الإحكام شرح أصول الأحكام

كتاب الفرائض
جمع فريضة بمعنى مفروضة. أي مقدرة. فهي نصيب مقدر شرعاً لمستحقه. وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى نصيباً مفروضاً أي مقداراً معلوماً والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع. وقد رغب في تعلمها الشارع صلوات الله وسلامه عليه. وأفردت بالتصانيف.
(عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تعلموا الفرائض) أي أحكام المواريث (وعلموها الناس) ليتناقلوها فلا تنسى (فإنها نصف العلم) لأن للناس حالتين حياة وموتاً. وفي الفرائض معظم الأحكام المتعلقة بالموت. أو لأنه يبتلى بها الناس كلهم (رواه ابن ماجه) وفيه ضعف ولأحمد وأبي داود والترمذي والحاكم وغيرهم " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض. وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما" ففيهما وغيرهما التحريض على تعلمها وتحفظها. لأنها لما كانت تنسى. وكانت أول ما ينزع من العلم. كان الاعتناء بحفظها

(3/423)


أهم ومعرفتها لذلك أقوم. وعلمها هو العلم بقسمة المواريث الآتي تفصيله.
(وعن عبد الله بن عمرو) -رضي الله عنه- (مرفوعاً العلم ثلاثة) أي العلم النافع المستمد من الكتاب والسنة ثلاثة. أو أصل علوم الدين ومسائل الشرع ثلاثة وضحها - صلى الله عليه وسلم - بقوله (آية محكمة) وهي في كتاب الله العربي. واشترط فيها الإحكام. لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به. وإنما يعمل بناسخه (أو سنة قائمة) أي دائمة متميزة وهي الثابتة بما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السنن المروية (أو فريضة عادلة) إما من العدل فى القسمة فيكون معدله على السهام والأنصباء المذكورة في الكتاب والسنة. أو أن تكون مستنبطة منهما. ومن معانيهما. فتكون هذه الفريضة تعدل بما أخذ من الكتاب والسنة إن كانت في معنى ما أخذ عنهما نصاً. وفيه "وما سوى ذلك فهو فضل " أي زائد لا ضرورة فيه (رواه أبو داود) وغيره بسند صحيح.
فدل الحديث على أن العلم النافع الدي ينبغي تعلمه وتعليمه هو الثلاثة المذكورة. وما سواها فضل لا تمس الحاجة إليه. وإن زاحم العلم الشرعي. أو أضعفه كره أو حرم. وحد علم الفرائض هو العلم بفقه المواريث. وما يضم إلى ذلك من حسابها. وموضوعه التركات. وثمرته إيصال ذوي الحقوق حقوقهم. وحكمه في الشرع فرض كفاية وأركانه ثلاثة وارث. ومورث وحق موروث. وشروطه ثلاثة تحقق موت المورث

(3/424)


وحياة الوارث. والعلم بمقتضى التوارث. والحقوق المتعلقة بتركة الميت: مؤونة التجهيز. ثم الديون. ثم الوصايا وتقدم ذلك. ثم الإرث.

باب الفروض
أي المقدرة في كتاب الله تعالى. وفي السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه المسلمون. أو كان عليه الجمهور. والفروض بنص القرآن ستة: نصف وربع وثمن. وثلثان وثلث وسدس. والسابع وهو ثلث الباقي بالاجتهاد. وأسباب الإرث: رحم ونكاح وولاء والورثة ذو فرض وعصبة ورحم. وسيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.
(قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وذلك أن الوراثة كانت في الجاهلية بالذكورة والقوة. فكانوا يورثون الرجال دون النساء والصبيان. فأبطل الله ذلك بالإسلام. ونزلت هذه الآية والتي بعدها. وخاتمة هذه السورة فهن آيات علم الفرائض. وهو مستنبط منها ومن الأحاديث الواردة في ذلك. مما هو كالتفسير لذلك. فقال تعالى {يُوصِيكُمُ اللهُ} أي يعهد إليكم ويفرض عليكم {فِي} أمر {أَوْلاَدِكُمْ} إذا متم. ويأمركم بالعدل فيهم. حتى استنبط بعض أهل العلم من ذلك أن الله أرحم بخلقه من الوالدة بولدها. حيث أوصى الوالدين بأولادهم. وقال - صلى الله عليه وسلم - في امرأة من السبي تدور على

(3/425)


ولدها "والله لله أرحم بعباده من هذه بولدها".
قال تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أي ضعف ما للأنثى. لأن الرجال قوامون على النساء. والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى. فكان أحق بالتفضيل. سوى ولد الأم. لأنه لا يرث إلا بالرحم المجردة أو لأن الذكر مكلف أن ينفق على نفسه وعلى زوجته. فهو محتاج للتكسب وتحمل المشاق.
فناسب أن يعطي ضعفي ما تأخذه الأنثى. فللبنين والبنات المال المخلف عن الميت للذكر مثل حظ الأنثيين. وكذا أبناء البنين وبنات البنين. وإن نزلوا ومع الأبوين وإن عليا. أو أحد الزوجين ما بقي: للذكر مثل حظ الأنثيين ما ترك الميت من بعد وصية يوصي بها أو دين.
{فَإِن كُنَّ} يعني المتروكات من الأولاد {نِسَاء} بنات صلب أو بنات أبناء. وإن نزلوا {فَوْقَ} صلة أي كن نساء {اثْنَتَيْنِ} فصاعدًا {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} بشرط عدم المعصب. واستفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة. ومن خبر ابنتي سعد: أخذ عمهما ما لهما. فجاءت أمهما بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اعط ابنتي سعد الثلثين. وأمهما الثمن. وما بقي فهو لك" وهذا نص في المسألة. ولا نزاع في ذلك.
{وَإِن كَانَتْ} يعني البنت {وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} يعني

(3/426)


مما ترك الميت بشرط عدم المعصب. وهو أخوها. والمشارك وهو أختها. وهكذا حكم بنت الابن وإن نزل. بشرط عدم الفرع الوارث الذي أعلى منها. وعدم المشارك. وهو أختها. والمعصب وهو أخوها. أو ابن عمها الذي في درجتها {وَلأَبَوَيْهِ} أي لأبوي الميت {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} أي الأب والأم {السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} الميت {إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} فيرث كل واحد منهما السدس بشرط وجود الفرع الوارث. وهو الولد وولد الابن وإن نزل. وإن لم يكن له إلا بنت أو بنت ابن وأب وأم فللأب السدس وللأم السدس وللبنت أو بنت الابن النصف. ويبقى سدس للأب تعصيبًا.
والجد مثل الأب في هذه الصور. يرث بالفرض مع ذكور الولد أو ولد الابن. وبالتعصيب مع عدم الولد وولد الابن. وبالفرض والتعصيب مع إناثهما عند فقد الأب. ومع الإخوة كالأب في أصح القولين كما سيأتي. وتفارق أحكامه أحكام الأب في العمريتين والجدة فأكثر ترث السدس مع عدم الأم كما سيأتي. وكل من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة. إلا ولد الأم لا يحجبون بها. بل يحجبونها من الثلث إلى السدس. وإلا أم الأب وأم الجد {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ} أي للميت {وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} فرضًا والباقي للأب تعصيبًا.
{فَإِن كَانَ لَهُ} أي للميت {إِخْوَةٌ} اثنان فأكثر ذكورًا أو إناثًا أو ذكورًا وإناثًا {فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} إجماعًا سواء كان الإخوة

(3/427)


وارثين أو غير وارثين عند الجمهور. والباقي يكون للأب إن كان معها أب أو جد. ولا ميراث للإخوة مع الأب. ولكنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. ويقال إنهم إنما حجبوا أمهم لأن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته عليهم دون أمهم. وهذه الفروض {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} إن كان، فإن الإرث مؤخر عن الدين والوصية.
{آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} يعني الذين يرثونكم {لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} أي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا. فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع. ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع. وأنا العالم بما هو أنفع لكم. وقد دبرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه {فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ} أي ما قدر الله من المواريث فرض من الله حكم به وقضاه {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما} بأمور العباد {حَكِيمًا} يضع الأشياء في مواضعها. ويعطي كلًا ما يستحقه بحسبه.
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} أي لكم أيها الرجال من الميراث نصف ما ترك أزواجكم {إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} أي إن متن عن غير ولد ذكرًا كان أو أنثى واحدًا أو متعددًا. فالزوج يرث النصف من بعد الوصية. والدين. بشرط عدم الفرع الوارث. وهو الولد أو ولد الابن وإن نزل إجماعًا {فَإِن كَانَ لَهُنَّ

(3/428)


وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فالزوج يستحق الربع بشرط وجود الفرع الوارث إجماعًا. وحكم أولاد البنين وإن نزلوا حكم أولاد الصلب بلا نزاع بين العلماء.
{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} سواء كن واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا بشرط عدم الفرع الوارث إجماعًا {فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فتستحق الزوجة أو الزوجات الثمن بشرط وجود الفرع الوارث إجماعًا. ففي زوج وأخ شقيق أو لأب، للزوج النصف والباقي للأخ. وفي زوج وابن، للزوج الربع وللابن الباقي. وفي زوجة وعم، للزوجة الربع وللعم الباقي. وفي زوجة وابن، للزوجة الثمن والباقي للابن.
{وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ} أي تورث كلالة من الإكليل. وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه. والمراد هنا من يرثه من حواشيه. لا أصوله ولا فروعه. قال أبو بكر وعمر وابن عباس وغيرهم: الكلالة من لا ولد له ولا والد. وهو قول أهل المدينة وأهل الكوفة والبصرة والفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد. وبيان ذلك مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله حيث قال: إنما يرثني كلالة. أي يرثني ورثة ليسوا بولد ولا والد. لأن

(3/429)


آية الكلالة نزلت فيه. ولم يكن له يوم نزولها أب ولا ابن. فصار شأن جابر بيانًا لمراد الآية {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي من أم بالإجماع. كما هو في قراءة بعض السلف. وكذا فسرها به أبو بكر -رضي الله عنه- {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} أي الأخ من الأم أو الأخت من الأم. بشرط انفراده وعدم الفرع الوارث. وعدم الأصل من الذكور الوارث.
{فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ} أي فإن كان ولد الأم أكثر من واحد. بأن كانوا اثنين فصاعدًا {فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ} ذكرهم وأنثاهم فيه سواء بالإجماع. قال ابن القيم هو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة القرآن. وفهم أكابر الصحابة. فيستحقون الثلث بشرط أن يكونوا اثنين فأكثر. وعدم الفرع الوارث. والأصل من الذكور الوارث. قال تعالى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} أي الإرث المذكور من بعد الوصية والدين وغير مدخل الضرر على الورثة بمجاوزة الثلث أو لوارث {وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيم}.
{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي ما ذكر من الفرائض المحدودة والمقادير التي جعلها للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه هي حدود الله {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} ولا تجاوزوها {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ} أي فيها فلم يزد أحداً ولم ينقصه بحيلة أو وسيلة بل تركهم على حكم الله {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ

(3/430)


تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم. وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} لكونه غير ما حكم الله به {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين}.
(وقال في الكلالة) أي في آية الكلالة أيضًا في آخر سورة النساء وتسمى آية الصيف. وذلك أن الله أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في أول النساء وتقدمت. والأخرى في الصيف وهي التي في آخر النساء. قال عمر –رضي الله عنه- ما راجعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء ما راجعته في الكلالة. فقال "ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" وفيها من البيان ما ليست في آية الشتاء. فلذلك أحاله عليها. قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} أي عن الكلالة. وفي الصحيحين وغيرهما أن جابرًا قال يا رسول الله لا يرثني إلا كلالة فنزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} أي مات {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} أي من أم وأب أو من أب {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}.
فتستحقه بشرط عدم المشارك. وهو أختها. والمعصب وهو أخوها إجماعًا، وكذا بنت الابن تستحق النصف بشرط عدم الفرع الوارث الذي أعلى منها. وعدم المعصب وهو أخوها. أو ابن عمها الذي في درجتها. وعدم المشارك وهو أختها أو بنت عمها التي في درجتها. بالإجماع. ولأحمد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأبوين فأعطى الزوج النصف والأخت

(3/431)


النصف. وقال حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بذلك
{وَهُوَ يَرِثُهَآ} أي أخوها لأبوين أو لأب {إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ} يرث جميع ما لها إذا ماتت. فإن كان لها ابن فلا شيء للأخ. وإن كان ولدها أنثى فللأخ ما فضل عن فرض البنت أو البنات إجماعًا.
{فَإِن كَانَتَا} أي الأختان لأوبين أو لأب {اثْنَتَيْنِ} فأكثر {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} إن لم يكن له ولد بالنص ووالد بالنص عند التأمل. لأنه لو كان معها أب لم ترث شيئًا. لأن يحجبها بالإجماع {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً} لأبوين أو لأب {رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} لما تقدم من أن الذكر أحوج إلى المال. ولأن الرجال قوامون على النساء {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ} أي يفرض لكم فرائضه ويحد لكم حدوده ويوضح لكم شرائعه {أَن تَضِلُّواْ} أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده. وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى.
(وعن ابن مسعود) -رضي الله عنه- (في بنت وبنت ابن وأخت، قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت رواه البخاري) والخمسة إلا النسائي وفيه قصة. وذلك أن أبا موسى سئل عن هذه المسألة فقال للبنت النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فقال قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. اقضي فيها بما قضى

(3/432)


النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك. قال: فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. وفيه دليل على أن الأخت مع البنت عصبة. لا يفرض لها معها. ولا مع البنتين. ولا مع بنت الابن وإن نزل. وأن للبنت النصف كما تقدم.
وأن بنت الابن فأكثر مع البنت تستحق السدس بشرط عدم المعصب. وعدم الفرع الوارث الذي أعلى منها سوى صاحبة النصف. فإنها لا ترث السدس إلا معها. وهذا لا نزاع فيه. وفي الصحيح أن معاذًا ورث أختًا وابنة. جعل لكل واحدة منهن النصف. وهو باليمن. والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي. ولا يقضي إلا بدليل يعرفه. ونصيب البنت فرض. ونصيب الأخت عصب. وهذا مجمع عليه. فإن الأخوات مع البنات عصبات.
قال ابن القيم ميراث البنات مع الأخوات وأنهن عصبة دل عليه القرآن. كما أوجبته السنة الصحيحة. وقضى به الصحابة رضي الله عنهم اهـ. والأخت لأب فأكثر مع أخت وإخوة لأبوين كبنت الابن مع بنت الصلب سواء للشقيقة، النصف وللأخت لأب فأكثر السدس تكملة الثلثين. مع عدم المعصب. والفرع الوارث. والأصل من الذكور الوارث.
(وعن بريدة) ابن الحصيب -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(3/433)


جعل للجدة) من تركة الميت (السدس إذا لم يكن دونها أم رواه أبو داود) والنسائي وغيرهما. وللخمسة إلا النسائي عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس. فدل الحديث وغيره على أن فرض الجدة السدس. ولا نزاع في ذلك بشرط عدم الأم.
(وقال أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- (في جدتين هو بينكما) يعني السدس رواه مالك في الموطأ. وكذا رواه الدارقطني وغيره. ورواه الخمسة إلا النسائي عن عمر -رضي الله عنه- (وصححهما الترمذي) وحديث بريدة صححه أيضًا ابن السكن وابن خزيمة وابن الجارود وغيرهم. وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما" رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في المسند. ولا نزاع في ذلك.
(وروي) عن عبد الرحمن بن يزيد (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (أعطاه) أي أعطى السدس (ثلاثًا) يعني ثلاث جدات ثنتين من قبل الأب. وواحدة من قبل الأم. رواه الدارقطني وغيره مرسلًا. ورواه البيهقي أيضًا عن زيد بن ثابت والأحاديث المذكورة وغيرها تدل على أن فرض الجدة الواحدة السدس. وكذلك فرض الجدتين إذا استوين بلا نزاع والثلاث. وحكاه ابن نصر وغيره إجماع الصحابة والتابعين. وإن كثرن إذا استوين وتستوي أم الأم وأم الأب لا فضل بينهما.

(3/434)


فإذا اختلفن سقط الأبعد بالأقرب. سواء كن من جهة أو جهتين. وسواء كانت القربى من جهة الأم والبعدى من جهة الأب إجماعًا. أو بالعكس. وكل جدة أدلت بأب بين أمين فهي ساقطة. وقال الشيخ وغيره لا يرث غير ثلاث جدات: أم الأم وأم الأب وأم أب الأب وإن علون أمومة وأبوة. إلا المدلية بغير وارث كأم أب الأم اهـ. وترث أم الأب وأم الجد معهما كالعم. لما روى الترمذي وغيره عن ابن مسعود أول جدة أطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السدس أم أب مع ابنها وابنها حي وترث الجدة المدلية بقرابتين ثلثي السدس والأخرى ثلثه.
(وقضى عمر) -رضي الله عنه- (بثلث الباقي للأم مع زوج) وأب أصلها من ستة للزوج النصف وللأم ثلث الباقي وهو سدس في الحقيقة والباقي للأب (أو زوجة وأب) وأصلها من أربعة للزوجة الربع وللأم ثلث الباقي واحد والباقي للأب. وتبعه الأئمة الأربعة وغيرهم. وتسمى العمريتين. لقضاء عمر -رضي الله عنه- فيهما. وعبر فيهما بثلث الباقي للأم تأدباً مع القرآن. قال شيخ الإسلام وقول عمر -رضي الله عنه- أصوب. لأن الله إنما أعطى الأم الثلث إذا ورثه أبواه. كما قال تعالى {وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} فأعطاها الثلث إذا ورثه أبواه. والباقي بعد فرض الزوجين هو ميراث بين الأبوين يقتسمانه. كما اقتسما الأصل. كما لو كان على الميت دين أو وصية فإنهما يقتسمان ما بقي أثلاثًا.

(3/435)


باب التعصيب
أي بيان ذوي التعصيب وأقسامه. التعصيب مصدر عصب يعصب تعصيبًا فهو عاصب ويجمع العاصب علىعصبة. وتجمع العصبة على عصبات. ويسمى بالعصبة الواحد فأكثر. والعصبة لغة بنو الرجل وقرابته لأبيه. سموا بذلك لأنهم عصبوا به أي أحاطوا به. وقيل لتقوي بعضهم ببعض.
من العصب وهو الشد. واصطلاحًا من يرث بلا تقدير. فإن انفرد أخذ جميع المال. ومع ذي فرض يأخذ الباقي. ومن الحكمة الإلهية أن جعل الميراث لأقارب الأب. وقدمهم على أقارب الأم. وجعل العصبة القائمين بنصرته وموالاته والذب عنه وحمل العقل عنه.
قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً} أي فإن كان ورثة الميت إخوة له من أبويه أو من أبيه {رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وتقدم قوله (للذكر مثل حظ الأنثيين) قال ابن كثير وغيره هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة يعني لأبوين أو لأب إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين. وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤونة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق. فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى. وتقدم أنه مكلف أن ينفق على نفسه وعلى زوجته.

(3/436)


(وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ألحقوا الفرائض) أي الأنصباء المنصوص عليها في الكتاب والسنة (بأهلها) المستحقين لها بالنص. وتقدم موضحًا (فما بقي) أي فضل بعد إعطاء ذوي الفروض فروضهم المقدرة لهم (فهو لأولى) أي لأقرب (رجل) من الميت (ذكر) تأكيد أنه ليس المراد بالرجل البالغ. بل الذكر وإن كان صغيرًا (متفق عليه) فدل الحديث على أنه يبدأ بذوي الفروض فيعطون فروضهم المنصوص عليها. وأن ما أبقت الفروض بعد أخذ مستحقيها يكون لأقرب العصبات من الرجال. لا يشاركه من هو أبعد منه. وحكاه النووي وغيره إجماعًا. وإن استووا اشتركوا.
وخرج من ذلك الابن وأخته. وابن الابن وأخته. والأخ لأبوين أو لأب وأخته. فتقدم أنهما يرثان معهم بنص القرآن. قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وقال: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وغيرهم من العصبة لا ترث أخته معه شيئًا. لأنهن من ذوي الأرحام. والعصبة ثلاثة أقسام عصبة بالنفس: وهم الابن وابنه وإن نزل. والأب والجد له وإن علا. والأخ لأبوين ثم لأب ثم بنوهما كذلك. ثم العم لأبوين ثم لأب ثم بنوهم كذلك. ثم المعتق والمعتقة. هؤلاء هم العصبة بالنفس.
والعصبة بالغير البنت مع الابن. وبنت الابن مع ابن

(3/437)


الابن. والأخت الشقيقة مع أخيها. والأخت لأب مع أخيها. والعصبة مع الغير الأخوات مع البنات.
والأقرب من العصبة يحجب من دونه. وتقدم حجب الجد بالأب. والجدة بالأم. وابن الابن بالابن. ويسقط العم بالأخ. وابن العم بالعم. ومع الاستواء يقدم الأقوى. فيسقط الأخ لأب بالأخ لأبوين. والعم لأب بالعم لأبوين وهكذا. والحجب من أعظم أبواب الفرائض وأهمها. حتى قال بعضهم حرام على من لم يعرف الحجب أن يفتي في الفرائض.
والحجب من حيث هو قسمان: حجب أوصاف. وهي موانع الإرث الثلاثة: الرق والقتل واختلاف الدين. ويتأتى على جميع الورثة. والمحجوب به وجوده كعدمه. وحجب أشخاص: وينقسم إلى حجب حرمان. وحجب نقصان وحجب الحرمان يتأتى على جميع الورثة إلا الأبوين والولدين والزوجين. وأما حجب النقصان فيتأتى على جميع الورثة.
(ولهما عن أبي هريرة مرفوعًا أيما مؤمن مات وترك مالًا) بعد مؤنة تجهيزه وقضاء دينه إن كان (فليرثه عصبته من كانوا) ولمسلم فإلى العصبة يعني ما خلف إن لم يكن ثم ذو فرض. وهذا لا نزاع فيه. وإن لم يكن له ولد ولا ولد ابن وإن نزل ولا أب ولا وجد وإن علا. ولا أخ لأبوين أو لأب ولا بنوهم وإن نزلوا. ولا عم لأبوين أو أب ولا بنوهم ورثه أعمام جده. ثم

(3/438)


بنوهم. ثم أعمام أبي جده ثم بنوهم. وهكذا ثم معتق ثم عصبته ثم مولى مولى معتق ثم عصبته وهكذا فإن لم يوجد عصبة ووجد ذو فرض رد عليه غير الزوجين. وإن لم يوجد فذو الأرحام كما يأتي.
(وعن عمران بن حصين) -رضي الله عنه- (قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن ابن ابني مات فمالي من ميراثه) فالميت ابن ابن السائل خلف ابنتين وجد (قال) - صلى الله عليه وسلم - للسائل وهو جد الميت (لك السدس) وهو أقل ما يرثه الجد (فلما ولى دعاه) وفي لفظ فلما أدبر دعاه (فقال لك سدس آخر) أي غير السدس المفروض لك (فلما ولى دعاه) أي فلما ذهب ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال إن السدس الآخر طعمة) أي رزقكه الله طعمة بسبب عدم كثرة أصحاب الفروض. فإنهم إن كثروا لم يبق لك هذا السدس الآخر. لأنه ورثه بالتعصيب لا بالفرض. رواه الخمسة (وصححه الترمذي) فدل الحديث على أن للجد الباقي بعد الفروض. وأصل المسألة من ستة: للجد السدس فرضًا. وللبنتين الثلثان. وبقي سدس للجد تعصيبًا. ولذلك لم يدفع إليه السدس الآخر. أولًا. لئلا يظن أن فرضه الثلث. وتركه حتى ولى. فقال لك سدس آخر. وهو بقية التركة. فلما ذهب دعاه فقال إن السدس الآخر طعمة أي زيادة على الفرض الذي لك فله سدس فرض. والباقي تعصيب. فهو كالأب مع البنات أو بنات الابن بلا نزاع في ذلك بين المسلمين.

