الإحكام
شرح أصول الأحكام كتابُ البَيع
البيع لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء. مأخوذ من الباع. لأن كل واحد من المتبايعين
يمد باعه للأخذ والإعطاء.
وشرعًا مبادلة مال أو منفعة بمثل أحدهما. فشمل تسع صور: عين بعين أو دين أو
منفعة. دين بعين أو دين أو منفعة. منفعة بعين أو دين أو منفعة.
والحكمة أن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا. وصاحبه قد لا يبذله
له. ففي شرعية البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج.
وحيث أنها تقدمت أركان الإسلام التي لا يستقيم إلا بها. فكل ذي لب لا يتصور
منا صدور ذلك إلا بقوة يخلقها الله في أبداننا. وقد أجرى العادة بأن تلك
القوة لا تقوم إلا بمادة تحصيلها عن الكسب فيما أباحه الله من السعي في
وجوه المعاملات من البيع وغيره. ولا يباح للمسلم أن يفعل شيئًا منه إلا
بموجب الشرع. فنخرج من أركان الإسلام إلى المعاملات.
وقد بعث عمر -رضي الله عنه- من يقيم من الأسواق من
(3/89)
ليس بفقيه. والبيع من أفضل الكسب وجائز
بالكتاب والسنة والإجماع والقياس.
(قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} أي أحل الله لكم الأرباح في
التجارة بالبيع والشراء. وكل منهما يطلق على ما يطلق عليه الآخر. فهما من
الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة. وقال الله تعالى: {فَانتَشِرُوا
فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} وغيرها. ومن السنة
"البيعان بالخيار" و "يا معشر التجار" وغيرهما. والإجماع معلوم في الجملة.
والحكمة تقتضيه لما تقدم.
وقال تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وهو أخذ مال الإنسان من غير عوض. وذلك أن
أهل الجاهلية قالوا لم حرم هذا وأبيح هذا اعتراضًا منهم على الشرع. فأخبر
تعالى أن كل ما فيه معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل الذي لا
يقابله عوض فهو بيع حلال. وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة.
إنما الحرام زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص. قال الشيخ وغيره: الأصل في
العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. فهي عفو حتى
يحرمها الشارع. فإنه سكت عنها رحمة من غير نسيان وإهمال. بل صرحت النصوص
بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه. وأمر بالوفاء به في غير موضع.
(3/90)
(وقال: {إِلاَّ أَن تَكُونَ} أي الأموال
{تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} أي طيب نفس كل واحد منكم فافعلوها
وتسببوا بها في تحصيل الأموال. بعد أن نهانا عن أكلنا أموالنا بيننا
بالباطل.
وقال بعض السلف: التجارة رزق من رزق الله لمن طلبها بصدق. قال الشيخ: وكسب
الإنسان فيما يقوم بالنفقة الواجبة على نفسه وعياله واجب عليه. وإنما
المذموم فرط تعلق القلب بالمال بحيث يكون هلوعًا جزوعًا منوعًا. فدلت الآية
على جواز البيع واشتراط التراضي من المتعاقدين وأنه لا يصح من مكره بلا حق.
ودلت على اشتراط الإيجاب والقبول.
ولا ريب أن الناس يتبايعون بالمعاطاة في كل عصر. ولم ينكر فكان إجماعًا.
ولما كان الرضى أمرًا خفيًا لا يطلع عليه. وجب تعلق الحكم بسبب ظاهر. يدل
عليه وهو الصيغة القولية أو الفعلية. واختار الشيخ وغيره صحة البيع بكل ما
عده الناس بيعًا من متعاقب أو متراخ من قول أو فعل.
(وقال: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} الآية) أي اختبروهم في عقولهم وأديانهم
وحفظهم أموالهم. وتمام الآية: {حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أي
الحلم. والجمهور أن البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم. وهو أن يرى في
منامه ما ينزل به الماء الدافق. وفي الحديث "رفع القلم عن ثلاثة الصبي حتى
يحتلم" أو يستكمل خمس عشرة سنة. لما في الصحيحين عن ابن عمر: عرضت يوم أحد
وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضت يوم الخندق
(3/91)
وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. أو ينبت.
لعرضهم يوم قريظة فمن أنبت قتل ومن لم ينبت لم يقتل. وتزيد الجارية بوجود
الحيض {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا} صلاحًا في دينهم ومالهم
{فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فيشترط في صحة البيع أن يكون
العاقد جائز التصرف. فإنه لا يصح تصرف صبي ولا سفيه بغير إذن ولي.
(وقال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم} أي لا يأكل بعضكم مال
بعض {بِالْبَاطِلِ} أي من غير الوجه الذي أباحه الله. وأصل الباطل الشيء
الذاهب. والأكل بالباطل أنواع كثيرة. وقال أيضًا في الآية الأخرى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} فنهى تعالى عن أكل بعضنا أموال بعض بأي نوع من أنواع المكاسب
غير الشرعية كالربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل،
والأسباب المحرمة في اكتساب الأموال.
(وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم} أي بين ووضح لكم {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}
وأكثر المفسرين أن المراد قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية.
إلا أن الآية مكية. وآية المائدة مدنية. ولما كان في الترتيب لا في النزول.
حسن عود الضمير إلى ما هو متقدم في الترتيب. وقيل المراد {قُل لاَّ أَجِدُ
فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية. وإن كانت بعدها بقليل. فلا
يمنع أن تكون هي المراد. والآية أعم من ذلك.
(3/92)
وقد اعتنى الشارع بتوضيح البيوعات الفاسدة
لأنه يحتاج إلى بيانها لكونها على خلاف الأصل. لا البيوعات الصحيحة اكتفاء
بالعمل فيها بالأصل. وعموم الآية يدل على أنه يجب اجتناب ما حرم من
البيوعات، فيشترط لصحة البيع أن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة كما
سيأتي.
(وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} وهو كل مسكر من أي شيء كان لقوله - صلى الله
عليه وسلم - "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" وسميت الخمر خمرًا لمخامرتها العقل
{وَالْمَيْسِرُ} أي القمار ومنه الشطرنج.
وكل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب والبيض
{وَالأَنصَابُ} أي الأوثان سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها {وَالأَزْلاَمُ}
يعني القداح التي كانوا يستقسمون بها {رِجْسٌ} أي خبيث مستقذر {مِّنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ} من تزيينه {فَاجْتَنِبُوهُ} أبلغ من اتركوه. فإن
اتركوا لعدم الفعل. واجتنبوا تقتضي الترك والمباعدة والمجانبة {لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُون} ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، أما
الخمر فإنهم إذا سكروا عربدوا وتشاجروا. وأما الميسر فيبقى المقمور مسلوب
المال مغتاظًا.
ثم قال تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} أي
يلهيكم عن ذكر الله ويشوش عليكم صلواتكم {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون} وهذا
تهديد وترهيب وزجر عن تعاطي تلك
(3/93)
المحرمات. وانتظمت هذه الآيات عدة من شروط
صحة البيع.
(وعن رفاعة بن رافع) بن خديج الزرقي الأنصاري هو وأبوه صحابيان شهد رفاعة
المشاهد كلها والجمل وصفين.
وتوفي أول زمن معاوية. ورافع أحد النقباء وأول من قدم المدينة بسورة يوسف
-رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الكسب أطيب)
وذلك أن منزلة الرزق من الكسب كمنزلة الشبع من الطعام (قال: عمل الرجل
بيده) من جهاد وحراثة ونجارة وخياطة وغير ذلك.
وكذا عمل المرأة في بيتها. وغيره مما لا محذور فيه (وكل بيع مبرور) وهو ما
خلص من اليمين الفاجرة لتنفيق السلعة.
وعن الغش. والحيل في المعاملة، وعن أبي سعيد مرفوعًا "التاجر الصدوق الأمين
مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" حسنه الترمذي. وحديث الباب (رواه
أحمد) والبزار وغيره وصححه الحاكم وفيهما دليل على فضل الإتجار. ولأحمد عن
أبي بردة بن نيار سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الكسب قال
"بيع مبرور وعمل الرجل بيده" وفيها دلالة على تقرير ما جبلت عليه النفوس من
طلب المكاسب. وإنما سئل عن أطيبها أي أحلها وأبركها. وقدم في حديث رافع عمل
اليد على البيع المبرور.
فهو دال على أنه الأفضل. ويدل له ما رواه البخاري "أن داود كان يأكل من عمل
يده".
(3/94)
وأشرفها ما يكسب من أموال الكفار بالجهاد.
فهو مكسب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولما فيه من إعلاء كلمة الله. ثم
من الزراعة لم تشتمل عليه من عمل اليد. والتوكل على الله. والنفع العام.
وقدم في حديث أبي بردة الإتجار. وصوب الجمهور عمل اليد على الاتجار. وفي
الاتجار فضل عظيم. لا سيما إن كان ممن يتقي الله ويتسامح.
ففي الصحيح "رحم الله امرءًا سمحًا إذا باع سمحًا إذا ابتاع سمحًا إذا
اشترى" ولأحمد "أدخل الله الجنة رجلًا سهلًا بائعًا سهلًا مشتريًا" وفي
الصحيحين "تجاوز الله عمن يتجاوز عن الناس" ولمسلم "غفر لمن ينظر المعسر"
وقال أحمد: الزم السوق تصل به الرحم وتعود به على نفسك. وقال لا ينبغي له
أن يدع العمل. وينتظر ما بيد الناس. وقال عمن فعل هذا: هم مبتدعة قوم سوء
يريدون تعطيل الدنيا.
(وعن أبي سعيد مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال
(إنما البيع) أي اللازم بالعقد ما كان (عن تراض) أي من المتعاقدين بأن
يأتيا به اختيارًا ظاهرًا وباطنًا (رواه ابن ماجه) وتقدم قوله تعالى:
{إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} وأنه أحد شروط البيع
وأنه لا يصح من مكره بلا حق. فإن أكرهه الحاكم على بيع ما له لوفاء دينه صح
لأنه حمل عليه بحق. وإن أكره على مقدار من المال فباع ملكه لأجل ذلك كره
الشراء منه وصح. لأنه غير مكره عليه. هذا مذهب أحمد
(3/95)
ويسمى بيع المضطر. واختار الشيخ الصحة من
غير كراهة. فلو امتنع الناس من الشراء منه لكان أشد ضررًا عليه.
قال ومن استولى على ملك إنسان بلا حق. ومنعه إياه حتى يبيعه له على هذا
الوجه فهذا مكره بغير حق. فلا يصح بيعه لأنه ملجأ إليه. اهـ. وإن لم يقصدا
البيع بل أظهراه تلجئة خوفًا من ظالم ونحوه لم يصح. وكذا بيع هازل. وبيع
الأمانة الذي هو في معنى القرض بعوض. وسئل أحمد عن رجل مقر بالعبودية حتى
يباع يؤخذ البائع والمقر بالثمن. فإن مات أحدهما أو غاب أخذ الآخر بالثمن.
واختاره الشيخ. وصوبه في الإنصاف. وفي الفروع يتوجه في كل غار. ولو أقر أنه
عبده فكبيع.
(وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن
الله حرم بيع الخمر) وفي رواية أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقوم عام الفتح في رمضان سنة ثمان وهو بمكة "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر"
وهو كل مسكر (و) حرم بيع (الميتة) وهي ما زالت عنه الحياة لا بزكاة شرعية.
وحكى ابن المنذر الإجماع على تحريم بيع الميتة (و) حرم بيع (الخنزير) وقد
حرم على لسان كل نبي. وحكى الحافظ الإجماع على تحريم بيعه بجميع أجزائه.
ولأبي داود حرم الخمر وثمنها وحرم الخنزير وثمنه"
(والأصنام) والصنم ما كان مصورًا. ويقال الصنم الوثن وقيل الوثن ما له جثة.
وسماها رجسًا لأن وجوب تجنبها أوكد
(3/96)
من وجوب تجنب الرجس. وعبادتها أعظم من
التلوث بالنجاسات.
(فقيل أرأيت شحوم الميتة) أي أخبرني عن الشحوم هل تخص من التحريم لنفعها.
وذكر ثلاث المنافع فقال (فإنه يطلى بها السفن) أي تدهن بها وتلطخ لئلا
يفسدها الماء (ويدهن بها الجلود) لتلين بذلك الدهان (ويستصبح بها الناس)
الاستصباح استفعال من المصباح وهو السراج الذي يشعل منه. أي يجعلونها في
سرجهم ومصابيحهم يستنيرون بها. أي فهل يجوز بيعها لما ذكر من المنافع.
فإنها مقتضية لصحة البيع (فقال لا هو حرام) غير خارجة عن الحكم أي بيع
الشحوم حرام. ولأحمد فما ترى في بيع شحوم الميتة (ثم قال عند ذلك) أي عند
سؤالهم عن منافع شحوم الميتة التي تستعمل فيه دون الأكل.
(قاتل الله اليهود) أي لعنهم الله كما في غير ما حديث. يقال في مقام الدعاء
على المدعو عليه (إن الله لما حرم شحومها) أي شحوم الميتة (جملوه) أي
أذابوه. يقال جمله إذا أذابه. والجميل الشحم المذاب (ثم باعوه) وللبخاري
"جملوها ثم باعوها" (فأكلوا ثمنه) أي ثمن ما جملوه من الشحوم المحرمة عليهم
(متفق عليه) وجوز بعض أهل العلم الاستصباح بالأدهان المتنجسة في غير مسجد.
واختار الشيخ. لا ينجس العين مطلقًا.
(3/97)
وما تنجس من الأشياء الطاهرة فالجمهور على
الجواز. والعلة في تحريم بيع الخنزير والميتة هي النجاسة عند جمهور
العلماء. فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة. وأما الأصنام فالعلة عدم المنفعة
المباحة. فإن كان ينتفع بها بعد الكسر جاز عند بعضهم. ومنعه الأكثر. وعن
ابن عباس مرفوعًا "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا
ثمنها. وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" رواه أبو داود.
وروى ابن بطة "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى
الحيل" وفيه دليل على تحريم الحيل والوسائل إلى المحرم. وإبطال ذلك. وأن كل
ما حرم الله على العباد فبيعه حرام لتحريم ثمنه. فلا يخرج من هذه الكلية
إلا ما خصه دليل كالجلد المدبوغ وتقدم.
(ولهما) أي البخاري ومسلم ورواه الخمسة وغيرهم (عن أبي مسعود) عقبة بن عامر
-رضي الله عنه- قال (نهى - صلى الله عليه وسلم -) (أي أتى بعبارة تفيد
النهي وإن لم يذكرها. وبدأ بالنهي (عن ثمن الكلب) معلمًا كان أو غيره مما
يجوز اقتناؤه أو لا يجوز. وهذا مذهب جمهور العلماء. والنص على تحريم ثمنه
يدل باللزوم على تحريم بيعه. وروي "إلا كلب صيد". وقال الحافظ لا يصح.
(و) نهى عن (مهر البغي) بتشديد الياء. وهو ما
(3/98)
تأخذه الزانية في مقابل زناها. وسماه مهرًا
لكونه على صورته. وأجمعوا على تحريمه وأصل البغي الطلب. غير أنه أكثر ما
يستعمل في الفساد. وذكر ابن القيم أنه في جميع كيفياته يجب التصدق به. ولا
يرد إلى الدافع. لأنه دفعه باختياره في مقابل عوض لا يمكن صاحب العوض
استرجاعه. فهو كسب خبيث يجب التصدق به. ولا يعان صاحب المعصية على حصول
غرضه. واسترجاع ماله.
(و) نهى عن (حلوان الكاهن) مصدر حلوته حلوانًا إذا أعطيته. وأصله من
الحلاوة. شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يؤخذ سهلًا بلا كلفة. وأجمعوا على
تحريم حلوان الكاهن.
والكاهن الذي يدعي علم الغيب. ويخبر الناس عن الكوائن من منجم وغيره. فلا
يحل له ما يعطاه. ولا يحل لأحد تصديقه فيما يتعاطاه ولهما أيضًا من حديث
أبي جحيفة "نهى عن ثمن الدم" قيل نفس الدم وهو حرام بالإجماع. وقيل أجرة
الحجام "وثمن الكلب وكسب البغي" ولأحمد وأبي داود من حديث ابن عباس "إن جاء
يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا" وجاء في مسلم "وثمن السنور" وإن كان
الجمهور على إباحته لأنه طاهر العين مباح النفع. فقال أحمد وغيره لا يجوز
بيعه للنهي عن ثمنه. واختاره ابن القيم وابن رجب وغيرهما.
(وللبخاري عن أبي هريرة مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
(3/99)
قال (قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم
القيامة) ولابن حبان وغيره "ومن كنت خصمه خصمته" قال: (ومنهم رجل باع حرًا
فأكل ثمنه) قال ابن الجوزي الحرعبد الله فمن جنى عليه فخصمه سيده ولأبي
داود من حديث ابن عمر "ورجل اعتبد محررًا" كأنه يعتقه ثم يكتم عتقه، أو
يستخدمه كرهًا بعد.
قال الحافظ وحديث أبي هريرة أشد لأن فيه مع كتم العتق أو جحده العمل بمقتضى
ذلك من البيع وأكل الثمن.
وأريد التشديد على هؤلاء بالتصريح. وإلا فهو تعالى خصم لجميع الظالمين. قال
المهلب إنما كان إثمه شديدًا لأن المسلمين أكفاء في الحرية. فمن باع حرًا
فقد منعه التصرف فيما أباح الله له. وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه. وقال
ابن المنذر لم يختلفوا في أن من باع حرًا أنه لا قطع عليه. يعني إذا لم
يسرقه من حر مثله. إلا ما يروى عن علي. وكان في بيعه خلاف. ثم ارتفع.
واستقر الإجماع على المنع منه. قال "ورجل أعطى بي ثم غدر". أي عاهد عهدًا
وحلف عليه بالله ثم نقضه. والثالث "رجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه
أجره".
(وعن جابر نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء) أي
الفاضل عن كفاية صاحبه سواء كان في أرض مباحة أو مملوكة للشرب أو غيره
لحاجة الماشية أو الزرع في فلاة وغيرها.
وقال - صلى الله عليه وسلم - "لا تمنعوا فضل الماء" وهو عند الجمهور محمول
على ماء البئر المحفورة في الأرض المملوكة أو في الموات لقصد
(3/100)
التملك وإما لقصد الارتفاق فالحافر لا يملك
ماءها بل يكون أحق به إلى أن يرتحل. وفي الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل عن
حاجته وعلله الشارع أيضاً بكونه ذريعة إلى منع فضل الكلأ لأن صاحب المواشي
إذا لم يمكنه الشرب من ذلك الماء لم يتمكن من المرعى الذي حوله. ولمسلم
أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه. ويأتي قوله "الناس شركاء في ثلاث فى الماء
والكلأ والنار"
وخص من العموم ما كان محرزاً في آنية ونحوها قياساً على جواز الاحتطاب.
وكذلك بيع البئر والعين. فإنه جائز. وفي الاختيارات من ملك ماءً نابعاً
كبئر محفورة في ملكه أو عين ماء في أرضه فله بيع البئر والعين جميعاً.
ويجوز بيع بعضها مشاعاً. وإن كان أصل القناة في أرض مباحة. فكيف إذا كان في
أرضه. قال الشيخ وهذا لا أعلم فيه نزاعاً. وإنما تنازعوا فيما لو باع الماء
دون القرار. وفي الصحة قولان. ومذهب مالك والحنفية الصحة. ونص الشافعي على
أنه يملك. لما يأتي من قوله - صلى الله عليه وسلم - "من يشتري بئر رومة".
ومن احتفر بئراً أو نهراً ونحوه فهو أحق بمائه. وحديث الباب يدل على جواز
بيع الماء لأنه منع الفضل لا منع الأصل ومحل النهي إذا لم يجد المأمور له
بالبذل ماء غيره. فلا يمنع الفضل عن غيره. ولما رواه أبو داود وغيره
مرفوعاً سئل ما الشيء الذي لا يحل منعه قال "الماء" وذكر الملح ومثله
الكلأ.
(3/101)
قال ابن القيم ويجوز دخول الأرض المملوكة
لأخذ الماء والكلأ لأن له حقاً في ذلك. ولا يمنعه استعمال ملك الغير نص
عليه أحمد. لأنه ليس له منعه من الدخول. بل يجب عليه تمكينه. ويحرم منعه.
فلا يتوقف دخوله على الأذن إنما يحتاج إليه في الدار إذا كان فيها سكن.
(و) نهي (عن بيع ضراب الجمل. رواه مسلم) ورواه أهل السنن وغيرهم. وصححه
الترمذي وغيره. وللبخاري من حديث ابن عمر "نهى عن عسب الفحل" وهو أن يستأجر
فحل الإبل أو البقر أو الغنم أو غيرها لينزو على الإناث وعسبه ضرابه
والمراد نهي عن أجرة ضراب الجمل. فدل على تحريم استئجار الفحل للضراب.
والأجرة حرام. لأن ماء الفحل غير متقوم. ولا معلوم. ولا مقدور على تسليمه.
وهذا مذهب الجمهور.
وأما عارية ذلك فلا خلاف في جوازه. وللترمذي إنا نطرق الفحل فنكرم "فرخص له
في الكرامة" ولابن حبان "من أطرق فرسًا فأعقب كان له كأجر سبعين فرسًا"
فينبغي إطراق الفحل جملًا كان أو غيره.
(وعن حكيم بن حزام مرفوعًا قال لا تبع ما ليس عندك) وذلك أنه قال يا رسول
الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع
ليس عندي ما أبيعه منه ثم ابتاعه من السوق. فقال "لا تبع
ما ليس عندك" (رواه الخمسة وصححه الترمذي) وأخرجه
ابن حبان في صحيحه. وقد روي من غير وجه. ولهم
(3/102)
عن عمرو بن شعيب مرفوعًا "لا يحل سلف وبيع.
ولا بيع ما ليس عندك" وصححه الترمذي وغيره. والمعنى ما ليس في ملكك وحوزتك
وقدرتك. كالعبد الآبق. والطير في الهواء والسمك في الماء.
قال ابن القيم كنهيه عن بيع الغرر. لأنه إذا باع ما ليس عنده فليس على ثقة
من حصوله. قد يحصل له وقد لا يحصل فيكون غررًا. اهـ. وعند: لغة تستعمل في
الحاضر القريب. وما في حوزتك. وإن كان بعيدًا. فالمراد ليس حاضرًا عندك ولا
غائبا في ملكك. وتحت حوزتك. وقال البغوي وغيره النهي في هذا الحديث عن بيوع
الأعيان التي لا يملكها. أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم
بشروطه.
فظاهر النهي تحريم ما لم يكن من الأعيان في ملك الإنسان. ولا داخلًا تحت
مقدرته. سوى الموصوف في الذمة.
وقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما ليس عنده. ولا في ملكه.
ثم يمضي فيشتريه له. وأنه باطل. قال الشيخ إنما يفعله لقصد التجارة والربح
فيبيعه بسعر ويشتريه بأرخص ويلزمه تسليمه في الحال. وقد يقدر عليه وقد لا
يقدر عليه.
وقد لا تحصل له تلك السلعة إلا بثمن أعلى مما تسلف فيندم. وإن حصلت بسعر
أرخص ندم المسلف. إذا كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك السعر.
(3/103)
فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة.
وأما مخاطرة التجارة فيشتري السلعة بقصد أن يبيعها بربح ويتوكل على الله في
ذلك. فهذا الذي أحله الله. اهـ. وإن باع ملك غيره بغير إذنه أو اشترى بعين
ماله بلا إذنه لم يصح وحكي اتفاقًا. وقال الشيخ: من وكل في بيع أو استئجار
أو شراء فلم يسم الموكل في العقد فضامن. ومن ادعى بعد البيع أن البيع لغيره
وأنه فضولي أو غاصب لم يقبل منه. ولا تسمع بينته على ذلك. فإن أقام المقر
له البينة بالملك سمعت. فإن لم تكن له بينة حلف المشتري أنه لا يعلم مالكًا
سوى البائع.
وفي قصة: أصحاب الغار. وتنميته أجرة المستأجر لأجيره دليل على جواز تصرف
الرجل في مال الغير. الأجير وغيره بغير إذنه. وهو تصرف الفضولي وما فتح
عنوة فقال بعض أهل العلم لا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر
العراق. لأن عمر وقفها على المسلمين. وفي الاختيارات يصح بيع ما فتح عنوة
ولم يقسم من أرض الشام ومصر والعراق. ويكون في يد مشتريه بخراجه.
قال الشيخ: ومعنى وقفها إقرارها على حالها وضرب الخراج عليها مستمرًا في
رقبتها. وليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة. بل يجوز بيعها
كما هو عمل الأمة.
ومن اشتراها صارت عنده خراجية. وذكر أنها تنتقل بالبيع في أصح قولي
العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي
(3/104)
الشافعي والمؤثر بها أحق بها بلا خلاف.
اهـ. بخلاف ما فتح صلحًا فيصح عند الجمهور.
ويجوز بيع رباع مكة. وهو أظهر في الحجة. واختيار الشيخ وتلميذه. لأنه إنما
يستحق التقدم على غيره بهذه المنفعة.
واختص بها لسبقه وحاجته. وجواز البيع لوروده على المحل الذي كان البائع
اختص به عن غيره. وهو البناء. فلو زال لم يكن له أن يبيع الأرض كما أنه ليس
له أن يؤجرها وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت وهو أحق بها يسكنها ويسكن
فيها من شاء. وكانوا يتبايعونها قبل الإسلام وبعده بلا نزاع. بخلاف بقاع
المناسك فلا يجوز قال في الإنصاف بلا نزاع.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع
الحصاة) قيل هو أن يقوم ارم بهذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت عليه فهو لك
بدرهم. وقيل أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة. أو أن يعترض
القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول أي شاة أصابتها فهي لك بكذا. وكل هذا
ونحوه متضمن لبيع الغرر. لما في الثمن أو المبيع من الجهالة. ولفظ الغرر
يشملها. وإنما أفردت لكونها كانت مما يبتاعها أهل الجاهلية. فنهى - صلى
الله عليه وسلم - عنها. وأضيف البيع إلى الحصاة للملابسة لاعتبار الحصاة
فيه.
(و) نهى (عن بيع الغرر) وهو ما لا تعلم عاقبته من
(3/105)
الخطر الذي لا يدري أيكون أم لا. بمعنى
مغرور اسم مفعول.
وإضافة المصدر إليه من إضافته إلى المفعول. ومعناه أيضًا الخداع الذي هو
مظنة أن لا يرضى به عند تحققه. فيكون من أكل المال بالباطل (رواه مسلم)
وجاء النهي عنه في أحاديث كثيرة ومن جملة بيع الغرر المنهي عنه بيع السمك
في الماء والطير في الهواء. وهو مجمع عليه. ما لم يألف الرجوع. وفي الفنون
هو قول الجماعة ومن شروط البيع القدرة على التسليم.
وعدم القدرة على التسليم غرر. قال الخطابي أصل الغرر ما طوي عنك علمه وخفي
عنك باطنه. وكل بيع كان المقصود منه مجهولًا غير معلوم. أو معجوزًا عنه غير
مقدور عليه. فهو غرر. وإنما نهي عنه تحصينًا للأموال أن تضيع. وقطعًا
للخصومة بين الناس. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز بيع الغرر
كالشارد والآبق والطير في الهواء والسمك في الماء ونحو ذلك.
وقال النووي وغيره النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل
كثيرة جدًا. وقال الشيخ كل بيع غرر مثل الطير في الهواء والشارد والآبق
والثمرة قبل بدو صلاحها. وبيع الحصاة من الميسر الذي حرمه الله لأنه إن قدر
عليه كان المشتري قد قمر البائع حيث أخذ ماله بدون قيمته. وإن لم يقدر عليه
كان البائع قد قمر المشتري وفي كل منهما أكل مال بالباطل فهو قمار. اهـ.
ويستثنى منه ما يدخل في المبيع تبعاً بحيث لو أفرد لم يصح
(3/106)
بيعه. وما يتسامح بمثله: إما لحقارته أو
للمشقة في تمييزه وتعيينه كأساسات البنيان. واللبن في ضرع الدابة. والحمل
في بطنها. والقطن المحشو في الجبة. فإن ذلك مجمع عليه. وكإجارة الدار
والدابة شهراً. مع أنه قد يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين. ودخول الحمام
بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء. وقدر مكثهم. وعلى جواز الشرب
في السقاء بالعوض مع الجهالة.
