتين واحدة الحلفات. نبات معروف.
قال الشيخ وتسمى وادي العقيق ومسجدها يسمى مسجد الشجرة. وفيها بئر تسميها العامة بئر علي. لظنهم أن عليا رضي الله عنه قاتل فيها الجن. وهو كذب. وهي أبعد المواقيت من مكة. بينها وبين مكة عشر مراحل أو أقل أو أكثر بحسب اختلاف الطرق. فإن منها إلى مكة عدة طرق. وبينها وبين المدينة ستة أميال وتعرف اليوم بآبار علي. وهي قرية خربة. وفيها اليوم عشش قليلة.
(ولأهل الشام) زاد النسائي من حديث عائشة ومصر وزاد الشافعي والمغرب (الجحفة) بضم الجيم. قال الشيخ وغيره كانت قرية قديمة كبيرة معمورة جامعة. وكانت تسمى مهيعة. فجحف السيل بأهلها فسميت الجحفة بقرب رابغ علىيسار الذاهب إلى مكة. وهي اليوم خراب. ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكان الذي يسمى رابغا.
ومن أحرم منه فقد أحرم قبل محاذات الجحفة، وليس الإحرام منه مفضولا لضرورة انبهام الجحفة على أكثر الحاج ولعدم مائها. قال الشيخ وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب كأهل الشام ومصر وسائر المغرب. لكن إذا اجتازو بالمدينة النبوية كما يفعلونه في هذه الأوقات احرموا من ميقات أهل المدينة فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق. وكان بالجحفة غدير غم

(2/348)


وبينها وبين مكة خمس مراحل أو ست، وست أو سبع من المدينة.
(ولأهل نجد) والطائف 0قرن المنازل) والمراد نجد اليمن ونجد الحجاز وهو ما بين جرش إلى سواد الكوفة وقرن بسكون الراء. قال الجوهري: ميقات أهل نجد. قال المهلبي: قرية. وفيه آثار ومساكن اليوم مشهورة بالسيل. وفي المعجم الوباءة موضع في وادي نخلة اليمانية عنده يكون مجتمع حاج البحرين واليمن وعمان. بينه وبين مكة مرحلتان.
(ولأهل اليمن يلملم) ويقال ألملم وهو الأصل والياء تسهيل لها. وهو جبل من جبال تهامة. وقيل واد هناك يحرم منه أهل اليمن وفيه مسجد معاذ. وبينه وبين مكة مرحلتان. واليمن ما كان عن يمين الكعبة. كما أن الشام بالعكس. فإذا أتى من سواكن إلى جدة فإن رابغا ويلملم يكونان أمامه فيصل جدة قبل محاذاتهما فيحرم منها. لأنها على مرحلتين من مكة.
(هن لهن) أي المواقيت المذكورة للبلدان المذكورة. والمراد أهلها أي للجماعات المذكورة فإن مقتضاه لهم. لكن عدل عن ذلك للتشاكل. وفي رواية (هن لهم) أي لأهلها الذي تقدم ذكرهم على حذف المضاف كما في رواية هن لأهلهن (ولمن أتى عليهن) أي على المواقيت (من غير أهلهن) أي أهل البلاد المذكورة. فإذا أراد الشامي الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها.
ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي. فإن

(2/349)


أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور. وادعى النووي الإجماع على ذلك. تعقب بأن بعض المالكية يجيزه والخبر يرد ذلك. فإن قوله ولمن أتى عليهن من غير أهلهن يشمل الشامي وغيره إذا مر بذي الحليفة وغيرها. ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم. فكان من مر بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته.
(ممن أراد الحج العمرة) فيجب أن لا يجاوزها إلا محرما باتفاق الأئمة حكاه الوزير وغيره. وقال الخطابي معنى التحديد في هذه المواقيت أن لا تتعدى ولا تجاوز إلا باستصحاب الإحرام. وإن لم يرد أحد النسكين أو كلاهما كمن قصد مكة لتجارة أوزيارة. فقال شيخ الإسلام ينبغي له أن يرحم. وفي الوجوب نزاع اهـ. لأنه - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت. وللشافعي قول يجب صححه جماعة لإطباق الناس عليه. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم تجاوزوها إلى الحرم بغير إحرام إلا لقتال مباح إجماعا. أو خوف لدخوله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر. ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه الإحرام يومئذ.
وعن ابن عباس مرفوعًا وفيه ضعف "لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام" وصح من قوله رضي الله عنه واختاره الأكثر. لأنه من أهل فرض الحج. ولعدم تكرر حاجته، ولأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة. فإن الله جعل البيت معظمًا وجعل المسجد الحرام فناء له وجعل مكة فناء للمسجد الحرام. وجعل

(2/350)


المواقيت فناء للحرم. والشرع ورد بكيفية تعظيمه. وهو الإحرام علي هيئة مخصوصة فلا يجوز تركه.
وظاهر مذهب الشافعي جوازه. وهو رواية عن أحمد. واستظهره في الفروع. وحكاه أحمد وغيره عن ابن عمر وهي ظاهر النص. والاصل عدم الوجوب. ومن قال بجوازه ممن لم يقصد النسك كره تركه إلا أن يتكرر دخوله ولو تجاوزه بلا إحرام لم يلزمه قضاء الإحرام جزم به جماعة. ولأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة. فلو وجب على كل من دخل مكة أن يحج ويعتمر لوجب أكثر من مرة.
ومن دخل مكة لا ينوي نسكا ثم بدا له أحرم من حيث أراد ولا يلزمه أن يعود إلى ميقاته عند جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد. وأما من أراد نسكا وجاوزه لزمه أن يرجع ليحرم منه تداركا لتقصيره. لأنه واجب أمكنه فعله فلزمه كسائر الواجبات ما لم يخف فوت حجز أو على نفسه. فيحرم من موضعه. وعليه دم سواء كان لعذر أو لا اتفاقا لحديث ابن عباس مرفوعا "من ترك نسكا فعليه دم".
وإن كان غير مكلف فلا دم عليه لأنه ليس من أهل فرض الحج. وكرقيق وكافر أسلم. قال الشيخ إنما يجب الإحرام على الداخل إذا كان من أهل وجوب الحج، وأما العبد والصبي والمجنون فيجوز لهم الدخول بغير إحرام. لأنه إذا لم تجب

(2/351)


عليهم حجة الإسلام وعمرته فلأن لا يجب عليهم الإحرام بطريق الأولى.
(ومن كان دون ذلك) أي المذكور من المواقيت المحدودة (فمن حيث أنشأ) أي أنشأ الإحرام إذ السفر من مكانه إلى مكة. وفي لفظ "فمهله من أهله" أي يحرم من محل أهله كأهل عسفان وخليص اتفاقا. ولو من غير أهلها ممن جاوزها ثم بدا له النسك. فإن كان له منزلان جاز أن يحرم من أقربهما إلى مكة. والأولى من البعيد (حتى أهل مكة) أي يهلون بحج أو عمرة أو بهما (من مكة) وفي لفظ "حتى أهل مكة يهلون منها" (متفق عليه) أي يهلون من مكة وأنها ميقاتهم.
سواء كانوا من أهلها أو من المجاورين أو الواردين إليها إجماعا فليس قوله "وأهل مكة" قيد إذ من كان بها من غير أهلها فحكمه كذلك. فلا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه. بل منها كالآفاقي الذي بينها وبين الميقات. ولمسلم عن جابر: "أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، فأهللنا من الأبطح" وظاهره لا ترجيح لموضع على موضع والأهلال أصله رفع الصوت لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام. ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعًا.
وزعم المحب الطبري أنه لا يعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة. وجوابه هذا الحديث المتفق على صحته. أنه - صلى الله عليه وسلم -

(2/352)


جعلها ميقاتا ويأتي ما وضحه الشيخ وابن القيم. وقال طاووس لا أدري الذين يعتمرون من التنعيم يؤجرون أو يعذبون. قيل له فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء اربعة أميال قد طاف مائتي طواف. وكلما طاف كان أعظم أجرا من أن يمشي في غير ممشى.
(ولمسلم من حديث جابر) نحو حديث ابن عباس وابن عمر، ولفظه: أن ابن الزبير سمع جابرا سئل عن المهل؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة" والطريق الآخر الجحفة. "مهل أهل العراق ذات عرق" بكسر العين وكانت قرية قديمة. ومن علاماتها المقابر القديمة؛ بينها وبين مكة مرحلتان وسمي بذلك لأن فيه عرقا وهو الجبل الصغير المشرف على العقيق. وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وقت لأهل العراق ذات عرق" رواه أبو داود والنسائي ولأبي داود من حديث الحارث ابن عمرو السهمي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمنى أو عرفات وقد أطاف به الناس قال "ووقت ذات عرق لأهل العراق" وفي البخاري أن الذي وقت ذات عرق عمر رضي الله عنه. وتبعه الصحابة. وذلك أن عمر والله أعلم لم يبلغه الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجتهد بما وافق النص وليس ببدع وقوع اجتهاده على وفق الشرع.
وهذا الحديث له طرق وشواهد يجب العلم بمثلها مع

(2/353)


تعددها مجيئها مسندة ومرسلة من وجوه شتى. تثبت أن لهذا التوقيت أصلا. وقال ابن عبد البر ميقات بالإجماع. قال رضي الله عنه "ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم. ورواه أحمد وابن ماجه ورفعاه من غير شك. وقال شيخ الإسلام هذه المواقيت كلها ثبتت بالنص والإجماع.
ومن لم يمر بميقات أحرم إذا علم أنه حاذى أقربها منه. بحيث أنه إذا حاذى أحدهما يبقى بينه وبينه يوم وإذا حاذى الآخر يبقى بينه وبينه يومان. وهو عند محاذات أحدهما غير محاذ للآخر. فيحرم إذا حاذى الأقرب إليه. ولو كان الآخر ابعد من مكة. لقول عمر: فانظروا حذوها من طريقكم. رواه البخاري. وينبغي أن يحتاط مع جهل المحاذات. فيحرم من حذو الأبعد. وكذا من أول كل ميقات. ويتعين الاحتياط.
وإن لم يحاذ ميقاتا احرم عن مكة بمرحلتين. ومن كان طريقه على ميقات كره أن يحرم قبل الميقات الذي وقته الشارع. وفعله فإنه - صلى الله عليه وسلم - أخر إحرامه من المدينة إلى الحليفة وبينهما ستة أميال في حجة الوداع. وكذا في عمرة الحديبية. وبلغ عمر إحرام عمران بن حصين من مصر فلامه وغضب. وقال يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - احرم من مصر ولام عثمان عبد الله على إحرامه من خراسان ولأبي يعلى عن أبي أيوب مرفوعا "يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا

(2/354)


يدري ما يعرض له في إحرامه وقال مالك فيمن يحرم قبل الميقات يظن أنه أهدى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ريب أنما فعله أفضل. وينعقد قبلها مع الكراهة إجماعا.

باب الإحرام
أي باب بيان أحكام الإحرام والأنساك والتلبية وما يتعلق بذلك والإحرام لغة الدخول في التحريم لأنه يحرم على نفسه بنيته ما كان مباحًا له قبل الإحرام من النكاح والطيب والتقليم والحلق وأشياء من اللباس ونحو ذلك. وشرعا نية الدخول في النسك مع التلبية أو سوق الهدي لا نية أن يحج ويعتمر فإن ذلك لا يسمى إحراما. وكذا التجرد وسائر المحظورات. لكونه محرما بدونها. وقال الشيخ لا يكون الرجل محرما بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده. بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرما. هذا هو الصحيح من القولين.
قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أي أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتليبة. قال ابن عباس لا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم في أرض. وفيها دلالة على لزوم الإحرام بالحج. والمضي فيه. قال ابن جرير أجمعوا على أن المراد من الفرض ههنا الإيجاب والإلزام. وقال غير واحد الفرض الإحرام والتلبية.

(2/355)


وقال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} أي فمن كان منكم متمعا {بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وهو يشمل من أحرم بهما معا أو أحرم بالعمرة أول. فلما فرغ منها أحرم بالحج. وهذا هو التمتع الخاص. وهو المعروف في كلام الفقهاء. والتمتع العام يشمل القسمين. وقال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج. ومنه القران. وفسخ الحج إلى العمرة اهـ.
وأول الآية {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} اي أكملوا افعالهما بعد الشروع فيهما. وأجمعوا على أن الشروع فيهما ملزم. سواء قيل بوجوب العمرة أو باستجابها. وأجمعوا على جواز أدائهما على ثلاثة أوجه. التمتع والقران والأفراد. والتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم بعد الفراغ من أعمال العمرة يحرم بالحج من مكة ويحج في عامة. والقران أن يحرم بهما معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل طوافها. والافراد أن يفرد الحج.
واختلفوا في الأفضل: فقال جمهور أهل العلم التمتع أفضل. لأن الله نص عليه وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة. إلا من ساق الهدي وثبت على إحرامه. لسوق الهدي. وتأسف بقوله "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت معكم" ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل. ولا يتأسف إلا على الأفضل. وقال عمر نزلت آية

(2/356)


التمتع في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم لم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها حتى مات.
وأحاديث التمتع متواترة رواها أكابر الصحابة. وهو قول عمر وابن عباس وجمع. ولاتيانه بأفعالهما كاملة على وجه اليسر والسهولة. قال الترمذي وأهل الحديث يختارون التمتع بالعمرة في الحج وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. ثم القرآن لفعله - صلى الله عليه وسلم -. واختار الشيخ وابن القيم أنه الأفضل لمن ساق الهدي. قال ومحال أن يكون حج أفضل من حج خير القرون وأفضل العالمين مع نبيهم. وقد أمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فمن المحال أن يكون غيره أفضل منه إلا حج من قرن وساق الهدي كما اختاره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فأي حج أفضل من هذين.
وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى إيجاب القران على من ساق الهدي. والتمتع علىمن لم يسقه. منهم ابن عباس لفعله وأمره - صلى الله عليه وسلم -. ثم الإفراد لأن فيه إكمال افعال ابن سكين وهو أفضلها عند مالك والشافعي وهو قول عمر وعثمان وجمع. وإن أفرد الحج بسفرة ثم قدم في أشهر الحج فإنه يتمه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال شيخ الإسلام التحقيق أنه يتنوع باختلاف حال الحاج فإن كان يسافر سفرة للعمرة وللحج سفرة أخرى أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج ويعتمر ويقيم بها، فهذا. الافراد له أفضل باتفاق الأئمة.

(2/357)


وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة. ويقدم مكة في أشهر الحج. فهذا إن ساق الهدي فالقرآن أفضل له. وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل له. فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حج حجة الوداع هو وأصحابه أمرهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي. فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه. وقرن هو بين العمرة والحج ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عائشة وحدها. لأنها كانت قد حاضت فلم يمكنها الطواف فأمرها أن تهل بالحج وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة. ثم إنها طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن فاعتمرت من التنعيم.
ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر. لا في رمضان ولا في غيره. والذين حجوا معه - صلى الله عليه وسلم - ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة إلا عائشة. ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين. والذين استحبوا الأفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية. بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط إلا أن يكون شيئًا نادرًا.

(2/358)


(وعن زيد بن ثابت) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإحرامه) أي من ثياب المخيط كالقميص والسراويل قبل نية الإحرام قال الشيخ والتجرد من اللباس واجب في الإحرام. وليس بشرط فيه. فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وباتفاق أئمة أهل العلم. وعليه أن ينزع اللباس المحظور (واغتسل حسنه الترمذي) وأخرجه البيهقي والدارقطني والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس اغتسل ثم لبس ثيابه. وفيه ضعف. وصح عنابن عمر أنه قال من السنة أن يغتسل إذا أراد الإحرام. وإذا أراد دخول مكة.
وكان ابن عمر يتوضأ أحيانًا ويغتسل أحيانًا. والغسل أفضل لاختياره - صلى الله عليه وسلم - ولأنه أعم وأبلغ في التنظيف. والمراد منه تحصيل النظافة وإزالة الرائحة وهو أبلغ اغتسالات الحج قال الشيخ ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في الحج إلا ثلاثة أغسال غسل عن الإحرام. والغسل عند دخول مكة. والغسل عند دخول عرفة. وما سوى ذلك كالغسل لرمي الجمار والطواف بالبيت والمبيت بمزدلفة فلا أصل له. لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ولا استحبه جمهور الأئمة لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد. وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه.
بل هو بدعة إلا أن يكون هناك سبب يقتضي
الاستحباب. مثل أن يكون عليه رائحة يؤذي الناس بها.

(2/359)


فيغتسل لإزالتها. وقال فتركه الاغتسال للمبيت والرمي والطواف يعني بدون سبب هو السنة. والقول بخلاف ذلك خلاف السنة.
(وعن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء) أي بنت عميس (وهي نفساء أن تغتسل) فدل على سنية الاغتسال مطلقا لأن النفساء إذا أمرت به مع أنها غير قابلة للطهارة كالحائض فغيرها أولى (وتحرم رواه مسلم) وغيره ففيه صحة إحرام النفساء ومثله الحائض. وأولى منهما الجنب. وهو إجماع. ولفظه "أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع فقال "اغتسلي واستثفري بثوب واحرمي" وفي لفظ لأبي بكر "مرها لتغتسل ثم لتهل" أي تحرم وتلبي.
وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج. وهي حائض متفق عليه. والحكمة في اغتسالهما التنظيف وقطع الرائحة الكريمة لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم وتخفيف النجاسة. ولأبي داود والترمذي عن ابن عباس مرفوعا "النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت" وسنية الغسل لمن أراد الدخول في النسك من ذكر وأنثى. وإن كانت حائضًا ونفساء. وفعل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت لا نزاع فيه.
واستحب بعضهم التنظف بأخذ شعر وظفر وقطع رائحة

(2/360)


كريهة لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه وقال الشيخ إن احتاج إليه فعل وليس من خصائص الإحرام. ولم يكن له ذكر فيما نقله الصحابة لكنه مشروع بحسب الحاجة إليه.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت كنت أطيب) أي تعطر (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه) أي عند إرادته فعل الإحرام لأجل دخوله فيه. وللنسائي حيث أراد أن يحرم. ولهما عنها عند إحرامه بأطيب ما أجد وفي لفظ "إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد" (قبل أن يحرم) أي يدخل في الإحرام. والمراد بدنه لا ثيابه فيكره اتفاقا لما يأتي من النهي أن يلبس ثوبا مسه ورس أو زعفران. وإن طيب ثوبه قبل الإحرام ولبسه استدامه ما لم ينزعه. فإن نزعه فليس له لبسه قبل غسل الطيب منه.
ويدل على تخصيص البدن بالطيب قولها كنت أرى وبيص الطيب في رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحيته. فدل على استحباب الطيب عند الإحرام واستدامته. ولو بقي لونه ورائحته عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين. وإن عرق فسال فلا فدية. لحديث عائشة كنا نخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهاها رواه أبو داود.
قال ابن القيم ومذهب الجمهور جواز استدامة الطيب للسنة الصحيحة. أنه كان يرى وبيص الطيب في مفارقه بعد

(2/361)


إحرامه. وفي رواية بعد أيام. ولأنه غير متطيب بعد الإحرام وفيهما أنها طيبته بذريرة فيكون من مسك وبخور وماء ورد ونحوها. ويستحب للنساء كالرجال عند الإحرام سواء كان مما تبقى عينه أو لا عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. لما تقدم.
وقال الشيخ إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه فهو حسن. ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ولم يأمر به الناس. واستحب بعضهم للمرأة خضابها بالحناء. لقول ابن عمر من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء. قالت رضي الله عنها (ولحله) أي تطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخروجه من إحرامه بالرمي والحلق "قبل أن يطوف بالبيت) يعني طواف الإفاضة (متفق عليه) وهذا قول جمهورأهل العلم ويأتي.
(وعن ابن عمر مرفوعا ليحرم أحدكم) أيينوي النسك (في إزار ورداء) الإزار هو هذا المعروف الذي يشد على الحقوين فما تحتهما. وهو المئزر. والرداء ما يرتدي به على المنكبين وبين الكتفين من برد أو ثوب ونحوه يجعل نصفه على كتفيه. والحكمة أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل. وليتذكر أنه محرم في كل وقت. بل تعظيما لبيت الله الحرام وإجلالا كما نراه في الشاهد.
ويستحب أن يكونا أبيضين نظيفين سواء كانا جديدين أو

(2/362)


لبيسين وكونهما أبيضين للحث على لباس البياض ونظيفين لأنا أحببنا له التنظيف في بدنه فكذلك في ثيابه. وقال الشيخ يجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة من القطن والكتان والصوف ويستحب في ثوبين نظيفين فإن كانا أبيضين فهما أفضل للخبر. وقال السنة أن يحرم في إزار ورداء سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين باتفاق الأئمة. ولو أحرم في غيرها جاز إذا كان مما يجوز لبسه.
ويجوز أن يحرم في الأبيض وغير الأبيض من الألوان الجائزة. وإن كان ملونا (ونعلين رواه أحمد) وغيره. قال ابن المنذر ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويأتي معناه. والمراد بالنعلين التاسومةوهي الحذاء وتعرف بنجد والحجاز بالنعال ذات السيور.
(وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عام حجة الوداع بعدأن اغتسل وتطيب وتجرد من مخيط ولبس إزاره ورداءه (صلى الظهر) ركعتين (بذي الحليفة) ونحوه عن أنس. قال الترمذي والذي يستحبه أهل العلم أن يحرم دبر الصلاة. قال الشيخ إذا كان وقتها وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه. وقال ابن القيم ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. وإن لم يتفق له بعد فريضة. وأراد أن يصلي فلا يركعهما وقت نهي. للنهي عنه. وليس من ذوات الأسباب.

(2/363)


(ثم دعا بناقته أي التي أراد أن يجعلها هديا (فأشعرها) أي شق الجانب الأمين من سنامها كما وضحه بقوله (في صفحة سنامها الأيمن) إظهارا لشعائر الإسلام. وإقامة لهذه السنة التي هي من أحب الاشياء إلى الله. وإظهارا للناس أن هذه قرابين لله تساق إلى بيته تذبح له ويتقرب بها إليه عند بيته وليعلم المار بها أنها هدي فيجتنبه إذا لم يكن محتاجا ولم يكن مضطرا إلى أكله (وسلت الدم) أي عن الناقة لسيلانه حال الإشعار (وقلدها نعلين) قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم.
وقال وكيع لا تنظروا إلى قول أهل العراق في هذا فإن الإشعار سنة. وقولهم بدعة. وقال أحمد لا ينبغي أن يسوقه حتى يشعره ويجلله بثون أبيض ويقلده نعلا أو علاقة قربة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. قالت عائشة "فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم قلدها وأشعرها وأهداها" وتقليد الغنم مذهب العلماء إلا مالكا. ولعله لم يبلغه الحديث فعن عائشة كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها غنما صححه الترمذي. وقال العمل عليه عند بعض أهل العلم واتفقوا على أنها لا تشعر لضعفها عن الجرح ولاستتاره بالصوف.
وأما البقر فيستحب عند الشافعي ومن وافقه الجمع بين الإشعار والتقليد كالإبل والأولى إن كان لها أسنمة أشعرت كالإبل وإلا فلا لأنه تعذيب لها وما عطب منه. سن أن ينحره

(2/364)


كما سيأتي. ثم يغمس نعله في دمه ويخلي بينه وبين الناس ولا يأكل منه قطعا للطمع لئلا ينحرها سائقها ويتعلل بالعطب. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم. وسنية إشعار الهدي من الميقات إن كان ساقه مسافرا به. وإن أرسله مع غيره في بلده (ثم ركب راحلته) أي بعد صلاة الظهر وعقده النسك بالإشعار والتلبية (رواه مسلم) وأهل السنن وغيرهم.
(وللخمسة عنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - بعد ما صلى الظهر (أهل دبر الصلاة) أي رفع صوته بالتلبية بعدها واصل الإهلال رفع الصوت. لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام. وقال سعيد بن جبير قلت لابن عباس عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إهلاله؛ فقال ابن عباس إني لأعلم الناس بذلك إنما كانت منه حجة واحدة فمن هناك اختلفوا. لما صلى في مسجد ذي الحليفة أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتين فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه. ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل فأدرك ذلك منه أقوام فحفظوا عنه. وكذا لما أهل على البيداء وأيم الله لقد أوجب في مصلاه. فأزال الإشكال رضي الله عنه وأرضاه.
قال شيخ الإسلام يلبي من حديث يحرم سواء ركب دابته أو لم يركبها، وإن أحرم بعد ذلك جاز والأصح أن السنة ابتداء

(2/365)


التلبية عقب الإحرام اهـ. ويجزئ من التلبية دبر الصلاة مرة والأحسن ثلاثا.
(وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لضباعة) بنت الزبير بن عبد المطلب الهاشمية بنت عم النبي - صلى الله عليه وسلم - (وكانت وجعة) فخافت ان يصدها المرض عن البيت فقالت يا رسول الله إني اريد الحج وأجدني وجعة فقال (أهلي واشترطي) أي قول يلبيك اللهم لبيك و (إن محلي حيث حبستني متفق عليه) وفي السنن قال "قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني" وصححه الترمذي وغيره. ولأحمد "فإن حبست" أي مرضت "فقد حللت من ذلك بشرطك على ربك".
فيستحب أن يشترط إن كان خائفا خاصة. قال شيخ الإسلام وغيره وهو ظاهر نص الحديث. وإن لم يكن خائفا فلا يشترط جمعا بين الأدلة. قال شيخ الإسلام ولم يأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تقول قبل التلبية شيئا لا اشتراطا ولا غيره. ولا أمر بذلك كل من حج. وإنما أمرها أن تشترط على ربها لما كانت شاكية فخاف أن يصدها المرض عن البيت. وإن اشترط على ربه خوفا من العارض فقال إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني كان حسنا اهـ.
ونقل أبو داود إن اشترط فلا بأس. زاد النسائي في رواية

(2/366)


إسنادها جيد "فإن لك على ربك ما استثنيت" فمتى حبس بمرض أو عدو أضل عن الطريق حل ولا شيء عليه. إلا أن يكون معه هدي فيلزمه نحره. ويستفيد باشتراطه شيئين أحدهما إذا عاقه عائق فله التحلل والثاني متى حل فلا دم عليه ولا صوم ولا تعلق في الخبر لمن ذهب إلى التلفظ بالنية. قال الشيخ والصواب المقطوع به أنه لا يستحب التلفظ بشيء من ذلك. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع للمسلمين شيئًا من ذلك. ولا كان يتكلم بشيء من ألفاظ النية. لا هو لا أصحابه وذكر قصة ضباعة.
(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن عائشة) رضي الله عنها (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال من أراد منكم) معشر الحجاج (أن يهل) يعني يلبي (بحج وعمرة) أو يقصد بسفرته الإحرام بحج أو عمرة أي قارنا بينهما (فليفعل) أي فليهل يعني يلبي بالإحرام بهما (ومن أراد أن يهل بحج) وحده مفردا له (فليفعل ومن أراد أن يهل بعمرة) مفردة (فليفعل) فاذن - صلى الله عليه وسلم - بالحج قرانا أوتمتعا أو إفرادا. وتقدم الإجماع على جواز فعل أيهما شاء.
وحكى النووي وغيره الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة.
وتقدم ذكر الأفضل منها (وأهل) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بالحج) وأدخل العمرة على الحج أو لبى بهما معا رواه عنه جماعة من الصحابة. والأكثر أنه حج قارنا. فقد جاء في بضعة

(2/367)


وعشرين حديثا صحيحة أنه حج قارنا. ومن ذكر أنه متمتع فالمراد متعة القرآن. وهو لغة القرآن من قرنت بين الشيئين فصار قارنا كما تقدم. وبقي عليه لسوقه الهدي (وأهل به ناس معه) أي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج مفردين.
(وأهل ناس بالعمرة والحج) معا متمتعين بالعمرة إلى الحلج او قارنين (وأهل ناس بالعمرة) فقط قالت وكنت ممن أهل بالعمرة. وقالت أهللنا بالعمرة ثم أدخلنا عليها الحج. وفي الصحيح أنه أمرها بذلك. وقال ابن عمر هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يجب أن يعين ما يحرم به من حج أو تمتع بعمرة إلى الحج أو قران بين الحج والعمرة ويتلفظ به. ولكن ينبغي أن يقول لبيك حجا أو لبيك عمرة. أو لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج. أو لبيك حجا وعمرة. أو أوجبت حجا وعمرة. ومهما قال أجزأ اتفاقا. ولا يجب شيء من هذه العبارات ونحوها. بالاتفاق.
قال شيخ الإسلام تنازع العلماء هل يستحب أن يتكلم بذلك. كما تنازعوا هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة الصواب المقطوع به أنه لا يستحب التلفظ بشيء من ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع شيئًا من ذلك ولا كان يتكلم بشيء من ألفاظ النية لا هو ولا أصحابه. وكان يقول في تلبيته لبيك عمرة وحجا وكان يقول للواحد من أصحابه "بم أهللت" وقال: "مهل أهل كذا من كذا" والإهلال هو التلبية. وقال بل متى لبى

(2/368)


قاصدا للإحرام انعقد إحرامه باتفاق المسلمين. ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء.
وقال ايضا ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر أحدا بعبارة بعينها. وإنما يقال أهل بالحج أهل بالعمرة. أو يقال لبى بالحج لبى بالعمرة وهذا تأويل قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} الآية. قال ولو أحرم إحراما مطلقا جاز. فلو أحرم بالقصد للحج من حيث الجملة ولا يعرف هذا التفصيل جاز. ولو أهل ولبى كما يفعل الناس قاصدا للنسك ولم يسم شيئا بلفظه ولا بقصده بقلبه لا تمنعا ولا إفرادا ولا قرانا صح حجه ايضا وفعل واحدا من الثلاثة اهـ.
وإن أحرم بما أحرم به فلان انعقد بمثله اتفاقا علم به قبل الإحرام أو بعده لحديث علي لما سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بم أحرمت قال بما أحرمت به يا رسول الله "وفي خبر أنس أهللت بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي موسى أنه أحرم كذلك. ولم يكن ساق الهدي "فأمره أن يحل" ولأنه قصد الإحرام بصفة خاصة. حتى لو بطل بقي اصل الإحرام. وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بواحدة اتفاقا إلا ما روي عن أبي حنيفة.
(وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل) أي لبى (فقال لبيك اللهم لبيك) أي إجابة بعد إجابة لازمة أو أنا مقيم على

(2/369)


طاعتك وإجابة دعوتك وأمرك لنا بالحج. قال الشيخ إجابة دعوة الله لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم. والملبي هو المستسلم المناقد لغيره. كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته والمعنى إنا مجبوبك لدعوتك مستسلمون لحكمك مطيعون لأمرك مرة بعد مرة لا نزال على ذلك.
وهذا قول جمهور المفسرين من الصحابة وغيرهم أنه إجابة دعوة إبراهيم حيث نادى بالحج: أيها الناس أجيبوا ربكم فأجابوه: لبيك اللهم لبيك. وفي لفظ إن ربكم اتخذ بيتا وأمركم أن تحجوه. قال الحافظ وهذا مما ليس للاجتهاد فيه مسرح. قال ابن القيم ولهذا كان للتلبية موقع عند الله. وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى الله وأحظى عنده. فهو لا يملك نفسه أن يقول لبيك حتى ينقطع نفسه (لبيك لا شريك لك لبيك) كرر تلك التليبة لأنه أراد إقامة بعد إقامة. ولم يرد حقيقة التثنية. وإنما هو التكثير حنانيك.
(إن الحمد) كسر همزة إن أولى عند جماهير العلماء. وحكى الفتح. قال ثعلب من كسر فقد عم يعني حمد الله على كل حال. ومن فتح فقد خص اي لبيك لأن الحمد (والنعمة) كلاهما (لك) مستقرة الإحسان والمنة مطلقا. فالكسر أجود لأنه يقتضي أن الإجابة مطلقة. وأن الحمد والنعمة لله على كل حال. والفتح يدل على التعليل كأنه يقول أجبتك لهذا السبب والأول أعم وهو أكثر فائدة (والملك) كذلك (لك) بالنصب

(2/370)


على المشهور (لا شريك لك) في ملكك (متفق عليه) وقال الترمذي وغيره ثبت عن ابن عمر وغيره. والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وهو قول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق اهـ.
والتلبية سنة مؤكدة. وأوجبها مالك وأبو حنيفة في ابتداء الإحرام. وقال بعضهم لا تستحب الزيادة على هذه التلبية لأنه - صلى الله عليه وسلم - لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها. قال الشيخ وكان - صلى الله عليه وسلم - يداوم على تلبيته وإن زاد لبيك ذا المعارج أو لبيك وسعديك ونحو ذلك جاز. كما كان الصحابة يزيدون والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعهم ولم ينههم. وكذا جزم ابن القيم وغيره. يقرهم ولا ينكر عليهم. وأنه لزم تلبيته ولا تكره الزيادة عند الجمهور لما في الصحيحين عن ابن عمر: كان يلبي تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويزيد لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل وزاد عمر لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرغوبا ومرهوبا إليك لبيك. وروي عن أنس أنه كان يزيد لبيك حقا حقا تعبدا ورقا. وروي عن بعض السلف لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة. وعن ابن عمر اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
وقال الشافعي وغيره وإن زاد شيئا من تعظيم الله فلا بأس. وللنسائي وصححه ابن حبان مرفوعا "لبيك إله الحق لبيك" ولأن المقصود الثناء على الله وإظهار العبودية فلا مانع من الزيادة. واستحبها أبو حنيفة وغيره.

(2/371)


(وللخمسة عن السائب) بن خلاد بن سويد أبي سهل الأنصاري صحابي عمل على اليمن ومات سنة إحدى وسبعين (مرفوعا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أتاني جبرئيل اي بالوحي من الله عز وجل (فأمرني) يعني أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (أن آمر أصحابي) وهو أمر ندب عند الجمهور وفي لفظ "ومن معي" وهو زيادة وإيضاح وبيان فإن الذين معه أصحابه رضي الله عنهم.
(أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) يعني التلبية بالحج. وفي لفظ والتلبية (صححه الترمذي) وفي لفظ بالإهلال أو التلبية يعني قول لبيك اللهم لبيك الخ. ولأحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم عن زيد بن خالد مرفوعا "أتاني جبريل فقال إن الله يامرك اصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج".
ولابن ماجه ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الأعمال أفضل قال "العج والثج وفي رواية عن السائب مرفوعا "أتاني جبريل فقال كن عجاجا ثجاجا" ولابن أبي شيبة أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح حلوقهم. وقال أنس كانوا يصرخون بها صراخا. رواه البخاري. وهذا مذهب جمهور أهل العلم. وحكي اتفاقا. قال الشيخ وغيره التلبية شعار الحج فأفضل الحج العج والثج. فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة دماء الهدي.

(2/372)


ولهذا استحب رفع الصوت بها للرجل بحيث لا يجهد نفسه ويسن الإكثار منها. وللترمذي من حديث سهل "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من شجر أو حجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا ومن ههنا" ويتأكد الإكثار منها إذا علا نشزا أو هبط واديا أوصلى مكتوبة اتفاقا. أو التفت الرفاق أو سمع ملبيا ونحو ذلك. وذكر الشيخ وغيره استحباب الإكثار من التلبية عند اختلاف الأحوال كما تقدم.
ولا يرفع صوته في مساجد الحل وأمصاره. قال ابن عباس لمن سمعه يلبي بالمدينة إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت وقال أحمد وغيره إذا أحرم في مصره لا يعجبني أن يلبي حتى يبرز. ولا يرفع صوته في طواف القدوم والسعي بعده. لئلا يخلط على الطائفين. ولا يظهرها في الحرم اتفاقا. وتخفيها المرأة إجماعا بقدر ما تسمع رفيقتها. وتسمع نفسها اتفاقا. ولا يلبي عنه غيرها. هي تلبي عن نفسها.
قال الشيخ ويستحب أن يلبي عن أخرس ومريض وصغير ومجنون ومغمى عليه تكميلا لنسكه. كالأفعال. وتشرع بالعربية لقادر عليها. لأنه ذكر مشروع فلم يشرع بغيرها مع القدرة كسائر الأذكار. ويستحب بعده الدعاء بما أحب لأنه مظنة الإجابة. ويسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار. لما رواه الدارقطني وغيره كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من تلبيته "سأل الله الجنة واستعاذ برحمته من النار".