(3/439)


وتفارق أحكامه أحكام الأب في العمريتين إجماعًا. ومع الإخوة عند بعض أهل العلم فيجعلونه كأخ منهم. ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث أو السدس مع ذي فرض. فيأخذه ومذهب أبي بكر وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين وأبي حنيفة أنه كالأب. فيحجب الإخوة مطلقًا. وهو رواية عن أحمد. اختارها شيخ الإسلام وابن القيم. واستظهرها في الفروع.
واختاره بعض الشافعية. والشيخ محمد بن عبد الوهاب. وقال ابنه عبد الله هو المفتى به عندنا. وقال شيخنا هو الصواب.
ورجح بأمور أحدها العمومات. ولم يسم الله الجد بغير اسم الأبوة. والثاني محض القياس. قال ابن عباس ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنًا. ولا يجعل أبا الأب أبًا. والثالث أن توريثهم معه وكيفياته لو كان من الله لم يهمله النبي - صلى الله عليه وسلم - بل وضحه والرابع أن الذين ورثوا الإخوة معه اختلفوا في كيفية ذلك ولم يجزموا بل معهم شك ومقرون أنه محض رأي لا حجة فيه ولا قياس. ولا ريب أن من ورث الجد وأسقط الإخوة هو أسعد الناس بالنص والإجماع والقياس. وعدم التناقض. وقد فاز بدلالة الكتاب والسنة والقياس. وأيضًا لم يختلف على الصديق -رضي الله عنه- في زمانه فكان إجماعًا قديمًا.
(وعن علي) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن أعيان بني الأم يتوارثون) أي يرث الإخوة الأشقاء (دون بني العلاة) أي الإخوة لأب فقط سمي الإخوة الأشقاء بني الأعيان

(3/440)


لأنهم من عين واحدة والإخوة لأب بني العلات جمع علة بفتح العين وهي الضرة. فكأنه قيل بني الضرات. لأنهم من أمهات شتي ومن رجل واحد ويقال للإخوة للأم فقط بني الأخياف. أي الأخلاط لأنهم من أخلاط الرجال. ليسوا من رجل واحد. فقال (الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه رواه الترمذي).
فدل الحديث على أن الإخوة لأبوين تقدم على الأخوة لأب ولا نزاع في ذلك بين أهل العلم. ثم أبناء الأخ لأبوبين ثم لأب وإن نزلوا. ثم الأعمام لأبوين ثم لأب ثم بنوهم كذلك. فمع اتحاد الجهة يعتبر التقديم بالقرب. ومع الاستواء في الدرجة تعتبر القوة كما قال الجعبري:
فبالجهة التقديم ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا

(ولأبي داود عن بريدة) -رضي الله عنه- (قال توفى رجل من الأزذ) قبيلة مشهورة من قحطان (فلم يدع وارثًا) وفي لفظ أتي بميراثه فقال: التمسوا له وارثًا أو ذا رحم" فلم يجدوا وارثًا (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ادفعوه) أي ادفعوا ميراثه (إلى أكبر خزاعة) قبيلة مشهورة من الأزد. وفي لفظ أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن عندي ميراث رجل من الأزد ولست أجد أزديًا أدفعه إليه قال "فاذهب فالتمس أزديًا حولًا" فأتاه بعد الحول فقال يا رسول الله لم أجد أزديًا أدفعه إليه قال "فانطلق فانظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه" فلما ولي قال "علي بالرجل"

(3/441)


فلما جاء قال "انظر أكبر خزاعة فادفعه إليه".
فدل الحديث على جواز صرف ميراث من ليس له وارث معين إلى أكبر قومه إن كان يجتمع هو وقبيلته في جد معلوم ولم يعلم له وارث منهم على التعيين. فأكبرهم سنًا أقربهم إليه نسبًا. لأن كبر السن مظنة لعلو الدرجة. فالمراد الأقرب عصبة بالنسب.
(وقال علي) -رضي الله عنه- (إذا استغرقت الفروض المال) فلم يفضل بعد ذوي الفروض شيء (سقطت العصبة) ولا نزاع في ذلك. لقوله "ألحقوا الفرائض بأهلها" وغيره. وحتى في المشركة.
(وقضى به عمر) -رضي الله عنه- (في المشركة) أي قضى بسقوط العصبة إذا استغرقت الفروض المال في المشركة. وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أيضًا لأم وأب فإن مسألتهم من ستة: للزوج النصف. وللأم السدس. وللإخوة للأم الثلث.
فلم يبق بعد الفروض شيء فسقط الإخوة لأبوين. وهذا مقتضى النص والقياس. ومذهب علي وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى وغيرهم ومذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن الشافعي وأحمد. لعموم قوله تعالى {فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ} فإنه دل على اختصاص ولد الأم بالثلث. فإذا شرك معهم غيرهم لم يأخذوا الثلث وللخبر فإن من شرك لم يلحق الفرائض بأهلها.

(3/442)


ولم يبق بعد الفرائض للأشقاء شيء فيسقطون. وقال ابن القيم تشريكهم خروج عن القياس. كما هو خروج عن النص.
(وعن سهل) بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- (في) حكم (الملاعنة) في الميراث. وأما حكم اللعان فسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى قال (جرت السنة أنه يرثها) أي يرث ابن الملاعنة أمه (وترث منه) أي من ولدها ذكرًا كان أو أنثى (ما فرض الله لها) وهو في الصحيحين. ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها. وتقدم أن المرأة تحوز ثلاث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه. وقول ابن القيم أنه أصح الأقوال. ولو لم ترد به الآثار. فهو محض القياس الصحيح. وعند الأكثر أن عصبته عصبة أمه في إرث لا في عقل ولا ولاية.
ودلت هذه الأحاديث وما في معناها أن ميراث ابن الملاعنة لأمه وعصبتها. فيكون لأمه ثم لعصبتها إذا لم يكن غير الأم وقرابتها. لأنها قامت مقام أبيه في انتسابه إليها. ولأنهم أدلوا بها. فلا يرثون معها. وذكر أنه اختيار الشيخ. وهو قول ابن مسعود ورواية عن أحمد. والجمهور على التسوية بين ولد الزنا وولد الملاعنة. فإن كان له ابن أو زوجة أعطي كل واحد ما يستحقه. كما في سائر المواريث فأما الملاعن وعصبته فلا يرثون منه شيئًا. وكذلك ولد الزنا. وهذا إجماع من أهل العلم.
(وعن أبي هريرة) - رضي الله عنه - (مرفوعًا) إلى

(3/443)


النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من ترك مالًا فلورثته متفق عليه) فدل عموم هذا الحديث وغيره. وعموم قوله تعالى {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} على رد ما بقي بعد الفروض إن لم يوجد عصبة على ذوي الفروض بقدر إرثهم سوى الزوجين لأنه لا رحم لهما وهذا مذهب أحمد وأبي حنيفة وقال ابن سراقة عليه العمل في الأمصار. فيعطى كل من ذوي الفروض غير الزوجين من أصل ستة. وهي أربعة أصول: أصل اثنين واصل ثلاثة. وأصل أربعة. وأصل خمسة وإن كان هناك أحد الزوجين ففرضه من مخرج فرض الزوجية.
واحد من اثنين أو أربعة أو ثمانية. وإن كان المردود عليه شخصًا واحدًا أخذه فرضًا وردًا كأم. أو عدد كإخوة لأم. وإن اختلف إرثهم فأنصباؤهم من أصل مسألة الرد كما هو معروف عند أهل هذا الفن.

باب ميراث ذوي الأرحام
جمع رحم. وهم كل قريب ليس بذي فرض ولا تعصيب. فمتى لم يوجد وارث صاحب فرض. ولم يوجد معصب. ورث أولو الأرحام عند أكثر أهل العلم. منهم عمر وعلي وعبد الله ومعاذ وغيرهم من الصحابة. وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد والأصح عند الشافعية إن لم ينتظم بيت المال. لعموم الآية والأخبار.

(3/444)


قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ} أطلقهم علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا تعصيب. بل يدلون بوارث كخال والخالة والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} أي أحق بالتوارث {فِي كِتَابِ اللهِ} أي في حكم الله تعالى. والآية عامة. وتشمل ذوي الأرحام الذين لا فرض لهم ولا تعصيب بالاسم الخاص. فالجد أبو الأم ينتسب بالولادة اشبه أبا الأب ولأن لهم نسبًا فكانوا مقدمين على بيت المال كالعصبات وذوي الفروض. ولأن لهم سببين إسلامًا ورحمًا. وبيت المال ليس له إلا سبب واحد وهو الإسلام.
وقال تعالى {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام. ويرثون بالتنزيل عند أحمد وغيره. لأن بنت العمة بمنزلة الأب. وبنت الأخ بمنزلة الأخ ويصل كل منهما إلى الوارث في درجة واحدة. ومن قال بالقرابة فعلى ترتيب العصبة. وارثهم بشرط عدم أهل الفروض غير الزوجين وبعدم العصبة. وذكرهم وأنثاهم سواء كولد الأم.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - خر) أي سقط (من عذق نخلة) العذق بالفتح النخلة وبالكسر العرجون بما فيه من الشماريخ (فمات فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال هل له من نسيب أو رحم) يعني قريبًا له بعد أصحاب الفروض
والعصبة (قالوا لا) أي لا قرابة له بنسب ولا رحم

(3/445)


