الإحكام شرح أصول الأحكام

جمع الفقير إلى الله تعالى
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
الحنبلي النجدي
رحمه الله تعالى
(1312 - 1392 هـ)

المجلد الثالث

(3/4)


بسم الله الرحمن الرحيم

كتابُ الجهَاد
الجهاد بذل الطاقة والوسع. مصدر جاهدت جهادًا أي بلغت المشقة وفي الشرع بذل الجهد في قتال الكفار. ختم به العبادات لأنه أفضل تطوع البدن. وعده بعضهم ركنًا سادسًا لدين الإسلام. فلذا أوردوه بعد الأركان الخمسة وهو سنام العبادة. وذروة الإسلام. وموجب الهداية وحقيقة الإخلاص والزهد في الدنيا. ومنه ما هو واجب باليد، وما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة. فيجب على المرء بغاية ما يمكنه. وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} أي عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذا بذلوها في سبيله {بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} وقرأ الأعمش بالجنة أي بايعهم جل وعلا بها. فأغلى أثمانهم قال عبد الله بن رواحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
فقال "أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا: ولنفسي أن تمنعوني مما

(3/5)


تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال "الجنة" قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت الآية.
{يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} يعني الجهاد. وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد. كما في الآية (إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (فيقتلون ويقتلون) أي سواءً قتلوا أو قتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا قد وجبت لهم الجنة ومن الحكمة في مشروعيته حصول الثواب للمؤمنين لقوله تعالى: {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا}.
وفي الصحيحين "تكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد، إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة " وعدًا عليه) بأن لكم الجنة (حقًا) كتبه على نفسه تفضلًا وكرمًا أثبته {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} تأكيدًا لهذا الوعد. وإخبارًا بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة. وأنه أنزله على رسله في كتبه الكبار.
وفيها أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع. ومكتوب على جميع أهل الملل {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} أي: لا أحد أوفى بعهده {مِنَ اللهِ} وعد الله لا يخلف الله الميعاد {فَاسْتَبْشِرُواْ} أيها المؤمنون {بِبَيْعِكُمُ} أي بهذا البيع {الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ} البيع {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} الرابح في الآخرة.

(3/6)


(وقال: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} الآية) أول الآية {انْفِرُواْ} أي اخرجوا {خِفَافًا وَثِقَالاً} نشاطًا وغير نشاط. ثم رغبهم في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته فقال {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة لأنكم تغرمون في النفقة قليلًا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} أن ثواب الجهاد خير لكم من القعود والتثاقل عنه.
وقال تعالى: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} والآيات في فضل الجهاد والحث عليه كثيرة معلومة وقال - صلى الله عليه وسلم - "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" صححه الحاكم فدلت الآيات والأحاديث وما في معنى ذلك على وجوب الجهاد بالمال وهو بذله فيما يقوم به من السلاح ونحوه.
وعلى وجوب الجهاد بالنفس وهو بالخروج والمبارزة للكفار. وبذل المهج في مرضاة الله. ووجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس هو إحدى الروايتين عن أحمد. قال ابن القيم وغيره هو الصواب الذي لاريب فيه فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه. بل جاء مقدمًا على النفس في كل موضع إلا موضعًا واحدًا. وهو الذي يدل

(3/7)


على أن الجهاد به أهم وأشهر من الجهاد بالنفس.
وفي هذا الخبر وجوبه باللسان بإقامة الحجة عليهم وبدعائهم إلى الله والزجر ونحوه مما فيه نكاية للعدو. وقال: جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد. فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع. وأما الجهاد بالنفس ففرض كفاية والصحيح وجوبه بالمال.
(وقال) تعالى: {وَأَعِدُّواْ} أي اتخذوا {لَهُم} لوقت الحاجة {مَّا اسْتَطَعْتُم} أي مهما أمكنكم {مِّن قُوَّةٍ} أي من الآلات التي تكون لكم عليهم قوة في الحرب لمقاتلتهم. وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر "ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي" ولا ينفي كون غيره من القوة بل إنه من أفضل المقصود وأجله. فدلت الآية على الاستعداد في الحرب بجميع ما يمكن من الآلات كآلة الرمي والسيف وغيرهما.
{وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} يعني اقتنائها وربطها للغزو في سبيل الله والربط شد الفرس وغيره بالمكان للحفظ. وربط الخيل للجهاد من أعظم ما يستعان به. وجاء في فضله أحاديث كثيرة.
وفي الصحيحين "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" يعني حسنات {تُرْهِبُونَ بِهِ} أي تخوفون بتلك القوة وبذلك الرباط {عَدْوَّ اللهِ} الكافر بالله {وَعَدُوَّكُمْ} المحارب

(3/8)


لكم. وذلك لأن الكفار إذا علموا أن المسلمين كانوا متأهبين للجهاد مستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم. فلا يقصدون دخول دار الإسلام. بل يصير ذلك سببًا لدخول الكفار في الإسلام. أو بذل الجزية للمسلمين.
(وقال) تعالى {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ} أي ما بالكم إذا دعيتم إلى الخروج {فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ} أي تثاقلتم وتباطأتم وتكاسلتم وملتم {إِلَى} المقام في {الأَرْضِ} في الدعة والخفض وطيب العيش (الآية) وتمامها {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي ما لكم فعلتم هكذا رضىً منكم بالدنيا بدلًا من الآخرة {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل} ما مضى منها وما بقي عند الله قليل كزاد الراكب.
(وعن أنس) بن مالك -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لغدوة) بالفتح وهي المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أول وقت من أول النهار إلى انتصافه (في سبيل الله) أي الجهاد (أو روحة) هي المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها (خير من الدنيا وما فيها. متفق عليه) هذا من باب تنزيل الغائب منزلة المحسوس تحقيقاً له في النفس. وإلا فجميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة.
وقيل إن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي

(3/9)


يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله. لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن رواحة "لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم" والمقصود تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد في سبيل الله. وأن من غدا أو راح في سبيل الله حصل له أعظم من جميع ما في الدنيا.
ولهما من حديث أبي هريرة وأبي أيوب "غدوة أو روحة في سبيل الله خير مما طلعت عليه الشمس وغربت" وفيهما "أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" وفي فضله أحاديث كثيرة وقال أحمد لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد. وقال الشيخ اتفق العلماء فيما أعلم أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد.
(ولهما من حديث سهل) بن سعد الساعدي –رضي الله عنه-. قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) الرباط لزوم ثغر للجهاد مقويًا للمسلمين. وفي السنن "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه" ولمسلم عن سلمان مرفوعًا "رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان" وأفضله الأشد خوفًا. لأن مقامه به أنفع وأهله به أحوج. وكذا الحراسة في سبيل الله ثوابه عظيم للأخبار وعظيم نفعه.

(3/10)


(ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من مات ولم يغز) بالفعل (ولم يحدث نفسه بالغزو) في سبيل الله (مات على شعبة) أي خصلة (من) خصال (النفاق) وهذا الوعيد دليل على وجوب الغزو في سبيل الله.
وهو فرض كفاية ما لم يحضر العدو. فيتعين على كل أحد.
ودليل على وجوب العزم على الجهاد.
(وعن أبي موسى) الأشعري -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قاتل) يعني في سبيل الله (لتكون كلمة الله هي العليا) أي لإظهار دين الله (فهو في سبيل الله متفق عليه) أو من كان قتاله طلب إعلاء كلمة الله وهو جواب سؤال عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
قال ابن بطال إنما عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله. فعدل عن ذلك إلى لفظ جامع. فأفاد رفع الالتباس وزيادة الإفهام. وقال الجمهور لا يضر إذا حصل ضمنًا لا أصلًا ومقصودًا وقال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث إعلاء كلمة الله لم يضره ما ينضاف إليه.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا الجهاد واجب عليكم مع كل أمير) على المسلمين (برًا كان) ولي أمر المسلمين (أو فاجرًا

(3/11)


رواه أبو داود) وغيره، وله عن أنس "ثلاث من أصل الإيمان" منها: "الجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" وفي الصحيح "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
قال الشيخ وغيره فيجب الغزو مع كل أمير برًا كان أو فاجرًا. حتى عد في العقائد الواجبة الاعتقاد للأخبار. ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تركه، وظهور الكفار على المسلمين.
واستئصالهم، وإعلاء كلمة الكفر. قال: وأهل السنة والجماعة يرون الجهاد مع كل أمير برًا كان أو فاجرًا.
(وله عن معاوية) -رضي الله عنه- (مرفوعاً) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا تنقطع الهجرة) أي الانتقال من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان (حتى تنقطع التوبة) أي قبولها "ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" وقال تعالى (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) وقال (إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) وقال - صلى الله عليه وسلم - "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" وقال "أنا بريء من مسلم بين مشركين"
وقال الوزير وغيره: اتفقوا علي وجوب الهجرة من ديار الكفر لمن قدر على ذلك وتسن الهجرة لقادر على إظهار دينه بنحو دار كفر. وتجب على عاجز عن إظهار دينه بمحل يغلب فيه حكم الكفر والبدع المضلة إحرازاً لدينه. ولا تجب من بين أهل

(3/12)


المعاصي. لقوله "من رأى منكم منكراً فليغيره" الحديث. والعمل على هذا عند أهل العلم.
وهجران أهل المعاصي كما قال شيخ الإسلام نوعان أحدهما بمعنى الترك للمنكرات. وهو المذكور في قوله {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وقوله {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} والمراد به أن لا يشهد المنكرات لغير حاجة. وهذا من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات. ومنه الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به. ومنه {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر}.
والنوع الثاني الهجر على وجه التأديب. وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها. كما هجر الثلاثة المتخلفون حتى نزلت توبتهم وهو بمنزلة التعزير. والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات. وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم. فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه. ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة كان مشروعًا. وإلا فالتأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يتألف قومًا ويهجر آخرين. وإذا اجتمع في الرجل خير وشر استحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من

(3/13)


الشر. فيجتمع في الشخص موجبات الإكرام والإهانة. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة.
(وعن عبد الله بن عمرو قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد) وفي رواية لأحمد وأبي داود. إني جئت أريد الجهاد معك (فقال أحي والداك؟ قال: نعم) وفي لفظ لأحمد وأبي داود ولقد أتيت وإن والدي يبكيان (قال: ففيهما فجاهد متفق عليه) سمى إتعاب النفس في القيام بمصالح الأبوين جهادًا من باب المشاكلة لما استأذنه في الجهاد. وفيه دليل على أنه يجب استئذانهما فيه إذا لم يتعين. وهو قول الجمهور. ولفظ أحمد وأبي داود قال "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما".
(ولأبي داود من حديث أبي سعيد) ارجع فاستأذنهما (فإن أذنا لك وإلا فبرهما) أي بطاعتهما في عدم الخروج في الجهاد.
وذلك أن برهما فرض عين. والجهاد فرض كفاية. وإن قيل فهما مستويان فمصلحة الجهاد أعم إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن المسلمين فقدم لذلك ولا يعتبر إذن غيرهما إلا الغريم. ولا إذنهما لواجب.
(وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل مشرك تبعه يوم
بدر) وهو بحرة الوبرة وكان تذكر فيه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه فلما أدركه قال لرسول
الله - صلى الله عليه وسلم - جئت لأتبعك وأصيب معك قال تؤمن بالله قال لا قال

(3/14)


(فارجع فلن أستعين بمشرك) وفي الثالثة قال "تؤمن بالله ورسوله" قال نعم قال: "فانطلق" (رواه مسلم) فلما أسلم أذن له.
فدل على أنها لا تجوز الاستعانة بالمشركين في القتال. وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. واختاره شيخ الإسلام وغيره.
ولأن الكافر لا يؤمن مكره وغائلته لخبث طويته. ويجوز عند الحاجة لأن عيينة الخزاعي كان كافرًا إذ ذاك. وفيه أيضًا من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم. ويجوز للضرورة لما روى الزهري أنه - صلى الله عليه وسلم - استعان بناس من اليهود في حرب خيبر سنة سبع. وشهد صفوان حنينًا والضرورة مثل كون الكفار أكثر عددًا ويخاف منهم. وإن جوز اشترط أن يكون حسن الرأي في المسلمين.
ويحرم أن يعينهم المسلمون على عدوهم إلا خوفًا من شرهم. لقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. ويحرم أن يستعين مسلم بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين لعظم ضررهم. قال الشيخ ولأنهم دعاة بخلاف اليهود والنصارى. وعلى ولي الأمر أن يعرف على القبيلة والجماعة العرفاء الأمناء ينظرون في أحوالهم. ويتعرف منهم أحوالهم لفعله - صلى الله عليه وسلم -.
وعليه أن يؤمر في كل ناحية أميرًا يقلده أمر الحرب وتدبير الجهاد. ويكون ممن له رأي ودين وخبره بالحرب ومكائد العدو

(3/15)


مع أمانة ورفق بالمسلمين. ويعقد لهم الرايات والألوية. ويتخير لهم المنازل ويحفظ مكامنها. ويبعث العيون ليتعرف حال العدو. ليأمنوا هجومهم. ولا يولي في ذلك إلا مسلمًا. قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا: شر ما في الرجل) من الخصال المذمومة. وفي لفظ شر ما أعطي الرجل: شح هالع و (جبن) هيبة وضعف يعتري القلب ضد الشجاعة (خالع) أي شديد كأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه. والمخلع الرخو المفكك المفاصل. رواه أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) وقال عمر الجبن والجرأة غرائز يضعها الله حيث يشاء.
فالجبان يفر عن أهله وولده. والجرئ يقاتل عمن لا يؤوب به إلى رحله. والمراد ما يعرض للمرء من نوازع الأفكار وضعف القلب عند الخوف. فيمنع من لا يصلح للحرب.
كشيخ هرم ومخذل يفند الناس عن القتال ويزهدهم فيه. كمن يقول الحر شديد والبرد شديد والمشقة شديدة أو لا تؤمن هزيمة الجيش. كما أنه لا يغزى مع مخذل ومرجف ومعروف بالهزيمة أو تضييع المسلمين.
وفيه الحرص على الشجاعة واختيار الشجعان. حتى
رخص الشارع في الخيلاء وهو التكبر عند القتال وإظهار الشجاعة ويري من نفسه القدرة والعظمة عند اللقاء. ومدار

(3/16)


القتال على قوة البدن والقلب والخبرة بالقتال.
(وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (في قوله) تعالى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} أي بعد أن تأسروهم إما أن تمنوا عليهم بإطلاقهم من غير عوض {وَإِمَّا فِدَاء} أي وإما أن تفادوهم فداء بأموال يدفعونها لكم أو رجال أسرى عندهم قال (فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالخيار) بين المن والفداء وعمل به الخلفاء بعده. قال البغوي وغيره هو الأصح والاختيار لأنه عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده.
وثبت في صحيح مسلم وغيره أن ثمانين من أهل مكة هبطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيال التنعيم فأخذهم سلمًا فاعتقهم.
ونزلت {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} وفي الصحيحين أنه أطلق ثمامة بن أثال. وفداء أسرى بدر قد تظاهرت به الأخبار. وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل، صححه الترمذي. وعن ابن مسعود مرفوعًا أنه قال يوم بدر "لا يبقى أحد من الأسرى إلا أن يفدى أو تضرب عنقه" فوقع منه - صلى الله عليه وسلم - المن والفداء والقتل. ومن خلفائه. واستفاض.
قال ابن القيم ذكر عن ابن عباس أنه خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسرى بين المن والفداء والقتل والاستعباد يفعل ما شاء. قال وهذا هو الحق الذي لا قول سواه. وقال الوزير اتفقوا على أن

(3/17)


الإمام مخير في الأسرى بين القتل والاسترقاق. والجمهور: وبين الفداء والمن. وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وقال الشيخ وغيره يعمل الإمام المصلحة في المال وغيره كما فعل - صلى الله عليه وسلم - بأهل مكة.