(2/373)


ويستحب عقب الدعاء أيضا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. لأنه موضع يشرع فيه ذكر الله فشرعت فيه الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. كالصلاة والأذان. ولا يرفع بذلك صوته. قال الشيخ وإن دعا عقب التلبية وصلى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأل الله ورضوانه والجنة واستعاذ به من النار فحسن.

باب محظورات الإحرام
المحظورات جمع محظور. صفة لموصوف محذوف. أي باب بيان الخصلات المحظورات. أو الفعلات المحظورات. يعني المحرمات أو الممنوع فعلها حال الإحرام شرعا وهي تسعة. وبيان كفاراتها. وهدي التمتع. وما يتعلق بذلك.
قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} أي تزيلوا شعره بحلق أو نتف أو قلع ونحو ذلك. وعبر بالحق لأنه الغالب وعدي أيضا إلى سائر شعر البدن اتفاقا لأنه في معناه ولحصول الترفه به. بل أولى. لأن الحاجة لا تدعو إليه. وشعر الرأس والبدن واحد عند أحمد وغيره. وعنه لكل منهما حكم يخصه اتفاقا. لأنهما كجنسين. ويحرم فعله لغير عذر من مرض أو قمل أو قروح أو صداع أو شدة حر. لكثرته مما يتضرر بإبقائه إجماعا. إذ حلق الشعر يؤذن بالرفاهية. وهي تنافي الإحرام لكون المحرم أشعث أغبر.
ونص أهل العلم على أن تقليم الأظفار محظور في الإحرام.

(2/374)


أشبه إزالة الشعر. وحكاه ابن المنذر إجماعا. وقال الموفق وغيره أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره. لكونه مؤذنا بالرفاهية. وهي منافية لحال المحرم. وذكر بعضهم في ظفر وشعرة أو ظفرين أو شعرتين قبضة من طعام. وقال مالك وجماعة لا تجب الفدية إلا فيما يماط به الأذى. ويحصل به الترف. وإزالة الشعث. وأنكر ابن القيم وغيره أنه يستفاد من الآية وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربعًا. لأنه لا يدخل في مسمى الحلق لغة ولا عرفا. واستيعاب الرأس بالحلق ليس بمعتبر في وجوب الفدية إجماعًا.
{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارنا أومن فعل أحدهما إن كان مفردا. أو متمتعا. وفي الصحيحين عن حفصه قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال "إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر"وهذا حكم القارن. ومن كان معتمرا فمحله حيث يبلغ هديه الحرم.
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} يحتاج إلى حلق شعر {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} أي فلا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطروا إلى حلقه لمرض أو لاذى في الرأس من هوام أو صداع ويأتي حديث كعب وأنه قال نزلت في خاصة وهي لكم عامة {فَفِدْيَةٌ} اي فحلق فعليه فدية إجماعا وهي ما يجب فداء

(2/375)


بسبب نسك أو إحرام وهي في الاصل افتكاك الأسير. وإطلاقها في محظورات الإحرام إشعار بأن من أتى محظورا فكأنه صار في هلكة يحتاج إلى إنقاذه منها بالفدية التي يعيطها. فاستعير هذا الاسم في محظورات الإحرام إنقاذا لمن تلبس بشيء منها من تلك الهلكة بالفدية التي يعطيها. لعظم شأن الإحرام وتأكد حرمته.
وسببه تعظيم أمر الإحرام بأن محظوراته من المهلكات. ووضح الفدية بقوله {مِنْ صِيَامٍ} أي ثلاثة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} أي ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع {أَوْ نُسُكٍ} واحدتها نسيكهة أي ذبيحة أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة. أيتها شاء ذبح فهذه الفدية على التخيير والتقدير. ويتخير بين أن يذبح أو يصوم أو يتصدق وجمهور العلماء على أن الفدية تنقسم إلى ضربين أحدهما على التخيير. وهو نوعان. فدية الحلق. والحقوا بها فدية التقليم. وتغطية الرأس والطيب لأن تحريمها فيه للترفة. فأشبهت الحلق فيخير بين صيام ثلاثة أيام. أو إطعام ستة مساكين. أو ذبح شاة اتفاقا.
والنوع الثاني جزاء الصيد إن كان له مثل أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاما فيطعم كل مسكين مدا من بر. أو نصف صاع من غيره. أو يصوم عن كل مد أو نصف يوما. وهو اتفاق. كفدية الحلق. ولا يجب التتابع في الصوم. ولا الصوم عن بعض

(2/376)


والإطعام عن بعض اتفاقا.
والضرب الثاني على الترتيب وهو ثلاثة أنواع: دم متعة وقران وطء في فرج. ومن الفدية ما لم يرد فيه ترتيب ولا تخيير كفدية الفوات. وعده بعضهم ضربا ثالثا. وإن فعل محظورا من أجناس بأن حلق وقلم أظفاره ولبس المخيط فدى لكل مرة فديته الواجبة فيه اتفاقا. وإن كرر المحظور من جنس ولم يفد فدى مرة سواء فعله متتابعا أو متفرقا. لأن الله أوجب في حلق الراس فدية واحدة. ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات.
قال الشيخ وإذا لبس ثم لس مرارا ولم يكن أدى الفدية أجزأته فدية واحدة في أظهر قولي العلماء. بخلاف صيد ففيه بعدده ولو دفعة واحدة باتفاق أهل العلم. ويسقط بنسيان أو جهل أو إكراه فدية لبس وطيب. وتغطية رأس ونحوه. لخبر "عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" دون وطء عند الجمهور. وصيد إجماعًا.
وذكر شيخ الإسلام عدم مؤاخذة الجاهل والناسي. ثم قال وأما الكفارة والفدية فتلك وجبت لأنها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله. كما لو أتلفه صبي ضمنه. وجزاء الصيد وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول خطأ. والكفارة الواجبة بقتله خطأ بنص القرآن. وإجماع المسلمين.

(2/377)


وأما سائر المحظورات فليست من هذا الباب. وتقليم الأظفار وقص الشارب والترفه المنافي للتفث كالطيب واللباس. ولو فدى لكانت فدية من جنس فدية المحظورات. ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل فأظهر الأقوال في الناسي والمخطء إذا فعل محظورا أن لا يضمن من ذك إلا الصيد. وقال ابن القيم الراجح من الأقوال أن الفدية لا تجب في ذلك مع النسيان. بخلاف الصيد فإنه من باب ضمان المتلفات.
قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أي من خوفكم. وبرأتم من مرضكم {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} أي فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج. وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج. فإنه يسمى استمتاعا لإحلاله من العمرة حتى يحرم بالحج. توسعة من الله عليه. لما في استمراره محرما من المشقة.
{فَمَا اسْتَيْسَرَ} أي فليذبح ما قدر عليه {مِنْ الْهَدْيِ} ولا خلاف في وجوبه على التمتع. وأقله شاة. وشرطه أن يقدم العمرة على الحج. وأن يحرم بها في أشهره من الميقات. وأن يحج بعد الفراغ منها في سنتها.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الهدي أو لم يجد ثمنه ولو وجد من يقرضه {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أي قبل التروية ويوم التروية ويوم

(2/378)


عرفة. وإن صام قبلها بعد ما يحرم بالحج جاز. ويجوز أيام التشريق. فإن وقت الوجوب يوم النحر لأنه وقت الهدي.
وإذا لم يجد جاز تقديمه بعد إحرام التمتع بالعمرة. قال الشيخ في أشهر قولي العلماء. وهو الأرجح. فإنه في تلك الحال في الحج. وقيل بعد التحلل من العمرة. فإنه حينئذ شرع في الحج. ولكن دخلت العمرة في الحج كما دخل الوضوء في الغسل. وأما إحرامه بالحج بعد ذلك. فكما يبدأ الجنب بالوضوء. ثم يغتسل بعده. وإن أوجب الصوم وشرع فيه ثم وجد هديا لم يلزمه. وأجزأه الصوم عند جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد. والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة ووجوبه وقت وجوب الهدي. لأنه بدل منه. وإن أخره عن أيام التشريق لغير عذر صامه بعد. ولا دم عليه عند جمهور العلماء مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد.
{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله وبلده. وقال عليه الصلاة والسلام "فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" فلو صامها قبل رجوعه لم يجز عند بعض أهل العلم. وأجازه بعضهم بعد الفراغ من أعمال الحج. وأنه المراد من الرجوع المذكور. ولا يجب التتابع اتفاقا. لإطلاق الأمر. ولا يلزمه التفريق بين الثلاثة والسبعة إذا أخر الثلاثة إليه.
{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ذكرها تعالى على وجه التأكيد. أو

(2/379)


الأمر بإتمامها {ذَلِكَ} الحكم {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهلهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي أهل الحرم فلا متعة لهم. وقيل من دون مسافة القصر. لأنه لا يعد مسافرا. ومن لا متعة له لا دم عليه.
وقال تعالى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} جمع إحرام. أي لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بالحج أو العمرة وقيل المراد وعند الحرم. فهما مرادان بالآية. فلا يجوز قتل الصيد للمحرم ولا في الحرم إجماعا. نزلت في أبي اليسر شد على حمار وحشي فقتله وهو محرم ثم صار هذا الحكم عاما. فلا يجوز قتل الصيد ولا التعرض له. ولا أذاه ما دام المرء محرما. ولا في الحرم. والمراد كل حيوان متوحش مأكول اللحم عند الجمهور. للخبر الآتي. ثم ذكر تعالى جزاءه ويأتي.
إلى قوله {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ما يصاد منه طربا ما لم يكن في الحرم إجماعا. وطير الماء بري لأنه يبيض ويفرخ في البر. فيحرم على المحرم صيده. وفيه الجزاء في قول عامة أهل العلم. وقال الموفق لا نعلم فيه خلافا. إلا ما روي عن عطاء. (وطعامه) ما يتزودون منه مليحا يابسا. والبحر جميع المياه العذبة والمالحة. {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} تتزودون منه. ولا نزاع في هذا كله.
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} كرر تعالى تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة. كل ذلك لتأكيد تحريم قتل الصيد على المحرم. فهذان اثنان. والثالث

(2/380)


قوله في أول السورة {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إجماعا. لأنها ليست بصيد. إلا ما كان منها وحشيا. فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام. والاعتبار في أهلي ووحشي بأصله اتفاقا.
وقال قبل هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الصغير والضعيف في حال إحرامكم (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) ابتلاهم الله بالصيد يغشى رحالهم ولو شاؤوا تناولوه بأيديهم {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} ليعلم طاعة من يطيع في سره وجهره {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي الإعذار والإنذار فصاده {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال ها هنا {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تستحلوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم. ثم حذرهم بقوله {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازيكم الله على معصيتكم. ففيها تحريم اصطياده حال الإحرام. وفي الحرم. وذلك بإجماع المسلمين. وعليه الجزاء إجماعا. ويحرم أذاه ولو لم يقتله أو يجرحه. قال الشيخ ولا يصطاد صيدًا بريًا ولا يعين عليه. ولا يذبحه. ولا يصطاد بالحرم صيدا وإن كان من الماء كالسمك على الصحيح. بل ولا ينفر صيده مثل أن يقيمه لقعد مكانه.
وقال تعالى {فَلَا رَفَثَ} أي من أوجب الحج فعليه أن يجتنب الرفث فيه. وهو الجماع ودواعيه من المباشرة والتقبيل والغمز. وأن يعرض لها بالفحش من الكلام، وقال الأزهري وغيره الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وقال

(2/381)


الشيخ الرفث اسم للجماع قولا وعملا. وحكاه ابن المنذر إجماع العلماء. وأنه لا يفسد النسك إلا به أنزل أو لم ينزل. وقال الشيخ وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث. فلهذا ميز بينه وين الفسوق.
وقال أيضا فإن جامع قبل التحلل الأول فسد حجه. وأما سائر محظورات الإحرام كاللبس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين. وقال ويحرم على المحرم الوطء ومقدماته. ولا يطأ شيئا سواء كان امرأة أو غير امرأة. ولا يتمتع بقبلة ولا مس بيد ولا نظر بشهوة اهـ.
والحكمة أن يبعد عن ملاذ الدنيا وشهواتها. ويجمعهم لمقاصد الآخرة. قال الوزير وغيره وإن باشر دون الفرج فأنزل لم يفسد حجه وعليه شاةاتفاقا. وتحرم المباشرة اتفاقا. لأنهاوسيلة إلى الوطء المحرم. فكانت حراما.
{وَلَا فُسُوقَ} أي في الحج وهو المعاصي. لم يفسق أي لم يأت بسيئة ولا معصية. وهو في حال الإحرام أشد وأقبح. لأنه حالة التضرع وهجر المباحات وإقبال على الطاعات (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) وهو الممارات فيما لا يعني والخصام مع الرفقة والمنازعة والسباب. قال الشيخ الجدال هو المراء في أمر الحج فإن الله قد وضحه وبينه وقطع المراء فيه. كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه. ولم ينه المحرم عن الجدال مطلقا. بل قد يكون واجبا او مستحبا. وقد يكون محرما في الحج وغيره اهـ.

(2/382)


قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. حث على فعل الخير عقب النهي عن الشر. وهو أن يستعملوا مكان الرفث الكلام الحسن. ومكان الفسوق البر والتقوى. ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة. {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فإنه لا بد للإنسان من سفر في الدنيا. ولا بد فيه من زاد وسفر من الدنيا إلى الآخرة وزاد. وهو تقوى الله والعمل بطاعته. وهذا الزاد أفضل. لأنه يوصل إلى النعيم المقيم.
وقال - صلى الله عليه وسلم - "من حج فلم يرفث ولم يفسق" أي في أيام الحج "خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" فيرجع ولا ذنب له ويبقى حجه فضالا له لأن الحسنات يذهبن السيئات. فيسن قلة الكلام في الحج إلا فيما ينفع. ويستحب اشتغال المحرم بالتلبية وذكر الله وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل ونحو ذلك. وله اتجاره وعمل صنعة مالم يشغلاه عن واجب أو مستحب. وإلا كره. قال ابن عباس في قوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج رواه البخاري.
(وعن كعب) بن عجرة بن أمية بن عدي البلوى صحابي جليل. كان حليف الأنصار. ونزل الكوفة. ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعله آذاك هوام رأسك) وفي لفظ "تؤذيك هوام رأسك" جمع هامة وهي ما يدب

(2/383)


من الأحناش. والمراد هنا ما يلازم الجسد غالبا إذا طال عهده بالتنظيف. فسر بالقمل. وفي لفظ حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى" (قال نعم) وفي لفظ "كأن هوام رأسك تؤذيك" فقلت أجل.
(فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة) وفي لفظ احلقه واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو تصدق ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع. وفي رواية "نصف صاع من طعام" متفق عليه" وقد روي بألفاظ متعددة. وظاهر الآية المتقدمة وسائر روايات الحديث أنه مخير في الثلاث جميعا.
قال البخاري خير النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبا في الفدية وهو إجماع وأكثر الروايات رواية التمر. وجاء أنه نسك شاة بعد ما حلق رأسه ففي الصحيحين أتجد شاة قلت بلى فنزلت {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قالا يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين ونسك شاة" وفي رواية نزلت في هذه الآية. ولا نزاع في أن النسك المأمور به شاة سواء كان حلقه لقمل أو صداع أو شدة حر. وقد جاء بروايات متفقة في المعنى. ومقصودها أن من احتاج إلى حلق الرأس لضرورة من قمل أو مرض أو نحوها فله حلقه في الإحرام. وعليه الفدية.
لا إن خرج بعينه شعر أو انكسر ظفره فأزالهما أو زالا مع

(2/384)


غيرهما. كأن قطع جلدا عليه شعر أو أنملة بظفرها فلا فدية في ذلك اتفاقا. أما إزالتهما فقط فلأذاهما كالصيد الصائل عليه. وأما زوالهما مع غيرهما فلكونهما بالتبعية. ووقت ذبح الفداء حيث وجد سببه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كعبا بنحر هديه في موضعه وهو بالحديبية. وعلي رضي الله عنه نحر جزورا عن الحسين بالسقيا لما اشتكى رأسه فحلقه رواه مالك وغيره. ولأنه موضع تحلل فكان موضع ذبحه. ويجرئ بالحرم. وأما الصوم فيجزئ بكل مكان باتفاق أهل العلم. لقول ابن عباس وغيره الصوم حيث شاء لعدم تعدي نفعه ولا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي.
(ولهما عن ابن بحينة) عبد الله بن بحينة بنت الحارث بن عبد المطلب وأبوه مالك بن القشب الأزدي (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم) وذلك في حجة الوداع بلحي جمل. ماء بين مكة والمدينة. وهو إلى المدينة أقرب بينها وبين السقيا. في وسط رأسه. ولهما نحوه عن ابن عباس. وللبخاري من وجع كان به بماء يقال له لحي جمل. ويقال له اليوم بئر جمل بالجيم. بئر بناحية الجرف في آخر العقيق شمالي المدينة وتوضأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء أن ناقته بركت عندها بين أظهر بني النجار.
فدل الحديث على جواز الحجامة للمحرم. وهو إجماع في الرأس وغيره للحاجة. قال شيخ الإسلام وله أن يحك بدنه. ويحتجم في رأسه وغير رأسه. وإن احتاج أن يحلق لذلك شعر جاز. فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في وسط

(2/385)


رأسه وهو محرم. ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر، وله أن يقتصد إذا احتاج إلى ذلك وقال وإن احتاج إلى قطعه بحجامة أو غسل لم يضر. اهـ. وله الاغتسال في حمام وغيره.
روي عن عمر وعلي وابن عمر وجابر وغيرهم. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي: لأنه عليه الصلاة والسلام غسل رأسه وهو محرم. ثم عرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. متفق عليه. وقال ابن القيم يجوز للمحرم أن يمشط رأسه. ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منع المحرم من ذلك. ولا تحريمه وليس في ذلك ما يحرم على المحرم تسريح شعره.
فإن أمن من تقطيع الشعر لم يمنع من تسريح راسه وإلا ففيه نزاع. والدليل يفصل بين المتنازعين. فإنه لم يدل الكتاب ولا السنة ولا الإجماع على منعه فهو جائز. وقال الشيخ إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره. وإن تيقن أنه قطع بالغسل. وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق. وكذلك لغير الجنابة.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم) وهذا من بديع الكلام لأن ما لا يلبس منحصر فحصل التصريح به. وأما الملبوس الجائز فغير منحصر وللبخاري ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا. ولأحمد ما يترك المحرم
(قال لا يلبس القميص) نوع من الثياب وهو كل ما

(2/386)


أحاط بالبدن مما كان عن تفصيل وتقطيع.
(ولا العمامة) وهي ما أحاط بالرأس فيلحق بها غيرها مما يغطي الرأس (ولا البرنس) وهو كل ثوب رأسه منه ملتزما به من جبة أو دراعة أو غيرها. وقلنسوة طويلة يلبسها النساك في صدر الإسلام. وذكرهما معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر كالبرانس إجماعا. بل يحرم. ويأتي قوله في المحرم "ولا تخمروا رأسه".
وكان ابن عمر يقول إحرام الرجل في رأسه. وأجمع أهل العلم على أن من غطى رأسه بملاصق فدى. حكاه الوزير وغيره. وقال ابن القيم وغيره كل متصل ملامس يراد لستر الرأس كالعمامة والقبع والطاقية والخوذة وغيرها ممنوع بالاتفاق. وقال بل يتعدى النهي إلى الجلباب والدولقة والمبطنات والفراجي والأقبية والقرقشنيات. وإلى القبع والطاقية والكوفية والكلوتة والطيلسان والقلنسوة اهـ.
وإن احتاج إلى شيء من ذلك لشجة أو صداع أو غيرهما فعل وفدى. ويجوز تلبيد راسه بعسل وصمغ ونحوها لئلا يدخله غبار أو دبيب أو يصيبه شعث ولا شيء عليه. لما في الصحيحين عن ابن عمر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبدا قال (ولا السراويل) وهي لباس يستر النصف الأسفل من البدن فارسي معرب جمعه سراويلات.
قال ابن القيم نبه بالقميص على ما فصل للبدن كله.

(2/387)


وبالسراويل المفصل عن الأسافل كالتبان ونحوه وبالعمامة على كل ساتر للرأس معتاد. وبالبرنس على المحيط بالرأس والبدن جميعا. وبالخفين على ما في معناهما. قال الشيخ وغيره نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يلبس القميص والبرنس والسراويل. وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه.
فما كان من هذا الجنس فهو ذريعة في معنى ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فما كان في معنى القميص بكم ولا بغيركم. وسواء أدخل يديه أو لم يدخلهما وسواء كان سليما أو مخروقا. وكذلك لا يلبس الجبة ولا القباء الذي يدخل يديه فيه وكذلك لا يلبس الدرع الذي يسمى عرق جبن. يعني الفنيلة. وأمثال ذلك باتفاق الأئمة. وأما إذا طرح القباء على كتفيه من غير إدخال يديه ففيه نزاع. وهذا معنى قول الفقهاء لا يلبس المخيط. والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو ولا يلبس ما كان في معنى السراويل كالتبان ونحوه.
ولا فرق بين قليل اللبس وكثيره. لظاهر الآية والخبر ويلزمه خلعه ولا يشقه ولا فدية لأن يعلى بن أمية أحرم في جبة فأمره - صلى الله عليه وسلم - بخلعها متفق عليه ولأبي داود فخلعها من رأسه. ولم يأمره بشق ولا فدية. وإن استدام لبسه فوق المعتاد في خلعه ذاكرا لإحرامه عالما بالتحريم فدى. واتفقوا على جواز ستره لبدنه بغير ذلك. وأجمعوا على اختصاص النيه بالرجل. وأنه

(2/388)


يجوز للمرأة جمع ما ذكر حكاه ابن المنذر وغيره. (ولا يلبس ثوبا) يعني إزارا أو رداء ونحوهما (مسه ورس) نبت أصفر طيب الرائحة يصبغ به الثياب والجز وغيرها (ولا زعفران) ونهى أن يتزعفر الرجل خارج الإحرام ففيه أشد. وأجمعوا على تحريم لباسهما حال الإحرام. وحكاه ابن رشد والنووي إجماع الأمة لكونهما طيب. والحقوا بيهما جميع أنواع ما يقصد به الطيب. والشارع نبه بها على اجتناب الطيب وما يشبههما في ملاءمة الشم فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم. وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب. وهذا الحكم شامل للنساء كما سيأتي. وسواء كان مما يلبسه المحرم أو لا يلبسه.
وقال غير واحد نبه بهما على ما هو أطيب رائحة منهما كالمسك والعنبر ونحوهما. وإذا حرم في الثوب ففي البدن أولى. وفي معناه تحريمه في المأكول. لأن الناس يقصدون تطييب طعامهم. كما يقصدون تطييب لباسهم. وهذا باتفاق أهل العلم حكاه العراقي. وخولف في المأكول. فهو عند طائفة من المالكية والحنفية لا يحرم. والجمهور على التحريم. لأن الطعم مستلزم الرائحة، والرائحة هي المقصود منه. فالطيب محظور بهذا الخبر وقوله - صلى الله عليه وسلم - ليعلى بن أمية "انزع قميصك واغسل هذه الصفرة عنك" وقوله "ولا تحنطوه ولا تمسوه طيبا".
وتجب به الفدية. سواء طيب بدنه أو ثوبه أو ادهن بمطيب

(2/389)


أو شم طيبا ونحوه. وقال الشيخ: سواء كان تطيب به بعد إحرامه في بدنه أو ثوبه أو تعمد شمه. وقال ابن القيم وتحريم شمه بالقياس. ولفظ النهي لا يتناوله بصريحه. ولا إجماع معلوم فيه يجب المصير إليه. ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل فيمنع منه للترفه واللذة. فأم من غير قصد أو قصد الاستعلام عند شرائه لم يمنع منه. ولم يجب عليه سد أنفه.
والحكمة في منع المحرم من اللباس والطيب أنه يدعو إلى الجماع. ولأنه مناف للحج فإن الحاج أشعث أغبر معرض عن زينة الدنيا وملاذها. قاصد جمع همه للآخرة والاتصاف بصفة الخاشع المتذكر القدوم على ربه. فيكون أقرب إلى مراقبته وتقدم كراهة لبس المعصفر والورس في غير الإحرام ففيه أولى. وإذا تطيب ناسيا أو عامدا لزمه إزالته مهما أمكن.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (سمعته) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يخطب بعرفات) عام حجة الوداع يقول (من لم يجد إزارا فليلبس سراوي) إلى أن يجد إزارا ولا فدية عليه. قال الشيخ إن لميجد إزارا فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه هذا أصح قولي العلماء. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في عرفات فيلبيس السراويل لمن لم يجد إزارا. كما رواه ابن عباس.
وكذا يجوز أن يلبس كلما كان من جنس الإزار والرداء فله أن يلتحف بالقباء والجبة والقميص ونحو ذلك. ويتغطى به

(2/390)


باتفاق الأئمة عرضا ويلبسه مقلوبا. يجعل أسفله أعلاه. ويتغطى باللحاف وغيره. لكن لا يغطي رأسه إلا لحاجه اهـ. ـ. وإن اتزر بقميص فلا بأس ولا يجوز لبسه ولو عدم الإزار اتفاقا لأنه يمكن أن يأتزر به.
وكره بعض أهل العلم عقد رداء ونحوه. لأنه يترفه بذلك. لا الهميان فقال ابن عبد البر أجازه فقهاء الأمصار. وكذا السيف والسلاح. ولا يجعل للرداء أزارا ولا عروة. ولا يخله بشوك ونحوه. وقال الشيخ والرداء لا يحتاج إلى عقده فلا يعقده. فإن احتاج إلى عقده ففيه نزاع والأشبه جوازه حينئذ وهو المنع من عقده منع كراهة أو تحريم فيه نزاع. وليس على تحريم ذلك دليل وله شد وسطه بمنديل وحبل ونحوهما نص عليه أحمد وغيره.
قال (ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين متفق عليهما) يعني حديثي ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم. ورواهما أهل السنن وغيرهم من غير وجه وقيل ظاهره أنه ناسخ ما جاء من حديث ابن عمر في القطع وثبت عن ابن عباس أنه قال لم يقل ليقطعهما. ولو كان القطع واجبا لبينه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الجمع العظيم. وقال غير واحد ويحرم قطعهما ونص عليه أحمد وغيره. وقال هو إفساد واحتج الموفق وغيره بالنهي عن إضاعة المال.
وهذا هو المختار عملا بإطلاق حديثي ابن عباس وجابر

(2/391)


عند مسلم. فإنه لم يأمر فيهما بقطع. قال الشيخ فإن لم يجد نعلين لبس خفين ولبس عليه أن يقطعهما دون الكعبين. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقطع أولا ثم رخص في ذلك في عرفات في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين. وإنما رخص في المقطوع أولا لأنه يصير بالقطع كالنعلين وهذا أحسن من ادعاء النسخ. قال ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين مثل الخف المكعب والجمجم والمداس ونحو ذلك. سواء كان واجد النعلين أو فاقدا لهما. وإذا لم يجد نعلين ولا ما يقوم مقامهما مثل الجمجم والمداس ونحو ذلك فله أن يلبس الخف ولا يقطعه. هذا أصح قولي العلماء اهـ.
ولا فدية سواء احتاج إلى لبسهما أو لا. بأن أمكنه المشي حافيا. أو لا يحتاج إلى شيء. لأن الرخصة في ذلك لمظنة المشقة فلا تعتبر حقيقتها. قال ابن القيم لأنه بدل يقوم مقام المدبل فلا فدية في بدله. بخلاف حلق الرأس فهو ترفه للحاجة.
(وللبخاري عن ابن عمر مرفوعا لا تنتقب المحرمة) أي لا تلبس النقاب غطاء للوجه فيه نقبان على النعلين تنظر المرأة منهما. وهو الخمار الذي تشده على الأنف أو تحت المحاجر. وإن قرب من العين حتى لا تبدو أجفانها فهو الوصوصة. وإن نزل إلى طرف الأنف فهواللفاف. وإن قرب إلى الفم فه اللثام.

(2/392)


(ولا تلبس القفازين) شيء يعمل لليدين يدخلان فيه يسترهما من الحر قاله الشيخ وغيره. وقال "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنتقب المرأة المحرمة أو تلبس القفازين" كما نهى المحرم أن يلبيس القميص ونحوه مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه باتفاق الأئمة. والبرقع أقوى من النقاب. فلهذا ينهى عنه باتفاقهم. ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه كالبرقع ونحوه لأنه كالنقاب. قال ابن القيم نهيه أن تنتقب وتلبس القفازين دليل على أن وجهها كبدن الرجل لا كرأسه.
فيحرم عليها فيه ما ضع وفصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع. لا على ستره بالمقنعة الجلباب ونحوهما. وهذا أصح القولين. وقال ابن المنذر كراهية البرقع ثابتة عن سعيد وابن عمر وابن عباس وعائشة ولا نعلم أحدا خالف فيه. وتحريم القفازين هو مذهب مالك وأحمد. قال ابن القيم. وخالف فيه أبو حنيفة. وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاتباع اهـ. وكالنقاب وكالرجل اتفاقا. ويفدي الرجل والمرأة بلبسهما.
(زاد أحمد) وأبو داود وغيرهما (وما مس الورس والزعفران من الثياب) أي ويحرم عليهما لبس ما مس الورس والزعفران من الثياب كما تقدم. قال "ولتلبس بعد ذلك" أي القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب "ما أحبت من
ألوان الثياب: معصفرا أو وخزًا أو حليا أو سراويل أو

(2/393)


قميصا" من غير فرق بين المخيط وغيره. والمصبوغ وغيره. ونحوه لأبي داود. وله من حديث عائشة أنه رخص للنساء في الخفين.
(وله) يعني أحمد رحمه الله (عن عائشة) رضي الله عنها قالت (كان الركبان) جمع راكب أصحاب الإبل ثم اتسع فيه فأطلق على كل من ركب دابة (يمرون بنا) أي مارين علينا معشر النساء ونحن محرمات مكشوفات الوجوه (فإذا حاذوا بنا) من المحاذات بمعنى المقابلة أي قابلونا. ولأبي داود جاوزوا بنا بالزاي ونحن محرمات مكشوفات الوجوه.
(سدلت) أي أرسلت (إحدانا) أي الكاشفة وجهها المحاذية لهم (جلبا بها) أي محلفتها ويقال لها الملاءة التي تشتمل بها المرأة إذا خرجت لحاجة أو أرسلت طرف ثوبها (من رأسها على وجهها) بحيث لا يمس الجلباب أو الثوب بشرة الوجه أو مسا خفيفا. فإذا جاوزونا فعدلوا عنا أو تقدموا علينا كشفناه. أي أزلنا الجلباب وتركنا الحجاب. ورواه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وصححه الحاكم من طريق أسماء بنت أبي بكر. قال المنذري واختار جماعة العمل بظاهر هذا الحديث.
وفيه دلالة على أن المرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لحاجتها إليه. ولم يحرم سترها له مطلقا كالعورة. قال ابن القيم وإنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه. وليس عن رسول

(2/394)


الله - صلى الله عليه وسلم - حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام. وقال شيخ الإسلام ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق. وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضًا. ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيدها ولا غير ذلك. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بين وجهها ويديها وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه اهـ.
ولا ريب أنه يجب عليها ستر رأسها جميعه. قال الشيخ فإنها عورة فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب تستتر بها وتستظل بالمحمل اهـ. وكذا غير المحمل كالهودج والمحفة لحاجتها إلى الستر وحكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا.
(وعن أم الحصين) بنت إسحاق الأحمسية رضي الله عنها. وكانت حجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع (أنها رأت أسامة) بن زيد (رافعا ثوبه) أي ثوبا في يده (على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يظله من الشمس) بالثوب مرتفعًا على رأسه بحيث لم يصل إلى رأسه (حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم) وفي رواية حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامه أحدهما: يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يظله من الشمس".
ففيه جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره من محمل وغيره. وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك

(2/395)


والشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد. وعن أحمد المنع لقول ابن عمر لرجل على بعيره قد استظل بينه وبين الشمس فقال اضح لمن أحرمت له. أي ابرز للشمس. وفعله - صلى الله عليه وسلم - يدل على الجواز بل يبعد أن يفعل المفضول صلوات الله وسلامه عليه. قال الشيخ وأما الاستظلال بالمحمل كالمحارة التي لها رأس في حال السير فهذا فيه نزاع والأفضل للمحرم أن يضحى لمن أحرم له. كما كان - صلى الله عليه وسلم - واصحابه يحرمون. وذكر أثرابن عمر.
وأما الخيمة والسقف ونحوهما فجائز إجماعا. فقد ضربت له القبة - صلى الله عليه وسلم - فنزل بها. واستمر على الناس عليه. وقال الشيخ وابن القيم باتفاق أهل العلم. وكذا لو حمل على رأسه شيئا لا لقصد التغطية.
(وتقدم) أي في الجنائز (خبر الذي أوقصته راحلته فقال) - صلى الله عليه وسلم - (لا تحنطوه) من الحنوط وهو الطيب الذي يوضع للميت ذكرا كان أو أنثى (ولا تخمروا رأسه) أي لا تغطوه فإذا نهي عن تغطيته وهو محرم بعد موته ففي الحياة أولى. وتقدم ذكر الإجماع على تحريمه. وأما الوجه فله تغطيته وهو مذهب الجمهور (ولمسلم ولا تمسوه بطيب) أي لا تضعوا طيبا على جسمه ولا في كفنه كما يفعل بغير المحرم.
فدل على أنه لا يجوز أن يمس طيبا وهذا مذهب الشافعي

(2/396)


وأحمد وجمهور أهل العلم. ومن أجازه فالحديث حجة عليه. وفيه "فإنه يبعث يوم القيامة مليبا" أي يقول لبيك اللهم لبيك كما يقول الحاج. وفي لفظ "محرما" أي على هيئته التي مات عليها. معه علامة الحج وهي دلالة الفضيلة كما يجيء الشهيد تشخب أوداجه دما.
(وعن أبي قتادة) رضي الله عنه (في قصة صيده الحمار الوحشي) الوحشي من دواب البر ما لا يستأنس غالبا والجمع الوحوش. وذلك أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية حتى إذا كانوا ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم. بل بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل. وفي لفظ بعثه إلى سيف البحر. فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه. فسألهم رمحه فأبوا. فأخذه ثم شد على الحمار فقلته. فأكل منه بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأبى بعضهم. فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن ذلك.
(قال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وكانوا محرمين) عام الحديبية وهو حلال (هل منكم أحد أمره) أي بصيد الحمار الوحشي (أو أشار إليه بشيء) فعلق الحكم بالإشارة أو الأمر لأنه وسيلة إلى الحرام كان حراما كسائر الوسائل اتفاقا (فقالوا لا) وفي لفظ لابن عوانة أنهم قالوا: إنا محرمون. ففيه أنهم قد كانوا علموا أنه يحرم على المحرم الإعانة على قتل الصيد كما يحرم

(2/397)


عليه اصطياده (قال فكلوه متفق عليه).
وفي لفظ فسألناه فقال "هل معكم من شيء" قلنا نعم فناولته العضد فأكلها وهو محرم. وجاء الحديث من طرق بألفاظ. قال ابن عبد البر لا يختلف علماء الحديث في ثبوته وصحته. فدل على جواز أكل المحرم لصيد البر إن صاده غير محرم. ولم يكن منه إعانة بشيء على قتله وهو مذهب جمهور أهل العلم. قال القاضي غيره لا خلاف أن الإعانة توجب الجزاء. فكذا الإشارة والدلالة خلافا لمالك والشافعي لأن المحرم قد التزم بالإحرام أن لا يتعرض للصيد بما يزيل أمنه.
والأمر بصيده والدلالة عليه والإشارة إليه يزيل الأمن عنه فيحرم التعرض ويحرم الأكل. وما ذبحه المحرم فميته اتفاقا. ولما مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأثاية إذا ظبى حاقف في ظل فيه سهم "فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه قال لشيخ ولا يصطاد المحرم صيدا بريا ولا يتملكه بشراء ولا اتهاب ولا غير ذلك. ولا يعين على صيد إلخ، وتقدم.
(ولهما عن الصعب بن جثامة) بن قيس بن ربيعة الليثي حليف قريش. وكان ينزل ودان. يقال إنه مات في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما (أنه أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - حمارا وحشيا) وفي لفظ حمار وحش يقطر دما. وفي أخرى لحم حمار وحش. قال

(2/398)


القرطبي يحتمل أنه أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا فقدمه له. وهو بالأبواء جبل من أعالي الفرع. أو بودان موضع بقرب الجحفة.
(فرده عليه) لكونه صاده لأجله فلا يحل له أكله (و) لما رأى ما في وجهه يعني من الكراهة لرد هديته (قال إنا لم نرده عليك) بفتح الدال يعني لعلة من العلل (إلا أنا حرم) تطييبا لقلبه. وللطبراني "إنا لم نرده عليك كراهية ولكنا حرم" وفي رواية سعيد عن ابن عباس "لولا أنا محرمون لقبلناه منك" ولمسلم عن زيد بن أرقم وقال له ابن عباس يستذكره كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حرام فقال أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال "إنا لا نأكله إنا حرم" قال سليمان بن حرب صيد من أجله - صلى الله عليه وسلم - لقوله فرده يقطر دما.
كان صيد في ذلك الوقت. ولولا ذلك جاز أكله. كما هو مذهب الجمهور بخلاف ما قصد به لحديث أبي قتادة وغيره.
(وفي السنن من حديث جابر) بن عبد الله رضي الله عنه يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (الصيد للمحرم حلال) له أكله
(ما لم تصيدوه) أي وأنتم محرمون (أو يصد لكم) أي لأجلكم. ورواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.
وقال الشافعي هذا أحسن حديث روي في هذا الباب. وأقيس. والعمل عليه. فإنه صريح في التفرقة بين ما يصيده المحرم.
أو يصيده غيره له. وبين أن لا يصيده المحرم ولا يصاد

(2/399)


له بل يصيده الحلال لنفسه ويطعمه المحرم.
وهو مقيد لبقية الأحاديث المطلقة ومخصص لعموم الآية وعن عمير بن مسلمة الضمري عن رجل من بهز خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد مكة حتى إذا كانوا في بعض وادي الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا فذكروه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أقروه حتى يأتي صاحبه فأتى البهزي وكان صاحبه فقال يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر أبا بكر فقسم في الرفاق وهم محرمون رواه أحمد والشافعي ومالك وغيرهم وصححه ابن خزيمة وغيره وأفتى ابن عمر وأبو هريرة وكعب بأكل ما لم يصد لأجل المحرم وأقرهم عمر على ذلك. وقال عثمان لأصحابه كلوا فقالوا ألا تأكل قال إني لست كهيئتكم إنما صيد لأجلي.
وفي هذه الأحاديث والآثار دلالة واضحة على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصد لأجله. وهو قول جمهور العلماء حملوا الرد على ما صاده الحلال لأجل المحرم والقبول على ما يصيده الحلال لنفسه ويهديه للمحرم وبه تتفق الأدلة وقال ابن عبد البر وعليه تصح الأحاديث وإذا حملت عليه لم تختلف وعلى هذا يجب أن تحمل السنن ولا يعارض بعضها ببعض ما وجد إلى استعمالها سبيل وقال ابن القيم واثار الصحابه في هذا الباب إنما تدل على هذا التفصيل ولا تعارض بين أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحال.