(قال اعطوا ميراثه بعض أهل قريته رواه الخمسة) وغيرهم. فدل الحديث على إرث ذوي الأرحام. وهو مذهب أكثر أهل العلم. وعن المقدام بن معد يكرب مرفوعًا "الخال وارث من لا وارث له" رواه الخمسة إلا الترمذي. ولهم سوى أبي داود كتب عمر إلى أبي عبيدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخال وارث من لا وارث له" وصححه الترمذي.
وذكر ابن القيم أن أحاديث الخال رويت من وجوه مختلفة. رواتها ليسوا بمجروحين. وحكم ابن حبان بصحتها. وليس في أحاديث الأصول ما يعارضها. وجمهور العلماء يورثونه. وهو قول أكثر الصحابة. قال وأسعد الناس بهذه الأحاديث من ذهب إليها اهـ. والمراد إذا لم يكن ثم وارث من جميع الجهات من ذوي الفروض أو العصبات. وفي كتاب عمر والله ورسوله مولى من لا مولى له. فمن لم يكن له وارث ولا من ذوي الأرحام فلمصالح المسلمين. ولا يكون لبيت المال إلا مع عدم أهل الفروض والعصبة وذوي الأرحام. كما هو قول جمهور أهل العلم. ويدل له عمومات الكتاب والسنة والآثار. ومما يؤيد ميراث ذوي الأرحام أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - "ابن أخت القوم منهم" ولا ريب في انتهاض مجموع الأحاديث للاستدلال بميراث ذوي الأرحام.
(ونزل عمر) -رضي الله عنه- (العمة أبا) أي تنزل منزلته في الإرث مع عدم وعدم أهل الفروض والعصبة (والخالة

(3/446)


أما) تنزل منزلتها مع عدم أهل الفروض والعصبة وهو الصحيح عنه وعلي وغيرهما. قال الموفق وغيره لا مخالف لهم في الصحابة وأنه الصحيح لوجوه: منها الخبر الآتي وغيره ولأن الأم أقوى جهات الخالة.
(وروي) عن الزهري (مرفوعًا) ولفظه "العمة بمنزلة الأب إذا لم يكن هناك أب. والخالة بمنزلة الأم إذا لم يكن بينهما أم" أي ولا أهل فرض ولا عصبة.
(وعلي) بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وغيرهما (نزل بنت البنت بمنزلة البنت وبنت الأخ والأخت بمنزلة الأخ والأخت) فدل على أن إرث ذوي الأرحام بالتنزيل. ويجعل كل وارث بمنزلة من أدلى به. وهم أحد عشر صنفًا الأول: أولاد البنات وأولاد بنات البنين وإن نزلوا. الثاني أولاد الأخوات مطلقًا الثالث بنات الإخوة لغير أم وبنات بنيهم. والرابع أولاد الإخوة لأم. الخامس العم لأم. سواء كان عم الميت أو عم أبيه أو عم جده. السادس العمات مطلقًا وبنات بنيهم. السابع بنات الأعمام وبنات بنيهم. الثامن الأخوال والخالات مطلقًا.
التاسع الأجداد الساقطون من جهة الأم والأب. العاشر الجدات السواقط.
الحادي عشر كل من أدلى بأحد هذه الأصناف العشرة، كعمة العمة وخالة الخالة. وأبي أبي الأم وأخ العم لأمه وعمه

(3/447)


وعمته. ونحو ذلك. فينزل كل واحد من هذه الأصناف بمنزلة من أدلى به من الورثة. فأولاد البنات وإن نزلوا بمنزلة البنات.
وأولاد بنات البنين وإن نزلوا بمنزلة بنات البنين. وبنات الإخوة وبنات بنيهم بمنزلة آبائهن. وأولاد الإخوة لأم ذكورًا كانوا أو إناثًا بمنزلة الإخوة لأم. والعم لأم والعمات مطلقًا بمنزلة الأب.
والأخوال والخالات مطلقًا بمنزلة الأم. وأخوال الأب وخالاته مطلقًا بمنزلة أم الأب وأخوال الأم وخالاتها مطلقًا بمنزلة أم الأم وأبو الأم. وكل من أدلى به بمنزلة الأم. وأبو أم الأب وكل من أدلى به بمنزلة أم الأب وهكذا.
فيجعل نصيب كل وارث لمن أدلى به. فإن كان واحدًا أخذ المال كله. وإن أدلى جماعة بجماعة قسمت المال بين المدلى بهم فما صار لكل واحد أخذه المدلى به. وإن أدلى جماعة بوارث واستوت منزلتهم منه بلا سبق فنصيبه لهم الذكر والأنثى سواء.
فلو خلف شخص ثلاثة أولاد بنت فالمال بينهم أثلاثًا. وإن اختلفت منازلهم منه جعلتهم معه كميت اقتسموا إرثه. ففي ثلاث خالات متفرقات للشقيقة ثلاثة. وللخالة لأب واحد.
وللخالة لأم واحد. وفي ثلاثة أخوال متفرقين لذي الأم السدس. والباقي لذي الأبوين. وإن كان معهم أبو أم أسقطهم. وإن حجب بعضهم بعضًا عملت به. ويسقط بعيد من
وارث بأقرب منه إلا إذا اختلفت الجهة فينزل بعيد من
وارث درجة درجة حتى يلحق به. فإن أدلى بعصبة أخذه

(3/448)


تعصيبًا وإن أدلى بذي فرض أخذه فرضًا وردًا.
وجهاتهم أبوة وأمومة وبنوة. ومن أدلى بقرابتين ورث بهما. كبنت أخ لأم هو ابن عم مع بنت ابن عم. وإن كان مع ذوي الأرحام أحد الزوجين أخذ فرضه كاملًا. والباقي لذوي الأرحام. فإن كان واحدًا أخذه. وإن كانوا جماعة وانقسم فكذلك. كزوجة وبنت أخت وبنت أخ. وإن لم ينقسم نظرت بينه وبين مسألة الأرحام. فإن تباينا ضربت مسألة ذوي الأرحام في مسألة الزوج. فما بلغ فمنه تصح.

باب ميراث الحمل والمفقود والخنثى والغرقي
المراد بالحمل ما في بطن الآدمية المتوفى عنه وهي حامل به. يقال امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى. والمفقود هو من انقطع خبره فلم تعلم له حياة ولا موت. سواء كان بأسر أو سفر غالبه السلامة. أو كان بما غالبه الهلاك. كمن غرق في مركب أو فقد من بين أهله. أو في مفازة مهلكة ونحو ذلك. والخنثى هو من لم تتضح ذكورته ولا أنوثته له شكل ذكر وفرج امرأة. أو ثقب في مكان الفرج يخرج منه البول. والغرقي جمع غريق مثل قتلى وقتيل. والمراد الميت في الماء. وكذا من خفي موتهم بنحو هدم أو غربة أو نار.
(عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا

(3/449)


استهل المولود) أي رفع صوته بالبكاء وصاح شديدًا عند ولادته (ورث) وفي لفظ "إذا استهل المولود صارخًا ورث" فصارخًا حال مؤكدة (رواه أبو داود) وللترمذي وغيره من حديث جابر "إذا استهل السقط صلي عليه وورث" فدل الحديثان على أن المولود إذا وقع منه الاستهلال. أو ما يقوم مقامه. كما لو عطس أو رضع أو تنفس وطال زمن التنفس. أو وجد منه دليل على حياته. كحركة طويلة أو سعال. ورث. لأن هذه الأشياء تدل على الحياة المستقرة.
فيرث بشرطين بأن ولد حيًا لا ميتًا بالاتفاق. وبتحقيق وجوده في الرحم حين موت الموروث. ولو نطفة بلا نزاع. ومن خلف ورثة فيهم حمل يرثه. ولم يرضوا بوقف الأمر إلى وضعه.
وطلبوا القسمة لم يعطوا كل المال بلا نزاع. ووقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين. لأن وضعهما كثير معتاد. فإذا ولد أخذ حقه من الموقوف. وما بقي فلمستحقه من الورثة.
ومن لا يحجبه الحمل يأخذ إرثه كاملًا كالجدة. فإن فرضها السدس مع الولد وعدمه. ومن ينقصه الحمل شيئًا يعطى اليقين. كالزوجة والأم. فيعطيان الثمن والسدس. ومن سقط به كعصبة لم يعط شيئًا. للشك في إرثه.
(وروي) من حديث أبي هريرة وغيره أخرجه الترمذي وغيره (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال أعمار أمتي) أي غالب أعمارهم (ما بين الستين) سنة (والسبعين) سنة لأن الغالب أن لا يعيش أكثر

(3/450)


من هذا. ويشهد له الحال وأقلهم من يجوز ذلك ومنهم من لا يبلغ الستين وفي القرون الماضية كانت أعمارهم وأبدانهم وأرزاقهم أضعاف ذلك ولم يزل الخلق يضعف حتى صارت هذه الأمة هي آخر الأمم فمن انقطع خبره ولا يدري حياته وموته. له حالتان: حالة يكون الغالب عليه السلامة. كمن سافر لتجارة أو سياحة أو طلب علم أن نحو ذلك. انتظر به حتى يتيقن موته أو تمضي عليه مدة لا يعيش في مثلها. وذلك مردود إلى اجتهاد الحاكم. وهو قول الشافعي والمشهور عن مالك وأبي حنيفة. لأن الأصل حياته.
واتفقوا على أنه لا يقسم ماله حتى تمضي مدة لا يعيش في مثلها. وعن أحمد ينتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد لأن الغالب أنه لا يعيش أكثر منها. والحالة الثانية يكون الغالب عليه الهلاك. كمن غرق في مركب فسلم قوم دون قوم. أو فقد من بين أهله. أو من بين الصفين. أو في مفازة مهلكة. أو نحو ذلك انتظر به تمام أربع سنين منذ فقد. وقد اتفق الصحابة على اعتداد امرأة المفقود بعد التربص هذه المدة. وحلها للأزواج بعد ذلك. وانقطاع خبره في تلك المدة يغلب على الظن هلاكه. ثم بعد مضي المدة يقسم ماله بين ورثته الأحياء. حين يحكم الحاكم بموته.
وإن مات مورثه في مدة التربص أخذ كل وارث إذًا اليقين. وهو ما لا يمكن أن ينقص عنه مع حياة المفقود أو موته.

(3/451)


ووقف ما بقي. فإن قدم أخذ نصيبه الذي وقف. ورد الباقي على مستحقه. وإن مضت المدة ولم يعلم خبره فعن أحمد يرد إلى ورثة الميت الذي مات في مدة التربص قطع به الموفق وغيره. وإن بان موته قبل موت مورثه رد الموقوف على مستحقه بلا خلاف. وكذا إن بان ميتًا ولم يتحقق أنه قبل موت مورثه. واتفقوا على أنه لا يرث المفقود إلا الأحياء من ورثته.
(وأنه سئل) أي وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل (عن مولود) خنثى (له قبل) كفرج المرأة (وذكر) كذكر الرجل (من أين يورث) وهو ينقسم إلى مشكل وغير مشكل. فمن ثبت فيه علامات الرجال أو النساء فيعلم أنه رجل أو امرأة. وليس بمشكل. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه يعتبر إرثه بمباله. (قال) يورث (من حيث يبول) فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن حكمه حكم من ظهرت علاماته فيه.
(وأنه) - صلى الله عليه وسلم - (أتى بخنثى من الأنصار فقال ورثوه من أول ما يبول منه) وهو قول علي ومعاوية وغيرهما وقال الموفق يعتبر بمباله في قول من بلغنا قوله من أهل العلم. وقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الخنثى يورث من حيث يبول. إن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل. وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة. ولأن خروج البول أعم العلامات لوجودها في الصغير والكبير وإن كان مشكلًا فلا يخلو من حالتين. أما أن يرجى انكشاف حاله أولا.