فصل في وجوب الطاعة
لله ورسوله ولأمير الجيش وما يلزم الجيش والمشاورة وغير ذلك.
وأصل الطاعة الانقياد. وهو امتثال الأمر فتجب طاعة الله ورسوله وتجب لأمير الجيش. ما لم يأمر بمعصية. ويجب إخلاص النية لله تعالى في الطاعات كلها.
(قال تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} وطاعة الله امتثال أمره فيما أمر والانقياد لذلك الأمر. وطاعة الله واجبة على كافة الخلق. وكذلك طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واجبة أيضًا. لهذه الآية وغيرها {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} أي وأطيعوا أولي الأمر منكم أمراء المسلمين في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبعده. ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرايا. أمر تعالى بطاعتهم بعد أمرهم بالعدل. تنبيهًا على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق. قال علي حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة. فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} إلى الله: إلى

(3/18)


كتابه. والرسول في حياته. وسنته بعد وفاته. {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فإن الإيمان يوجب ذلك {ذَلِكَ} أي الرد {خَيْرٌ} لكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} أحمد عاقبة.
(وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه. أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهارًا برأيهم. وتطييبًا لنفوسهم. وتمهيدًا لسنة المشاورة للأمة. والغالب أن السادات إذا لم يشاوروا في الأمور شق عليهم. وشاورهم - صلى الله عليه وسلم - في الذهاب إلى العير. وفي أحد. والخندق. والحديبية وغير ذلك. في الحروب وغيرها.
وسئل عن العزم فقال: "مشاورة أهل الرأي" وقالت عائشة "ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة للرجال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقال علي الاستشارة عين الهداية. وقد خاطر من استغنى برأيه.
والتدبر قبل العمل يؤمن من الندم. وما استنبط الصواب بمثل المشاورة. وقد يعزم الإنسان على أمر فيشاور فيه فيتبين له الصواب في قول غيره. وما أحسن ما قيل:
وشاور إذا شاورت كل مهذب ... لبيب أخي حزم ترشد في الأمر
ولا تك ممن يستبد برأيه ... فتعجز أو لا تستريح من الفكر
ألم تر أن الله قال لعبده ... وشاورهم في الأمر حتمًا بلا نكر

{فَإِذَا عَزَمْتَ} أي إذا شاورتهم على الأمر وعزمت عليه {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} فيه. أو إذا وطنت نفسك على شيء بعد

(3/19)


المشاورة فتوكل على الله في إمضاء أمرك. على ما هو أصلح لك. واستعن بالله في أمورك. ولا تعتمد إلا عليه. والمشاورة لا تنافي التوكل. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} عليه في جميع أمورهم. فيهديهم إلى ما هو الأصلح لهم. في الدنيا والآخرة.
(وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} جماعة كافرة {فَاثْبُتُواْ} للقائهم وذلك لأن يوطنوا أنفسهم على لقاء العدو وقتاله. ولا يحدثوها بالتولي. وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ثم قال "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم".
قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا} بقلوبكم وألسنتكم عند لقاء العدو {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون} وكونوا على رجاء الفلاح والنصر والظفر {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ} يعني في أمر الجهاد والثبات عند لقاء العدو
{وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} قوتكم {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين} وهذا تعليم من الله لعباده آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة العدو.
(وقال: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَار} الآية) أي تفروا وتتركوا أصحابكم {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً} فتقاربتم منهم ودنوتم إليهم {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ} ظهوركم. فإن المنهزم يولي دبره
{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ظهره {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} منعطفًا يرى من نفسه الانهزام وقصده طلب العزة وهو يريد الكرة {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} منضمًا صائرًا إلى جماعة المسلمين يريد العود إلى القتال فلا بأس عليه. وإلا فمن ولى ظهره بدون هذه النية فقد توعده الله بأنه {بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير}.
قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا التقى الزحفان وجب على المسلمين الحاضرين الثبات وحرم عليهم الانصراف والفرار إذ قد تعين عليهم. إلا أن يكون متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة. أو يكون الواحد مع ثلاثة أو المائة مع ثلاثمائة. وقال ابن رشد لا يجوز الفرار عن الضعف إجماعًا. لقوله {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} الآية وذكر نحو ما ذكره الوزير.
وقال مالك يجوز إن كان أعتق جوادًا أو أجود سلاحًا وأجود قوة. وسن الثبات مع عدم ظن التلف والقتال مع ظنه فهما أولى من الفرار والأسر. وكذا قال الشيخ وغيره يحرم نية الفرار من مثليهم للآيات والأخبار. وقال القتال لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب فالأول بأن يكون العدو كثيرًا لا يطيقه المسلمون ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين فهنا صرح الأصحاب بوجوب بذل مهجهم في الدفع حتى يسلموا.
ومثله لو هجم عدو على بلاد المسلمين والمقاتلة أقل من

(3/20)


النصف لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم. والثاني لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة أو قبلها أو بعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقًا إلا لمتحرف أو متحيز، وقال يسن الانغماس في العدو لمنفعة المسلمين ولا نهي عنه وهو من الهلكة.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله" فطاعته - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله ومعصيته معصية لله ولابد. فقد أمر الله تعالى بطاعته في غير موضع من كتابه (ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني متفق عليه) ولهما عن علي أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية عليهم رجل من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا. وقال في أئمة الجور "تسمع وتطيع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك فاسمع وأطع".
ولما قالوا له أفلا ننابذهم قال "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة" رواهما مسلم.
ولهما عن عبادة بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" وأجمع العلماء على طاعة السلطان والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه. لما في ذلك من حقن الدماء. ولم يستثنوا من ذلك

(3/22)


إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته.
وذكر الشيخ حديث عبادة "على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثره عليه" قال فأوجب الطاعة التي عمادها الاستنفار في العسر واليسر. وهذا نص في وجوبه مع الإعسار بخلاف الحج. وهذا في قتال الطلب. وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا، ولا يشترط له شروط بل يدفع بحسب الإمكان. والسمع والطاعة فيه أوجب وألزم.
(وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان رواه مسلم) ورواه أحمد وغيره وتمامه فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال إيانا تريد يا رسول الله والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرًا ووردت عليهم روايا قريش الحديث.
وفيه دليل على أنه يشرع للإمام أن يكثر من استشارة أصحابه الموثوق بهم دينًا وعقلًا حتى قيل بوجوبه للآية. ولهذا الخبر وغيره ولأحمد والشافعي عن أبي هريرة ما رأيت أحدًا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع هذا لا ريب أن أخذ الأحكام المتعلقة بالحرب ومصالح الإسلام وأهله وأمره

(3/23)


وأمور السياسات الشرعية من سيره - صلى الله عليه وسلم - ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال.
(ولهما عن كعب كان) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا أراد غزوة ورَّى) بفتح الواو وتشديد الراء أي سترها (بغيرها) وجاء الاستثناء إلا في غزوة تبوك فإنه أظهر لهم مراده. وأخرجه أبو داود وغيره وزاد ويقول "الحرب خدعة" وكان توريته إذا أراد قصد جهة سأل عن طريق جهة أخرى إيهامًا أنه يريدها. وإنما يريد ذلك لأنه أتم فيما يريده من إصابة العدو. وإتيانهم على غفلة من غير تأهبهم له. ويقع بالتعريف وبالكمين ونحو ذلك.
وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب. والندب إلى خداع العدو. وأن من لم يتيقظ لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه.
والاحتياج إلى استعمال الرأي آكد من الشجاعة. وقال النووي وغيره اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن. إلا ما يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز.
(وعن بريدة) بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي. المتوفى بمرو سنة اثنتين وستين. رواه عنه ابنه سليمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرًا على جيش) هم الجند السائرون إلى الحرب أو غيره (أو سرية) هي القطعة من الجيش تخرج منه تغير على العدو ثم

(3/24)


ترجع إليه. زهاء الأربعمائة. سميت سرية لأنها تسري ليلًا على خفية.
(أوصاه في خاصة) أي في حق (نفسه) خصوصًا بتقوى الله تعالى. وهي كلمة جامعة يدخل فيها جميع الطاعات واجتناب المحرمات (و) أوصاه (بمن معه من المسلمين خيرًا) أي أن يفعل معهم خيرًا من الرفق بهم والإحسان إليهم وتعريفهم ما يحتاجون إليه. فدل على أنه يشرع للإمام إذا أرسل قومه إلى قتال الكفار ونحوه أن يوصيهم بتقوى الله تعالى.
وينهاهم عن المعاصي وبالأخص المتعلقة بالقتال (ثم قال اغزوا) أي اشرعوا في فعل الغزو (على اسم الله) وفي لفظ بسم الله أي مستعينين باسمه مخلصين له.
(في سبيل الله) وفي لفظ طاعة الله. وفي الحديث "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر فهو في سبيل الله (قاتلوا من كفر بالله) هذا العموم شمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم. وقد خصص من له عهد. وكذا الرهبان والنسوان. ومن لم يبلغ الحلم. لأنه لا يكون منهم قتال غالبًا. فإن حصل منهم قتال أو تدبير قوتلوا (أغزوا) كرر - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالغزو: اهتمامًا بأمره.
(ولا تغلوا) بالغين المعجمة والغلول الخيانة في المغنم
مطلقًا. ويأتي تمام الكلام فيه (ولا تغدروا) بكسر الدال
وضمها. وهو ضد الوفاء. أي لا تنقضوا العهد (ولا تمثلوا)

(3/25)


من المثلة يقال مثل بالقتيل إذا قطع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئًا من أطرافه أو غيرها. تشويهًا وعبثًا به. قال الخطابي وغيره إن مثل الكافر بالمسلم جاز للمسلم أن يمثل به وإلا فلا.
وقال الشيخ: المثلة حق للمسلم فله فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر. وله تركها والصبر عنها أفضل. وذلك حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد. أو يكون نكالًا لهم عن نظيرها. وأما إذا كان فيه دعاء لهم إلى الإيمان وزجر لهم عن العدوان فإنه هنا نوع من إقامة الحدود. ومن الجهاد المشروع المندوب إليه (ولا تقتلوا وليدًا) هو الصبي ما لم يبلغ سن التكليف. وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعًا "نهى عن قتل النساء والصبيان" وكان - صلى الله عليه وسلم - يسترق النساء والصبيان إذا سباهم. وعلى قاتلهم غرم الثمن غنيمة.
فلا يجوز قتل صبي ولا امرأة. وكذا راهب وشيخ فان وزمن وأعمى لا رأي لهم ولم يقاتلوا. أو يحرضوا. وحكي الإجماع على أنه لا يجوز قتل الصبيان ولا النساء ما لم يقاتلن. إلا أن يكن ذوات رأي فيقتلن. ولأنهم يصيرون أرقاء. قال ابن رشد في الرهبان: يتركون ولا يتعرض لهم، لا بقتل ولا استعباد لقوله - صلى الله عليه وسلم - "ذروهم وما حبسوا أنفسهم عليه".
وقال الشيخ الراهب الذي يعاون أهل دينه بيده ولسانه. مثل أن يكون له رأي يرجعون إليه في القتال. أو نوع من التحضيض. فهذا يقتل باتفاق العلماء إذا قدر عليه. وتؤخذ منه

(3/26)


الجزية. وإن كان حبيسًا منفردًا في معبد. فكيف بمن هم كسائر النصارى في معائشهم ومخالطتهم الناس. واكتساب الأموال. وأما الأعمى ونحوه فقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا كان الأعمى والمقعد والشيخ الفاني وأهل الصوامع لهم رأي وتدبير وجب قتالهم.
وقال ابن رشد النكاية جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين ذكرانهم وإناثهم، شيوخهم وصبيانهم، صغارهم وكبارهم. واستثنى قوم الرهبان وقال الشيخ اتفقوا على جواز قطع الشجر وتخريب العامر عند الحاجة إليه. وليس ذلك بأولى من قتل النفوس. وما أمكن غير ذلك.
(وإذا لقيت عدوك من المشركين) ناكثي العهد وناصبي العداوة المحادين لله ورسوله (فادعهم إلى ثلاث خصال) أي إلى إحدى ثلاث خصال الدخول في الإسلام أو بذل الجزية. وفيه "أو خلال" شك من الراوي وزنهما ومعناهما واحد.
ويفسر إحداهما بالأخرى (فأيتهن ما أجابوك) أي فإلى أية الخصال أجابوك إليها أي قبلوها منك. والخطاب لأمير الجيش (فاقبل منهم) ما أجابوك إليه من الثلاث (وكف عنهم) القتال.
وبين الثلاث بقوله (ادعهم إلى الإسلام) هذا أول الخلال الثلاث وأوجب مالك وغيره الدعوة مطلقًا. قال لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا ولا يلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز أن تؤخذ غرتهم. ونصره الموفق وغيره.