(2/400)


(وعن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعا) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (خمس من الدواب) جمع دابة والدواب اسم لما دب على وجه الأرض من الحيوان (كلهن فواسق) هذه التسمية صحيحة جارية على وفق اللغة فإن أصل الفسق الخروج ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها فوصفت بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله وحل أكله أو خروجها بالإيذاء والإفساد.
(يقتلن في الحرم) وفي الحل أيضا وفي لفظ ما فيه أذى وفي لفظ ابن عمر ليس على المحرم في قتلهن جناح أي إثم أو حرج (الغراب) وفي لفظ الأبقع وهو الذي في ظهره وبطنه بياض قال ابن المنذر أباح كل من يحفظ عنه قتله الآعطاء ولم يتابع عليه قال الحافظ اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ويقال له غراب الزرع أفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه ملحقا بالأبقع.
(والحدأة) بكسر الحاء وفتح الدال مهموزا (والعقرب) واحدة العقارب تلدغ وتؤلم (والفأرة) وهي الفويسقة وليس في الحيوان أفسد منها قال الحافظ وغيره لم يختلف في جواز قتلها (والكلب العقور) هو العاقر أي الجارح وهو كل سبع وجارح يعقر ويفترس (متفق عليه) ولأبي داود من حديث أبي سعيد السبع العادي حسنه الترمذي وقال العمل عليه عند أهل

(2/401)


العلم يقتل السبع العادي فدل الحديث على جواز قتله وهو قول الجمهور.
وللبخاري والحية ولمسلم من حديث ابن عمر نحوه وعن ابن مسعود أمر بقتل حية بمنى قال نافع لا يختلف فيها ولا بن خزيمة وابن المنذر من حديث أبي هريرة الذئب والنمر قال مالك وغيره الكلب العقور كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فهو عقور وهو قول الجمهور لأن الكلب العقور والأسد والنمر والفهد وما في معناها مما فيه أذى للناس أشد ضررا وكذا البازي والصقر والشاهين والعقاب والحشرات المؤذية كلها والزنبور والبق والبعوض والبراغيث وما في معناها.
فإنه - صلى الله عليه وسلم - نبه بذكر هذه الخمس المؤذية على جواز قتل المضر ما سوى بني ادم فيدافعه مهما أمكن واتفقوا على قتل ما في معنى هذه من الفواسق لخروجها بالإيذاء والإفساد عن طريق معظم الدواب بل اشتمل الخبر على السباع الضارية والهوام القتلة والطير الذي هو من الهوام المستخبثة اللحم ومحرم الأكل يجمع الكل فاعتبروه ورتبوا عليه الحكم.
وجاء جواز قتل الوزغ والزنبور ولو في جوف الكعبة وقال ابن كثير وغيره يكره قتل النمر ونحوه إلا من أذية وعليه الجمهور ويكره قتل ما لا يضر كنمل وهدهد إلا من أذى. وما

(2/402)


لا يؤذي بطبعه كالرخم والبوم والديدان ولا جزاء في ذلك ولا يحرم قتل الصيد الصائل دفعا عن نفسه وماله سواء خشي التلف والضرر بجرحه أو لا لأنه التحق بالؤذيات فصار كالكلب العقور فيسن قتل كل مؤذ غير ادمي قال الشيخ وغيره للمحرم وغيره أن يقتل كل ما يؤذي بعادته الناس.
وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين والبهائم حتى لو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهى عن قتله وإن كان في نفسه محرما كالأسد فإذا قتله فلا جزاء عليه في أظهر قولي العلماء وقال إذا لم يندفع ضرر نمل إلا بقتله جاز اهـ. ولا يقتل القمل وصيبانه لأنه يترفه بإزالته وحكاه الوزير اتفاقا.
وقال الشيخ إذا قرصته البراغيث والقمل فله القاؤها عنه وله قتلها ولا شيء عليه وإلقؤها أهون من قتلها وقال إن قرصه ذلك فله قتله مجانا وإلا فلا يقتله وأما التفلي بدون التأذي فهو من الترفه فلا يفعله ولو فعله فلا شيء عليه (وعن عثمان) بن عفان رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا ينكح المحرم) بفتح أوله أي لا يعقد المحرم لنفسه بحج أو عمرة أوبهما (ولا ينكح) بضم أوله أي لايتولى العقد لغيره بولاية ولا وكالة بالجزم فيهما على النهي وهو الرواية الصحيحة وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك

(2/403)


والشافعي وأحمد وغيرهم مع أن النفي بمعنى النهي بل أبلغ وفرق عمر بين رجل وامرأة تزوج وهو محرم رواه مالك وغيره.
وحكى الوزير الإجماع على أن المحرم لا يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره ولأن الإحرام يمنع الوطء ودواعيه فمنع صحة عقده حسما لمواد النكاح عن المحرم ولأنه من دواعيه فمنعه الإحرام منه كالطيب لكن لا فدية علنه لأنه عقد فسد لأجل الإحرام فلم يجب به فدية كشراء صيد فسد عقده لأجل الإحرام وما روي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم فقال سعيد بن المسيب وهم ابن عباس وروى مسلم وغيره عنها أنه تزوجها حلالا وبنى بها حلالا ولأحمد والترمذي عن أبي رافع وكان هو السفير بينهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالا وبنى بها حلالا.
ورواية صاحب القصة والسفير فيها أولى لأنه أخبر وأعرف بها ولا مطعن فيها بل ذكر بعضهم أن روايتهم متواترة ويوافقها الخبر الصحيح الصريح بالتحريم وعليه عمل الخلفاء وجمهور الصحابة والتابعين قال ولا يخطب بضم الطاء من الخطبة بكسر الخاء أي لايطلب امرأة لنكاح رواه مسلم وعن ابن عمر كان يقول لاينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب على نفسه ولا على غيره رواه الشافعي وغيره فيحرم عند الجمهور مالك والشافعي وأحد وغيرهم.
(وسئل عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (وغيره) من

(2/404)


الصحابة رضي الله عنهم منهم علي وأبو هريرة وابن عباس (عن رجل أصاب أهله) أي جامع أهله (وهو محرم) بالحج ومثله العمرة (فقالوا ينفذان) بضم الفاء وبالذال المعجمة أي يمضيان (لوجههما) فيكملان أعمال حجهما كما لو لم يفسداه (ويقضيان حجهما) أي الرجل والمرأة (من قابل) عاجلا قضاء عن هذا الفاسد لوجوب إتمام فاسد الحج وكذا العمرة.
وحكاه الوزير وغيره اتفاقا سواء كان الحج تطوعا أو واجبا لقضاء الصحابة ولقوله وأتموا الحج والعمرة لله (والهدي) في القضاء جبرا لفعلهما ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة (روها مالك) في موطأه والبيهقي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأما أثر ابن عباس فرواه البيهقي وابن عمر عند أحمد وعمرو بن العاص عند الدارقطني والحاكم والبيهقي وهو عند أبي داود مرسلا مرفوعا.
وحكى ابن المنذر والوزير وغيرهما إجماع العلماء على أن الوطء قبل التحلل الأول يفسد النسك وتقدم قول الشيخ أنه ليس في المحظورات شيء يفسد الحج إلا الجماع وقالوا اتفقوا على أنه إذا أفسد الحج لم يتحلل منه بالإفساد ومعنى ذلك أنه متى أتى فيه بمحظور فعليه فيه ما على المحرم في الحج الصحيح ويمضي في فاسده ويلزمه ذلك ثم يقضي فيما بعد لكن إن حل من أفسد حجه لاحصارثم زال وفي الوقت سعة قضى في ذلك العام قاله جماعة.

(2/405)


ولا يتصور القضاء في العام الذي أفسده فيه في غير هذه المسألة قيل للقاضي لو جاز طوافه في النصف الأخير لصح أداء حجتين في عام واحد ولا يجوزا إجماعا وبعد التحلل الأول لايفسد نسكه اتفاقا وعليه شاة وعند الجمهور لا فرق بين العامد والساهي في بطلان الحج بالوطء قبل التحلل الأول واختاره جماعة ولما حكى شيخ الإسلام الخلاف في المجامع في رمضان ناسيا أوجاهلا ورجح أن لا قضاء عليه ولا كفارة لما قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة.
قال وطرد هذا أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسيا ولا مخطئا لا الجماع ولا غيره وهو أظهر قولي الشافعي اهـ. وينبغي تفرقهما في قضاء من حيث يحرمان خوف المحظور ويحصل بأن لا يركب معها على بعير ولا يجلس معها في خباء ونحوه بل يكون قريبا منها يراعي أحوالهالأنه محرمها.

(2/406)


باب جزاء الصيد
أي باب حكم جزاء الصيد وجزاؤه ما يستحق بدل مثله إن وجد مثله وإلا فقيمته على من أتلفه بمباشرة أو سبب قال الزهري تجب الفدية على قاتل الصيد متعمدا بالكتاب وعلى المخطىء بالسنة وجزاء بالمد والهمز مصدر جزيته جزاء بما صنع ثم أوقع موقع المفعول تقول الكبش جزاء الضبع وجزى الشيء عنك وأجزأإذا قام مقامك
قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} يعني لقتله ذاكرا عالما بالحرمة قال ابن عباس والجمهور يحكم عليه بالجزاء وإن تعمد القتل مع ذكر الإحرام وهو قول عامة الفقهاء وكذا إن قتله خطأ بأن قصد غيره بالرمي ونحوه فأصابه فهو كالعمد في وجوب الجزاء عند جمهور العلماء والفقهاء {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي فعليه جزاء من النعم مثل ما قتل والشبه واحد وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين على أن المعتبر الخلقة لأن ظاهر الآية وقضاء الصحابة يدل عليه
وما لا مثل له فالقيمة بلا نزاع ويجب رعاية حقيقة المماثلة بأقصى الإمكان وإن لم تكن وجب الاكتفاء بالقيمة
للضرورة وقال البغي وغيره يجب عليه مثل الصيد من النعم
وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها من حيث الخلقة
لا من حيث القيمة {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي

(2/407)


يحكم بالجزاء في المثل والقيمة فيما لا يمكن فيه المثل عدلان من أهل ملتكم ودينكم وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم
{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} يعني أن الكفارة هدي يساق إلى الكعبة والمراد كل الحرم لأ ن الذبح لايقع في الكعبة ولا عندها ملاقيا لها إنما يقع في الحرم وهو المراد بالبلوغ فيذبح الهدي بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم قال ابن كثير وغيره وهذا أمر متفق عليه ولقوله ثم محلها إلى البيت العتيق ويدخل فيه دم متعة وقران ومنذور وما وجب لترك واجب أو فعل محظور في الحرم وكذا الإطعام قال ابن عباس الهدي والإطعام بمكة بخلاف فدية الأذى واللبس ونحوهما وكل محظور فعله خارج الحرم فحيث وجد سببه
{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} قال الشيخ لكل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو مد بر وإن أطعمه خبزا جاز ويكون رطلين بالعراقي قريبا من نصف رطل بالدمشقي وينبغي أن يكون مأدوما وإن أطعمه مما يأكل جاز وهو أفضل من أن يعطيه قمحا وشعيرا وكذلك في سائر الكفارات إذا أعطاه ما يقتات به مع أدمه فهو أفضل من أن يعطيه حبا مجردا إذالم يكن عادتهم أن يطحنوا بأيديهم ويخبزوا بأيديهم
والواجب في ذلك كله ما ذكره الله بقوله {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} رجحوا أيضا أنه

(2/408)


يرجع إلى العرف فيه فيطعم كل مما يطعم أهليهم وذكر قصة كعب لما كانوا يقتاتون التمر أمره أن يطعم منه {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} أي أو ما ساواه دراهم والدراهم يشتري بها طعاما فيتصدق به أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوما.
ويجزىء الصوم بكل مكان فكفارة جزاء الصيد على التخيير اتفاقا كفدية الحلق للاية والخيار فيه إلى قاتل الصيد لأن الله أوجب عليه أحد الثلاثةعلى التخيير فوجب أن يكون هو المخير بين أيها شاء وأو حقيقة في التخيير كأنه فدية الأذى بخلاف هدي التمتع {لِيَذُوقَ} أي ليتجرع مرارة {وَبَالَ أَمْرِهِ} أي جزاء معصيته وهو الغرامة وكثرة استعماله في العذاب ومباشرته غير منتظر ولا يختص بحاسة الفم والوبال الشيء الثقيل فدل على وجوب الجزاء وعلى تأثيم العامد {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} أي قبل التحريم ونزول الآية {وَمَنْ عَادَ} أي إلى قتل الصيد {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} في الدنيا والاخرة وعليه مع ذلك الجزاء في الدنيا وإن كرر القتل تكرر عليه الجزاء أيضا (والله عزيز ذو انتقام) ممن عصاه.
(وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (قال جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضبع) بفتح الضاد وضم الباء وتسكن سبع معروف يشبه الذئب إلا أنه إذا مشى فيه عرج والذكر ضبعان بالكسر والأنثى ضبعة جعل فيه (كبشا) وهو فحل الضأن في أي سن كان وقيل إذا أثنى أو أربع (رواه الخمسة)

(2/409)


وغيرهم بسند صحيح وقضى به عمر وابنه.
(زاد الدارقطني) ومالك وغيرهما عن جابر (و) قضى (في الظبي شاة) وقضى به عمر وابن العباس وروي عن علي وقاله عطاء وغيرهم وقال ابن المنذر لايعرف عن غيرهم خلافهم والظبي حيوان معروف اسم للذكر ويقال له تيس وذلك اسمه إذا أثنى ولا يزال ثنيا حتى يموت والأنثى ظبية (وفي الغزال) وهو من الظبا الشادن وقيل الأنثى حتى يتحرك ويمشي إلى طلوع قرنه وقيل قبل الإثناء (عنز) وهي أنثى المعز وقضى به عمر وغيره وفيه شبه الغزال لأنه أجرد الشعر منقطع الذنب وكذا العنز من الظباء والأوعال وإذا كان الغزال صغيرا فالعنز الواجبة فيه صغيرة مثله.
(وفي الأرنب) حيوان معروف شهرته تغني عن وصفه (عناق) وهي الأنثى الجذعة من ولد المعز أصغر من الجفرة وكذا هو مروي عن عمر وغيره وفي الضب جدي قضى به عمر وغيره وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وكذا والوبر قياسا عليه وقال مالك قيمة الوبر واليربوع كالضب
(وفي اليربوع) حيوان معروف فوق الجرذ الذكر والأنثى فيه سواء والعامة تبدل ياءه جيما (جفرة) لها أربعة أشهر
غالبا قال ابن الزبير فطمت ورعت وقضى به أيضا عمر
وابنه وابن مسعود وغيرهم وهذا الخبر جاء عن عمر وغيره

(2/410)


موقوفا. وهو أصح وقال - صلى الله عليه وسلم - عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها.
وفي الآية الكريمة (يحكم به ذوا عدل منكم) وما حكموا فيه رضي الله عنهم لا يتكرر الحكم فيه بل يبقى على ذلك الحكم فهم أعدل الأمة وأعلمها بمراد الله ورسوله وأقرب إلى الصواب وأعرف بمواقع الخطاب فحكمهم حجة على غيرهم كالعالم مع العامي مع أنه روي مرفوعا
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (في النعامة) بفتح النون من الطير تذكر وتؤنث والنعام اسم جنس (بدنة) من الإبل ذكرا كان أو أنثى لأنها تشبهها في كثير من صفاتها فكانت مثلا لها وروي عن عمر وعثمان وعلي وزيد ومعاوية وغيرهم وهو مذهب أحمد والشافعي ومالك وصاحبي أبي حنيفة وأكثر العلماء (وحمار الوحش) بالإضافة ويقال حمار وحش والحمار الوحشي معروف (والوعل) وهي الأروى ويقال أنه تيس الجبل كما في القاموس وغيره (بقرة) وهي ما تم لها سنتان
(رواه ابن جرير) وغيره عن جماعة من الصحابة والتابعين فروي عن ابن مسعود وعروة ومجاهد وغيرهم وهو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم وكذا في بقرة الوحش
بقرة روي عن ابن مسعود وعطاء وعروة وقتادة وهو
مذهب أحمد والشافعي وعن ابن عباس أيضا في الأيل بقرة.

(2/411)


وهو الذكر من الأوعال ويقال له الثيتل وقال الجوهري الثيتل الوعل المسن والوعل من أولاد البقر ما بلغ أن يقبض على قرنه ولم يبلغ أن يكون ثورا.
(وفي الحمامة شاة رواه الشافعي وغيره) عن ابن عباس رضي الله عنهما وحكم به عمر وعثمان وابن عمر وجابر رواه الشافعي وغيره أيضا وقال غير واحد هو إجماع الصحابة وليس ذلك على وجه القيمة والحمام هو كلما عب الماء يعني شرب الماء مرة واحدة من غير مص كما تعب الدواب وإنما يضع منقاره في الماء فيكرع كما تكرع الشاة ولا يأخد قطرة قطرة كالدجاج والعصافير وهو أيضا كلما صوت أي غرد ورجع صوته كأنه يسجع فأوجبوا فيه شاة لشبهه بها في كرع الماء
ويدخل في الحمام الفواخت والوراشين والقطاء والقمري والدبسي لأن العرب تسميها حماما وقال الكسائي كل مطوق حمام فيدخل فيه الحجل لأنه مطوق إلا أنه لا يعب الماء وهذا ونحوه مما قضت فيه الصحابة وما لم تقض فيه يرجع فيه إلى قول عدلين خبيرين يحكمان فيه بأشبه الأشياء به من حيث الخلقة كقضاء الصحابة ولأنه لايتمكن من الحكم بالمثل إلا بها
وما لا مثل له كباقي الطيور فيضمن بالقيمة اتفاقا ولأنه القياس وقال ابن عباس ما أصيب من الطير دون الحمام ففيه

(2/412)


الدية أي يضمن بقيمته في موضعه الذي أتلف فيه فما دون الحمام من العصافير ونحوها من الطيور تجب فيه قيمته عند الجمهوروعمر وابن عباس وغيرهما أوجبوا الجزاء في الجرادة فالعصفور أولى وذكر الموفق وغيره أن الجراد يضمن بقيمته وأنه قول أكثر الفقهاء لأنه طير في البر وقال العبدري هو قول أهل العلم كافة إلا الأصطخري
ودلت الأحاديث أنه مأكول يفرخ في البر فوجب جزاؤه وما روي أنه من صيد البحر فقال أبو داود وهم ويضمن المحرم بيض صيد أتلفه أو نقله إلى موضع ففسد بقيمته لخبر الأنصاري في بيض نعامة قال عليه الصلاة والسلام عليه بكل بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين حديث حسن وعن عائشة نحوه وللشافعي عن ابن مسعود وأبي موسى نحوه موقوفا
وقال ابن عباس في بيض النعام قيمته ولخبر أبي هريرة عند ابن ماجه في بيض النعام ثمنه وحكى الوزير وغيره اتفاقهم على أن بيض النعام مضمون وكذا لبن صيد مضمون انفاقا والأولى بقيمته وكل صيد يحرم قتله تجب القيمة في إتلاف بيضه سواء الدواب أو الطيور عند الشافعي وأحمد والجمهور.

(2/413)


باب صيد الحرم
أي حكم صيد حرم مكة وحكم نباته وحرم المدينة وما يتعلق بذلك
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} خطاب منه جل وعلا لأهل مكة {أَنَّا جَعَلْنَا} أي صيرنا {حَرَمًا آمِنًا} من الخوف فلا يرعب ولا يقاتل أهله يمتن تعالى على قريش فيما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس امنا سواء العاكف فيه والباد ومن دخله كان امنا فهم في أمن عظيم والأعراب حوله وسائر العرب ينهب بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا
ويذكرهم هذه النعمة الخاصة بهم ويوبخهم بقوله أفبالبطل الذي هم عليه يؤمنون أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة) سنة ثمان (إن هذا البلد) والمراد البقعة لأنه لم يكن بلدا يوم خلقها الله (حرمه الله) أي حكم بتحريمه وقضاه (يوم خلق السموات والأرض) وإبراهيم عليه السلام أظهر تحريمها بأمر الله لاباجتهاده لقوله ولم يحرمها الناس (فهو حرام بحرمة الله) أي بتحريمه لا يقاتل أهله ويحرم صيده وقطع شجره ولا يحدث فيه حدث (إلى يوم القيامة) فتحريمها مستمر إلى قيام الساعة.

(2/414)


ولهما من حديث أبي هريرة قال لما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار" أي إراقة الدم دون الصيد والشجر " وإنها لا تحل لأحد بعدي فلا ينفر صيدها " الخ فمكة وما حولها كانب حرما قبل الخليل عليه السلام في قوله أكثر أهل العلم لهذين الخبرين وغيرهما. وما جاء أن الخليل حرم مكة فالمراد أظهر تحريمها وبينه.
وحد حرمها من طريق المدينة ثلاثة أميال عند بيوت السقيا إضاءة بني غفار ويقال بيوت نفار دون التنعيم تعرف بمساجد عائشة. ومن اليمن عند إضاءة لبن من جهة الجنوب. ومن العراق كذلك على ثنية رجل جبل بالمقطع قطعت منه حجارة الكعبة زمن ابن الزبير. ومن الطائف وبطن نمرة كذلك في شعب عبد الله بن خالد بن أسيد علامة له من جهة عرفة. ومن جدة عشرة عند منقطع الأعشاش دون الشميسي. وهو الحديبية وليست داخلة فيه. ومن بطن عرنة أحد عشر ميلا.
وعلى تلك أنصاب الحرم من جهاتها الأربع وغيرها لم تزل معلومة. وأول من نصبها الخليل عليه السلام ثم قصى وقيل ثم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عثمان ثم معاوية ثم عبد الملك. ثم الراضي الذي بالتنعيم. ثم المظفر الذي بجهة عرفة. ثم صاحب اليمن ثم

(2/415)


العثماني وغيرهم. وفيه أنها فتحت عنوة وعليه الجمهور. ولا يعرف فيه خلاف إلا رواية عن الشافعي وأحمد.
ومن خصائص الحرم أن يعاقب المريد للمعصية فيه إذا كان عازما عليها. وإن لم يوقعها. لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وأن يستحل من الحرم ما حرمة الله عليه (لا يعضد) أي لا يقطع (شوكه) وهو كالصريح في تحريم قطع الورق. قال ابن القيم وهو المذهب والأصح لظاهر النص والقياس. فإن منزلته من الشجر منزلة ريش الطائر منه اهـ. ـ. وفي لفظ لا يعضد شجرها أي يقطع بالمعضد وهو آلة كالفأس.
فدل على تحريم قطع الشوك وهو قول جمهور أهل العلم وأفاد تحريم قطع ما لا يؤذي بالأولى واتفق أهل العلم على تحريم قطع أشجارها التي لم ينبتها الآدميون في العادة كشجر الحرم البري إجماعا وفي البخاري لا يعضد بها شجرة وأما ما يزرعه الآدميون من أنواع الحبوب وغيرها والبقول والرياحين ويغرسونه من غير شجر الحرم فإنه يباح أخذه والانتفاع به كنخل وجوز إجماعا وعمل المسلمين عليه
(ولا يختلى) أي لا يؤخذ ويقطع (خلاه) أي النبات الدقيق الرطب من الكلأ والعشب الرطب منه قال أحمد وغيره لا يحش الحرم ويعم الأراك والورق وفي رواية ولا يحش

(2/416)


حشيشها وتخصيص التحريم بالرطب إشارة إلى جواز اختلاء اليابس كأخذ المنكسر ولم يبن كظفر منكسر (ولا ينفر صيده) أي لا يزعجه أحد ولا يهيجه ولا ينحيه عن موضعه من غير ضرورة فإن فعل عصى تلف أو لا وإن تلف ضمنه ويستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بطريق الأولى وتقدم الإجماع على تحريمه ووجوب الفدية فيه مطلقا
(ولا تلتقط لقطته) أي ساقطته (إلا لمعرف) ولفظ أبي هريرة ولا تحل ساقطتها إلا المنشد أي معرف ليردها على صاحبها ففيه أنها لا تحل لقطتها ألا لمن يعرف بها أبدا وهو خاص بها ولا يتملكها وذكر ابن القيم عن الشيخ وغيره أن الفرق بين لقطة مكة وغيرها أن الناس يتفرقون من مكة فلا يمكن تعريف اللقطة في العام فلا يحل لأحد يلتقط لقطتها إلا مبادر إلى تعريفها قبل تفرق الناس بخلاف غيرها من البلاد وروي والمدينة فيجوز بنية التملك بعد التعريف سنة ويأتي في باب اللقطة إن شاء الله تعالى
(قال العباس) بن عبد المنطلب بن هاشم عم النبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله (إلا الإ ذخر) فإنه لقينهم وبيوتهم كأنه يقول هذا ما تدعو الحاجة إليه وقد عهد من الشريعة عدم الحرج فقرر - صلى الله عليه وسلم - كلامه وقبل شفاعته فيه والإذخر نبت معروف عند أهل مكة طيب الرائحة له أصل مند فن وقضبان دقاق ينبت في السهل والحزن كان يسقف به أهل مكة بيوتهم من بين الخشب

(2/417)


ويسددون به الخلل بين اللبنات في القبور
(فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إلا الإ ذخر متفق عليه) وفيه دليل على المنع من احتشاش غيره لا رعيه عند الجمهور لأ ن الهدايا وغيرها كانت تدخل الحرم فتكثر فيه ولم ينقل سد أفواهها وللحاجة إليه أشبه قطع الإذخر بخلاف الاحتشاش لها منه فيحرم وتضمن شجرة صغيرة عرفا بشاة عند الشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة بالقيمة وما فوقها ببقرة قال ابن عباس في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة فالمتوسطة بقدرها
أمر عمر بقطع شجرة في المطاف وفدى ويفعل به كجزاء الصيد ويضمن حشيش وورق بقيمته عند الجمهور الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم لأن الأصل وجوب القيمة ترك فيما تقدم لقضاء الصحابة فبقى ما عداه على مقتضى الأصل
(ولهما عن علي) رضي الله عنه (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (المدينة) هي علم بالغلبة لمدينته - صلى الله عليه وسلم - التي هاجر إليها فلا يتبادر عند إطلاق اللفظ إلا إليها ولها اسماء كثيرة منها طيبة ويثرب فهي (حرام) وفي لفظ حرم ويكون الحرم والحرام كزمن وزمان أي المدينة حرم محرمة (ما بين عير) بفتح فسكون جبل كبير مشهور بها مستطيل مرتفع في قبلتها قال الشيخ عند الميقات يشبه العير وهو الحمار إلى ثور).

(2/418)


وتمامه من أحدث فيها حدثا أواوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل وثور جبل صغير لونه إلى الحمرة فيه تدوير ليس بالمستطيل خلف أحد من جهة الشمال قاله شيخ الإسلام وغيره وذكر المراغي وابن مزروع البصري أنه معروف عند أهل المدينة والعرب من بني هتيم وغيرهم قال الطبري فعلمنا أن ذكر ثور في الحديث صحيح وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وبحثهم عنه
فأحد حرم لأن ثورا حده من جهة الشمال كما أن عيرا حده من جهة الجنوب وهذا الحديث مفسر لما في الصحيحين عن أبي هريرة حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي المدينة وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى ولا بتيها حرتان منكتنفتان لها ولأحمد من حديث جابر حرام ما بين حرتيها وحماها كلها ولمسلم عن أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال إني حرمت المدينة حرام ما بين مأزميها ولهما عن أنس ما بين جبليها
فما بين عير إلى ثور حد لحرمها من جهة الجنوب والشمال وما بين حرتيها حد لحرمها من جهة المشرق والمغرب وقال شيخ الإسلام لها حرم عند الجمهور كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذين الحرمين. يعني حرمي مكة والمدينة. ولا يسمى غيرهام حرما. كما يسمي الجهال: فيقول حرم القدس. وحرم الخليل.

(2/419)


فإن هذين وغيرهما ليسا يحرم باتفاق المسلمين.
ولم بتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في وج. وهو واد بالطائف وهو عند بعضهم حرم. وعند الجمهور ليس بحرم. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه غير محرم الأصطياد ولا القطع إلا الشافعي. فقال يمنع من صيدها وقتله ولم يثبت فيه شئ.
(ولهما عن أبي هريرة) يعنى مرفوعات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (إن إبراهيم) يعني الخليل عليه السلام (حرم مكة) وفي رواية "إن الله حرم مكة" ولا منافاة فالمراد أن الله حكم بحرمتها وإبراهيم أظهر هذا الحكم على العباد (ودعا لها) أي دعا لأهلها حيث قال (رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات) وغيرها من الأيات (وإني) يعنى نفسه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه (حرمت المدينة) أي جعلتها حراما يحرم صيدها وقطع شجرها. وقد أستفاض عنه من غير وجه.
(كما حرم إبراهيم مكة) ولهما من حديث عباد بن تيمم نحوه (ودعا) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدينة (بمثلي ما دعا إبراهيم) أي ضعف ما دعا إبراهيم وفي لفظ "بمثل ما دعا إبراهيم. ومثله معه". وفي لفظ "وبارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مديتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك في مدنا. اللهم إن إبراهيم عبدك
وخليلك ونبيك وإني عبد ونبيك وإنه دعا لمكة وإني أدعو للمدينة بمثل ما دعا لمكة". ولهما من حديث عبد الله بن زيد "أن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما

(2/420)


حرم إبراهيم مكة. وإني دعوت في صاعها ومدها" البركة هنا. معنى النماء والزيادة. أو في نفس الكيل بحيث يكفي المد فيها من لا يكفيه في غيرها.
ولمسلم من حديث جابر يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها" وتواردت بهذا الأخبار (لا يقطع عضاهما) وهو كل شجر عظيم له شوك وللبخاري من حديث أنس " لا يقطع شجرها" ولمسلم عنه "لا يختلي خلاها فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" ولأحمد من حديث أبي هريرة سمعته " يحرم شجرها أن يخبط أو يعضد" أي يقطع ولا يصاد صيدها ولمسلم عن عامر بن سعد عن أبيه مرفوعا "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها".
وتحريم قتل صيدها من طرق كتحريم قطع شجرها. وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك والشافعي وأحمد وغيرهم كرم مكة. ألا يعلف الرجل بعيره ونحوه. ولا جزاء فيما حرم من صيدها وشجرها وحشيشها. قال أحمد وغيره: لم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدا من أصحابه حكموا فيه بجزاء. وهو مذهب مالك والشافعي ,ابي حنيفة وجماهير العلماء.
قال الشيخ: وإذا دخل عليه صيد لم يكن عليه إرساله. لخبر أنس "يا أبا عمير ما فعل النغير" قيل عصفور كان يلعب به متفق عليه. وقيل يسلب من العادي ونتصدق به. لفعل سعد

(2/421)


بمن وجده يقطع شجرا فسلبه. وقال "نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه مسلم. قال القاضي عياض ولم يقل به أحد بعد الصحابة إلا السافعي في قوله القديم. وروى عن أحمد.
(ولأحمد) من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لما حرم المدينة قالوا يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخص لنا فـ (ـرخص) لهم صلوات الله وسلامه عليه (في آلة الحرث ونحوه) كآلة الرحل. ولفظه فقال " القائمتان والوسادة والعارضة والمسند وأما غير ذلك فلا يخبط منه شئ".
قال شيخ الإسلام: ولا يقلع شجره إلا لحاجة كآلة الركوب والحرث. ويؤخذ من حشيشه ما يحتاج إليه للعلف. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لأهل المدينة في هذا لحاجتهم إلى ذلك. إذ ليس حولهم ما يستغنون به عنه. ولأحمد من حديث على "لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاذ بها. ولا يصلح لرجل أن يجمل فيها السلاح لقتال. ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره" وله من حديث جابر "لا يقطع شجرة إلا أن يعلف منها".
وتستحب المجاورة بمكة عند الجماهير مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وهي أفضل من المدينة. وأحب البلاد إلى الله لما في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - "وإنك لأحب البقاع إلى" صححه الترمذي. والعمل فيها أفضل للنصوص. وقيل: المدينة أفضل

(2/422)


من مكة لأنها مهاجر المسلمين ولترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجاورة فيها. ولعل الخلاف في المجاورة فقط. وأما الأفضلية فالنصوص فاصلة في ذلك.
وقال الشيخ: المجاورة بمكان بكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان. واختار أن الحسنة والسيئة تضاعف بالمكان الفاضل الحسنة بالكمية. والسيئة بالكيفية.