(3/452)


فإن رجي بأن كان صغيرًا عومل هو ومن معه من الورثة بالأضر إن طلبوا القسمة ووقف الباقي عند الجمهور إلى أن يتضح أمره كبوله من أحد آلتيه. فإن بال منهما فبأسبقهما عند الجمهور. وإن استويا فبأكثرهما. وكحيضه وتفلك ثدييه ونبات لحيته. وإن لم يرج انكشاف حاله بأن مات وهو صغير. أو بلغ ولم يتضح أمره. أعطي نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى.
قال الموفق وهو قول ابن عباس ولا يعلم له في الصحابة منكر. هذا إن ورث بهما متفاضلًا. وإن ورث بهما على السواء أعطي نصيبه كاملًا. وإن ورث بالذكورية فقط أعطي نصف ميراث ذكر. أو بالأنوثية فقط فنصف ميراث أنثى. وكخنثى مشكل في الحكم من لا ذكر له ولا فرج. ولا فيه علامة. ذكر ولا أنثى. وذكر الموفق وغيره أنه قد وجد ذلك.
(ولم يورث أبو بكر) الصديق الخليفة الراشد -رضي الله عنه- وأرضاه (و) لا (غيره) من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كابن عباس وزيد بن ثابت والحسن بن علي وغيرهم (من علم موتهم معًا) أي جميعًا بعضهم من بعض (أو جهل السابق) منهم موتًا (بعضهم من بعض) وهو قول عمر بن عبد العزيز والزهري والأوزاعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد. وروى سعيد وغيره أن قتلى اليمامة وصفين والحرة لم يورث بعضهم من بعض.
وأن أم كلثوم بنت علي وابنها زيدًا لم يدر أيهما مات أول

(3/453)


فلم ترثه ولم يرثها. ولأنه لم يكن حيًا حين موت الآخر. وشرط الإرث حياة الوارث بعد موت الموروث. وإذا مات متوارثان بغرق أو هدم أو حرق أو غربة أو نار ونحو ذلك فلهم خمسة أحوال إما أن يتأخر موت أحد المتوارثين ولو بلحظة. فيرث المتأخر إجماعًا. أو يتحقق موتهما معًا فلا إرث إجماعًا. أو تجهل كيفية موتهما. أو يعلم سبق أحدهما الآخر لا بعينه. أو يعلم السابق بالموت ثم ينسى. ففي هذه الأحوال الثلاثة عند الأئمة الثلاثة وإحدى الروايتين عن أحمد لا إرث بينهم. لما تقدم.
وعنه إذا جهل السابق بالموت ولم يختلفوا فيه ورث كل منهما من الآخر من تلاد ماله دون ما ورثه منه دفعًا للدور. واحتجوا بما رواه الشعبي عن عمر لما وقع الطاعون بالشام: أن ورثوا بعضهم من بعض. وبما روي عن إياس بن معاوية مرفوعًا في قوم وقع عليهم بيت فقال يرث بعضهم من بعض ولكن قال الموفق إنما هو عن إياس نفسه. وحكاه أحمد عنه. والقول الأول مذهب الجمهور. وجزم به شيخ الإسلام. وقال لو مات متوارثان وجهل أولهما موتًا لم يرث بعضهم من بعض. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي. اهـ. وإن تداعيا ولا بينة. أو تعارضت بينتاهما حلف كل منهما على إبطال دعوى صاحبه. ولم يتوارثا لعدم وجود شرطه.

(3/454)


باب ميراث أهل الملل
جمع ملة بكسر الميم وهي الدين والشريعة. وتقدم أن اختلاف الدين من موانع الإرث.
(وعن أسامة بن زيد) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم. وفي رواية قال يا رسول الله أتنزل غدًا في دارك بمكة قال "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور" وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب. ولم يرث جعفر ولا علي شيئًا. لأنهما كانا مسلمين. وكان عقيل وطالب كافرين. فدل الحديثان وغيرهما أن الكافر لا يرث المسلم. وهذا بإجماع المسلمين. وأن المسلم لا يرث الكافر وهو مذهب جمهور العلماء. وقال الموفق عند عامة الفقهاء. وعليه العمل والمرتد لا يرث أحدًا من المسلمين. وقال لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم. لأنه لا يقر على ما هو عليه. وإن مات فقال شيخ الإسلام المرتد إن قتل في ردته أو مات عليها فماله لوارثه المسلم. وهو رواية عن أحمد وهو المعروف عن الصحابة. ولأن ردته كمرض موته.
وقال ابن القيم القول الراجح أنه لورثته من المسلمين. وهو الصواب. قال الشيخ. والزنديق منافق يرث ويورث. لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا. ولا جعله

(3/455)


فيئًا. فعلم أن التوارث مداره على النظرة الظاهرة. واسم الإسلام يجري عليه في الظاهر إجماعًا اهـ. واستثنى بعض الأصحاب الولاء. لما رواه الدارقطني. إلا أن يكون عبده أو أمته. فقالوا لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر إلا بالولاء. وجمهور العلماء أنه لا يرثه مع اختلاف دينهما. لخبر أسامة ولأنه ميراث فيمنعه اختلاف الدين كميراث النسب. وأولى. وميراث النسب أقوى. وإذا منع الأقوى فالأضعف أولى.
(وللخمسة) وغيرهم فلأحمد وأبي داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر وللترمذي وغيره من حديث جابر -رضي الله عنهما- (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لا يتوارث أهل ملتين شتى) أي متفرقين في أديانهم. ورواه الحاكم وغيره وللبزار وغيره لا ترث ملة ملة. وقال علي -رضي الله عنه- الكفر ملل شتى. وقال الموفق لا نعلم له مخالفًا في الصحابة فكان إجماعًا فدل على أنه لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين بالكفر. أو بالإسلام والكفر وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما.
وذهب جماعة إلى أن المراد بالملتين الكفر والإسلام. فيكون كالحديث المتقدم. ولفظ الحديث ظاهر في عدم التوارث بين أهل ملل الكفر. ولأن كل فريق منهم لا موالاة بينهم. ولا اتفاق في دين. فلم يرث بعضهم بعضًا كالمسلمين والكفار. ويرث المجوسي وكل من يرى كل نكاح ذوي المحارم بقرابتين

(3/456)


إن أسلموا. أو تحاكموا إلينا قبل إسلامهم. لقوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} وكذا حكم المسلم يطأ ذات رحم محرم منه بشبهة نكاح أو تسر. يثبت به الميراث والنسب. لا بنكاح ذات رحم محرم فلا يرثها ولا ترثه. ولو بعقد لا يقر عليه لو أسلم كمطلقته ثلاثًا قبل أن تنكح زوجًا غيره.
(ولأبي داود عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (كل قسم في الجاهلية) أي كل ميراث قسم في الجاهلية (فهو على ما قسم) لا يرجع على من أخذ نصيبه. لاعتقاده ملكًا له أو استولى عليه وتملكه في جاهليته ومنع مالكه منه بحيث أيس منه ثم أسلم وهو في يده لا ينازعه فيه فله. (وكل قسم أدركه الإسلام) قبل أن يقسم (فإنه على قسم الإسلام) المنصوص عليه في شريعة الإسلام.
فدل الحديث على أنه لو أسلم كافر قبل قسم ميراث مورثه المسلم ورث لهذا الخبر. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "من أسلم على شيء فهو له" رواه سعيد.
وقضى به عمر وعثمان. واشتهر فلم ينكر فكان إجماعًا. ولأن الناس أسلموا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ولم ينطروا في أنكحة الجاهلية. ولا في عقودهم قال ابن جريج لعطاء أبلغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أهل الجاهلية على ما كانوا عليه.
قال لم يبلغنا إلا ذلك. وأفتى أهل هذه الدعوة بأن المواريث التي قسمت في الشرك وتملكها أهلها ثم أسلموا لا تعاد. وأنه إذا

(3/457)


منع الوارث شريكه من نصيبه في الإرث وأسلم والمال في يده فالمال له دون شريكه. سواء كان الممنوع رجالًا أو نساء. وإن كان لم يقسم قسم على فراض الله.

باب ميراث المطلقة والمقربة
أي باب بيان من يرث من المطلقات طلاقًا رجعيًا أو بائنًا يتهم فيه بقصد الحرمان. ومن لا يرث. وبيان إرث المقربه.
(قضى أبو بكر وعمر) وعلي وغيرهم (بميراث المطلقة الرجعية) سواء كان في المرض أو في الصحة ولم تنقض عدتها. وهو إجماع من أهل العلم حكاه غير واحد. لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه ويملك إمساكها بالرجعة بغير رضاها. وإن أبانها في صحته لم يتوارثا إجماعًا. أو في مرضه غير المخوف ومات به لم يتوارثا عند الجمهور. أو المخوف ولم يمت به لم يتوارثا. لانقطاع النكاح وعدم التهمة.
(وورث عثمان) رضي الله (تماضر) بنت رباب بن الأصبغ بن ثعلبة وهي أم مسلمة بن عبد الرحمن بن عوف (من عبد الرحمن بن عوف) بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي -رضي الله عنه- (وكان طلقها في مرضه وبتها) واشتهر
فلم ينكر. وقال له عمر إن مت لأورثنها منك فقال قد
علمت. قال ابن القيم ووافقه الصحابة على ذلك معارضة له

(3/458)


بنقيض قصده. وهذا مذهب جمهور أئمة الإسلام. وقضى به أيضًا عمر بن الخطاب. ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلاف.
وجزم ابن القيم وغيره أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت. حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد. وإن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة. وأما إذا لم يتهم ففيه خلاف معروف. مأخذه أن المرض أوجب تعلق حقها بماله. فلا يمكن من قطعه. أو سدًا للذريعة بالكلية. اهـ. وإن أبانها ابتداء بلا سؤال منها. أو سألته أقل من ثلاث فطلقها ثلاثًا. أو علق إبانتها في صحته على مرضه. أو على فعل له ففعله في مرضه لم يرثها إن ماتت لقطعه نكاحها. وترثه هي في العدة عند الجمهور. وبعدها في المشهور عن أحمد. وقول مالك وغيره. ما لم تتزوج فيسقط ميراثها. أو ترتد. ولو أسلمت بعد. لأن مجرد ارتدادها يسقط إرثها. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي واحمد لأنها فعلت باختيارها ما ينافي النكاح الأول.
وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أباه طلق أمه وهو مريض فمات فورثته بعد انقضاء العدة. ولأن سبب توريثها فراره من ميراثها. وهو لا يزول بانقضاء العدة. ولو تزوج في مرض موته مضارة لتنقيص إرث غيرها وأقرت به فقال الشيخ ترثه. لأن له أن يوصي بالثلث. وإن فعلت في مرض موتها ما

(3/459)


يفسخ نكاحها ورثها إن اتهمت بقصد حرمانه. وإن ارتد أحد الزوجين ثم عاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة ورثه الآخر. لأن النكاح باق.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن سعد بن أبي وقاص) -رضي الله عنه- (اختصم هو وعبد بن زمعة) في ابن أمة زمعة فقال سعد يا رسول الله أوصاني أخي إذا قدمت أن أنظر ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه إبني. وقال ابن زمعة أخي وابن أمة أبي ولد على فراش أبي. فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهًا بينًا بعتبة فقال "هو لك يا عبد بن زمعة" قالت عائشة (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الولد للفراش) وكانت فراشًا لأبيه "وللعاهر الحجر" فلا تلحق به (متفق عليه) فدل الحديث على أنه إذا أقر الورثة بوارث للميت ولو أنه واحد وصدق المقر به. أو كان صغيرًا أو مجنونًا والمقربه مجهول النسب. ثبت نسبه بشرط إمكان كونه منه. وثبت إرثه حيث لا مانع. لأن الوارث يقوم مقام مورثه في بيناته ونحوها. فكذلك النسب.
ويعتبر إقرار زوج ومولى إن ورثا. وإن أقر بعض الورثة دون بعض بوارث للميت لم يثبت نسبه إجماعًا. لأن النسب لا يتبعض. ويثبت بشهادة عدلين منهم أو من غيرهم. ويثبت نسبه من مقر فقط. ويأخذ الفاضل بيده. أو ما في يده إن أسقطه. فإن أقر أحد ابني الميت بأخ مثله فله ثلث ما بيده. أو ببنت فلها خمسه. وإن أقر ابن ابن بابن دفع له كل ما بيده.