(3/27)


لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين إنما يقاتلون للدين. فإذا علم العدو ذلك كان سببًا لانقيادهم للدخول في الإسلام. وقيل لا تجب وجمهور العلماء أن الدعوة تجب لمن لم تبلغه. قاله ابن المنذر وغيره. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بذلك. وبه تجمع الأدلة.
(فإن أجابوك فاقبل منهم) الإسلام (وكف عنهم القتال لإجابتهم ما دعوتهم إليه من الإسلام (ثم ادعهم إلى التحول) أي النقلة (من دارهم) أي منازلهم ومحالهم (إلى دار المهاجرين) مساكنهم وكل قبيلة اجتمعت في محلة سميت تلك المحلة دارًا وفيه ترغيبهم بعد إجابتهم للهجرة إلى ديار المسلمين. لأن البقاء بالبادية ربما كان سببًا لعدم معرفة الشريعة لقلة ما فيها من أهل العلم. وتقدم أنها واجبة على من أسلم. وهو في بلد الشرك إلى بلد الإسلام إذا استطاع. وتجب أو تستحب إذا ظهرت المعاصي كما نص عليه بعض أهل العلم.
(وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك) أي تحولوا من دارهم إلى دار المهاجرين (فلهم ما للمهاجرين) أي المنتقلين من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من ثواب وفيء وغير ذلك (وعليهم ما على المهاجرين) أي من الجهاد والنفير إذا دعوا إليه.
والمهاجرون هم الذين تركوا أوطانهم وهجروها في الله تعالى. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق عليهم مما أفاء الله عليه. ولم يكن للأعراب في ذلك حظ والأعراب من قاتل منهم أخذ سهمه ومن

(3/28)


لم يخرج فلا شيء له من الفيء. ولا عتب عليه ما دام في المجاهدين كفاية.
(فإن أبوا أن يتحولوا منها) أي أن ينتقلوا من بلادهم إلى بلاد المسلمين ولم يجاهدوا. ولأبي داود "واختاروا دارهم (فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين) يعني سكان البادية من المسلمين من غير هجرة ولا غزو (يجري عليهم ما يجري على المسلمين) من أحكام الإسلام كوجوب الصلاة والزكاة والقصاص والدية ونحو ذلك (ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء) وإنما لهم من الزكوات.
والغنيمة هي ما أوجف المسلمون عليه بالخيل والركاب. والفيء هو ما أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف (إلا أن يجاهدوا مع المسلمين) فيستحقون ذلك. وظاهره أنه لا يستحق من كان بالبادية ولم يهاجر نصيبًا في الفيء والغنيمة إذا لم يجاهد. وهو مذهب الشافعي وأحمد.
(فإن هم أبوا) أي عن قبول الإسلام (فاسألهم الجزية) وهي المال الذي يعقد عليه الذمة. فعلة من الجزاء. كأنهم جزت عن قتله. وهذه الثانية من الخصال الثلاث. ودل الحديث أن
الجزية تؤخذ من كل كافر كتابي أو غيره، لقوله "إذا
لقيت عدوك" وهو عام وهو مذهب مالك والأوزاعي وغيرهما. ورجحه ابن القيم واختار شيخ الإسلام أخذها من جميع

(3/29)


الكفار. وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد. بل كانوا قد أسلموا.
قال وإذا عرفت حقيقة السنة تبين لك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين عربي وغيره. وأن أخذه للجزية كان أمرًا ظاهرًا مشهورًا. وقدوم أبي عبيدة بمال البحرين معروف. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص العرب بحكم في الدين. لا بمنع الجزية ولا منع الاسترقاق. ولا تقديمهم في الإمامة ولا بجعل غيرهم ليس كفوا لهم في النكاح. ولا بحل ما استطابوه دون ما استطابه غيرهم. بل إنما علق الأحكام بالأسماء المذكورة في القرآن. كالمؤمن والكافر والبر والفاجر.
قال ويؤخذ من بني تغلب عوض الجزية زكاتان. مما تجب فيه الزكاة. ويجوز تغييره لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة. وجعل جماعة ذلك كالخراج والجزية. قال وإنما وقعت الشبهة في المجوس لما اعتقد بعض أهل العلم أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب. وقد أخذت منهم بالنص والإجماع (فإن أجابوك) أي إلى بذل الجزية (فأقبل منهم وكف عنهم) أي القتال.
(فإن أبوا) عن قبول الجزية (فاستعن بالله) عليهم فهو الذي بيده النصر والتأييد (وقاتلهم) كما قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ

(3/30)


الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} وقال: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} وغيرها من الآيات الدالة على قتال المشركين إلى هذه الغاية.
(وإذا حاصرت منعت وحبست (أهل حصن) من الكفار وضيقت عليهم وأحطت بهم. والحصن كل موضع حصين لا يوصل إلى جوفه قصراًَ كان أو غيره. قال الشيخ لزمه عمل المصلحة من مصابرته والموادعة بحال والهدنة بشرطها (فأرادوك) أي طلبوا منك (أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه) الذمة عقد الصلح والمهادنة.
وإنما نهى عن ذلك لئلا ينقض الذمة من لا يعرف حقها. وينتهك حرمتها بعض من لا تمييز له من الجيش. فكأنه يقول إن وقع نقض من متعد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله وعهد نبيه. فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه لأن نقض ذمة الله وذمة رسوله امتدت من نقض ذمة أمير الجيش أو ذمة جميع الجيش. وإن كان نقض الكل محرماً (ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك) ولا تجعل لهم ذمة الله تعالى ولا ذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
(فإنكم أن تخفروا) بضم التاء. من أخفرت الرجل إذا نقضت عهده. وذمامه. أي تنقضوا (ذممكم وذمم أصحابكم)

(3/31)


يعني الجيش (أهون) أي عند الله (من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه) وإن كان نقض الذمة محرماَ مطلقاً. فخفركم ذممكم وذمم أصحابكم أهون من خفركم ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله) أي على ما يحكم الله فيهم (فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك) فدل على جواز إنزالهم على حكم ولي أمر الجيش. وكذا غيره لقصة سعد لما نزل بنو قريظة على حكمه. وحكم أن يقتل رجالهم وتستحي نسائهم. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أصبت حكم الله فيهم" صححه الترمذي.
فيجوز نزول العدو على حكم رجل من المسلمين. ويلزمهم ما حكم به عليهم من قتل أو أسر أو استرقاق (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) وعلله بأنه لا يدري أيصيب حكم الله فيهم أم لا يصيب حكم الله. فلا ينزلهم على شيء لا يدري أيقع أم لا. بل ينزلهم على حكمه (رواه مسلم) وأبو داود وغيرهما قال الشيخ وإن نزلوا على حكم رجل مسلم حر عدل مجتهد في الجهاد أو أكثر منه جاز.
ويلزمه الحكم بالأحظ لنا. من قتل أو رق أو فداء وحكمه لازم. قال وتخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير لأي مصلحة. بطلب أي الأمرين كان أرضى لله فعله. ولا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت. بل قد يتعين

(3/32)


فعل هذا تارة وفعل هذا تارة. وقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} يقتضي فعل أحد الأمرين.

فصل في الغنيمة
أي في بيان أحكام الغنيمة وقسمتها بين الغانمين. وقسمة خمسها وتحريم الغلول. والغنيمة هي ما أصيب من مال أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب. وهي من خصائص هذه الأمة. حلال بالكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} من أموال الكفار. والسبب محذوف تقديره أبحت لكم الغنائم {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} أكلًا {حَلاَلاً} ضد الحرام إزاحة لما في قلوبهم بسبب تلك المعاتبة في الأسرى. أو حرمة الغنائم على الأولين. ولذلك وصفه بقوله {طَيِّبًا} أي هنيئًا لذيذًا. وحلالًا بالشرع طيبًا بالطبع {وَاتَّقُواْ اللهَ} فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ} لما فعلتم {رَّحِيم} بإحلال ما غنمتم. وفي الصحيحين "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي" وروي أنه قال: "ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا".
(وقال: {وَاعْلَمُواْ} أيها المسلمون {أَنَّمَا غَنِمْتُم} أي الذي غنمتم من الكفار قهرًا {مِّن شَيْءٍ} أي مما يقع عليه اسم
الشيء حتى الخيط والمخيط {فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ} أي: فثابت أن الله خمسه {وَلِلرَّسُولِ} وذكر الله ههنا استفتاح كلام للتبرك.

(3/33)


والجمهور أن ذكر الله للتعظيم. وأضافه لنفسه لأنه هو الحاكم فيه. فيقسمه كيف شاء. وليس المراد منه أن سهمًا منه لله منفردًا. لأن الدنيا والآخرة كلها منه.
فسهم الله وسهم رسوله واحد فتجعل خمسة أخماس أربعة أخماسها لمن قاتل عليها وأحرزها. والخمس الباقي لخمسة أصناف سهم لله وللرسول. كما ذكر الله عز وجل {فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} وهذا قول غير واحد من الخلف والسلف. ويؤيده ما رواه البيهقي وغيره أن رجلًا قال يا رسول الله ما تقول في الغنيمة فقال "لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش" وهذا الخمس يقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له في حياته.
واليوم هو لمصالح المسلمين. وما فيه قوة الإسلام. يتصرف فيه الإمام بالمصلحة كالفئ. قال الشيخ وهو قول مالك وأكثر السلف الصالح وهو أصح الأقوال. {وَلِذِي الْقُرْبَى} يعني أن سهمًا من خمس السهم لذوي القربى وهم أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون بني عبد شمس ونوفل. وقال بعضهم ولا يفضل الفقير على الغني لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده يعطون العباس مع كثرة ماله.
{وَالْيَتَامَى} جمع يتيم ويعطى من خمس الخمس إذا كان فقيرًا {وَالْمَسَاكِينِ} وهم أهل الحاجة والفاقة من المسلمين {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المسافر البعيد عن ماله. فهذا مصرف

(3/34)


خمس الغنيمة. ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة كما سيأتي قال تعالى {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ} أي فاعملوا به وارضوا بهذه القسمة. فالإيمان يوجب الرضا بحكم الله والعمل به.
{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم وفي الصحيحين في ذكر خصال الإيمان "وآمركم أن تؤدوا الخمس من المغنم" فجعل أداء الخمس من الإيمان بالله. فدلت الآية على مصرف الغنيمة وهو مذهب جمهور العلماء.
وقال {وَمَن يَغْلُلْ} أي من المغانم شيئًا {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} ليزداد فضيحة بما يحمله {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} حاملًا له على عنقه كما في الحديث أو بما احتمل من وباله وإثمه فيجازي به يوم القيامة. وهو قوله {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} من خير أو شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} بل يجازي كل على عمله.
(وللخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل) أي يزيد المستحق لعنايته وقتاله وغير ذلك. مأخوذ من النفل وهو الزيادة (في البدأة) بفتح الباء وسكون الدال أي ابتداء السفر للغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر (الربع) مما غنموا (وفي الرجعة) أي القفول من الغزو إذا أوقعوا بالعدو مرة ثانية (الثلث) مما غنموا رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن.

(3/35)


ولأبي داود وغيره عن حبيب بن مسلمة شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة" وفي رواية بعد الخمس. وتنفيل الثلث لأجل ما لحق الجيش من الكلال وعدم الرغبة في القتال. وله عن معن بن زيد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "لا نفل إلا بعد الخمس" وجمهور العلماء على جوازه. وقال شيخ الإسلام كان - صلى الله عليه وسلم - ينفل السرية الربع. وإذا رجعوا الثلث بعد الخمس اهـ.
وإنما شركوا الجيش فيما غنمت السرية لأن الجيش ردء لها. قال ابن عبد البر لا يختلف الفقهاء أنه إذا خرج الجيش جميعه ثم انفردت منه قطعة فغنمت شيئًا كانت الغنيمة للجميع. وليس المراد من في بلاد الإسلام، وإنما المراد القريب الذي يلحقهما عونه وغوثه لو احتاجوا. قال الشيخ وكذا لو غنمت الجيش شاركتهم السرية لأنها في مصلحة الجيش. كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لطلحة والزبير يوم بدر لأنه بعثهما في مصلحة الجيش.
فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم. وخبر "يرد عليهم أقصاهم" يوجب أن السرية إذا غنمت غنيمة بقوة جيش كانت للجميع. إذ بقوته غنموها. قال ويجوز أن ينفل السرية من أربعة الأخماس وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض اهـ. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية وأنا فيهم قبل نجد فغنموا إبلًا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر
بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا" ولهما عنه "كان ينفل بعض من يبعث

(3/36)


من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسمة عامة الجيش".
ولم يرد ما يدل على الاقتصار على نوع معين ولا مقدار معين. فيفوض إلى رأي الإمام. وهذا قول الجمهور لما تقدم. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "وترد سراياهم على قعدهم" رواه أبو داود. ولأن لهم تأثيرًا في أخذ الغنيمة.
(وعن ابن عمر قال قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر) وكانت سنة سبع. وأول إسهامه يوم بني قريظة (للفرس سهمين) لتأثيرها في الحرب (وللراجل سهمًا متفق عليه) وفي رواية أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم سهمين لفرسه وسهمًا له ومن حديث أبي عمرة أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهمًا. فكان للفارس ثلاثة أسهم. قال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن القيم هذا حكمه الثابت عنه في مغازيه كلها وبه أخذ جمهور العلماء اهـ.
ولأن سهم الفارس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس. وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل. وهذا قول الجمهور وقيل يسهم لفرسين لكون إدامة ركوب واحد سيضعفه ويمنع القتال عليه.
بخلاف ما فوق ذلك فإنه يستغني عنه. فيعطي صاحبها خمسة أسهم سهم له وأربعة لفرسيه. وهو مذهب أحمد.
وروى الأوزاعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسهم للخيل وكان لا يسهم

(3/37)