(2/423)


باب دخول مكة
أي باب بيان حكم دخول مكة المشرفة وما يتعلق به. من الطواف والسعي وغير ذلك. ومكة علم على جميع البلدة وهي البلدة المعروفة المعظمة المحجوجة غير مصروفة. سميت مكة لأنها كانت تمك من ظلم فيها أي تهلكه. وقيل مائها وقيل لأنها تمك المخ من العظم مأخوذ من قولهم مك الفصيل ضرع أمه وتسمى بكة من البك وهو الازدحام ودق الأعناق لأنها تدق أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها.
وهي البلد الأمين الذي أقسم الله به في كتابه. وأم القرى ولها أسماء أخر. قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أي ليحضروا منافع الدينا والآخرة. وأما منافع الآخرة فالعفو والعافية ورضوان الله وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات. وهذه الآية كقوله: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} وهو جواب الأمر في قوله لخليله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} إلى قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}.
وقال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} يعنى الكعبة
المعظمة. ويدخل فيه الحرم كله. فإن الله وصفه بكونه آمنا.
هذا صفة جميع الحرم {مَثَابَةً} مرجعا {للنَّاسِ} من كل

(2/424)


جانب يحجونه لا يقضون منه وطرا. يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه قال الشاعر:
جعل البيت مثابا لهم ... ليس منه الدهر يقضون الوطر

قال ابن كثير وغيره بذكر تعالي شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابة للناس. أي جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه. ولا يقضي منه وطرا. ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} {وَأَمْنًا} يأمنون فيه حتى لو فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا.
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} المقام هو الحجر الذي في المسجد يصلى إليه الأئمة. كان الخليل يقوم عليه لبناء الكعبة وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية التي تليها وهكذا. حتى تم جدار الكعبة. وفيه أثره وهو نحو ذراع وأقل طولا وعرضا كان عن يمين باب البيت. ثم حوله عمر إلى موضعه الآن. وأقره المسلمون. فيستحب أن يصلي ركعتي الطواف خلفه. لفعله - صلى الله عليه وسلم - متفق عليه. وما وحوله يطلق عليه اسم المقام عرفا ثم ما قرب من البيت ويجوز بدون سترة.
قال الشيخ ولو صلى المصلى في المسجد والناس يطوفون أمامه لم يكره. سواء مر أمامه رجل أو امرأة هذا من خصائص

(2/425)


مكة ويجزئ فعلها في غير إجماعا. فإن عمر ركعهما بذي طوى رواه البخاري. ويطلق المقام على الحرم وعلى المشاعر.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما جاء مكة) شرفها الله (دخل من أعلاها) من الثنية التي ينزل منها إلى المعلي ثنية كداء. بفتح الكاف والدال ممدود وكل عقبة في جبل أو طريق فيه يسمى ثنية. وفي رواية دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة. وهو طريق بين جبلين يقال له "الحجون" المشرف على مقبرة أهل مكة. وكانت صعبة المرتقى. فسهلها معاوية. ثم من بعده والدخول معها سنة باتفاق أهل العلم. سواء كان حاجا أو معتمرا للإتيان من وجهة البلد والكعبة. ويستقبلها استقبالا من غير انحراف. وهذا إذا كان أيسر عليه.
ولهما عن ابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مكة دخل من الثنية العلياء التي بالبطحاء". ولهما عنه يبيت بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ويدخل مكة واتفقوا على استحباب الغسل لدخول مكة.
قال الشيخ: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل لدخول مكة كما كان يبيت بذي طوى. وهو عند الأبار التي يقال لها آبار الزاهر. فمن تيسر له المبيت بها والأعتسال ودخول مكة نهارا وإلا فليس عليه شئ من ذلك. وقال الترمذي الصحيح ما روى نافع عن

(2/426)


ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل لدخول مكة. ولا بأس بدخولها ليلا فإنه - صلى الله عليه وسلم - دخلها في عمرة الجعرانة ليلا.
(وخرج من أسفلها متفق عليه) ولهما عن ابن عمر "وإذا خرج خرج من الثنية السفلى" من كدي بضم الكاف والتنوين. المعروف الآن بباب الشبيكة بقرب شعب الشافعيين وشعب ابن الزبير. عند قيعقعان. وكان ابن عمر إذا نفر منها مر بذي طوى وبات بها حتى يصبح. ويذكر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك" ففيه استحباب الخروج من السفلى حاجا كان أو معتمرا.
(ولمسلم عن جابر: أناخ راحلته) يعنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عند باب بني شيبة) وهو المعلم عليه بالكمر يدخل معه بين المقام وزمزم وهو باب السلام (ثم دخل المسجد) وهو مرصوف بالرخام عليه صف من الأعمدة المصنوعة من نحاس محيطة به تعلق فيها المصابيح كان أهبط مما يليه بنحو درجة. وما سواه مزيد. وتقدم أن الزيادة لها حكم المزيد. فيسن الدخول من باب بني شيبة باتفاق أهل العلم. وإن لم يكن على طريقه لهذا الخبر وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل منه. والدوران إليه لا يشق.
ومن ثم لم يكن خلاف في سنيته. بخلاف التعريج على ثنية كداء. ولأنه جهة باب الكعبة والبيوت تؤتي من أبوابها ومن ثم كانت جهة باب الكعبة أشرف جهاتها الأربع. وفيه
الحجر الأسود. وصح أنه يمين الله في الأرض. نسبة باب

(2/427)


البيت إليه كنسبة وجه الإنسان إليه. وأماثل الناس يقصدون من جهة وجوهم. أطبقوا على استحباب الدخول من باب بني شيبة لكل قادم. إذ من قصد ملكا أم بابه. قيل وقيل يمينه. قال شيخ الإسلام إذا أتى مكة جاز أن يدخل مكة. والمسجد من جميع الجوانب. لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة. اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنه دخلها من وجهها من الناحية العليا من ثنية كداء المشرفة على المقبرة. ودخل المسجد من الباب الأعظم الذي يقال له باب بني شيبة. ثم ذهب إلى الحجر الأسود. فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود لمن دخل من باب المعلاة.
(وروى سعيد) بن منصور في سننه (والشافعي) في مسنده عن بن جريج مرسلا. وعن عمر موقوفا. وذكره ابن القيم وغيره. وسمعه سعيد بن المسيب من عمر. ورواه البيهقي عنه وغيرهم (أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى البيت) وكان يرى قبل علو البناء من ردم عمر (رفع يديه) وفي مراسيل مكحول "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر" وذكر ابن جرير وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا رأى البيت رفع يديه وكبر" وليس المراد على هيئة رفعها في الصلاة.
قال الشيخ فمن رأي البيت قبل دخوله المسجد فعل ذلك. وقد استحب ذلك من استحبه من رؤية البيت. والآن لا يرى إلا بعد دخول المسجد في حال سيره إلى البيت. فيستحب إذا وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. قال في المبدع

(2/428)


وغيره وهو قول الأكثر (وقال اللهم أنت السلام) فالسلام اسم من أسماء لله تعالى. فهو السالم من كل عيب ونقص (ومنك السلام) اي لمن أكرمته بالسلام أي التحية. ورفع الدرجة. أو السلامة من الآفات (وحينا ربنا بالسلام) أي الأمن مما جنيناه والعفو عما اقترفناه أو بالسلامة من الآفات.
(اللهم زد هذا البيت) يعنى الكعبة المشرفة (تعظيما) أي تبجيلا (وتشريفا) أي رفعة وعلوا (وتكريما) أي تفضيلا (ومهابة) أي تقديرا وإجلالا (وبرا) بكسر الباء والبر اسم جامعة للخير (وزد من عظمه وشرفه) بزيارته والطواف به. كما وضحه بقوله (ممن حجه واعتمره تكريما وتشريفا وتعظيما ومهابة وبرا) وحكمة تقديم التعظيم على التكريم في البيت. وعكسه في قاصديه أن المقصود بالذات في البيت إظهار عظمته في النفوس. حتى تخضع لشرفه. وتقوم بحقوقه. ثم كرامته بإكرام زائريه بإعطائهم ما طلبوه. وانجازهم ما أملوه.
وفي زائريه وجود كرامته عند الله بإسباغ رضاه عليهم. وعفوه عما جنوه واقترفوه. ثم عظمته بين أبناء جنسه بظهور تقواه وهدايته. ويرشد إليه ختم دعاء البيت بالمهابة الناشئة عن تلك العظمة إذا هي التوقير والإجلال. ودعاء الزائر بالبر الناشئ عن ذلك التكريم. وإن زاد الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا كما هو أهله. وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. والحمد لله الذي بلغني بيته. ورآني لذلك أهلا. والحمد لله على

(2/429)


كل حال. اللهم إنك دعوت إلىحج بيتك الحرام. وقد جئتك لذلك. اللهم تقبل منى واعف عني. واصلح لي شأني لا إله إلا أنت فحسن. ذكره إبراهيم الحربي والأثرم وغيرهما.
والمراد إن أمكنه هذا الدعاء. إذا دخل من باب المسجد بعد قول بسم الله أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. اللهم صل على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. واستحب بعض أهل العلم رفع الصوت بالدعاء لأنه ذكر مشروع. فاستحب رفع الصوت به كالتلتبية. ويمكنه هذا الدعاء إذا دخل باب المسجد. أما إذا وصل إلىلبيت فقال الشيخ وغيره لا يشتغل بدعاء.
(وعن يعلى بن أمية) بن أبي عبيدة التميمي الحنظلي رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف) يعنى بالبيت من قولهم طاف أي: ألم (مضطبعا) ببرد أخضر رواه الخمسة إلا النسائي و (صححه الترمذي) ولفظ أحمد لما قدم مكة طاف بالبيت وهو مضطبع. والاضطباع افتعال من الضبع وهو العضو. سمي اضطباعا لإبداء الضبعين. ويسمى تأبطا. لأنه يجعل وسط الرداء تحت الإبط. ويبدي ضبعه الأيمن. ويقال هو أن يأخذ الرداء أو البرد ويجعله تحت إبطه الأيمن. ويلقى طرفيه على كتفه الأيسر من جهة صدره وظهره. سواء كان معتمرا أو قارنا أو مفردا على هيئة أرباب الشجاعة إظهارا للجلادة في ميدان تلك العبادة. واقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.

(2/430)


ولأبي داود عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، "اعتمروا من الجعرانة. فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم. ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى" ليستعينوا بذلك على الرمل. وليرى المشركون قوتهم. ثم صار سنة باتفاق الأئمة. سواء كان معتمرا أو قارنا أو مفردا. ويضطبع في الأشواط السبعة عند الجمهور. فإذا قضى طوافه سوى ثيابه. ولا يضطبع في ركعتى الطواف عند الجمهور. وذلك ما لم يكن حامل معذور بردائه وهو من سنن الطواف قال الشيخ وغيره وإن تركه فلا شئ عليه.
(ولمسلم من حديث جابر) الطويل وهو حديث جليل مشتمل على جمل ونفائس ومهمات وقواعد. قال: (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) يعني الحجر الأسود. ويسمى الركن الأسود. وهو ركن الكعبة في الباب من جانب الشرق. وارتفاعه من الأرض ذراعان وثلث. استلمه أي مسحه بيده اليمنى. وفي الحديث "أنه نزل من الجنة أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم" صححه الترمذي.
واستلامه سنة باتفاق المسلمين. وفي الحديث "والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق" وللترمذي عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء لهما ما بين المشرق

(2/431)


والمغرب" وأهل اليمن يسمونه المحيا. لأن الناس يحيونه بالسلام. ويأتي إليه مستقبلاً له. محاذيًا له بجميع بدنه. بأن يقف مقابله. حتى يكون مبصرًا لظلعي البيت الذي عن أيمن الحجر وأيسره. احترازًا من أن يقف في ظلع الباب. وأذا حاذاه بجميع بدنه أجزأ بلا نزاع.
قال الشيخ: فيبتدئ من الحجر الأسود يستقبله استقبالا. وذكرأنه هو السنة. قال وليس عليه أن يذهب إلى ما بين الركنين. ولا يمشي عرضا. ثم ينتقل إلى الطواف. بل ولا يستحب ذلك. وفي الخلاف لا يجوز أن يبتدئه غير مستقبل له. ومن قال يستقبل البيت بحيث يصير الحجر عن يمينه فهو خلاف السنة. وما عليه الأئمة. فلا يكون داخلا في الخروج من الخلاف. فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني. وابتداء الطواف مما بين الركنين مخالف للإجماع. وفي حديث جابر: ثم مشى على يمينه. فيجب أن يجعل البيت عن يساره. ويأخذ على يمينه. قال الشيخ لكون الحركة الدورية تعتمد فيها اليمنى على اليسرى. فلما كان الإكرام في ذلك للخارج جعل اليمنى اهـ.
وأول شئ يبتدئ به المعتمر طواف العمرة. لأن الذي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بفسخ نسكهم إليها أمرهم أن يطوفوا لها. وأما القارن والمفرد فيطوف للقدوم. وهو الورود. لفعل الصحابة الذين كانوا كذلك .. واتفق الأئمة على أنه سنة من سنن الحج. وشدد فيه مالك. ويبدأ القادم أول شئ بالطواف.

(2/432)


لأنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ به أول شئ. كما في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة توضأ ثم طاف. ولأن مقصوده بسفره زيارة البيت. وهو في المسجد الحرام. فلا يشتغل بغيره.
والطواف تحية المسجد الحرام. فالمستحب البداءة به. إلا أن يخاف فوت مكتوبة ونحو ذلك. وقال عطاء: لم يلو على شئ ولم يعرج. ولا بلغنا أنه دخل ولا لهى بشئ. حتى دخل المسجد فبدأ بالبيت فطاف به (فرمل ثلاثا) أي في ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر. وهو في الصحيحين وغيرهما من غير وجه عن أبي عمر وغيره. ولا يثب وثبا لأن ذلك ليس برمل. فإنه إذا فعله لم يكن آتيا بالرمل المشروع. قال الشيخ وابن القيم وغيرهما: الرمل مثل الهرولة وهو مسارعة المشي مع تقارب الخطأ.
(ومشى أربعا) أي أربعة أشواط بقية سبعة من غير رمل. ولهما عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - " أمرهم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا أربعة" ولهما أيضا عن ابن عمر أنه كان إذا طاف بالبيت رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة. ويقول: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله" والحكمة في ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب فأمر أصحابه أن يرملوا الثلاثة، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم".

(2/433)


وكان هذا أصل الرمل. وسببه إغاظة المشركين. وكان في عمرة القضية. ثم صار سنة. ففعله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مع زوال سببه كالسعي والرمي. قال ابن عباس رمل في عمره كلها وفي حجة الوداع. وأبو بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم. وقد يكون فعله باعثا علىتذكر سببه. فيذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله. واتفقوا على سنيته. وقال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم. ويختص الرمل بالرجال. لا يسن لحامل معذور. ولا لامرأة إجماعا. ومحرم من مكة أوقربها لعدم وجود المعنى الذي لأجله شرع. وهو إظهار الجلد والقوة لأهل البلد.
ولا رمل في غير طواف القدوم. قال ابن عباس: لم يرمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع الذي أفاض فيه. وهو مذهب جمهور أهل العلم. ولا يقضي إذا فات في الثلاثة الأول من طواف القدوم. لأنه هيئة فات محلها. والأربعة هيئتها السكينة فلا تغير. والرمل أولى من الدنو من البيت. لأن المحافظة على فضيلة تتعلق بذات العبادة من من فضيلة تتعلق بمكانها. قال الشيخ: فإن لم يمكن الرمل للزحمة كان خروجه إلى حاشية المطاف والرمل أفضل من قربه من البيت بدون الرمل. وأما إذا أمكن القرب من البيت مع إكمال السنة فهو أولى. وإن حصل التزاحم في الأثناء فعل ما قدر عليه اهـ.
ولا يصح إلا بإكمال السبعة الأشواط ويبني على اليقين إجماعًا. وإن أحدث في بعض طوافه أو قطعة بفصل طويل عرفا

(2/434)


ابتدأه. وإن كان يسيرًا بنى. فلو أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة صلى في قول أكثر أهل العلم وبنى. روى عن ابن عمر وغيره. ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم. وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف فيه إلا الحسن. وقول الجمهور أصح. لأنه فعل مشروع فلم يقطعه كاليسير.
ويجوز أن يطوف من وراء قبة زمزم وما وراءها من السقائف المتصلة بحيطان المسجد ويجوز راكبا لعذر. وهو قول الجمهور. ومحمولا إجماعا. بل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (ثم أتى مقام إبراهيم) وهو بين زمزم والمنبر أمام باب الكعبة. عليه قبة عالية من خشب قائم على أربعة أعمدة دقيقة من حجارة بينها شبابيك من حديد. صنعت في القرن التاسع والمقام في وسطها محيط به قبة أيضا من حديد. وكان قبل عليه قبة من خشب.
(فصلى) ركعتي الطواف نفلا. وثبت نحوه عن ابن عمر وغيره. وقال شيخ الإسلام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفاق السلف والأئمة. وحكى وجوبهما عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. واتفقوا على مشروعيتهما. ولما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قوله (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) بيانا منه لتفسير القرآن. ومراد الله منه بفعله - صلى الله عليه وسلم - وإعلاما للأمة بشرفهما. وإحياء لذكر إبراهيم عليه السلام. فالأفضل كونهما خلفه. وهو مذهب جمهور

(2/435)


المفسرين والفقهاء المعتبرين. وفيه وجعل المقام بينه وبين البيت.
ثم كونهما فيما حوله مما يطلق عليه اسم المقام عرفا. ثم ما قرب من البيت خصوصا الملتزم. والباب. ثم الحجر. ثم كلما قرب من البيت. وقال غير واحد أجمع أهل العلم على أن الطائف تجزئه ركعتا الطواف حيث شاء. وصلاهما عمر وغيره خارج الحرم كما تقدم. وقال بعض أهل العلم له جمع أسابيع بركعتين ولا تعتبر الموالاة بين الطواف وركعتيه. ولا نزاع في أنه يأتي الملتزم إن شاء متضرعا كما سيأتي. ويشرب من زمزم ويتضلع منه.
(وللبخاري عنه) أي عن جابر رضي الله عنه (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه) يعنى الحجر الأسود (ويقبله إعظاما له). ولهما عن ابن عمر نحوه. وعن عمر أنه كان يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع. ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. وذلك أن الناس حديثو عهد بجاهلية. فبين أنه لا يقصد إلا تعظيم الله عز وجل. وأن الحجر لا ينفع ولا يضر بذاته. قال الترمذي والشيخ وغيرهما: العمل عليه عند أهل العلم يستحبون تقبيل الحجر إن أمكنه بلا صوت. ولا يؤذي أحد بالمزاحمة عليه.
وللنسائي من حديث حنظلة بن أبي سفيان رأيت طاووسا

(2/436)


يمر بالركن. فإن وجد عليه زحاما مر ولم يزاحم. وإن رآه خاليا قبله ثلاثا. ثم قال: رأيت ابن عباس فعل مثل ذلك. ثم قال ابن عباس: رأيت عمر فعل مثل ذلك. ثم قال عمر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ذلك. ولابن ماجه عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقبل الحرج ووضع شفتيه عليه يبكي طويلا. ثم التفت فإذا بعمر بن الخطاب يبكي. فقال " يا عمر ههنا تسكب العبرات" وسجد عليه هووابنه وابن عباس. وقال عمر: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل هكذا. صححه الحاكم. وفيه ويضع جبهته عليه. ويلاحظ جلالة البقعة.
يتلطف بمن يزاحمه ويرحمه. لأن الرحمة ما نزعت إلا من قبل شقي والمزاحمة الشديدة ضررها كبير. وربما أخرجت عن حكم التيامن المجمع عليه ولا يجوز للنساء مزاحمة الرجال عليه. ولا يستحب لهن تقبيله. ولا استلامه إلامع خلو المطاف ليلا كان أو نهارا.
(وعنه) أي عن جابر أيضا رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - (استلمه) يعني الحجر الأسود (بيده) أي مسحه بها (وقبل يده) ولهما عن ابن عمر أنه استلمه بيده وقبل يده. وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. ولمسلم عن أبي الطفيل رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت يستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن.

(2/437)


(ولأبي داود من حديث ابن عمر) رضي الله عنهما (كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يدع أن يستلم الركن اليماني) في طوافه. وللطبراني بسند جيد أنه كان إذا استلم الركن اليماني قال: "بسم الله والله أكبر" كما يقول عند الحجر الأسود (و) كان - صلى الله عليه وسلم - لا يدع أن يستلم (الحجر يعني الأسود (في طوافه) قال نافع: وكان ابن عمر يفعله. وروي عنه مرفوعا "إن مسح الركن اليماني والحجر الأسود يحط الخطايا" وقال سمعته يقول "إن مسحهما كفارة للخطايا" ولمسلم عنه ما تركت استلام هذين الركنين منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما.
ولأنهما بنيا على قواعد إبراهيم بخلاف الشاميين فلا يستلمهما ولا يقبلهما ولا يشير إليهما. لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل شيئا من ذلك. بل هو بدعة باتفاق الأئمة. قال شيخ الإسلام: ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما استلمهما خاصة. لأنهما بنيا على قواعد إبراهيم. والآخران هما في داخل البيت.
وقال شيخ الإسلام فالركن الأول يستلم ويقبل. اليماني يستلم ولا يقبل. وقال ابن القيم في قوله كان إذا استلم الركن اليماني قبله: المراد به الأسود ولأنه يسمى يمانيا. بدليل حديث عمر في تقبيل الحجر الأسود خاصة. قال الشيخ: وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم وسائر ما في الأرض من المساجد

(2/438)


وحيطانها ومقابر الأنبياء والصالحين. كحجرة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. ومغارة إبراهيم. ومقام نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يصلي فيه. وصخرة بيت المقدس. فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة. وذكر نحو ذلك ابن الملقن وغيره. وزادوا أن التقبيل والاستلام تعظيم. والتعظيم خاص بالله تعالى. ولا يجوز إلا فيما أذن فيه.
(وللبخاري عن ابن عباس طاف) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (على بعير) يقال للجمل وقد يكون للأنثى (كلما أتى على الركن) يعني الحجر الأسود (أشار إليه) أي إلى الركن (بشيء في يده) ولم يقبله. فدل الحديث على أنه إذا لم يمكنه التقبيل والاستلام أو شق عليه أشار إليه بيده. أو بشيء في يده ولا يقبله. لأنه لا يقبل إلا الحجر أو ما مس الحجر وجزم به الشيخ وغيره فصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلام الحجر وتقبيله. وهو أعلاها. واستلامه بيده وتقبيلها. واستلامه بالمحجن وتقبيله. والإشارة إليه بدون تقبيل.
ودل الحديث على اختصاص الحجر بالإشارة دون اليماني. فلم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يشير إليه ولو فعله لنقل كما نقلت الإشارة إلى الحجر الأسود. وترك ما ترك - صلى الله عليه وسلم - هو السنة. كما أن السنة فعل ما فعل صلوات الله وسلامه عليه (وكبر) أي كلما أتى الحجر الأسود قال الله أكبر. (وله عنه) أي
وللبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا استلم الركن) يعني الحجر الأسود (قال بسم الله والله أكبر)

(2/439)


أي بسم الله أطوف. والله أكبر من كل شيء. وجزم به شيخ الإسلام وغيره. وقال استقباله بوجهه هو السنة. ولأحمد من حديث عمر "إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر" ولا يرفع يديه كما يكبر للصلاة كما يفعله من لا علم عنده. بل هو من البدع جزم به ابن القيم وغيره.
(وروي عن ابن السائب) عبد الله بن السائب بن يزيد ابن تمامة بن الأسود الكندي حليف بني عبد شمس. من طريق ناجية بسند ضعيف. ونحوه للشافعي عن ابن أبي نجيح عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بسم الله والله أكبر" (وقال اللهم إيمانا بك) أي أفعل ذلك إيمانا بك (وتصديقا بكتابك) حيث قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (ووفاء بعهدك) في قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ} فأجابه كل من كتب أن يحج (واتباعا لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -) في طوافه بالبيت. وأمره به. وروى العقيلي نحوه من حديث ابن عمر والطبراني البيهقي نحوه أيضا. وهو قول أكثر الفقهاء. وقال الشيخ وغيره إن شاء قال ذلك.
(ولأبي داود) عن عبد الله بن السائب (سمعته) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقول بين الركنين) اليمانيين (رَبَّنَا آتِنَا) أي أعطنا (فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أي العلم والعمل والعفو والعافية

(2/440)


والرزق الحسن أو حياة طيبة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي المغفرة والجنة والدرجات العالية. أو مرافقة الأنبياء. أو الرضى. أو الرؤية (وَقِنَا) أي احفظنا واكفنا (عَذَابَ النَّارِ) أي شدائد جهنم وحرها وزمهريرها وسمومها. ولأحمد عن أبي هريرة مرفوعا "إن الله وكل بالركن اليماني سبعين ألف ملك. فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا آمين قال شيخ الإسلام: وكان - صلى الله عليه وسلم - يختم طوافه بذلك. كما كان يختم سائر دعائه بذلك اهـ.
ولم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في الطواف غيره. وينبغي أن يقول في بقية طوافه: اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا. رب اغفر وارحم واهدني السبيل الأقوم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم. وإن قال قبل ذلك اللهم إن هذا البيت بيتك والحرم حرمك والأمن أمنك. وهذا مقام العائذ بك من النار. اللهم اعذني من النار ومن الشيطان الرجيم. ومن أهوال يوم القيامة واكفني مؤونة الدنيا والآخرة. أو قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ونحوه كما رواه ابن ماجه. أو قرأ من القرآن فحسن.
قال شيخ الإسلام: ويستحب له في الطواف أن يذكر الله ويدعوه بما شرع. وليس فيه ذكر محدود قد استحبه - صلى الله عليه وسلم - لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه. بل يدعو فيه سائر الأدعية الشرعية. وما

(2/441)


يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذك فلا اصل له. وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق الأئمة. وقال ابن القيم لم يدع عند الباب بدعاء ولا تحت الميزاب. ولا عند ظهر الكعبة. ولا أركانها. ولا وقت للطواف ذكرا معينا. لا بفعله ولا بتعليمه.
والذكر هو المتوارث عن السلف والمجمع عليه. فكان أولى من جنس القراءة فيه. ومأثور الدعاء أفضل. لأن القراءة لم تحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. وحفظ غيرها. فدل على أنه ليس محلها بطريق الأصالة. والقراءة أفضل من دعاء غير مأثور. فإن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. قال الشيخ: وإن قرأ سرا فلا بأس به.
ويستحب للطائف ترك الكلام. وكل عمل ينافي الخشوع كالإلتفات والتخصر. ويصون نظره عن كل ما يشغله. ويتأكد عما لا يحل. وينزه طوافه عما لا يرتضيه الشرع. قال الترمذي: أكثر أهل العلم يستحبون ألا يتكلم في الطواف إلا لحاجة. أو يذكر الله أو من العلم.
(وعن عائشة مرفوعا إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة) يعني السعي بينهما (لإقامة ذكر الله) أي إنما جعل ذلك لإقامة شعار النسك المشروع. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما و (صححه الترمذي) وغيره فدل الحديث وغيره على

(2/442)


مشروعية الذكر عند تلك المشاعر العظام. قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} وقال: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} وخصصت هذه الأفعال بالذكر مع أنه المقصود من جميع العبادات. لأنها لا تظهر فيها العبادة. فشرع فيها ليكون شعارا لها.
(وعن جابر) في حديثه الطويل (ثم صلى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رعتين) أي ركعتي الطواف خلف المقام كما تقدم. وهذا لا نزاع في ندبيته (فقرأ) يعني في الركعة الأولى (فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون) أي سورة قل يا أيها الكافرون (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وهي سورة الإخلاص. يعني في الركعة الثانية بعد الفاتحة. لما اشتملتا عليه من نوعي التوحيد. واستحباب قراءتهما في ركعتي الطواف إجماع. وإن قرأ غيرهما جاز. وعن أحمد تجزئ مكتوبة عنهما. وعنه لا تجزئ وفاقا. كما لا تجزئ عن منذورة. وحكي وجوبهما ويصح السعي قبلهما إجماعا. وفي أسباب الهداية يأتي الملتزم قبل الركعتين.
وينبغي الإكثار من الطواف كل وقت. لأنه يشبه الصلاة والصلاة خير موضوع. وطواف التطوع للغرباء أفضل من صلاة التطوع اتفاقا. لأنهم لا يمكنهم الطواف. فكان الاشتغال به أولى. وقال ابن عمر: من طاف بهذا البيت أسبوعا كان كعتق رقبة. وقال لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى إلا حط الله بها

(2/443)


عنه خطيئة. وكتب له بها حسنة. وهو حديث حسن.
(ثم عاد إلى الركن فاستلمه) يعني الحجر الأسود فيسن في كل طواف بعده سعي أن يعود إلى الحجر فيستلمه. لأن الطواف لما كان يفتتح بالاستلام فكذا السعي (ثم خرج من الباب إلى الصفا) أي خرج من باب بني مخزوم. وهو الذي يسمى باب الصفا. لأنه أقرب الأبواب إليه. فكان اتفاقا. ويخرج إليه من أي باب شاء. لحصول المقصود (فلما دنا من الصفا) بالقصر وهو الحجارة الصلبة. والمراد به هنا المكان المعروف عند المسجد في طرف المسعى الجنوبي. أسفل جبل أبي قبيس.
قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الشعائر أعمال الحج. وكل ما جعل علما لطاعة الله. قاله - صلى الله عليه وسلم - بيان لمراد الله. وتقريرا: (ابدأ بما بدأ الله به) أي بالصفا حيث بدأ الله بها بالذكر. وعن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ الآية. وقال "نبدأ بالصفا اتبعوا القرآن فما بدأ به القرآن فابدءوا به" ورواية مسلم بصيغة الخبر. ورواه غير واحد بالنون. قال الحافظ وهم أحفظ. وهو عند النسائي بلفظ الأمر. أي ابدءوا في السعي بما بدأ الله به. وصححه النووي وغيره.
وذهب الجمهور إلى أن البداءة بالصفا والختم بالمروة شرط للخبر وصححه الترمذي وقال العمل عليه عند أهل العلم أنه

(2/444)


يبدأ بالصفا قبل المروة. فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزئه وبدأ بالصفا (فرقى الصفا) أي علا على الصفا المعروف هناك. فيستحب صعوده. قال الشيخ: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرقىعلىلصفا والمروة. وهما في جانبي جبلي مكة. واليوم قد بني فوقهما دكتان. فمن وصل إلى اسفل النباء أجزأه السعي وإن لم يصعد فوق البناء اهـ.
ولعل المراد باعتبار ذلك الزمن. وأما الآن فالبيت يرى من باب الصفا قبل رقيه. لما حدث من ارتفاع الأرض. حتى اندفن أكثر الدرج. ومن وقف على أول درجة من درجاته أمكنه أن يرى البيت. وقد ذكر الأزرقي وغيره أنه اثنا عشر درجة. وقال ابن بطوطة وللصفا أربع عشرة درجة علياهن كأنها مصطب. ومن تأمل علوالوداي اليوم تيقن كثرة المدفون من الصفا.
قال جابر: فرقى الصفا (حتى رأى البيت فاستقبله) فيستحب أن يستقبله وليس بواجب لأنه لو ترك صعوده فلا شيء عليه إجماعا. فلا يجب الاستقبال. ولا نزاع في استحباب صعودهما واستقبال القبلة (فوحد الله كبره) فيستحب حينئذ توحيد الله وتكبيره. وفي لفظ كبر ثلاثا. واستحب بعضهم أن يقول الحمد لله على ما هدانا. ثم بين توحيد الله وتكبيره بقوله (وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له) في ربوبيته ولا في آلهيته. ولا في أسمائه وصفاته (له الملك) المطلق (وله الحمد) الكامل (وهو على كل شيء قدير) ولابن عمر من

(2/445)


رواية إسماعيل عن أيوب عن نافع: لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
(لا إله إلا الله وحده) إعادة كلمة التوحيد لشرفها. ولما من الله به تعالى على نبيه حيث (أنجز وعده) أي وفي بما وعد به محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الفتح والنصر (ونصر عبده) محمدا - صلى الله عليه وسلم - على عدوه وأيده بالمعجزات (وهزم الأحزاب) يوم الخندق (وحده) هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا سبب من جهتهم.
والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة. قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}.
(ثم دعا بين ذلك) وفي لفظ أنه "قاله ثلاث مرات" وفي لفظ "دعا بما شاء". وفي لفظ "يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو" قال أحمد وغيره يدعو بدعاء ابن عمر. وهو اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك. اللهم جنبني حدودك. اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وأولياءك وعبادك الصالحين. اللهم يسر لي اليسرى وجنبني العسرى. واغفر لي في الآخرة والأولى. واجعلني من أئمة المتقين. واجعلني من ورثة جنة النعيم. واغفر لي خطيئتي يوم الدين.
اللهم إنك قلت (ادعوني أستحب لكم). وإنك لا تخلف

(2/446)


الميعاد. اللهم إذ هديتنا للإسلام فلا تنزعه مني ولا تنزعني منه حتى توفاني وأنا على الإسلام. اللهم لا تقدمني للعذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن. ويدعو بما أحب. ولمسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه. وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء".
ولأنه موضع ترجى فيه الإجابة.
(ثم نزل إلى المروة) وفي لفظ نزل من الصفا أي منتهيًا إلى المروة ماشيًا على قدميه الشريفتين صلوات الله وسلامه عليه (حتى انصبت) أي انحدرت (قدماه في بطن الوادي) وهو ما بين العلمين (سعى) أي أسرع في سيره بين العلمين في السبعة الأشواط. وعن ابن عباس إنما سعى بين الصفا والمروة ليرى المشركين جلده وقوته. صححه الترمذي. وقال وهو الذي يستحبه أهل العلم. وإن مشى وسعى رأوه جائزًا.
وقال الشيخ: وإن لم يسع في بطن الوادي بل مشى على هينته جميع ما بين الصفا والمروة أجزأ باتفاق العلماء ولا شيء عليه اهـ. وسبب مشروعيته السعي أن إبراهيم لما ترك هاجر وإسماعيل هناك عطش. فصعدت الصفا تنظر هل بالموضع ماء فلم تر شيئا فنزلت تسعى في بطن الوادي حتى خرجت منه إلى جهة المروة. لأنها توارت بالوادي عن ولدها. فسعت شفقة عليه. فجعل ذلك نسكا. إظهارا لشرفها. وتفخيما لأمرها.