(ولهما عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (نهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (عن بيع حبل الحبلة) بفتح الحاء والباء فيهما. قال أحمد والترمذي
وأكثر أهل اللغة هو بيع ولد الناقة الحامل. قال والعمل عليه عند أهل العلم.
لكونه معدومًا ومجهولًا وغير مقدور على تسليمه. فهو من بيع الغرر. وفسر بما
وقع في بعض الروايات لابن عمر أو نافع كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج
ثم تنتج التي في بطنها. وذهب إليه جماعة من أهل العلم.
وأما بيع اللبن في الضرع فقال الشيخ إن كان موصوفًا في الذمة واشترط كونه
من هذه الشاة أو البقرة صح. واستدل بخبر نهي أن يسلم في حائط إلا أن يكون
قد بدا صلاحه.
واختار هو وابن القيم جواز بيع المسك في فأرته. لأنها وعاء له يصونه أشبه
بيع ما مأكوله في جوفه كرمان. وتجاره يعرفونه.
وجواز بيع فجل ونحوه مغروس في الأرض يظهر ورقه. وصوباه
(3/107)
لوجوه: منها أنه ليس من التغرير. وأهل
الخبرة يستدلون بظواهره على بواطنه.
(وفيهما عن أبي سعيد نهي) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن
الملامسة) يعني في البيع. ولمسلم من حديث أبي هريرة "أن يلمس كل منهما ثوب
صاحبه من غير تأمل" وللنسائي "هي أن يقول الرجل للرجل أبيعك ثوبي بثوبك.
ولا ينظر أحد منهما إلى ثوب الآخر" ولكنه يلمسه. وأخرج أحمد عن عبد الرزاق
عن معمر: الملامسة أن يلمس الثوب بيده ولا ينشره ولا يقلبه فإذا مسه وجب
البيع. قال الحافظ وتفسير أبي هريرة اقعد بلفظ الملامسة. لأنها مفاعلة
فتستدعي وجود الفعل والعلة الغرر والجهالة وإبطال خيار المجلس.
(و) نهى عن (المنابذة) في البيع قال أبو هريرة "أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه
إلى الآخر لم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه" وللنسائي "أن يقول أنبذ ما
معي وتنبذ ما معك فيشتري كل واحد من الآخر. ولا يدري كم مع الآخر". وتمام
حديث أبي سعيد "والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بالليل أو بالنهار ولا يقلبه
والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ بثوبه ويكون ذلك بيعهما من
غير نظر ولا تراض" والعلة الغرر.
وأجمعوا على تحريمه وهو ظاهر الخبر. وقال الوزير اتفقوا على أن بيع الحصاة
والملامسة والمنابذة باطل. وفيه أنه لا
(3/108)
يصح بيع الغائب. ومذهب مالك وأحمد وجماعة
إن وصفه صح. قال الشيخ وهذا أعدل الأقوال. وقال الوزير إذا رأياها ثم
تبايعا جاز ولا خيار للمشتري إذا رآها على الصفة التي كان عرفها. فإن تغيرت
فله الخيار. وكذا الأعمى إن وصف له صح.
(وللترمذي وصححه عن جابر: ونهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن
الثنيا) أي الاستثناء المجهول. كأن يقول بعتك هذه الصبرة إلا بعضها أو هذه
الأشجار أو الأغنام أو الثياب ونحوها إلا بعضها. لم يصح البيع للجهالة (إلا
أن تعلم) يعني الثنيا فيصح البيع. قال في الإنصاف بلا نزاع. ورواه أحمد
وأبو داود والنسائي وغيرهم. ورواه مسلم بلفظ "نهى عن الثنيا" وزادوا "إلا
أن تعلم" والمراد بها الاستثناء في البيع. نحو أن يبيع الرجل شيئًا ويستثني
بعضه.
فإن كان الذي استثناه معلومًا نحو أن يستثنى واحدة من الأشجار معلومة أو
منزلاً من المنازل معلومًا أو موضوعًا معلومًا من الأرض أو شاة معلومة من
القطيع صح باتفاق أهل العلم.
وإن كان مجهولًا نحو أن يستثني شيئًا غير معلوم لم يصح البيع لما فيه من
الجهالة والغرر وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجلده وأطرافه صح. قال الشيخ
ويصح بيع جلده وحده وبيعه مع جلده جميعًا كما قبل الذبح. لا استثناء الشحم
ونحوه للجهالة.
(3/109)
ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كبطيخ ورمان
وحمص ونحوه في قشره. وطلع قبل تشققه. وحب منعقد في سنبله. وأما الجهالة في
الثمن فغرر. واشترط أهل العلم أن يكون الثمن معلومًا. وإن باعه بما ينقطع
به السعر أو كما يبيع الناس فقال الشيخ يصح وهو أطيب لنفس المشتري من
المساومة. وصوبه ابن القيم. وذكر أنه عمل الناس. وليس في الشرع ما يحرمه
والمانعون منه يفعلونه. ولا تقوم المصالح إلا به.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (قال كانوا يتبايعون الطعام جزافًا) بتثليث
الجيم والكسر أفصح. والجزاف هو ما لم يعلم قدره على التفصيل (فنهاهم النبي
- صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى ينقلوه متفق عليه) ويأتي الكلام في
نقله والتصرف فيه قبل قبضه جزافًا كان أو غيره. طعامًا أو غيره. والحديث دل
على جواز بيع الصبرة جزافًا مع جهل المتبايعين بقدرها. وقال الموفق لا نعلم
فيه خلافًا ولأنه معلوم بالرؤية فصح بيعه كالثياب والحيوان.
ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة. فإن ذلك يشق ولكون الحب ونحوه يعلم برؤية
ظاهره. ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنه علم ما اشترى بأبلغ
الطرق وهو الرؤية. وكذا لو قال بعتك نصفها أو جزءًا منها معلومًا لأن ما
جاز بيعه جملة جاز بيع بعضه. كالحيوان. ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في
صحة بيعها جزافًا عند الجمهور.
(3/110)
فإن كان يعلم قدر الصبرة لم يجز بيعها
جزافًا. وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما من السلف.
قال مالك لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك. قال القاضي وروي عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: "من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافًا حتى يبينه"
ولأن البائع لا يعدل إلى البيع جزافًا مع علمه بقدر الكيل إلا للتغرير.
وأجاز بعضهم بيع صبرة علما كيلها. وإن أعلمه البائع بالكيل فقال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: "إذا سميت الكيل فكل" وإن باع الأدهان ونحوها في
ظروفها جملة وقد شاهدها جاز لأن أجزاءه لا تختلف فهو كالصبرة.
* * *
فصل فيما نهي عنه
يعني من البيوع. ووقته والبيع على بيع أخيه والتسعير والاحتكار وغير ذلك.
(قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ}
أذن لها {مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وهو النداء الثاني الذي عقب جلوس الإمام
على المنبر لأنه الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختص
به الحكم {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} اهتموا في سيركم إليها. وليس
المراد المشي السريع كما تقدم {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي اسعوا إلى ذكر الله
واتركوا البيع يعني المعاملة. فإنها حينئذ حرام إذا نودي للصلاة.
(3/111)
نهى تعالى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا
يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضور الجمعة. والنهي يقتضي الفساد.
وكالبيع الشراء لأن اسم البيع يتناولهما جميعًا. وخص لأنه من أهم ما يشتغل
به المرء من أسباب المعاش. وكذا يحرم البيع قبل النداء لمن منزله بعيد في
وقت وجوب السعي عليه. وهو الوقت الذي يمكنه إدراكها فيه. وتحرم المساومة
والمناداة إذًا. وكذا لو تضايق وقت مكتوبة. وتقييده بالجمعة يفهم منه صحته
لغيرها.
ويحرم إذا فاتته الجماعة وتعذر عليه جماعة أخرى {ذَلِكُمْ} الذي ذكرت من
حضور الجمعة وترك البيع {خَيْرٌ لَّكُمْ} من المبايعة {إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُون} مصالح أنفسكم.
(وعن بريدة مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من
حبس العنب) ثمر الكرم أيام القطاف التي يقطف فيها الثمر (حتى يبيعه ممن
يتخذه خمرًا) أي: عصير العنب (فقد تقحم النار على بصيرة) أي على علم بالسبب
الموجب لدخول النار. وهذا وعيد شديد يوجب تحريم الفعل (حسنه الحافظ) ورواه
الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان. ولفظه "ممن يُعلم أنه يتخذه
خمرًا" وفي السنن وغيرها "لعن بائع الخمرة" ولعنت على عشرة وجوه.
وتحريم بيع العنب ممن يتخذه خمرًا مع القصد محرم إجماعًا. ويكره مع عدم
القصد إذا شك في اتخاذه خمرًا وإلا جاز بلا كراهة. ويقاس على ذلك كل ما
يستعان به في معصية لقوله
(3/112)
تعالى {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} وأما ما لا يفعل إلا في المعصية كالمزامير والطنابير
ونحوها فلا يجوز بيعها ولا شراؤها إجماعًا. ولا يجوز بيع السلاح والكراع من
الكفار والبغاة إذا كانوا يستعينون به على حرب المسلمين أو من قطاع الطريق.
ولا بيع سلاح في فتنة. لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه. ولا يجوز بيع
مأكول ومشموم لمن يشرب عليها الخمر. ولا قدح لمن يشربه به. ولا جوز وبيض
لقمار. ويحرم أكله ونحو ذلك.
قال الشيخ وغيره لا يصح ما قصد به الحرام. أو ظن في أحد القولين للنهي عن
بيع القينات المغنِّيات. وقال ابن القيم القصود في العقود معتبرة تؤثر في
صحة العقد وفساده. وفي حله وحرمته. فعصر العنب بنية أن يكون خمرًا معصية.
وخلًا ودبسًا جائز. والسلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام
باطل. ولمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله طاعة وقربة ا. هـ. ولا يصح بيع
عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه. وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه
عنه. لقوله تعالى:. {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}.
(وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يبعْ الرجل على بيع
أخيه) ولهما أيضاً "لا يبع بعضكم على بيع بعض" والبيع يشمل البيع والشراء
ومعنى بيع الرجل على بيع أخيه أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك
مثلها بتسعة, وشرائه على شرائه أن يقول لمن باع سلعة بتسعة عندي فيها عشرة
ليفسخ المقول
(3/113)
له العقد. ويعقد معه. ومحل ذلك إذا وقع في
زمن الخيارين عند بعض أهل العلم. وقال الشيخ ولو بعده. لأنه ربما أشغله
واحتج عليه بشيء.
وقال ابن رجب يحرم مطلقاً. وهو ظاهر النص. واتفق أهل العلم على كراهته.
وأبطله مالك. وقال الحافظ لا خلاف في التحريم. قال الشيخ يحرم الشراء على
شراء أخيه. وإذا فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة. وأخذ السلعة
أو عوضها (ولا يسم) بضم السين وروي بإثبات الواو وإثبات الياء. في يبع ويسم
(على سومه. متفق عليه) والمراد بعد الرضى صريحاً واستقرار الثمن. وركون
أحدهما إلى الآخر. ويأخذه ليشتريه. فيقول للمستام رده لأبيعك خيراً منه
بثمنه أو مثله بأرخص. أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر.
وإن كان تصريحاً فقال الحافظ لا خلاف في التحريم. والجمهور على أنه يصح
البيع. واشترط الركون. لأنه لا بد من أمر بين لموضع التحريم في السوم. لأن
السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم بالاتفاق لما في السنن "من
يزيد على درهم" وفي الصحيحين في خبر المدبر "من يشتريه مني" عرضه للزيادة.
ولا بعد رد لعدم المحذور. والإجارة ونحوها كالبيع لأنه ذريعة إلى التباغض
والتعادي.
(وعن العالية) جدة إسرائيل وزوجة أبي إسحاق إحدى
(3/114)
التابعيات. سمعت من عائشة وغيرها. قال ابن
القيم امرأة معروفة لا يعرف أحد قدح فيها (أن أم ولد زيد بن أرقم) الأنصاري
(باعت غلامًا منه) أي من زيد بن أرقم (بثمانمائة إلى العطاء) وللدارقطني
نسيئة (ثم اشترته) أي من زيد بن أرقم (بستمائة درهم) نقدًا وأخبرت عائشة
بذلك (فقالت عائشة) –رضي الله عنها- (بئسما شريت وبئسما اشتريت) أي ملكت
بهذا البيع (رواه أحمد) وعمل به والدارقطني.
وقال ابن القيم محفوظ وآثار الصحابة موافقة له. مشتقة منه. مفسرة له.
وتمامه "أخبريه أن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل. إلا
أن يتوب" فدل على أنه لا يجوز لمن باع شيئًا بثمن نسيئة أن يشتريه من
المشتري بدون ذلك الثمن نقدًا قبل قبض الثمن الأول. فإن كان المقصود التحيل
لأخذ النقد في الحال ورد أكثر منه بعد أيام فلا ريب أن ذلك من الربا المحرم
وهو صورة من صور العينة. ولذلك صرحت بأن هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد
لثبوت تحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة.
وقول عائشة –رضي الله عنها- يدل على أنها قد علمت ذلك بنص رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - إما على وجه العموم كالآيات والأحاديث القاضية بتحريم
الربا الشامل لمثل هذه الصورة أو على الخصوص كأحاديث العينة. ولأبي داود
وغيره عن ابن عمر مرفوعًا "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم
بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى
(3/115)
دينكم" قال الحافظ رجاله ثقات وقد ورد
النهي عن العينة من طرق.
وهي بيع السلعة بثمن إلى أجل ثم اشتراؤها منه بأقل من ذلك سميت عينة لحصول
النقد لصاحب العين لأن العين هو المال الحاضر. والمشتري إنما يشتريها
ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل به إلى مقصوده. ومذهب جمهور
العلماء تحريمها واستدل ابن القيم وغيره أيضًا على عدم جواز العينة بقوله -
صلى الله عليه وسلم - "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع" قال وإن
كان مرسلًا فله من المسندات ما يشهد له.
وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة. ولو لم يأت فيها أثر لكان محض
القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة: تحريمها أعظم من تحريم الربا فإنها
ربا مستحل بأدنى الحيل. فإنه من المعلوم أن العينة عند من يستعملها إنما
يسميها بيعًا. وقد اتفقوا على تحريم الربا الصريح قبل العقد. ثم غير اسمها
إلى المعاملة. وصورتها إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة. وإنما هو
حيلة ومكر وخديعة الله تعالى. فمن أسهل الحيل على من أراد فعله أن يعطيه
مثلًا ألفًا إلا درهمًا باسم القرض. ويبيعه خرقة تساوي درهمًا بخمسمائة
درهم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنيات" أصل في إبطال الحيل
وتحريم كل بيع بنقد دون ما باع به نسيئة. وقال ابن القيم إذا
(3/116)
كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصود
المشروعة التي لا خداع فيها ولا تحريم. لم يصح أن يلحق بها صورة عقد لم
تقصد حقيقته. وإنما قصد التوصل إلى استحلال ما حرمه الله. قال وجماع الأمر
أنه إذا باعه ربويًا بثمن وهو يريد أن يشتري منه بثمنه من جنسه: فإما أن
يواطئه على الشراء منه لفظًا. أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك. أو لا
يكون. فإن كان الأول فباطل. فإن هذا لم يقصد ملك الثمن. ولا قصد هذا
تمليكه. وإنما قصد تمليك المثمن بالثمن. وجعلا تسميته الثمن تلبيسًا
وخداعًا. ووسيلة إلى الربا.
وإن لم تجرِ بينهما مواطأة. لكن قد علم المشتري أن البائع يرد أن يشتري منه
ربويًا بربوي. فكذلك لأن علمه بذلك مواطأة. وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان
به من قصد الربا.
وإن قصد البائع الشراء منه بعد البيع ولم يعلم المشتري فكرهه أحمد وغيره.
والمتقدمون حملوا المنع على التحريم.؟ قال الشيخ ما دام الثمن في ذمة
المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه. ولا يجوز أن يبتاع
منه بالثمن ربويًا لا يباع بالأول نسأ. لأن أحكام العقد الأول لا تتم إلا
بالتقابض. فإذا لم يحصل صار ذلك ذريعة إلى الربا. اهـ.
والآثار المتظاهرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم العينة وعلى
الصحابة تدل على المنع من عود السلعة إلى البائع. وإن لم يتواطآ على الربا.
سدًا للذريعة. وإن اشتراه بغير جنسه أو بعد
(3/117)
قبض ثمنه أو من غير مشتريه. أو اشتراه أبوه
أو ابنه جاز إن لم يكن حيلة إلى التوصل إلى فعل مسألة العينة. وإن احتاج
إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر قليلًا ليتوسع بثمنه فقيل لا بأس.
وتسمى هذه الصورة مسألة التورق. قيل لأحمد إن ربح الرجل في العشرة خمسة
يكره ذلك: قال إذا كان أجل إلى سنة أو أقل بقدر الربح فلا بأس به. وقال بيع
النسيئة إن كان مقاربًا فلا بأس.
قال الشيخ وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل. لأنه
نسيئة كبيع المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص. وينبغي أن لا يربح عليه
إلا كما يربح على غيره. وله أن يأخذ منه بالقيمة المعروفة من غير اختياره.
قال ابن القيم عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه
الموسر بالقرض. حتى يربح عليه في المائة ما أحب. وهذا المضطر إن أعاد
السلعة إلى بائعها فهي العينة. وإن باعها لغيره فهو التورق. وإن رجعت إلى
ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا.
والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق. وكان شيخنا يمنع منها
وروجع فيها مرارًا فلم يرخص فيها. وقال المعنى الذي لأجله حُرم الربا موجود
فيها بعينه. مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها.
(وفي حديث النعمان) ابن بشير -رضي الله عنه- (من اتقى الشبهات) جمع شبهة
بالضم الالتباس ما يلتبس فيه الحق
(3/118)
بالباطل والحلال بالحرام (فقد استبرأ
لدينه) أي طلب البراءة لدينه (وعرضه) وهو الخليقة المحمودة أي طلب ما
يصونه، يقال هو نقي العرض أي بريء من أن يعاب (متفق عليه) ولفظهما أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال "الحلال بين" فما كان أصله الحل فتمسك به
"والحرام بين" فما كان أصله الحرمة فتمسك بالأصل واجتنب المحرم. وهذا أصل
كبير من أصول الأحكام "وبينهما أمور مشتبهات" أي تشتبه على بعض الناس دون
بعض. ليس المراد أنها في ذاتها مشتبهة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة.
فإن الله لم يترك شيئًا إلا وقد جعل فيه بيانًا. ونصب عليه دليلًا. ولذا
قال "لا يعلمهن كثير من الناس" فدل بفحواه أن بعض الناس يعرفها "فمن اتقى
الشبهات" فلم يقدم إلا على بصيرة "استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات"
اعتادها واستمر عليها أدته إلى أن "وقع في الحرام" تجاسر عليه فواقعه
"كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" فليتق الشبهات ليسلم من الوقوع
في الحرام.
"ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا
صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب" وفي لفظ "فمن
ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك. ومن اجترأ على ما يشك فيه
من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان" فقسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام الأول
الحلال البين الواضح. والثاني الحرام البين
(3/119)
الواضح. فلا يفارقهما المرء باعتراض الشك
حتى يزيل عنه يقين العلم. والثالث المشتبه لخفائه فلا يدري أحلال هو أم
حرام؟!. وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه. لأنه إن كان في نفس الأمر حرامًا
فقد برئ من التبعة. وإن كان حلالًا فقد استحق الأجر على الترك. لهذا القصد.
لأن الأصل مختلف فيه حظرًا وإباحةً.
والمراد أن كل واحد من القسمين الأولين بين لا يحتاج إلى بيان. أو مما
يشترك في معرفته كل أحد. وأما الثالث فأمور مشتبهة اشتبهت بغيرها. مما لم
يتبين. وللترمذي "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام" وقيل
الشبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة. أو ما اختلف فيه العلماء. وقيل قسم
المكروه. وقيل المباح. وقال الحافظ لا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا.
ورجح الأول. وقد يختلف باختلاف الناس.
فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم. فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار
من المباح. أو المكروه. ومن دونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر. بحسب
اختلاف الأحوال.
ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في
الجملة. أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي
المحرم أو يكون ذلك لسر فيه. وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب
لفقدان الورع.
فيقع في الحرام. ولو لم يختر الوقوع فيه. وهذا الحديث من الأربعة التي تدور
عليها الأحكام. ويؤيده حديث "لا يبلغ
(3/120)
العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا
بأس به حذرًا مما به البأس" وحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وما شككت
فيه فالورع اجتنابه. والشبهات تقع كثيرًا في المعاملات فعلى المرء
اجتنابها. ويدخل في ذلك معاملة من كان في ماله شبهة أو خالطه ربا.
(وعن أنس) -رضي الله عنه- (قال غلا السعر) أي ارتفع على معتاده. والسعر
القيمة أي ارتفع السعر في المدينة. وفي لفظ على عهد رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (فقالوا يا رسول الله سعر لنا) أمر من التسعير. والتسعير أن
يأمر ولي الأمر أو نوابه أو كل من ولي من أمور المسلمين أمر أهل السوق أن
لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا. فيمنع من الزيادة عليه. أو النقصان لمصلحة
(فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله هو المسعر) أي: يفعل ذلك
وحده بإرادته (القابض) الممسك رزقه (الباسط) الموسع على من يشاء قال تعالى:
{يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (الرزَّاق) (يبسط الرزق) ويقدره.
(وأرجو أن ألقى الله –عز وجل- وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"
رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي) وابن حبان وأخرجه الدارمي والبزار
وأبو يعلى وغيرهم. ولأحمد من حديث أبي هريرة جاء رجل فقال يا رسول الله سعر
فقال "بل ادعو الله" ثم جاء آخر فقال يا رسول الله سعر فقال "بل الله يخفض
ويرفع" ولهما شواهد حسنها الحافظ
(3/121)
وغيره دلت على تحريم التسعير. وأنه مظلمة،
وإذا كان مظلمة فهو محرم.
ووجهه أن الناس مسلطون على أموالهم. والتسعير حجر عليهم. والإمام مأمور
برعاية مصلحة المسلمين. وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من
نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن. وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين
من الاجتهاد لأنفسهم. وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف
لقوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} وهو مذهب جمهور العلماء. ولا فرق بين
حالة الغلاء والرخص ولا بين المجلوب وغيره. ومال إلى ذلك الجمهور. ولا بين
القوت وغيره. وحكي تحريم التسعير في غير القوت اتفاقًا. وقال الوزير وغيره
اتفقوا على كراهة التسعير.
وقال ابن القيم التسعير منه ما هو محرم. ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن
ظلم الناس وإكراههم بغير حق بشيء لا يرضونه. أو منعهم مما أباح الله لهم
فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من
المعاوضة بثمن المثل. ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل.
فهو جائز. بل واجب. فالأول مثل ما روى أنس وذكر الحديث. ثم قال فإذا كان
الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما
لقلة الشيء أو
(3/122)
لكثرة الخلق فهذا إلى الله. فإلزام الناس
أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
والثاني مثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا
بزيادة على القيمة المعروفة. فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل. ولا معنى
للتسعير إلا لإلزامهم بقيمة المثل. والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم
الله به. قال ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم لا تبيعوا إلا بكذا
ربحتم أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به. قال ومنع الجمهور أن يحد
لأهل السوق حدًا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب.
ومن الظلم أن يلزم الناس أن لا يبيعوا الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس
معروفون. فلا تباع تلك السلع إلا لهم. ثم يبيعونها هم بما يريدون. فلو باع
غيرهم عوقبوا. فهذا من البغي في الأرض والفساد. وهؤلاء يجب التسعير عليهم.
وأن لا يبيعوا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء.
والتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع. وحقيقته إلزامهم بالعدل. ومنعهم من
الظلم قال الشيخ إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون
بالواجب. ويعاقبون على تركه. وكذا كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل
فامتنع. قال ابن القيم وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير
سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط. وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم
بدونه لم يفعل.
(3/123)
(وعن معمر) ابن عبد الله ويقال معمر بن أبي
معمر أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة وتأخرت هجرته إلى المدينة. ثم هاجر
إليها وسكنها -رضي الله عنه- (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال (لا يحتكر إلا خاطئ رواه مسلم) ولأحمد من حديث معقل "من دخل
في شيء من أسواق المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يقعده بعظم من
النار" وله من حديث أبي هريرة "من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على
المسلمين فهو خاطئ" ولان ماجه من حديث عمر "ضربه الله بالجذام".
جاء غير ذلك مما يدل على عدم جواز الاحتكار. وهو الشراء للتجارة وحبسه مع
حاجة الناس إليه. ولا فرق بين القوت وغيره. والمحتكر هو الذي يتلقى القافلة
فيشتري الطعام منهم يريد إغلاءه على الناس. وهو ظالم لعموم الناس. خاطئ
والخاطئ المذنب العاصي. من خطئ إذا أثم في فعله.
والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على
أنه لو كان عند شخص طعام واضطر الناس إليه أجبر على بيعه. قال ابن القيم
ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند
الضرورة إليه. مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة أو سلاح لا
يحتاج إليه والناس محتاجون إليه للجهاد أو غير ذلك.
وقال الشيخ وإذا اتفق أهل السوق على أن لا يتزايدوا في السلعة وهم محتاجون
إليها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها. فإن
(3/124)
ذلك فيه من غش الناس ما لا يخفى. وإن كان
ثم من يزيد فلا بأس. وقال وإذا كان لا يبيع إلا هو بما يختار صار كأنه يكره
الناس على الشراء منه فيأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم. وقال ابن القيم وإذا
احتاج الناس إلى صناعة طائفة كالفلاحة والنساجة والبنائين وغيرهم فلولي
الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم. قال والمقصود أن هذه الأعمال متى لم يقم
بها إلا شخص صارت فرضًا معينًا عليه. فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم
أو نساجتهم أو بنائهم صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم. يجبرهم ولي الأمر
عليها بعوض المثل. ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل. ولا
يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم. وهذا من التسعير الواجب. فهذا
تسعير في الأعمال.
وأما التسعير في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلاته فعلى
أربابه أن يبيعوه بعوض المثل ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن.
والله قد أوجب الجهاد بالنفس والمال. فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذلة
بقيمته وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وهو الصواب. قال ويكره أن يتمنى
الغلاء. ولا يكره ادخار قوت أهله ودوابه. لفعله – - صلى الله عليه وسلم -.
وينبغي الإشهاد على البيع إلا في قليل الخطر.
(3/125)
باب الشروط في البيع
الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم. والشرط هنا إلزام أحد المتعاقدين الآخر
بسبب العقد ما له فيه منفعة. وهي غير شروط صحة البيع. ومحل المعتبر منها
صلب العقد. وهي ضربان: صحيح يوافق مقتضى العقد. وفاسد يناقضه. قال ابن
القيم الصحيح أن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى
عنه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} قال
ابن مسعود –رضي الله عنه- إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ} فأرع سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. والعقود جمع عقد وهو
ما يتعاقد الناس عليه مطلقًا. من عقد بيع أو شركة أو نكاح أو يمين أو غير
ذلك. ويشترط في وجوب الوفاء به أن لا يكون على معصية ثبتت بالنص. فدلت
الآية ونحوها على لزوم العقد وثبوته. ووجوب الوفاء به. وإثبات خيار المجلس
ليس منافيًا للزوم العقد. بل هو من مقتضياته شرعًا. فالتزامه من تمام
الوفاء بالعقود.
(وعن عمرو بن عوف) ابن زيد المزني مات في زمن معاوية -رضي الله عنهما-
(مرفوعًا المسلمون على شروطهم) أي ثابتون عليها لا يرجعون عنها مقتضية
الوفاء بها. والمراد الجائزة لقوله (إلا شرطًا حرم حلالًا) فباطل (أو أحل
حرامًا) فباطل
(3/126)
(صححه الترمذي) وفي حديث بريرة "كل شرط ليس
في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" وحديث "من عمل عملًا ليس عليه
أمرنا فهو رد".
وقال الشيخ اتفق المسلمون على أن من شرط في عقد من العقود شرطًا يناقض حكم
الله ورسوله فهو باطل. مثل أن يستأجر الأجير بشرط أن لا يصلي الصلوات
الخمس. أو لا يصوم شهر رمضان. اهـ. وكل شرط صحيح وافق مقتضى العقد لم يبطله
الشارع. ولم ينه عنه جائز. كشرط التقابض وحلول الثمن. وكالرهن والضمان.