للرجل فوق فرسين. ورواه الحسن عن بعض الصحابة. ويسهم للفرس الهجين سهمًا عند الأكثر. لما روى مكحول أنه - صلى الله عليه وسلم - "أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهمًا" رواه سعيد وأبو داود مرسلًا. ولا شيء لغير الخيل من البهائم إجماعًا لعدم وروده.
قال الشيخ ويرضخ للبغال والحمير وهو قياس الأصول كما يرضخ لمن لا سهم له من النساء والعبيد والصبيان.
قال ابن القيم ونص أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة. والعطاء الذي أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقريش والمؤلفة هو من النفل نفل به النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤوس القبائل والعشائر ليتألفهم به وقومهم على الإسلام فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس والربع بعده لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته واستجلاب عدوه إليه. وهكذا وقع سواء.
وللإمام أن يفعل ذلك لأنه نائب عن المسلمين إذا دعت الحاجة. فيتصرف لمصالحهم وقيام الدين. وإن تعين الدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم تعين عليه اهـ. وكل من شهد الوقعة من أهل القتال بقصد الجهاد أسهم له قاتل أو لم يقاتل حكاه الوزير وغيره اتفاقًا. بخلاف من لم يكن قاصدًا له كتاجر ونحوه. فإن قاتل فالجمهور على أنه يسهم له.
قال ابن رشد إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد

(3/38)


شرطين إما أن يكون ممن حضر القتال وإما أن يكون ردءًا لمن حضره. وحكى ابن القيم على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد لا يشترط في الغنيمة ولا في الثواب مباشرة كل واحد في القتال. وقال المجد في الأجراء من كان للقتال استحق الإسهام من الغنيمة ومن لم يقصد فلا يستحق إلا الأجرة المسماة جمعًا بين قصتي أجير طلحة ويعلى. أعطي الأول ومنع الثاني رواه مسلم.
(ولهما عن أبي قتادة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من قتل قتيلًا) وذلك أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ورأى رجلًا من المشركين فضربه على حبل عاتقه. ولما تراجع الناس وجلس رسول الله قال من قتل قتيلًا (له عليه بينة) أي شاهد ولو واحد. فإنه قال رجل من القوم صدق يا رسول الله فأمره بإعطائه إياه. قال ابن القيم أجاز شهادة الواحد ولم يطالب القاتل بشاهد آخر. وقال تقبل بشاهد واحد من غير يمين لهذا الخبر فلا استحلاف.
(فله سلبه) السلب بفتح المهملة واللام وهو ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره. وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حنين "ومن قتل رجلًا فله سلبه" فقتل أبو طلحة عشرين رجلًا وأخذ أسلابهم رواه أحمد وأبو داود. ولمسلم عن عوف بن مالك أنه قال لخالد بن الوليد أما علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل! وفيه أنه حاز فرسه وسلاحه. وقصة سلمة بن الأكوع

(3/39)


متفق عليها. وأنه جاء بجمل القتيل يقوده فقال - صلى الله عليه وسلم - "من قتل الرجل" قالوا سلمة بن الأكوع فقال "له سلبه أجمع".
فدلت هذه الأحاديث على أن السلب الذي يؤخذ من العدو الكافر ملبوسًا كان أو غيره كالسلاح والدابة وما عليها بآلتها يستحقه قاتله عند الجمهور. وقال الزركشي هذا أعدل الأقوال. وقال ابن رشد عليه جماعة السلف سواء قال الإمام ذلك قبل القتال أو لا. قال الشافعي قد حفظ هذا الحكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواطن كثيرة. منها: يوم بدر حكم بسلب أبي جهل. وخاطب ابن أبي بلتعة يوم أحد. والأحاديث في هذا حكم كثيرة.
وقوله "من قتل قتيلًا فله سلبه" بعد القتال مقرر للحكم. فإن هذا كان معلومًا عند الصحابة. قال أبو قتادة فقلت من يشهد لي فقال رجل –قيل إنه قرشي- سلب ذلك عندي فارضه، فقال أبو بكر يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صدق فأعطه إياه" فأعطانيه. قال فبعت الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة. فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام" متفق عليه.
وسواء كان قتله حال الحرب أو انهزم والحرب قائمة فأدركه وقتله فسلبه له. أو قتله منفردًا. لقصة ابن الأكوع. ورجحه الشيخ. وإن شاركه غيره فبينهما. وعموم الأدلة قاضية بعدم تخميسه.

(3/40)


(وعن ابن عمر أنه ذهب فرس له) الفرس اسم جنس يذكر ويؤنث (فأخذه العدو) الكافر المحارب (فظهر عليهم المسلمون فرد عليه) في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبق عبد الله فلحق بأرض الروم وظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - (رواه البخاري) وأبو داود وغيره. وفي رواية أن غلامًا لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقسم. وروي أن الفرس في زمن أبي بكر.
وبتقدير أن ذلك في زمنه والصحابة متوافرون من غير نكير فهو إجماع. ومتى وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به عند الجمهور. وبعد القسمة بالقيمة. قال الشيخ وإن كان المغنوم مالًا قد كان للمسلمين قبل من عقار ومنقول وعرف صاحبه قبل القسمة فإنه يرد إليه بإجماع المسلمين اهـ. فإن قسم بعد العلم أنه مال مسلم لم تصح قسمته. وما لم يملكون فلا يغنم بحال.
وذكر الشيخ أنهم يملكون أموال المسلمين بالقهر ملكًا مقيدًا لا يساوي ملك المسلمين من كل وجه وقال ابن القيم مضت السنة أن الكفار المحاربين إذا أسلموا لم يضمنوا ما أتلفوه على المسلمين من نفس أو مال ولم يردوا عليهم أموالهم التي غصبوها عليه بل من أسلم على شيء فهو له هذا حكمه - صلى الله عليه وسلم - وقضاؤه. وقال الشيخ وما لم يملكوه فإن ربه يأخذه مجانًا ولو بعد

(3/41)


إسلام من هو معه أو قسمته وشرائه منهم. وإن جهل ربه وقف أمره. ولا يملك الكفار حرًا مسلمًا ولا ذميًا بالاستيلاء عليه ويلزم فداؤهم.
(وله عنه) أي وللبخاري وغيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما- (قال كنا نصيب العسل والعنب) أي في المغازي (فنأكله) وفي رواية والفواكه. وفي أخرى والسمن (ولا نرفعه) أي لا نحمله على سبيل الادخار. أو لا نرفعه إلى من يتولى أمر الغنيمة ونستأذنه في أكله. اكتفاء بما علمه من الأذن في ذلك. وفي رواية أصبنا طعامًا وأغنامًا يوم اليرموك فلم يقسم. ولأبي داود فلم يؤخذ منهم الخمس وله عن ابن أبي أوفى قال أصبنا طعامًا يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه ثم ينصرف.
ولمسلم عن عبد الله بن مغفل أصبت جرابًا من شحم يوم خيبر فالتزمته. فقلت لا أعطي اليوم أحدًا من هذا شيئًا.
فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسمًا. وغير ذلك من الأخبار الدالة على جواز أخذ الطعام. وقال ابن المنذر اتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام. وقال ابن المنذر اتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام. وحكاه جماعة قول الجمهور. وكذا ما يصلح به. وكل طعام أعتيد أكله عمومًا. وعلف الدواب قبل القسمة بإذن الإمام أو غيره. وأن هذه الأحاديث مخصصة أحاديث النهي عن الغلول.
ويجوز ركوب الدابة. ولبس الثوب حال الحرب من غير

(3/42)


إعجاف وإتلاف. لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه. ولا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده". رواه أبو داود وغيره. وحكاه الحافظ اتفاقًا. وحكى الوزير وغيره الاتفاق على أنه لا يجوز لأحد من الغانمين أن يطأ جارية من السبي قبل القسمة.
(وعن عبادة مرفوعًا لا تغلوا) أي لا تخونوا. والغلول الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة. سمي غلولًا لأن صاحبه يخفيه في متاعه. أو لأن الأيدي فيها مغلولة (فإن الغلول) يعني الخيانة (نار) على أصحابه (وعار) أي فضيحة في الدنيا والآخرة (على أصحابه) الكاتمين ما غنموا أو بعضه (في الدنيا) يفتضح به صاحبه إذا ظهر للناس (والآخرة) على الصفة الشنيعة في حمله (رواه أحمد) ورواه النسائي وصححه ابن حبان.
وفي رواية "أدوا الخيط والمخيط فإن الغلول عار ونار على أهله يوم القيامة" واتفقوا على تحريمه للآية وهذا الخبر وغيره.
ففي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من المغانم يوم خيبر لم تصبها المقاسم. وجاء رجل بشراك أو شراكين فقال "شراك من نار أو شراكان من نار" وفيهما في صاحب البردة "هو في النار" في بردة غلها. أو عباءة.

(3/43)


ومذهب أحمد وغيره حرق متاعه. لما رواه هو وأبو داود من حديث عمر "إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه" وله من حديث عمرو بن شعيب أنه - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر. حرقوا متاع الغال. وضربوه. لكن قال البخاري قد روي في غير حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغال. ولم يأمر بحرق متاعه وقال الدارقطني حرق متاع الغال لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت حرمان سهمه في خبر. ولا دل عليه دليل. ولا قياس. فبقي بحاله.
ومذهب جمهور العلماء وأئمة الأمصار أنه يعزر بما يراه الإمام. ولا يحرق رحله. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم. ومن لا يحصى من الصحابة والتابعين.
واختار الشيخ أن تحريق رحل الغال من باب التعزير لا الحد. فيجتهد الإمام بحسب المصلحة. وصوبه في الإنصاف وغيره. وورد أن "هدايا العمال غلول" رواه أحمد وغيره.
وقال الشيخ ما أخذه العمال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم. كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل. قال أبو سعيد هدايا العمال غلول.
وروي مرفوعًا. ويشهد له قصة ابن اللتبية. وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك. هو من نوع الهدية. ولهذا شاطرهم

(3/44)


عمر. لما خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها. لأنه إمام عادل يقسم بالسوية.

فصل في الفيء
وقسمته وما يتعلق بذلك. الفيء هو: كل مال أخذ من الكفار من غير قتال. ولا إيجاف خيل ولا ركاب. قال الشيخ وغيره خلق الله الخلق لعبادته وأعطاهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته فالكفار لما كفروا بالله وعبدوا معه غيره لم يبقوا مستحقين للأموال. فأباح الله لعباده قتلهم وأخذ أموالهم.
فصارت فيئًا أعاده الله على عباده المؤمنين. لأنهم هم المستحقون له.
وكل مال أخذ من الكفار قد يسمى فيئًا حتى الغنيمة. لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حنين "ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود عليكم" لكن لما قال الله {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآيات صار اسم الفيء عند الإطلاق لما أخذ من الكفار بغير قتال (قال تعالى: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي رد الله على رسوله.
يقال فاء يفيء أي رجع. وأفاءها الله {مِنْهُمْ} أي من بني النضير أو من الكفرة.
{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} أجريتم على تحصيله من الوجيف. وهو سرعة السير {مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلبك الراكب على مركوبه (إلى قوله {مَا أَفَاء اللَّهُ

(3/45)


عَلَى رَسُولِهِ} قال ابن كثير أي ما قاتلتم الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة. بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فأفاءه الله على رسوله. ولهذا تصرف فيه كما يشاء. فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله في هذه الآيات.
وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم. طلب المسلمون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقسمها بينهم. كما فعل بغنائم خيبر. فبين الله في هذه الآيات أنها فيء. لم يوجف عليه المسلمون خيلًا ولا ركابًا. ولا قطعوا إليها مسافة. ولا نالوا مشقة. ولم يلقوا حربًا. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} لا يغالب ولا يمانع.
{مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي جميع البلدان التي تفتح هكذا. فحكمها حكم أموال بني النضير.
وهذا بيان للأول فلذلك لم يعطف عليه. ولهذا قال {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه. قال تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ} أي كيلا يبقى مأكله يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء. ولا يصرفون منها شيئًا إلى الفقراء.
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أي مهما أمركم به فافعلوه {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} أي مهما نهاكم عنه فاجتنبوه. فإنه إنما يأمركم

(3/46)


بخير وينهاكم عن شر {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفة أمره {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} لمن خالف. ثم بين حال الفقراء المستحقين لمال الفيء، {وأنهم الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ}. ثم ذكر الذين من بعدهم إلى قوله: {رَؤُوفٌ رَّحِيم} فأخبر تعالى أن ما أفاء على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بجملته لمن في هؤلاء الآيات. ولم يخص منه خمسه بالمذكورين بل عمم وأطلق واستوعب.
ويصرف على المصارف الخاصة. وهم أهل الخمس. ثم على المصارف العامة وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم الدين. قال الشيخ والذي عمل به - صلى الله عليه وسلم - هو وخلفاؤه هو المراد من هؤلاء الآيات. ولذلك قال عمر ما أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب إلا العبيد. وقرأ {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} حتى بلغ {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} فقال هذه استوعبت المسلمين عامة. قال الشيخ ولا حق للرافضة في الفيء وليس لولاة الأمور أن يستأثروا منه فوق الحاجة. كالإقطاع يصرفونه فيما لا حاجة إليه.
والأموال التي يتولى قسمتها ولاة الأمور. ثلاثة: مال المغانم وهي لمن شهد الوقعة إلا الخمس والفيء. وهو ما ذكره الله في قوله: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآيات {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} حركتم وأعملتم وسقتم. وهو ما صار للمسلمين بغير إيجاف خيل ولا

(3/47)