(2/447)


وقال المطرزي وغيره: الميلان علامتان بموضع الهرولة في ممر بطن الوادي.
وقال ابن القيم وغيره بطن الوادي هو ما بينهما لم يتغير. واستمر عمل المسلمين عليه. خلفا عن سلف اهـ. والسعي بينهما وإن لم يكن اليوم هو نفس بطن الوادي هو السنة باعتبار ما كان سابقا. فإن ما بينهما كان منخفضًا. وطرفاه من جهة الصفا والمروة مرتفعان. والسعي الشديد مشروط بأن لا يؤذي. وخرج الراكب وحامل المعذور والمرأة إجماعا. لأن المطلوب منها التستر. وجوز الجمهور السعي راكبا لعذر. وقيل لغيره.
(حتى إذا صعدتا) يعني قدميه الشريفتين أخذتا في الصعود من بطن الوادي إلى المكان العالي (مشى إلى المروة) قال أحمد وكان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم. ويستحب الإكثار من الذكر والدعاء في سعيه. لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله عز وجل (ففعل على المروة كما فعل على الصفا) من التوحيد والتكبير والدعاء واستقبال القبلة إجماعا. والمروة هي الحجارة البيضاء البراقة. أو الرخوة سمي بها المكان الذي في طرف المسعى الشمالي.
واتفقوا على أن العقد الكبير المشرف الذي بوجهها هو

(2/448)


حدها. علامة على أولها. قال المحب الطبري وغيره: في وجهها عقد كبير مشرف قد تواتر كونه حدا بنقل الخلف عن السلف. وكذا في مسالك الأبصار. وذكره الأزرقي وغيره. أن على المروة خمس عشرة درجةكحلت بالنورة في خلافة المأمون. وذلك قبل أن يعلوا الوادي. فأدنى المروة تحت العقد المشرف عليها وفيه أول الدرج. ويحصل استقبال القبلة بأن يميل إلى يمينه أدنى ميل.
وفيه " حتى إذا كان آخر طوافه على المروة" واتفق رواة نسكه - صلى الله عليه وسلم - أنه طاف بينهما سبعة أشواط ذهاب سعية ورجوعه سعية يفتتح بالصفا ويختم بالمروة. وهذا باتفاق أهل العلم. وغلطوا الطحاوي وغيره ممن قال الذهاب والرجوع سعية. وقال ابن القيم لم ينقله أحد. ولا قاله أحد ممن اشتهرت أقوالهم. فلا خلاف أنه بدأ بالصفا وختم بالمروة. وحكى الوزير وغيره اتفاق الأئمة على الاحتساب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية. ويجب استيعاب ما بينهما في كل مرة.
ويشترط كون السعي بعد طواف نسك. ولومسنونا. لأنه الوارد عنه - صلى الله عليه وسلم -. وحكي فيه الإجماع. فلا يجوز بعد طواف نفل. ويشترط فيه النيةإجماعا. كسائر العبادات. واختار الأكثر اشتراط الموالاة. ولا يضر فصل يسير. كأن أقيمت مكتوبة. أو حرت جنازة. فيصلي ويبني. وتسن الموالاة بينه وبين الطواف. كذا الطهارة والستارة ولا يجبان. فلو فصل بين

(2/449)


الطواف والسعي بطواف أو غيره أجزأ. وإذا لم تشترط الطهارة مع آكديتها فغيرها أولى.
(ثم قال لهم) أي لأصحابه غير من ساق الهدي (أحلوا من إحرامكم) أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا بالطواف والسعي. وفي لفظ "فنادى وهو على المروة والناس تحته فقال. لوأني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة" (وقصروا) أي من شعر الرأس من مجموعه لا من جميعه فلم يأمرهم بالحلق ليبقى لهم شعر يحلقونه في الحج فإن الحلق في تحلل الحج أفضل منه في تحلل العمرة لأنه أكمل (رواه مسلم)
قال الشيخ: ويستحب له أن يقصر من شعره ليدع الحلاق للحج. وكذلك أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا حلوا حل لهم ما حرم عليهم بالإحرام. ويذبح هدي العمرة عندها ولا يتحلل المعتمر إلا بالطواف والسعي والتقصير أوالحلق للخبر. وقال ابن رشد: اتفقوا علىن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة. وإن لم يكن حلق ولا قصر لثبوت الآثار في ذلك إلا خلاف شاذ اهـ. وأركان العمرة ثلاثة إحرام وطواف وسعي قال الوزير أجمعوا أنها أركان لها وفي الفصول السعي فيها ركن بخلاف الحج.
(ولهما) يعني البخاري ومسلم وغيرهما من غير وجه (أنه

(2/450)


أمرهم) - صلى الله عليه وسلم - (لما طافوا) طواف العمرة (وسعوا) وقصروا (أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة) أي يجعلوا الحجة عمرة ويصيروا حلالا بعد فراغهم من أفعال العمرة. وقد أبيح لهم ما حرم عليهم بسبب الإحرام حتى يستأنفوا الإحرام للحج (إلا من ساق) معه (الهدي) فيبقى على إحرامه حتى يكمل حجه وينحر هديه.
وللبخاري عن عائشة "من أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى ينحر) وفي لفظ فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال "افعلوا ما أمرتكم به" ففعلوا. وفي لفظ نزل عليه القضاء بين الصفا والمروة. ولما توقوفا قال "انظروا ما آمركم به فافعلوه" قال الشيخ وغيره وهذا مذهب أهل الحديث. وإمامهم أحمد بن حنبل وأهل الظاهر. لبضعة عشر حديثا صحاحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.منها "من تطوف بالبيت وسعى ولم يكن معه هدي حل" ومنها لما راجعوه قال "انظروا ما آمركم به فافعلوا" فردوا عليه فغضب وأقسم طائفة من أصحابه رضي الله عنهم أنه ما نسخ ولا صح حرف واحد يعارضه. وأنهم لم يخصوا به.
بل أجرى الله على لسان سراقة (فقال راقة: ألعامنا هذا) أي جواز فسخ الحج إلى العمرة وفي لفظ أرأيت متعتنا هذه أي أخبرنا عن فسخنا الحج إلى عمرتنا هذه التي تمتعنا فيها. بالجماع والطيب واللبس ألعامنا هذا مخصوصة به لا تجوز في غيره (أم للأبد)؟ فقال "بل للأبد" أي لآخر الدهر وجميع

(2/451)


الأعصار. فلا يكون وقت العمرة في عامنا هذا فقط. وفي لفظ بل "لأبد الأبد" وفيه "فشبك بين أصابعه" وفي رواية ألعامنا هذا أم للأبد"؟ فشبك بين أصابعه واحدة في الأخرى و (قال دخلت العمرة في الحج) إلى يوم القيامة مرتين" أي دخلت نية العمرة في نية الحج بحيث من نوى الحج صح الفراغ عنه بالعمرة.
فدل على جواز فسخ الحج إلى العمرة لاقتضاء سياق السؤال (لا) أي ليس خاصا بنا (بل لأبد الأبد) أضيف للمبالغة. أو تأكيد الدوام إلى قيام الساعة. وهذا صريح في أن العمرة التي فسخوا حجهم إليها لم تكن مختصة بهم. وأنها من مشروعة للأمة إلى يوم القيامة. وقوله "دخلت العمرة في الحج" تصريح أيضا بأن هذا الحكم ثابت أدبا لا ينسخ إلى يوم القيامة. قال ابن القيم وهذا الفسخ قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر صاحبا. ورواه عنهم أكثر. فصار نقل كافة عن كافة يوجب العلم.
وتواتر عن حبر الأمة عبدالله بن عباس ما طاف بالبيت حاج ولا غيرحاج إلا حل. أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما تم سعيه أمر كل من لا هدي معه أن يحل الحل كله. من وطءوطيب ولبس وأن يبقوا إلى يوم التروية. وقال رجل لابن عباس ما هذه الفتيا! فقال سنة رسولا لله - صلى الله عليه وسلم - وإن زعمتم. قال ابن القيم وصدق ابن عباس كل من طاف بالبيت وسعى ممن لا هدي معه من مفرد أو قارن أو متمتع فقد حل. إما وجوبا وإما

(2/452)


حكما. هذه هي السنة التي لا راد لها ولا مدفع.
وقال أحمد لمسلمة عندي أحد عشر حديثا صحيحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتركها لقولك؟ وأيضا إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد مخالفة المشركين تعين مشروعيته إما وجوبا وإما استحبابا. وقال ابن القيم لما ذكر غضبه - صلى الله عليه وسلم - لما لم يفعلوا. ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج رأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة. تفاديا من غضبه - صلى الله عليه وسلم -. واتباعا لأمره. فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده. ولا صح حرف واحد يعارضه. ولا خصص به أصحابه دون من بعدهم بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله هل ذلك مختص بهم. فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد فما تقدم على هذه الأحاديث: وهذه الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من خالفه.
(وعن ابن عباس مرفوعا كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يمسك) أي يمتنع ويكف (عن التلبية في العمرة) مفردا لها أو متمتعا بها إلى الحج (إذا استلم الحجر) الأسود للطواف رواه أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) وقال العمل عليه عند أكثر أهل العلم. قالوا لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر.
وقال بعضهم إذا انتهى إلى البيوت. والعمل على حديث
النبي - صلى الله عليه وسلم -. والتلبية إجابة إلى العبادة وشعار الإقامة عليها.
والأخذ في التحلل مناف. وهو يحصل بالطواف والسعي.
فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل فيقطعها

(2/453)


كما يقطع الحاج التلبية إذا شرع في رمي جمرة العقبة. لحصول التحلل به.
وقال النووي الصحيح أنه لا يلبي في الطواف لا في السعي. لأن لها أذكارا مخصوصة. ومن أجازها كره الجهر بها لئلا يخلط على الطائفين.
(وله عنه) مرفوعا وموقوفا. قال النووي وغيره رفعه ضعيف. والصحيح أنه موقوف. وقال الشيخ لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن هو ثابت عن ابن عباس. وقد روي مرفوعًا (الطواف بالبيت صلاة) قال ولا ريب أنه يشبه الصلاة من بعض الوجوه. ليس المراد أنه نوع من الصلاة التي يشترط لها الطهارة. وهذا كقوله "إن العبد في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه" "وما دام ينتظر الصلاة" و"إذا أتى المسجد فلا يشبك بين أصابعه. فإنه في صلاة" ونحو ذلك "إلا أنكم تتكلمون فيه"وقال "الطواف بالبيت كالصلاةإلا أن الله أباح فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير".
ولهذا يؤمر الطائف أن يكون متطهرا الطهارة الصغرى والكبرى. مستور العورة. مجتنبا النجاسة التي يجتنبها المصلي إجماعا. وفي وجوب الطهارة في الطواف نزاع بين العلماء. فإنه لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالطهارة للطواف ولا نهي

(2/454)


المحدث أن يطوف ولكنه طاف طاهرا. لكن ثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أنه) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال لها) وكانت طمثت بسرف فدخل عليها هي تبكي فقال لها (افعلي) يعني من مناسك الحج (ما يفعل الحاج) ولمسلم فاقضي ما يقضي الحاج. وهو إجماع (غير أن لا تطوفي بالبيت) أي حال كونك طامثا (حتى تطهري) بتشديد الهاء. وأصله تتطهري. والمراد بالطهارة الغسل من الحيض (متفق عليه) ولمالك نحوه عن ابن عمر.
والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع حيضها وتغتسل. وفي أثر ابن عمر ولا بين الصفا والمروة لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله. وهو مذهب جمهور أهل العلم. وتحريم الطواف على الحائض مجمع عليه. سواء كان فرضا أو نفلا. وعن أحمد يجزئ وتجبره بدم. وهو قول أبي حنيفة.
وقال شيخ الإسلام ما يعجز عنه من واجبات الطواف مثل من كان به نجاسة لا يمكنه إزالتها. كالمستحاضة ومن به سلس بول. فإنه يطوف ولا شيء عليه باتفاق الأئمة وكذا لو لم يمكنه الطواف إلا عريانا وكذا المرأة الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضا بحيث لا يمكن التأخر بمكة في أحد

(2/455)


قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف.
ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا. فتطوف بالبيت والحالة هذه. وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه. وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة بل يوافقها. إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه. ولا واجب في الشريعة مع العجز. ولا حرام مع ضرورة. وتتلجم كما أبيح للمستحاضة دخول المسجد للطواف إذا تلجمت اتفاقا. لأجل الحاجة. وحاجة هذه أولى.
فلا يمتنع الإذن لها في دخول المسجد لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة. هذا إذا قيل إنها ممنوعة من المسجد. وأما أن عبادة الطواف لا تصح مع الحيض كالصلاة فغايته أن تكون الطهارة شرطا من شروط الطواف. فإذا عجزت عنه سقط كما لو انقطع دمها وتعذر عليها الإغتسال والتيمم فإنها تطوف على حسب حالها. كما تصلي بغير طهور. لقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وهذه قد اتقت الله ما استطاعت. فليس عليها غيره بالنص وقواعد الشريعة.
والأشبه لا يجب عليها دم. لأن الطهارة واجب يؤمر به مع القدرة لا مع العجز. وأحمد يقول لا دم عليها. كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناس وقال ابن القيم: بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج. ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط

(2/456)


والواجبات. ومن المعلوم أن الشريعة لاتأتي بسوى هذا. وقال وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة بل يوافقها. إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه. وذكر نحوا من كلام الشيخ. وأنه لا يدل على اشتراط الطهارة للطواف نص ولا إجماع. وإذ لم يمكنها إلا على غير طهارة فليس عليها غيره بالنص وقواعد الشريعة اهـ.
وإن حاضت المتمتعة قبل طواف العمرة فخشيت فوات الحج أو خشية غيرها أحرموا بالحج لتعينه. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "أهلي بالحج"وليس كونها خشيت فوات الحج شرطا لجواز إدخال الحج على العمرة بل لوجوبه. لأن الحج واجب فورا. ولا سبيل إليه إلا ذلك. فتعين. وكالصورة الثانية من القران إدخال الحج على العمرة قبل الشروع في طوافها. وإن لم يخف فوت الحج ويصير بذلك قارنا عند الجمهور. إلا أبا حنيفة: قال ترفض العمرة. ولم يقله غيره.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - "ارفضي عمرتك" أي دعي أفعال العمرة. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لها "طوافك وسعيك يكفيك لحجك وعمرتك" وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لنفسها. وحديثها أصل في سقوط طواف القدوم عن الحائض. وكانت متمتعة فصارت من أجل الحيض قارنة. قال ابن القيم: وهو أصح الأقوال. والأحاديث لا تدل على غيره. ويجب دم القران. وتسقط عنه العمرة لاندراجها في الحج للأخبار.

(2/457)


«باب صفة الحج»
أي كيفية وبيان ما شرع فيه من أقوال وأفعال.
(عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل الذي وصف فيه حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حللنا) أي من العمرة كما تقدم (أن نحرم) أي بالحج (فأهللنا من الأبطح رواه مسلم) فيسن لمتمتع حل من عمرته أن يحرم من منزله. وهو مذهب جمهور أهل العلم. وحكي أنه لا نزاع فيه. وقيل من المسجد. والسنة من منزله كما فعل خير الخلق وأصحابه.
قال ابن القيم أحرموا من منزلهم. ومكةخلف ظهورهم ولم يدخلوا إلى المسجد ليحرموا منه اهـ. وقيل من تحت الميزاب ذكره بعض الأصحاب. ولم يكن السلف يفعلونه. ولو كان أولى لسبقونا إليه. واعتقاد سنة أو فضيلة ما ليس بسنة ولا جاء بفضله شرع فالسنة تركه. قال شيخ الإسلام السنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه. وكذا المكي يحرم من أهله.
(وله عنه) أي ولمسلم وغيره عن جابر (قال فلما كان يوم التروية) وهو ثامن ذي الحجة. سمي بذلك لأنهم كانوا يتروون فيه الماء لما بعده. إذ لم يكن هناك ماء. أو لأنهم كانوا يروون إبلهم فيه. وقيل غير ذلك (توجهوا إلى منى) قبل

(2/458)


الزوال. فلمسلم عنه توجه قبل الصلاة الظهر يوم التروية إلى منى. سميت منى لأنه يمنى فيه الدم أي يراق. وقيل غير ذلك (فأهلوا بالحج) ولهما عنه حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج. وتقدم قوله: "وأهل مكة فمنها" وسواء في ذلك سكانها أوالواردون إليها.
وأجمعوا على سنية الإهلال منها ويجزئ من بقية الحرم. وصوبه شيخ الإسلام. وقال لأن الأبطح خارج البلد. يعني قبل ويستحب أن يفعل عند هذا الإحرام ما يفعل عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظيف والتجرد من المخيط وغير ذلك. وقال بعضهم ينبغي لمتمتع عدم الهدي. وأراد الصوم. أن يحرم يوم السابع ليصوم الثلاثة الأيام قبل النحر محرما (وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته القصواء).
(فصلى بها) يعني منى (الظهر) واتفقت الرواة أنه صلى الظهر بمنى (والعصر والمغرب والعشاء والفجر) فالسنة الركوب إليها. وصلاة الخمس الفرائض فيها. ومبيت تلك الليلة فيها. وهي ليلة التاسع من ذي الحجة. وإن تركه فلا شيء عليه إجماعا. وقال غير واحد هو سنة ليس بركن ولا واجب إجماعا. وكل من أدركه الليل بها فقد بات نام أو لم ينم (ثم مكث) أي بمنى (حتى طلعت الشمس) واتفق أهل العلم على سنيته.
وقال الشيخ السنة أن يبيت الحاج بمنى فيصلون بها الظهر

(2/459)


والعصر والمغرب والعشاء والفجر ولا يخرجون منها حتى تطلع الشمس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما الإيقاد بها فبدعة مكروهة باتفاق العلماء ثم بعد طلوع الشمس سار من منى إلى عرفات لقوله (فأجاز) أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها وفي الخبر أمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار ولا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية
فتجاوزه إلى حيث أمره الله عز وجل أن يفيض كما أفاض الناس أي سائر الشعوب غير قريش وكانت قريش لا تخرج من الحرم وسموا الحمس فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوجه إلى عرفات وفي الصحيحين عن أنس وكان يلبي منا الملبي فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه قال الشيخ وغيره ويسيرون من منى إلىعرفات على طريق ضب من يمين الطريق وافتراقه من مزدلفة ينعطف على اليمين قرب المشعر الحرام
(حتى أتى عرفة) أي قرب منها لا أنه دخلها وعرفة أسم المشعر المعروف موضع الوقوف في الحج سميت عرفة لتعارف الناس بها أو لاعترافهم أو لأن جبرئيل قال للخليل عرفت وقيل غير ذلك وتسمى المشعر الحرام والأقصى وهي عمدة أفعال
الحج والوقوف بها ركن من أركانه لا يتم الحج إلا به
وحدها من الجبل ومشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له
إلى ما يلي حوائط بني عامر وهو المسجد المشهور المعمور دون

(2/460)


الزيادة فيه من شرقيه قيل إنها منها فيه أحجار كبار علم بين ما يصح الوقوف فيه وما لا يصح ومن حدودها الميلان الشاميان المقابلان لميلي الحرم بينهما وادي عرنة
(فوجد القبة) خيمة صغيرة (قد ضربت له) وتقدم أنه أمر بها فبنيت له (بنمرة) قال الشيخ هي قرية كانت خارجة عن عرفات من جهة اليمين اهـ. وموضعها أكمة عليها أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف فهي شرقي عرنة إلى الشمال خراب اليوم (فنزل بها) قال ابن الهمام ونزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بنمرة لا نزاع فيه ولأبي داود وغيره عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - نزل بنمرة وهو منزل الإمام الذي ينزله بعرفة
(حتى إذا) كان عند صلاة الظهر و (زالت الشمس) أي من كبد السماء إلى جهة الغرب (أمر بالقصواء) أي أمر بإحضار القصواء وهي ناقته التي كان يركبها كما مر ذكرها في مواضع من الأخبار حتى عام الحديبية في قوله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق (فرحلت له) أي شد عليها الرحل وهو مركب البعير أكبر من السرج والرحال العالم به المجيد له
(فأتى بطن الوادي) المعروف بوادي عرنة وبه المسجد المعروف بمسجد عرنة قال الشيخ وغيره يسير إليها من بطن الوادي وهو موضع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي صلى فيه وهو في حدود

(2/461)


عرفة ببطن عرنة وهناك مسجد يقال له مسجد إبراهيم وليس بالخليل إنما هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الذي كانت له الدعوة العباسية مات هناك في الحبس قال وإنما بني في أول دولة بني العباس اهـ. ثم زيد فيه من عرفة والزيادة في نفس المسجد معلمة بصخرات كبار فرشت هناك فصدر المسجد من عرنة واخره قيل من يوم عرفة كما تقدم وبين المسجد والحرم نحو ألف ذراع
(فخطب الناس) قال عبد الحق وغيره خطبته قبل الصلاة مشهورة وعمل به الأئمة والمسلمون اهـ. فيسن أن يخطب بها الإمام أو نائبه باتفاق الجماهير إلا ما روي عن مالك وقال الشيخ وغيره يسير إليها كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب الناس قال وهي خطبة نسك لا خطبة جمعة اهـ. يعلمهم فيها الوقوف ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة فيذكر العالم ويعلم الجاهل ويستحب تخفيفها قال سالم للحجاج إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة وعجل الصلاة رواه البخاري
قال جابر (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر) بعد ما فرغ من الخطبة ولم يجهر بالقراءة (ولم يصل بينهما شيئا) قال الموفق وغيره والصحيح أن الإمام يجمع وكل من صلى معه وقال الشيخ فيصلي الإمام ويصلي معه جميع الحاج أهل مكة وغيرهم قصرا وجمعا كما جاءت بذلك الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب أهل التحقيق ومن قال لا

(2/462)


يجوز القصر إلا لمن كان منهم على مسافة القصر فهو مخالف للسنة.
وقال ويصلي بعرفة ومزدلفة ومنى قصرا ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفائه أحدا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى أتموا الصلاة فإنا قوم سفر ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ وغلط غلطا بينا ووهم وهما قبيحا وقال قولا باطلا باتفاق أهل الحديث ولكن المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم بمكة
أما في حجه فإنه لم ينزل بمكة ولكن كان نازلا خارج مكة وهناك كان يصلي بأصحابه ثم لما خرج إلى منى وعرفه خرج معه أهل مكة وغيرهم ولما رجع من عرفة رجعوا معه ولما صلى بمنى صلوا معه ولم يقل لهم أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ولم يحدد النبي - صلى الله عليه وسلم - السفر لا بمسافة معلومة ولا بأيام معلومة
(ثم ركب) أي بعد ما فرغ من الخطبة والصلاة (حتى أتى الموقف) أي أرض عرفات فيسن بعد الصلاة بعرنة أن يذهب إلى عرفات إجماعا وينبغي الدنو من موقفه - صلى الله عليه وسلم - إن

(2/463)


سهل فإن لم يمكنه فبحسب الإمكان (فجعل بطن ناقته القصواء التي كان يركبها في أسفاره وتسمى العضباء ولم تكن مقطوعة الأذن (إلى الصخرات) الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة
(وجعل حبل المشاة) بالحاء المهملة وسكون الباء الموحدة أي طريق المشاة الذي يسلكونه في الرمل ومجتمعهم والرمل المستطيل دون الجبل فيه إلى الآن وقد أجريت معه العين جعله - صلى الله عليه وسلم - وجبل الرحمة (بين يديه) فموضع موقفه - صلى الله عليه وسلم - على الفجوة المستعلية التي عند الصخرات المفروشات السود الكبار عند جبل الرحمة بحيث يكون يمينك قليلا إذا استقبلت القبلة وبه مسجد جداره فوق ذراع ويقال للجبل إلا ل على وزن هلال وجبل الدعاء وهو المعروف وسط عرفات
ولا يسن صعوده إجماعا قال الشيخ وغيره وقال ليس من السنة ولا يستحب وكذا القبة التي فوقه التي يقال لها قبة ادم لا يستحب دخولها ولا الصلاة فيها والطواف بها من الكبائر اهـ. ولا يكاد يذهب إلى نمرة ولا إلى مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا القليل بل يدخلون إلى عرفات من طريق المأزمين وغيره قال وهذا
الذي يفعله الناس كله مجزئ معه الحج لكن فيه نقص
عن السنة (واستقبل القبلة) ولأبي نعيم عن ابن عمر مرفوعا
خير المجالس ما استقبل به القبلة وتقدم أن استقبال القبلة مستحب في كل طاعة إلا بدليل فسواء كان جبل الرحمة

(2/464)


بين يديه حال استقباله أو خلفه فإنه لم يرد في الشرع استقباله دون القبلة.
(فلم يزل واقفا) أي قائما بركن الوقوف راكبا على راحلته القصواء قال الشيخ وغيره ويجوز الوقوف ماشيا وراكبا وأما الأفضل فيختلف باختلاف أحوال الناس فإن كان ممن إذا ركب راه الناس لحاجتهم إليه أو كان يشق عليه الوقوف وقف راكبا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف راكبا وهكذا الحج فإن من الناس من يكون حجه راكبا أفضل ومنهم من يكون حجه ماشيا أفضل وقال ابن القيم التحقيق ان الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة من تعليم المناسك والاقتداء به وكان أعون على الدعاء ولم يكن فيه ضررعلى الدابة
(حتى غربت الشمس) وفيه وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وهو بيان لقوله غربت الشمس فإنه قد يطلق على مغيب معظم القرص فأزال الاحتمال والجمهور على استمراره بها إلى الغروب وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وأحمد وأوجبوا دما على من لم يستمر بها إلى أن تغرب الشمس وشدد مالك فقال إن لم يرجع فاته الحج لكن قال ابن عبد البر لانعلم أحدا من العلماء قال بقوله
(وله عنه مرفوعا وقفت ههنا) أي عند الصخرات المفروشة المبني بها مسجد وجبل الرحمة عن يمينك (وعرفه كلها موقف) أي جميع أجزائها ومواضعها ووجوه جبالها موقف

(2/465)


للحاج يصح الوقوف فيها إجماعا ويكون من وقف بها قد أتى بسنة الخليل وإن بعد موقفه عن موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي السنن أن يزيد بن شيبان كان في مكان من الموقف بعيد من موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كونوا على مشاعركم هذه أي مواضع نسككم ومواقفكم القديمة
وتقدم حدها من أربع الجهات إحداها جادة المأزمين والثانية حافات الحبل الذي وراء أرضها والثالثة إلى البساتين التي تلي قريتها على يسار مستقبل القبلة والرابع وادي عرنة قال الوزير وغيره اتفقوا على أن عرفات وما قارب الجبل كله موقف لهذا الخبر وأرسل للناس أن يكونوا على مشاعرهم ويقفوا بها فإنها من إرث أبيهم أبراهيم إلا ما كان من الحمس
(زاد ابن ماجه) عنه قال - صلى الله عليه وسلم - (وارفعوا عن بطن عرنة) لأحمد والبزار والطبراني من حديث حبير بن مطعم وارفعوا عن بطن عرنة وهو الوادي الذي يسيل فيه الماء إذا كان المطر وهي ثلاثة جبال وموضعها معروف ما بين العلمين الكبيرين من جهة عرفة والعلمين الكبيرين من جهة الحرم وليست عرنة ولا نمرة من عرفات ولا من الحرم وقال الوزير وابن المنذر وغيرهما بطن عرنة لايجزئ الوقوف فيه باتفاق الأئمة
(وعن ابن يعمر) هو عبد الرحمن يكنى أبا الأسود

(2/466)


الديلي صحابي سكن الكوفة ومات بخراسان (أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر مناديه) أي بأن ينادي في الناس (الحج عرفة) أي الحج الصحيح حج من أدرك يوم عرفة أو إدراك الحج وقوف عرفة أو ملاك الحج ومعظم أركانه وقوف عرفة لأن الحج يفوت بفواته قاله ثلاثا تأكيدا وذلك أن ناسا من أهل نجد أتوه وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديا ينادي في الناس بذلك وفي لفظ وأردف رجلا ينادي بهن (من جاء ليلة جمع) أي ليلة المبيت بمزدلفة سميت جمعا (قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج
وفي لفظ فقد تم حجه أي لم يفته وأمن من الفساد (رواه الخمسة) قال الترمذي قال سفيان العمل على حد يث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن من لم يقف بعرفات قبل الفجر فقد فاته الحج ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما وقال وكيع هذاالحديث أم المناسك ولأن الوقوف ركن للعبادة فلم يتم بدونه كسائر أركان العبادات
(وفي لفظ) للخمسة من حديث عروة بن مضرس (فمن وقف بعرفة) أي حصل بها عالما بها أو جاهلا (ساعة من ليل أو نهار) وذلك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمزدلفة حيث خرج إلى الصلاة جئت من جبلي طئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عيه فهل لي من حج فقال

(2/467)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار
(فقد تم حجه) أي معظم حجه وهو الوقوف لأنه الذي يخاف عليه الفوات فدل الحديث على أن من وقف بعرفة ساعة من ليلة العيد أو نهار عرفة فقد تم حجه وأنه لا يختص الوقوف بما بعد الزوال بل وقته ما بين طلوع الفجر يوم عرفة وطلوعه يوم العيد لأن لفظ الليل والنهار مطلقان والجمهور أن المراد بالنهار ما بعد الزوال لأنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يقفوا إلا بعده ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله فكأنهم جعلوا هذاالفعل مقيدا لذلك المطلق وفيه وقضى تفثه أي أتى بما عليه من المناسك (وصححه الترمذي) وظاهر الحديث أنه يكفي الوقوف في جزء من أرض عرفة ولو في لحظة لطيفة في هذا الوقت وهو قول الجمهور
(وله عن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (خير الدعاء دعاء يوم عرفة) قال المزي بجر دعاء ليكون قول لا إله إلا الله خبرا (وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي) ولفظ الموطأ أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي وعند العقيلي أفضل دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) وله شواهد كلها ضعيفة.

(2/468)


وورد في فضلها أحاديث كثيرة. وروى عن علي وفيه اللهم أشرح لي صدري ويسرلي أمري وإن شاء قال اللهم لك الحمد كالذي تقول وخيرا مما نقول الخ اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسواس الصدر الخ ذكره الترمذي وغيره اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي وغيره من الأدعية المشروعة قال الشيخ وغيره لم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفة دعاء ولا ذكرا بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية ويكبر ويهلل ويذكر الله حتى تغرب الشمس انتهى ويكثر الاستغفار والتضرع والخشوع وإظهار الضعف والا فتقار والتذلل وتفريغ الباطن والظاهر من كل مذموم.
فإنه موقف تسكب فيه العبرات وتقال فيه العثرات وهو أعظم مجامع الدنيا ويجتهد أن يقطر من عينه قطرات فإنها دليل الإجابة وعلامة السعادة كما أن خلافه علامة الشقاوة فإن لم يقدر على البكاء فليتباك وليكن على طهارة في هذا المشعر العظيم يوم الحج الأكبر فإنه إذافرغ قلبه وطهره طهر جوارحه واجتمعت الهمم وتساعدت القلوب وقوي الرجاء وعظم الجمع كان جديرا بالقبول فإن تلك أسباب نصبها الله مقتضية لحصول الخير ونزول الرحمة.
وإذا صادف يوم الجعة يوم عرفة اجتمع فضيلتان وفي اخر الجمعة ساعة الإجابة على الراجح فيكون له مزية على سائر الأيام قال الشيخ وغيره ويجتهد في الذكر والدعاء هذه

(2/469)


العشية فإنه ما رؤي إبليس في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ ولا أدحض من عشية عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر.
وروى أبو ذر الهروي عن أنس مرفوعا إن الله يباهي بهم الملائكة فيقول انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أقبلوا يضربون الحر وفي لفظ مناجين من كل فج عميق فاشهدوا أني قد غفرت لهم إلا التبعات التي بينهم وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ولأبي داود عن ابن عباس رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات يدعو ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين وينبغي أن يأتي بكثير من الأذكار تارة وتارة يكبر وتارة يسبح وتارة يقرأالقران وتارة يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتارة يدعو وتارة يستعيذ وليدع لنفسه ووالديه وأقاربه وأحبابه وسائر من أحسن إليه.
ويكرر الاستعفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب والتضرع والخشوع والتذلل وإظهار الضعف والافتقار ويلح في الدعاء وينبغي أن يكرر كل دعاء ثلاثا ويفتتح بالتحميد والتمجيد والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويختم بمثل ذلك ويصون نظره ويحفظ لسانه ويترك كل عمل ينافي الخشوع ولأحمد هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له.

(2/470)


فصل في الدفع إلى المزدلفة
أي في أحكام الدفع من عرفة إلى المزدلفة بعد أن تغيب الشمس ثم منها إلى منى بعد الأسفار قبل طلوع الشمس مخالفة للمشركين فإنهم كانوا يدفعون قبل أن تغيب الشمس فقال - صلى الله عليه وسلم - وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس مخالفا هدينا هديهم وقال في المزدلفة كذلك
قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} أي صدرتم ودفعتم {مِنْ عَرَفَاتٍ} فالإ فاضة دفع بكثرة من أفاض الماء أي صبه {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالدعاء والتلبية والتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} الآية من الشعيرة وهي العلامة لأن الصلاة والمبيت والدعاء عنده من معالم الحج وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى المحسر وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر الحرام وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن المشعر فسكت حتى هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة فقال هذا المشعر الحرام وكلها موقف إجماعًا
لكن الموقف عند قزح أفضل وهو جبل الميقدة وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم وقد بني عليه بناء وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء بالمشعر الحرام وتمام الآية واذكروه أي بالتوحيد والتعظيم كما هداكم أي كما أنعم به عليكم من الهداية والإرشاد إلى مشاعر الحج على ما كان عليه

(2/471)


الخليل ولهذا قال وإن كنتم من قبله لمن الضالين أي وما كنتم من قبله إلا من الضالين.
(قال جابر) رضي الله عنه في حديثه الطويل (ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي مضى وابتدأ السير والمراد انصرف من عرفة بعدما غربت الشمس متوجها إلى المزدلفة ولأبي داود عن علي دفع حين غابت الشمس وينبغي أن يكون على طريق المأزمين قال الشيخ وإذا غربت الشمس يخرجون إن شاءوا بين العلمين وإن شاءوا من جانبيهما والعلمان هما حدود عرفة فلا يجاوزونهما حتى تغرب الشمس وأما الميلان بعدهما فحد الحرم.
قال (وقد شنق) بتخفيف النون ضم وضيق (للقصواء الزمام) يعني الخطام وبالغ (حتى إن رأسها ليصيب مورك) بفتح الميم وكسر الراء مقدم (رحله) بالحاء المهملة وهو الموضع الذي يثني الراكب رجليه عليه قدام وسط الرحل إذا مل من الركوب وله عن الفضل عليكم السكينة وهو كاف ناقته (ويقول بيده اليمنى) أي يشير بها قائلا (أيها الناس السكينة السكينة) أي الزموا السكينة الزموا السكينة الطمأنينة والرفق ولأبي داود فإن البر ليس بإيجاف الإبل أي الإسراع في السير إبقاء عليهم لئلا يحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة.
(كلما أتى حبلا) تلا من تلال الرمل وهو ما طال منه

(2/472)


وضخم (أرخى لها) أي ناقته (قليلا حتى تصعد) بفتح المثناة وضمها يقال صعد وأصعد وفي لفظ حتى إذا أتى فجوة أسرع وحرك ناقته ولهما عن أسامة كان يسير العنق فإذاوجد فجوة نص وكان لا يقطع التلبية في مسيره (حتى إذا أتى المزدلفة) من الزلف وهو التقرب لأن الحاج إذا أفاضوا من عرفة ازدلفوا إلى منى أي تقربوا منها (فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين) لم يبدأبشيء قبلهما (ولم يسبح) أي يصل (بينهما شيئا) أي نافلة.
قال ابن المنذر لا اختلاف بين العلماء أن السنة الجمع بينهما لفعله - صلى الله عليه وسلم - رواه جابر وابن عمر وأسامة والسنة أن لا يتطوع بينهما بلا نزاع وللبخاري ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل أنسان راحلته في منزله خشية ما يحصل فيها من التشويش بقيامها ثم أقيمت العشاء فصلاها قال شيخ الإسلام وغيره فإذا وصلوا المزدلفة صلوا المغرب قبل تبريك الجمال إن أمكن ثم إذ بركوها صلوا العشاء وإن أخروا العشاء لم يضر ذلك اهـ. وإن صلوا المغرب بالطريق تركوا السنة وأجزأتهم لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز التفريق ومن فاتته الصلاة مع الإمام جمع ولو وحده لفعل ابن عمر ولأن كل جمع جاز مع الإمام جاز منفردا.
(ثم اضطجع) أي للنوم (حتى طلع الفجر) فيجب أن يبيت بها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها وقال (خذوا عني مناسككم)

(2/473)


قال الوزير وغيره أجمعوا على أنه يجب عليه أن يبيت بها جزءا من الليل في الجملة ألا مالكا فقال سنة ويتأكد المبيت والوقوف بمزدلفة بأمور منها قوله تعالى فاذكروا الله عند المشعر الحرام وقوله عليه الصلاة والسلام من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى نجفع وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارا تم حجه وغير ذلك وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المستفيض الذي خرج مخرج البيان للاية
وقال الشيخ وغيره السنة أن يبيت بها إلى أن يطلع الفجر فيصلي بها الفجر ثم يقف حتى يسفر اهـ. وفي رواية ثم رقد بعد الصلاة ولم يحي تلك الليلة قال ابن القيم وغيره ولا صح عنه في ليلتي العيدين شيء اهـ. وينبغي أن يجتهد تلك الليلة في الدعاء والتضرع فإنها ليلة عيد جامعة لأنواع الفضل من الزمان والمكان وأمر الله بذكره فيها (فصلى الفجر حين تبين له الصبح) وفي لفظ فصلى الفجر بغلس وهو اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل والمراد في أول الوقت (بأذان وإقامة) كما يفعل كل وقت
(ثم ركب) ناقته القصواء (حتى أتى المشعر الحرام) وهو الجبل الصغير المعروف بالمزدلفة ويقال له قزح وبه الميقدة يقف به الناس (فاستقبل القبلة) لأنها أشرف الجهات ويستحب استقبالها في كل طاعة إلا لدليل (فدعا الله) عز وجل في ذكل الموقف الجليل بما شاء وحمده (وكبره) أي قال الحمد الله والله

(2/474)