وتأجيل بالثمن أو بعضه إلى مدة معلومة. وصفة في المبيع ككون العبد مسلماً
أو كتابيًّا ونحو ذلك. وقال واشتراك صفة مباحة مقصودة في المعقود عليه مثل
صفة في المبيع, ومثل الأجل في الثمن. أو نقد غير نقد البلد جائز باتفاق
المسلمين.
واختار صحة العقد والشرط في كل عقد. وكل شرط لم يخالف الشرع. لأن إطلاق
الاسم يتناول المنجز والمعلق والصريح والكناية. كالنذر. وكما يتناوله
بالعربية والعجمية وقال ابن القيم أجمعت الأمة على جواز الرهن والكفيل
والضمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام. ونقد غير نقد البلد ونحو ذلك فيصح
الشرط. فإن وفَّى وإلا فلصاحبه الفسخ.
(وعن جابر) ابن عبد الله -رضي الله عنه- (أنه كان يسير
(3/127)
على جمل له قد أعيا) أي تعب وعجز عن السير
فأراد أن يسيبه. قال ولحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي قال
(فضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسار سيرًا لم يسر مثله) وفي رواية
كنت معه في غزاة فأبطأ بي جملي فتخلفت فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يحجنه بمحجنه. ثم قال "اركب" فركبت. فلقد رأيته أكفه عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - (فقال: بعنيه) فيجوز طلب المبيع من المالك قبل عرض المبيع
للبيع (فبعته) وفي رواية بأوقية. قال البخاري وقول الشعبي بأوقية أكثر
(واستثنيت حملانه إلى أهلي متفق عليه) وللبخاري وشرطت ظهره إلى المدينة.
وتمام الحديث فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه. ثم رجعت فأرسل في أثري
فقال "أتراني ما كستك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك". وللخبر ألفاظ
كثيرة قال بعضهم رواه بعض الرواة بالمعنى وهو جائز. وقد دل على جواز البيع
مع استثناء الركوب إلى موضع معين. وهو مذهب جمهور أهل العلم. ومثله سكنى
الدار المبيعة شهرًا أو نفعًا معلومًا في مبيع. غير وطء ودواعيه فلا يصح
الشرط وإن تعذر انتفاع بائع بسبب مشترٍ بأن أتلفت العين ونحوه فعليه أجرة
المثل له.
(وعن ابن عمر مرفوعًا لا يحل سلف) أي قرض (وبيع) أي مع السلف بأن يكون
أحدهما مشروطًا في الآخر. قال أحمد أن يقرضه قرضًا ثم يبايعه بيعًا يزداد
عليه. وهو فاسد
(3/128)
لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن.
وكل قرض جر نفعًا فهو ربا. وقال الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز بيع
وسلف وهو أن يبيع الرجل السلعة على أن يسلفه سلفًا أو يقرضه قرضًا. وقال
ابن القيم نهى عن سلف وبيع لأنه ذريعة إلى أن يقرضه ألفًا ويبيعه سلعة
تساوي ثمانمائة بألف أخرى. فيكون قد أعطاه ألفًا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه
العين. وهذا هو عين الربا. وقال إذا أقرضه مائة إلى سنة ثم باعه ما يساوي
خمسين بمائة فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد
المثل.
قال (ولا) يحل (شرطان في بيع رواه الخمسة) وغيرهم. واتفقوا على عدم صحة ما
فيه شرطان ليسا من مقتضى البيع. ولا من مصلحته. وقيل الشرطان في البيع هو
أن يقول بعتك هذا العبد بألف نقدًا أو بألفين نسيئة. وأن هذا بيع واحد تضمن
شرطين يختلف المقصود فيه باختلافهما. وأنه كالبيعتين في بيعة وقال ابن
القيم عاملَ عمرُ الناسَ على أنهم إن جاءوا بالبذر فلهم كذا. وإلا فلهم
كذا. قال وهذا صريح في جواز بعتكه بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة. قال
والصواب جواز هذا كله للنص والآثار والقياس. وذكر أمثلة يصح تعليقها
بالشروط. ثم قال والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من
الفقهاء. ثم قال والصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص أن كل شرط خالف
حكم الله وكتابه فهو باطل،
(3/129)
وما لم يخالف حكمه فهو لازم. والشرط الجائز
بمنزلة العقد بل هو عقد وعهد. وكل شرط قد جاز بذله بدون الاشتراط لزم
بالشرط.
وقال تفسيره نهيه عن صفقتين في صفقة. وعن بيعتين في بيعة. وفسر بأن يقول خذ
هذه السلعة بعشرة نقدًا. وآخذها منك بعشرين نسيئة. وهي مسألة العينة
بعينها. وهذا هو المعنى المطابق للحديث. فإنه إذا كان مقصوده الدراهم
العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله. وهو أوكس الثمنين. ولا يحتمل
غير هذا المعنى. وهذا هو الشرطان في بيع. وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى.
فتأمل نهيه عن بيعتين في بيعة. وعن سلف وبيع. ونهيه في هذا الحديث عن شرطين
في بيع. وعن سلف وبيع. وكلا الأمرين يؤول إلى الربا. اهـ.
وقيل أن يقول بعتك ثوبي بكذا وعليَّ قصارته وخياطته.
وقال أحمد يصح. والذي عليه العمل أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد
كما هو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره. وما روي نهى عن بيع وشرط. فقال ابن
القيم لا يعلم له إسناد مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس والإجماع. وقال
أحمد إنما النهي عن شرطين في بيع. وهذا بمفهومه يدل على جواز الشرط الواحد.
(ولهم) أي للخمسة (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (نهى - صلى الله عليه وسلم
- عن بيعتين في بيعة) ولأبي داود من باع بيعتين في
(3/130)
بيعية فله أوكسهما أو الربا (صححهما
الترمذي) والأول صححه أيضًا ابن خزيمة والحاكم. وهذا صححه ابن حبان وغيره.
واتفق أهل العلم على العمل بهما. وقال الوزير اتفقوا على أنه لا يجوز
بيعتان في بيعة واحدة. قال ابن القيم قيل أن يقول بعتك بعشرة نقدًا أو
عشرين نسيئة. وهذا التفسير ضعيف. فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة ولا
صفقتين هنا وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين. والتفسير الثاني أن يقول
أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة. وهذا معنى الحديث
الذي لا معنى له غيره. وهو مطابق لقوله "فله أوكسهما أو الربا".
وقال وقيل البيعتان في بيعة هو الشرط في البيعة. فإنه إذا باعه السلعة
بمائة مؤجله ثم اشتراها منه بثمانين حالة فقد باع بيعتين في بيعة. فإن أخذ
بالثمن الزائد أخذ بالربا. وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما. وهذا من أعظم
الذرائع إلى الربا بخلاف بمائة مؤجلة أو خمسين حالة. فليس هنا ربا ولا
جهالة ولا غرر ولا ضرر. وإنما خيره بين أي الثمنين شاء، اهـ. وفسره أحمد
وغيره بأن يبيعه سلعة ويقرضه قرضًا.
(وعن عائشة) -رضي الله عنها- (في قصة بريرة) وكانت لناس من الأنصار. وذلك
أنها جاءت إلى عائشة رضي الله عنها فقالت إني كاتبت أهلي على تسع أواق في
كل عام أوقية فأعينيني. فقالت عائشة إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون
(3/131)
ولاؤك لي فعلتُ. فذهبت بريرة إلى أهلها.
فقالت لهم فأبوا عليها. فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -
جالس فقالت إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء. فقال "خذيها
واشترطي لهم الولاء" زجرًا وتوبيخًا. يعلم منه أنه كان قد بين لهم بطلانه.
ثم قال "فإنما الولاء لمن أعتق" ففعلت.
ثم قام في الناس خطيبًا "فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فما بال
رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله" أي في شرعه الذي كتبه على العباد و
(قال ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) أي الذي ليس في حكم الله.
قال ابن القيم ليس المراد به القرآن قطعًا. فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست
في القرآن بل علمت من السنة. فعلم أن المراد بكتاب الله حكمه. فإنه يطلق
على كلامه تعالى. وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله - صلى الله عليه
وسلم - ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له. فيكون باطلاً.
والصواب اعتبار كل شرط لم يحرمه الله. ولم يمنع منه. وإلغاء كل شرط خالف
حكم الله (وإن كان مائة شرط) لمخالفته للحق. فوجوده كعدمه. والمراد لو
شرطوا مائة شرط فباطل (قضاء الله أحق) بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم
الله (وشرط الله أوثق) وآكد. لأن الدليل قد دل على بطلان جميع الشروط التي
ليست في كتاب الله. فلو كانت ما كانت كان
(3/132)
الحكم كذلك (وإنما الولاء لمن أعتق) فلا
يتعداه إلى غيره (متفق عليه) ولهما عن ابن عمر نحوه.
وروي بألفاظ في الصحيحين وغيرهما تدل على أن كل شرط يخالف حكم الله باطل.
ومنه لو شرط أن لا خسارة عليه.
أو متى نفق المبيع وإلا رده. أو لا يبيع ولا يهب ولا يعتق. أو شرط البائع
على المشتري أن يفعل ذلك. فيبطل الشرط وحده. كشرط الولاء للبائع. إلا إذا
شرط العتق فيصح عند الجمهور. وكذا يبطل الشرط لو رهن نحو خمر أو إلى أجل
مجهول.
وفي الاختيارات تصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود. فلو باع
جارية وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن صح البيع. والشرط.
واشترط عثمان لصهيب وقف داره عليه. ومثل هذا أن يبيعه بشرط أن يعلمه أو لا
يخرجه من ذلك البلد. ونحو ذلك. وإن قال إن جئتك بحقك في محله فقال ابن
القيم يصح. وليس في الأدلة الشرعية ولا القواعد الفقهية ما يمنع تعليق
البيع بالشرط. والحق جوازه. فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا
أو حرم حلالًا. وهذا لم يتضمن واحدًا من الأمرين. فالصواب جواز هذا العقد.
وهو اختيار شيخنا.
(ولأحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبدًا بشرط البراءة) أي من كل عيب
(فأصاب به زيد عيبًا فأراد رده)
(3/133)
على ابن عمر (فلم يقبله) لأن الشرع أقام
الشرط العرفي كاللفظي. وذلك للسلامة من العيب حتى يسوغ له الرد بوجود
العيب. ولا يبرأ بشرط السلامة من كل عيب حتى يعين (فقال عثمان لابن عمر
تحلف انك لم تعلم بهذا العيب قال لا فرده عليه) قال الشيخ الصحيح في مسألة
البيع بشرط البراءة من كل عيب. والذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم
أن البائع إذا لم يكن علم بالعيب فلا رد للمشتري. لكن إن ادعى أن البائع
علم بذلك فأنكر البائع حلف أنه لم يعلم. فإن نكل قضي عليه. اهـ.
وإذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه فأدخله في جملة عيوب ليست
موجودة وتبرأ منها كلها. فقال ابن القيم لا يبرأ حتى يفرده بالبراءة. ويعين
موضعه وجنسه ومقداره. بحيث لا يبقى للمبتاع فيه قول. ولا يقول البائع بشرط
البراءة من كل عيب. وليقل وإنك رضيت بها بجملة ما فيها من العيوب التي توجب
الرد أو يبين عيوبًا يدخله في جملتها. وأنه رضي بها كذلك. وفي الاختيارات
وشرط البراءة من كل عيب باطل. ولا يبرأ حتى يسمي العيب.
قال أحمد يضع يده على العيب. فيقول أبرأ إليك من ذا فأما إذا لم يعمد إلى
الداء ولم يوقفه عليه فلا أراه يبرأ يرده المشتري بعيبه. لأنه مجهول. قال
ابن رشد وحجة من لم يجز البراءة على الإطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم
يعلمه
(3/134)
البائع. من باب الغبن والغش فيما يعلمه.
قال ابن القيم وإذا أبطلنا الشرط فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن
السلعة بالشرط الذي لم يسلم له هذا هو العدل وقياس أصول الشريعة. ولمن جهل
الحال من زيادة أو نقص وفات غرضه الخيار.
* * *
باب الخيار
وقبض المبيع والإقالة وما يتعلق بذلك. والخيار اسم مصدر أي طلب خير الأمرين
من إمضاء البيع أو فسخه. والخيار أقسام باعتبار أسبابه.
(عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا تبايع الرجلان)
أي أوقعا العقد بينهما. لا تساوما من غير عقد (فكل منها بالخيار) وفي لفظ
"البيعان بالخيار" (ما لم يتفرقا) أي ببدنيهما فيثبت لهما خيار المجلس
(وكانا جميعًا) أي وقد كانا جميعًا. والمعنى أن الخيار ممتد زمن عدم
تفرقهما. وللبيهقي وغيره "ما لم يتفرقا عن مكانهما" وذلك صريح في المقصود.
وقال أبو برزة وابن عمر إن التفرق بالأبدان. قال الحافظ ولم يعلم لهم مخالف
من الصحابة. وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
(3/135)
قال النووي ومن قال بعدمه ترد عليه
الأحاديث الصحيحة. والصواب ثبوته كما قال الجمهور. قال ابن القيم أثبت
الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين وليحصل تمام الرضى
الذي شرطه تعالى فيه بقوله (عن تراض منكم) فإن العقد قد يقع بغتة من غير
ترو ولا نظر في القيمة فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد
حريمًا يتروى فيه المتبايعان. ويعيدان النظر. ويستدرك كل واحد منهما اهـ.
ومثل البيع الصلح بمعنى البيع. وكالإجارة والصرف والسلم. لا المساقاة
والحوالة والوقف والرهن والضمان ونحو ذلك مما ليس في معنى البيع. وقال
الوزير اتفقوا على أن خيار المجلس لا يثبت في العقود التي هي غير لازمة
كالشركة والوكالة والمضاربة. واتفقوا على أنه لا يثبت في العقود اللازمة
التي لا يقصد فيها العوض. كالنكاح والخلع والكتابة.
قال (أو يخير أحدهما الآخر) أي يشترط أحدهما الخيار مدة معلومة. أو يشترطاه
معًا. ويقال إلا بيعًا شرط فيه الخيار.
أو إلا أن يكون البيع بشرط الخيار. فإن الخيار لا ينقضي بالتفرق بل يبقى
حتى تنقضي مدة الخيار التي شرطها أحدهما أو كلاهما. لقوله "المسلمون على
شروطهم" وإذا مضت مدته لزم البيع بلا خلاف. وحكاه الوزير اتفاقًا. وقال
الشيخ ويثبت خيار الشرط في كل العقود. ولو طالت المدة اهـ.
ولمن له الخيار الفسخ إن رد الثمن جزم به الشيخ وغيره.
(3/136)
ولو مع غيبة الآخر وسخطه. والملك مدة
الخيارين للمشتري.
وله نماؤه المنفصل وكسبه. ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع ولا في عوضه
المعين فيها بغير إذن الآخر (1). فإن فعل أو مات سقط خياره. ولا يقبل من
بائع أو مشتر أنه اختار أو رد إلا ببينة. وإن اختارا أو أحدهما إمضاء البيع
قبل التفرق لزم البيع حينئذٍ وبطل اعتبار التفرق. قال ابن القيم إذا أسقطا
الخيار قبل التفرق سقط على الصحيح ودل عليه النص. ولأنهما عقدًا العقد على
هذا الوجه. ولأن الخيار حق لهما فيسقط بإسقاطهما أو أحدهما. ويبقى خيار من
لم يسقطه.
(فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك) أي بأن خير أحدهما الآخر (فقد وجب
البيع) أي لزم وتم ونفذ على ما تبايعا عليه (وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم
يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع متفق عليه)، وفي رواية "البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا" وعن حكيم بن حزام نحوه. وقال الوزير
اتفقوا على أنه إذا وجب البيع وتفرقا من المجلس من غير خيار فليس لأحدهما
الرد إلا بالعيب ويستثنى من البيع الكتابة كما تقدم. لكونها تراد للعتق.
وتولي طرفي العقد لانفراد العاقد بالعقد. وشراء من يعتق عليه لعتقه بمجرد
الانتقال. أو اعترف بحريته
__________
(1) هذا فيما إذا كان الإذن بعد العقد ودخلا في البيع على أصله الشرعي وإلا
فإن أراداه قبل العقد لانتفاع المشتري بغلة المبيع لأن الذي يقبضه البائع
قرضًا فيكون الخيار حيلة ليربح في قرض وهو حرام. مؤلفه.
(3/137)
قبل الشراء لكونه استنقاذًا لا حقيقة.
(وللخمسة من حديث عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - نحو حديث ابن عمر وفيه (ولا يحل له) أي لأحد المتبايعين (أن يفارقه)
أي أن يفارق صاحبه (خشية أن يستقيله) أي يفسخ البيع. وقال الترمذي وغيره أي
خشية أن يختار فسخ البيع. فالمراد بالاستقالة فسخ النادم. وما روي عن ابن
عمر أنه كان إذا بايع رجلًا فأراد أن يتم بيعته قام يمشي هنيهة فمحمول على
أنه لم يبلغه النهي.
(وعن ابن عمر قال ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل) هو حبان بن
منقذ (يخدع في البيوع فقال من بايعت فقل لا خلابة) أي لا خديعة (متفق عليه)
ومعناه البيع بشرط إن أرد الثمن وتسترد المبيع إذا ظهر لي غبن. لقنه - صلى
الله عليه وسلم - هذا القول ليتلفظ به عند البيع. ليطلع به صاحبه على أنه
ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة فيها ليرى له البائع كما
يرى لنفسه. وكان الناس إذا ذاك أحقاء لا يغبنون أخاهم المسلم. وكانوا
ينظرون له كما ينظرون لأنفسهم.
فدل الحديث على خيار الغبن في البيع والشراء إذا حصل الغبن. وهو مذهب أحمد
وغيره أنه يرد بالغبن الفاحش لمن لم يعرف قيمة السلعة. وشرط نحو هذا الشرط.
ولابن ماجه وغيره "ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاثة أيام" والمراد
إذا
(3/138)
ظهر غبن. لأنه شكا في رواية ما يلقاه من
الغبن. وفي معنى الحديث أيضًا مما سيأتي وغيره دليل على ثبوت خيار الغبن.
وهو ثلاثة: أحدها المسترسل وهو من جهل القيمة ولا يحسن يماكس. بل يقول
أعطني هذا. والثاني زيادة الناجش.
والثالث التلقي. قال ابن القيم وفي الحديث غبن المسترسل ربا وهو الذي لا
يعرف قيمة السلع أو الذي لا يماكس بل يسترسل إلى البائع. واختار الشيخ
وغيره ثبوت خيار الغبن لمسترسل لم يماكس. وقال لا يربح على المسترسل أكثر
من غيره. وكذا المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص ينبغي أن لا يربح عليه
إلا كما يربح على غيره.
(ولهما عنه مرفوعًا نهى عن النَجْش) بفتح فسكون. قال ابن قتيبة هو الختل
والخديعة وهو لغة تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد. وشرعًا الزيادة في
ثمن السلعة المعروضة للبيع.
لا ليشتريها بل ليغر بذلك غيره. سمي الناجش في السلعة ناجشًا لأنه يثير
الرغبة فيها. ويرفع ثمنها. فيثبت له الخيار إذا غبن غبنًا يخرج عن العادة.
أو يزيد البائع بنفسه. والمشتري لا يعلم. قال الشيخ فإنه يكون ظالمًا
ناجشًا. وكذا لو أخبره أنه اشتراها بكذا وهو زائد عما اشتراها به. فيثبت له
الخيار. لأنه باعه مساومة.
وأجمع أهل العلم على تحريم النجش لأنه غرر. وقال ابن
(3/139)
أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن. والإثم
يختص بالناجش إن لم يعلم به البائع. فإن واطأه على ذلك أثما جميعًا. ولا
ريب أنه يحرم تغرير مشتر بأن يسومه كثيرًا ليبذل قريبًا منه. كأن يقول في
سلعة ثمنها خمسة أبيعها بعشرة. وجزم به الشيخ وغيره. وأعظم من ذلك أن يقول
أعطيت بها كذا وهو كاذب.
(وعن ابن عباس مرفوعًا لا تلقوا الركبان) جمع راكب ولهما عن ابن مسعود "نهى
عن تلقي البيوع" ولمسلم عن أبي هريرة "نهى أن يتلقى الجلب" فالتنصيص على
الركبان خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام وغيره يكون في الغالب
راكبًا. وحكم الجالب الماشي حكم الراكب بلا نزاع. وفيها دليل على أن التلقي
محرم. وفي رواية لابن عمر "لا تلقوا السلع حتى يهبط بها السوق" وفي رواية
كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهى عن تلقي الركبان الذين يجلبون
إلى البلد أرزاق العباد للبيع. والمراد من خارج السوق الذي تباع فيه السلع.
وبيعه منهم كالشراء. لأن العلة التي هي مراعاة نفع الجالب. أو أهل السوق
حاصلة في ذلك.
قال (ولا بيع حاضر لباد) والحاضر المقيم في المدن والقرى. والباد المقيم
بالبادية. وفسره ابن عباس بقوله: لا يكون له سمسارًا أي دلالًا يتوسط بين
البائع والمشتري. وهو في الأصل المقيم الحاضر. ثم استعمل في متولي البيع
والشراء (متفق عليه) وللبخاري عن ابن عمر "نهى أن يبيع حاضر
(3/140)
لباد" ولمسلم عن جابر "لا يبيع حاضر لباد
دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ولهما عن أنس "نهينا أن يبيع حاضر لباد
وإن كان أخاه لأبيه وأمه".
فدلت هذه الأحاديث على أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للبادي من غير فرق أن
يكون البادي قريبًا له أو أجنبيًا. وسواء كان في زمن الغلاء أو لا. وسواء
كان يحتاج إليه أهل البلد أم لا. وسواء باعه له على التدريج أو دفعة واحدة.
والحكم منوط بالبادي. ومن في معناه. وإنما ذكر البادي لكونه الغالب. فألحق
به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين. وكما أنه لا يجوز أن يبيع
الحاضر للبادي كذلك لا يجوز أن يشتري له. لأنه قوله لا يبع كلمة جامعة تطلق
على الشراء. وفي رواية "أن تبيعوا أو تبتاعوا" يشهد لذلك قوله "دعوا الناس
يرزق الله بعضهم من بعض" وإن خالف وباع صح مع الإثم. وهذا مذهب الجمهور
الشافعي وأحمد وجماعة من المالكية وغيرهم.
(ولمسلم من حديث أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه
قال "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتلقى الجلب" مصدر بمعنى اسم
المفعول أي المجلوب. يقال جلب الشيء جاء به من بلد إلى بلد للتجارة. فإن
تلقاه إنسان فابتاعه (فإذا أتى) صاحب
السلعة (سيده السوق) الذي تعرف فيه قيم السلع (فهو بالخيار) أي بين أن يمضي
البيع أو يفسخ. ففيه أن ابتدأ التلقي من خارج السوق الذي تباع فيه السلع.
ومن حديث ابن عمر
(3/141)
"نهانا أن نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام"
وفي رواية "فإذا ورد السوق فهو بالخيار" فدل على انعقاد البيع. وهو مذهب
الجمهور. وقالوا لا يجوز تلقي الركبان ويثبت له الخيار مطلقًا. وهو ظاهر
النص.
وقال الشيخ أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - للركبان الخيار إذا تلقوا.
لأن فيه نوع تدليس وغش وخديعة. وقال ابن القيم نهي عن ذلك لما فيه من تغرير
البائع. فإنه لا يعرف السعر فيشتري منه المشتري بدون القيمة. ولذلك أثبت له
النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيار مع الغبن. فإن الجالب إذا لم يعرف
السعر كان جاهلًا بثمن المثل فيكون المشتري غارًا له. ومنه تلقي سوقة
الحجيج الجلب من الطريق. وسبقهم إلى المنازل يشترون الطعام والعلف. ثم
يبيعونه كما يريدون. فيمنعهم والي الحسبة.
(وعنه) أي أبي هريرة -رضي الله عنه- (مرفوعًا: لا تصروا الإبل) بضم ففتح أي
لا تربطوا أخلافها ليجتمع لبنها فيكثر. فيظن المشتري أن ذلك عادتها. فيزيد
في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها. وأصل التصرية حبس الماء. وقال أبو عبيد
التصرية حبس اللبن في الضرع. حين يجتمع. اهـ. وفيه "والغنم" واقتصر على ذكر
الإبل والغنم دون البقر. لأن غالب مواشيهم كانت من الإبل والغنم. والحكم
واحد. ولحديث "نهي عن التصرية للحيوان".
(3/142)
(فمن ابتاعها بعد ذلك) أي اشتراها بعد
التصرية (فهو بخير النظرين) أي الرأيين (بعد أن يحلبها) جعله قيدًا في ثبوت
الخيار. لكونها لا تعرف غالبًا إلا بعد الحلب. والجمهور على أنه إذا علم
بالتصرية ثبت له الخيار على الفور. ولو لم يحلبها (إن رضيها امسكها) وفي
رواية: إن شاء أمسكها (وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر متفق عليه) وللبخاري
(وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر" ولمسلم "فهو بالخيار ثلاثة أيام" ودل
الحديث على أنه لا يجوز رد اللبن ولو كان باقيًا على صفته. لم يتغير
لاختلاطه بالحادث وتعذر معرفة قدره.
ودل الحديث على أنه لا يلزم قبوله لذهاب طراوته واختلاطه بما تجدد عند
المشتري. وأخذ الجمهور بظاهر الحديث وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة. ولا
يعلم لهما مخالف في الصحابة. ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب
قليلًا أو كثيرًا. لتقدير الشارع لدفع التشاجر وقطع النزاع. وذكر ابن القيم
أن حديث المصراة أصح من حديث الخراج بالضمان بالاتفاق. مع أنه لا منافاة
بينهما. فإن الخراج ما يحدث في مالك المشتري. وهنا اللبن كان موجودًا في
الضرع. فصار جزءًا من المبيع. ولم يجعل الصاع عوضًا عما حدث. بل عن اللبن
الموجود في الضرع. وقت العقد. وتقديره بالشرع لاختلاطه بالحادث. وتعذر
معرفة قدره. فقدر قطعًا للنزاع. وبغير الجنس لأنه بالجنس قد يفضي إلى
الربا.
(3/143)
ودل الحديث أيضًا على صحة البيع مع
التصرية. وهو وما في معناه دليل على ثبوت خيار التدليس بما يزيد به الثمن.
وأصول الشريعة توجب الرد به وبالغش. والرد بها أولى من الرد بالعيب. ومنه
تسويد شعر الجارية وتجعيده. وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها للبيع. وغير
ذلك مما فيه تدليس وغش. وإظهار ما ليس معتادًا ليغر المشتري قال في الإنصاف
وتحسين وجه الصبرة وتصنع النساج وجه الثوب. وصقال الإسكاف وجه المتاع
ونحوه. يثبت للمشتري خيار الرد بلا نزاع. وقال الشيخ وإن دلس مستأجر على
مؤجر وغيره حتى استأجره بدون القيمة فله أجرة المثل. وإذا دلس على المشتري
رجع المشتري بالثمن على الأصح.
(ولمسلم عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر برجل يبيع طعامًا فأدخل
يده فيه) أي في الطعام (فإذا هو مبلول فقال من غشنا فليس منا) الغش ضد
النصح. من الغشش وهو المشرب الكدر.
وفي لفظ مر بصبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللًا، فقال: "ما هذا
يا صاحب الطعام" قال أصابته السماء يا رسول الله قال "أفلا جعلته فوق
الطعام كي يراه الناس. من غشنا فليس منا".
وهذا وعيد شديد يدل على تحريم الغش. وكتم العيب وهو إجماع. وأحاديث الوعيد
تجري على ظاهرها ليكون أوقع في النفس. وأبلغ في الزجر. قال الشيخ لا يجوز
بيع المغشوش ولا
(3/144)
عمله إذا لم يعلم قدر الغش. لأن المشتري لا
يعلم قدر الخلط. فيبقى المبيع مجهولًا. وكذا كل ما كان من الغش في المطعوم
والملبوس وغيره.
(وعن عقبة) بن عامر -رضي الله عنه- (مرفوعًا لا يحل لمسلم باع من أخيه
بيعًا وفيه عيب إلا بينه) له (رواه أحمد) وابن ماجه وغيرهما وفيه "المسلم
أخوالمسلم" وجاء نحوه من غير وجه. مما يدل على تحريم الغش وكتم العيب.