ركاب. وذلك عبارة عن القتال. أي ما قاتلتم عليه. فما قاتلوا عليه كان للمقاتلة. وما لم يقاتلوا عليه فهو فيء. لأن الله أفاءه على المسلمين فإنه خلق الخلق لعبادته وأحل لهم الطيبات ليأكلوا طيبًا ويعملوا صالحًا. والكفار عبدوا غيره فصاروا غير مستحقين للمال. فأباح للمؤمنين قتالهم. وأن يسترقوا أنفسهم. وأن يسترجعوا الأموال منهم. فإذا أعادها الله إلى المؤمنين فقد فاءت. أي رجعت إلى مستحقيها. وهذا الفيء يدخل في جزية الرؤوس التي تؤخذ من أهل الذمة. وما يؤخذ منهم من العشور. وأنصاف العشور.
وما يصالح عليه الكفار من المال الذي يحملونه. وغير ذلك. ويدخل فيه ما جلوا عنه وتركوه خوفًا من المسلمين. كأموال بني النضير. وذكر تعالى مصارفه، فقال {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} إلى {رَؤُوفٌ رَّحِيم} فهؤلاء المهاجرون والأنصار ومن جاء بعدهم إلى يوم القيامة. ومنه ما ضربه عمر على أهل الأرض التي فتحها عنوة ولم يقسمها. كأرض مصر والعراق إلا يسيرًا. وبر الشام وغير ذلك.
قال واتفق العلماء أنه يصرف منه ارزاق الجند. ومذهب أبي حنيفة ومالك والمشهور في مذهب أحمد والشافعي أنه لا يختص به المقاتلة. بل يصرف في المصالح كلها. وعلى القولين يعطي من فيه منفعة عامة لأهل الفيء قال وإذا كان للمصالح فيصرف منه إلى كل من للمسلمين به منفعة عامة. كالمجاهدين

(3/48)


وولاة أمورهم. من ولاة الحرب وولاة الديوان. وولاة الحكم ومن يقرئهم القرآن. ويفتيهم ويحدثهم ويؤمهم في صلاتهم. ويؤذن لهم.
ويصرف منه في سد ثغورهم وعمارة طرقاتهم. وحصونهم. ويصرف منه إلى ذوي الحاجات منهم أيضًا. ويبدأ فيه بالأهم فالأهم. فيقدم ذوو المنافع الذين يحتاج المسلمون إليهم على ذوي الحاجات الذين لا منفعة فيهم. هكذا نص عليه عامة الفقهاء من أصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم. قال ولا يعطى غني شيئًا حتى يفضل عن الفقراء.
هذا مذهب الجمهور. كمالك وأحمد في الصحيح من الروايتين عنه. ومذهب الشافعي تخصيص الفقراء بالفاضل.
والمال الثالث زكاة أموال المسلمين. فمصرفه ما ذكره الله في كتابه. قال وجمهور العلماء على أن الفيء لا يخمس. كقول مالك وأبي حنيفة وأحمد. وهو قول السلف قاطبة. وهو الصواب فإن السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه تقتضي أنهم لم يخمسوا فيئًا قط. وصوب أن مال الخمس والفيء سواء.
وقال اتفق المسلمون على أن من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين. ومثله المظالم المجهول أربابها. وما اجتمع من بيت المال. ولم يرد إلى أصحابه. فصرفه في مصالح أصحابه والمسلمين أولى. من صرفه فيما لا ينفع أصحابه أو فيما يضر.

(3/49)


(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها) قال القاضي يحتمل أن يكون المراد الذي لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب بل صالحوا عليه.
(فسهمكم فيها) أي حقكم من العطايا كما يصرف الفيء (وأيما قرية عصت الله ورسوله) وأخذت عنوة (فإن خمسها لله ورسوله) أي تكون غنيمة يخرج منها الخمس (ثم هي لكم) أي باقيها للغانمين رواه مسلم وأحمد وغيرهما.
فدل على أن الأرض المغنومة للغانمين. حكمها حكم سائر الأموال التي تغنم. وأن خمسها لأهل الخمس. وأربعة أخماسها للغانمين. وقال الشيخ مذهب الأكثرين أن الإمام يفعل ما هو الأصلح للمسلمين من قسمها وحبسها. قال وإذا قسمها فمقتضى كلام المجد وغيره أنه يخمسها. وعموم كلام أحمد والقاضي وقصة خيبر أنها لا تخمس. لأنها فيء وليست بغنيمة. لأن الغنيمة لا توقف. وليس في الفيء خمس. ورجح ذلك.
وقال لو جعلها الإمام فيئًا صار ذلك حكمًا باقيًا فيها دائمًا. فإنها لا تعود إلى الغانمين. وقال الموفق وغيره لا نعلم أن بلدًا فتح عنوة قسم بين الغانمين. إلا خيبر نصفها قسم فصار لأهله لا خراج عليه. وسائر ما فتح عمر ومن بعده لم يقسم منه شيء.
(وقال عمر) -رضي الله عنه- (اتركها) أي الأرضين المغنومة (خزانة لهم) مدخرة للمسلمين غير مقسومة أسهمًا بين

(3/50)


الغانمين (يقتسمونها رواه البخاري) يقتسمون خراجها. وأول الخبر "أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم من شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر. ولكني أتركها خزانة لهم" فوقفها -رضي الله عنه- وضرب عليها الخراج الذي يجمع مصلحتهم.
قال عمر بن عبد العزيز من سأل عن مواضع الفيء فهو ما حكم فيه عمر بن الخطاب فرآه المؤمنون عدلاً موافقاً لخبر "جعل الله الحق على لسان عمر" وقال الشيخ جمهور الأئمة رأوا أنما فعله عمر من جعل الأرض المفتوحة عنوة فيئاً حسن جائز. وأن حبسها بدون استطابة الغانمين. ولا نزاع أن كل أرض فتحها لم يقسمها. وقال ابن القيم الذي كان عليه سيرة الخلفاء الراشدين يقسم خراجها في مصالح المسلمين.
وقال جمهور الصحابة والأئمة بعدهم على أن الأرض ليست داخلة في المغانم التي تجب قسمتها. وهذه كانت سيرة الخلفاء ولما قال بلال وذووه أقسمها قال اللهم أكفنيهم فما حال عليهم الحول. ثم وافق سائر الصحابة عمر. وكذا جرى في سائر البلاد. وكان الذي رآه هو عين الصواب. ولا يصح أن يقال إنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم.
وقال إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة فإن له أن يقسمها. وإن اختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة فظاهر مذهب أحمد أن الإمام مخير فيها تخيير

(3/51)


مصلحة. فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها. وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها. وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله. فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل الأقسام الثلاثة.
قال الشيخ وقول الجمهور أعدل الأقوال وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول. وهم الذين قالوا يخير الإمام تخيير رأي ومصلحة لا تخيير شهوه ومشيئة. وقال في الأرضين المغنومة تنقلت أحوالها كالعراق فإن خلفاء بني العباس نقلوه إلى المقاسمة. ومصر رفع عنها الخراج من مدة لا أعلم ابتداءها وصارت الرقبة للمسلمين وهذا جائز في أحد قولي العلماء.
(وضرب) عمر -رضي الله عنه- على الأرضين (الخراج) على كل جريب درهماً وقفيزاً. وهو ثمانية أرطال. قيل بالمكي. والجريب عشر قصبات في مثلها والقصبة ستة أذرع بذراع عمر وهو ذراع متوسط وقبضة وإبهام قائمة. فيكون الجريب ثلاثة آلاف ذراع وستمائة مكسراً. وما ضربه هو أو غيره من الأئمة فليس لأحد تغييره لأنه حكم من الإمام.
ولا نقض لما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من وقف أو قسمة أو فعله الأئمة بعده. ولا يغير. لأنه نقض للحكم اللازم. وإنما التخيير والاستئناف فيما استؤنف فتحه. ما لم يتغير السبب بأن غلت الأرض أو رخصت فيغير المسبب لتغير سببه. قال الشيخ ولو

(3/52)


يبست الكروم بجراد أو غيره أو بعضها سقط من خراجها بقدر ذلك. وإذا لم يمكن الانتفاع بها ببيع أو إجارة أو غيرها لم تجز المطالبة بخراجها.
(وقال) عمر -رضي الله عنه- (ليس أحد من المسلمين) على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم (أحق بهذا المال) يعني الفيء
ونحوه (من أحد) بل المسلمون فيه على حد سواء بحسب منازلهم في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ لأبي داود وغيره عنه ما أنا بأحق بهذا المال منكم وما أحد منا بأحق به من أحد إلا أنا على منازلنا من كتاب الله وقسم رسوله وهو ما بينه بقوله (للفقراء المهاجرين) إلى آخر الآيات من سورة الحشر وما دل عليه من تفاصيل المسلمين في ترتيبه طبقاتهم. من ذكر السابقين والمهاجرين ومن بعدهم.
وقد دون الدواوين وقدر الأعطية كل بحسبه ولم يكن لأحد ديوان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل عمر هو أول من دونها فهو من سنته التي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباعها. وظهرت مصلحتها وحاجة الناس إليها. وقال -رضي الله عنه- (إنما هو الرجل وسابقته) أي في الإسلام. وفي لفظ وقدمه وهو من كان من السابقين الأولين فإنه يفضلهم في العطاء لسبقهم.
(والرجل وغناؤه) بفتح الغين وهو الذي يغني عن المسلمين في مصالحهم كولاة أمورهم ومعلمهم وأمثال هؤلاء.

(3/53)


(والرجل وبلاؤه) أي شجاعته وثباته الذي ابتلى به في سبيل الله. والمراد مشقته وسعيه واجتهاده في قتال الأعداء. -قال رضي الله عنه- (والرجل وحاجته) أي مقدار حاجته وفي لفظ وفاقته. فإنه كان -رضي الله عنه- يقدم الفقراء. وفي لفظ وعياله أي ممن يمونه.
فلا مزية لأحد في أصل الاستحقاق. وإنما التفاوت في التفاضل بحسب اختلاف المراتب والمنازل. وإما بتنصيص الكتاب والسنة. وإما بحسب بلائه. وإما لشدة احتياجه وكثرة عياله. وذكر شيخ الإسلام نحو هذا أيضاً ثم قال وإذا عرفت أن العطايا بحسب منفعة الرجل وبحسب حاجته في مال المصالح. وفي الصدقات أيضًا. فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل إلا كما يستحق نظراؤه. وليسوا ملاكًا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "والله إني لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا. وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت".
وقال ونص العلماء على أنه يجب أن يقدم في مال الفيء والمصالح أهل المنفعة العامة وإذا كان العطاء لمنفعة المسلمين لم ينظر إلى الآخذ هل هو صالح النية أو فاسدها. وإنما العطاء بحسب المصلحة الدينية. فكلما كان لله أطوع ولدينه أنفع فالعطاء فيه أولى. وإعطاء محتاج إليه في إقامة دين الله وقمع أعدائه وإظهاره وإعلائه أعظم من إعطاء من لا يكون كذلك. وإن كان الثاني أحوج.

(3/54)


وذكر أنه اختلط في هذه الأموال المرتبة السلطانية الحق والباطل. فأقوام من ذوي الحاجات والعلم لا يعطى أحدهم كفايته ويتمزق جوعًا. وهو لا يسأل. ومن يعرفه فليس عنده ما يعطيه. وأقوام يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. وقوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم. وقوم ينالون جهات كالمساجد وغيرها. فيأخذون معلومها. وقوم آخذون ما لا يستحقون. ويأخذون فوق حقهم. ويمنعون من هو أحق منهم حقه أو تمام حقه.
ولا يستريب مسلم أن السعي في تمييز الحق من غيره والعدل بين الناس وفعله بحسب الإمكان هو من أفضل أعمال ولاة الأمور. بل ومن أوجبها عليهم. قال ولا يجوز للإمام أن يعطى أحدًا ما لا يستحقه لهوى نفسه من قرابة بينهما أو مودة أو نحو ذلك. وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه. فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء.
(وقال - صلى الله عليه وسلم -) فيما رواه عنه عمرو بن تغلب النمري (إني أعطي أقوامًا) وفي لفظ قومًا (أخاف ظلعهم) أي انقطاعهم واعوجاجهم وتأخرهم (وجزعهم) أي وأخاف قلة صبرهم إذا لم أعطهم. فيتألفهم ويثبتهم بالعطاء (وأكل أقوامًا) اعتمادًا وثقة وطمأنينة (إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير) المانع لهم من الهلع والجزع بل (والغنى) الذي أودعه الله في قلوبهم. وتقدم

(3/55)


"أن الغنى غنى النفس" والغناء بالمد الكفاية وفي لفظ بالقصر ضد الفقر. (رواه البخاري) وأول الحديث "أعطى قومًا ومنع آخرين" فكأنهم عتبوا عليه فقال ذلك.
قال الشيخ ويجوز بل يجب الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليفه وإن كان لا يحل له أخذ ذلك. كما في القرآن. وكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة من الفيء. قال وإن كان ظاهره لعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما فعل الملوك. فالأعمال بالنيات. فإن كان المقصد بذلك مصلحة الدين وأهله كان جنس عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه. وإن كان المقصود العلو في الأرض كان من جنس عطاء فرعون.
وذكر أن الغنيمة والخراج لمصالح المملكة. وبها يجتمع الجند على باب السلطان. فينفذ أحكام الشرع. ويحمي البيضة. ويمنع القوي من ظلم الضعيف. ويوصل كل ذي حق حقه. فلو فرقه غيره تفرقوا عنه. وزالت حشمته وهيبته. وطمع فيه. فجر ذلك إلى الفساد. وذكر أن الله علق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء والقتال الذي هو الشجاعة. وأن هذا مما اتفق عليه أهل الأرض.
وأن الناس افترقوا أربع فرق فريق غلب عليهم العلو في الأرض فصاروا نهابين وهابين. نظروا في عاجل دنياهم. وأهملوا آخرتهم. فعاقبتهم رديئة في الدنيا والآخرة. وفريق عندهم

(3/56)


خوف من الله ودينهم يمنعهم عما يعتقدونه قبيحًا من ظلم الخلق. وفعل المحارم. لكن قد يعتقدون أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام. وربما اعتقدوا إنكار ذلك واجبًا كالخوارج.
والفريق الثالث الأمة الوسط. دين محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة، وهو إنفاق المال في المنافع للناس. فإن كانوا رؤساء فبحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال. وإقامة الدين والدنيا التي يحتاج إليها الدين. وعفته في نفسه، فلا يأخذ ما لا يستحقه فيجمعون بين التقوى والإحسان. ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذه الطريقة.
وهذا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون إلى إطعامه. ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب. ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه الأول، فإن الذي يأخذ لا لنفسه تطمع إليه النفوس ما لا تطمع في العفيف. ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني. وأما من يأخذ لنفسه. ولا يعطي غيره. فهذا القسم الرابع شر الخلق. لا يصلح به دينه ولا دنياه. كما أن الصالحين أرباب السياسية الكاملة هم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائهم. ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم. ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه. ويعفون عن حقوقهم. وهذه أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بذله. وهي الأكمل.