أكبر (وهلله ووحده) أي قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ونحو ذلك الخ في الدعاء والتضرع
(فلم يزل واقفا) يدعو ويهلل ويكبر ويقرأ فإذا افضتم من عرفات فاذكروا الله الآية ويلح في الدعاء ومنه اللهم كما وفقتنا للوقوف فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا كما وعدتنا بقولك فإذا افضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم افيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ويكثر من قول ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ويدعو بما أحب
ويختار الدعوات الجامعة ويكرر دعاءه وتقدم حديث المباهات بهم في عرفة وفيه قال ثم القوم أفاضوا من عرفات إلى جمع فقال جل وعلا يا ملائكتي انظروا إلى عبادي وقفوا وعادوا في الطلب والرغبة والمسألة اشهدوا أني قد وهبت مسيئهم لمحسنهم وتحملت التبعات التي بينهم قال جابر فلم يزل واقفا عند المشعر الحرام (حتى أسفر جدا) أي إسفارا بليغا وهو مذهب جمهور أهل العلم قال ابن عباس فلما أضاء كل شيء قبل أن تطلع الشمس أفاض وما روي عن مالك من الدفع قبل الإسفار لا يدفع به ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - (رواه مسلم) وحكى الطبري وغيره الإجماع على أن من لم يقف بها حتى طلعت

(2/475)


الشمس فاته الوقوف وأوجب بعضهم المبيت على غير سقاةورعاة ونحوهم ممن له عذر يبيح التخلف
(وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت استأذنت سودة) بنت زمعة القرشية (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة) يعني ليلة جمع وهي ليلة عيد النحر (أن تدفع قبله) أي إلى منى فترمي الجمرة قبل الزحمة (وكانت ثبطة) تعني ثقيلة من عظم جسمها فهي أول امرأة تزوج بها بعد خديجة وتوفيت في اخر زمن عمر رضي الله عنهما (فأذن لها) أي أن تد فع قبله فدل على جواز الدفع من مزدلفة قبل الفجر للعذر وهو مذهب جمهور العلماء
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة جمع (في الثقل) بفتحبين أي الأمتعة وفي لفظ في الضعفة أي من النساء والصبيان وغيرهم (من جمع بليل) يعني من مزدلفة إلى منى (متفق عليهما) قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم لم يروا بأسا أن يتقدم الضعفة من المزدلفة بليل يصيرون إلى منى لما فيه من الرفق بهم ودفع المشقة عنهم
قال الشيخ وغيره فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم فإنه يتعجل من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر ولا

(2/476)


ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر ويقفوا بها وقال ابن القيم وقول جماعة أهل العلم الذي دلت عليه السنة جواز التعجيل بعد غيبوبة القمر لا نصف الليل وليس مع من حده بنصف الليل دليل اهـ. ومغيبه عادة في الليلة العاشرة في الثلث الأخير وفي حديث اسماء في أول ثلث الليل الأخير.
(ولأبي داود عن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل بأم سلمة) رضي الله عنها ليلة النحر وهي ليلة جمع (فرمت قبل الفجر) فدل على جواز الرمي للنساء والضعفة قبل الفجر لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقرره فيجوز لمن له عذر وهو مذهب أحمد والشافعي (ثم مضت) أي نفذت (فأفاضت) أي دفعت إلى مكة فطافت طواف الإفاضة قال الحافظ وإسناده على شرط مسلم وقال البيهقي إسناده صحيح.
وفي الصحيحين عن اسماء أنها نزلت بجمع فقامت تصلي
ثم قالت هل غاب القمر قال مولاها نعم قلت فارتحلوا
فارتحلنا ومشينا حتى رمينا الجمرة ثم رجعت فصلت
الصبح في منزلها يعني بمنى فقلت يا هنتاه ما أرانا إلا قد
غلسنا قالت يا بني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن وأجازه
أحمد والشافعي كما أذن فيه - صلى الله عليه وسلم - للنساء والضعفة لئلا يتأذوا

(2/477)


بالزحام ولأحمد والنسائي أمر ضعفة بني هاشم أن يتعجلوا من جمع بليل.
قال ابن القيم وما روى أحمد وغيره عن ابن عباس أنهم رموها قبل الفجر قد روى هو وغيره حديثا أصح منه ولفظه أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس رواه الخمسة وفيه انقطاع وعلى كل تقدير فلا تعارض فإنه أمر الصبيان أن لا يرموا حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي أما من قدم من النساء فإن قيل رمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الرجال فقد يسوغ وأما القادر فلا يجوز له ذلك.
ويقول جماعة أهل العلم والذي دلت عليه السنة رمي القادر بعد طلوع الشمس قال ابن المنذر وغيره السنة أن لا يرمي إلا بببعد طلوع الشمس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز قبل طلوع الفجر لأن فاعله مخالف للسنة ومن رماها بعده فلا إعادة عليه إذلاأعلم أحدا قال لا يجزئه.
(وعن عمر) رضي الله عنه (قال إن المشركين كانوا لا يفيضون) أي لا يدفعون (من مزدلفة إلى منى حتى تطلع الشمس) وتكون كالعمائم على رؤوس الجبال (ويقولون أشرق) بفتح الهمزة فعل أمر من الإشراق أي أدخل (ثبير) في الشروق والمراد لتطلع عليك الشمس زاد أحمد وابن ماجه

(2/478)


وغيرهما كيما نغير. أي كي ندفع. وثبير جبل معروف على يسار الذاهب إلى منى. وهو أعظم جبال مكة.
(وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس رواه البخاري) وعن محمد بن قيس بن مخرمة قال خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال "إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حيث تكون الشمس كأنها عمائم الرجال على رءوسهم. قبل أن تغرب. ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حيث تكون كأنها عمائم الرجال على رؤوسهم. وأنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس. وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمسز هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك".
وأورد نحوه شيخ الإسلام محتجا به على تحريم موافقة المشركين. وفيه "خالف هدينا هدي المشركين" فإن أسفر جدا سن أن يدفع قبل طلوعها. ولا نزاع في استجابة. وعن ابن عباس "أفاض قبل طلوع الشمس" حسنه الترمذي.
(ولمسلم عن جابر فدفع) أي انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(قبل أن تطلع الشمس) يعني من مزدلفة إلى منى قال ابن
القيم الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة باتفاق المسلمين. وقال ابن المنذر وغيره جمهور أهل العلم يقولون
بظاهر هذا الحديث. وما ورد في معناه. وما ذكر من رأي مالك أن يدفع قبل الإسفار مردود بالنصوص. وللخمسة وصححه

(2/479)


الترمذي عنه أفاض من جمع. وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة.
(حتى أتى بطن محسر) وهو واد بين مزدلفة ومنى برزخ بينهما. وليس من المشعرين. سمي بذلك لأنه يحسر سالكه. وقيل لأن أصحاب الفيل حسروا فيه أو الفيل. ويسميه أهل مكة وادي النار (فحرك قليلا) أي أجرى ناقته قليلا لتسرع في المشي. وللخمسة عنه "أوضع في وادي محسر". أي أسرع السير فيه.
قال ابن اليم وغيره والإسراع في وادي محسر سنة. نقلها طوائف عنه - صلى الله عليه وسلم -. فيسن إسراع الماشي وتحريك الراكب دابته فيه لأنه محل غضب الله فيه على أصحاب الفيل. فلا ينبغي الإناءة فيه. ولا البقاء به وكذلك كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - في المواضع التي نزل بها بأس الله بأعدائه وفيه الحث على المراقبة عند المرور. والخوف والبكاء والاعتبار بمصارع أولئك وأن يستعيذ بالله من ذلك. والإسراع المسنون قدر رمية حجر.
(ثم سلك الطريق الوسطى) وهي غير التي ذهب فيها إلى عرفات فهو سنة. ليخالف الطريق تفاؤلا بتغير الحال. كدخول مكة من أعلاها. والخروج من أسفلها. والطريق التي هي الوسطى هي (التي تخرج على الجمرة الكبرى) آخر الجمار من ناحية منى وأقربها إلى مكة. وقد صارت علما على العقبة التي يرمى

(2/480)


عندها الجمرة. وليست من منى. والجمرة واحدة الجمار. وهي في الأصل الحصاة. ثم سمي الموضع الذي ترمى فيه الحصيات السبع جمرة. وتسمى الحصيات السبع جمرة أيضا. تسمية للكل باسم البعض.
(فرماها) أي الجمرة الكبرى (بسبع حصيات) متعاقبات واحدة بعد واحدة. ولهما من حديث ابن عمر أنه رماها بسبع حصيات. وقال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. وقال الوزير وغيره أجمعوا على وجوب رمي جمرة العقبة يوم النحر خاصة بسبع حصيات. وقال ابن الماجشون هو ركن لا يتحلل إلا به كسائر الأركان. وقال عليه الصلاة والسلام "إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله".
وذكر غير واحد من أهل التفسير أنها من شعائر الله. وسئل سعيد بن منصور عنها فقال الله ربكم تكبرون. وملة أبيكم تتبعون. ووجه الشيطان ترمون. وسببه رمي الخليل عليه السلام الشيطان الذي كان رآه في تلك المواضع (يكبر مع كل حصاة منها) ولا نزاع في استحبابه. والبداءة به. لأنه بدأ به. ولأنه تحية مني. فلم يتقدمها شيء كالطواف بالبيت. وكان ابن عمر وابن مسعود يقولان: اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا.
(كل حصاة مثل حصى الخذف) بقدر حبة الباقلاء. قال

(2/481)


الشيخ وغيره بين الحمص والبندق دون الأنملة طولا وعرضا قال الترمذي وهو الذي اختاره أهل العلم أن تكون الجمار مثل حصى الخذف. ويكره بهيئة الخذف للنهي الصحيح عنه الشامل للحج وغيره. ولا تجزئ صغيرة جدا. ولا كبيرة (رمى من بطن الوادي) مستقبلا للجمرة. وعند بعض أهل العلم وجوبه. وإنه لا يجوز من أعلى الجبل والأكثر أنه جائز. وخلاف السنة.
قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم يختارون أن يرمي الرجل من بن الوادي. وقد رخص بعض أهل العلم إن لم يمكنه أن يرمي من بطن الوادي رمى من حيث قدر عليه قال ابن الهمام ثبت أنه رمى خلق كثير من الصحابة من أعلاها. ولم يؤمروا بالإعادة. وحكي أن الرمي واجب إجماعا. وإن في تركه أو بعضه دم ويأتي (ثم انصرف إلى المنحر فنحر) فيه هديه قرب منزله عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف.
فمنحره عند الجمرة الأولى بينها وبين الوسطى على يمين الصاعد إلى عرفة. عنده مسجد صغير بقرب دار المنحر المعروفة الآن ومنزله بين منحره ومسجد الخيف وقال "نحرت ههنا ومنى كلها منحر. فانحروا في رحالكم" أي فلا تتكلفوا النحر في موضع نحري بل يجوز لكم النحر في منازلكم. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه أي موضع نحر فيه من الحرم أجزأه إلا مالكا فقال لا ينحر في الحج إلا بمنى. ولا في العمرة إلا بمكة.

(2/482)


وثبت من حديث أنس وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى منى فأتى الجمرة فرماها. ثم أتى منزله بمنى ونحر. وعليه إجماع المسلمين. وقال ابن رشد النحر بمنى إجماع من العلماء. قال الشيخ. وكل ما ذبح بمنى وقد سيق من الحل إلى الحرم فإنه هدي سواء كان من الإبل أو البقر أو الغنم ويسمى أيضا أضحية. بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل فإنه أضحية وليس بهدي. وليس بمنى ما هو أضحية وليس بهدي. كما في سائر الأمصار. وقال ابن القيم هدي الحاج بمنزلة الأضاحي للمقيم. ولم ينقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية. بل كان هديهم هو أضاحيهم. فهو هدي بمنى وأضحية بغيرها.
(وله) أي لمسلم (عن الفضل) بن العباس بن عبد المطلب ابن هاشم ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكبر أولاد العباس. وبه يكنى أبوه وأمه. مات في طاعون عمواس. كان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دفع من مزدلفة. قال (حتى إذا دخل) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (منى) من مزدلفة وفي لفظ محسرا (قال عليكم بحصى الخذف) أي حصى الرمي. والمراد الحصى الصغار الذ يرمي به الجمرة. والتي لقط: هن حصى الخذف. فوضعهن في يده. وجعل يقول بهن في يده "بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو".
ولابن ماجه عنه قال لي وهو على ناقته القصواء "القط لي" قال فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف. وللبيهقي وغيره قال الفضل حتى إذا دخل منى فهبط حين هبط محسرا.

(2/483)


قال "عليكم بحصى الخذف الذي ترمى به الجمرة" وهو يشير بيده كما يحذف الإنسان. وفي رميه اقتداء بالخليلين. وطلب للفضل العظيم المرتب عليه.
وقال غير واحد لم يثبت أخذه - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه من غير منى. وإن لم يرد التصريح به فهو كالظاهر. وروي عن ابن عمر وغيره أنه كان يأخذ الحصى من جمع. وثابر بعض العوام عليه حتى التقطه قبل الصلاة. قال الشيخ ولا يرمي بحصى قد رمي به. والتقاط الحصى أفضل من تكسيره من الجبل.
(ولهما عن أسامة) والفضل بن العباس رضي الله عنهم قالا (ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة) أي حتى شرع في رمي جمرة العقبة. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يرمي الجمرة. ورواه حنبل قطع عند أول حصاة. وقال الطحاوي وغيره جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آثار متواترة بتلبيته بعد عرفة. إلى أن رمى جمرة العقبة.
وقال الشيخ فإذا شرع في الرمي قطع التلبية. فإنه حينئذ يشرع في التحلل. وهكذا صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ولا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر. مثل ذهابه إلى عرفات. وذهابه منها إلى مزدلفة. حتى يرمي جمرة العقبة. وتقدم "يهل منا المهل فلا ينكر عليه ويكبر المبكر فلا ينكر عليه". والمراد قبل رميها.

(2/484)


(ولهما عن ابن مسعود جعل - صلى الله عليه وسلم -) حال رميه جمرة العقبة (البيت) أي الكعبة (عن يساره ومنى عن يمينه) وفيهما عنه أنه استقبل الجمرة حالة الرمي. وهذا مذهب جمهور أهل العلم. وقال الشيخ يرميها مستقبلا لها يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه هذا هو الذي صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. ولا نزاع يعتد به في استحبابه (ورمى بسبع) أي سبع حصيات. وأجمعوا على وجوبه بها.
ولا يجزئ الوضع فقط من غير رمي أو طرح لأنه خلاف الوارد. ولا يسمى رميا. ولا في معنى الرمي الذي هو مجاهدة الشيطان بالإشارة إليه بالرمي الذي يجاهد به العدو. ولا يجزئ دفعة واحدة إلا عن واحدة عند جمهور أهل العلم لفعله - صلى الله عليه وسلم - ويستحب رفع يده حتى يرى بياض إبطه لأنه أعون على الرمي وأمكن لحصولها في المرمى. وهو مجتمع الحصى والشاخص وضع علما على الجمرة. وإذا وقع الرمي قريبا من الجمرة جاز. ولا يقف عند جمرة العبة بعد رميها إجماعا لضيق المكان. وعدم مشروعية الوقوف عندها.
(ولمسلم عن أنس فنحر - صلى الله عليه وسلم -) بدنه. وكانت مائة. كما في الصحيحين وغيرهما. ولمسلم عن جابر فانصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده. ثم أعطى عليا فنحر ما غبر. أي ما بقي من المائة. ومنحره عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد (ثم قال للحلاق) معمر بن عبد الله بن نافع بن نضلة القرشي

(2/485)


العدوي رضي الله عنه (خذ) أي احلق شعر رأسي.
(وأشار إلى جانبه الأيمن) فيسن البداءة به وللأمر بالبداءة باليمين في نحوه وهو مذهب الجمهور. ولأبي داود فأخذ شقه الأيمن فجعل يقسمه بين من يليه. وفي لفظ قال "ههنا أبو طلحة" فدفع النصف إليه وفي لفظ فقال اقسمه بين الناس (ثم الأيسر) أي ثم أشار إلى شقه الأيسر ليحلقه فحلقه. وفيه وجعل يعطيه الناس. ويستحب أن يستقبل القبلة لكونه طاعة. وذكر الموفق وغيره ويكبر لأنه نسك. ولا يتشارط على أجرته. ونقل عن بعض الأئمة أنه قال أخطأت في حلق رأسي في خمس علمنيها حجام بمنى قلت بكم تحلق قال النسك لا يشارط عليه فجلست فقال حول وجهك إلى القبلة. وقال أدر اليمين وكبر. فلما فرغت قال صل ركعتين فقلت من أين لك قال رأيت عطاء يفعله. والأربعة الأول هي فعل السلف.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال اللهم اغفر للمحلقين) وفي لفظ "ارحم المحلقين" أي الذين حلقوا رؤوسهم في حج أو عمرة عند الإحلال منهما. وتقدم أن الأفضل للمتمتع التقصير في العمرة ليوفره إلى الحل من الحج (قالوا يا رسول الله والمقصرين) أي قال السامعون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قل
واغفر للمقصرين. وهو من عطف التلقين. أوقال ويرحم المقصرين. وقالوا فما بال المحلقين ظاهرت لهم الرحمة قال "لم يشكوا". أي عاملوا معاملة من لم يشك. فإن من بادر

(2/486)


إلى الحق في الحديبية أسرع إلى الامتثال (قال في الثالثة والمقصرين متفق عليه).
وظاهره أنه دعا للمحلقين مرتين. وعطف المقصرين في الثالثة. وفيه روايات أنه دعا للمحلقين ثلاثا. ثم عطف المقصرين. وذكر النووي أن هذا الدعاء في حجة الوداع وقيل في الموضعين. قال ولا يبعد ذلك ففيه أن الحلق أفضل من التقصير. وهو إجماع. لتكريره الدعاء للمحلقين في الأولى والثانية. مع سؤالهم له ذلك. ولأن المقصود قضاء التفث وهو بالحلق أتم فكان أولى. ولأنه أبلغ في العبادة وأدل على صدق النية.
وفيه مشروعية الحلق أو التقصير وأنهما عبادتان مقصودتان ليستا مجرد استباحة محظور. مع قوله "فليقصر ثم ليتحلل" وأنهما نسك وهو مذهب جماهير العلماء. قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ويجزئ القصير قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم يرون أن يحلق رأسه. وإن قصر يرون ذلك يجزئ اهـ. ـ. ويجب عند الجمهور استيعابه بالحلق أو التقصير قال ابن الهمام ومقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك وهو الذي أدين الله به. قال مالك ولا يخرج منه الا بالاستيعاب.
وحكى النووي الإجماع على حلق الجميع والمراد إجماع

(2/487)


الصحابة والسلف ولم يحفظ عنه ولا عن أحد من أصحابه الاكتفاء بحلق بعض شعر الرأس. وتقدم النهي عنه. وقال الشيخ وإذا قصر: جمع الشعر وقصر منه بقدر الأنملة أو أقل أو أكثر اهـ. والمراد من مجموع شعره لا من جميعه. فلا يجب من كل شعره بعينها. وبأي شيء حلق أو قصر أجزأ. لكن السنة بالموسى ونحوه.
وذكر الجمهور إمرار الموسى على رأس من عدم الشعر. وقال أهل التحقيق شيخنا وغيره: إذا سقط ما وجب لأجله سقط الحلق. وإمرار الموسى عبث وقد حل. وينبغي أن يأخذ من شاربه ليكون قد وضع من شعره شيئا لله. وكذا ينبغي أن يأخذ من ظفره وعانته وإبطه. قال ابن المنذر صح أنه - صلى الله عليه وسلم - لما حلق رأسه قلم أظفاره. ولأنه من التفث فيستحب قضاؤه.
(ولأبي داود) وكذا الدارقطني وحسنه الحافظ (عن ابن عباس مرفوعا ليس على النساء حلق) ولأبي داود وضعفه من حديث عائشة نحوه. أي لا يجب عليهن الحلق في التحلل وهو إجماع (إنما على النساء التقصير) أي إنما شرع لهن التقصير. وحكى الحافظ وغيره إجماع العلماء على أنه ليس على النساء حلق وإنما عليهن التقصير.
ونقل أبو داود وغيره تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطرافه قدر أنملة. قال الشيخ ولا تقصير أكثر من ذلك.

(2/488)


وللترمذي وغيره عن علي "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها" قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم لا يرون على المرأة حلقا ويرون أن عليها التقصير ولأن الحلق مثلة في حقهن. ومثلهن الرقيق. ولا يحلق إلا بإذن سيده.
(وللخمسة) وغيره (عنه) أي: عن ابن عباس (مرفوعا) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وحسنه في البدر المنير (إذا رميتم الجمرة) يعني جمرة العقبة يوم العيد فقد حل لكم كل شيء إلا النساء. وتكلم فيه بعضهم وللحاكم عن ابن الزبير نحوه. وللنسائي من حديث ابن عمر إذا رمى وحلق. ولأحمد عن عائشة إذا رميتم (وحلقتم) أي شعر رؤوسكم. أو قصرتم من شعرها. وفي الفروع وغيره الأصح أن الحلاق والتقصير لا ينوب عنه غيره. ولا يتحلل إلا به (فقد حل لكم كل شيء) أي كان محظورا بالإحرام.
(وإلا النساء) وفي بعض هذه الأخبار "والطيب" وثبت أن عائشة قالت طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت وحكي إجماعا. وهو قول الجمهور. وقال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحرو ذبح وحلق أو قصر فقد حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء. وقال الشيخ فإذا رمى وحلق أو قصر فقد تحلل باتفاق المسلمين. التحلل

(2/489)


الأول. فيلبس الثياب ويقلم أظفاره. وكذلك له على الصحيح أن يتطيب ويتزوج ويصطاد يعني خارج الحرم. ولا يبقى عليه من المحظورات إلا النساء.
وفي المبدع والأكثر على أنه لا يحصل التحلل الأول إلا بالرمي والحلق أو التقصير. لأمره - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي أن يطوف ويقصر ثم يحل. ودل الحديث على أنه بمجموع الأمرين يحل كل محرم على المحرم إلا النساء. فلا يحل وطؤهن إلا بعد طواف الإفاضة إجماعا. وحكى الوزير وغيره اتفاقهم علىن للمحرم تحليلين: أولهما رمي جمرة العقبة. وآخرهما طواف الإفاضة.
(وعن عبد الله بن عمرو) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع يوم النحر بعد الزوال. وهو على راحلته. يخطب الناس عند الجمرة (قال) عبد الله (فجعلوا يسألونه فقال رجل) قال الحافظ لم أقف على اسمه (لم أشعر) أي لم أفطن ولم أعلم ترتيب أعمال الحج (فحلقت قبل أن أذبح) أي الهدي (قال اذبح ولا حرج) أي لا إثم ولا فدية (وقال آخر لم أشعر فنحرت) أي الهدي (قبل أن أرمي) يعني جمرة العقبة (فقال ارم ولا حرج).
وفي رواية وأتاه رجل فقال حلقت قبل أن أرمي قال "ارم ولا حرج" وأتاه آخر فقال أفضت إلى البيت قبل أن أرمي قال

(2/490)


"قال ارم ولا حرج" وجاء بألفاظ من غير وجه. قال عبد الله "فما سئل يومئذ) أي يوم النحر حال خطبته الناس (عن شيء قدم) من الأربعة الرمي والنحر والحلق والطواف (ولا آخر) منها يعني الأربعة (إلا قال افعل) ما بقي منها. أو ما فعلته منها. مقدما له أو مؤخرا له (ولا حرج) أي لا ضيق ولا إثم ولا فدية. فقوله لا حرج يقتضي رفع الإثم والفدية معا. ومعناه افعل ما بقي عليك وقد أجزأك ما فعلته. ولا حرج عليك في التقديم والتأخير. ونفي الحرج نفي للضيق (متفق عليه) قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم.
وقال الموفق والشارح لا نعلم خلافا أن الإخلال بالترتيب لا يخرج هذه الأفعال عن الأجزاء. وترتيب أفعال يوم النحر الأربعة رمي جمرة العقبة. ثم الذبح. ثم الحلق. ثم طواف الإفاضة. هو فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته ففي الصحيحين أنه أتى منى فأتى الجمرة فرماها. ثم أتى منزله بمنى فنحر. وقال للحلاق خذ. ولا نزاع في هذا للحاج مطلقا. وسنة إجماعا. وقيل واجب. والحديث يدل على جواز تقديم هذه الأمور الأربعة بعضها على بعض. وحكي إجماعا. إلا أنه اختلف في وجوب الدم في بعض المواضع.
وجمهور أهل الحديث والفقهاء على الجواز وعدم وجوب الدم. لأن قول الشارع لا حرج مقتض لرفع الإثم. والفدية معا. لأن المراد بنفي الحرج نفي الضيق. وإيجاب الدم ضيق.

(2/491)


ولو كان واجبا لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص وينبغي للإمام أن يخطب يوم النحر بمنى لهذا الخبر ولقول ابن العباس "خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر" رواه البخاري. وعن نافع عن ابن عمر "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حيث ارتفع الضحى" ولأبي داود "فطفق يعلمهم مناسكهم" وهو يوم الحج الأكبر. لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ولأبي داود "افضل الأيام عند الله يوم النحر" فهو أفضل أيام العام. ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. وليس بمنى صلاة عيد بل رمي الجمرة لهم كصلاة العيد لأهل الأمصار.

فصل في الإفاضة
يعني من منى لطواف الإفاضة. ويسمى طواف الصدر. لأنه يصدر إليه من منى. وطواف الفرض لتعينه. وطواف الركن عند أهل الحجاز. وطواف يوم النحر وغير ذلك. والإفاضة الدفع في السير. وأصلها الصب فاستعير للدفع في السير. وأصله افاض نفسه أو راحلته.
قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي ليزيلوا أدرانهم وأوساخهم. والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق وقص الشارب ونتف الإبط وقلم الأظفار والاستحداد. وليس الثياب. أو مناسك الحج كلها {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي حجهم

(2/492)


أو نذر الحج والهدي. وما ينذره الإنسان من شيء يكون في الحج أي ليتموها بقضائها {وَلْيَطَّوَّفُوا} طواف الإفاضة الطواف الواجب {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} سمي عتيقا لأنه أول بيت وضع للناس. أو لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه. وروي مرفوعا. وذكره تعالى بصيغة المبالغة لأنه ركن الحج. ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق. والأطواف ثلاثة طواف القدوم وتقدم. وطواف الإفاضة يوم النحر ركن الحج. وطواف الوداع ويأتي.
(وعن عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما قال: (وأفاض) أي ذهب (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مسرعا من منى إلى البيت يوم النحر بعد أن رمى ونحر وحلق "فطاف" أي سبعة أشواط (بالبيت) طواف الإفاضة. وهو طواف الفرض. فيعينه بالنية. ولهما عن ابن عمر. أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر وثبت عن عائشة وغيرها. فيسن طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق أول النهار. لما تواتر من فعله - صلى الله عليه وسلم -. وله تأخيره عن أيام منى.
وقال الشيخ ينبغي أن يكون في أيام التشريق. فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع اهـ. ومذهب أحمد والشافعي أن آخره غير مؤقت. وعند أبي حنيفة أيام التشريق ومالك ذي الحجة. والتعجيل أفضل إجماعا. ولا شيء عليه في تأخيره عند

(2/493)


الجمهور. وثبت أن من لم يطف طواف الإفاضة لم يحل له أن ينفر حتى يطوف. وهو إجماع. وحكى النووي وغيره الإجماع على ان هذا الطواف وهو طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به وكذا الإحرام والوقوف. قال ابن القيم وغيره هذه الثلاثة أركان الحج باتفاق المسلمين.
(ثم حل من كل شيء) من محظورات الإحرام (حرم منه) بالإحرام حتى الوطء إجماعا (رواه مسلم) وهذا هو التحلل الثاني الذي يعود المحرم به حلالا من لبس وطيب ووطء وغير ذلك مما حرم عليه بالإحرام. ولهما عن ابن عمر قال "لم يحل النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء حرم عليه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر فأفاض بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه"وعن عائشة نحوه متفق عليهما. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن التحلل الثاني يبيح محظورات الإحرام جميعها ويعود المحرم حلالا. ومرادهم أن الحل متوقف على السعي إن كان ركنا أو قيل بوجوبه.
(وله عن جابر لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه) أي في حجهم وعمرتهم (بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول)
أي مع طواف القدوم. فيجزئ عند جمهور العلماء إلا أبا حنيفة في القارن. وقال أحمد في المتمتع إن طاف طوافا واحدا
فلا بأس وإن طاف طوافين فهو أعجب إلي. وعنه فهو أجود

(2/494)


وواحدا فلا بأس. قال الشيخ وهذا منقول عن غير واحد من السلف.
وعن أحمد يجزئ سعي واحد. وقال أيضا إن طاف طوافا وحدا فهو أعجب إلي واحتج بحديث جابر. فلأبي داود عن جابر قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربع ليال خلون من ذي الحجة فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة قال "اجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي" فلما كان يوم التروية أهل بالحج فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة. قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه بنحوه مختصرا ومطولا. قال ابن القيم وفيه اكتفاء المتمتع بسعي واحد كما تقدم.
وقال ابن عباس يجزئ طواف بين الصفا والمروة. واختاره الشيخ. وقال هو أصح أقوال جمهور العلماء. وأصح الروايتين عن أحمد. فإن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطوفوا بني الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف. وفي صحيح مسلم عن جابر لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا. وأكثرهم كانوا متمتعين. وحلف على ذلك طاووس. وثبت مثله عن ابن عمر وابن عباس وغيرهم. وهم أعلم الناس بحجه - صلى الله عليه وسلم -. قال ولم ينقل أن أحدا منهم طاف وسعى ثم طاف وسعى. ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فلما لم ينقله أحد علم أنه لم يكن.

(2/495)


وعمدة من قال بالطوافين ما روى أهل الكوفة عن علي وابن مسعود. وعن علي أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد خلاف ما رواه عنه أهل الكوفة. قال ابن حزم وما روي في ذلك عن الصحابة لم يصح منه ولا كلمة. قال الشيخ فإذا اكتفى المتمتع بالسعي الأول أجزأه كما يجزئ المفرد والقارن وهو الذي ثبت في صحيح مسلم عن جابر. وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا طوافين. لكن هذه الزيادة قيل إنها من قول الزهري وقد احتج بها بعضهم وهذا ضعيف. والأظهر ما في حديث جابر.
ويؤيده "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" فالمتمتع من حين أحرم بالعمرة دخل بالحج لكنه فصل بتحلل ليكون أيسر على الحاج. وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة. وقال ابن القيم هذه اللفظة يعني أنهم طافوا طوافا آخر قد قيل إنها مدرجة في الحديث من كلام عروة اهـ. ولأنه لا يستحب التطوع بالسعي كسائر الأنساك. قال في المبدع بغير خلاف أعلمه. وقال النووي يكره ولا نزاع فيه في حق المفرد.
والجمهور أن السعي ركن وهو مذهب الشافعي وأحمد والمشهور عن مالك لفعله - صلى الله عليه وسلم - وقال "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" رواه أحمد. ولأنه نسك في الحج والعمرة فكان ركنا فيهما كالطواف. وقالت عائشة ما أتم الله حج من لم يطف بين

(2/496)


الصفا والمروة. واختيار الموفق وغيره أنه واجب وليس بركن فيجبره بدم لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لا على أنه لا يتم الحج إلا به.
(وله) من طريق مجاهد (عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها) وكانت تطهرت بعرفة. ومن رواية طاووس أنه قال لها يوم النفر (طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك) وهو مذهب الجمهور. وثبت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. ولدخول العمرة في الحج فلا تحتاج إلى عمل آخر غير عمله.
(وعن جابر) في حديثه الطويل (ثم أتى إلى بني عبد المطلب) وهم أولاد العباس (وهم يسقون) على زمزم لأن سقاية الحاج كانت وظيفتهم. فقال "انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم" ولما نزلت (أجعلتم ساقية الحاج) الآية قال العباس: ما أراني إلا أني تارك سقايتنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا (فناولوه) أي أعطوه (دلوا فشرب منه رواه مسلم) وذكر الواقدي وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - لما شرب صب على رأسه. وجاء أنه شرب وهو قائم فلا بأس به.
(ولأحمد عن ابن عباس مرفوعا ماء زمزم) سميت بذلك لكثرة مائها. أو ضم هاجر له حين انفجرت وزمها إياه

(2/497)


(لما شرب له) أي ينفع الشارب لأي أمر شرب لأجله. سواء كان من أمور الدنيا أو الآخرة لأن ما في قوله "لما شرب له" من صيغ العموم. والحديث أخرجه ابن ماجه وابن أبي شيبة وغيرهم. وصححه المنذري وحسنه الحافظ. وفيه دليل على استحباب الشرب منها. والتظلع منه. وللدارقطني عن ابن عباس مرفوعا "ماء زمزم لما شرب له. إن شربته تستشفي به شفاك الله. وإن شربته يشبعك أشبعك الله به. وإن شربته لقطع ظمئك قطعة الله" ولمسلم من حديث أبي ذر "إنها طعام طعم" أي تشبع شاربها كالطعام ولأبي داود: "وشفاء سقم".
ولابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا "أن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتظلعون من ماء زمزم" وقال ابن عباس إذا شربت من زمزم فاستقبل القبلة. واذكر اسم الله وتنفس وتظلع منه.
فإذا فرغت فاحمد الله. ويقول إذا شرب اللهم اجعله لنا علما نافعا وزرقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء. واغسل به قلبي واملأه من خشيتك وحكمتك. وروي عن عكرمة وغيره. لأنه لائق بالمحلل. وشامل لخير الدنيا والآخرة. فيرجى حصوله.

(2/498)


فصل في أيام منى
أي في أحكام ما يفعله الحج من أعمال الحج بمنى أيام التشريق. كرمي الجمار والمبيت وغير ذلك.
(عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر) أي طاف بالبيت طواف الإفاضة كما تقدم (ثم رجع) أي من مكة (فصلى الظهر بمنى متفق عليه) قال ابن القيم وهو أظهر مما رواه جابر وعائشة لوجوه. منها أنه - صلى الله عليه وسلم - لوصلىلظهر بمكة لم تصل الصحابة بمنى وحدانا. ولم يكن لهم بد من نائب عنه. ولم ينقل. وأنه لو صلى بمكة كان صلى خلفه أهل البلد وهم مقيمون. ومنها أن حديث ابن عمر متفق على صحته اهـ.
وثبت من غير وجه أنه مكث بها ليالي أيام التشريق. ومذهب الجمهور على أن المبيت بها واجب. وأنه من جملة مناسك الحج. قال الشيخ والسنة أن يصلي بالناس بمنى. ويصلي خلفه أهل الموسم. ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى. وهو مسجد الخيف مع الإمام. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر. وعمر كانوا يصلون بالناس بمنى قصرا بلا جمع ويقصر الناس كلهم خلفهم أهل مكة وغير أهل مكة. فإن لم يكن للناس إمام عام صلى الرجل بأصحابه. والمسجد بني بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على عهده بناء. وإنما أول من بناه المنصور العباسي.

(2/499)


(ولهما عنه) رضي الله عنه (قال استأذن العباس) عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان له سقاية الحاج (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة) أي يمكث فيها. يسمى بائتا وإن لم ينم (ليالي منى) أي الليالي الثلاث الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة (من أجل سقايته) يعني من ماء زمزم. فإنهم كانوا يغترفونه بالليل. ويجعلونه في الحياض سبيلا. (فأذن له) في المبيت بمكة لأجل السقاية. وهي مصدر كالسعاية والرعاية والحماية.
وكان العباس يلى ذلك فى الجاهلية وقام الإسلام وهى بيده وأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه فكانت له ولآله أبدا فمن قام بها فالرخصة له لهما عن ابن عباس نحوه فدل الحديث على انه يجب المبيت بمنى ليلة ثانى النحر وثالثه وكذا رابعه على لمن غربت عليه الشمس بها إلا لمن له عذر السقاية وكذا الرعاية وحفظ مال وعلاج مريض ونحو ذلك عند الجمهور.
وقال ابن القيم يجوز للطائفتين يعنى السقاة والرعاة ترك المبيت بالسنة إذا كان قد رخص لهم فمن له مال يخاف ضياعه أو مريض يخاف من تخلفه عنه أوكان مريضا لا تمكنه البيتوتة سقطت عنه بتنبيه النص على السقاة والرعاة.
(وللبخارى عنه) يعنى ابن عمر رضى الله عنهما (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا) تأنيث الأدنى ومعناه الأقرب وهى التى يبدأ بها فى الرمى ثاني يوم النحر وتلي مسجد الخيف.