ووجوب تبيينه للمشتري. ولا نزاع في ذلك ويثبت الفسخ بالإجماع. قال ابن رشد
وبالجملة خيار الرد بالعيب ثابت للمشتري. ولما كان ذلك يختلف اختلافًا
كثيرًا كاختلاف المبيعات في صفاتها وجب إذا اتفقا على جهل صفة العيب المؤثر
في الثمن. وحجة من لم يجز البراءة على الإطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم
يعلم البائع. ومن باب الغبن والغش فيما يعلمه.
والعيب هو ما ينقص قيمة المبيع عادة عما طلب من الثمن كمرض وفقد عضو وزنا
الرقيق ونحو ذلك. فما عده التجار في عرفهم منقصًا أنيط به الحكم ومالا فلا.
قال الشيخ لا يطمع في إحصاء العيوب. لكن يقرب من الضبط ما قيل إن ما يوجد
بالبيع مما ينقص العين أو القيمة نقصًا يفوت به غرض صحيح يثبت الرد إذا كان
الغالب في جنس المبيع عدمه. قال الوزير اتفقوا على أن للمشتري الرد بالعيب
الذي لم يعلم به حال العقد ما لم يحدث عنده عيب آخر. وأن له إمساكه إن شاء
بعد
(3/145)
عثوره عليه. اهـ. وإن علم العيب فأخر الرد
لم يبطل خياره إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضى من التصرف ونحوه.
وإن اختلفا عند من حدث العيب فقال بعضهم قول بائع مع يمينه. وقال ابن القيم
قول من يدل الحال على صدقه. فإن احتمل صدقهما فقول بائع لأن المشتري يدعي
ما يسوغ فسخ العقد بعد تمامه ولزومه والبائع ينكره. وإن مات المبيع أو أبق
ونحوه وكان البائع علم العيب وكتمه عن المشتري فقال ابن رشد وغيره فقهاء
الأمصار على أنه فوت. ويرجع المشتري على البائع بقيمة العيب. ومذهب أحمد
وغيره يذهب المبيع على البائع.
(وللخمسة) عن ابن مسعود وغيره (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال (إذا اختلف المتبايعان) وفي لفظ "البيعان" أي البائع والمشتري. ولم
يذكر الأمر الذي فيه الاختلاف فيعم المبيع والثمن. وكل أمر يرجع إليهما.
وفي سائر الشروط المعتبرة (وليس بينهما بينة) تثبت قول أحدهما. وكذا لو
تعارضت بينتاهما (فالقول ما قال البائع) إذا وقع الاختلاف بينه وبين
المشتري في أمر من الأمور المتعلقة بالعقد ولكن مع يمينه كما جاء أمره
البائع أن يستحلف. وهذا مذهب أحمد وغيره (أو يترادان البيع) فإن تراضيا على
ذلك جاز بلا خلاف فلا يكون لهما خلاص من النزاع إلا التفاسخ أو حلف البائع.
والحديث صححه الحاكم وغيره. وذكر ابن عبد البر. أنه مشهور الأصل
(3/146)
عند جماعة تلقوه بالقبول. وبنوا عليه
كثيرًا من فروعه. وقال الخطابي قد اصطلح الفقهاء على قبوله. وذلك يدل على
أن له أصلًا. وإن كان في إسناده مقال. فدل على إثبات الخيار لاختلاف
المتبايعين.
(وفي لفظ إذا اختلفا) أي المتبايعان في أمر من الأمور المتعلقة بالعقد (ولا
بينة لهما) تبين ما اختلفا فيه (تحالفا) فيحلف بائع أولًا ما بعته بكذا.
وإنما بعته بكذا. ثم يحلف مشتر ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا. وكذا
في عين المبيع أو صفته ونحو ذلك. قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا
اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة فإنهما يتحالفان ويترادان وإن رضي
أحدهما بقول صاحبه أو حلف أحدهما ونكل الآخر أقر العقد. وذكروا الخيار في
البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر. وفي التولية والشركة والمرابحة
والمواضعة.
والخلف في الصفة. وتغير ما تقدمت رؤيته. وفقد شرط صحيح أو فاسد، وفوات غرض.
وظهور عسر ونحو ذلك. ومطل اختاره الشيخ.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
من ابتاع) أي اشترى (طعامًا) مكيلًا كان أو موزونًا أو معدودًا (فلا يبعه
حتى يقبضه متفق عليه) من غير وجه عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - وحكاه الشيخ وغيره إجماعًا
(3/147)
ولمسلم عن ابن عباس "حتى يكتاله" أي حتى
يأخذه بالكيل ولهما من غير وجه عن ابن عباس وغيره "حتى يستوفيه" وقال ابن
المنذر أجمع العلماء على أن من اشترى طعامًا فليس له أن يبيعه حتى يقبضه.
وقال الوزير اتفقوا على أن الطعام إذا اشترى مكايلة أو موازنة أو معادة فلا
يجوز لمن اشتراه أن يبيعه من آخر. أو يعاوض به حتى يقبضه الأول. فإن القبض
شرط في صحة هذا البيع.
وتواتر النهي عن بيع مطلق الطعام حتى يقبضه من غير فرق بين الجزاف وغيره.
وهو مذهب الجمهور. وفي نص حديث ابن عمر السابق كان الناس يتبايعون الطعام
جزافًا بأعلى السوق. فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه
حتى ينقلوه متفق عليه. ولمسلم "يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه
إلى مكان سواه قبل أن نبيعه" ولأحمد من حديث حكيم "إذا اشتريت شيئًا فلا
تبعه حتى تقبضه" وللبيهقي من حديث أبان "إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى
تقبضه" ولأبي داود من حديث زيد بن ثابت "نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى
يحوزها التجار إلى رحالهم" فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على أنه لا
يجوز بيع أي سلعة اشتريت إلا بعد قبض البائع لها. واستيفائها. إن كان
المبيع طعامًا يكال فبكيله. أو يوزن فبوزنه. أو يعد فبعده. وإن كان المبيع
يذرع فبذرعه أو ينقل فبنقله. أو غيره فبتخليته.
(3/148)
وعلة النهي عن البيع قبل القبض عجز المشتري
عن تسليمه. لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسمله. لا سيما إذا رأى المشتري قد
ربح فإنه يسعى في رد البيع إما بجحد أو احتيال في الفسخ. قال ابن القيم نهى
أن تباع السلع حيث تبتاع حتى تنقل. لأنه ذريعة إلى جحد البائع البيع، وعدم
إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيها. فيغره الطمع. وشح نفسه بالتسليم كما
هو الواقع. وأكده بالنهي عن ربح ما لم يضمن سدًا للذريعة. وهذا من محاسن
الشريعة. وألطف باب سد الذرائع. وقال الصحيح أنه لا يجوز بيع شيء من
المبيعات قبل قبضه بحال. وهو مذهب ابن عباس حيث يقول ولا أحسب كل شيء إلا
مثل الطعام. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. لحديث حكيم بن حزام وأبان وزيد بن
ثابت.
وقال ثبوت المنع في الطعام بالنص. وفي غيره إما بقياس النظر كما صح عن ابن
عباس أو بقياس الأولى. لأنه إذا نهى عن بيع الطعام قبل قبضه فغيره بطريق
الأولى فإنه لا فارق بين الطعام وغيره في ذلك. ويلحق بالبيع التصرفات بعوض
فيكون فعلها قبل القبض غير جائز كالبيع. ويجوز التصرف في المبيع بغير
البيع. ويجوز بيعه لبائعه والشركة فيه. وكل ما ملك بعقد سوى البيع فإنه
يجوز التصرف فيه قبل قبضه بالبيع وغيره. لعدم قصد
الربح. وإذا تعين ملك إنسان في موروث أو وصية أو غنيمة
لم يعتبر لصحة تصرفه قبضه بلا خلاف وينتقل
(3/149)
الضمان إلى المشتري بتمكنه من القبض. قال
الشيخ ويملك المشتري المبيع بالعقد. ويصح عتقه. قبل القبض إجماعًا فيهما.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى) أي
حكم (أن الخراج) أي الدخل والغلة والكراء (بالضمان رواه الخمسة) وصححه
الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وغيرهم. وضعفه البخاري.
لأن فيه مسلم بن خالد الزنجي. والباء متعلقة بمحذوف تقديره الخراج مستحق
بالضمان. فما يحصل من غلة العين المبتاعة للمشتري كأن يشتري عينًا ويستغلها
زمانًا ثم يعثر على عيب قديم لم يطلعه البائع عليه. أو لم يعرفه فله رد
العين وأخذ الثمن. وللمشتري مستغله.
فإن أصل الحديث أن رجلًا اشترى غلامًا في زمن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وكان عنده ما شاء الله. ثم رده من عيب وجده. فقضى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - برده بالعيب. فقال المقضي عليه قد استعمله. فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - "الخراج بالضمان" أي أن المبيع إذا كان له دخل
وغلة فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن لها يملك خراجها لضمان أصلها. ولا شيء
عليه. لما انتفع به لضمان أصله. فلو كان المبيع تالفًا في يده صار من
ضمانه. ولم يكن له على البائع رد.
وله النماء المتصل لتعذر انفصاله. ولا يرد المشتري نماء
(3/150)
منفصلًا إلا لعذر كولد الأمة. قال ابن رجب
وهو الأصح. وإن حملت أمة أو بهيمة بعد الشراء فالحمل نماء متصل. يتبعها في
الفسخ. فإن حملت بعد الشراء وولدته فمنفصل. ويرد ولد الأمة لتحريم التفرق
على كلا القولين.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا من أقال مسلمًا) وللبزار من أقال نادمًا (بيعته) أي
فسخ عقد البيع لندم المشتري (أقال الله عثرته) أي غفر زلته وخطيئته (رواه
أبو داود) رواه ابن ماجه وغيره. وصححه ابن حبان والحاكم. وفيه "أقال الله
عثرته يوم القيامة" وفي فضل الإقالة أحاديث أخر. وأجمعوا على مشروعيتها.
وحقيقتها رفع العقد الواقع بين المتعاقدين. وصورتها أنه اشترى أحد شيئًا من
رجل ثم ندم على شرائه إما لظهور الغبن فيه. أو لزوال رجاحته أو لانعدام
الثمن أو غير ذلك. فرد المبيع على البائع. وقيل البائع رده.
أزال الله مشقته وعثرته. لأنه إحسان منه على المشتري. لأن البيع قد ثبت فلا
يستطيع المشتري فسخه فاستحبت لذلك وكذا لو ندم البائع فأقاله المشتري وتجوز
قبل قبض المبيع بمثل الثمن. وهي فسخ لا بيع فلا خيار فيها ولا شفعة. ولا
تصح بزيادة على ثمن أو نقصه أو غير جنسه. لأن مقتضاها رد الأمر على ما كان.
فإن طلب أحدهما الإقالة وأبي الآخر فاستأنفًا بيعًا جاز.
(3/151)
باب الربا
أي باب ما يذكر فيه أحكام الربا والصرف. والربا لغة عبارة عن الزيادة يقال
ربا الشيء يربو إذا زاد. ومنه (اهتزت وربت) أي زادت. وأربى الرجل إذا عامل
في الربا {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ}
أي ليكثر. وشرعًا زيادة في شيء مخصوص. وهو الكيل والوزن. ويطلق الربا على
كل بيع محرم. وهو نوعان: ربا نسيئة، وربا فضل. والأول جلي. والثاني خفي.
فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم. والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي.
فتحريم الأول قصدًا. وتحريم الثاني وسيلة وتحريمه من باب سد الذرائع. لكونه
أخذ مال من غير عوض. ومال الإنسان متعلق حاجته. وله حرمة عظيمة فقد قال -
صلى الله عليه وسلم - "حرمة ماله كحرمة دمه" فوجب أن يكون أخذ ماله من غير
عوض محرمًا.
(قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وذلك أن
المشركين لما اعترضوا على أحكام الله في شرعه. وذلك الذي حل بهم أنهم قالوا
{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} لا فرق إن زدنا في الثمن في أول
البيع أو عند محله. فلم أحل هذا وحرم هذا فأكذبهم الله وأبطل قولهم. وأول
الآية {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} أي يعاملون به {لاَ يَقُومُونَ} أي
يوم القيامة من قبورهم مما يصيبهم بسبب أكل الربا {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي إلا كما يقوم
المصروع حال صرعه
(3/152)
وتخبط الشيطان له. وهذا رد على ما قالوه من
الاعتراض. مع علمهم بتفريق الله بين البيع والربا حكمًا.
وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه. العالم بحقائق الأمور ومصالح
العباد. وما ينفعهم فيبيحه لهم. وما يضرهم فينهاهم عنه. ولهذا قال تعالى:
{فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي بلغه من ربه تذكير وتخويف عن
الربا {فَانتَهَىَ} عن أكل الربا حال وصول الشرع إليه {فَلَهُ مَا سَلَفَ}
أي مضى من ذنبه بسبب المعاملة بالربا. لقوله تعالى: عفا الله عما سلف
{وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ} إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه {وَمَنْ عَادَ} بعد
التحريم إلى أكل الربا مستحلًا له {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُون} وهذا أبلغ وعيد.
{يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا} أي ينقصه ويهلكه أو يذهب ببركته من يد صاحبه.
أو يحرمه بركة ماله. ويعاقبه عليه يوم القيامة.
وفي الخبر "الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل" {وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ} أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا. ويضاعف بها الأجر والثواب
في العقبى. {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم} فاجر بأكل الربا
وقد بالغ تعالى في الزجر عن الربا.
ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ} أي خافوه
وراقبوه فيما تفعلون {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} أي اتركوا
(3/153)
ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس
أموالكم بعد هذا الإنذار والإعذار {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} بما شرع الله
لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك. لما بين تعالى أن من انتهى عن
الربا (فله ما سلف) فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين
الباقي في ذمة الغريم فقال {اتَّقُواْ اللهَ} واتقاؤه ترك ما نهى عنه
{وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وبين به الفرق بين المقبوض وما لم
يقبض، فالزيادة تحرم، وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم.
وإنما شدد في ذلك لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل، ثم حضر الوقت وظن
نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له، فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم،
فقال {اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} يعني إن كنتم
قد قبضتم شيئًا فمعفو عنه وإن لم تقبضوه أولم تقبضوا بعضه فذلك الذي لم
تقبضوه من الربا، كل كان أو بعضًا، فإنه محرم قبضه فذروه إن كنتم مؤمنين
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي إذا لم تذروا ما بقي من الربا {فَأْذَنُواْ}
أي فاعلموا أنتم واستيقنوا {بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} وهذا تهديد
شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا. قيل حرب الله النار وحرب رسوله
السيف.
{وَإِن تُبْتُمْ} أي تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه {فَلَكُمْ رُؤُوسُ
أَمْوَالِكُمْ} {لاَ تَظْلِمُونَ} بأخذ الزيادة {وَلاَ تُظْلَمُون} بوضع
رؤوس الأموال. بل لكم ما بذلتم من غير
(3/154)
زيادة عليه ولا نقص منه. قال ابن عباس هذه
آخر آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الحديث أنه قال في حجة الوداع "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع"
أي مبطل (لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) وقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا
مُّضَاعَفَةً} لا تزيدوا زيادات مكررة {وَاتَّقُواْ اللهَ} في أمر الربا
فلا تأكلوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من
ذلك.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
اجتنبوا) أبعدوا وهو أبلغ من لا تفعلوا ودعوا واتركوا (السبع الموبقات) أي
المهلكات جمع موبقة. سميت بذلك لأنها تهلك فاعلها في الدنيا لما يترتب
عليها من العقوبات. وفي الآخرة من العذاب (وذكر منها) أي من السبع الموبقات
(أكل الربا) وهو: فضل مال بلا عوض، وأكله تناوله بأي وجه كان. ولفظه قالوا
وما هن يا رسول الله قال "الشرك بالله" بدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به
"والسحر" وحد الساحر القتل عند الجمهور "وقتل النفس التي حرم الله إلا
بالحق" وفيه الوعيد الشديد بأن جزاءه جهنم. ثم عطف عليه أكل الربا "وأكل
مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات" (متفق عليه) وأجمعوا على أنها
من الكبائر.
(3/155)
ومر - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به
على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقال "من هؤلاء يا
جبرئيل" قال أكلة الربا. وقال - صلى الله عليه وسلم - "الربا سبعون حوبًا
أيسرها" أي في الإثم "مثل أن ينكح الرجل أمه علانية" شبهة به لاستقباحه في
العقل. والأحاديث في النهي عنه وذم فاعله مشهورة كثيرة جدًا.
(ولهما) من حديث أبي جحيفة وجابر رضي الله عنهما. وأهل السنن من حديث ابن
مسعود (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعن الله آكل الربا) أي آخذه وإن لم
يأكله. وإنما خص الأكل لأنه أعظم أنواع الانتفاع. وسبب إتلاف أكثر الأشياء
وإلا فالوعيد حاصل لكل من عامل به سواء أكل منه أو لا (وموكله) أي معطيه
لمن يأخذه فيأكله أو يبيعه وغير ذلك. والحديث دليل على تحريم تعاطيه وكاتبه
أي كاتب الربا.
(وشاهديه) وقال "هم في الإثم سواء" وللنسائي "ملعونون على لسان محمد – -
صلى الله عليه وسلم - " وفيه التصريح بتحريم الكتابة للمترابين والشهادة
عليهما وتحريم الإعانة على الباطل. وقال الشيخ وأما الشهادة على العقود
المحرمة على وجه الإعانة عليها فحرام.
(وعن عبادة بن الصامت) -رضي الله عنه- (أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال الذهب بالذهب) بجميع أنواعه من
(3/156)
مضروب ومنقوش وجيد ورديء. ومكسر وحلي وتبر
وخالص ومغشوش مثلًا بمثل يدًا بيد ونقل النووي وغيره الإجماع على ذلك
(والفضة بالفضة) أي مثلًا بمثل يدًا بيد إجماعًا. ويدخل في ذلك أنواع الفضة
مضروبة أو غير مضروبة (والبر بالبر) بضم الباء وهو الحنطة بجميع أنواعها
ومنه السلت. وفي لفظ "مدًا بمد" أي مكيالًا بمكيال (والشعير بالشعير) فيه
أنه صنف غير البر.
(والتمر) بجميع أنواعه (بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل) في المقدار (سواء
بسواء) لقصد التأكيد أو للمبالغة. فلا يباع موزون بجنسه إلا وزنًا. ولا
مكيل بجنسه إلا كيلا اتفاقًا. حكاه الوزير وغيره. لعدم تحقق التماثل بغير
معياره الشرعي. وما لا يتهيأ فيه الكيل كالتمور التي تغشاها المياه فالوزن.
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ثبت عنده كيل التمر بالمدينة استفيد
منه تأصيل المماثلة. وفي الاختيارات وما لا يختلف فيه الكيل والوزن مثل
الأدهان يجوز بيع بعضه ببعض كيلًا ووزنًا (يدًا بيد) أي حالًا مقبوضًا في
المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر.
وحكى الوزير وغيره الإجماع على أنه لا يجوز بيع جنس منها بجنسه إلا مثلًا
بمثل يدًا بيد. وأنه لا يباع غائب منها بناجز. وقد حرم في هذا الجنس الربا
من طريق الزيادة والنساء. ولهما عن عمر "إلا ها وها، أو هات وهاك". ومن
(3/157)
حديث أبي هريرة "يدًا بيد" وزيد بن أرقم
والبراء "نهى عن بيع الذهب بالفضة دينًا" وأجمع العلماء على تحريمه. وإنما
يشترط التقابض في الشيئين المختلفين جنسًا، المتفقين تقديرًا، كالذهب
بالفضة والبر بالشعير إذ لا يعقل التفاضل والاستواء إلا فيما كان كذلك. وفي
الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "اشترى من يهودي طعامًا بنسيئة".
وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلًا أو
مؤجلًا. كبيع الذهب بالحنطة. وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل قال
الجمهور العلة في الدراهم والدنانير الثمنية. وصوبه ابن القيم وغيره. فإنهم
أجمعوا على إسلامها في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما. فلو كان
النحاس والحديد ربويًا لم يجز بيعها إلى أجل بدراهم نقدًا. والتعليل بالوزن
ليس فيه مناسبة. وذكر نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول.
والمكيلات خصته طائفة بالقوت. وما يصلحه وهو قول مالك. قال ابن القيم وهو
الصواب. وفي الاختيارات العلة في تحريم ربا الفضل الكيل مع الطعم. وهو
رواية عن أحمد. وقال غير واحد إذا اتفقا في العلة واختلفا في الجنس منع
النساء. وجاز التفاضل. وإن اختلفا أيضًا في العلة جاز النساء والتفاضل.
واستثنى النقدان من الموزونات لئلا ينسد باب السلم
(فإذا اختلفت هذه الأصناف) الستة. وكذا ما في
(3/158)
معناها (فبيعوا كيف شئتم) أي بيعوا بعضها
ببعض من غير تقييد بصفة من الصفات.
(إذا كان يدًا بيد، رواه مسلم) وللترمذي وغيره "بيعوا الذهب بالفضة كيف
شئتم يدًا بيد. وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم
يدًا بيد" قال والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون أن يباع البر بالبر
إلا مثلًا بمثل. والشعير بالشعير إلا مثلًا بمثل. فإذا اختلفت الأصناف فلا
بأس أن يباع متفاضلًا إذا كان يدًا بيد. وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال
الوزير اتفقوا على أنه يجوز الذهب بالفضة وعكسه متفاضلين. وكذا التمر
بالحنطة أو الشعير أو الملح.
ولا بد في بيع بعض الربويات ببعض من التقابض. ولا سيما في الصرف وهو بيع
الدراهم بالذهب وعكسه. فإنه متفق على اشتراطه. فلو افترق المتصارفان قبل
قبض البعض أو الكل بطل العقد فيما لم يقبض. واتفقوا على أنه لا يجوز بيع
الجيد بالرديء من جنس واحد إلا مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد.
والمراد بالصنف الجنس وهو ما له اسم خاص يشمل أنواعًا كبر ونحوه. وفروع
الأجناس أجناس باختلاف أصولها.
(ولهما من حديث أبي سعيد نحوه) أي نحو حديث عبادة في "الذهب بالذهب والفضة
بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا
بمثل" وهو أصل في باب الربا (وفيه
(3/159)
فمن زاد أو استزاد) أي أعطي الزيادة أو طلب
الزيادة (فقد أربى) أي أوقع نفسه في الربا أو أتى الربا وتعاطاه. والمراد
أخذ أكثر مما أعطاه وهو ربا (الآخذ والمعطي فيه سواء) أي في الإثم.
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على تحريم ربا الفضل. وهو مذهب جمهور
العلماء. للأخبار المستفيضة في ذلك الثابتة عن جماعة من الصحابة. القاضية
بتحريم بيع هذه الأجناس بعضها ببعض متفاضلًا. وقال - صلى الله عليه وسلم -
في الذي أتاه بتمر جنيب "أكل تمر خيبر هكذا"؟ قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا
بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال "لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع
بالدراهم جنيبًا".
فيحرم التفاضل ولو اختلفا في الجودة والرداءة. ولا يجوز بيع شيء منها ببعضه
على التحري على الإطلاق. وقال ابن القيم حرم التفريق في الصرف وبيع الربوي
بمثله قبل القبض لئلا يتخذ ذريعة إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا.
فحماهم عن قربانه باشتراط التقابض في الحال. ثم أوجب عليهم فيه التماثل.
وأن لا يزيد أحد العوضين على الآخر إذا كانا من جنس واحد. حتى لا يباع مد
جيد بمدين رديئين. وإن كانا يساويانه.
سدًا لذريعة ربا النساء الذي هو حقيقة الربا. وأنه إذا
منعهم من الزيادة مع الحلول حيث تكون الزيادة في
(3/160)
مقابلة جودة صفة ونحوها. فمنعهم منها حيث
لا مقابل لها إلا مجرد الأجل أولى. فهذه حكمة تحريم ربا الفضل التي خفيت
على كثير من الناس اهـ.
ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا سويقه. ولا نيئه بمطبوخه ولا أصله بعصيره. ولا
خالصه بمشوبه. واتفقوا على أن الربا المحرم يجري في غير الأعيان الستة
المنصوص عليها. وأنه متعد منها إلى كل ملحق بشيء منها. ولا ربا فيما لا
يوزن عرفًا لصناعته كفلوس. ومعمول صفر ونحاس ورصاص عند الجمهور مالك وأبي
حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد. وغير ذهب وفضة فلا يصح مطلقًا.
ولا ربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن كبيض وجوز.
(وللأربعة) وغيرهم (عن سعد) يعني ابن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال (نهى
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر) وفي رواية سمعته "يسأل
عن اشتراء التمر بالرطب" فقال: "أينقضي الرطب إذا يبس" قالوا نعم "فنهى عن
ذلك" صححه ابن المديني والترمذي. وقال العمل عليه عند أهل العلم. ولأن
أحدهما أزيد من الآخر قطعًا بلينته فهو أزيد أجزاء من الآخر زيادة لا يمكن
فصلها وتمييزها. ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما
يتساويان به.
فدل على أن الشرط تحقق المماثلة حال اليبوسة. فلا يكفي
(3/161)
تماثل الرطب والتمر على رطوبته. ولا على
فرض اليبوسة. لأن تخمين فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر. وهذا قول أكثر أهل
العلم. وجوز أبو حنيفة بيع الرطب بالتمر إذا تساويا كيلًا. وحمل الحديث على
البيع نسيئة. كما جاء في بعض الروايات. وصرح الحافظ المنذري وغيره أنها غير
محفوظة.
وفي الصحيحين عن ابن عمر "نهى عن بيع الرطب بالتمر كيلًا" وعن بيع العنب
بالزبيب كيلا وعن بيع الزرع بالحنطة كيلا" والعلة في ذلك هو الربا لعدم
التساوي. ويدل على تحريمه أيضًا النهي عن بيع المحاقلة والمزابنة الآتي.
وفيه دليل على جواز بيع الرطب بالرطب، وهو مذهب الجمهور.
(ولمسلم عن جابر) -رضي الله عنه- (نهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (عن بيع الصبرة) وهي ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن (من التمر لا
يعلم كيلها) يعني الصبرة. وهذه صفة كاشفة للصبرة. لأنه لا يقال لها صبرة
إلا إذا كانت مجهولة الكيل فلا يجوز بيعها (بالكيل المسمى من التمر) فدل
الحديث أنه لا يباع جنس بجنسه وأحدهما مجهول المقدار. لأن العلم بالتساوي
مع الإتفاق في الجنس شرط لا يجوز البيع بدونه. ولا ريب أن الجهل بكلا
البدلين أو بأحدهما مظنة للزيادة والنقصان. وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه.
والقاعدة أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
(3/162)
(وفي الصحيحين) من حديث جابر وزيد بن أبي
أنيسة وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه (نهى عن بيع المحاقلة)
من الحقل وهو بيع ثمر النخل بالتمر كيلًا وبيع العنب بالزبيب كيلاً وبيع
الزرع بالحنطة كيلاً. والعلة في ذلك هو الربا. لعدم التساوي (و) أنه نهى عن
بيع (المزابنة) مفاعلة من الزبن وهو الدفع الشديد. قيل للبيع المخصوص
مزابنة. لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه. أو لأن أحدهما إذا
وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع لفسخه وأراد الآخر دفعه عن هذه
الإرادة بإمضاء البيع.
وفي خبر زيد ""المحاقلة أن يبيع الحقل بكيل من الطعام معلوم. والمزابنة أن
يباع النخل بأوساق من التمر" وقال الترمذي المحاقلة بيع الزرع بالحنطة.
والمزابنة بيع التمر على رؤوس النخل بالتمر. والعمل على هذا عند أكثر أهل
العلم كرهوا بيع المحاقلة والمزابنة وألحق الشافعي وغيره بذلك كل بيع مجهول
أو معلوم من جنس يجري الربا في نقده. وهو قول الجمهور.
(ولهما عن زيد بن ثابت) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
رخص في العرايا) أي في بيع تمر العرايا جمع عرية. والعرية هي النخلة. وفي
الأصل عطية ثمر النخلة. سميت بذلك لأنها أعريت من أن تخرص في الصدقة. فرخص
لأهل الحاجة الذي لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم. والترخيص في الأصل
التسهيل والتيسير. وفي العرف ما شرع من الأحكام
(3/163)
لعذر مع بقاء دليل الإيجاب والتحريم. لولا
ذلك العذر (أن تباع بخرسها كيلًا) أي أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك
النخلات بخرصها. وللبخاري عن رافع وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
"نهى عن المزابنة بيع التمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم".