(3/460)


باب ميراث القاتل والمبعض والولاء
أي باب بيان الحال التي يرث القاتل فيها. والحال التي لا يرث فيها. وبيان ميراث المعتق بعضه. والميراث بالولاء. وهو بالمد. والمراد ولاء العتاقة. وهو لغة الملك. وشرعًا ثبوت حكم شرعي بعتق أو تعاطي سببه.
(عن عمر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليس للقاتل من الميراث شيء رواه أحمد) ومالك وابن ماجه. وعن عمرو بن شعيب مرفوعًا "لا يرث القاتل شيئًا" رواه أبو داود والنسائي. ولهما شواهد. وإن كان فيها مقال فبمجموعها يحتج بها. وقضى بذلك عمر وعلي وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وأكثر أهل العلم. قالوا لا يرث القاتل من المال. ولا من الدية شيئًا سواء انفرد بقتل مورثه أو شارك فيه مباشرة أو سببًا بلا حق. إن لزمه قود أو دية أو كفارة. والمكلف وغيره في ذلك سواء. قال شيخ والآمر بقتل مورثه لا يرثه. ولو انتفى عنه الضمان.
وقال ابن القيم رحمه الله قتلًا مضمونًا بقصاص أو دية أو كفارة أو قتلًا مطلقًا. سواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع اتفاقًا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل. فسد الشارع الذريعة بالمنع، اهـ. أما إن قتل بحق قودًا كقصاص. أو حدًا

(3/461)


كترك زكاة أو لزنا ونحوه أو لصيالة دفعًا عن نفسه. أو بشهادة وارثه عليه بما يوجب القتل. أو تزكية الشاهد عليه بحق. أو قتل العادل الباغي وعكسه. ورثه لأنه فعل مأذون فيه فلم يمنع الميراث. كما لو أطعمه وسقاه باختياره. فأفضى إلى تلفه. وكذا لو أدب ولده أو زوجته ولم يسرف ومات ورثه.
(وعنه) أي عن عمر -رضي الله عنه- (أنه - صلى الله عليه وسلم - ورث الزوجة من دية زوجها) أخبره بذلك الضحاك بن سفيان الكلابي أن النبي كتب إليه "أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. و (صححه الترمذي) فدل على أنه لا تختص به العاقلة.
(وفي السنن عن عمرو) بن شعيب عن أبيه عن جده (مرفوعًا قضى) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن العقل) ميراث (بين ورثة القتيل) لا تختص به العاقلة (على فرائضهم) المقدرة لهم شرعًا. ورواه أحمد وغيره. والبخاري في تأريخه عن قرة بن دعموص قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وعمي فقلت يا رسول الله عند هذا دية أبي فمره يعطنيها. وكان قتل في الجاهلية فقال أعطه دية أبيه" فقلت هل لأمي فيها حق قال "نعم" وكانت ديته مائة من الإبل. فدلت هذه الأحاديث وغيرها أن الدية ميراث كسائر ماله لا يختص بها العاقلة بل ترث الزوجة من دية زوجها كما ترث من ماله وكذلك الأم وغيرها.

(3/462)


(وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مرفوعا المكاتب يورث بقدر ما عتق منه) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم و (حسنه الترمذي) وقال الحافظ إسناده ثقات. وهو قول علي وابن مسعود وغيرهما. فيثبت له حكم الحرية فيما يتبعض من الأحكام حيًا وميتًا كالإرش والحد ويرث ويورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وكسب وارثه بحريته لورثته كما إذا كان نصفه حرًا وهاياه مالك نصفه بأخذ نصف كسبه فنصف كسبه له. يختص به ورثته. ومن كله رقيق لا يرث ولا يورث إجماعًا ولو كان مدبرًا أو مكاتبًا أو أم ولد لخبر "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" واختاره الموفق وغيره. ولأنه لو ورث لكان لسيده وهو أجنبي ولا يورث لأنه لا مال له ومن قال يملك فملكه غير مستقر. ويرث الأسير عند الكفار إذا علمت حياته اتفاقًا.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - إنما الولاء لمن أعتق) وهو حديث متفق
عليه. فأثبت الولاء ومقتضاه نفيه عمن سواه. وولاء
العتاقة عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق. فمن
أعتق عبدًا أو أمة أو أعتق بعضه فسرى إلى باقيه أو عتق عليه برحم أو كتابة أو إيلاد فله عليه الولاء إجماعًا. وقيل ولو أعتقه في زكاة أو كفارة. وقال أبو عبيد ولاؤه لصاحب الصدقة. وهو قول الجمهور ومن له عليه الولاء فله الولاء على أولاده. وأولادهم وإن سفلوا من زوجة عتيقة أو سرية وعلى من له

(3/463)


أو لهم ولاؤه، لأنه ولي نعمتهم، وبسببه عتقوا، ولأن الفرع يتبع أصله.
ويرث ذو الولاء مولاه عند عدم عصبة النسب، وعدم ذوي فرض تستغرق فروضهم المال لخبر "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" ثم عصبة ذي الولاء بعده الأقرب فالأقرب، فمتى وجد عصبة النسب أو ذي فرض يستغرق المال فلا شيء للمولى ولا عصبته بلا خلاف.
(وقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الولاء لحمة كلحمة النسب) أي يجري الولاء مجرى النسب. كما تخالط اللحمة سدى الثوب حتى يصير كالشيء الواحد (لا يباع ولا يوهب) وفي المتفق عليه "نهى عن بيع الولاء وعن هبته" (ولا يورث) ولا يوقف ولا يوصى به بل إنما يورث به (صححه الترمذي) وقال الشيخ معناه صحيح، وتكلم فيه بعضهم، فدل هو وغيره على عدم صحة بيع الولاء وهبته. فإن الولاء أمر معنوي كالنسب، لا يتأتى انتقاله، كالأبوة والأخوة لا يتأتى انتقالها.
وعلى هذا جماهير العلماء ولا فرق بين كون ذلك في دار الإسلام أو الحرب، لتشبيه الشارع له بالنسب، ولو اختلف دينهما في قول جمهور العلماء.
(ويروى) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ميراث الولاء للكبر من الذكور) بضم الكاف وسكون الموحدة أقرب عصبة السيد إليه يوم موت عتيقه ولا.

(3/464)


يرث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن، أي باشرن عتقه، أو عتق عليهن بنحو كتابه، أو أعتقه من أعتقن، أي عتيق عتيقهن وأولادهم، ومن جروا ولاءه (قال أحمد وهو قول أكثر الناس) فمن أعتقن أو عتق عليهن ورثته بلا خلاف، لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الولاء لمن أعتق" وأن "المرأة تحوز إرث عتيقها" ولأنها منعمة بالإعتاق كالرجل، ما لم يوجد عصبة نسب أو ذي فرض يستغرق المال.
ولا يرث بالولاء ذو فرض إلا أب وجد يرثان السدس مع الابن أو ابنه. وإن مات السيد عن ابنين ثم مات أحدهما عن ابن ثم مات عتيقه فإرثه لابن سيده وحده، لأنه أقرب عصبة إليه، وهو معنى قوله "للكبر" ولو مات ابنا السيد وخلف أحدهما ابنًا والآخر تسعة، ثم مات العتيق فإرثه على عددهم كالنسب، وهو قول أكثر العلماء، ولو اشترى أخ وأخته أباهما فعتق عليهما، ثم ملك قنا فاعتقه، ثم مات الأب ثم العتيق، ورثه الابن بالنسب دون أخته بالولاء، وتسمى مسألة القضاة، فروي عن مالك أنه سأل عنها سبعين من قضاة العراق فأخطأوا فيها.

باب العتق
وهو لغة الخلوص ومنه عتاق الخيل أي خالصها وعتق الفرخ إذا طار. والرقيق يخلص بالعتق ويذهب حيث شاء.

(3/465)


وسمي البيت العتيق لخلوصه من أيدي الجبابرة وشرعًا تحرير الرقبة وتخليصها من الرق. وهو مندوب إليه بالكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ} أي عتق {رَقَبَةٍ} كفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم. وهو قتل المؤمن وإن كان خطأ وإنما كانت كفارة لعظم الأجر في تحريرها وتخليصها من الرق وخصت الرقبة مع وقوعه على جميع البدن لأن ملك السيد له كالغل في رقبته المانع له من التصرف. فإذا عتق فكأن رقبته أطلقت من ذلك الغل. وجعلها تعالى كفارة للظهار. فقال (فتحرير رقبة) وكفارة للأيمان فقال (وتحرير رقبة مؤمنة. ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) وكفارة للوطء في نهار رمضان بالسنة الصحيحة. ومتى كانت الرقبة مسلمة صح عتقها عن الكفارة فدلت الآية على فضيلة العتق.
وقال {فَكُّ رَقَبَة} أي إعتاقتها وإطلاقها فداء له من النار. وذلك أنه قال تعالى {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَة} أي فهلا أنفق ما له فيم يجوز به العقبة. ثم قال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة} تعظيمًا لشأنها. قيل عقبة في جهنم ثم أخبر عن مجاوزتها بفك الرقبة. ويشهد له الأحاديث الآتية في فكاكة من النار بعتق الرقبة فدلت هذه الآيات على عظم فضل عتق الرقاب. واتفق أهل العلم على أن العتق من القرب المندوب إليها بل من أفضلها لفك الرقبة من المحنة والبلوى بالرق.

(3/466)


(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من أعتق رقبة مسلمة) وفي لفظ "ايما امرئ مسلم أعتق امرءًا مسلمًا (أعتق الله) وفي لفظ "استنقذ الله" (بكل عضو منه) أي من المعتق (عضوًا منه) أي من المعتق (من النار متفق عليه) وللبخاري "حتى فرجه بفرجه" وللترمذي نحوه وزاد فامرأتين كانتا فكاكه من النار" ولأحمد "أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار".
فدل الحديث على أن العتق من القرب الموجبة للسلامة من النار. وأن إعتاق الذكر أفضل من المرأة. وأن التعدد أفضل. وأن اشتراط الإسلام لأجل هذا الأجر الجزيل وأنه بعد استحقاق المعتق للنار. وأنه لا نجاة له من النار بسبب عتق الكافرة وإن فيه فضل بلا نزاع لخبرا أسلمت على ما أسلفت" لكن ليس ثوابه كثواب الرقبة المسلمة. وإلا فعتق الكافرة يصح ولا أجر له، إلا أن انتهى أمره إلى الإسلام. وأجمعوا على أنه يصح عتق المالك التام الملك الصحيح الرشيد الغني غير العديم. وصريح العتق نحو أنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق أو حررتك أو أعتقتك وهذه تلزم بالإجماع وكنايته نحو خليتك والحق بأهلك أو لا سبيل أو لا سلطان لي عليك وأنت لله أو مولاي وملكتك نفسه. فيقع العتق بها مع النية عند الجمهور والجمهور أن الأبناء تابعون في العتق والعبودية للأم.