(2/500)


سميت الدنيا لقرها من مسجد الخيف وهى أبعدهن عن مكة (بسبع حصيات) متعاقبات واحدة بعد واحدة إجماعأ يرفع يده حتى يرى بياض إبطه (يكبرمع كل حصاة) أي يقول بسم الله والله أكبر وقال الشيخ وغيره وإن شاء قال اللهم اجعله حجا مبرورا. الخ.
(ثم يتقدم) امامها ويجعلها عن يساره (فيسهل) أى يصبر أقرب إلى السهل من الأرض وهو المكان المستوي الذي لا ارتفاع فيه (فيقوم مستقبل القبلة) ولا يكون كذلك إلا يجعلها عن يساره (ثم يدعو ويرفع يديه) أى فى الدعاء عند الجمرة اتفاقا إلا ما روى عن مالك (ويقوم طويلا) يدعو الله عز وجل ويثنى عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويأتي انه بقدر سورة البقرة.
(ثم يرمي) الجمرة (الوسطى) مثل الأولى بسبع حصيات ويتأخرقليلا (ثم يأخذ ذات الشمال) أى يمشي إلى جهة شماله ليقف داعيا فى مكان لايصيبه الرمل ويجعل الجمرة عن يمينه (فيسهل) أى يصير إلى بطن الوادى (فيقوم مستقبل القبلة) لأنها اشرف الجهات (ثم يدعو) الله عز وجل (ويرفع يديه) اتفاقا كما تقدم إلا عن مالك (ويقوم طويلا) يحمد الله وثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفسره ما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح أنه بقدر سورة البقرة فى كل واحدة منهما وجزم به الشيخ وغيره لهذا الخبر وغيره.

(2/501)


قال ابن القيم ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو قريبا من وقوفه الأول فتضمن حجه ست وقفات للدعاء على الصفا والمروة وبعرفة ومزدلفة وعند الجمرتين وإن ترك الوقوف عندهما والدعاء فقد ترك السنة ولاشيء عليه وشرع الذكر عند هذه الأفعال لأنها أفعال تعبدية ولا تظهر فيها العبادة فأمر بالذكر فيها ليكون شعارا لها (ثم يرمي جمرة العقبة) كذلك بسبع حصيات كما تقدم (من بطن الوادي) مستقبلا لها والعمل عليه عند أهل العلم وبعضهم يرى وجوبه لثبوته من طرق متعددة (ولا يقف عندها) قال الحافظ وغيره لا نعلم فيه خلافا.
والحديث دليل على مشروعية رمي الجمار الثلاث كل واحدة بسبع حصيات أيام التشريق وهو واجب إجماعا وحكاه الوزير اتفاقا ولم ينازع فى وجوبه من يعتد بقوله ويجب الترتيب عند الجمهور إلا أبا حنيفة فسنة عنده فإن نكسه لم يعتد إلا بالأولى ويأتي بما يليها وفيه مشروعية الوقوف عند الجمرتين الأوليين دون جمرة العقبة ومشروعية الدعاء عندهما وقال الموفق وغيره لا نعلم مخالفا لما تضمنه حديث ابن عمر إلا ما روي عن مالك فى رفع اليدين والسنة متظاهرة فى ذلك.
وحكمة الوقوف عند الجمرتين دون جمرة العقبة والله أعلم تحصيل الدعاء لكونه فى وسط العبادة دون جمرة العقبة لأن العبادة قد انتهت بفراغ الرمي والدعاء فى صلب العبادة قبل

(2/502)


الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها كالصلاة (ثم ينصرف) يعني ابن عمر رضي الله عنه من عند الجمرة (ويقول هكذا) أي هذا الذي فعلت (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله) أي فى جميع ما فعل عند الجمرات الثلاث ولأ حمد وأبي داود عن عائشة نحوه ويفعل ذلك فى كل يوم من أيام التشريق على الترتيب والكيفية المذكورة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم بنقل الخلف عن السلف.
قال الشيخ ويستحب أن يمشي إليها اهـ. لأن بعده وقوف ودعاء فالمشي أقرب إلى التضرع وقال ابن القيم لما زالت الشمس مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب ورواه الترمذي وغيره وصححه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا وقال والعمل عليه عند أكثر أهل العلم وأما جمرة العقبة يوم النحر فثبت أنه رماها راكبا.
(وله عنه) قال (كنا نتحين) أي نراقب الوقت المطلوب الرمي فيه وننتظر دخوله (فإذا زالت الشمس رمينا) يعني الجمار الثلاث أيام التشريق ولمسلم عن جابر رأيته يرمي على راحلته يوم النحر ضحى وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس ولأحمد وغيره عن عائشة فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمار إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات وللترمذي عن ابن عباس نحوه قال الترمذي والعمل عليه
عند أكثر أهل العلم أنه لايرمي بعد يوم النحر

(2/503)


إلا بعد الزوال وقال غيرواحد هو مذهب الجمهور وخالف فى ذلك عطاء وطاووس.
ويستحب قبل صلاة الظهر لفعله - صلى الله عليه وسلم - ورخص بعض الحنفية فى الرمي يوم النفر قبل الزوال والأحاديث الصحيحة المستفيضة رد عليهم وإن أخر الرمي إلى اليوم الثالث رماه كله فيه ويرتبه بنية لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي.
(وللخمسة) وغيرهم (عن عاصم بن عدي) صحابي مشهور وكان حليفا لبني عبيد بن زيد الأنصاري مات سنة خمس وأربعين وله مائة وعشرون (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لرعاة الإبل) بضم الراء جمع راع (فى البيوتة عن منى) أي في ترك البيتوتة بها ليالي أيام التشريق لأنهم مشغولون برعي الإبل وحفظها لتشاغل الناس بنسكهم عنها ولا يمكنهم الجمع بين الرعي والمبيت فيجوز لهم ترك المبيت للعذر والرمي على الصفة المذكورة.
(يرمون يوم النحر) أي جمرة العقبة يوم العيد ولا يبيتون بمنى (ثم يرمون ليومين) أي يرمون اليوم الثالث لذلك اليوم واليوم الذي فاتهم الرمي فيه وهو اليوم الثاني (ثم يرمون يوم النفر) أي اليوم الرابع إن لم يتعجلوا (صححه الترمذي)
وابن حبان يرتبون الجمرات الثلاث بالنيه لليوم الأول ثم
للثاني ثم للثالث وكذا كل ضرورة داعية يشق معها

(2/504)


المبيت مشقة لاتحتمل عادة وتقدم ترخيصه للسقاة وقيس على ذلك مما هو مثلهم في العذر وهو مذهب جمهور العلماء.

فصل في النفر
أي الذهاب من منى إلى مكة والوداع وما يتعلق بذلك والنفر بالتحريك التفرق من نفر ينفر نفورا ونفارا فر وذهب والنفر الأول والثاني من منى.
قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} أي استعجل بالنفر من الحج في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد رمي جماره {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} في تعجيله وذلك أنه على الحاج أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانيه من أيام التشريق ويرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرون حصاة عند كل جمرة بسبع حصيات كما تقدم إلا أنه رخص لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ثم كل من رمى اليوم الثاني من أيام التشريق وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها فذلك له واسع.
{وَمَنْ تَأَخَّرَ} عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى يبيت ليلة الثالث ويرمي يوم الثالث جماره أو لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت حتى يرمى اليوم الثالث ثم ينفر (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تأخيره فقد خيره تعالى ونفى الحرج سواء في ذلك مريد الإقامة بمكة وغيره
والأفضل أن يمكث ويرمي لفعله - صلى الله عليه وسلم - ونفي الإثم لايقتضي

(2/505)


المساواة لنزولها بسبب أن الجاهلية منهم من يؤثم المتقدم ومنهم من يؤثم المتأخر.
فنفي الإثم تعالى عنهما لأخذ أحدهما بالرخصة والآخر بالأفضل {لِمَنِ اتَّقَى} أى لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئًا نهاه الله عنه أو يغفر لهما بسبب تقواهما فلا يبقى عليهما ذنب ولما ذكر تعالى النفر الأول والثاني وهو تفرق الناس من موسم حجهم إلى سائر الأفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف قال {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.
(وقال عمر) ابن الخطاب رضى الله عنه (من أدركه المساء) أي غابت عليه الشمس (في اليوم الثاني) أي من أيام التشريق قبل أن ينفر (فليقم) أي يلزم المبيت بمنى (إلى الغد) من اليوم الثالث من أيام التشريق ويرمي الجمرات (حتى ينفر مع الناس) النفر الثاني قال الشيخ وغيره ثبت هذا الأثر عن عمر ورواه مالك عن ابن عمر وقال ابن المنذر ثبت عن عمر وهو قول أحمد والشافعي ورواية عن أبي حنيفة وهو مذهب جماهير العلماء وأكثر الفقهاء وقاله شيخ الإسلام وغيره.
وقال ولأن الشارع جوز التعجيل في اليوم وهو اسم لبياض النهار فإذا غربت الشمس خرج من أن يكون في اليوم فهو ممن تأخر فلزمه المبيت بمنى والرمي بعد الزوال ونص عليه

(2/506)


جمهور أهل العلم. ثم إن نفر في اليوم الثاني ثم رجع في اليوم الثالث لم يضره رجوعه وليس عليه رمي لحصول الرخصة قال ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك بل السنة أن يقيم إلى اليوم الثالث وقال وليس له التعجيل لأجل من يتأخر.
(وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء) يعني بالمحصب وللبخاري عنه صلى الظهر يوم التروية بمنى والعصر يوم النفر بالأبطح قال الحافظ وقوله صلى الظهر يعني بالمحصب لا ينافي أنه لم يرم إلا بعد الزوال لأنه رمى فنفر فنزل المحصب فصلى الظهر به والعصر والمغرب والعشاء (ثم رقد رقدة) وللبخاري عن ابن عمر نحوه وفيه ويهجع هجعة (بالمحصب) اسم لمكان كان متسعا خارج مكة عند خيف بني كنانة فيما بينه وبين ثنية كداء ويقال له الأبطح وهو ما انبطح من الوادي واتسع قال الحافظ مابين الجبلين على المقبرة.
وللبخاري عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالبطحاء ثم هجع هجعه أي نام يسيرا (ثم ركب) يعني ناقتة القصواء (إلى البيت) أي ليطوف به (فطاف به) أي طواف الوداع (رواه البخاري) قال الشيخ ثم إذا نفر من منى فإن بات بالمحصب وهو الأبطح وهو ما بين
الجبلين إلى المقبرة ثم نفر بعد ذلك فحسن فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات به وخرج ولم يقيم بمكة بعد صدوره من منى) لكنه

(2/507)


ودع البيت. وقال لاينفرن أحد حتى يكون آخر عهده
بالبيت.
وقال ابن القيم اختلف السلف في التحصيب هل وهو سنة أو منزل اتفاق؟ فقالت طائفة هو من سنن الحج لما في الصحيحين نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر فقصد إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر والعداوة لله ورسوله ولمسلم أن أبا بكر وعمر كانوا ينزلونه وابن عمر يراه سنة وذهبت طائفة منهم ابن عباس وعائشة إلى أنه ليس بسنة وإنما هو منزل اتفاق.
وقال أبو رافع لم يأمرني ولكن أنا ضربت قبته فيه ثم
جاء فنزل فأنزل الله فيه بتوفيق تصديقا لقوله - صلى الله عليه وسلم - ولا خلاف
فى عدم وجوبه وصرح شيخ الإسلام وغيره أنه لو سافر
لبلده من منى ولم يأتي مكة بعد طواف الإفاضة لم يكن عليه وداع وقال في الفروع وإن ودع وأقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه.
(ولهما عن ابن عباس) رضى الله عنهما قال (أمر الناس) بالبناء للمجهول والمراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن يكون آخر عهدهم) رؤيتهم وليقيهم (بالبيت الطواف) وفي لفظ لمسلم كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاينفرن أحد حتى

(2/508)


يكون اخر عهده بالبيت وفيه دليل على وجوب طواف الوداع قال النووي وغيره وهو أكثر قول العلماء وورد فيه أمره - صلى الله عليه وسلم - به ونهيه عن تركه وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب.
ولاريب أنه يفيد الوجوب كما هو مذهب جماهير السلف والخلف إلا ما روي عن مالك مستدلاً بالتخفيف عن الحائض وأجابوا بأنه دليل الإيجاب أن بتركه دمًا إذ لو لم يكن واجبًا لما أطلق عليه لفظ التخفيف ولفظه (إلا أنه خفف) يعني طواف الوداع.
(عن الحائض) وظاهره عدم وجوبه عليها فلا يلزمها عند عامة الفقهاء ولا تنتظر الطهر لسقوطه عنها من أصله ومفهومه وجوبه على من سواها قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم وفي الصحيحين في قصة صفية وكانت حاضت بعد طواف الإفاضة فأمرها أن تنفر.
وهو أصل في سقوط الوداع عنها وألحق الطبري وغيره من خاف نحو ظالم وغريم وفوت رفقة وقال شيخ الإسلام هو واجب على من سواها عند الجمهور وليس من الحج وإن خرج غير حاج فظاهر كلامه لايجب عليه ولاوداع على أهل مكة ولامن أقام بها بإجماع من أوجبه ولو خرج من مكة لحاجة فطر له السفر. لم يلزمه دخولها لأجل طواف الوداع لأنه لم يخاطب به حال خروجه.
ووقته أذا فرغ من جميع أموره وإن قضى حاجته في

(2/509)


طريقه. أو اشترى زادًا أوشيئًا في طريقه لم يعد لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون اخر عهده بالبيت قاله شيخ الإسلام وغيره وهو مذهب جمهور أهل العلم وقال فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها لكن إن قضى حاجة أواشترى شيئا في طريقه بعد الوداع أودخل المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل فلا إعادة عليه وإن أقام بعد الوداع أعاد ليكون اخر عهده بالبيت كما جرت العادة في توديع المسافر أهله وجيرانه (ولأبي داود) وأحمد وغيرهما إلا أن في سنده مقالا (عن عبد الرحمن بن صفوان) بن قدامة قيل قرشي وقيل جمحي له صحبة وبلاء حسن وصداقة مع العباس (قال لما فتح رسول الله مكة) سنة ثمان من الهجرة وفي لفظ لما قدم مكة ودخل البيت لبست ثيابي ثم انطلقت و (وافقته قد خرج من الكعبة وللخمسة إلا النسائي وصمم الترمذي إنه دخل الكعبة وقال وددت أني لم أكن فعلت إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي.
ولأحمد والنسائي عن أسامة دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه ثم هلل وكبر ودعا ثم فعل ذلك بالأركان كلها وثبت دخوله من حديث ابن عباس وغيره عند البخاري وغيره وللترمذي وصححه عن

(2/510)


بلال أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في جوف الكعبة قال والعمل عليه عند أهل العلم لا يرون بالصلاة في الكعبة بأسًا.
قال الشيخ فإذا دخل مع الباب تقدم حتى يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع والباب خلفه فذلك المكان الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يدخله فلا بأس وقال ليس دخوله فرضًا ولا سنة مؤكدة بل حسن وأخذ بيد عائشة لما سألته دخوله فأدخلها الحجر وهو صلى الله عليه وسلم لم يدخله في حجه ولا عمرته وإنما دخله عام الفتح قال ابن القيم لتطهيره مما كان فيه من طواغيت الجاهلية وأوثانها.
قال (وأصحابه قد استلموا البيت) أي قد وضعوا صدورهم عليه وأيديهم فلمسوه وتناولوه (من الباب إلى الحطيم) وهو ما بين الركن والباب كما ذكره المحب الطبري وغيره. وكذا قال غير واحد أنه من الحجر الأسود إلى الباب. وقال ابن عباس الملتزم ما بين الركن والباب. ولا نزاع في ذلك. سمي بذلك لأن الناس كانوا يحطمون هناك بالإيمان ويستجاب فيه الدعاء للمظلوم على الظالم. وقل من حلف. هناك يعني كاذبًا إلا عجلت له العقوبة. وكذا قال أهل اللغة. لأنه تحطم فيه الذنوب (وقد وضعوا خدودهم على البيت).
ولأبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: طفت مع عبد الله. فلما جاء دبر الكعبة. قال أعوذ بالله من

(2/511)


النار ثم مضى حتى استلم الحجر. فقام بين الركن والباب فوضع صدره وذراعيه وكفيه هكذا. وبسطهما بسطًا. وقال هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ولا بن ماجه نحوه ففيه استحباب وضع الخد والصدر على البيت بين الركن والباب قال (ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطهم) بالتسكين لأنه بمعنى بيت. أي فكان - صلى الله عليه وسلم - شريكًا لهم في هذا العمل الصالح. ومن حديث عمرو بن شعيب أنه - صلى الله عليه وسلم - يلزق وجهه وصدره بالملتزم.
ودلت الأحاديث على استحبابه. ولأنه موضع تجاب فيه الدعوات. قال ابن عباس لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه. وقال الشيخ يقف إن أحب وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع. فإن هذا الألتزام لا فرق أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة وقال ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنا.
وإن شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن ابن عباس، ولفظه اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازداد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأي عن بيتك داري، وهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم فاصحبني العافية في

(2/512)


جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شئ قدير. ويدعو بما أحب ويصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال شيخ الإسلام وغيره ويشرب من ماء زمزم لما أحب، ويدعو بما ورد ومن حمل منه جاز، فقد كان السلف يحملونه، ويستلم الحجر ويقبله، ثم يخرج ولا يقف، ولا يلتفت ولا يمشي القهقري بعد وداعه، وذكر أنه بدعة مكروهة بل يخرج كما يخرج الناس من المساجد بعد الصلاة، وتقف الحائض والنفساء بباب المسجد ولا تدخله، لأنها ممنوعة من دخوله، وتدعو بالدعاء الذي سبق وبغيره.

باب الفوات والإحصار
أي بيان أحكامها، وما يتعلق بذلك، والفوات مصدر فات إذا سبق فلم يدرك وهو هنا كذلك لغة واصطلاحًا، ولا يتأتى إلا في الحج إذ العمرة لا تفوت إلا تبعا لحج القارن والإحصار مصدر حصره إذا حبسه، وأصل الحصر المنع والحبس عن السفر وغيره.
قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي دون تمام
الحج والعمرة فحللتم (ف) ـعليكم {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ} ما يهدى إلى البيت وأعلاه بدنه وأوسطه بقرة
وأدناه شاة. قال ابن عباس شاة لأنه أقرب إلى اليسر قال
الإمام العادل أبو المظفر الصحيح عندي ما

(2/513)


ذهب إليه الشافعي في قوله الجديد وأحمد فإن قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} محمول على العموم في حق كل من أحصر سواء كان قبل الوقوف أو بعده، وبمكة أو غيرها، وسواء كان طاف بالبيت أو لم يطف وأن له أن يتحلل كما قال الله تعالى، وأطلق ذلك في قوله ولم يخصصه واختاره الشيخ.
وقال الزركشي لعلها أظهر لظاهر الآية. والآية نزلت رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا من إحرامهم. ومحل ذبح هدي المحصر حيث أحصر لأنه ثبت في الصحيح وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح الهدي عام الحديبية بها ثم قال تعالى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه. وقال {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: وصدوا الهدي أن يبلغ محله، قال ابن القيم ولا يلزم نحره في الحرم. ولو قدر على أطرافه اهـ.
ومذهب أحمد الشافعي والجمهور يجب عليه الهدي ولا يتحلل إلا بهدي ينحره في محله في وقت حصره، وقال أبو حنيفة في الحرم. وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أولى بالاتباع. وحكى الوزير الإتفاق على أن الإحصار بالعدو يبيح التحلل وقال في المبدع وغيره بغير خلاف. والمراد وأردتم التحلل. إذ الأحصار بمجرده لا يوجب هديا. وقال ابن القيم ولا يلزم المحصر هدي ولا قضاء لعدم أمر الشارع.
وقال أبو حنيفة المحصر بالمرض كمن أحصر بالعدو سواء

(2/514)


وهو رواية عن أحمد. وقول جماعة من السلف. واختاره الشيخ. وقال غير واحد من أهل اللغة لفظ الإحصار إنما هو للمرض. يقال أحصره المرض إحصار فهو محصور. قال الزهري هو كلام العرب. استفيد حصر العدو بطريق التنبيه فيكون حكمه حكم من حصره العدو. قال ابن قتيبة في الآية هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عدو. يقال أحصره فهو محصر. وقال ابن القيم لو لم مات يأت نص يحل المحصر بالعدو يقتضيه فكيف وظاهر القرآن والسنة والقياس يدل عليه.
(ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلح الحديبية) أي من قضية الكتاب لأصحابه ويأتي (قال لأصحابه قوموا فانحروا) أي الهدي من الإبل، واذبحوا سواها من البقر والغنم (ثم احلقوا) رؤوسكم ويجزئ التقصير. فعند ذلك قال: "اللهم اغفر للمحلقين) وتقدم (رواه البخاري) وغيره عن المسور. ومروان في قصة عمرة الحديبية. وله عن ابن عمر وابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - "نحر ثم حلق".
فدل على أن الحصر يقدم النحر على الحلق. وله أيضًا عن المسور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نحر قبل أن يحلق. وأمر أصحابه بذلك " ولأحمد "ونحر بالحديبية قبل ان يحلق وأمر أصحابه بذلك". وقال أكثر أصحاب أحمد يجب الحلق وفاقا لأبي حنيفة ومالك والشافعي. واختاره القاضي وغيره. ولا فرق في ذلك بين كون

(2/515)


الحصر عامًا أو خاصًا ولا بين كون الحج صحيحًا أوفاسدًا ولاقبل الوقوف أوبعده.
ولا قضاء على المحصر المتطوع بحصر خاص أوعام وإن اقترن به فوات الحج إذ لم يرد الأمر به والذين أحصروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية لم يعتمر معه - صلى الله عليه وسلم - منهم في عمرة القضية إلاالبعض فعلم أنها لم تكن قضاء ولم ينقل أنه أمر الباقين بالقضاء لأنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الزمان له فلم يجب قضاؤه وفارق الفوات لأنه منهما بخلاف المحصر وتقدم قول ابن القيم لايلزم المحصر هدي ولاقضاء لعدم أمر الشارع بهما وهو مذهب أبي حنيقة.
فأما الفرض فيجب إجماعًا لوجوبه في الذمة قبل الشروع فيه وقال بعض أهل العلم إن فقد الهدي صام عشر أيام ثم حل وهو مذهب أحمد وأحد قولي الشافعي والجمهور على جواز التحلل قبل الإتيان بالبدل من غير توقف على الصوم لتضرره ببقائه على إحرامه إلى فراغ الصوم ولا إطعام في الاحصار ومن له طريق إلى الحج وأمكنه سلوكه لزمه والأولى لمعتمر وحاج اتسع زمن إحرامه الصبر أن غلب على ظنه انكشاف العدو وإمكان الحج.
(وعن عكرمة) مولى عبد الله بن عباس كان من أعلم الناس ووثقه جماعة وتكلم فيه لرأيه لا لحفظه مات سنة مائه وخمس

(2/516)


(عن الحجاج بن عمرو) بن أبي غزية الأنصاري المازني رضي الله عنه.
(قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من كسر) بضم الكاف وكسر السين أي أصابه كسر لايستطيع إكمال النسك معه (أو عرج) بفتح المهملة وكسر الراء أي أصابه شيء في رجله وليس بخلقه ولأبي داود وابن ماجه أومرض ولأحمد من حبس بكسر أومرض وهو محرم بحج أوعمرة (فقد حل) أي يصير حلالا بحصول ذلك المانع وممن يجوز له الحل بعد أن كان ممنوعًا منه.
وتقدم قول ابن القيم ولو لم يأت نص بحل المحصر بمرض لكان القياس على المحصر بالعدو ويقتضيه فكيف وظاهر القرآن والسنة والقياس يدل عليه اهـ. وكذا كل عذر حكمه حكمها كإعواز النفقة والضلال في الطريق وبقاء السفينة في البحر وهو قول كثير من الصحابة ومذهب الحنفية وغيرهم (وعليه حجة أخرى) يعنى من قابل كما يأتي (قال) عكرمة (فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق) يعني الحجاج بن عمرو فيما أخبر به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه الخمسة) وغيرهم وأقره الذهبي وحسنه الترمذي.
وقال غير واحد هو حديث حسن يحتج بمثله وظاهر القرآن بل صريحه يدل على أن الحصر يكون بالمرض ونحوه كما

(2/517)


تقدم واختار الشيخ أن الحائض لها التحلل كمن حصره عدو فإن الله لم يوجب على المحصر أن يبقى محرمًا حولاً بغير اختياره.
(وأمر عمر رضي الله عنه وغيره) يعني ابنه عبد الله وعبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم وغيرهم كما أخرجه مالك وغيره أنهم أمروا (من فاته الحج) وهو أن يفوته الوقوف بعرفة يوم عرفة (أن يحل) ولا بد (بعمرة) لأن قلب الحج عمرة جائز بلا حصر فمعه أولى وأجمعوا على أن من هذه صفته لايخرج من إحرامه إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.
(ثم يحج قابلا) أي وأن عليه الحج السنة المقبلة إن كان فردًا إجماعا أو نفلاً لأنه مفرط وهو مذهب الجمهور وللدار قطني عن ابن عباس مرفوعا من فاته عرفات فاته الحج وليتحلل بعمرة وعليه الحج من قابل وعمومه متناول للفرض والنفل بخلاف المحصر (ويهدي رواه الشافعي) ومالك والبيهقي والأثرم وغيرهم فعمر أمر أبا أيوب وهبار بن الأسود حيث فاتهما الحج أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا ثم يحجا من قابل ويهديا.
والجمهور أن عليه الهدي للإجماع على أن من حبسه المرض حتى فاته الحج فعليه الهدي وحكي أنهم اتفقوا على أن من فاته الحج لايبقى محرمًا إلى العام القبل وحكاه ابن رشد

(2/518)


قول جمهور العلماءوإن كان اشترط في ابتداء إحرامه أن محله حيث حبس فله التحلل بلا هدي ولا قضاء ثم إن تحلل المحصر وأمكنه الحج لزمه إن كان واجبًا على الفور وإن كان فاسدًا وتحلل منه قضاه في عامه إن أمكنه قال الموفق ولا يتصور في غيرها.
وإن أخطأ الناس فوقفوا فى الثامن أوالعاشر أجزأهم إجماعا وإن وقفوا في الثامن ثم علموا قبل فوت الوقت وجب الوقوف في الوقت وإن لم يعلموا أجزأ وإن كان الخطأ من الجمهور فقد ألحق الأكثر بالكل لقوله - صلى الله عليه وسلم - الحج يوم يحج الناس والمشقة القضاء عليهم مع كثرتهم مشقة عظيمة ولإنهم لا يأمنون وقوع مثله في القضاء ولو أخطؤا لغلط في العددأوفي الطريق ونحوه فوقفوا في العاشر لم يجزئهم قال الشيخ إجماعا.

باب الهدي والأضحية
يعني والعقيقة الهدي ما يهدى للحرم من نعم وغيرها سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله تعالى من أهديته أهدية إهداء وأصله التشديد من هديت الهدي أهديه والأضحية واحدة الأضاحي وجمعها ضحايا وكذا أضحاه بضم الهمزة وكسرها والجمع أضحى كأرطأة وأرطى ويقال ضحية وأجمع المسلمون على مشروعيتهما لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وغيرها ولما تواتر من فعله - صلى الله عليه وسلم -.

(2/519)


قال ابن القيم والذبائح التي هي قربة إلى الله تعالى وعبادة هي الهدي والأضحية والعقيقة وقال القربان للخالق يقوم مقام الفدية عن النفس المستحقة للتلف فدية وعوضا وقربانا إلى الله وعبودية ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يدع الهدي فثبت أنه أهدى مائة من الإبل في حجة الوداع وأرسل هديا في غيرها.
ولم يكن يدع الأضحية وأوجبها أبو حنيفة على كل حر مسلم مقيم مالك نصاب وروي عن مالك ولأحمد وغيره في الأضاحي هي سنة أبيكم إبراهيم قالوا مالنا منها قال بكل شعرة حسنة وذكر أنها أحب الأعمال إلى الله يوم النحر وأنها تأتي يوم القيامةعلى الصفة التي ذبحت عليها ويقع دمها بمكان من القبول قبل أن يقع على الأرض.
وقال الجمهور سنة مؤكدة على كل من قدر عليها من المسلمين المقيمين والمسافرين إلا الحاج بمنى فقال مالك لاأضحية عليهم اختاره شيخ الإسلام وغيره ولم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل ورخص بعض أهل العلم في الأضحية عن الميت ومنعه بعضهم وقول من رخص مطابق للأدلة ولا حجة مع من منع.
(قال تعالى ذَلِكَ) أي الأمر والشأن {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أعلام دينه {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي تعظيم شعائر

(2/520)


الله من أفعال ذوي تقوى القلوب وذكر القلوب لأنها مراكز التقوى والمخلص تكون التقوى متمكنة في قلبه فيبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص قال ابن عباس شعائر الله البدن والهدي وأصلها من الإشعار وهو الإعلام التي تعرف به أنها هدي وتعظيمها استسمانها واستحسانها واستعظامها وروي استفرهوا ضحاياكم فأنها في الجنة مطاياكم ويأتي الحث على ذلك.
{لَكُمْ فِيهَا} أي في البدن {مَنَافِعَ} اي في درها ونسلها وصوفها ووبرها وركوب ظهرها {إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى} أي إلى أن يسميها ويوجبها هديا فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها وقيل لكم فيها منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا بأن تركبوها وتشربوا من ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها وتقدم جواز ركوبها عند الحاجة {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي منحرها عند البيت العتيق والمراد جميع أرض الحرم وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - نحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم.
ثم قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} سلفت قبلكم {جَعَلْنَا
مَنْسَكًا} وهو موضع القربان فلم يزل النسك مشروعا على
اسم الله في جميع الملل {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} أي عند ذبحها {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ} يعني فسموا على الذبح اسم الله وحده {فَلَهُ
أَسْلِمُوا} اخلصوا {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} المتواضعين

(2/521)


{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
ثم امتن تعالى على عبيده فيما خلق لهم، وقال: {وَالْبُدْنَ} يعني الإبل والجمهور والبقر جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ} تهدى إلى البيت الحرام {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} من أعلام دينه لأنها تنغر أي تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} منافع في الدنيا وثواب في الآخرة {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} يعني عند نحرها {صَوَافَّ} يعني على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى والأخرى معقولة فينحرها كذلك.
ورأى ابن عمر رجلا أناخ بدنة ينحرها فقال ابعثها قياما وقرىء صوافي أي صافية خالصة لله لاشريك له شرعا لكم لتذكروه عند ذبحها وقال ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} سقطت على الأرض بعد النحر وذهبت نفسها فسقطت على جنوبها وأصل الوجوب السقوط {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر إباحة {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} أي الحابس في بيته المتعفف قد قنع بما يعطى ولا يسأل {وَالْمُعْتَرَّ} المتعرض لذلك تطعمه.
واستدل بهذه الاية بعض أهل العلم أنها تجعل أثلاثا ويأتي {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} لتمكنوا من نحرها {لَعَلَّكُمْ

(2/522)


تَشْكُرُونَ} نعم الله عليكم {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} أي لن ترفع إلى الله لحومها {وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} أي ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة.
(وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما عمل ابن ادم يوم النحر عملا) ويجوز أيضا ذبحها في أيام التشريق (أحب إلى الله) فيه أن الله يحب منا الأعمال الصالحة ويثيبنا عليها (من هراقه دم) بكسر الهاء وهي بدل من همزة أراق يقال آراقه وهراقه هراقة (رواه) ابن ماجه و (الترمذي) وحسنة ولابن ماجه وأحمد عن زيد بن أرقم ما هذه الأضاحي قال سنة أبيكم إبراهيم قالوا ما لنا منها قال بكل شعرة حسنة وللدار قطني عن ابن عباس مرفوعا ما انفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد.
وفيه أحاديث كثيرة تدل على فضل ذبح الأضحية وكذاالهدي ولا نزاع في ذلك وصرح ابن القيم وغيره بتأكد سنيتها وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها لأنه - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه واظبواعليها وعدلوا عن الصدقة بثمنها وهم لايواظبون إلا على الأفضل ودلت هذه الأحاديث على أنها أحب الأعمال إلىلله يوم النحر وأنها تأتي يوم القيامة على الصفة التي ذبحت عليها ويقع دمها بمكان من القبول قبل أن يقع على الأرض.
وهي سنة إباهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لقوله

(2/523)


تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وأن للمضحي بكل شعرة حسنة وأن الدراهم لم تنفق في عمل صالح أفضل من الأضحية والمراد إذا وقعت لقصد التسنن وتجردت عن المقاصدالفاسدة وكانت على الوجه المطابق للحكمة في شرعها.
(وعن أمامة بن سهل) رضي الله عنه أنه قال (كنا) يعني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون) بالمدينة وغيرها (يسمنون) يعني أضاحيهم (رواه البخاري) ولفظ أبي نعيم كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية فيسمنها ويذبحها رغبة في إعظامها ويروى استفرهوا ضحاياكم فإنها في الجنة مطاياكم وتقدم أن استسمانها من تعظيم شعائر الله.
فدل على استحباب تسمين الأضحية وهو قول الجمهور إلاما روي عن بعض أصحاب مالك ورد لأن الظاهر إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ولأنه من تعظيم شعائر الله المثنى عليها بأنها من تقوى القلوب.
(والمسلم عن جابرأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لاتذبحوا إلا مسنة) وهي الثنية من الإبل والبقر والغنم فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجزىء الجذع وهومذهب الجمهور إلا من الضأن للأحاديث المقتضية بإجزائه المخصصة لهذا الخبر
فللترمذي حديث أبي هريرة نعمت الأضحية الجذع من

(2/524)


الضأن ورواه أحمد وغيره وله من حديث هلال نحوه وأبي داود من حديث أبي مجاشع وللنسائي عن عقبة قال أصابني جذع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضح به.
وقوله (إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) وهي ما تم لها ستة أشهر حمله الجمهور على الاستحباب والأفضلية فتقديره يستحب لكم أن لاتذبحوا إلامسنة فإن عجزتم فجذعة ضأن وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن وأنها لاتجزىء بحال وصرح النووي أن الأمة أجمعت على أنه ليس على ظاهره لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه فيتعين تأويل الحديث على استحباب الأخبار المقتضية للتأويل منها نعمت الأضحية الجذع من الضأن وغيره.
وفي السنن خير الأضحية الكبش الأقرن وقال بعضهم جذع الضأن أفضل من مسنة المعز وقال الوزير اتفقوا أنه لا يجزىء من الضأن إلاالجذع وهو ما له ستة أشهر وقد دخل في السابع ويعرف بنوم الصوف على ظهره فإنه كانت تعرفه العرب بذلك.
واتفقوا أنه لا يجزئ مما سوى الضأن إلا الثني على
الإطلاق من المعز والإبل والبقر لأنه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يذبحون
إلا ذلك وقال اتفقوا على أن من ذبح الأضحيه من

(2/525)


هذه الأجناس بهذه الأسنان فما زاد فإن أضحيته مجزئة صحيحة وأن من ذبح منها ما دون هذه الأسنان من كل جنس منها لم تجزئه أضحيته
(ولهما عنه قال أمرنا) وفي لفظ أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن نشترك في الإبل والبقر) يعني في الهدي ولمسلم وحضر جابر الحديبية قال نحرنا يومئذ سبعين اشتركنا (كل سبعة منا في بدنة) وفي لفظ قال لنا اشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة رواه البرقاني على شرطهما وفي لفظ اشتركنا في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة فقال رجل منا لجابر أيشترك في البقر؟ ما يشترك في الجزور فقال ما هي إلا من البدن رواه مسلم وله عنه قال نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدن عن سبعة والبقرة عن سبعة ولأحمد عن حذيفة قال شرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته بين المسلمين في البقرة عن سبعة ورجاله ثقات.
فدلت هذه الأحاديث على أن البدنة تجزئ في الواجب عن سبعة وهذا مذهب جمهور أهل العلم أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يرون الجزور عن سبعة والبقرة عن سبعة اهـ. وسواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم وبعضهم اللحم لأن الجزء المجزئ لاينتقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز كما لو اختلفت جهات القرب.