(3/57)


باب الأمان
أي والهدنة. والأمان ضد الخوف. ويسمى مهادنة. وموادعة ومسالمة. ويجوز عقده مطلقًا وموقتًا ويقع لازمًا يجب الوفاء به. ما لم ينقضه العدو. والمطلق جائز يعمل الإمام فيه بالمصلحة. ولا يعقد الأمان إلا الإمام أو نائبه لتعلقه بنظر الإمام. ويصح الأمان بكل قول أو فعل أو إشارة أو كتابة ونحو ذلك مما يدل عليه. ويحرم به قتل ورق وأسر. وأخذ مال. لعصمتهم بالأمان. والأصل في الأمان: قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِين} وغيرها من الآيات والأحاديث.
(قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم {اسْتَجَارَكَ} أي استأمنك وطلب منك جواره {فَأَجِرْهُ} أي أمنه وأجبه إلى طلبته {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} أي القرآن تقرؤه عليه وتذكر له شيئًا من أمر الدين. ويعلم ما له من الثواب إن آمن. وما عليه من العقاب إن أصر على الكفر (الآية) وتمامها {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} يعني إن لم يسلم أبلغه إلى الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه. أو وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده ودار مأمنه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون} أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوته في بلاده.
فدلت الآية على أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في

(3/58)


أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أمانًا أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام حتى يرجع إلى مأمنه ووطنه.
ولا يمكن من الإقامة في دار الإسلام أكثر من أربعة أشهر.
(وقال: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} أي: مالوا إلى الصلح والمسالمة والمهادنة {فَاجْنَحْ لَهَا} أي فمل إليها واقبل منهم ذلك {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} أي صالحهم وتوكل على الله فإن الله كافيك وناصرك. ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقوا ويستعدوا {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}. ولما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب عشر سنين أجابهم إلى ذلك. وقيل الآية منسوخة بآية السيف.
وقال ابن كثير فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك. فأما إن كان العدو كثيفًا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية. وكما فعل - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص. فيجوز عقد الهدنة لمصلحة حيث جاز تأخير الجهاد لنحو ضعف بالمسلمين أو لمشقة الغزو. ولا تصح إلا حيث جاز تأخير الجهاد لمصلحة وتجوز ولو بمال منا ضرورة. وبمال منهم وبغير عوض بحسب المصلحة. لفعله - صلى الله عليه وسلم -.
(وقال: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} أي فأوفوا لهم بعهدهم {إِلَى مُدَّتِهِمْ} أي إلى تمام مدتهم وأجلهم الذي عاهدتموهم عليه. ولا تجروهم مجرى الناكثين. فإنه تعالى قال: {إِلاَّ الَّذِينَ

(3/59)


عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَْ} قيل لهم بعد أن أمروا بنكث العهد ولكن الذين عاهدوا منكم {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا} من أعدائكم {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} مهما كان ولا تجعلوا الوافي كالغادر.
وفي الحديث "ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته" بشرط أن لا ينقصه ولا يظاهر من سواهم. فهذا الذي يوفي له بذمته وعهده إلى مدته. ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك فقال {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين} أي الموفين بعهدهم. وأما إذا حارب أهل العهد من هم في ذمة الإمام وجواره وعهده: صاروا حربًا له بذلك. وله أن يبيتهم في ديارهم كما في قصة الفتح ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء.
وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم خيانة، فإذا تحققها صاروا نابذين لعهده. ولما سار معاوية بأرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم.
فقال عمرو بن عنبسة الله أكبر وفاء لا غدر. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان بينه وبين قومه عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدنها حتى ينقضي أمدها أو ينبذوا إليهم عهدهم على سواء" فرجع معاوية. صححه الترمذي.
(وعن علي مرفوعًا: ذمة المسلمين) أي عهدهم وحرمتهم (واحدة) فإذا أعطى أحدهم لعدو أمانًا جاز على جميع

(3/60)


المسلمين (يسعى بها أدناهم) أي ولو كان عبدًا أو امرأة أو عسيفًا تابعًا. فيجب قبول أمانهم وليس لأحد أن يخفر ذمتهم (متفق عليه) فدخل كل وضيع بالنص وكل شريف بالفحوى. زاد ابن ماجه "ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم" ومن حديث عمرو بن شعيب "يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم".
وللطيالسي من حديث عمرو بن العاص "يجير على المسلمين أدناهم" ولأحمد عن أبي عبيدة مرفوعًا "يجير على المسلمين بعضهم" وللحاكم "المسلمون تتكافأ دماؤهم" ولمسلم "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وهو متفق عليه من حديث علي. ومن حديث أنس "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به" ولمسلم عن أبي سعيد نحوه.
وهذه الأحاديث وغيرها دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم مأذون أو غير مأذون. لقوله "أدناهم" فإذا أعطى أحد الجيش العدو أمانًا جاز ذلك على جميع المسلمين. وهذا مذهب جمهور العلماء. ومذهب مالك والشافعي وأحمد يمضي أمان العبد سواء أذن له سيده في القتال أو لم يأذن. قال عمر العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه رواه سعيد. ولأنه مسلم عاقل.

(3/61)


(ولهما من حديث أم هانئ) بنت أبي طالب -رضي الله عنهما-. وكانت أجارت رجلًا فقال (قد أجرنا من أجرت) وذلك أنها قالت يا رسول الله زعم ابن أبي طالب أنه قاتل رجلًا قد أجرته فلان ابن هبيرة. وهبيرة زوجها. ولأحمد أنها أجارت رجلين من أحمائها وجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تخبره أن عليًا أخاها لم يجز إجارتها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وعن أبي هريرة مرفوعًا "إن المرأة لتأخذ للقوم" رواه الترمذي.
فيدل على صحة أمان المرأة بإذن وعدمه. وهو مذهب جمهور العلماء إلا ما روي عن بعض أصحاب مالك حملوه على أنه إجازة منه. والجمهور على أنه أمضى ما وقع منها.
وأنه قد انعقد أمانها. لأنه سماها مجيرة ولأنها دخلت في عموم المسلمين كما هو معروف عند الأصوليين. ولقصة زينب. وليس لهم أن يحفزوه، ولا أن ينقضوا عليه عهده وذكر الإجماع على صحة أمان المرأة غير واحد من أهل العلم.
ويصح أمان كل واحد من الرعية لقافلة وحصن صغيرين عرفًا. لأن عمر أجاز أمان العبد لأهل الحصن ولا يصح لأهل بلدة كبيرة ولا جمع كبير لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الإمام.
(وفيهما عن أنس) أي في الصحيحين (أن قريشًا صالحوا النبي – - صلى الله عليه وسلم -) يعني عام الحديبية سنة سبع. قال ابن القيم وغيره

(3/62)


فيه دليل على جواز صلح الإمام لعدوه ما شاء من المدة. ويكون العقد جائزًا له فسخه متى شاء. وهذا هو الصواب, وهو موجب حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ناسخ له وذكر أيضًا صلحه لأهل خيبر عمالًا له يقرهم فيها ما شاء. وأن هذا الحكم منه فيهم حجة على جواز صلح الإمام لعدوه ما شاء من المدة فيكون العقد جائزًا له فسخه متى شاء. وصوبه أيضًا.
وفي قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِين} إلى قوله {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} الآيات: البراءة من المعاهدين إلا من كان له عهد إلى أجل. وهذا يبين أن تلك العهود كانت مطلقة ليست إلى أجل معين خلافًا لمن قال لا تجوز المهادنة المطلقة. ولا يجوز أن نقركم ما أقركم الله. حتى ادعى الإجماع في ذلك وليس بشيء.
(واشترطوا عليه أن من جاء منكم لم نرده عليكم) أي من جاء من المسلمين إلى كفار مكة لم يردوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ومن جاءكم منا رددتموه علينا) أي من أهل مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رده إليهم. فكره المسلمون ذلك. ولهما أن سهيلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. وفيه قالوا يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال "نعم من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا".

(3/63)


وجاء أبو جندل يرسف في قيوده ثم أبو بصير فردهما ولحقا بالسيف عصابة يعترضون غير قريش. فيجوز شرط رد رجل جاء مسلما ًََللحاجة. فإنه - صلى الله عليه وسلم - كتب هذا الشرط. مع ما فيه ومع كراهته له. فدل على جواز الصلح على ذلك إن لم تكون حاجة كظهور المسلمين وقوتهم لم يصح الشرط. ولا يمنعهم الإمام أخذه ولا يجبره على العود معهم, ويجوز أمره سراً بقتالهم والفرار منهم.
وله ولمن أسلم معه أن يتحيزوا ناحية ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار. ويأخذوا أموالهم ولا يدخلون في الصلح. وإن عقد من غير شرط لم يجز رد من جاء مسلماً أو بأمان. وثبت أنه لم يرد النساء المهاجرات إليه لأن الصلح إنما وقع في حق الرجال وخرجت إليه أم كلثوم وطلبوا رجوعها فأنزل الله (فلا ترجعوهن إلى الكفار) ولو هرب قن فأسلم لم يرد وهو حر لأنه ملك نفسه بإسلامه.
وقال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} ويؤخذون بجنايتهم على مسلم من مال وقود وحد. لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم وأمانهم من المسلمين في المال والعرض ولا يحدون لحق الله لأنهم لم يلتزموا حكمنا.
(ولأبي داود) وأحمد وغيرهما. وذكر ابن إسحاق وغيره (عن المسور) بن مخرمة بن نوفل القرشي قيل كان مولده بعد الهجرة. وقيل قبلها. وحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء

(3/64)


وغيرهم كان يلازم عمر -رضي الله عنهما-. وقتل بالمنجنيق مع ابن الزبير وهو يصلي سنة أربع وسنتين (هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله).
وفي الصحيحين هذا ما صالح عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال سهيل بن عمرو لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت. ولا قاتلناك. ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال: والله إني لرسول الله. وإن كذبتموني أكتب محمد بن عبد الله أي هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله (سهيل بن عمرو) ابن عبد شمس القرشي قبل أن يسلم ثم أسلم وحسن إسلامه. ومات سنة سبع عشرة. تولى أمر الصلح.
(على وضع الحرب) بينه - صلى الله عليه وسلم - وبينهم (عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق وجزم به ابن سعد. وقيل سنتين. وإنما هي التي انتهى أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. واختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين: فقيل لا تتجاوز عشر سنين كما في هذا الخبر. وهو قول الجمهور. وقال الوزير اتفقوا على أن الإمام يجوز له مهادنة المشركين عشر سنين فما دونها. واتفقوا على أنهم إذا عوهدوا عهداً وفي لهم به إلا أبا حنيفة فشرط بقاء المصلحة. وصوب ابن القيم وغيره جوازه فوق ذلك للحاجة والمصلحة الراجحة. كما إذا

(3/65)


كان بالمسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم. وفي العقد لما زاد عن العشر مصلحة للإسلام. (يأمن فيها الناس) على دمائهم وأموالهم (ويكف بعضهم عن بعض) القتال فدل على جواز الصلح عشر سنين. وما شاء ولي الأمر كما تقدم.
(وله عن أبي رافع مرفوعاً إني لا أخيس) بخاء معجمة فمثناه تحتية فسين (بالعهد) أي لا أنقضه ولا أغدر من خاس الشيء إذا فسد. . (ولا أحبس الرسل) وفي رواية البرد. ورواه النسائي وصححه ابن حبان. وذلك أن العهد مراعى مع الكافر كما يراعى مع المسلم. وأن الكافر إذا عقد له عقد أمان فقد وجب عليك أن تؤمنه ولا تغتاله في دم ولا مال ولا منفعة.
ولأن الرسالة تقتضي جواباً والجواب لا يصل إلا مع الرسول بعد انصرافه. فصار كأنه عقد له مدة مجيئه ورجوعه.
وقد دل الحديث على وجوب حفظ العهد. وأمر الله به في غير موضع من كتابه. وعلى وجوب الوفاء به ولو لكافر وإن خيف نقض عهدهم أعلمهم أنه لم يبق بينهم وبينه عهد قبل الإغارة عليهم بقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين}.
وقال الوزير اتفقوا على أنه لا يجوز نقض العهد إلا بعد نبذه في مدة العهد ودل على أنه لا يحبس الرسل بل يرد جواب الرسول. وكان وصوله أماناً له. فلا يجوز أن يحبس بل يرد.