(3/467)


(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن أبي ذر) -رضي الله عنه- (قلت يا رسول الله أي الرقاب أفضل) أي عتقها (قال أنفسها عند أهلها) أي أعظمها وأعزها في نفوس أهلها. واغتباطهم بها أشد فإن عتق مثل ذلك ما يقع غالبًا إلا خالصًا كما قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}
(وأكثرها ثمناً) للبخاري "أعلاها ثمناً" بالعين المهملة. ومعناهما متقارب. فالأكثر قيمة أفضل من الأدنى قيمة. وهذا والله أعلم كما قال النووي وغيره فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة. أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلاً أراد أن يشتري به رقاباً يعتقها فوجد رقبة نفيسة ورقبتين مفضوليتن. فالثنتان أفضل.
إلا أنه يختلف باختلاف الأشخاص. فلو كان شخص بمحل عظيم من العلم والعمل وانتفاع المسلمين به. فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه الصفات فيكون الضابط الأكثر نفعًا. ويستحب عتق من له كسب لانتفاعه بكسبه وكره بعضهم عتق من لا كسب له لئلا يسقط نفقته عنه ويصير كلام على الناس وكذا من يخاف منه زنا أو فساد، وإن علم أو ظن حرم لأنه وسيلة إلى فعل المحرم ويصح مع التحريم لصدوره في محله.
(وعن سفينة) أبي عبد الرحمن مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أصله من فارس فاشترته أم سلمة (قال أعتقتني أم سلمة)

(3/468)


بنت أبي أمية بن المغيرة أم المؤمنين واسمها هند رضي الله عنها (وشرطت علي أن أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عاش (رواه أحمد) والنسائي وابن ماجه ولأبي داود كنت مملوكًا لأم سلمة فقالت اعتقك واشترك عليك أن تخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عشت فقال لو لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عشت فأعتقتني واشترطت علي.
فدل على صحة اشتراط الخدمة على العبد المعتق. وصحة العتق المعلق على شرط. وأنه يقع بوقوع الشرط. لتقريره - صلى الله عليه وسلم - لذلك. قال ابن رشد لم يختلفوا أن العبد إذا اعتقه سيده على أن يخدم سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمته ولخبر "المؤمنون على شروطهم " ولأن منافعه لسيده. فإذا أعتقه واستثنى منافعه فقد أخرج الرقبة وبقيت المنفعة. وإن علق عتقه على قدوم زيد أو رأس الحول عتق إذا قدم وجاء رأس الحول ولا يملك إبطاله ويصح على مال معلوم وإذا أداه عتق وإن كان له مال فلسيده عند الجمهور.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا لا يجزي ولد عن والده) أي لا يكافئه بماله من الحقوق عليه (إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه رواه مسلم) وإنما كان العتق جزاء لأبيه. لأن العتق أفضل ما من به أحد على أحد. لتخليصه بذلك من الرق فتكمل له أحوال الأحرار. والحديث نص في عتق الوالد. ومثله الأم لما ثبت لها من الحقوق.

(3/469)


(وللخمسة) وغيرهم (عن سمرة مرفوعاً من ملك ذا رحم محرم) أي عليه (فهو حر) أي يعتق بملكه إياه. والرحم أصله موضع تكوين الولد ثم استعمل للقرابة فيقع على كل من بينك وبينه نسب يوجب تحريم النكاح. فإنه يعتق عليه. كالآباء وإن علوا والأولاد وإن سفلوا. والإخوة وأولادهم. والأخوال والأعمام دون أولادهم. ودون من حرم عليه برضاع. ومذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم أن من ملك ذا رحم محرم عليه. يعني بنسب عتق. ذكراً كان أو أنثى. وحكاه ابن رشد قول جمهور العلماء.
إلا داود الظاهري فعنده لا يعتق إلا بالإعتاق. والسنة حجة عليه. وقد صحح هذا الحديث جماعة من الأئمة. فتعين العمل به. وقوله في حديث أبي هريرة فيعتقه. والله أعلم أنه لما كان شراؤه تسبب عنه العتق. نسب إليه العتق. لهذا الخبر ولما عليه الجمهور. فإن استنادهم إلى السنة واجتهادهم في اتباعها.
(وللبخاري استأذن رجال من الأنصار) من الطائفة المشهورة من بني النجار (أن يتركوا لابن أختهم العباس فداءه) وكانوا أخوال أبيه عبد المطلب. فإن أم عبد المطلب منهم. فهي سلمى بنت عمرو بن أحيحة من بني النجار ومثله قصة الهجرة ونزوله على أخواله بني النجار. وإنما هم أخوال جده
(فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا) أي لا تتركوا فداءه. فدل الحديث على أنه إذا كان في الغنيمة ذو رحم لبعض الغانمين

(3/470)


ولم يتعين له لم يعتق عليه. فإن العباس ذو رحم محرم من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن علي رضي الله عنه. ومفهومه أنه لو تعين له لعتق فمن ملك سهماً ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله. وإن ملك جزءاً منه بميراث لم يعتق عليه إلا ما ملك منه. ولو كان موسراً.
(وتقدم) أي في باب الغصب (حديث من أعتق شركًا له في عبد) أي حصة ونصيبًا وفي لفظ "شقصًا" وهون النصيب أيضًا (وكان له مال) أي يبلغ ثمن العبد (قوم عليه قيمة عدل) بلا زيادة ولا نقص. وأعطى شركاءه حصصهم (وعتق عليه) أي العبد. والحديث متفق عليه وفيه "وإن لم يكن له مال يبلغ ثمن العبد فقد عتق منه ما عتق" وفي رواية "من أعتق عبدًا بينه وبين آخر قوم عليه في ماله قيمة عدل ولا وكس ولا شطط ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرًا".
وفي رواية للبخاري "فإن كان موسرًا قوم عليه ثم يعتق" وفي رواية "وجب عليه أن يعتق كله إن كان له مال. قدر ثمنه يقام قيمة عدل ويعطى شركاءه حصصهم ويخلى سبيل المعتق" وفي رواية "وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق" ولمسلم "عتق ما بقي في ماله إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد" ولأحمد وقال "ليس لله شريك" فدلت هذه الأحاديث وغيرها على أن من له حصة في عبد إذا أعتق حصته فيه وكان موسرًا لزمه تسليم حصة شريكه بعد تقويم الشريك تقويم

(3/471)


مثله. وعتق عليه العبد جميعه.
وأجمع أهل العلم على أن نصيب المعتق يعتق بنفس الإعتاق. واختار الشيخ بدفعها وأنه إن أعتق الشريك قبل الدفع نفذ. ودلت على أنه لا يعتق سنصيب شريكه إلا مع يسار المعتق لا مع إعساره. لقوله "وكان له مال" وإن لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق" وهي حصته. أما لو كان يملكه كله فأعتق بعضه عتق عليه كله. قال ابن رشد هذا متفق عليه. وقال أيضًا جمهور علماء الحجاز والعراق مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وغيرهم يقولون يعتق عليه كله. لما ثبتت به السنة في إعتاق نصيب الغير على الغير لحرمة العتق. فلأن يجب ذلك عليه في ملكه أولى وأحرى.
(ولهما من حديث أبي هريرة) -رضي الله عنه- نحو ما تقدم ولفظه "من أعتق شقصًا له من مملوكه فعليه خلاصه في ماله (وإلا) أي وإن لم يكن له مال (قوم العبد عليه) أي قيمة عدل لا جور ولا شطط (ثم استسعى) يعني العبد في النصيب الذي لم يعتق (غير مشقوق عليه) قال جماعة من أهل التحقيق هذه الزيادة ثابتة في الصحيحين والجمع ممكن فالمعسر إذا أعتق حصته لم يسر العتق في حصة شريكه بل تبقى حصة
شريكه على حالها. وهي الرق ثم يستسعى العبد في عتق بقيته
إن اختار ذلك. واختاره الشيخ وغيره لقوله "غير مشقوق
عليه" فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده ويدفعه إليه.

(3/472)


ويعتق. وجعلوه في ذلك كالمكاتب وجزم بذلك الجمهور ولأبي داود "واستسعى في قيمته لصاحبه".
(ولهما عن جابر أن رجلًا) اسمه أبو مذكور كما في مسلم (أعتق غلامًا له عن دبر) وفي لفظ أعتق رجل من الأنصار غلامًا له اسمه يعقوب عن دبر. بضم الباء وهو العتق في دبر الحياة سمي بذلك لأن الموت دبر الحياة. أو لأنه دبر أمر دنياه باستخدامه ذلك المدبر. واسترقاقه. ودبر أمر آخرته بإعتاقه. وتحصيل أجر العتق. وسيده علق عليه عتقه بموته. والتعليق نحو أن يقول أنت حر بعد موتي. أو أنت حر عن دبر مني أو إذا مت فأنت حر أو أنت مدبر. هذه ألفاظ التدبير بالاتفاق. فدل على مشروعية التدبير وهو إجماع.
واتفقوا على أن الذي يقبل هذا العقد هو كل عبد صحيح العبودية. ليس يعتق على سيده سواء ملكه كله أو بعضه. وأن من شروط المدبر أن يكون مالكًا تام الملك غير محجور عليه سواء كان صحيحًا أو مريضًا وأن من شرطه أن لا يكون الدين أحاط بماله. ولا يبطل بإبطال ولا رجوع لأنه تعليق للعتق بالموت. ويتنجز به وهل ينفذ من رأس المال. أو من الثلث الجمهور على أنه من الثلث حكاه الوزير وغيره. وتقدم خبر الذي أعتق ستة أعبد فأعتق - صلى الله عليه وسلم - اثنين واسترق أربعة. فالعتق أقرب شبهًا بالوصية فإن خرج من الثلث وإلا عتق منه بقدره.

(3/473)


قال جابر (فاحتاج) أي السيد (فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفع ثمنه إليه) وفي لفظ ولم يكن له مال غيره. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من يشتريه مني" فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم. وللنسائي فأعطاه وقال "اقض دينك وأنفق على عيالك" فدل على جواز بيع المدبر لحاجة النفقة. أو قضاء الدين. وقال ابن رشد وغيره اتفقوا على أن الدين يبطل التدبير ويصح وقف المدبر ويبطل به التدبير ويصح بيعه ونحوه. قال الجوزجاني صحت أحاديث بيع المدبر باستفاضة الطرق ولأنه عتق بصفة.

باب الكتابة
اسم مصدر بمعنى المكاتبة مشتقة من الكتب. وهو الجمع. لأنها تجمع نجومًا بمعنى الجمع. أو لأن السيد يكتب بينه وبين رقيقه كتابًا بما اتفقا عليه. وشرعًا بيع سيد عبده نفسه بمال معلوم مؤجل في ذمته. وقيل إنها متعارفة قبل الإسلام. . فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} وأول الآية {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} أي يطلبون المكاتبة {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} أمر تعالى السادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة
أن يكاتبوهم. واتفق أهل العلم على أنها مستحبة مندوب إليها.