(2/526)


وحكى ابن رشد أنه إجماع ويؤيده أنه جاز رجل إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال علي بدنة ولا أجدها فأمره أن يبتاع سبع
شياه فيذبحها رواه أحمد وقال الوزير اتفقوا على سبيل
الإرفاد أجازه بالأثمان والأعراض مالك والشافعي وأحمد
وقال وأجاز الشافعي وأحمد الاشتراك مطلقا وأما الإجزاء عنه وعن أهل بيته ونحوذلك في التطوع فجنس الإبل والبقر
أفضل من جنس الغنم. وشاة أفضل من سبع بدنة ورجح
الشيخ تفضيل البدنة السمينة على السبع وإجزاء الواحدة
من الغنم لا نزاع فيه فالبدنة والبقرة أولى وأما التشريك في
أكثر من سبعة في بدنة أو بقرة أو في السبع منهما فمفهوم
هذا الحديث تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته أنه لايحزئ
لأنه شرك في دم وجزم به شيخنا وغيره
(وعن البراء) بن عازب رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أربع لاتجوز) أي لا تجزئ (في الأضاحي) وكذا
الهدي أحدها (العوراء) أي الناقة أوالبقرة أوالشاة الذاهب
بصر إحدى عينيها (البين عورها) قيل الواضح ذهاب
جرمها بان انخسفت عينها لاالقائمة العين وهي التي لم
تنخسف إلا أنها لاتبصر بها أو عليها بياض ورجح أهل
الحديث عدم الإجزاء إذا ذهب بصر إحدى

(2/527)


عينيها بأي حال من الأحوال سواء فقدت الحدقة أوبقيت لفوات المقصود وهو النظر وجاء النهي عن البخقاء وهي التي تبخق عينها فيذهب بصرها والعيب صحيحة الصورة في موضعها (والمريضة البين مرضها) أي الذي بان أثره عليها وهو المفسد للحمها بقروح وجرب وغيره (والعرجاء البين ظلعها) بفتح الظاء أي عرجها وهي التي لاتطيق مع الصحيحة.
(والكبيرة التي لا تنقي) بضم التاء أي قد ذهب مخ عظامها لهزالها وانقت الإبل وغيرها إذا سمنت وصار فيها
نقي وهو مخ العظم وشحم العين من السمن فدل الحديث
على أن متبينة العور والعرج والمرض لا يجوز التضحية بها
إلا ما كان منها يسيرا غير بين وكذا الكبيرة التي لا تنقي
قال النووي أجمعوا على أن التي فيها العيوب المذكورة في
حديث البراء وهي المرض والعجف والعور والعرج البينات
لا تجزئ التضحية بها.
وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها كالعمى وقطع الرجل وشبهه وقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجزئ ذبح معيب ينقص العيب لحمه وعدوا ما في الخبر منه وفي المبدع وألحق في ذلك أن يناط الحكم بفساد اللحم لأنه أضبط.
(وعن علي) رضي الله عنه (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن

(2/528)


نستشرف العين والأذن) الاستشراف النظر إلى شيء على التأمل أي أن نشرف عليهما ونتأملهما كي لا يقع فيهما نقص وعيب ولهم عنه وصححه الترمذي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضحى بأعضب القرن والأذن قال سعيد بن المسيب العضب النصف فأكثر وأما الهتماء وهي التي ذهب بعض أسنانها فقال الشيخ تجزئ في أصح الوجهين.
وقيل لا تجزئ الجداء وهي التي نشف ضرعها فإذا وجد فيها لبن فليست بجداء وجاء النهي عن الجدعاء وهي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الشفة وهو بالأنف أخص وقال عتبة إنما نهى عن المصفرة بالراء المخففة مستأصلة الأذن وقيل إنها المهزولة لخلوها من السمن وأما المستأصلة فالمراد قرنها من أصله.
(وأن لا نضحي بمقابلة) بفتح الموحدة وهي التي قطعت أذنها وتركت معلقة (ولا مدابرة) أي قطعت من جانب (ولا شرقاء) أي مشقوقة الأذن طولا ولا خرقاء وهي التي في أذنها خرق مستدير (رواهما الخمسة وصححهما الترمذي) وحديث البراء رواه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه النووي وحديث علي أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبزار والبيهقي وظاهرهما التحريم والفساد وذكر الخلال أنهم اتفقوا على ذلك.
وتجزئ الصمعاء وهي صغيرة الأذن والجماء التي لم يخلق لها قرن لعدم النهي ولأنه لا يخل بالمقصود ويجزئ خصي

(2/529)


غير مجبوب وقال أحمد والخصي أحب الينا من النعجة لأن لحمه أوفر وأطيب.
(وللبخاري عن أنس قال نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع بدن) بسكون الدال جمع بدنة بفتحها (قياما) وقال تعالى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي قياما على ثلاث قوائم وعن جابر من طريق عبد الرحمن بن سابط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة يدها اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها فتطعن في الوهدة التي في أصل العنق والصدر لأن عنق البعير طويل فلو طعن في القرب من رأسه لحصل له تعذيب عند خروج روحه.
(وضحى في المدينة) قال ابن عمر أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين يضحي وفعله خلفاؤه والسلف (بكبشين) مثنى كبش وهو الثني إذا خرجت رباعيته (أقرنين) الأقرن هو الذي خرجت له قرنان معتدلان (أملحين) الأملح هو الأبيض الخالص وقيل الذي يخالط بياضه شيء من سواد وقيل حمرة أو البياض أكثر فيستحب الأقرن الأملح وفيه مشروعية استحسان الأضحية صفة ولونا وإذا اجتمع حسن المنظر وطيب المخبر في اللحم فهن أفضل.
(يذبح) الكبش وكذا البقر تذبح قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ويجوز العكس لحديث (ما أنهر الدم)

(2/530)


وقال ابن القيم المستحب في الإبل النحر وفي البقر والغنم الذبح لموافقة السنة المتواترة ويكره العكس لمخالفة السنة (ويكبر) يعني بعد التسمية (ويسمي) ولهما عنه يسمي ويكبر فيقول بسم الله والله أكبر كما في رواية مسلم وأكثر الحديث رواه الجماعة.
وأوجب الجمهور التسمية لقوله فاذكروا اسم الله عليها ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام والأخبار متواترة بذلك أجمعوا على استحبابها وتسقط سهوا كما سيأتي في الذبائح وأما التكبير فمستحب إجماعا لقوله ولتكبروا الله على ما هداكم وقال ابن المنذر وغيره ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول ذلك واختير التكبير هنا اقتداء بأبينا الخليل عليه السلام حيث أتي بفداء إسماعيل.
(ويضع رجله على صفاحهما) ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أوتؤذيه والصفحة جانب العنق ولا بن أبي شيبة أحدهما عن محمد وال محمد والآخر عن أمة محمد أي من أقر بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وفي رواية عمن وحد من أمتي وفيهما فذبحهما بيده فيستحب تولي الإنسان ذبح أضحيته بنفسه
فإن استناب جاز بلا نزاع وينبغي حضوره لقوله لفاطمة (احضري أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة منها)

(2/531)


وعن ابن عباس نحوه وتعتبر نية حال التوكيل في الذبح ولا تعتبر إن كانت الأضحية معينة ولا تسمية المضحى عنه ولا المهدي عنه إكتفاء بالنية قال الوزير أذا ذبح أضحية غيره بغير إذنه ونواه بها أجزأت عن صاحبها ولاضمان عليه واتفقوا أنها لاتصير بهذا ميتة.
(ولمسلم عن عائشة) رضي الله عنها أنها قالت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أمر بكبش) ذكر الضأن (أقرن) أي قرناه معتدلان حسان وفيه يطأ في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به فقال لها يا عائشة هلمي المدية ثم قال اشحذيها على حجر ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش (فأضجعه) أي وضع جنبه بالأرض وفيه استحباب إضجاع الغنم في الذبح لأنه أرفق بها وكذا البقر وبهذا جاءت الأحاديث وأجمع عليه المسلمون كما قاله النووي وغيره واتفقوا على أن إضجاعها يكون على جنبها الأيسر لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها باليسار.
(ثم قال بسم الله) واستحبابها إجماع وإنما الخلاف في وجوبها (اللهم تقبل من محمد وال محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به) اي ذبحه بنية الأضحية بعد أن سمى ودعا ولابن ماجه عن جابر فقال حين وجهها وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك

(2/532)


أمرت وأنا أول المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته.
وقال الشيخ وغيره ويقول اللهم منك ولك ورواه أبو داود مرفوعا وقال ويقول اللهم تقبل مني كما تقبلت من خليلك إبراهيم قال ابن القيم تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته وإن كثر عددهم كما قال عطاء عن أبي أيوب الأنصاري وصححه الترمذي وفي رواية مالك كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته وهذا الحديث نص صريح في ذلك.
(وقال أبو أيوب) خالد بن زيد رضي الله عنه (كان الرجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة) وهي الواحدة من الغنم (عنه) أي يذبحها أضحية عنه (وعن أهل بيته) وهم عائلته الذين هم في نفقته وكلفته والحديث مع ما تقدم وغيره على أن الشاة تجزئ عن أهل البيت حيث كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك في عهده - صلى الله عليه وسلم - مع إطلاعه على ذلك وإقرارهم عليه بل فعله - صلى الله عليه وسلم - والجمهور على أنها تجزئ عنهم وإن كثروا كما قضت بذلك السنة.
(فيأكلون) أي أهل البيت منها والجمهور أنهم يأكلون الثلث وإن أكلوا أكثر جاز (ويطعمون) أي من الأضحية والأولى بالثلث ويتصدقون بالثلث لقول عمر ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين ويأتي وهذا الأثر رواه ابن ماجه

(2/533)


ومالك وغيرهما و (صححه الترمذي) وله شواهد كثيرة.
(وعن علي أمرني) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن أقوم على بدنه) أي عند نحرها للاحتفاظ بها وللبخاري أنها مائة بدنة ولمسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر منها ثلاثا وستين وأمر عليا فنحر ما بقي فيجوز أن يستنيب مسلما بلا نزاع وكره كتابيا ويجزئ عند الجمهور (وأن أتصدق بلحومها) أي يقسمها على المساكين إلا ما أمره به وهو أن يأخذ من كل بدنة بضعة وطبخت فأكل منها (وجلودها) أي وأن يتصدق بجلودها على المساكين.
(وأجلتها) وهي ما يطرح على البعير من كساء ونحوه جمع جلال بكسر الجيم وكان ابن عمر لا يشق من الجلال إلاموضع السنام فإذا نحرها نزع جلالها مخافة أن يفسده الدم ثم يتصدق بها (وأن لاأعطي الجازر) أي من ينحرها وكذا من يذبح البقرة والشاة (منها شيئًا) أي لأجل النحر أو الذبح لأنه معاوضة وهي غير جائزة فيها لالغير لك كصدقة أو هبة كغيره وأولى لمباشرته لها وقال - صلى الله عليه وسلم - نحن نعطيه من عندنا يعني أجرته (متفق عليه).
واتفق أهل العلم على أن لحمها لا يباع وكذا الجلود والجلال وأجازه جماعة إذا صرف ثمنه مصرف الأضحية سواء كانت واجبة أوتطوعا لأنها تعينت بالذبح وإن تعينت بقوله هذا هدي أو أضحية أو لله أو بالإشعار أو التقليد بنية قال الوزير

(2/534)


ولا يوجبها عندهم إلا القول لأن التعيين إزالة ملك على وجه القربة فلم يؤثر فيه مجرد النية كالعتق وعن أحمد تعين بالنية حال الشراء وهو مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام.
(ولمسلم عن بريدة مرفوعا) يعني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (كلوا ما بدا لكم) والأمر هنا على الندب والإباحة عند الجمهور أي كلوا ما بدا لكم من لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام (واطعموا) يعني من شئتم وعن عائشة وتصدقوا وفي هذا الخبر وغيره مع ما تقدم من الآية سنية الأكل من الهدي والأضحية والتصدق فيأكل هو وأهل بيته الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث وقال ابن عمر الهدايا والضحايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين وهو قول ابن مسعود ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة.
ويخرج من العهدة بصدقته بالأقل وقيل يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله فكلوا منها واطعموا البائس الفقير وأما الواجب بنذر أوتعيين فلا يأكل منه وقال الشيخ يأكل مما عينه لا عما في ذمته (وادخروا) أي فوق الثلاث ما شئتم قاله بعد الحظر وكان سنة تسع لدافة حصلت والرخصة في حجة الوداع سنة عشر ولفظ أول الخبر كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام أي ليوسع ذو الطول على من لاطول له فكلوا ما بدا لكم الحديث.

(2/535)


(وعن أنس مرفوعا) اي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من ذبح قبل الصلاة) أي المعهودة وهي صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد وكذا صلاة الأئمة بعد انقضاء عصر النبوة (فإنما يذبح لنفسه) وللبخاري هن البراء فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء أي ليس من الأضحية ولهما عن أنس فليعد ولهما عن جندب البجلي مرفوعا من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله قاله في خطبة العيد.
فوقت الذبح بلا نزاع أضحية كانت أو هديا بعد صلاة العيد بالبلد والاعتبار كما قال ابن القيم بنفس فعل الصلاة والخطبة لا بوقتهما وما ذبح قبل الصلاة ليس من النسك وإنما هو لحم قدمه لأهله والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص في نحر الهدي قبل طلوع الشمس ألبتة فحكمه حكم الأضحية إذا ذبحت قبل الصلاة وما لاتصلى فيه العيد فبعد قدر زمنها ومنه منى.
وإذا اجتمع عيد وجمعة وصليت الجمعة قبل الزوال واكتفى بها عن صلاة العيد جاز الذبح بعد صلاة الجمعة لقيامها مقام صلاة العيد (ومن ذبح بعد الصلاة) أي صلاة العيد (فقد تم نسكه) أي عبادته ومن حديث البراء فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين يعني طريقتهم (رواه البخاري).

(2/536)


(ولمسلم عن ناجية) بن كعب الخزاعي رضي الله عنه وكان صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يا رسول الله كيف أصنع (فيما عطب من الهدي) أي انكسر ونحوه (قال انحره) وهو السنة في الإبل (واغمس) أي غط (نعله في دمه) بعد الذبح (واضرب صفحته) أي بالنعل المغموسة في الدم ليعلم من مر به أنه هدي (وخل بين الناس وبينه) أي فاتركه وسلمه للناس ليأخذوه فيأكلوه.
ورواه الترمذي وغيره وقال العمل عليه عند أهل العلم في هدي التطوع إذاعطب لا يأكل هو ولا رفقته منه ويخلي بينه وبين الناس يأكلونه وقد أجزأ عنه وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وقالوا إن أكل منه شيئًا غرمه بقدر ما أكل منه ولمسلم عن ذؤيب بن حلحلة قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث معه البدن ثم يقول إن عطب منها شيء فخشيت منها موتا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من رفقتك وفيه أنه يجزئ ذبح ما تعيب ولحديث أبي سعيد ابتعنا كبشا نضحي به فأصاب الذئب من إليته فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرنا أن نضحي به رواه ابن ماجه.
وهذا ما لم يكن واجبا في ذمته قبل التعيين كفدية ومنذور في الذمة فيجب نظيره مطلقا سواء أصيب بفعل الله أو فعل ادمي وإن ضل ونحوه ثم أبدله فعاد لزمه ذبحه لفعل عائشة

(2/537)


رضي الله عنها فإن ابن الزبير بعث إليها بهديين فنحرتهما ثم عاد الضالان فنحرتهما وقالت هذة سنة الهدي رواه الدارقطني وروي عن عمر وابنه وابن عباس
(ولابن حبان) محمد بن حبان التميمي البستي الشافعي صاحب التصانيف المتوفى سنة ثلاثمائة وأربع وخمسين (عن جبير بن مطعم) رضي الله عنه (مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (كل أيام التشريق) أي الثلاثة بعد يوم النحر (ذبح) أي وقت لذبح الهدي والأضحية وقال علي رضي الله عنه أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده وقاله عطاء والحسن وغيرهما وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وعنه أيام النحر ثلاثة وفاقا لمالك وأبي حنيفة.
والقول بأنها ثلاثة غيريوم النحر اختاره ابن المنذر والشيخ وغيرهما قال ابن القيم ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى وأيام التشريق ويحرم صومها فهي إخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع وروي من وجهين مختلفين نشد أحدهما الاخر كل أيام التشريق ذبح اهـ. ويكره الذبح في لياليها خروجا من خلاف من قال بعدم جوازه فيها كمالك قال الوزير اتفقوا على أنه يجوز ذبح الأضحية ليلا في وقتها المشروع لها كما يجوز في نهاره إلامالكا أبو حنيفة يكرهه مع جوازه وإن فات الوقت قضى الواجب وسقط التطوع وحكاه اتفاقا.

(2/538)


(وعن أم سلمة مرفوعا إذا دخل العشر) أي عشر ذي الحجة وفي لفظ إذا رأيتم هلال ذي الحجة وتقدم ذكر فضلها والعمل فيها (وأراد أحدكم أن يضحي) أي لنفسه (فلا يأخذ من شعره) أي شعر جميع بدنه شيئا بقص أوحلق أوغير ذلك (ولا من أظفاره) أي لا يقلم من أظفاره (شيئا) وفي لفظ فلا يمس من شعره ولا من بشرته شيئا أي لايزيل شيئا من شعور بدنه ولا من بشرته كظفر ونحوه وفي لفظ فليمسك عن شعره وأظفاره ليبقى كامل الأجزاء للعتق من النار.
وذكر ابن القيم أن تقليم الظفر وأخذ الشعر من تمام التعبد بالأضحية وذكر خبر عبد الله بن عمر تأخذ من شعرك وتحلق عانتك فتلك تمام أضحيتك عند الله فيتركه (حتى يضحي) أي يذبح أضحيته أوتذبح عنه (رواه مسلم) والخمسة وغيرهم وقال الوزير اتفقوا على أنه يكره لمن أراد الأضحية أن يأخذ من شعره وظفره من أول العشر إلى أن يضحي وقال أبو حنيفة لا يكره اهـ. والحديث يرد عليه.
قال ابن القيم وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحته وعدم ما يعارضه وقال بعض أهل العلم يحرم واختار الأكثر الكراهة وقيل من يضحي عنه لا من ضحى عن غيره سواء كان وصيا أو متبرعا.

(2/539)


فصل في العقيقة
أي في بيان أحكام العقيقة عن الغلام والجارية والتحنيك والتسمية وما يتعلق بذلك والعقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود وأصل العتق الشق والقطع وقيل للذبيحة عقيقة لأنه يشق حلقها وقال الوزير وغيره هي في اللغة أن يحلق عن الغلام أو الجارية شعرهما الذي ولدا به ويقال لذلك عقيقة وإنما سميت الشاة عقيقة لأنها تذبح في اليوم السابع وهو اليوم الذي يعق فيه شعر الغلام الذي ولد وهو عليه أي يحلق.
وقال أحمد إنما العقيقة الذبح نفسه وكذا حلق عقيقته وهي مشروعة وسنة مؤكدة عند الجمهور لأمره - صلى الله عليه وسلم - وفعله وفعل أصحابه والتابعين المستفيض قال مالك لا اختلاف فيه عندنا وهو المعمول به في الحجاز قديما وحديثا وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ولو بعد موت المولود وقيل واجبة شرعت فدية يفدى بها المولود كما فدى الله اسماعيل الذبيح بالكبش وكانت تفعل في الجاهلية وأقرها الإسلام وأكدها وأخبرالشارع أن الغلام مرتهن بها ونفس الذبح وإراقة الدماء عبادة مقرونة بالصلاة كما تقدم.
قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال البغوي وغيره نظر إبراهيم فإذا هوبجبريل ومعه كبش أملح أقرن فقال هذا فداء

(2/540)


لابنك فاذبحه دونه فأتى به المنحر من منى فذبحه قال أكثر المفسرين كان ذلك الكبش رعى في الجنة أربعين خريفًا وسماه عظيمًا لأنه متقبل قال شيخ الإسلام العقيقة فيها معنى القربان والشكر والصدقة والفداء وإطعام الطعام عند السرور فإذا شرع عند النكاح فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة وهو وجود النسل أولى وقال أحمد إن استقرض رجوت أن يخلف الله عليه أحيا سنة واتبع ما جاء به عن ربه.
قال ابن القيم وهذا لأنها سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة على الوالدين وفيها سر بديع موروث عن فداء إسماعيل بالكبش الذي ذبح عنه وفداه الله به فصار سنة في أولاده بعده أن يفدي أحدهم عن ولادته بذبح يذبح عنه ولا يستنكر أن يكون هذا حرزا له من الشيطان بعد ولادته كما كان ذكر اسم الله عند وضعه في الرحم حرزا له من ضرر الشيطان اهـ ..
وعن أحمد واجبة ولكن قال عليه الصلاة والسلام من أحب أن ينسك فليفعل وتقدم قول ابن القيم أنها تقوم مقام الفديه عن النفس المستحقة للتلف فدية وعوضا وقربانا إلى الله وعبودية اهـ. وفي فعلها مع الحث عليها الاقتداء بالخليلين الذين أمرنا بالاقتداء بهما.
(وعن سلمان بن عامر) بن أوس بن حجر بن عمرو بن الحارث الضبي صحابي سكن البصرة رضي الله عنه (أن

(2/541)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مع الغلام) وجوبا أوندبا (عقيقة) أي الذبيحة التي تذبح للمولود ذكرا كان أو أنثى ولوولد اثنان في بطن استحب عن كل واحد عقيقة قال ابن عبد البر لاأعلم عن أحد من العلماء خلافه (فاهريقوا) من هراق الماء صبه أي أريقوا (عنه دما) شاة أو شاتين كما يأتي وفسر هذا الإبهام الأحاديث الآتية.
وبهذا الحديث ونحوه استدل القائلون بالوجوب والجمهور على الاستحباب إذ لو كان للوجوب لبينه الشارع بيانا عاما تقوم به الحجة ولم يعلق محبةالفعل وإنكار أصحاب الرأي سنيتها لا يلتفت إليه مع ثبوت السنة (وأميطوا عنه الأذى) أي احلقوا عنه شعر رأسه (رواه البخاري) وللحاكم عن عائشة وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى.
(وعن سمرة) بن جندب رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كل غلام مرتهن) أي مرهون (بعقيقته) ممنوع محبوس عن خير يراد به ولا يلزم أن يعاقب على ذلك محتبس بها فلا تحصل سلامته من الافات (حتى يعق عنه) شبهه بالرهن في يد المرتهن وأنه لا بد أن يفدى مما يسوءه كما فدي إسماعيل قال ابن القيم جعل الله النسيكة عن الولد سببا لفك رهانه من الشيطان الذي تعلق به من حين خروجه إلى الدنيا وطعن في خاصرته
فكانت فداء وتخليصا له من حبس الشيطان وسجنه

(2/542)


في أسره ومنعه له من سعيه في مصالح اخرته فأمر بإراقة الدم عنه الذي يخلص به من الارتهان.
وقال أحمد هذا في الشفاعة أنه إذامات طفل لم يشفع في أبويه قال الخطابي هذا أجود ماقيل فيه وقال أحمد أيضا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة أذا لم يعق عنه فهو محتبس بعقيقته حتى يعق عنه وقال هذا الحديث أشد ما سمعنا في العقيقة وإني لأرجو إن استقرض أن يعجل الله له الخلف لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبع ما جاء به وجاء الخبر أنها على سبيل النسك كالأضحية والهدي.
وحكمها حكمهما فيما يجزئ ويستحب ويكره والأكل والهدية والصدقة إلاأنه لايجزئ فيها شرك في دم لأن المقصود أن تكون نفس فداء نفس ويروى مرفوعا قل بسم الله والله أكبر اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان حسنه بن المنذر وإن نوى ولم يتكلم أجزأت قال ابن القيم وغير مستبعد في حكم الله وشرعه وقدره أن تكون سببا لحسن نبات المولود ودوام سلامته وطول حياته وحفظه من ضرر الشيطان حتى يكون كل عضو منها فداء كل عضو منه.
(تذبح عنه) أي تعق عن المولود ذكرا كان أم أنثى (يوم سابعه) واستفاض عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه عق عن حسن وحسين يوم السابع وسماهما أخرجه ابن وهب ولابن المنذر عن عمرو

(2/543)


ابن شعيب نحوه وقال هذا قول عامة أهل العلم والحكمة والله أعلم أن الطفل حين يولد متردد فيه بين السلامة والعطب إلى أن يأتي عليه ما يستدل به على سلامة بنيته وجعل مقداره أيام الأسبوع فأنه دور يومي كما أن السنة دور شهري وطور من أطواره وإن فات ففي أربعة عشر ثم في السابع الثالث.
وروي مرفوعًا وهو مذهب الجمهور قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع فإن لم يتهيأ يوم السابع فيوم الرابع عشر فإن لم يتهيأ عق عن يوم إحدى وعشرين وقالوا لا يجزئ في الشاة إلاما يجزئ في الأضحية وقال ابن القيم التقييد بذلك استحباب فلوذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت.
(ويحلق) أي رأسه قال ابن عبد البر كان العلماء يستحبون ذلك وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث العقيقة ويحلق رأسه وجاء أيضا أميطوا عنه الأذى ويقال إن فاطمة حلقت رأس الحسن والحسين وتصدقت بوزن شعرهما ورقا وقاله أحمد وغيره (ويسمى) يعني المولود وروي ويدمى وقال أبو داود إنها وهم من همام وكانوا في الجاهلية يلطخون رأس المولود بدم القيقة تبركا فعوض الشرع بحلق رأسه والتصدق بوزنه وأن يطلخ بالزعفران (رواه الخمسة) وغيرهم.

(2/544)


قال ابن القيم لما كانت التسمية حقيقتها تعريف الشيء المسمى لأنه إذا وجد وهو مجهول الاسم لم يكن له ما يقع تعريفه به فجاز تعريفه يوم وجوده وجاز تأخير التعريف إلى ثلاثة أيام وجاز إلى يوم العقيقة عنه ويجوز قبل ذلك وبعده والأمر فيه واسع واتفقوا على أن التسمية للرجال والنساء فرض حكاه ابن حزم وغيره وفي قوله تعالى (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) دليل على جوازه يوم الولادة ويأتي ما في الصحيحين وغيرهما ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم.
ولهما عن أنس أنه ذهب بأخيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولدته أمه فحنكه وسماه عبد الله وسمي المنذر وغيره يوم الولادة وقال البيهقي باب تسمية المولود يوم يولد وهو أصح من السابع والتسمية للأب فلا يسمي غيره مع وجوده قال ابن القيم وهذا مما لا نزاع فيه بين الناس ولأنه يدعى يوم القيامة باسمه واسم أبيه وورد الأمر بتسمية السقط وإن لم يعرف أذكر أو أنثى سمي بصالح للذكر والأنثى كخارجة وطلحة وزرعة ونحوهم.
(ولهم) أي للخمسة وغيرهم من طرق أحدها عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ (أنه أمرهم) يعني المسلمين (أن يعق) كل والد عن ولده ويجزئ من الأجنبي قال الشيخ يعق عن اليتيم كالأضحية وأولى لأنه مرتهن بها وقال بعضهم
مشروعة ولو بعد موت المولود واستحب جمع أن يعق

(2/545)


عن نفسه إذا بلغ قال أحمد من فعله فحسن ومن الناس من يوجبه (عن الغلام شاتان) مكافئتان أي متساويتان أو متقاربتان في السن بمعنى أنه لا ينزل سنها عن سن أدنى ما يجزئ في الأضحية لاتفاقهم على أنه لايحزئ في العقيقه إلاما يجزئ في الأضحيه.
(وعن الجارية شاة) رواه أحمد وغيره وعن أم كرز الكعبية أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال نعم عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحده لا يضركم ذكرانا كن أو إناثا رواه أحمد والنسائي ولهما وأبي داود عن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة وله طرق في السنن وغيرها (صححهما الترمذي) يعني حديث سمرة وهذا الحديث من طريق عائشة وأم كرز.
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة تدل على أن المشروع في العقيقة شاتان عن الذكر وهو قول الجمهور وقال مالك شاة عن الذكر والأنثى وجاء في الخبر نحوه والشاتان عن الذكر أكثر وأشهر قال ابن القيم وغيره أو الله تعالى فاضل بين الذكر والأنثى في المواريث والديات وغيرها فجرت المفاضلة في العقيقة هذا المجرى لو لم يكن فيها سنة كيف والسنن الثابتة صريحة بالتفضيل.

(2/546)


وإن اتفق وقت عقيقة وأضحية فعق أو ضحى أجزأ عنهما كما لو ولد له أولاد في يوم أجزأت عقيقة واحدة أو ذبح أضحية وأقام سنة الوليمة في عرسه قال أحمد قال به غير واحد من التابعين قال ابن القيم ووجه الإجزاء حصول المقصود منها بذبح واحد لأنهما مشروعتان فتقع عنهما كتحية المسجد وسنة المكتوبة ونحو ذلك وصرح به شيخ الإسلام وغيره.
(وعن أبي رافع) رضي الله عنه (أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن) أي تلا كلمات الأذان (في أذن الحسن) بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأمه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما (حين ولد) يعني الحسن سنة ست من الهجرة رواه أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) فيستحب التأذين في أذن الصبي عند ولادته ويستحب إقامته في أذنه اليسرى وهو مذهب الجمهور قال الترمذي وعليه العمل وللبيهقي من حديث الحسن بن علي ورفعت عنه أم الصبيان وله عن ابن عباس أنه أذن في أذن الحسن وأقام في اليسرى وفيها ضعف.
وقال ابن القيم وغيره سر التأذين أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المنتظمة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه من الدنيا وغير مستنكر وصول التأذين إلى قلبه وتأثره به وهروب الشيطان من الأذان وأن تكون الدعوة إلى الله سابقة دعوة الشيطان وغير ذلك من الحكم.

(2/547)


(وعن أنس) يعني ابن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أنه ذهب بأخيه) أي لأمه أما أبوه فهو أبو طلحة بن زيد بن سهل الأنصاري (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولد) أي ولدته أم سليم بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنها وقالت يا أنس إذهب به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليحنكه (فحنكه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والتحنيك سنة بالإجماع وهو أن يمضغ المحنك التمر ونحوه حتى يصير مائعا بحيث يبتلع ثم يفتح فم المولود ويضعهما فيه ليدخل شيء منها جوفه وفيه فجعل يتلمظ فقال حب الأنصار التمر وأبت الأنصار إلا حب التمر مبالغة في شدة حبهم للتمر وكان أكثر طعامهم (وسماه عبد الله) قال ابن سعد ولد بعد غزوة حنين وأقام بالمدينة وقيل مات بها سنة أربع وثمانين وفي الصحيحين من حديث أبي بردة قال ولد لي غلام فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة زاد البخاري ودعا له بالبركة ودفعه إلي وكان أكبر ولد أبي موسى.
وروى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن اسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير فولدت بقباء ثم أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعته في حجره فدعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه قال النووي
وغيره اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عند
ولادته بتمر فإن تعذر فما في معناه أو قريب منه من الحلو.

(2/548)


وأن يكون المحنك من الصالحين وفيه استحباب التسمية بعبد
الله.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - ولد لي الليلة ولد) من مارية القبطية سنة ثمان من الهجرة (سميته باسم أبي إبراهيم) يعني الخليل عليهما أفضل الصلاة والسلام تذكيرا به وليقتدى به (متفق عليهما) ورواهما أهل السنة وغيرهم ولأبي داود تسموا باسماء الأنبياء لأن الاسم يذكر بمسماه ويقتضى التعلق بمعناه.
(وعن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إنكم تدعون يوم القيامة باسمائكم) أي تدعون على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسنى والوصف المناسب له وفي تحسين الأسماء تنبيه على تحسين الأفعال (وأسماء ابائكم) فيقال يا فلان ابن فلان (فأحسنوا اسماءكم) لتأثيرها في المسمى وغير ذلك (رواه أبو داود) قال النووي بإسناد جيد ورواه أحمد وغيره وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب الاسم الحسن ولما جاء سهل يوم الحديبية قال سهل أمركم.
(ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال
(أحب اسمائكم إلى الله) لأحمد وغيره إن من أحسن
اسمائكم ومن حديث عبد الرحمن بن سبرة إن خير الاسماء
(عبد الله وعبد الرحمن) ففيه استحباب التسمية بهذين
الاسمين وما كان مثلهما لأنها تضمنت ما هو وصف لله

(2/549)


وواجب له وهو العبودية وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسمكم واسم أبيكم والجمهور أن أحب الاسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن واسماء الأنبياء ولئلا تنسى اسماؤهم ولتذكر بأوصافهم وأحوالهم.
وقال ابن حزم اتفقوا على استحسان الأسماء المضافة إلى الله قال ابن القيم ولما كان الاسم مقتضيا لمسماه ومؤثرا فيه كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه كعبد الله ضد ملك الأملاك وحاكم الحكام ونحوه فإن ذلك ليس لأحد سوى الله فتسميته بذلك من أبطل الباطل وفي الصحيحين إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لامالك إلاالله وكذا قاضي القضاة وسيد الناس وسيد الكل.
ويحرم التعبيد لغير الله قال ابن حزم اتفق على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمروعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشى عبد المطلب قال ابن القيم فلا تحل التسمية بتلك وبعبد علي ولا بعبد الحسين وروى ابن أبي شيبة عن شريح بن هانيء أنه وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوم فسمعهم يسمون رجلا عبد الحجر فقال مااسمك فقال عبد الحجر فقال إنما أنت عبد الله.
وأما الإخبار كبني عبد الدار وعبد شمس فليس من باب إنشاء التسمية بذلك وإنما هو من باب الإخبار بالاسم الذي

(2/550)


عرف به المسمى دون غيره وكان الصحابة يتجوزون فيه ما لا يتجوزون في الإنشاء وأصدق الاسماء حارث وهمام ويكره بنحو حرب ويسار كالعاص وكلب وشيطان وخباب وشهاب وحنظلة ومرة وحزن وثبت أقبحها حرب ومرة.
وقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة الاسم القبيح من الأشخاص والأماكن وذلك لأنه لما كانت الاسماء قوالب للمعاني ودالة عليها اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب وأن لاتكون معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها فإن حكمة أحكم الحاكمين تأبى ذلك والواقع يشهد بخلافه بل لها تأثير في المسميات وللمسميات تأثر عن أسمائها في الحسن والقبح والخفة والثقل واللطافة والكثافة.
وتخير الاسماء من توفيق الله للعبد وثبت لاتسمين غلامك يساراولارباحا ولانجيحا ولا أفلح فإنك تقول أثم هو فلا يكون فيقال لا أي فيوجب تطيرا تكرهه النفوس ويصدها عما هي بصدده فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن يمنعهم من أسماء توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه وأن يعدل عنها إلى أسماء تحصل المقصود من غير مفسدة ولئلا يسمى يسارا من هو
أعسر الناس ونجيحا من لانجاح عنده ورباحا من هو
من الخاسرين فيكون قد وقع في الكذب أو يطالب بمقتضى
اسمه فلا يوجد عنده فيجعل سببا لذمه أو يعتقد في نفسه
أنه كذلك فيقع في تزكية نفسه وتعظيمها فيكره بالتقي

(2/551)


المتقي والراضي والمحسن والمرشد ونهى الشارع أن يسمى برة ويكره أن يستعمل اللفظ الشريف المصون في حق من ليس كذلك والمهين في حق من ليس من أهله.
وإن لقب بما يصدق فعله جاز وقال أبو جعفر النحاس لا نعلم بين العلماء خلافا أنه لاينبغي لأحد أن يقول لأحد من المخلوقين مولاي ولا يقول عبدك ولا عبدي وإن كان مملوكا ولمسلم لايقل أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وإماؤه ولا ربي ولا مولاي فإن مولاكم الله وظاهر النهي التحريم وقد حظر النبي - صلى الله عليه وسلم - على المملوكين فكيف بالأحرار وكره بعضهم أن يقال يا سيدي أدبا مع الله عز وجل وأجازه اخرون لغير منافق للخبر.
وينبغي أن لا يرضى المخاطب بذلك وأن ينكره كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يستحق السيادة حيث قال السيد الله تبارك وتعالى وينبغي الاعتناء بأمر خلق الطفل فإنه ينشأعلى ما عوده المربي من لجاجة وخفة وجشع ونحو ذلك فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك ويجب أن يجنب إذا عقل مجالس الباطل واللهو فإنه إذا علق سمعه عسر عليه مفارقته.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
آخر المجلد الثاني من شرح أصول الأحكام،
ويليه المجلد الثالث، وأوله: كتاب الجهاد.

(2/552)