(3/66)


باب عقد الذمة
أي صفة عقد الذمة وصفة أحكامها. والذمة لغة العهد والضمان والأمان. فعله من أذم يذم إذا جعل له عهداً. نحو أقررتكم بالجزية. ولا يعقدها إلا إمام أو نائبه لتعلقها بنظره. وفي الصحيحين "أن الإمام جنة" لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين. ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام. فهو الذي يعقد العهد والهدنة بين المسلمين والمشركين. وليس لغيره أن يجعل لأمة من الكفار أماناً, وإذا رأى الإمام ذلك وصالحهم وهادنهم وجب على المسلمين أن يجيزوا أمانة لهم.
وإذا عقد العهد وصالح بين المسلمين وبين غير أهل الإسلام إلى مدة فالمسلمون يسيرون ويمرون في بلاد الشرك. ولا يتعرض لهم مخالفوهم بأذية ولا فساد في أنفسهم وأموالهم لأجل هذا الصلح. وكذلك أهل الشرك, وذلك لا يحصل إلا بعهد وأمان منه. والفرق بين المعاهد والمستأمن والذمي أن المعاهد هو من أخذ عليه العهد من الكفار. والمستأمن هو من دخل دارنا بأمان. والذمي من استوطن دار الإسلام بتسليم الجزية.
(قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} وإن ادعوا الإيمان. فإن من قال: عزير بن الله , والمسيح بن الله لا يكون مؤمناً بالله , ومن اعتقد بعثة الأرواح دون

(3/67)


الأجساد وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون لا يكون مؤمناً باليوم الآخر {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ} في كتابه {وَرَسُولُهُ} في سنته {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي الدين الحق دين الإسلام. الذي هو ناسخ سائر الأديان {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى على اختلاف طوائفهم وكذا من تبعهم فتدين لهم بأحد الدينين. كالسامرة والإفرنج والصابئين لعموم: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}.
وهذه الآية كما قال شيخ الإسلام وابن كثير وغيرهما هي أول الأمر بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وذلك في سنة تسع {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} وهي الخراج المضروب عليهم إن لم يسلموا على وجه الصغار كل عام. جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً وبدلاً عن قتلهم وإقامتهم بدارنا. وقال الشيخ وجبت عقوبة وعوضاًِ عن حقن الدم عند أكثر العلماء {عَن يَدٍ} عن قهر وذل. قال ابن عباس يعطونها بأيديهم ولا يرسلونها.
{وَهُمْ صَاغِرُون} أذلاء مقهورون يعطوها عن قيام والقابض جالس ويطال وقوفهم وتجر أيديهم. ويمتهنون عند كل جزية. ولكن بلا سوط ولا نول. ولهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغره. كما صحت به الأخبار. قال البغوي والشيخ وغيرهما اتفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين. وهم اليهود والنصارى

(3/68)


وكذا اتفقوا على أخذها من المجوس.
وقال الشيخ إذا كان أهل الكتاب لا يجوز مهادنتهم إلا مع الجزية والصغار فغيرهم أولى بذلك. وقال وقد أخذها من المجوس وليسوا بأهل كتاب. ولا فرق بين عباد الأصنام وعباد النار بل أهل الأوثان أقرب حالًا من عباد النار. وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار. وعلى ذلك تدل السنة كقوله "فإذا لقيت عدوك من المشركين".
وليس أخذ الجزية من أهل الكتاب إقرارًا على دينهم الباطل بل لما في أيديهم من الكتب القديمة. فربما تفكروا فيها فعرفوا صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته. فامهلوا لذلك. وحقنت دماؤهم رجاء أن يعرفوا الحق فيرجعون إليه ويصدقون به إذا رأوا محاسن الإسلام وقوة دلائله وكثرة الداخلين فيه. ومفهوم الآية وجوب قبول الجزية ممن بذلها. وحرمة قتله فإنها دلت على النهي عن القتال عند حصول الغاية. وهو إعطاء الجزية.
فيحرم قتالهم بعد إعطائها. وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بريدة "فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم".
(وعن عبد الرحمن بن عوف) بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ولد بعد الفيل بعشر. وأسلم قديمًا. وشهد بدرًا وما بعدها. وصدقاته

(3/69)


مشهورة. ومات بالمدينة سنة إحدى وثلاثين -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية) وهي الخراج الذي سيضرب عليهم إن لم يسلموا على وجه الصغار. وبدلاً عن قتلهم وإقامتهم ببلدنا أخذها - صلى الله عليه وسلم -.
(من مجوس هجر) وهي هجر البحرين تعرف الآن بالأحساء (رواه البخاري) وأحمد وأبو داود. ورواه الترمذي وغيره عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أخذها من مجوس هجر".
وفي رواية أن عمر ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه الشافعي.
وهذا يدل على أنهم ليسوا بأهل كتاب. وعن المغيرة أنه قال لعامل كسرى "أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية" رواه البخاري. وكانوا مجوسًا. وقال جمهور أهل العلم إنما أخذت الجزية من اليهود والنصارى بالكتاب. ومن المجوس بالسنة. وقال ابن رشد والوزير وغيرهما اتفق العلماء على أن الجزية تضرب على أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى. وكذلك اتفقوا على ضربها على المجوس.
واختلف فيمن لا كتاب له ولا شبهة. فقال مالك تؤخذ من كل كافر عربيًا كان أو عجميًا إلا من مشركي قريش. وقال

(3/70)


أبو حنيفة لا تقبل إلا من العجم. وهو رواية عن أحمد. واختار شيخ الإسلام وغيره أخذ الجزية من جميع الكفار. وذكر أنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد. بل كانوا قد أسلموا. وقال هو ومالك والأوزاعي وفقهاء الشام تقبل من كل كافر إلا من ارتد.
ودل حديث بريدة المتقدم على جواز أخذ الجزية من كل مشرك. قال الشيخ إنما وقعت الشبهة في المجوس لما اعتقد بعض أهل العلم أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب. وقد أخذت من المجوس بالنص والإجماع. قال والمجوس لم يكونوا أهل كتاب أصلًا. ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء لا في عقائدهم ولا في شرائعهم. والأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فرفع لا يصح.
قال والعرب كانوا على دين إبراهيم وكان له صحف وشريعة. وليس تغيير عبدة الأوثان بأعظم من تغيير المجوس. فإنه لا يعرف عنهم التمسك بشيء من شرائع الأنبياء. بخلاف العرب فكيف يجعل المجوس أحسن حالًا من مشركي العرب. وهذا القول أصح في الدليل.
(ولأبي داود وغيره: عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالدًا) يعني ابن الوليد بن المغيرة القرشي المخزومي سيف الله. كانت

(3/71)


أعنة الخيل إليه في الجاهلية. وأسلم قبيل الفتح. وشهده. وشهد وقعة المؤتة وغيرها. وأقره أبو بكر. وأبلا بلاء حسنًا وفتح الله على يديه. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - بعثه (إلى أكيدر دومة) الجندل. قال الحافظ ثبت أنه كان كنديًا. وقال الخطابي رجل من العرب.
(فأتى به) يعني أتى خالد بالأكيدر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (فحقن دمه) أي صانه عن القتل فلم يرق دمه (وصالحه على الجزية) أي على دفع الجزية كأهل الكتاب وكان - صلى الله عليه وسلم - بعث خالدًا من تبوك في آخر غزوة غزاها - صلى الله عليه وسلم - وقال لخالد إنك تجده يصيد البقر فمضى خالد حتى إذا كان من حصنه بمبصر العين في ليلة مقمرة أقام وجاءت بقر الوحش حتى حكت قرونها بباب القصر فخرج إليها أكيدر في جماعة من خاصته فتلقتهم جند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوا أكيدر وقتلوا أخاه حسان.
واستلب خالد منه قباء ديباج مخوصًا بالذهب. وبعث به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يفتح له دومة الجندل ففعل. وصالحه على ألفي بعير. وثمانمائة رأس. وألفي درع. وأربعمائة رمح. فعزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية خالصًا. ثم قسم الغنيمة وفيه أنه دعاه إلى الإسلام فأبي. فأقره على الجزية، فدل على جواز أخذ الجزية من العرب. كجوازه من العجم.
قال الشيخ ومذهب الأكثرين أنه يجوز مهادنة جميع الكفار

(3/72)


بالجزية والصغار. وقد كتب إلى أهل هجر ومنذر بن ساوى وملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية. وإذا عرفت حقيقة السنة تبين لك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين عربي وغيره وأن أخذه للجزية كان أمرًا ظاهرًا مشهورًا. وقدوم أبي عبيدة بمال البحرين معروف.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص العرب بحكم في الدين لا بمنع الجزية ولا منع الاسترقاق، ولا تقديمهم في الإمامة، ولا يجعل غيرهم ليس كفوًا لهم في النكاح، ولا بحل ما استطابوه دون ما استطابه غيرهم. بل إنما علق الأحكام بالأسماء المذكورة في القرآن كالمؤمن والكافر والبر والفاجر، قال: ويؤخذ من بني تغلب عوض الجزية زكاتان مما تجب فيه الزكاة، ويجوز تغييره لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة. وجعل جماعة ذلك كالخراج والجزية. وذلك لأن عمر أضعفها عليهم.
(وللخمسة) وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان (عن معاذ) بن جبل -رضي الله عنه- (قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن) وذلك سنة عشر قبل حجه - صلى الله عليه وسلم - داعيًا وقاضيًا وجابيًا (وأمرني أن آخذ من كل حالم) أي بالغ وفي رواية محتلم (دينارًا) وهو ضرب من قديم النقود زنته مثقال وتقدم (أو عدله) بفتح العين وتكسر (معافريًا) أي ثوبًا معافريًا بفتح الميم نسبة إلى بلدة باليمن تصنع فيها الثياب أو قبيلة سميت بها الثياب وإليها ينسب البز المعافري. أو نسبة إليهما جميعًا.

(3/73)


ورواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن "أن على كل إنسان منكم دينارًا كل سنة أو قيمته من المعافر".
فدل الحديث على تقدير الجزية بالدينار من الذهب على كل بالغ. وهو مذهب أحمد والشافعي. قال وسألت عددًا من أهل اليمن وكلهم حكوا عن عدد مضوا قبلهم يحكون عن عدد مضوا قبلهم كلهم ثقة أن صلح النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لأهل الذمة باليمن على دينار كل سنة. وتجوز الزيادة لما روى أبو داود وغيره عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صالح أهل نجران على ألفي حلة في المحرم والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعًا وثلاثين فرسًا وثلاثين بعيرًا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزوا بها المسلمون ضامنين لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد".
قال الشافعي وقد سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذوا من كل واحد أكثر من دينار. ولهذا ذهب عمر. فإنه أخذ زائدًا على الدينار. وفي الصحيح عن ابن أبي نجيح قال قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار! قال جعل ذلك من قبيل اليسار.
وأقل الجزية عند الجمهور دينار في كل سنة، لحديث معاذ

(3/74)


وما في معناه. وقيل المتوسط عليه ديناران. وعلى الغني أربعة لهذا الخبر وغيره. وهو مذهب أبي حنيفة. ومن صار أهلًا لها أخذت منه في آخر الحول، ومفهوم الحديث أنها لا تؤخذ من الصبي. وهو مذهب جمهور العلماء. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن الجزية لا تضرب على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم حتى يبلغوا. ولا على مجنون ولا ضرير. ولا شيخ كان. ولا أهل الصوامع.
وقال الشيخ وتؤخذ من راهب بصومعة ما زاد على بلغته. ويؤخذ منهم ما لنا كالرزق للديورة والمزارع إجماعًا. قال والرهبان الذين يخالطون الناس ويتخذون المتاجر والمزارع فكسائر النصارى، تؤخذ منهم الجزية باتفاق المسلمين. ولا تؤخذ من عبد ولا فقير يعجز عنها. لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، وقال ابن رشد اتفق على أنه لا تجب الجزية إلا بثلاثة أوصاف: الذكورة والبلوغ والحرية.
(وعن عائذ بن عمرو) بن هلال المزني البصري -رضي الله عنه- شهد الحديبية. ومات في ولاية عبيد الله بن زياد سنة إحدى وستين (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (الإسلام) أي الدين وهو الاستسلام من التوحيد والانقياد له بالطاعة. والبراءة من الشرك وأهله (يعلو) أي يرتفع ويظهر على سائر الأديان (ولا يعلى) عليه بل يظهر ويعلو (رواه الدارقطني).

(3/75)


ولا يزال دين الحق يعلو ولا يعلى كما قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون} وفيه الدلالة الواضحة على علو أهل الإسلام على سائر أهل الأديان في كل أمر. لإطلاقه. فالحق الذي لأهل الإسلام إذا عارضهم غيرهم من أهل الملل: هو ما أشير إليه من إلجائهم إلى مضائق الطرق وإلزامهم المهانة والصغار، كما تقدم وأن يمنعوا من تعلية بنيان على مسلم ولو رضي. وسواء لاصقه أو لا إذا كان يعد جارًا له. فإن علا وجب نقضه.
قال الشيخ ولو في ملك منزله بين مسلم وذمي. ولو احتال مبطل بأن يعليه مسلم ثم يشتريه الكافر فيسكنه فقال ابن القيم هذه أدخلت في المذهب غلطًا محضًا. ولا توافق أصوله ولا فروعه. فالصواب المقطوع به عدم تمكينه من سكناه. فإن المفسدة لم تكن في نفس البناء. وإنما كانت في ترفعه على المسلمين. ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة في الموضعين واحدة.
ولو وجدنا دار ذمي عالية ودار مسلم أنزل منها وشككنا في السابقة. فقال لا تقر دار الذمي عالية لأن التعلية مفسدة. وقد شككنا في شرط الجواز والأصل عدمه.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام) لأن فيه تعظيمًا لهم وقد حكم عليهم بالصغار. وكذا بكيف أصبحت وكيف أمسيت أو كيف أنت أو كيف حالك. قال أحمد هذا عندي أكبر من

(3/76)


السلام. وتهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم وشهادة أعيادهم. وحكى النووي وغيره تحريم ابتداء اليهود والنصارى بالسلام عن عامة السلف وأكثر العلماء.
ومفهوم الخبر أنه لا ينهى عن رد السلام. وثبت في الصحيحين "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" وفي رواية "يقول أحدهم السلام عليكم فقولوا وعليك" واتفق أهل العلم على أنه يرد كذلك. كذلك. قال الشيخ ويحرم شهود عيد اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار.
وبيعة لهم فيه ومهاداتهم لعيدهم. لما في ذلك من تعظيمهم. وكلما فيه تخصيص كعيدهم وتميز لهم فهو من التشبه بهم. فهو منهي عنه إجماعًا.
واختلف كلامه في رد التحية هل ترد بمثلها أو وعليكم فقط وجوز أن يقال أهلًا وسهلًا. وكيف أصبحت وكيف حالك. وأكرمك الله. وهداك يعني بالإسلام. وكره الدعاء بالبقاء. لأنه شيء فرغ منه وجوز عيادتهم وتهنئتهم وتعزيتهم ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة كرجاء الإسلام وقال العلماء يعاد الذمي ويعرض عليه الإسلام. لأنه - صلى الله عليه وسلم - عاد يهوديًا وعرض عليه الإسلام فأسلم. وجوز ابتداءهم للضرورة والحاجة طائفة من العلماء.
(وإذا لقيتموهم) أي استقبلتموهم (في طريق) أي سبيل جمعه طرق يذكر ويؤنث (فاضطروهم إلى أضيقه) أي

(3/77)