(وفي لفظ يأخذها أهل البيت) يعني الذين لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر
قوتهم (بخرصها) أي بقدر ما فيها إذا كان تمرًا والخرص هو التخمين والحدس
كما تقدم (يأكلونه رطبًا) وفي لفظ "رخص في بيع العرية بالرطب أو الثمر. ولم
يرخص في غير ذلك" ولهما عن سهل "نهى عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا
أن تشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبًا" قال غير واحد العرية أن يشتري الرجل
تمر النخلات لطعام أهله رطبًا بخرصها تمرًا. يقول هذا الرطب الذي عليها إذا
يبس يحصل منه ثلاثة أوسق مثلًا. فيبيعه بثلاثة أوسق تمرًا ويتقابضان في
المجلس. فيسلم المشتري التمر. ويسلم البائع النخل. ولا يجوز في غير الرطب
والعنب من الثمار.
وأخرج الشافعي عن زيد بن ثابت أنه سمى رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبًا
ويأكلون مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر. فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا
بخرصها. من التمر. فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على أن حكم العرايا
مخرج
(3/164)
من بين المحرمات مخصوص بالحكم. وللبخاري من
حديث جابر "نهى عن بيع الثمر حتى يطيب. ولا يباع شيء منه إلا بالدنانير
والدراهم إلا العرايا".
(ولهما من حديث أبي هريرة فيما دون خمسة أوسق) أو في خمسة أوسق فيبقى الشك
ويعمل بالمتيقن وهو الأربعة فما دونها. وهذا مذهب الجمهور. قال ابن حبان
الاحتياط أن لا يزيد على الأربعة. قال الحافظ يتعين المصير إليه. فيشترط
للعرية خمسة شروط: أن تكون بمثل ما يؤول إليه. وفيما دون خمسة أوسق.
ولمحتاج لرطب ولا ثمن معه. بشرط الحلول والتقابض. وزيد أن يكون الرطب على
رؤوس النخل. فلو كان على وجه الأرض لم يجز لأن الرخصة وردت في بيعة على
رؤوس النخل ليؤخذ شيئًا فشيئًا وأن يكون التمر معلومًا بالكيل. والثامن
الحلول على قول أنهما شرطان.
(وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز
جيشًا) أي أن يهيء ما يحتاج إليه العسكر من مركوب وسلاح وغيره (فنفدت
الإبل) بفتح فكسر أي فنيت أو نقصت.
والمعنى أنه أعطى كل رجل جملًا وبقيت بقية من الناس بلا مركوب. فقال يا
رسول الله قد نفدت الإبل. وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم أي ليس لهم
إبل (فأمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) أي مؤجلًا إلى أوان
حصول إبل
(3/165)
الصدقة (رواه أبو داود) والحاكم وغيرهما
والدارقطني
وصححه.
وقال ابن القيم حديث عبد الله بن عمرو صريح في جواز التفاضل والنساء. وهو
حديث حسن وقال الحافظ إسناده قوي. وفي السنن وصححه الترمذي أنه - صلى الله
عليه وسلم - اشترى عبدًا بعبدين. وللبيهقي قال عمرو بن حريث لعبد الله بن
عمرو إنا بأرض ليس فيها ذهب ولا فضة أفأبيع البقرة بالبقرتين والبعير
بالبعيرين والشاة بالشاتين. فقال أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الحديث. وفي لفظ لأحمد وغيره فقال لي "ابتع علينا إبلًا بقلائص الصدقة إلى
محلها حتى تنفذ هذا البعث" قال فكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من
إبل الصدقة إلى محلها. حتى نفذت ذلك البعث. فلما جاءت إبل الصدقة أداها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والحاصل أنه أمره أن يبتاع عددًا من الإبل حتى يتم ذلك الجيش ويرد بدلها من
إبل الصدقة وفي قصة وفد هوازن " ومن لم تطب نفسه فله بكل فريضة ست فرائض من
أول ما يفيء الله علينا" وعن علي أنه باع جملًا يدعى عصيفيرًا بعشرين
بعيرًا إلى أجل. رواه مالك والشافعي وغيرهما. واشترى ابن عمر راحلة بأربعة
أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة.
ورافع بن خديج بعيرًا ببعيرين وأعطاه أحدهما. وقال آتيك بالآخر غدًا. وقال
ابن المسيب وغيره لا ربا في البعير بالبعيرين
(3/166)
والشاة بالشاتين إلى أجل. وورد في ذلك آثار
كثيرة. وعلل أحمد أحاديث المنع. وأنه ليس فيها حديث يعتمد عليه.
وقال أبو داود إذا اختلفت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرنا
إلى ما عمل به أصحابه من بعده. وذكر هو وغيره آثارًا عن الصحابة في جواز
ذلك متفاضلًا ونسيئة. وذهب جمهور العلماء إلى جواز بيع الحيوان بالحيوان
نسيئة متفاضلًا. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب الأصح يجوز مع الحاجة. وأما
مع الاختلاف في الأجناس كالعبيد بالثياب والشاة بالإبل فإنه يجوز عند جمهور
الأمة التفاضل فيه والنساء. وأما بيع الحيوان بالحيوان يدًا بيد متفاضلًا
وغير متفاضل فلا نزاع فيه.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (نهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- (عن بيع الكالئ بالكالئ رواه الدارقطني وفيه ضعف) وقد صححه الحاكم على
شرط مسلم. ولكنه تفرد به موسى بن عبده الربذي. وقال فيه أحمد لا تصلح
الرواية عنه عندي. ولا أعرف هذا الحديث عن غيره. وليس في هذا أيضًا حديث
صحيح. لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين. قال نافع الكالئ
بالكالئ هو بيع الدين بالدين. وقال أبو عبيد هو بيع النسيئة بالنسيئة.
وقد دل الحديث على عدم جواز بيع الدين. وهو إجماع أهل العلم كما حكاه أحمد
وابن عبد البر والوزير وغيرهم وله
(3/167)
صور منها بيع ما في الذمة بثمن مؤجل لمن هو
عليه أبو بحال لم يقبض أو جعله رأس مال سلم. وقال ابن القيم الكالئ هو
المؤخر الذي لم يقبض. كما لو أسلم شيئًا في شيء في الذمة وكلاهما مؤخر.
فهذا لا يجوز بالاتفاق. وكذا لا يجوز بيع كل معدوم بمعدوم.
وقال بيع الدين بالدين ينقسم إلى بيع واجب بواجب وهو ممتنع. وإلى بيع ساقط
بساقط. وساقط بواجب. وواجب بساقط. فالساقط بالساقط في صورة المقاصة.
والساقط بالواجب كما لو باعه دينًا له في ذمته بدين آخر من جنسه فسقط الدين
المبيع ووجب عوضه. وهو بيع الدين ممن هو في ذمته.
وأما بيع الواجب بالساقط. فكما لو أسلم إليه في كر حنطة مما في ذمته. وقد
حكى الإجماع على امتناعه. ولا إجماع فيه. واختار الشيخ جوازه. قال ابن
القيم وهو الصواب إذ لا محذور فيه. وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي
بلفظه. ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى. فإنه المنهي عنه قد اشتغلت فيه
الذمتان بغير فائدة. وأما ما عداه من الثلاث فلكل منهما غرض صحيح. وذلك
ظاهر في مسألة التقاص، فإن ذمتهما تبرأ من أسرها وبراءة الذمة مطلوب لهما.
وللشارع. فأما في الصورتين الأخيرتين فأحدهما يعجل براءة ذمته. والآخر يحصل
على الربح.
(3/168)
وإن كان بيع دين بدين فلم ينه الشارع عنه
لا بلفظه ولا بمعنى لفظه. بل قواعد الشرع تقتضي جوازه اهـ. لكن المنع هو
قول الجمهور. لا سيما في الاحتيال على المعسر في قلب الدين إلا معاملة أخرى
بزيادة مال. وذكر الشيخ أنه حرام باتفاق المسلمين. ويحرم أن يمتنع من إنظار
المعسر حتى يقلب عليه الدين. ومتى قال إما أن تقلب وإما أن تقوم عند الحاكم
وخاف أن يحبسه لعدم ثبوت إعساره عنده وهو معسر كانت المعاملة حرامًا غير
لازمة باتفاق أهل العلم. وللنهي عن بيع المضطر.
(وعن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- (قال اشتريت قلادة) وهي ما يعلق في
العنق ونحوه. وذلك يوم خيبر باثني عشر دينارًا (فيها خرز) هو بالفارسية
مهرة (وذهب) وفي رواية "خرز معلق بذهب" وفي رواية ذهب وجوهر (فقال النبي -
صلى الله عليه وسلم - لا حتى تفصل رواه مسلم) وأهل السنن وغيرهم.
وصححه الترمذي وغيره. ولأبي داود قال إنما أردت الحجارة. فقال "حتى تميز
بينهما" قال فرده حتى ميز بينهما.
فدل الحديث وما في معناه مما تقدم وغيره من النهي عن بيع الجنس بجنسه
متفاضلًا على تحريم بيع الذهب مع غيره بذهب حتى يفصل من ذلك الغير ويميز
عنه ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره. ومثله الفضة مع غيرها بفضة. وكذلك
سائر الأجناس الربوية لاتحادها في العلة. وهو بيع الجنس
(3/169)
بجنسه متفاضلًا. لعدم التمكن من معرفة
التساوي على التحقيق. كما تعذر الوقوف على التساوي في القلادة من غير فصل.
وهذا مذهب جمهور أهل العلم وهو المفتي به.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (قلت يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع)
بالباء وللبيهقي في بقيع الغرقد وكانوا يقيمون فيه السوق قبل أن يتخذ مقبرة
(فأبيع بالدنانير) ضرب من الذهب (وآخذ الدراهم) ضرب من الفضة (وأبيع
بالدراهم وآخذ الدنانير) وفي لفظ أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع
بالورق وآخذ مكانها الدنانير. (فقال لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم
تفترقا وبينكما شيء رواه الخمسة) وصححه الحاكم. فدل على جواز قضاء الذهب عن
الفضة والفضة عن الذهب بسعر يومها. وهو مذهب أحمد وغيره. ودل على أن جواز
الاستبدال مقيد بالتقابض في المجلس. وبسعر يومها. لا يقبض البعض دون الكل.
لأن ذلك من باب الصرف ومن شرطه أن لا يفترقا بينهما شيء وحكاه ابن المنذر
وغيره إجماعًا.
* * *
(3/170)
باب بيع الأصول
والثمار
أي باب أحكام بيع الأصول. جمع أصل وهو ما يتفرع عنه غيره. والمراد هنا
الدور والأرض والشجر. وأحكام الثمار جمع ثمرة وهو حمل الشجر. وحكم الجوائح
وما يتعلق بذلك. وذكر أهل العلم أن من باع دارًا شمل أرضها وبناءها وإن
كانت مما فتح عنوة. كما تقدم. وإن باع أرضًا شمل غرسها وبناءها. أو بستانًا
لأنه اسم للأرض والشجر. والحائط.
(وعن عثمان بن عفان) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال من يشتري بئر رومة) مشهورة في العقيق ليس بالمدينة ماء يستعذب غيرها
بخير له منها في الجنة (يوسع بها على المسلمين) وكانت لرجل من بني غفار
يبيع منها القربة بمد فبلغ ذلك عثمان قال عثمان -رضي الله عنه- (فاشتريتها)
من صلب مالي. ويأتي إن شاء الله في باب الوقف (حسنه الترمذي) فدل الحديث
على جواز بيع البئر والعين وما في معنى ذلك. وتقدم قول الشيخ وغيره. إن من
ملك ماء نابعًا كبئر محفورة في ملكه أو عين ماء في أرضه فله بيع البئر
والعين جميعًا. وأنه يجوز بيع بعضها مشاعًا. وإن كان أصل القناة في أرض
مباحة. فكيف إذا كان أصلها في أرضه. وأنه لا يعلم فيه نزاعًا.
(وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ابتاع) أي اشترى
(نخلًا مؤبرة) أي مشققة وملقحة. والتأبير التشقيق والتلقيح.
(3/171)
وذلك أنه يشق طلع النخلة الأنثى ليضع فيها
شيئًا من طلع النخلة الذكر. قال القاضي الحكم متعلق بالظهور دون نفس
التلقيح بغير خلاف بني العلماء. واختار الشيخ أنه منوط بالتأبير. وأناطوه
بالتشقيق لملازمته له غالبًا (فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع) أي
المشتري بقرينة الإشارة إلى البائع. وذلك كأن يقول المشتري اشتريت الشجرة
بثمرتها. وعن عبادة مرفوعًا "قضى أن ثمرة النخل لما أبرها إلا أن يشترط
المبتاع".
فدل الحديثان وغيرهما على أن من باع نخلًا وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل
الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع. إلا أن يشترطها المبتاع. فتكون
له. ودل بمفهومه على أنها إن كانت غير مؤبرة تدخل في البيع وتكون للمشتري
ودل على أنه يجوز أن يشترطها. وعلى أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا
ينافي البيع. وهذا مذهب جمهور العلماء. والبيع صحيح باتفاق أهل العلم.
والنهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها المراد بها المستقلة. وهنا الثمرة
تابعة للنخل. فتدخل تبعًا على القاعدة المشهورة.
قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إذا باع أصول نخل لا ثمر فيها فالبيع
صحيح. وكذا اتفقوا على صحة البيع للأصول وفيها ثمر باد. وإن كان غير مؤبر.
فقال مالك والشافعي وأحمد الثمرة للمشتري. وإن كان مؤبرًا فللبائع. إلا أن
يشترط المبتاع اهـ. وكذا لو صالح بالنخل أو جعله أجرة أو صداقًا أو عوض
(3/172)
خلع. بخلاف وقف ووصية. وكذا حكم شجر عنب
وتوت ورمان وجوز. وما ظهر من نوره كمشمش وتفاح. ومن أكمامه كورد وقطن.
وسائر الأشجار قياسًا على النخل.
قال (ومن ابتاع عبدًا) وظاهره أو أمة (له مال) أي في يده ملكه سيده إياه.
أو خصه به (فماله للذي باعه) لأن مال العبد لا يدخل في المبيع. ولاختصاص
البيع بالعبد دون غيره (إلا أن يشترط) أي المال (المبتاع) في العقد فله
(متفق عليه) وعن عبادة "قضى أن مال المملوك لمن باعه إلا أن يشترط المبتاع"
وفيها دليل على أن مال العبد لا يدخل في المبيع حتى ثياب الزينة. ونسبه
الماوردي لجميع الفقهاء وصححه النووي.
قال الماوردي إلا أن العادة جارية بالعفو عنها فيما بين التجار. وقوله
"المملوك" ظاهر في التسوية بين العبد والأمة. فهو في الدلالة أشمل. وإن كان
قصد المشتري المال الذي مع العبد اشترط علمه بالمال. وسائر شروط البيع.
لأنه مبيع مقصود أشبه ما لو ضم إليه عينًا أخرى. ويشمل بيع دابة. كفرس
لجامًا ومقودًا ونعلًا ونحوه في مطلق البيع. لجريان العادة به. فإن العمل
في الغالب بالعرف في ذلك ونحوه.
(ولهما عنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار) جمع ثمرة وهي أعم من
الرطب وغيره (حتى يبدو) بغير همز أي يظهر (صلاحهما أي حمرتها وصفرتها. وبدو
الصلاح إذا ظهر ولو في شجرة،
(3/173)
إذا اتحد البستان، والعقد، والجنس، فيتبع
ما لم يبد صلاحه بما بدا صلاحه. واكتفى ببدو صلاح بعضه. لأن الله امتن
علينا فجعل الثمار لا تطيب دفعة واحدة. إطالة لزمن التفكه. فلو اعتبر في
طيب الجميع لأدى إلى أن لا يباع شيء قبل كمال صلاحه. أو تباع الحبة بعد
الحبة. وفي كل منهما حرج.
وقال ابن القيم إذا بدا الصلاح في بعض الشجرة جاز بيعها جميعها. وكذلك يجوز
بيع ذلك النوع كله في البستان. وقال شيخنا يجوز بيع البستان كله تبعًا لما
بدا صلاحه. سواء كان من نوعه أولًا تقارب إدراكه وتلاحقه أو تباعد. وفي
الفروع واختار شيخنا بقية الأجناس التي تباع عادة كالتفاح. والعلة عدم
اختلاف الأيدي على الثمرة. ولمسلم ما صلاحه قال "تذهب عاهته" وفي لفظ "نهى
عن بيع النخل حتى تزهو. وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة" الآفة
تصيبه. فيفسد.
(نهى البائع والمبتاع) أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل. وأما
المشتري فلئلا يضيع ماله ويساعد البائع على الباطل. قال ابن المنذر أجمع
أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث. وفي البخاري من حديث زيد بن ثابت
"كان الناس يتبايعون الثمار فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه
أصاب الثمر الدمان" وهو فساد الطلع وسواده "أصابه مراض" داء يقع في الثمر
فيهلك. "أصابه قشام" أي تساقط "عاهات يحتجون
(3/174)
بها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فإما لا فلا تبتاعوا حتى يبدو صلاح الثمر".
(ولهما عن أنس نهى) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن بيع الثمار
حتى تزهو قيل) يا رسول الله (وما زهوها قال تحمار وتصفار)، وذلك دليل
خلاصها من الآفة. وإمارة الصلاح فيها. قال الخطابي لم يرد اللون الخالص من
الحمرة والصفرة.
وإنما أراد حمرة أو صفرة بكمودة. وقال ابن التين ظهور أوائل الحمرة والصفرة
قبل أن ينضج. وللخمسة "نهى عن بيع العنب حتى يسود" أي يبدو صلاحه "وعن بيع
الحب حتى يشتد ويأمن العاهة" واشتداده قوته وصلابته. والمراد بدو صلاحهما.
وقال ابن المنذر لا أعلم أحدًا من أهل العلم يعدل عن هذا الحديث. وكذا لا
يجوز بيع البطيخ ونحوه قبل بدو صلاحه وطيب أكله. وفي الصحيحين "نهى عن بيع
الثمرة حتى تطيب" وفي نحو قثاء حتى يؤكل عادة. ويجوز البيع قبل بدو الصلاح
بشرط القطع إذا كان المقطوع منتفعًا به كالخصوم إجماعًا. وأما بيع الرطبة
والبقل والقثاء والباذنجان ونحوه لقطة لقطة فيجوز.
وأما ما سيوجد منها. فقال الشيخ الصحيح أن هذه لم تدخل في نهي النبي - صلى
الله عليه وسلم - بل يصح العقد على اللقطة الموجودة واللقطة المعدومة حتى
تيبس المقثاة. لأن الحاجة داعية إلى ذلك. فيجوز بيع المقاثي دون أصولها.
وقال ابن القيم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول
(3/175)
الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من
الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام ولا بلفظ خاص. بل صحح الشارع
في بعض المواضع بيع الثمر. وإنما نهى عن بيع الثمار التي يمكن تأخير بيعها
حتى يبدو صلاحها. فلم تدخل المقاثي في نهيه. وقال إنما نهى عن بيع الغرر.
ولا يسمى هذا غررًا لا لغة ولا عرفًا ولا شرعًا. وأهل الخبرة يستدلون بما
ظهر من الورق على المغيب في الأرض. والمرجع في ذلك إليهم. وأيضًا العلم في
المبيع شرط في كل شيء بحسبه. وما احتيج إلى بيعه يسوغ فيه ما لا يسوغ في
غيره. فيجيز الشارع للحاجة مع قيام السبب. كما أقام الخرص في العرايا مقام
الكيل وغير ذلك.
(وقال إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك) بغير حق. وقيل إنه من قول
أنس. وله حكم الرفع.
(ولمسلم عن جابر مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لو
بعت) من أخيك (ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بمَ تأخذ
مال أخيك بغير حق) وفيها دليل على وضع الجوائح لأن معناه أن الثمر إذا تلف
كان الثمن المدفوع بلا عوض. فكيف يأكل البائع بغير عوض؟ إذ هو مال أخيه لا
ماله. فلم يستحقه. وأجمعوا على أنه يفسد البيع قبل بدو الصلاح بشرط البقاء.
وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على المنع من بيع الثمرة
(3/176)
قبل بدو الصلاح وإن وقوعه في تلك الحالة
باطل. كما هو مقتضى النهي. وأجمعوا على عدم جوازه قبل خروجه. وظاهر النصوص
أن البيع بعد ظهور الصلاح صحيح سواء شُرط البقاء أو لم يشرطه. لأن الشارع
قد جعل النهي ممتدًا إلى غاية بدو الصلاح وما بعد الغاية مخالف لما قبلها.
(وفي رواية) لمسلم عن جابر -رضي الله عنه- (أمر) يعني النبي - صلى الله
عليه وسلم - (بوضع الجوائح) جمع جائحة. وهي الآفة التي تصيب الثمار
فتهلكها. من الجوح وهو الاستئصال. ولا خلاف أن البرد والقحط والعطش جائحة.
وكذلك كل ما كان من آفة سموية. وأما ما كان من الآدميين كالسرقة ففيه خلاف.
ولا بد من ضمانه على المتلف. قال ابن القيم: من غير مال غيره، بحيث يفوت
مقصوده عليه خير المالك بين أخذه وتضمين النقص. والمطالبة بالبدل. وهذا
أعدل الأقوال وأقواها. ودلت الأحاديث وما في معناها على وجوب إسقاط ما
اجتيح من الثمرة عن المشتري. وأن تلفها من مال البائع. وأنه لا يستحق على
المشتري في ذلك شيئًا والجمهور من غير فرق بين القليل والكثير. وبين البيع
قبل بدو الصلاح وبعده عملًا بظاهر الحديث. وقال يحيى بن سعيد لا جائحة فيما
أصيب دون ثلث رأس المال. وذلك في سنة المسلمين.
* * *
(3/177)
باب السلم
أي هذا باب يذكر فيه أحكام السلم والتصرف في المبيع وما يتعلق بذلك.
والسَلَم بفتح السين واللام السلف وزنًا ومعنى. وقيل السلف لغة أهل العراق.
والسلم لغة أهل الحجاز. وقال الأزهري: السلف والسلم واحد في قول أهل اللغة.
إلا أن السلف يكون قرضًا. والسلم شرعًا عقد على موصوف في الذمة مؤجل. شرع
على أكمل الوجوه لأجل الارتفاق من الجانبين. هذا يرتفق بتعجيل الثمن. وهذا
يرتفق برخص المثمن. بشروط زائدة على شروط البيع.
قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه يشترط للسلم ما يشترط للبيع. وأن السلم
يصح بستة شروط. أن يكون في جنس معلوم. وصفة معلومة. ومقدار معلوم. ومعرفة
مقدار رأس المال. وهذه زيادة على شروط البيع. ووجوب وفاء المُسلَم فيه مكان
العقد لا بد منه. وإن لم يشترط. فقد أجرى الشارع الشرط العرفي كاللفظي.
واتفقوا على مشروعية السَلَم والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ}
أي تعاملتم بالدين {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي مدة معلومة الأول والآخر
{فَاكْتُبُوهُ} الآية) أي اكتبوا الذي تداينتم به. إرشاد منه تعالى لهم
ليكون أحفظ للدين وميقاته. وأضبط للشاهد فيه.
(3/178)
ونبه على ذلك بقوله {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ
عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} قال
ابن عباس وغيره نزلت في السلم إلى أجل مسمى. وقال أشهد أن السلم المضمون
إلى أجل مسمى. أن الله أحله. وأذن فيه. وقرأ الآية. وهذا اللفظ يصلح للسلم
ويشمله. بعمومه. وقدم بز من الشام فقالت عائشة لو اشتريت منه ثوبين إلى
الميسرة. وتوفي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة بطعام لأهله. ويصح
السلم بألفاظ البيع لأنه بيع حقيقة. ويصح بلفظ السلم والسلف لأنهما أيضاً
حقيقة فيه. فهما اسم للبيع الذي عجل ثمنه وأجل مثمنه.
(وعن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم
المدينة) مهاجرًا من مكة. ومنها ابتدأ الناس التأريخ (وهم يسلفون) بضم
الياء أي يعطون الثمن في الحال ويأخذون المثمن في المآل (في الثمار السنة
والسنتين) منصوبان بنزع الخافض. أي يشترون إلى السنة والسنتين أو على
الظرفية أو المصدر. وللبخاري عامين أو ثلاثة. فيجوز السلم في منقطع الجنس
حالة العقد. ولا يشترط أن يكون عند المسلم إليه. لتقريره - صلى الله عليه
وسلم - لهم. وفي الصحيح عن ابن أبي أوفى وغيره قيل أكان لهم زرع؟ قال: ما
كنا نسألهم عن ذلك (فقال من أسلف في شيء) وفي لفظ "في ثمر" بالمثلثة
(فليسلف) أي يسلم (في كيل معلوم) أي إذا كان ما يكال. فيعتبر تعيين الكيل
فيما يسلم فيه من المكيل اتفاقًا (ووزن معلوم) إذا كان مما يوزن اتفاقًا
ويصح في
(3/179)
الموزون كيلًا وفي المكيل وزنًا. لأن الغرض
معرفة قدره وإمكان تسليمه من غير منازعة. فأي قدر قدره جاز وهو مذهب
الجمهور. وإن كان مما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم. وحكاه ابن
بطال إجماعًا. وكذا الزرع. فإن العدد والزرع يلحقان بالوزن والكيل للجامع
بينهما. وهو ارتفاع الجهالة بالمقدار.
واتفقوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم فيه صفة تميزه عن غيره.
وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن السلم جائز في المكيلات والموزونات
والمزروعات التي يضبطها الوصف. وقال الموقف وغيره المتفق عليه ثلاثة أوصاف
الجنس والنوع والرداءة. وأن هذه لا بد منها في كل مسلم فيه بلا خلاف.
ويضبط الحيوان بتسعة أوصاف الجنس والنوع والسن واللون والقدر والهزال
والسمن والجودة والرداءة. واستدل بعض أهل العلم بآية البقرة في حصر صفاتها.
حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان. كما هو
مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما في
الصحيحين "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر
إليها" وكما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - إبل الدية في قتل الخطأ وشبه
العمد بالصفات المذكورة في الحديث. والأصل في صحة
السلم فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا رواه مسلم.
ولأبي
(3/180)
داوود "ابتاع البعير بالعيرين وبالأبعرة
إلى مجيء الصدقة". واتفقوا على أن السلم في المعدودات التي لا تتفاوت
آحادها كالجوز والبيض جائز. إلا في رواية عن أحمد. وحكي أنهم أجمعوا على
أنه لا يجوز في مجهول من مكيل ولا موزون ولا غيرهما. قال (إلى أجل معلوم،
متفق عليه) فيعتبر الأجل في السلم وهو مذهب الجمهور. وللآية.
(ولابن ماجه عن عبد الله بن سلام) بن الحارث من ذرية يوسف من بني قينقاع
سيدهم. قيل نزلت فيه (وشهد شاهد من بني إسرائيل) مات -رضي الله عنه-
بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال (أما في حائط بني فلان فلا) أي لا يجوز السلم في بستان بعينه قال
ابن المنذر إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل
العلم. وقد كانوا في المدينة حيث قَدِم النبي - صلى الله عليه وسلم -
يسلمون في ثمار النخيل بأعيانهم فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لما
فيه من الغرر. إذ قد تصاب تلك النخيل بعاهة فلا تثمر شيئًا.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - "في كيل معلوم ووزن معلوم" احتراز من السلم
في الأعيان. وقال ابن القيم وغيره إذا شرط دخل في حد الغرر. فمنع أن يشترط
فيه كونه من حائط معين. لأنه قد يختلف فيمتنع التسليم. وإن أسلم في ذمته
واشترط عليه أن يعطيه من ثمرة نخله أو زرعه فقال الشيخ وغيره يجوز.
(3/181)
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل معلوم) ففيه اشتراط الأجل.
وأن يكون معلومًا كما تقدم. وفيه جواز معاملة أهل الذمة. (وارتهن منه درعًا
من حديد) وللبيهقي رهن درعًا عند أبي الشحم اليهودي. رجل من بني ظفر. بطن
من الأوس. وكان حليفًا لهم. (رواه البخاري) ونحوه عند مسلم وفي رواية لهما
توفي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا. وعن
أنس رهن درعًا له عند يهودي بالمدينة. وأخذ منه شعيرًا لأهله رواه البخاري.
فدل على جواز الرهن في السلم. وكذا الكفيل به. وهو مذهب الجمهور. واختاره
الشيخ وغيره.