(3/474)


وروي عن أحمد وغيره وجوبها إذا دعا العبد سيده إليها على قدر قيمته أو أكثر. وقال الموفق لا تجب في ظاهر المذهب. وهو قول عامة أهل العلم اهـ. وتكون منجمة نجمين فأكثر رفقًا بالمملوك يسعى ويؤدي لا بواحد ولو طال قال الموفق روي عن جماعة من الصحابة. ولم ينقل عنهم عقدها حالة ولأن الكتابة مشتقة من الكتب وهو الضم. ولما يأتي. أو لعجزه عن أدائها في الحال وتصح بمنفعة مفردة أو معها مال.
ولا تصح إلا من جائز التصرف. ولا يكاتب مجنونًا ولا طفلًا غير مميز وتصح بكاتبتك على كذا مع قبول العبد قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا قال كاتبتك على ألف درهم ونحوها. ونوى العتق أنه متى أداها عتق. ولم يفتقر إلى أن يقول إذا أديت لي فأنت حر. لأن اسم الكتابة لفظ شرعي. فهو يتضمن جميع أحكامه. ويملك كسبه ونفعه. وكل تصرف يصلح ماله. كبيع وإجارة إجماعًا لأن عقد الكتابة لتحصيل العتق ولا يحصل إلا بأداء عوضه. ولا يمكنه إلا بالاكتساب وقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي قوة على الكسب. وأمانة وصلاحًا ونحو ذلك قال ابن رشد وغيره اتفق أهل العلم على أن من شرط المكاتب أن يكون قويًا على السعي لقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قيل الاكتساب والأمانة. وقيل الصلاح والدين.
وأنكر بعض أهل العلم أن يكاتب من لا حرفة له. مخافة

(3/475)


السؤال وكرهها لئلا يكون كلا على الناس. وقال الموفق ينبغي أن ينظر في المكاتب. فإن كان ممن تضرر بالكتابة ويضيع لعجزه على الإنفاق على نفسه. ولا يجد من ينفق عليه كرهت كتابته. وإلا لم تكره لحصول النفع بالحرية من غير ضرر. ومتى أدى ما عليه من الكتابة. أو أبرأه سيده عتق إجماعًا
{وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قيل الثلث وقيل الربع وهو قول أكثر المفسرين وقدره أحمد بالربع واستحبه مالك وغيره وقال بعضهم بلا تقدير. بل بجزء من المال بلا حد للإطلاق.
(قال على ربع الكتابة) أي في قوله: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وقاله طائفة من أهل التفسير وأوجب أحمد وغيره أن على السيد أن يؤدي إلى من وفى كتابته ربعها. ورفعوا أثر علي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يثبت وإنما هو موقوف على علي -رضي الله عنه- كما صرح به النسائي وغيره ورواه ابن جرير وغيره عن علي أنه قال أمر الله السيد أن يدع الربع للمكاتب من ثمنه. وهذا تعليم من الله وليس بفريضة ولكن فيه أجر وهو مذهب جماهير أهل العلم.
(وفي الصحيحين) وغيرهما من غير وجه عن عائشة
رضي الله عنها (أن بريرة) مولاة عائشة قيل كانت مولاة
لقوم من الأنصار وقيل غير ذلك (جاءت عائشة) رضي الله

(3/476)


عنها وهي مكاتبة على تسع أواق (تستعينها في كتابتها) وكانت قالت لعائشة كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فاعينيني فقال - صلى الله عليه وسلم - "اشتريها" فاشترتها قال ابن المنذر بيعت بريرة بعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مكاتبة ولم ينكر ذلك ففيه أبين البيان أن بيعه جائز. ولا أعلم خبرًا يعارضه اهـ. ولأنه قن ما بقي عليه درهم. ومشتري المكاتب يقوم مقام مكاتبه.
ويبقى المكاتب على كتابته عند المشتري. وعلى نجومه. كما كان عند البائع. ويؤدي له ما بقي من كتابته ولا تنفسخ كتابته بالبيع ولا يجوز إبطالها قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا لأنها عقد لازم ومتى أدى إليه عتق باتفاق أهل العلم وولاؤه له لما في هذا الحديث وغيره "إنما الولاء لمن أعتق" وإن عجز عاد قنا. كما لو كان عند مكاتبه وفيه جواز طلب الإعانة على الكتابة.
(ولأحمد عن سهل) بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- (مرفوعًا من أعان مكاتبًا في رقبته) أي في فكاك رقبته من الرق بنحو أداء بعض النجوم عنه (أظله الله) من حر الشمس عند دنوها من الرؤوس يوم القيامة (في ظله) أي في ظل عرشه كما تشهد له النظائر (يوم لا ظل إلا ظله) جزاء بما فعل، وأضاف الظل إليه للتشريف فدل على عظم أجر إعانة المكاتب.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده رضي الله

(3/477)


عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو رقيق) وفي لفظ فهو عبد فلا يعتق إلا بالأداء (رواه الخمسة) ولأبي داود "المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم" حسنه الحافظ. قال الشافعي وعليه فتيا المفتين. فدل على أن المكاتب إذا لم يف بما كوتب عليه فهو عبد له أحكام المماليك وهو مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين وأخذ بالاحتياط فلا يزول ملك السيد إلا بما قد رضي به من تسلم ما عند عبده. وكذا مشتريه له حكم بائعه.
(ولهم عن أم سلمة) رضي الله عنها (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لها (إذا كان لأحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي) كتابته (فلتحتجب منه صححه الترمذي) فدل على أن المكاتب إذا صار معه جميع مال الكتابة فقد صار حرًا وإن لم يكن قد سلمه فتحتجب منه سيدته. وهذا أيضًا أخذ بالاحتياط لأنه بوجود ما يفدي به نفسه قد صار له ما للأحرار وتقدم أنه متى أدى كتابته عتق ولم يفتقر أن يقول فإذا أديت لي فأنت حر. لأن اسم الكتابة أمر شرعي. فهو يتضمن جميع أحكامه.
واتفقوا على أنه إنما يرق إذا عجز عن البعض أو الكل. ومن عنده ما يفدي ليس بعاجز. أما إذا عجز عن البعض وقد أدى البعض فهو عبد ما بقي عليه درهم. وأنه يرق إذا عجز عن البعض. وهو قول جماهير العلماء. وفيه جواز النظر إلى

(3/478)


سيدته ما لم يكاتبها ويجد مال الكتابة ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة لما تقنعت بثوب "إنما هو أبوك وغلامك" رواه أبو داود. وكان مماليك أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلون عليهن وهو مذهب جمهور أهل العلم.
(وسأل سيرين) وهو والد محمد بن سيرين الفقيه المشهور وكان من سبي عين التمر اشتراه أنس في خلافة أبي بكر فسأل (أنسا) يعني ابن مالك -رضي الله عنه- (الكتابة وكان كثير المال فأبى) يعني أنسا فانطلق سيرين إلى عمر فقال عمر كاتبه فأبى (فضربه عمر) يعني بالدرة (وتلا) عمر {فَكَاتِبُوهُمْ} {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (رواه البخاري) فدل على جواز إجبار السيد على مكاتبة عبده ولم يخالف أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واختار ابن جرير وغيره وجوب الكتابة كما تقدم والجمهور على الندب.
(وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه رواه أحمد) وابن ماجه. وفي لفظ "أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه" أو قال من بعده وللدارقطني ذكرت أم إبراهيم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال "أعتقها ولدها" وروي عن عمر وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأحاديث وما جاء من الآثار ظاهرة الدلالة على أن الأمة إذا ولدت من سيدها

(3/479)


صارت أم ولد له. تعتق بموته من كل ماله.
وكذا إن أولد أمته المدبرة أو المكاتبة أو أمة له ولغيره. أو أمة لولده لم يطأها وهو مذهب جماهير العلماء أبي حنيفة ومالك وأحمد وأحد قولي الشافعي. بشرطين: أحدهما أن تكون حملت به في ملكه. قال ابن رشد اتفقوا على أنه إن ملكها قبل حملها منه فإن وطئها حاملًا حرم عليه بيع الولد ويعتقه لأن الماء يزيد في الولد. وقال الموفق إنما ثبت الإجماع فيمن حملت منه في ملكه.
قال ابن رشد والقياس أن تكون أم ولد في جميع الأحوال. إذ ليس من مكارم الأخلاق أن يبيع أم ولده الثاني إذا تبين فيه خلق الإنسان قال عمر إذا ولدت الأمة من سيدها فقد عتقت وإن كان سقطًا وعن ابن عمر أعتقها ولدها وإن كان سقطًا. وقال الموفق لا أعلم فيه خلافًا بين من قال بثبوت حكم الاستيلاد اهـ. وسواء ولدت منه في الصحة أو في المرض.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن عمر نهى عن بيع أمهات الأولاد) أصل أم أمهة فلذا جمعت على أمهات باعتبار الأصل (وقال لا يبعن) لأنهن يعتقن بموت سيدهن وبيعهن
يمنع ذلك (ولا يوهبن) لأن الهبة في معنى البيع (ولا يورثن)
فلسن بمال بل يعتقن بموت سيدهن. وذكره غير واحد
إجماع الصحابة (يستمتع بها ما بدا له حيًا) فهي كأمته

(3/480)


القن في سائر أمورها إلا أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث. قال الوزير اتفقوا على أنها لا تباع أمهات الأولاد والهبة في معنى البيع وكذا لا تجعل صداقًا ولا عوض خلع ولا يوصى بها لأنها تعتق بموته ولا ترهن لأنه يراد للبيع.
(وإذا مات فهي حرة رواه مالك) والدارقطني وغيرهما ورفعاه في رواية والموقف أصح وعليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماهير العلماء لحكمه - صلى الله عليه وسلم - أنها معتقة عن دبر منه قال ابن رشد الثابت عن عمر أنه قضى بأنها لا تباع أمهات الأولاد.
وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات. وروي مثله عن عثمان. وهو قول أكثر التابعين وجمهور فقهاء الأمصار. وحكى ابن عبد البر وأبو حامد الاسفيرائني وأبو الوليد الباجي وابن بطال والبغوي وغيرهم الأجماع على أنه لا يجوز وما في يدها من شيء فلورثة سيدها لأنها أمة وكسبها لسيدها فإذا مات انتقل إلى ورثته وإن ماتت في حياته فارثها له لأنها رقيقة.
(ولأبي داود عن جابر) بن عبد الله -رضي الله عنه- قال (بعناهن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر فلما كان عمر
نهانا فانتهينا) فدل على عدم جواز بيعهن وهو قول
الجمهور وحكى الموفق إجماع الصحابة عليه ولا يقدح فيه ما روي عن علي وابن عباس وابن الزبير لأنه قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة. قال عبيدة لعلي رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة. وعللوا ما على

(3/481)


عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أنه لم يصرح بعلمهما وإلا لم تجتمع الصحابة على مخالفتهما ويؤيده قوله تعتق عن دبر منه والبيع يمنع ذلك. وتصح مكاتبتهن لأنها تراد للعتق فإذا أدين في حياة سيدهن عتقن وما بيدهن لهن. وإن مات وعليهن شيء عتقن بموته وما بيدهن للورثة ويتبعهن أولادهن في الرق والحرية عند جمهور العلماء.
* * *

(3/482)