ألجؤهم إلى المكان الضيق منه (متفق عليه) فلا يجوز للمسلم أن يترك الذمي في صدر الطريق. فإن ذلك نوع من إنزال الصغار بهم والإذلال لهم. قال النووي وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصد من جدار ونحوه.
(ولهما عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أنه - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته) وذلك حين اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه يوم الخميس بثلاث خصال أحدها (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وهي ما أحاط بها بحر الهند وبحر الشام. ثم دجلة والفرات.
أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولًا. ومن جدة إلى ريف العراق عرضًا. وسميت جزيرة لإحاطة البحار بها وأضيفت إلى العرب لأنها كانت بأيديهم قبل الإسلام وبها أوطانهم.
والثانية أجيزوا الوفد. ونسيت الثالثة والشك من سليمان الأحول. ولمسلم عن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا" ولأحمد عن عائشة آخر ما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال "لا يترك بجزيرة العرب دينان" وله عن أبي عبيدة "أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب".
فدلت هذه الأحاديث على وجوب إخراج المشركين من جميع جزيرة العرب. ومن قال لا يعلم أن أحدًا أجلاهم من اليمن ونحو ذلك فليس ترك إجلائهم دليلًا على جوازه. مع ما

(3/78)


ثبت بحمد الله من ذكر إجلائهم. ولو قدر عدمه فلا يدل السكوت على التقرير. لكثرة الأعذار. ولا تبطل به النصوص الشرعية.
وقال النووي وغيره من العلماء في المسافرين إلى الحجاز لا يمكثون فيه أكثر من ثلاثة أيام إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخولها بحال. فإن دخل خفية وجب إخراجه لقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وقال عمر لأبي موسى في نصراني ولم لا يدخله قال إنه نصراني فانتهره عمر قال الشيخ وهذا يدل على اتفاقهم على أن الكفار لا يدخلون المسجد.
(وأجلاهم عمر منها) أي أجلى عمر -رضي الله عنه- اليهود والنصارى من جزيرة العرب قال ابن شهاب فحص عمر عن ذلك حتى أتاه اليقين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا يجمع دينان في جزيرة العرب" فأجلى يهود خيبر وقال مالك وغيره وقد أجلى يهود نجران وفدك أيضًا. وفي الصحيح أجلاهم من أرض الحجاز.
(ومن شروطه) أي شروط عمر -رضي الله عنه- التي شرطها على أهل الذمة لما قدم إلى الشام وشارطهم. كما قال شيخ الإسلام وغيره بمحضر من المهاجرين والأنصار –رضي الله عنهم-. وعليها العمل عند أئمة المسلمين. لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(3/79)


"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" وقوله "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" ولأن هذا صار إجماعًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين لا يجمعون على ضلالة. بل ما فعلوه على ما فهموه من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
قالوا وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة. منها ما رواه سفيان عن مسروق قال كتب عمر حين صالح نصارى الشام كتابًا وشرط عليهم فيه (أن لا يحدثوا) في مدنهم ولا ما حولها (ديرًا) أي خانًا وهو مسكن الرهبان (ولا صومعة) مكانًا مرتفعًا يسكنه الراهب وهو متعبده (ولا كنيسة) وهي محل عبادة النصارى وروى كثير بن مرة قال سمعت عمر يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تبنى كنيسة في الإسلام".
وقال ابن عباس إنما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة احتج به أحمد قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز إحداث كنائس ولا بيعة في المدن والأمصار في بلاد الإسلام. قال عمر –رضي الله عنه- (ولا يجددوا) أي لا يعيدوا (ما خرب منها) لأنها بعد الهدم كأنها لم تكن كما يمنعون من زيادتها ورم شعثها. قال الشيخ وغيره وهذه من الشروط التي كانوا ملتزمين بها أن لا يتخذوا من مدائن الإسلام ديرًا ولا صومعة ولا كنيسة ولا قلاية ولا يجددوا ما خرب منها ولا يمنعوا

(3/80)


كنائسهم التي عاهدوا عليها ضيافة من يمر بهم من المسلمين ودوابهم.
ويصح أن يكتفي بها عن الجزية بشرط أن تقابل ما عليهم. ولا تجب بلا شرط. قال والكنائس العتيقة إذا كانت بأرض العنوة فلا يستحقون إبقاءها. ويجوز هدمها مع عدم الضرر علينا. وإذا صارت الكنيسة في مكان قد صار فيه مسجد للمصلين يصلي فيه وهو أرض عنوة فإنه يجب هدم الكنيسة التي به. لما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس مرفوعًا "لا يجتمع قبلتان بأرض" وفي أثر آخر "لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب".
ولهذا أقرهم المسلمون في أول الفتح على ما في أيديهم من أرض العنوة بأرض مصر والشام وغير ذلك. فلما كثر المسلمون وبنيت المساجد في تلك الأرض أخذ المسلمون تلك الكنائس فاقطعوها. وبنوها مساجد. وغيره ذلك. وقال اتفق المسلمون أنما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة. وإذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة فبنى المسلمون مدينة عليها فإن لهم أخذ تلك الكنيسة.
ولو هدم ولي الأمر كل كنيسة بأرض العنوة كمصر والسودان والعراق وبر الشام ونحو ذلك مجتهدًا في ذلك ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك لم يكن ظلمًا منه. بل تجب طاعته ومساعدته في ذلك. قال -رضي الله عنه- (ولا يؤوا جاسوسًا)

(3/81)


أي عينًا للكفار فمن فعل ذلك انتقض عهده. وكذا من تجسس عليهم لما فيه من الضرر على المسلمين.
قال الشيخ ومن قطع الطريق على المسلمين أو تجسس عليهم أو أعان أهل الحرب على سبي المسلمين وأسرهم. أو ذهب بهم إلى دار الحرب. ونحو ذلك مما فيه مضرة على المسلمين. فهذا يقتل. ولو أسلم. وقال ابن القيم إذا كان الناقض واحدًا من طائفة لم يوافقه بقيتهم لم يسر النقض إلى زوجته وأولاده.
كما أن من أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دماءهم ممن كان يسبه لم يسب نساءهم وذريتهم.
وإن كان الناقض طائفة لهم شوكة ومنعة استباح سبيهم. وجعل نقضهم ساريًا في حق النساء والذرية. وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب. وهذا موجب هديه في أهل الذمة ولا محيد عنه. قال الشيخ ولو قال الذمي هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب ينغصون علينا. إن أراد طائفة معينة عوقب عقوبة تزجره وأمثاله. وإن ظهر منه قصد العموم انتقض عهده ووجب قتاله.
قال وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتب أهل دينه في طلب فتح الكنائس. ولا يخبرهم بشيء من أخبار المسلمين. ولا يطلب من رسولهم أن يكلف ولي أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين. ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته باتفاق

(3/82)


المسلمين. وفي أحد القولين قد نقض عهده وحل دمه وماله قال عمر ولا يكتموا غش المسلمين. ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يمنعوا ذي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه.
قال عمر (وأن يوقروا المسلمين) أي يبجلوا المسلمين ويعظموهم وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس. (ولا يتشبهوا بهم) أي بالمسلمين (في لباس ونحوه) ولفظه: ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر. ولا يكتنوا بكناهم ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية. وفيه وأن يجزوا مقادم رؤوسهم. وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم.
وفي لفظ الشروط التي التزموا بها: وأن يلزموا زيهم حيث كانوا. ولا يتسموا بأسماء المسلمين. ولا يكتنوا بكناهم كأبي عبد الله ولا يتلقبوا بألقابهم كزين العابدين. ولا يلبسوا عمامة صافية. بل يلبس النصراني العمامة الزرقاء عشرة أذرع من غير زينة لها ولا قيمة. وكذلك اليهودي يلبس العمامة الصفراء عشرة أذرع من غير زينة ولا قيمة. والمرأة البارزة من النصارى تلبس الإزار الكتان المصبوغ الأزرق من غير زينة لها ولا قيمة. وكذلك اليهودية تلبس الإزار الكتاب المصبوغ بالأصفر.
والمرأة البارزة من النصارى تلبس خفين أحدهما أسود والآخر أبيض. وكذلك المرأة اليهودية تلبس خفين أحدهما أسود

(3/83)


ولا يدخل أحد منهم الحمام إلا بعلامة تميزه عن المسلمين خاتم من نحاس أو رصاص. أو جرس أو غير ذلك. وفيها ولا يركبوا الخيل ولا البغال بل يركبون الحمير بالأكف عرضًا من غير زينة ولا قيمة. ويركبون أفخاذهم مثنية.
وقال ابن القيم الشروط المضروبة عليهم تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم. فسدت هذه الذريعة بإلزامهم التميز عن المسلمين. قال عمر -رضي الله عنه- (ولا يبيعوا الخمور) يعني للمسلمين ولا يظهروها في أسواقهم وغيرها. لتأذي المسلمين بذلك. وكذا الخنزير. فإن فعلوا أتلفناها عليهم.
قال الشيخ وإذا كثر منهم بيع الخمر لآحاد المسلمين استحقوا العقوبة التي تردعهم وأمثالهم عن ذلك. وإن لم يظهروها لم نتعرض لهم. وكذا نكاح المحارم. لأنهم يقرون على كفرهم. وهو أعظم جرمًا. قال الشيخ إذا تزوج اليهودي بنت أخيه أو بنت أخته لحقه ولده منها باتفاق المسلمين. لاعتقادهم حله (ولا يظهروا شركًا) أي ويمنعون أن يظهروا شركًا أو كفرًا معنا. وقاله شيخ الإسلام وغيره ولا شيئًا من كتبهم في شيء من طريق المسلمين.
ولا يرفعوا أصواتهم في الصلاة. ولا يجاوروا المسلمين

(3/84)


بموتاهم. بل يلزم مباعدة مقابرهم عن مقابر المسلمين ولا يظهروا النيران معهم. ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين. وفيما التزموه ولا يستخدموا مسلمًا في الحمام.
ولا في أعمالهم الباقية. ولا يركبوا سفينة نوبيها مسلم. وفيها ولا يشتركون مع المسلمين في تجارة ولا بيع ولا شراء ولا يخدموا الملوك ولا الأمراء فيما يجري أمرهم على المسلمين من كتابة أو أمانة أو وكالة أو غير ذلك.
وخبر: "المسلمون يد على من سواهم" يمنع من تولية الكفار شيئًا من الولايات. فإن للوالي يدًا على المولى عليه قال الشيخ وهذه الشروط التي أوردت فيها الأحاديث النبوية. قال عمر -رضي الله عنه- (فإن خالفوا شيئًا من ذلك) أي مما شرط عليهم مما تقدم وغيره مما ثبت عنه -رضي الله عنه- مما اشترطه عليهم. وما اشترطوه على أنفسهم (فلا ذمة) أي لا عهد (لهم) ولا ميثاق ولا ضمان ولا حرمة (وقد حل للمسلمين منهم) أي المعاهدين (ما يحل من أهل الشقاق) أي الكفرة المحاربين.
قال الشيخ وهذه الشروط قد ذكرها أئمة العلماء من أهل المذاهب المتبوعة وغيرها في كتبهم. واعتمدوها. قال وما زال يجددها عليهم من وفقه الله من ولاة المسلمين. كما جدد عمر بن عبد العزيز في خلافته. وبالغ في اتباع سنة عمر حيث كان من العلم بالعدل والقيام بالكتاب والسنة بمنزلة ميزه الله بها على

(3/85)


غيره من الأئمة. وجددها هارون الرشيد. وجعفر المتوكل وغيرهما.
قال وكل من عرف سيرة الناس وملوكهم رأى من كان أنصر لدين الله وأعظم جهادًا لدين الله ولأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله أعظم نصرة وطاعة وحرمة من عهد عمر إلى الآن. وإلى أن تقوم الساعة. وليتقدم حاكم المسلمين ويلزمهم بهذه الشروط العمرية. أعز الله أنصار دينه. قال وهذه الشروط التي أوردت يعني ما تقدم فيها الأحاديث النبوية شرفها الله وأعزها.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه (وقال - صلى الله عليه وسلم - اليهود والنصارى خونة) لا عهد لهم ولا أمانة (لا أعان الله) أي لا كان الله ظهيرًا لـ (من ألبسهم) أي شملهم وكساهم (ثوب عز) ضد الذل. ويطلق الثوب على الصفة المحمودة والمذمومة. وكنى باللباس أخذًا من قوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} والعرب يكنون بالثوب واللباس عما يستر ويقي.
وهذا الخبر أورده شيخ الإسلام محتجًا به. وتقدم حديث "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" وقال عمر لا تعزوهم وقد أذلهم الله.
ولا تأمنوهم بعد أن خونهم الله. ولا تصدقوهم بعد أن أكذبهم الله. ومن إذلالهم أخذ الجزية منهم على وجه الصغار. قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} من الصغار وهو الذل والإهانة. فيعطونها وهم أذلاء مقهورون.

(3/86)


وقال {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} ومن إذلالهم ما شرطه المسلمون عليهم. واشترطوه هم على أنفسهم. وتقدم أنه لا يجوز إعزازهم كما في هذا الحديث وغيره. واتفق المسلمون على إلزامهم الصغار الذلة والامتهان. وأنهم إن لم يلتزموه انتقض عهدهم. وقال عمر أذلوهم ولا تظلموهم.
وعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "ألا من ظلم معاهدًا أو نقصه من حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة".
فيحرم إعزازهم كما يحرم ظلمهم. ويعاملون المعاملة الشرعية الثابتة في حقهم. قال الشيخ وإذا نقضوا العهد لم يجب على المسلمين أن يعاهدوهم ثانيًا. بل لهم قتالهم. وإن طالبوا أداء الجزية. وللإمام أن يقتلهم حتى يسلموا. وله أن يجليهم من دار الإسلام إذا رأي ذلك مصلحة. بل يجوز قتل كل من نقض العهد وقتاله. وإن بذل الجزية ثانيًا. قال تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُون أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ}.
وقال ابن القيم وناقضوا العهد يسري نقضهم إلى نسائهم وذريتهم إذا كان نقضهم بالحراب. ويعودون أهل حرب.

(3/87)


وهذا عين حكم الله اهـ. وإن انتقل أحدهم إلى دين المجوس أو إلى غير دين أهل الكتاب لم يقر. ولم يقبل منه إلا الإسلام أو السيف. وإن انتقل غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أقر.
* * * *
* * *
*

(3/88)