(وعن عبد الله بن عمرو) -رضي الله عنهما- (نهى - صلى الله عليه وسلم - عن
ربح ما لم يضمن) أي ما لم يقبض. لأن السلعة قبل قبضها ليست في ضمان المشتري
إذا تلفت تلفت من مال البائع.
فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن أخذ ربحها وذلك مثل أن يشتري متاعًا ويبيعه
إلى آخر قبل قبضه من البائع. ودل الحديث على أن البيع باطل وربحه لا يجوز.
رواه الخمسة وغيرهم و (صححه الترمذي) وابن خزيمة والحاكم وغيرهم. وقال ابن
القيم: المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر. أو يبيعه بمعين مؤجل.
لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين وهو منهي عنه من جنس ما نهي عن بيع الكالئ
بالكالئ. والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته
بغيره من غير ربح.
(3/182)
(ولأبي داوود) وغيره (عن أبي سعيد مرفوعًا
من أسلم في شيء) من مكيل وموزون ونحوهما مما تقدم وغيره مما يجوز السلم فيه
(فلا يصرفه إلى غيره) أي لا يحل له جعل المسلم فيه ثمنًا لشيء قبل قبضه.
ولا يجوز بيعه قبل القبض. أي لا يصرفه إلى شيء غير عقد السلم. وقال ابن
رسلان أي ليس له صرف رأس المال في عوض آخر. كأن يجعله ثمنًا لشيء آخر فلا
يجوز له ذلك حتى يقبضه. وقال الموفق بغير خلاف علمناه. وقيل ولو لبائعه.
قال ابن القيم: وحكي إجماعًا وليس بإجماع. فمذهب مالك جوازه. وقد نص عليه
أحمد في غير موضع. وجوز أن يأخذ عرضًا بقدر قيمة دين السلم وقت الاعتياض.
ولا يربح فيه.
وقيل له إذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم. إذا
كان دون الشيء الذي له. وذكر حديث ابن عباس "إذا أسلمت في شيء فخذ عوضًا
أنقص منه ولا تربح مرتين" قال ابن المنذر وهذا قول صحابي ثبت عنه. وهو حجة
ما لم يخالف. قال ابن القيم فثبت أنه لا نص فيه ولا إجماع ولا قياس. وأن
النص والقياس يقتضيان الإباحة.
وقال ثبت عن ابن عمر: أني أبيع الإبل بالبقيع إلخ.
فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه. والنهي عن
بيع الطعام قبل قبضه إنما هو في المعين. أو المتعلق به حق
توفية. وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء.
(3/183)
وفائدته سقوط ما في ذمته. لا حدوث ملك له.
وقال إذا فسخ العقد بإقالة أو غيرها جاز أن يأخذ عن دين السلم عوضًا من غير
جنسه. وهو اختيار القاضي وشيخنا. ومذهب الشافعي. وهو الصحيح. فإن هذا عوض
مستقر في الذمة. فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون. ولا نص في المنع ولا
إجماع ولا قياس.
وقال إذا باع ما يجري فيه الربا بثمن مؤجل فحل فاشترى جنسًا آخر مما يمنع
ربا النساء فيهما. فمذهب مالك المنع. ومذهب الشافعي وأبي حنيفة الجواز.
واختاره الموفق وشيخنا. وغيرهما. وهو الصحيح. قال علي بن الحسين إذا لم يكن
حيلة مقصودة. فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد
الأول.
(وللبخاري من حديث أبي هريرة) أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من
أخذ أموال الناس) أي بالاستدانة أو حفظها أو غير ذلك (يريد أداءها) أي
قضاءها في الدنيا (أدى الله عنه) أي قضاها عنه بأن يسوق إلى المستدين ما
يقضي به دينه وغير ذلك. وفي الآخرة بإرضائه بما شاء تعالى وتقدس فلا يأخذ
من حسناته لصاحب الدين. ولابن ماجه وغيره مرفوعًا "ما من مسلم يدان دينًا
يعلم أنه يريد أداءه إلا أداه عنه في الدنيا والآخرة" (ومن أخذها) أي أخذ
أموال الناس بأي طريق من طرق الاستئكال (يريد إتلافها) عليهم لا لحاجة ولا
لتجارة،
(3/184)
بل لا يريد إلا إتلاف ما أخذ على صاحبه،
ولا ينوي قضاءها، إلا (أتلفه الله) إما بإهلاكه نفسه، ويشمل إتلاف طيب عيشه
وتضييق أموره وتعسر مطالبه ومحق بركته. ويحتمل إتلافه في الآخرة بتعذيبه.
قال ابن بطال فيه الحث على ترك استئكال أموال الناس. والترغيب في حسن
التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل اهـ. وفيه
الحث على حسن النية. والترهيب عن خلافه. وبيان أن مدار الأعمال على النية.
وأن من استدان ناويًا الإيفاء أعانه الله عليه. وللحاكم من حديث عائشة "ما
من عبد كانت له نية في وفاء دينه إلا كان له من الله عون".
* * *
(3/185)
باب القرض
أي هذا باب يذكر فيه فضل القرض وأحكامه وما يتعلق بذلك. وأصل القرض في
اللغة القطع. سمي به القرض لأن المقرض يقطع من ماله شيئًا يعطيه ليرجع إليه
مثله. وهو نوع من المعاملات على غير قياسها. لاحظها الشارع رفقًا
بالمحاويج.
قال ابن القيم: القرض من باب الإرفاق والتبرع. لا من باب المعاوضات. ولهذا
سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - منيحة لينتفع بما يستخلف منه. ثم يعيده
إليه بعينه إن أمكن. وإلا فنظيره أو مثله. وإن كان المقرض ينتفع بالقرض كما
في السفتجة. ولهذا كرهها من كرهها. والصحيح أنها لا تكره. وشرطه معرفة قدر
القرض ووصفه. ليتمكن من رد بدله. وأن يكون المقرض ممن يصح تبرعه. ويصح بلفظ
القرض والسلف. وما أدى معناهما. ويمكن بالقبض. والأصل في مشروعيته الكتاب
والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ}) أي أنفقوا في طاعة الله. والقرض كلما
يعطيه الإنسان ليجازى عليه مما يتعلق بالنفس والمال. وقيل المراد أقرضوا
عباد الله والمحتاجين من خلقه {قَرْضًا حَسَنًا} على أحسن وجه من كسب طيب
بإخلاص. وفي حديث النزول "من يقرض غير عديم ولا ظلوم" وسمى تعالى ما عمله
عباده المؤمنون على رجاء ما أعد لهم من الثواب قرضًا. لأنهم يعملونه لطلب
ثوابه {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ
(3/186)
خَيْرٍ} كلمة من جوامع الكلم تعم كل ما
يرغب فيه {تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} أي جميع ما تقدموه بين أيديكم من خير
فهو لكم حاصل {هُوَ خَيْرًا} من الذي تؤخرونه {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} نفعًا
وجزاء. فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره.
وقال {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً} ثم قال تعالى {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ} لما اجترحتم من السيئات {رَّحِيم} بكم. وعمومات الأدلة
القرآنية قاضية بفضل القرض. وقضاء حاجة المسلم. وكذا السنة. وهو مباح
للمقترض. وليس من المسألة المكروهة. لفعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا
يستقرض إلا ما يقدر أن يوفيه. إلا الشيء اليسير الذي لا يتعذر مثله عادة.
لئلا يضر بالمقرض. ولا بغيره ممن هو معروف بعدم الوفاء. لكونه تغريرًا بمال
المقرض وإضرارًا به.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
من نفس) بالتشديد أي فرج (عن مسلم كربة من كرب الدنيا) غمًّا أوهمًّا أو
عناء أو شدة. والكرب هو الغم الذي يأخذ النفس (نفس الله عنه كربة من كرب
يوم القيامة) أي فرج بذلك عنه. ولفظ البخاري من حديث أبي هريرة "ومن فرج عن
مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" (ومن يسر
على معسر) أي سهل على من كان له دين على فقير بإمهال وبترك بعض الدين أو
كله (يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) ما كان عسيراً.
(3/187)
وفيه "ومن ستر على مسلم" في قبح فلا يفضحه
أو كساه ثوباً "ستر الله عليه في الدنيا" فلا يفضحه "و" في "الآخرة" ستر
الله عيوبه يوم القيامة (والله في عون العبد) في حاجته (ما كان العبد في
عون أخيه) في قضاء حاجته فكما تدين تدان والجزاء من جنس العلم. والحديث
(رواه مسلم) وغيره. وفي الصحيح "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته"
ولابن ماجه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعًا "ما من مسلم يقرض مسلمًا
مرتين إلا كان كصدقة مرة" وله عن أنس مرفوعًا "الصدقة بعشر أمثالها والقرض
بثمانية عشر" حتى قيل: إنه أفضل من الصدقة. إذ لا يقترض إلا محتاج.
وفي هذه الأحاديث وغيرها من العمومات ما يدل على فضيلة القرض. وقضاء حاجة
المسلم. وتفريج كربته. وسد فاقته. ولا خلاف بين المسلمين في مشروعيته.
وجواز سؤاله عند الحاجة. ولا نقص على طالبه. ولو كان فيه شيء من ذلك لما
استسلف النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(ولهما عن أبي رافع) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
استسلف) أي استقرض (من رجل بكرًا) بفتح الباء. هو
الفتى من الإبل بمنزلة الغلام من الذكور (فقدمت عليه
إبل الصدقة) أي قطعة إبل من إبل الصدقة (فأمره) يعني
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع (أن يقضي الرجل) أي أن يوفي
الرجل (بكره) الذي كان استسلفه منه. فدل على جواز قرض
(3/188)
الحيوان. وهو مذهب الجمهور (فقال) يعني أبا
رافع (لا أجد) يعني في إبل الصدقة (إلا خيارًا) أي مختارًا.
(رَباعيًا) بفتح الراء وهو الذي استكمل ست سنين ودخل في السابعة حين طلعت
رباعيته. وكذلك الدين حيوانًا كان أو غيره. ففي الصحيحين عن جابر كان لي
عليه دين فقضاني وزادني (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أعطه
إياه) أي أعط الرجل الجمل الخيار الرباعي (فإن خير الناس أحسنهم قضاء)
وللترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال استقرض رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - سنًا فأعطى سنًا خيرًا من سنه. وقال "خياركم أحسنكم قضاء" ولفظ
الصحيحين كان له عليه سن من الإبل.
فدل الحديثان وما في معناهما على جواز الزيادة على مقدار القرض من
المستقرض. بل إنه يستحب لمن له عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من
الذي عليه. وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة عرفًا وشرعًا. ولا يدخل في
القرض الذي يجر نفعًا لأنه لم يكن مشروطًا من المقرض. وإنما ذلك تبرع من
المستقرض. وكذا لو أعطاه هدية بعد الوفاء بلا شرط ولا مواطأة. لأنه لم يجعل
تلك عوضًا في القرض ولا وسيلة إليه. ولو علمت زيادته لشهرته بسخائه كفعله
–صلى الله عليه وسلم. ودل الحديث على أن ما صح بيعه من حيوان ونقد وغيرهما
صح قرضه. وهو مذهب الجمهور إلا الأمة لغير محرم منها لإفضائه إلا ما لا
يباح.
(3/189)
(وكان عبد الله بن الزبير) -رضي الله عنه-
(يأخذ من أقوام بمكة دراهم) إذ كان واليًا عليها. وتسمى السفتجة (ثم يكتب
لهم بها) أي بالدراهم التي أخذ (إلى أخيه مصعب بن الزبير) وذلك سنة سبع
وستين (بالعراق) وكان جعله أميرًا عليها (فيأخذونها منه) أي من مصعب بن
الزبير.
(ولم ير ابن عباس بذلك) أي باستقراضه ذلك (بأسًا. رواه سعيد) ابن منصور في
سننه.
وقال ابن القيم الصحيح أن السفتجة لا تكره. وفي الاختيارات لو أقرضه في بلد
ليستوفي منه في آخر جاز على الصحيح. وقال ابن القيم لو أقرضه دراهم يوفيه
إياها في بلد آخر ولا مؤونة لحملها جاز لأنه مصلحة لهما. ولو أفلس غريمه
فأقرضه دراهم يوفيه كل شهر شيئًا معلومًا من ربحها جاز لأن المقرض لم ينفرد
بالمصلحة. أو كان له عليه حنطة فأقرضه دراهم يشتري له بها حنطة ويوفيه
إياها. أو أقرض فلاحه ما يشتري به بقرًا يعمل بها في أرضه أو بذرًا يبذره
فيها. واختاره الموفق وصححه ابن القيم. وقال ذلك لأن المستقرض إنما يقصد
نفع نفسه. ويحصل انتفاع المقرض ضمنًا. فأشبه أخذ السفتجة. وإيفاءه في بلد
آخر. من حيث إنه مصلحة لهما جميعًا. والمنفعة التي تجر إلى الربا في القرض
هي التي تخص المقرض.
(3/190)
(وسئل معاذ) ابن جبل -رضي الله عنه- (عن
استقراض الخبز) ورد مثله (والخمير) يعني العجين ورد مثله عجينًا. (فقال هذا
من مكارم الأخلاق) معالي السجايا والمروءات.
وقال مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من السلف يجوز قرض الخبز ونحوه. وقال في
الاختيارات يجوز قرض الخبز ورد مثله عددًا بلا وزن من غير قصد الزيادة. وهو
مذهب أحمد.
ويجوز قرض المنافع. ويصح تأجيل القرض. لخبر الذي أسلف ألف دينار إلى أجل
مسمى. وهو قول الأكثر. ويلزم إلى أجله. وهو مذهب مالك واختاره الشيخ. وصوبه
في الإنصاف ويملك القرض بقبضه ويرد مثله. وإن كان فلوسًا أو دراهم مكسرة
فمنع السلطان المعاملة بها فله القيمة وقت القرض. وكذا سائر الديون اختاره
الشيخ.
(وتقدم) قوله - صلى الله عليه وسلم - في باب الشروط في البيع (لا يحل سلف
وبيع) أي قرض وبيع مع السلف بأن يكون أحدهما مشروطًا في الآخر. وتقدم قول
أحمد أن يقرضه قرضًا ثم يبايعه بيعًا يزداد عليه. هو فاسد لأنه إنما يقرضه
على أن يحابيه في الثمن. وقول الوزير وغيره اتفقوا على أنه لا يجوز بيع
وسلف. وقول ابن القيم لأنه ذريعة إلى أن يقرضه ألفًا ويبيعه سلعة تساوي
ثمانمائة بألف أخرى. فيكون قد أعطاه ألفًا وسلعة بثمانمائة. ليأخذ منه
ألفين. وهذا هو عين الربا.
(3/191)
(وعن أنس مرفوعًا إذا أقرض أحدكم أخاه
قرضًا) أي أعطاه شيئًا من المال ليعيده إليه (فأهدى إليه) شيئًا أتحفه به
(أو حمله على الدابة) من موضع إلى آخر أو غير الدابة (فلا يركبها) وكذا لو
دفعها إليه ليحمل عليها ونحوه (ولا يقبله) أي لا يقبل ما أهدى إليه. ولا
الحملان ونحو إلا أن يحسبه من دينه. فمنع الشارع المقرض من قبول الهدية حتى
يحسبها من دينه. لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية. فيكون ربا.
فإنه يعود إليه ماله وأخذ الفضل الذي استفاده.
(إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك) يعني الإهداء لا لأجل القرض. وله
شواهد كثيرة (رواه ابن ماجه) وفيه ضعف إلا أنه يغتفر في فضائل الأعمال.
وللبخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام
فقال لي إنك بأرض فيها الربا فاش. فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل
تبن أو حمل شعير أو حمل قط فلا تأخذه فإنه ربا. وللبخاري أيضًا في تأريخه
عن أنس مرفوعًا "إذا أقرض فلا يأخذ هدية".
وورد غير ذلك من الآثار والأصول الشرعية ما يعضد ذلك مما يدل على أن الهدية
ونحوها إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدين. أو لأجل رشوة صاحب الدين. أو
لأجل أن يكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه. فذلك محرم. لأنه إما نوع من
الربا والربا محرم. أو نوع من الرشوة وهي حرام أيضًا
(3/192)
بالنصوص المستفيضة فيها. القاضية بتحريم
قبول المقرض هدية أو غيرها من المنافع.
والعلة في ذلك لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأخذ هدية عليه. أو أي
منفعة. فيكون ربا. لأنه يعود إليه ماله مع أخذ الفضل الذي استفاده. وإن كان
ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس.
(وقال ابن مسعود) -رضي الله عنه- (كل قرض جر نفعًا) نحو أن يسكنه داره أو
يقضيه خيرًا منه أو يهدي له أو يعمل له عملًا ونحو ذلك (فهو ربا) أو رشوة
وكلاهما حرام بالنصوص المستفيضة. وأبلغ في التحريم لو اشترط ما يجر نفعًا
مما مر أو غيره. وهذا الأثر وإن كان إسناده متكلمًا فيه فله شواهد عن ابن
عباس وعبد الله بن سلام وفضالة وغيرهم. ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وجمهور
السلف أنه إذا أقرض لا ينتفع. وكل غريم حكمه حكم المقرض. وصرحوا على أن ما
تبرع به المقترض لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به قبل القرض لم يجز.
لأنه إنما يتبرع به من أجل القرض. إلا أن ينوي المقرض مكافأته على ذلك
الشيء. بأن يفعل مثل فعله. أو يحتسبه من دينه فيجوز له قبوله.
وإن استضاف غريمه ولم تكن العادة جرت بينهما بذلك حسب له ما أكله. وأما إذا
قضى المقترض المقرض دون حقه
(3/193)
وحلله من البقية كان ذلك جائزًا. لحديث
جابر. وفيه فسألتهم أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحللوا أبي. وفي رواية سأل له
غريمه في ذلك. ولو حلله من جميع الدين جاز عند جميع أهل العلم. قرضًا كان
أو غيره. فكيف إذا حلله من بعضه؟!.
* * *
(3/194)
باب الرهن
أي هذا باب يذكر فيه الرهن وأحكامه وما يتعلق به. والرَهْن بفتح فسكون. وهو
لغة الثبوت والدوام والاحتباس. وهو المراد هنا. من قولهم رهن الشيء إذا دام
وثبت. ومنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} وشرعًا توثقة دين بعين
يمكن استيفاؤه منها. أو من ثمنها. ويطلق الرهن على العين المرهونة. تسمية
للمفعول باسم المصدر. وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ}) أي
فارتهنوا ممن تدينونه رهونًا مقبوضة لتكون وثيقة لكم بأموالكم. والرهان جمع
رهن بمعنى مرهون. والمرهون كل عين معلومة جعلت وثيقة في حق. ولو رهن ولم
يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم. فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا
يجوزَ له أن يسترجعه بلا إذن مرتهن ما دام شيء من الحق باقيًا. ولا ينفذ
تصرف واحد منهما فيه بغير إذن الآخر بالجملة، وقال ابن رشد اتفقوا على أن
القبض شرط في الرهن للآية. والجمهور أنه من شروط الصحة. وعلى أن من شرطه أن
يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن. وكذا قال البغوي وغيره اتفقوا
على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض.
واتفقوا على جواز الرهن في الحضر. ومع وجود كاتب. فإن الكل خرج مخرج الأعم
الأغلب لا على سبيل الشرط للخبر
(3/195)
الآتي وغيره اهـ. ولأنه عقد إرفاق يفتقر
إلى القبول فافتقر إلى القبض. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الذي عليه
أكثر أهل العلم. وإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزومه.
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ} أي فإن كان الذي عليه الحق أمينًا عند صاحب الحق ولم يرتهن
منه شيئًا لحسن ظنه به فليؤد إليه حقه {وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} في أداء
الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا جحود. بل يعامله المعاملة الحسنة
كما أحسن ظنه فيه.
وأجمعوا على جوازه في السفر. والجمهور على جوازه في الحضر. ومع وجود كاتب.
وليس بواجب إجماعًا. لأنه وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان. وإنما ندب إليه
حفظًا للأموال وسلامة من التنازع. ويصح الرهن مع الحق عند الجمهور وبعده
إجماعًا. لقوله {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} بعد قوله {وَلَمْ تَجِدُواْ
كَاتِبًا} فجعله بدلًا من الكتابة فيكون في محلها. ومحلها بعد وجوب الحق.
ولا يصح بدون إيجاب وقبول أو ما يدل عليهما. وتعتبر معرفة قدره وجنسه
وصفته. فلا يصح إلا فيما يصح بيعه في الجملة. وكون الراهن جائز التصرف
مالكًا للمرهون أو مأذونًا له فيه. قال ابن رشد لا خلاف أنه لا بد أن يكون
جائز التصرف. ومن صح أن يكون راهنًا صح أن يكون مرتهنًا.
(3/196)
ويعتبر أن يكون بدين ثابت أو مآله إلى
الثبوت.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي
ودرعه مرهونة عند يهودي) هو أبو الشحم كما رواه البيهقي وغيره (بثلاثين
صاعًا من شعير متفق عليه) وفي لفظ اشترى طعامًا من يهودي ورهنه درعًا من
حديد. وللبخاري عن أنس رهن درعًا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرًا
لأهله. والحديث دليل على مشروعية الرهن. ولا نزاع في جوازه. ودليل أيضًا
على صحة الرهن في الحضر وهو قول الجمهور. فإن التقييد في الآية بالسفر خرج
مخرج الغالب فلا مفهوم له. ودل على جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم
العين المتعامل فيها. وجواز رهن السلاح عند أهل الذمة لا أهل الحرب باتفاق
أهل العلم. وجواز الشراء بالثمن المؤجل وتقدم.
(وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يغلق الرهن) بفتح
الياء وسكون الغين أي لا يستحقه المرتهن إذا عجز صاحبه عن فكه. يقال غلق
الرهن إذا خرج عن ملك الراهن واستولى عليه المرتهن بسبب عجزه عن أداء ما
رهنه فيه. وكان هذا عادة العرب فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
يغلق الرهن "من صاحبه الذي رهنه". وأبطل فعل الجاهلية. ثم قال (له غنمه) أي
زيادته (وعليه غرمه) هلاكه ونفقته (رواه الدارقطني) ورواه الحاكم وغيره.
وقال الحافظ وغيره رجاله ثقات. فدل على أن نماء الرهن المتصل والمنفصل ملحق
بالرهن فيكون رهنًا معه وهو
(3/197)
مذهب الجمهور. ودل على أن مؤونته على
الراهن. وحكاه الوزير وغيره إجماعًا.
(ويأتي قوله) - صلى الله عليه وسلم - في باب العارية (على اليد ما أخذت)
أسنده إلى اليد على المبالغة لأنها هي المتصرفة (حتى تؤديه أي ما أخذته
اليد ضمان على صاحبها يلزم رده. والحديث دليل على وجوب رد ما قبضه المرء
وهو ملك لغيره من مرهون أو غيره). ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من
يقوم مقامه. فإن تعدي المرتهن أو فرط في الرهن ضمنه بالإجماع حكاه الوزير
وغيره. وإن تلف الرهن ونحوه في يد المرتهن أو غيره بغير تعدٍ ولا تفريط فلا
ضمان عليه. لأنه أمانة في يده كالوديعة.
ولا يسقط بهلاكه شيء من دينه. وإن تلف بعضه فباقيه رهن بجميع الدين. وهذا
مذهب الجمهور فإن الرهن يتعلق بجملة الحق المرهون فيه. وببعضه. فهو محبوس
بحق فوجب أن يكون محبوسًا بكل جزء منه. وقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ
عنه على أن من رهن شيئًا بمال فأدى بعضه وأراد إخراج بعض الرهن أن ذلك ليس
له حتى يوفيه آخر حقه. أو يبرئه. وليس له تملكه. بل متى حل الدين لزم
الراهن الإيفاء وإن امتنع فيإن كان أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى
الدين. وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن. فإن لم يفعل باعه الحاكم
ووفى الدين. وقال ابن رشد حق المرتهن في الرهن أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما
عليه. فإن لم يأت به عند الأجل فله أن
(3/198)
يرفعه إلى السلطان فيبيع عليه الرهن إن لم
يجبه إلى البيع. أو كان غائبًا.
وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فقال ابن القيم يصح وهو رواية عن
أحمد. وفعله. ولم يبطله كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا مفسدة
ظاهرة. وغايته أنه بيع علق على شرط. وقد تدعو الحاجة إليه. ولا يحرم عليهما
ما لم يحرمه الله ورسوله. ولا ريب أن هذا خير للراهن والمرتهن من الرفع
للحاكم اهـ. وإن رهن عند اثنين شيئًا فوفى أحدهما. أو أرهناه شيئًا فاستوفى
من أحدهما انفك في نصيبه بقسطه. وإن اختلفا في قدر الدين فقول المرتهن ما
لم يزد عن قيمة الرهن. قال ابن القيم وهو الراجح في الدليل.
(وللبخاري عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله على وسلم- قال الظهر) أي ظهر
الدابة (يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا) أي يستحق المرتهن الانتفاع بالرهن
في مقابلة نفقته (ولبن الدَرّ) بفتح فشد أي لبن الدابة ذات الضرع (يشرب
بنفقته إذا كان مرهونًا) ويُركب ويُشرب بضم أوله على البناء للمجهول. وهو
خبر بمعنى الأمر. وهذا الانتفاع في مقابلة النفقة. وذلك يختص بالمرتهن
(وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) وهذا أيضًا خبر في معنى الأمر. فدل الحديث
على أن للمرتهن أن يركب ما يركب وأن يحلب ما يحلب
من الرهن بقدر نفقته متحريًا في ذلك للعدل. لأن المراد
الانتفاع في مقابلة النفقة. وما فضل عن نفقته لربه.
(3/199)
وما عدا ذلك يكون رهنًا معه وإن فضل من
النفقة شيء رجع به على الراهن.
وقال ابن القيم دل الحديث وقواعد الشريعة وأصولها على أن الحيوان المرهون
محرم في نفسه لحق الله تعالى. وللمالك فيه حق الملك. وللمرتهن حق الوثيقة.
فإذا كان بيده فلم يركبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلًا. فكان مقتضى العدل
والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب
والحلب. ويعوض عنهما بالنفقة. فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوض منها نفقة
كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين. وقال الوزير أجمعوا على أنه إذا
أنفق المرتهن على الراهن بإذن الحاكم أو غيره مع غيبة الراهن أو امتناعه
كان دينًا للمنفق على الراهن.
قال الشيخ: فإن قال الراهن لم آذن لك في النفقة. قال هي واجبة عليك. وأنا
أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون. قال: ومحض العدل والقياس والمصلحة وموجب
الكتاب والسنة ومذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث وأهل السنة أن من أدى عن
غيره فإنه يرجع ببدله. والصواب التسوية بين الإذن وعدمه. والمحققون من
الأصحاب سووا بينهما. قال تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ} ولم يشترط إذنًا ولا عقدًا.
* * *
(3/200)
باب الضمان
مشتق من الضمن فذمة الضامن في ذمة المضمون عنه وقال القاضي من التضمن. وقال
الموفق من الضم. وشرعًا التزام ما وجب على غيره مع بقائه. وما قد يجب كثمن
مبيع وقرض.
ويصح بلفظ ضمين وكفيل وحميل وزعيم. وتحملت دينك وضمنته ونحو ذلك. قال الشيخ
وتلميذه وغيرهما قياس المذهب أنه يصح الضمان بكل لفظ فهم منه الضمان عرفًا.
لأن الشارع لم يحد ذلك بحد فيرجع فيه إلى العرف. وهو جائز بالكتاب والسنة
والإجماع في الجملة. ولا يصح إلا من جائز التصرف. ولا يصح ضمان مسلم جزية
على ذمي لفوات الصغار.
(قال تعالى: {وَلِمَن جَاء بِهِ}) أي صواع الملك ({حِمْلُ بَعِيرٍ}) من
الطعام. وسيأتي في الجعالة إن شاء الله تعالى {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيم} أي
ضامن حمل الطعام لمن جاء بالصواع. فدلت الآية على صحة ضمان المجهول إذا آل
إلى العلم. وكذا ما يؤول إلى الوجوب. لأن حمل البعير غير معلوم. فضمان
المعلوم أولى.
وقال ابن القيم يصح ضمان ما لا يجب. كقوله ما أعطيته فلانًا فهو عليَّ عند
الأكثرين. كما دل عليه القرآن. وذكر الآية. قال والمصلحة تقتضي ذلك. بل قد
تدعو إليه الحاجة والضرورة اهـ.
(3/201)
ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة
فصح في المجهول. ويصح ضمان السوق. وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما
يقبضه من عين مضمونة. كما قاله الشيخ وغيره. وقال يصح ضمان حارس ونحوه
وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر. وغايته ضمان مجهول وما لم يجب. وهو
جائز عند أكثر أهل العلم اهـ. ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه ولا له.
بل إنما يعتبر رضا الضامن.
(وعن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الزعيم) أي الضمين
(غارم) أي ملزم نفسه ما ضمنه فالغرم أداء شيء يلزمه. رواه أبو داود وغيره و
(حسنه الترمذي) فدل على لزوم غرم ما ضمنه. وقيل له مطالبة من شاء منهما.
قال ابن القيم وهو قول الجمهور. والقول الثاني: إن الضمان استيثاق بمنزلة
الرهن فلا يطالبه إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه لأن الضامن فرع ولا
يصار إليه إلا عند التعذر. ولم يوضع لتعدد الحق. وإنما وضع ليحفظ صاحب الحق
حقه من الهلاك. ويرجع إليه عند تعذر الاستيفاء. ولم ينصب الضامن نفسه لأن
يطالبه المضمون له مع وجود الأصيل ويسرته. والتمكن من مطالبته. والناس
يستقبحون هذا. ويعدون فاعله متعديًا. ولا يعذرونه بالمطالبة إلا إذا تعذر
عليه مطالبة الأصيل. وهذا أمر مستقر في فطر الناس ومعاملاتهم. وهذا القول
في القوة كما ترى اهـ. ومتى برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه.
(3/202)
(وعن سلمة بن الأكوع) -رضي الله عنه- (قال
أُتي بجنازة) قال الحافظ لم أقف على اسم صاحب هذه الجنازة (فقال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - هل عليه دين؟) وذلك قبل الفتح (قالوا: ثلاثة
دنانير) يعني ولم يترك وفاء (فقال صلوا على صاحبكم) وفي حديث أبي هريرة
"فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى، وإلا قال: صلوا على صاحبكم" (فقال أبو
قتادة هي عليَّ) أي الثلاثة الدنانير (فصلى عليه) رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (رواه البخاري) ولأحمد وأبي داود وغيرهما من حديث جابر: قلنا
ديناران فانصرف فتحملهما أبو قتادة. فقال "وجب حق الغريم وبرئ الميت منهما"
قال "نعم" فصلى عليه.
وللحاكم جعل إذا لقي أبا قتادة يقول "ما صنعت الديناران" حتى كان آخر ذلك
أن قال قضيتها يا رسول الله.
قال "الآن بردت جلدته" وللدارقطني من حديث علي كان إذا أُتي بجنازة لم يسأل
عن شيء من عمل الرجل. ويسأل عن دينه. وللبيهقي وأنا لهما ضامن. فدل الحديث
وما في معناه على صحة الضمان عن الميت وأنه لا رجوع له في مال الميت وهو
مذهب الجمهور. وصحة تحمل الواجب عمن وجب عليه وعلى فضله. وللبيهقي "ما من
مسلم فك رهان أخيه إلا فك الله رهانه يوم القيامة".
ودل على شدة أمر الدين فإنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الصلاة عليه. وتقدم
أنها شفاعة للميت. وشفاعته - صلى الله عليه وسلم - مقبولة. والدين لا
(3/203)
يسقط إلا بالتأدية. وكان هذا في أول
البعثة. ولما فتح الله عليه الفتوح كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين
فليسأل هل ترك لدينه وفاء وإلا قضاه. قال غير واحد من أهل العلم يلزم متولي
أمر المسلمين أن يفعله فيمن مات وعليه دين. ولأحمد "أنا أولى بكل مؤمن من
نفسه. فمن ترك دينًا فعلي" قال ابن بطال هذا ناسخ لترك الصلاة على من مات
وعليه دين. وقد حكى الحازمي إجماع الأمة على ذلك.
فصل في الكفالة
وهي التزام رشيد إحضار من عليه حق مالي لربه. وتنعقد بما بنعقد به الضمان.
بل هي نوع منه وتصح ممن يصح ضمانه. وإن ضمن معرفته أخذ به. قال الشيخ وغيره
إذا ضمن معرفة المستدين كضمنت لك معرفته أي أعرفك من هو؟ وأين هو؟ أخذ به.
فإن عجز عن إحضاره مع حياته ضمن ما عليه. ولا يكفي أن يذكر اسمه ومكانه.
والفرق بين الضمان والكفالة أن الضمان أضيق منها بدليل أنه لا يبرأ الضامن
من الضمان إلا بالأداء أو الإبراء. بخلاف الكفالة فإنها تسقط بموت المكفول
عنه أو تلف العين مثلًا. ويعتبر رضي الكفيل لا مكفول به. وتصح بكل عين
مضمونة وببدن من عليه دين.
(قال تعالى) حاكيًا عن يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} أي
(3/204)
قال يعقوب لبنيه لن أرسل بنيامين ابني معكم
{حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللهِ} أي حتى تعطوني ميثاقًا وعهدًا من
الله أي بسبب تأكده بإشهاد الله، وبسبب القسم عليه.
والميثاق العهد المؤكد بالقسم {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} أي حتى تحلفوا بالله
{إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} جاء بلفظ عام لجميع وجوه العلة أي لا تمتنعون
من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا أن تغلبوا كلكم. ولا تقدرون على تخليصه
{فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أكده عليهم فـ {قَالَ اللهُ عَلَى مَا
نَقُولُ} من طلب الموثق وإعطائه {وَكِيل} شهيد رقيب مطلع. والمعنى أنه
موكول إليه هذا العهد. فدلت الآية على جواز الكفالة.
(وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا لزم غريمًا له) أي تعلق مدينًا له
ودام معه (حتى يقضيه) أي يوفيه (أو يأتيه بحميل) كأمير أي كفيل (فجره إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي جذبه (فقال) رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (كم تستنظره) أي: تطلب منه أن ينظرك، والإنظار التأخير والإمهال
(قال: شهرًا) أي: ثم أقضيه حقه (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا
أحمل) أي أكفل لك (رواه أبو داود) والترمذي وغيرهما. ولفظة فتحمل بها النبي
- صلى الله عليه وسلم - وفيه فقضاها رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -.
فدل على صحة الكفالة.
وقال الشيخ في سجان ونحوه ممن هو كفيل على بدن الغريم كرسول الشرع بمنزلة
الكفيل عليه إحضار الخصم. فإن
(3/205)
تعذر إحضاره ضمن ما عليه. وإن كان المكفول
في حبس الشرع فسلمه إليه فيه برئ. وإن تعذر إحضار مكفول على كفيل مع بقاء
حياته. أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه وإن مات أو تلفت العين بفعل الله
تعالى. أو سلم المكفول نفسه برئ الكفيل. وفي الاختيارات إن لم يكن الوالد
ضامنًا لولده ولا له عنده مال لم يجز لمن له على الولد حق أن يطالب والده
بما عليه. لكن مهما أمكن الوالد معاونة صاحب الحق على إحضار ولده بالتعريف
ونحوه لزمه ذلك.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال (لا كفالة في حد) كحد زنا أو لواط أو سرقة أو شرب خمر
(رواه البيهقي بسند ضعيف) وقال: إنه منكر. ودل على أن الكفالة لا تصح في
الحدود. قال الموفق: هو قول العلماء. لأنه لا يجوز استيفاؤه من الكفيل. إلا
إذا كفل السارق بسبب غرم المسروق لأنه حق مالي. ولأن مبناها على الإسقاط.
والدرء بالشبهات. فلا يدخل فيها الاستيثاق. وقيل ولا ببدن من عليه حد قذف
أو قصاص. لأنه لا يمكن الاستيفاء من غير الجاني.
وقال الشيخ تصح الكفالة في ذلك. واختاره غير واحد. وهو مذهب مالك. وإحدى
الروايتين عن أحمد. وفي الصحيح أن حمزة الأسلمي أخذ كفلاء على رجل وقع على
جارية امرأته حتى قدم على عمر. وقال جرير والأشعث لابن مسعود في
(3/206)
المرتدين استتبهم وكفلهم فتابوا وكفلهم
عشائرهم. واستدل به البخاري في الديون بطريق الأولى. ولأنه حق لآدمي فصحت
الكفالة به كسائر حقوق الآدميين. وكذا إذا كفل بدن شخص لأجل مال بالعفو إلى
الدية ليدفعها.
* * *
(3/207)
باب الحوالة
مشتقة من التحول. أو من الحول. فالحوالة تحول الحق عن قولك تحول فلان من
داره. وهي نقل دين من ذمة إلى ذمة أخرى. ثابتة بالسنة والإجماع. وإن كانت
بيع دين بدين فلم ينه الشارع عن ذلك. بل قواعد الشرع كما قال ابن القيم
وغيره تقتضي جوازه. فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى
ذمة المحال عليه. ومما يبين أنها على وفق القياس أنها من جنس إيفاء الحق.
لا من جنس البيع. ولا تصح إلا على دين مستقر. فعلى ما له في الديوان ونحوه
إذن في الاستيفاء. ولا يعتبر استقرار المحال به. ويشترط رضى المحيل بلا
خلاف. والمحتال عند الأكثر. ويشترط أيضًا اتفاق الدينين جنسًا ووصفًا
ووقتًا وقدرًا.
(عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مطل الغني ظلم) المطل
التسويف والتأخير. من إضافة المصدر إلى الفاعل أي يحرم على الغني القادر أن
يمطل صاحب الدين. والمطل في الأصل المد. وقال الأزهري المدافعة. قال الحافظ
والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه من وقت إلى آخر بغير عذر مع الطلب. وهو
حرام على المتمكن. والجمهور على أنه يوجب الفسق. وقيل: إنه كبيرة (وإذا
اتبع أحدكم على ملي) أي جعل تابعًا للغير بطلب الحق. ولأحمد "إذا أحيل
أحدكم على ملي" كغني لفظًا ومعنى، وهو القادر بماله وقوله وبدنه. فمتى أحيل
عليه (فليتبع) بالتخفيف.
(3/208)
ولفظ أحمد "فليحتل" أي فليقبل الحوالة
(متفق عليه).
ولابن ماجه عن ابن عمر مرفوعًا "مطل الغني ظلم وإذا أحلت على ملي فاتبعه"
وحكى الموفق الإجماع على ثبوت الحوالة. وتصح بلفظ أحلتك بدينك على فلان. أو
خذ دينك منه. وغير ذلك مما يدل على المقصود. والحديث دليل على أن من أحيل
بحقه على ملي أن يحتال. وأوجبه الحنابلة. وأهل الظاهر. والجمهور على
الاستحباب. وإذا صحت الحوالة باجتماع شروطها. نقلت الحق المحال به إلى ذمة
المحال عليه. وبرئ المحيل بمجرد الحوالة. قال الموفق وغيره في قوله عامة
أهل العلم.
ومتى لم يكن المحال عليه قادرًا بماله وقوله وبدنه لم يلزم الاحتيال عليه.
لما في ذلك من الضرر على المحال. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر
بقبولها على الملي. وإذا صحت ثم تعذر القبض بحدوث حادث كموت أو فلس لم يكن
للمحتال الرجوع على المحيل. لأنه لو كان له الرجوع لم يكن لاشتراط الغنى
فائدة. فلما شرط علم أنه انتقل انتقالًا لا رجوع له. كما لو عوضه عن دينه
بعوض ثم تلف. وإن كان المحال عليه مفلسًا. ولم يكن المحتال رضي بالحوالة
عليه رجع بدينه على المحيل. لأن الفلس عيب ولم يرض به فاستحق الرجوع وإن
رضي فلا.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- (يتخارج) أي لا
(3/209)
بأس أن يتخارج (الشريكان) فيقتسمان يأخذ
هذا عينًا وهذا دينًا (وأهل الميراث) أي ويتخارج أهل الميراث يعني يصطلحان
(فيأخذ هذا عينًا) أي مالًا حاضرًا (وهذا دينًا) نقدًا أو غيره. سميت
مخارجة لأن الشريك يعطي شريكه ما يصالح عليه ويخرج نفسه من الشركة أو
الميراث (فإن توى لأحدهما) أي هلك له عين أو دين مما اقتسماه أو اصطلحا
عليه (لم يرجع على صاحبه) أي لم يرجع من هلك له شيء على من لم يهلك له
لاقتسامهم أو اصطلاحهم. فدل على أن المحتال إذا رضي بحوالة فهلك له شيء لم
يرجع على المحيل.
* * *
باب الصلح
أي هذا باب يذكر فيه الصلح وأحكام الجواز وما يتعلق بها. والصلح اسم مصدر
صالحه مصالحة وصِلاحًا بالكسر.
وهو لغة قطع المنازعة. وشرعًا معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين متخاصمين.
وهو خمسة أنواع بين المسلمين وأهل الحرب وبين أهل عدل وبغي. وبين زوجين خيف
شقاقهما. أو خافت إعراضه. وبين متخاصمين في غير مال. والخامس الصلح لقطع
الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأموال. وهو الذي يذكره الفقهاء هنا في باب
الصلح. وهو قسمان: صلح على إقرار. أو على إنكار. والحقوق نوعان: حق لله وحق
(3/210)
للآدمي. وحق الله لا مدخل للصلح فيه.
كالحدود والصلاة والزكاة. وإنما الصلح بين العبد وربه في إقامتها لا في
إهمالها. ولهذا لا يقبل في الحدود. وإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع
والمشفع. وأما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة
عليها. والصلح ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) أول الآية ({وَإِن طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}) أمر تعالى
بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض. حتى أمر بقتال الباغية
{حَتَّى تَفِيءَ} أي ترجع {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي إلى الحق {فَإِن
فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بحملهما على الإنصاف والرضى
بحكم الله. ثم قال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تعصوه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}.
وقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقال {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ
اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} وقال: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن
نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ
بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ
نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ثوابًا جزيلًا. وللترمذي وغيره وصححه "ألا
أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قلنا بلى! قال "إصلاح ذات
البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة" وقال لأبي أيوب "ألا أدلك على
تجارة"؟ قال بلى. قال "تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم
إذا تباعدوا" والأخبار في ذلك كثيرة.
(3/211)
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال "الصلح جائز" ليس بحكم لازم يقضي به. إن لم يرض به الخصم
(بين المسلمين) شمل كل صلح قبل اتضاح حق وبعده. وتخصيصه المسلمين خرج مخرج
الغالب. لأن الصلح جائز بين الكافر والمسلم وبين الكفار (إلا صلحًا حرم
حلالاً) بأن يشترط شرطًا مفسدًا للصلح فيحرم عليه ما يحل له بالصلح.
كمصالحة إحدى الزوجات لزوجها أن لا يبيت عند ضرتها. أو أن لا يطأها ونحو
ذلك.
(أو) إلا صلحًا (أحل حرامًا) كأن يصالحه على نصرة ظالم أو باغ. أو على حل
مال لا يحل له إلا بالصلح ونحو ذلك لم يصح الصلح. وقال ابن القيم كالصلح
الذي يتضمن تحريم بضع حلال. أو إحلال بضع حرام. أو إرقاق حر. أو نقل نسب.
أو ولاء عن محل إلى محل. أو أكل ربا أو إسقاط واجب. أو تعطيل حد. أو ظلم
ثالث وما أشبه ذلك. فكل هذا صلح جائر مردود.
فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضي
الله ورضي الخصمين. فهذا أعدل الصلح وأحقه. رواه
أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وغيرهم. و (صححه الترمذي) ونوقش على
تصحيحه. لأن في سنده كثير بن
عبد الله. واعتذر له الحافظ وغيره بأنه اعتبر بكثرة
(3/212)
طرقه. فرواه أبو داود من طريق كثير بن زيد
عن الوليد بن رباح. وقال الحاكم على شرطهما. وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي.
وأخرجه الحاكم من حديث أنس وعائشة. وأحمد من حديث سليمان بن بلال. وكتب به
عمر إلى أبي موسى. ولا ريب أن الطرق الكثيرة من جهات متفاوتة يشد بعضها
بعضًا. فتصلح للاحتجاج بها.
أما الصلح على الإقرار فجوازه ظاهر النصوص. وأما الصلح على الإنكار ففيه
تفصيل. فإن كان المدعي يعلم أن له حقًا عند خصمه جاز له قبض ما صوالح عليه.
وإن كان خصمه منكرًا. وإن كان يدعي باطلًا فإنه يحرم عليه الدعوى. وأخذ ما
صولح به. والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه وإنما ينكر لغرض وجب عليه
تسليم ما صولح به عليه. واتفقوا على أنه لا يحل أن يصالحه على بعض حقه. وهو
يعلمه. وإن كان يعلم أن له عنده حقًا جاز له إعطاء جزء من ماله في دفع شجار
غريم وأذيته. وحرم على المدعي أخذه. وبهذا تجتمع الأدلة.
قال ابن القيم قول من منع الصلح على الإنكار أنه يتضمن المعاوضة عما لا تصح
المعاوضة عليه. وهو إنما افتدى نفسه من الدعوى واليمن. وتكليف إقامة
البينة. وليس هذا مخالفًا لقواعد الشرع. بل حكمة الشرع وأصوله وقواعده
ومصالح المكلفين تقتضي ذلك.
(3/213)
(ولأبي داود) وغيره (عن أم سلمة) رضي الله
عنها (مرفوعًا قال اذهبا) وذلك أنه جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست. ليس بينهما بينة فقال "إنكم
تختصمون إليَّ وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض. وإنما أقضي
بينكم على نحو ما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه. فإنما
أقطع له قطعة من النار يأتي بها اسطامًا في عنقه يوم القيامة" فبكى
الرجلان. وقال كل واحد منهما حقي لأخي. فقال "أما إذا قلتما فاذهبا"
(فاقتسما) يعني تلك المواريث التي كانت بينهما. وقد درست (ثم توَخَيا) بفتح
الواو والخاء أي اقصدا (الحق) فيما تصنعان من القسمة.
(ثم استهما) أي ليأخذ كل واحد منكما ما تخرجه القرعة من القسمة. ليتميز سهم
كل واحد منكما عن الآخر (ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) أي ليسأل كل واحد
منكما صاحبه أن يجعله في حل من قِبَله بإبراء ذمته. فدل على صحة الصلح
بمعلوم عن مجهول. ولكن لا بد مع ذلك من التحليل. ودل على صحة التحليل من
المعين المعلوم. وهو إجماع. وأن من حلل خصمه من مظلمة لا رجوع له في ذلك.
أما المعلوم فلا نزاع فيه. وأما المجهول الذي يتعذر علمه من دين أو عين
بمعلوم فيصح لهذا الخبر وغيره. ولئلا يفضي إلى ضياع المال. أو بقاء شغل
الذمة. وإن لم يتعذر علمه فكبراءة من مجهول.
(3/214)
فيصح على المشهور قطعًا للنزاع. وما لا
يتعذر علمه كشركة باقية صالح الورثة الزوجة عن حصتها منها. فقال شريح هذا
هو الريبة ولأن الصلح إنما جاز مع الجهالة للحاجة إليه لإبراء الذمم.
وإزالة الخصام. فمع إمكان العلم لا حاجة إليه.
(وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرماء عبد الله) وذلك أنه قتل يوم
أحد شهيدًا وعليه دين. فاشتد الغرماء في حقوقهم. فجاء ابنه جابر إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - ليشفع له إليهم (أن يقبلوا ثمر حائطه) عن الدين
الذي لهم عليه (ويحللوه رواه البخاري) ثم قال لجابر "جد لهم فأوف الذي لهم"
وفي لفظ "فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة" فجددتها فقضيتهم. وبقي لنا
من ثمرها. وفي لفظ سبعة عشر وسقًا. فدل الحديث على جواز المصالحة بالبعض.
لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط بعض حقه.
ويصح ولو بمجهول عن معلوم. لأنه يغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر
ابتداء. وقال ابن القيم يصح الإسقاط والتأجيل وهو الصواب. بناء على تأجيل
القرض والعارية. وهو مذهب أهل المدينة. واختاره شيخنا. وقال وإن صالحه
ببعضه حالًا مع الإقرار والإنكار جاز. وهو قول ابن عباس. وإحدى الروايتين
عن أحمد. واختاره شيخنا. فإن هذا عكس الربا. فإن الربا يتضمن الزيادة في
أحد العوضين في مقابلة الأجل. وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في
مقابلة سقوط الأجل. فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل.
(3/215)
فانتفع به كل واحد منهما. ولم يكن هنا ربا
لا حقيقة ولا لغة ولا عرفًا. والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا. ولا
يخفي الفرق الواضح بينهما اهـ.
وقول بعضهم إن لم يكن بلفظ الصلح. فالصلح معناه قطع المنازعة. فإن أوفاه من
جنس حقه فوفاء. أو من غير جنسه فمعاوضة. أو إبراء من بعضه فإسقاط. أو وهبه
له فهبة. فالخلاف في التسمية. والمعنى متفق. ولم يخرج بذلك عن كونه صلحًا.
وهذا الحديث وحديث أم سلمة مخصص للعمومات المتقدمة القاضية بوجوب معرفة
مقدار كل واحد من البدلين المتساويين جنسًا وقدرًا. فيجوز القضاء مع
الجهالة إذا وقع الرضا والتحليل.
(ولهما عن عبد الله بن كعب) ابن مالك الأنصاري السلمي المدني وكان قائد
أبيه حين عمي ومات سنة سبع وتسعين (أن أباه) كعب بن مالك -رضي الله عنه-
(تقاضى ابن أبي حدرد) الأسلمي -رضي الله عنهما- (دينًا) كان له أي لكعب على
ابن أبي حدرد. فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فخرج إليهما ونادى كعبًا (فأشار إليه) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -
بيده الشريفة (أن ضع الشطر) من دينك" قال كعب قد فعلت يا رسول الله. قال
"قم فاقضه" ولأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه. كما لا يمنع من استيفائه
بلا نزاع.
ويحتمل أن يكون نزاعهما في مقدار الدين. فيكون الصلح
(3/216)
عن إنكار. ويحتمل أن يكون في التقاضي.
والأمر على جهة الوجوب. ومحل صحة الإسقاط ونحوه. أن لا يمنع من عليه الحق
ربه بدون الإسقاط ونحوه. لأن منعه أكل المال الغير بالباطل. إلا إن أنكر من
عليه الحق ولا بينة فإنه يصح الصلح مما ذكر ونحوه. ومتى اصطلحا ثم بعد ذلك
ظهرت بينة فاختار الشيخ نقض الصلح. لأنه إنما صالح مكرهًا في الحقيقة. إذ
لو علم البينة لم يسمح بشيء من حقه.
(ومن حديث عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- (في قتل العمد)
وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "من قتل متعمدًا دفع إلى أولياء
المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وذلك عقل العمد" ولقصة ربيع
في الصحيحين وغيرهما (وما صولحوا عليه) أي زائدًا عن دية العمل. وهي كما في
الحديث (ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة) ثم قال: (وذلك عقل العمل)
يعني الذي قدره الشارع. وما صولحوا عليه من الزيادة (فهو لهم) وذلك لتشديد
العقل. والحديث رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما من طرق يشد بعضها بعضًا. و
(حسنه الترمذي) والحديث دليل على جواز الصلح في الدماء بأكثر من الدية. وفي
الاختيارات ويصح عن دية الخطأ. وعن قيمة المتلف غير المثلي بأكثر منها من
جنسها.
(وعن أبي حميد الساعدي مرفوعًا) أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال (لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب
(3/217)
نفس منه) أي سماحه بها (رواه الحاكم) في
صحيحه وابن حبان وغيرهما. وفي معناه أحاديث كثيرة: منها ما في الصحيحين "لا
يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه" ولأبي داود وغيره "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه
لا لاعبًا ولا جادًا" وهذه الأحاديث وما في معناها دالة على تحريم مال
المسلم إلا بطيبة من نفسه. وإن قل. وتقدم "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم
عليكم حرام" وهو شامل.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من كانت عنده
مظلمة) أي من كانت عليه مظلمة (لأخيه من عرض) العرض موضع المدح والذم سواء
كان في النفس أو السلف. أو من يلزمه أمره (أو شيء) هو من عطف العام على
الخاص.
فيدخل فيه المال بأصنافه. والجراحات حتى اللطمة ونحوها (فليتحلله) أي
ليسأله أن يجعله في حل (منه اليوم) أي في دار الدنيا. وفيها دينار ودرهم
(قبل أن لا يكون دينار ولا درهم) أي يوم القيامة (إن كان له عمل صالح) عمله
في دار الدنيا وقت العمل (أخذ منه بقدر مظلمته) أي أخذ من عمله الصالح في
الآخرة.
(وإن لم تكن له حسنات) يؤخذ منها يوم القيامة بقدر مظلمة الظالم للمظلوم
(أخذ من سيئات صاحبه) أي صاحب المظلمة (فحمل عليه) أي على الظالم. وفي
رواية لمالك "فطرحت عليه (رواه البخاري)، ولمسلم "المفلس من
(3/218)
أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام
وزكاة وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من
حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه
وطرح في النار" وإذا حلله في حياته من ظلمه فلا رجوع فيه فيما مضى
بالاتفاق. وفيما سيأتي فيه خلاف.
فصل في الجوار
وأحكامه وما يتعلق به وما يصح فيه من الصلح والجوار مصدر جاوره قرب من
مسكنه.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
لا يمنع) بالجزم وفي لفظ لا يمنعن (جار جاره أن يغرز خشبه) بصيغة الجمع.
وللبيهقي عن ابن عباس: أن يدعم جذوعه (في جداره) أي جدار جاره المالك
للجدار. ثم يقول أبو هريرة وذلك أيام إمارته على المدينة زمن مروان مالي
أراكم عنها معرضين. والله لأرمين بها بين أكتافكم (متفق عليه) أراد بذلك
المبالغة. والأحاديث تدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب
في جدار جاره. ويجبره الحاكم إذا امتنع. لأنه حق ثابت لجاره. وهو مذهب أحمد
وأهل الحديث وغيرهم. قال البيهقي لم نجد في السنة الصحيحة ما يعارض هذا
الحكم. إلا عمومات لا يستنكر أن يخصها.
(3/219)
وقضى به عمر -رضي الله عنه- في زمن وفور
الصحابة.
وقال الشافعي لم يخالفه أحد من الصحابة. وإطلاق الأحاديث قاض بعدم اعتبار
تضرر المالك. إلا أنه يجب على من يريد الغرز أن يتوق الضرر مهما أمكن. فإن
لم يمكن إلا بإضرار وجب على الغارز إصلاحه. وذلك ما يقع عند فتح الجدار
لغرز الخشب. وأما اعتبار حاجة الغارز إلى الغرز فأمر لا بد منه. وإن صالح
عن شيء من ذلك بعوض معلوم صح.
(ولابن ماجه عن ابن عباس مرفوعًا لا ضرر ولا ضرار) ورواه عن عبادة. وروي
أيضًا من حديث أبي سعيد وغيره. قال ابن كثير هو حديث مشهور. ولأبي داود
وغيره "من ضار ضار الله به. ومن شاق شاق الله به" ويشهد له كليات وجزئيات.
وهو لا شك قاعدة من قواعد الدين. يدل على تحريم الضرار على أي صفة كان من
غير فرق بين الجار وغيره. وفي حق الجار أشد لعظم حقه. والضرر قيل فعل
الواحد.
والضرار فعل الإثنين فصاعدًا. وقيل الضرار أن تضره من غير أن تنتفع. والضرر
أن تضره وتنتفع أنت به وقيل غير ذلك.
وقال الوزير اتفقوا على أن للرجل التصرف في ملكه ما لم يضر بجاره والمضارة
مبناها على القصد والإرادة. أو على فعل ضرر عليه. فمتى قصد الإضرار ولو
بالمناخ. أو فعل الإضرار من غير استحقاق فهو مضار. وأما إذا فعل الضرر
المستحق للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الإضرار فليس بمضار. ومنه
(3/220)
قوله لصاحب النخلة لما طلب المعاوضة عنها
بعدة طرق فلم يفعل "إنما أنت مضار" ثم أمر بقلعها. فدل على أن الضرر محرم
لا يجوز تمكين صاحبه منه.
قال (وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره) فدل أيضًا على جواز وضع الخشب في
جدار الجار. وإذا جاز الغرز جاز الوضع بطريق الأولى. لأنه أخف منه. قال
الشيخ إذا كان الجدار مختصًا بشخص لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع مما
يحتاج إليه الجار. ولا يضر بصاحب الجدار. ويجب على الجار تمكين جاره من
إجراء مائه في أرضه. إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح
القولين في مذهب أحمد. وحكم به عمر –رضي الله عنه. وإن صالحه على أن يجري
ماء على أرضه صح. قال في الإنصاف بلا نزاع. لكن يشترط معرفة الذي يجري فيه
من ملكه.
ويجوز شراء ممر في ملكه. وموضع في حائطه يجعله بابا. وبقعة يحفرها بئرًا.
وعلو بيت يبني عليه بنيانًا موصوفًا. ويصح فعله صلحًا أبدًا. قال والعمل
عليه في كل مصر وعصر. قال الشيخ وإذا كان المسجد معدًا للصلاة ففي جواز
البناء عليه نزاع بين العلماء. وليس لأحد أن يبني فوق الوقف ما يضر به
اتفاقًا. وكذا إن لم يضر به عند الجمهور. وفي الاختيارات ليس للإنسان أن
يتصرف في ملكه بما يؤذي به جاره من بناء حمام وحانوت طباخ ودقاق. وهو مذهب
أحمد. قال ومن كانت له
(3/221)
ساحة يلقي فيها التراب والحيوانات ويتضرر
الجيران بذلك فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران: إما بعمارتها أو
إعطائها لمن يعمرها. أو يمنع أن يلقى فيها ما يضر بالجيران اهـ.
وإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب العلو الصعود على وجه
يشرف على جاره. إلا أن يبني سترة تستره. وفي الاختيارات يلزم الأعلى التستر
بما يمنع مشارفة الأسفل وإن استويا وطلب أحدهما بناء الستر أجبر الآخر معه
مع الحاجة إلى السترة اهـ.
وإن انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه.
أو احتاج النهر أو الدولاب أو القناة المشتركة لعمارة أجبر الشريك عليه.
إزالة لضرر شريكه. قال الشيخ إذا احتاج الملك المشترك إلى عمارة لا بد منها
فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه في أصح القولين اهـ.
وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله فإن أبى لواه إن أمكن وإلا
فله قلعه إزالة للضرر.
(ولهما من حديث أبي هريرة) -رضي الله عنه- يعني أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال (وإذا اختلفتم في الطريق) التي هي مجرى عامة المسلمين
بأحمالهم ومواشيهم وفي لفظ "الميتاء" قيل أعظم الطرق أو الطريق الواسعة
(فاجعلوه) أي اجعلوا سعة الطريق
(سبعة أذرع) وهذا محمول على الطريق التي هي
(3/222)
مجرى العامة إذا تشاجر من له أرض يتصل بها
مع من له فيها حق جعل عرضها سبعة أذرع بالذراع المتعارف في ذلك البلد.
بخلاف بنيات الطريق. فإن الرجل إذا جعل في بعض أرضه طريقًا مسبلة للمارين
كان تقديرها إلى خيرته.
والحكمة في ورود الشرع بتقدير الطريق سبعة أذرع أن تسلكها الأحمال والأثقال
دخولًا وخروجًا. وتسع ما لابد منه. فما لا تسع السبعة يجعل بقدر ما تسع
لوجود العلة. قال الوزير وغيره اتفقوا على أن الطريق لا يجوز تضييقها. وقال
الشيخ لا يجوز لأحد أن يخرج شيئًا في طريق المسلمين من أنواع أجزاء البناء
حتى أنه ينهى عن تجصيص الحائط إلا أن يدخل رب الحائط في حده بقدر غلظ الجص.
فلا يجوز إخراج الدكة مطلقًا أذن فيه الأمام أو لا. قال الموفق لا نعلم فيه
خلافًا.
ويجوز إخراج الساباط بلا ضرر اختاره الشيخ. وقال الذي يضر بالمارة مثل أن
يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك وإن غفل عن نفسه رمى عمامته أو شج
رأسه. ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال أو محمل فمثل هذا الساباط لا يجوز
إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين. بل يجب على صاحبه إزالته. فإن لم
يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر.
حتى لو كان الطريق منخفضًا ثم ارتفع على طول الزمان وجب إزالته إذا كان
الأمر على ما ذكر.
(3/223)
(وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع
للعباس) بن عبد المطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - (ميزابًا على طريق)
رواه أحمد عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-. قال كان للعباس ميزاب على
طريق عمر -رضي الله عنه- فلبس ثيابه يوم الجمعة فأصابه منه ماء بدم.
وذلك أنه ذبح للعباس فرخان فلما وافى عمر الميزاب صب ماء بدم الفرخين. فأمر
عمر بقلعه. فأتاه العباس فقال إنه للموضع الذي وضعه النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال عمر للعباس وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في
الموضع الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل ذلك العباس.
والحديث دليل على جواز إخراج الميازيب إلى الطرق. لكن بشرط أن لا تكون
محدثة. وتضر بالمسلمين. وقال الشيخ إخراج الميازيب إلى الدرب هو السنة.
واختاره وقدمه في النظم وغيره. ويمنع في الطريق الغرس والبناء والحفر ومرور
أحمال الشوك. ووضع الحطب والذبح فيها. وطرح القمامة والرماد وقشر الموز
وغير ذلك. مما فيه ضرر على المارة.
باب الحجر
في الأصل التضييق والمنع. ومنه سمي الحرام والعقل حجرًا. وفي الشرع منع
إنسان من تصرفه في ماله وهو ضربان حجر لحق الغير كعلى مفلس. وحجر لحق نفس
المحجور. كعلى نحو صغير. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.
(3/224)
قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}
يعني وإن كان الذي عليه الدين معسرًا {فَنَظِرَةٌ} أمر في صيغة الخبر
تقديره فعليه نظرة {إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي إلى اليسار والسعة. وأمر تعالى
بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء. ثم ندب إلى الوضع عنه فقال: {وَأَن
تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} وفي الحديث "من سره
أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه" وفي
رواية "من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة" وفي
الحديث القدسي "أنا أحق من ييسر أدخل الجنة" وفي فضل التيسير على المعسر
وإنظاره أحاديث كثيرة.
ودلت الآية وغيرها على أن المعسر الذي لا يقدر على الوفاء شيء من دينه لا
يطالب به ويجب إنظاره ويحرم حبسه وملازمته. وإن ادعى العسرة وكان الحق ثبت
عليه في غير مقابلة مال أخذه. كأرش جناية ومهر وضمان. ولم يعرف له مال حلف
وخلي سبيله قال علي -رضي الله عنه- حبس الرجل بعد معرفة ما عليه من الحق
ظلم. قال ابن القيم هذا الحكم عليه جمهور الأمة فيما إذا كان عليه دين عن
غير عوض مالي.
قال والذي يدل عليه الكتاب والسنة وقواعد الشرع أنه لا يحبس في شيء من ذلك.
إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل. سواء كان دينه عن عوض أو عن غير عوض.
وسواء لزمه باختياره أو بغير اختياره.
(3/225)
فإن الحبس عقوبة والعقوبة إنما تسوغ بعد
تحقق سببها. ولا تسوغ بالشبهة. بل سقوطها بالشبهة أقرب إلى قواعد الشريعة.
وقال الشيخ من عرف بالقدرة فادعى إعسارًا وأمكن عادة قبل. لتعلق حق العبد
بماله. وإذا كان دينه عن عوض كثمن وقرض وادعى الإفلاس. وقد علم له مال
متقدم فكمن أصابته فاقة. حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه. قال ابن
القيم هذا صريح في أنه لا يقبل في بينة الإعسار أقل من ثلاثة رجال وهو
الصواب الذي يتعين القول به. وإذا كان في باب أخذ الزكاة وحل المسألة يعتبر
العدد المذكور ففي باب دعوى الإعسار المسقط لأداء الديون ونفقة الأقارب
والزوجات أولى وأحرى.
(وعن عمرو بن الشريد) بفتح الشين ابن سويد الثقفي (عن أبيه) -رضي الله عنه-
سمي شريدًا لأنه شرد من المغيرة لما قتل رفقته الثقفيين وقيل صحب قومًا
فقتلهم فسمي الشريد (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي الواجد
ظلم) كقوله "مطل الغني ظلم" ولي بفتح فشد. مصدر لوى يلوي. أضيف إلى فاعله.
وهو الواجد من الوجد بالضم يعني القدرة. أي مطل الغني القادر على وفاء دينه
ظلم (يحل عرضه) بأن يقول مطلني. ويغلظ القول عليه. ويشدد في هتك عرضه.
وحرمته (وعقوبته) أي حبسه (رواه الخمسة إلا الترمذي) وحسنه الحافظ. وصححه
ابن حبان. وعلقه البخاري.
(3/226)
وهو دليل على تحريم مطل الواجد. بل أصل
متفق عليه: أن كل من ترك واجبًا استحق العقوبة. فمن عليه مال يجب عليه
أداؤه كوديعة أو مضاربة أو مال لبيت المال فللقاضي التغليظ عليه وحبسه
تأديبًا له. فإن أبى عزره مرة بعد أخرى.
وأجاز الجمهور الحجر على القادر المماطل. وبيع الحاكم ماله. لقيامه مقامه.
ودفعًا لضرر رب الدين. وهو داخل تحت لفظ عقوبته. وفي الاختيارات. ومن كان
قادرًا على وفاء دينه وامتنع أجبر على وفائه بالضرب والحبس. ونص على ذلك
الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقال أبو العباس ولا أعلم فيه
نزاعًا. لكن لا يزاد كل يوم على أكثر من التعزير إن قيل يتقدر.
وقال ولا يجب حبسه بمكان معين. فيجوز حبسه في دار ولو في دار نفسه. بحيث لا
يمكن من الخروج. ولو كان قادرًا على أداء الدين وامتنع. ورأى الحاكم منعه
من فضول الأكل. والنكاح. فله ذلك. إذ أن التعزير لا يختص بنوع معين. وإنما
يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه. وقدره إذا لم يتعد حدود الله. وللحاكم
أن يبيع عليه ماله. ويقضي دينه. ولا يلزمه إحضاره. وإذا كان الذي عليه الحق
قادرًا على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية. فما غرمه بسبب
ذلك.
فهو على الظالم المبطل. إذا كان غرمه على الوجه المعتاد. وقال من غرم مالًا
بسبب كذب عليه عند ولي الأمر فله تضمين
(3/227)
الكاذب عليه بما غرمه اهـ. والجمهور أنه
يفسق بمطله.
ومفهوم أن مطل المعسر لا يحل عرضه ولا عقوبته. وهو معنى قوله {فَنَظِرَةٌ
إِلَى مَيْسَرَةٍ} ولا يطالب مدين بدين مؤجل.
(وعن كعب بن مالك) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجر
على معاذ) بن جبل -رضي الله عنه- (ما له) أي منعه من التصرف في ماله من نحو
بيع وغيره لأجل غرمائه (وباعه في دين كان عليه رواه الدارقطني) والبيهقي
والحاكم. وصححه. وقال ابن الصلاح هو حديث ثابت. وعن عبد الرحمن بن كعب. قال
كان معاذ بن جبل شابًا سخيًا. وكان لا يمسك شيئًا. فلم يزل يدان حتى أغرق
ماله كله في الدين فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه ليكلم غرماءه.
فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فباع
لهم ماله. حتى قام معاذ بغير شيء. رواه سعيد مرسلًا ونحوه في صحيح مسلم.
قال أصيب رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها
فكثر دينه. ويأتي.
فدل الحديث وما في معناه على جواز الحجر على المديون. وأنه يجوز للحاكم بيع
ماله لقضاء دينه. والحجر على المديون وإعطاء الغرماء ثابت أيضًا من فعل
عمر. ولم ينقل أنه أنكر ذلك عليه أحد من الصحابة. وقال الوزير وغيره اتفقوا
على أن الحجر على المفلس إذا طلب الغرماء ذلك وأحاطت الديون بماله مستحق
على الحاكم. وله منعه من التصرف. حتى لا يضر بالغرماء. وبيع ماله إذا امتنع
المفلس من بيعه ويقسمه بين
(3/228)
غرمائه بالحصص. ويخرجه الحاكم من الحبس.
ويحول بينه وبين غرمائه إلا أبا حنيفة فقال يحبس حتى يقضي الدين.
وقال ابن القيم إذا استغرقت الديون ما له لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب
الديون. سواء حجر عليه الحاكم أو لم يحجر عليه. هذا مذهب مالك واختيار
شيخنا. وهو الصحيح. وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره. بل هو مقتضى أصول
الشرع وقواعده. لأن حق الغرماء قد تعلق بماله. ولهذا يحجر عليه الحاكم.
ولولا تعلق حق الغرماء بماله لم يسع الحاكم الحجر عليه. فصار كالمريض مرض
الموت. وفي تمكين هذا المدين من التبرع إبطال حقوق الغرماء. والشريعة لا
تأتي بمثل هذا. فإنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق. وسد الطرق
المفضية إلى إضاعتها.
(ولمسلم عن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- (قال أصيب رجل في ثمار
ابتاعها) أي اشتراها (فكثر دينه) من أجل مصيبته في تلك الثمار. ولم يقدر
على الوفاء (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصدقوا عليه) ليحصل له
من الصدقة ما يفي بدينه (فلم يبلغ ذلك) أي ما تصدقوا به عليه (وفاء دينه)
فيستوفي كل منهم حقه (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لغرمائه)
أصحاب الدين (خذوا ما وجدتم) أي عند غريمكم لا غير (وليس لكم إلا ذلك) فهذا
الحديث صريح في أنه ليس لهم إلا أخذ ما وجدوه. وليس لهم حبسه. ولا ملازمته.
(3/229)
قال ابن القيم ولم يحبس - صلى الله عليه
وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان. ولا يحبس في الدين ولو كان في
مقابلة عوض. إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل. لأن الحبس عقوبة. والعقوبة
إنما تسوغ بعد تحقق سببها. وهي من جنس الحدود. ولا يجوز إيقاعها بالشبهة.
بل يتثبت الحاكم. ويتأمل حال الخصم. ويسأل عنه. فإن تبين له مطله وظلمه
ضربه إلى أن يوفي. أو حبسه. ولو أنكر غريمه إعساره. فإن عقوبة المعذور
شرعًا ظلم. وإن لم يتبين له من حاله شيء أخره حتى يتبين له حاله. وظاهر
الحديث أن الزيادة ساقطة عنه. ولو أيسر بعد ذلك لم يطالب بها. وفيه دليل
على انتظار الغلة ونحوها. وأن التمكن من ذلك لا يعد مطلًا.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
من أدرك متاعه) وفي لفظ ماله. وظاهره سواء كان ببيع أو قرض أو غير ذلك
(بعينه) لم يتغير بصفة ولا زيادة ولا نقص (عند رجل قد أفلس) أي صار إلى
حالة لا يملك فيها فلسًا (فهو أحق به) أي بمتاعه من غيره من الغرماء (متفق
عليه) وفي لفظ قال في الرجل الذي يعدم "إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه
لصاحبه الذي باعه" رواه مسلم. ولأحمد عن الحسن عن سمرة مرفوعًا "من وجد
متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به" حسنه الحافظ. ولها شواهد.
وقوله "بعينه" دليل على أن شرط الاستحقاق أن يكون
(3/230)
المال باقيًا بعينه لم يتغير. ولم يتبدل
"فهو أحق به" كائنًا من كان. وارثًا أو غريمًا. وهذا مذهب جمهور العلماء.
وقضى به عثمان. وقال ابن المنذر لا نعلم له مخالفًا في الصحابة. وكذا روي
عن علي ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة. والحديث إذا صح فليس إلا التسليم
له. وكل حديث أصل برأسه ومعتبر حكمه في نفسه. فلا يجوز أن يعترض عليه بسائر
الأصول المخالفة له. أو يجترئ على إبطاله بعدم النظير له. وقلة الانتباه في
نوعه. والمراد ما لم يكن اقتضى من ثمنه شيئًا كما يأتي وهو مذهب الجمهور.
فإن تغيرت العين في ذاتها بالنقص مثلًا. أو في صفة من صفاتها فهو أسوة
الغرماء ويلتحق بالبيع القرض وغيره.
(ولأبي داود أو مات) أي وجد ماله عند رجل أفلس أو مات فهو أحق به. وقال
الحافظ يتعين المصير إليه. لأنها زيادة مقبولة من ثقة. فدل على أن صاحب
السلعة أحق بها. ولا يلزمه القبول لو أراد الورثة أن يعطوه ثمنها. وقال
أيضًا حديث حسن يحتج بمثله. أخرجه أيضًا أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وصححه الحاكم ورجحه الشافعي على المرسل. قال وجزم ابن العربي بأن الزيادة
التي في مرسل مالك من قول الراوي. يعني قوله فإن مات فهو أسوة الغرماء.
وذكر ابن القيم أنه موصول عن الزهري من طرق. ولا يكون مدرجًا إلا بحجة.
وخبر (أو مات) قال ابن عبد البر
(3/231)
يرويه المعتمر وهو غير معروف بحمل العلم.
ثم هو غير معمول به لجعله المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري. والأمر بخلاف
ذلك عند جميع العلماء. وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما فالله أعلم.
(ولأحمد) وأبي داود وغيرهما (ولم يكن اقتضى من ماله شيئًا) وفي لفظ "ولم
يقض الذي باعه من ماله شيئًا" فوجد متاعه بعينه (فهو له) وفي رواية "أحق
به" أي من سائر الغرماء. وهذا مذهب الجمهور. فإن اقتضى من ماله شيئًا فهو
أسوة الغرماء. كما هو لفظ حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وغيره
عند أبي داود وغيره. وإن كان قضى من ثمنها. شيئًا فهو أسوة الغرماء فيها.
والمراد مما تقدم قبل الحجر عليه. أو بعده. لمن جهل الحجر عليه. لأنه معذور
بجهل حاله وإلا فلا رجوع له في عينه. لأنه دخل على بصيرة. ويرجع بذلك بعد
فك الحجر عنه. وكذا إن تصرف في ذمته بشراء أو ضمان أو نحوهما. أو أقر بدين
أو جناية توجب قودًا أو مالًا صح. ويطالب به بعد فك الحجر عنه. ولا يفك
الحجر عنه إلا الحاكم. وإن وفى ما عليه انفك بدونه.
* * *
(3/232)
فصل في حجر السفه
أي في حكم الحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم. وهذا هو القسم الثاني
من أقسام الحجر. فيحجر على السفيه والصغير والمجنون وقد اتفق الأئمة على أن
هذه الأسباب موجبة للحجر. إذ المصلحة تعود عليهم لحظهم. والحجر عليهم عام
في ذممهم وأموالهم. ولا يحتاج لحاكم. ولا يصح تصرفهم قبل الإذن.
قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ} جمع طفل والطفل الصبي. ويقع على
الذكر والأنثى {مِنكُمُ الْحُلُمَ} أي الاحتلام. وهو أن يرى في منامه ما
ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد واتفق الفقهاء على أن الاحتلام
بلوغ. وقال ابن رشد أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم
يبلغوا الحلم. والجمهور وعلى الكبار إذا ظهر منهم التبذير لأموالهم.
وقال: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} أي اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم
أموالهم {حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أي بلغ اليتامى من الرجال
والنساء النكاح. وهو الاحتلام المذكور في الآية قبلها وغيره مما سيأتي
{فَإِنْ آنَسْتُم} أي رأيتم {مِّنْهُمْ رُشْدًا} عقلًا وصلاحًا في الدين
وحفظًا للمال. وعلمًا بما يصلحه. فعلق تعالى زوال الحجر عن الصغير ودفع
المال إليه باثنين: بالبلوغ والرشد. والبلوغ إما بالسن وهو اكتمال خمس عشرة
سنة. أو بالاحتلام أو الإنبات. وتزيد الجارية بالحيض.
(3/233)
وأما الرشد فهو أن يكون مصلحًا في دينه
وماله. وهو أن لا يكون مبذرًا. أولا يحسن التصرف. وهذا مذهب جمهور العلماء.
وحكي الاتفاق على أن الغلام إذا بلغ غير رشيد لم يسلم إليه ماله. وإذا طرأ
عليه السفه بعد الرشد يحجر عليه عند الجمهور مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
وقالوا يبتدأ بالحجر عليه ولو بعد البلوغ والرشد. قال تعالى: {فَادْفَعُواْ
إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} قال الفقهاء وغيرهم إذا بلغ الغلام مصلحًا لدينه
وماله إنفك الحجر عنه. فيسلم له ماله الذي تحت يد وليه. لكن بهذين الشرطين.
بلوغ الحلم وإيناس الرشد.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا} معشر الأولياء، {إِسْرَافًا} بغير حق
{وَبِدَارًا} أي مبادرة {أَن يَكْبَرُواْ} أي لا تبادروا كبرهم ورشدهم
حذرًا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم. ثم قال تعالى: {وَمَن كَانَ
غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} عنه ولا يأكل منه شيئًا. والعفة الامتناع عما
لا يحل {وَمَن كَانَ فَقِيرًا} محتاجًا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده
{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ويأتي حديث عمرو بن شعيب أن رجلًا أتى النبي
- صلى الله عليه وسلم - فقال إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم فقال "كل من مال
يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل" قال الشيخ وغيره لوصي اليتيم أقل
الأمرين من أجرة مثله أو كفايته اهـ.
ولا يلزمه عوضه إذا أيسر. لأنه عوض عن عمله فهو فيه كالأجير والمضارب
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} بعد بلوغهم
(3/234)
الحلم وإيناس الرشد منهم {فَأَشْهِدُواْ
عَلَيْهِمْ} لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وهذا عند الجمهور أمر
إرشاد. لتزول التهمة وتنقطع الخصومة. قال الشيخ وإن نوزع في الرشد فشهد به
شاهدان قبلا. لأنه قد يعلم بالاستفاضة. ومع عدم البينة له اليمين على وليه
أنه لا يعلم رشده {وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} محاسبًا ومجازيًا وشاهدًا
ورقيبًا على الأولياء. ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة
والضرورة والغبطة والتلف ورد المال لأنه أمين.
(وقال: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي قيمه {بِالْعَدْلِ} أي بالصدق والحق.
وفي الاختيارات الولاية على الصبي والمجنون والسفيه تكون لسائر الأقارب.
ومع الاستقامة لا يحتاج إلا الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي. وتكون
الولاية لغير الأب والجد والحاكم على اليتيم وغيره. وهو مذهب أبو حنيفة
ومنصوص أحمد في الأم. وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم فضعيف جدًا،
والحاكم العاجز كالعدم.
(وقال: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} قيل النساء وقيل
الأولاد. والمراد كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال. ويدخل فيه النساء
والصبيان والأيتام. وكل من كان موصوفًا بهذه الصفات. والسفه خفة العقل.
ولذلك سمي الفاسق سفيهًا. لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم. ويسمى
الناقص العقل سفيهًا لخفة عقله. قال ابن كثير ينهى سبحانه عن تمكين
(3/235)
السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها
الله للناس قيامًا. تقوم بها معائشهم من التجارات وغيرها.
ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام. فتارة يكون الحجر للصغر. فإن
الصغير مسلوب العبارة. وتارة يكون الحجر للجنون. وتارة لسوء التصرف لنقص
العقل أو البدن. وتارة للفلس. ومن أعطاهم ماله ببيع أو قرض ونحوه رجع بعينه
إن بقي وإن تلف لم يصمنوه وإن أتلف فقال ابن القيم يضمن الصبي والمجنون
والنائم ما أتلفوه من الأموال. وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح
الأمة إلا بها. فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض، وادعى
الخطأ وعدم القصد.
(وقال {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} فضلًا عن أن تتصرفوا فيه
{إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} من حفظه وتثميره والتصرف فيه بالغبطة قال
الشيخ ولا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًا خبيرًا بما ولي
عليه. أمينًا عليه. والواجب إذا لم يكن الولي بهذه الصفة أن يستبدل به. ولا
يستحق الأجرة المسماة. لكن إذا عمل لليتامى استحق أجرة المثل. كالعمل في
سائر العقود الفاسدة اهـ. والسفيه والمجنون في معنى اليتيم. وقال الشيخ
وغيره يتصرف ولي المحجور عليه في ماله استحبابًا لقول عمر وغيره اتجروا
بأموال اليتامى كيلا تأكلها الصدقة. ولوليه دفع ماله مضاربة بجزء من الربح
لفعل عائشة وغيرها.
(3/236)
(وقال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ} الآية) أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا
بأس عليكم. وتمامها {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي
يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح {وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ}
أي لضيق عليكم. وما أباح لكم مخالطتهم {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم} فيما
صنع من تدبيره. أباح لكم مشاركتهم في أموالهم وخلطها بأموالكم في نفقاتكم.
فتصيبوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم. أو تكافئوهم على ما تصيبون من
أموالهم.
(وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} أي تعدلوا {فِي الْيَتَامَى}
الآية) أي إذا كانت تحت يد أحدكم يتيمه وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل
إلى ما سواها من النساء. قالت عائشة هي اليتيمه تكون في حجر وليها فيرغب في
جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن ذلك. إلا أن
يقسطوا لهن في إكمال الصداق.
(وفي حديث علي) عند أحمد وغيره (رفع القلم عن ثلاثة) وهو لأحمد أيضًا عن
عائشة وأبي داود وابن ماجه (وفيه والصغير حتى يبلغ) ولابن ماجه أيضًا عن
علي والنسائي وعطاء بن السائب عن أبي ظبيان عنه. وللطبراني عن غير واحد و
(صححه الترمذي) لمجيئه من غير وجه. وإن كان فيها مقال فيعضد بعضها بعضًا.
وتدل على عدم تكليف الصبي.
وفيه "والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق" ولا قصد لهما ما
(3/237)
داما متصفين بتلك الصفات.
(وعنه) أي عن علي -رضي الله عنه- (مرفوعًا) أنه قال - صلى الله عليه وسلم -
(لا يتم) اليتم الانفراد. وهو فقد الصبي أباه قبل البلوغ (بعد احتلام) فإذا
احتلم زال عنه اسم اليتم حقيقة وبلغ الحلم (رواه أبو داود) وفي حديث عطية
"فمن كان محتلمًا" ولا نزاع على أن الاحتلام مع الإنزال من علامات البلوغ.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (قال عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم
- يوم أحد) الغزوة المشهورة سنة ثلاث في شوال (وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم
يجزني) أي لم يأذن لي بالخروج للقتال. وفي رواية فلم يجزني ولم يرني بلغت
(وعرضت عليه يوم الخندق) وهي غزوة الأحزاب في شوال سنة خمس من الهجرة (وأنا
ابن خمس عشرة سنة فأجازني) أي أمضاني أخرج للقتال. وفي رواية فأجازني ورآني
بلغت (متفق عليه) فدل الحديث وما في معناه على أن بلوغ خمس عشرة سنة من
الولادة يكون بلوغًا. ويزول عنه الحجر. وهو قول الجمهور.
(وعن عطية) القرظي -رضي الله عنه- قال (عرضت) على النبي - صلى الله عليه
وسلم - (يوم قريظة) سنة خمس من الهجرة. وذلك أن سعد بن معاذ لما حكم بقتلهم
وسبي ذراريهم. وأنكر بعضهم البلوغ فرارًا من القتل. أمر - صلى الله عليه
وسلم - أن يكشف عن مؤتزرهم. فمن أنبت فهو من المقاتلة فيقتل. ومن لم ينبت
فهو من الذرية
(3/238)
يسترق قال عطية (فكان من أنبت قتل) أي من
أنبت الشعر الأسود الخشن المتجعد في العانة قتل (ومن لم ينبت خلي سبيله)
قال فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي. رواه الخمسة وغيرهم و (صححه الترمذي) فدل
الحديث على أن الإنبات من علامات البلوغ.
(وتقدم) في حكم ستر العورة (حديث: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) وحيث
علق الشارع قبول صلاة الحائض بالحيض دل على اعتباره. وأنه علم على البلوغ
في حقها. وقال الموفق وغيره لا نعلم فيه خلافًا. فمتى تم لصغير خمس عشرة
سنة. أو نبت حول قبله شعر خشن. أو أنزل أو عقل مجنون ورشد أو رشد سفيه زال
حجرهم بلا خلاف ولا ينفك حجر أحدهم قبل شروطه بحال ولو كان شيخًا كبيرًا
وهو قول جمهور العلماء للآيات والأخبار ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر قبل
بلوغه ليعلم رشده. ويختص الاختبار بالمراهق الذي يعرف المعاملة والمصلحة.
(وعن عروة) بن الزبير بن العوام أحد الفقهاء السبعة وعلماء التابعين ثقة
ثبت مات سنة اثنتين أو ثلاث وتسعين (قال ابتاع عبد الله بن جعفر) بن أبي
طالب بن عبد المطلب ولد بالحبشة. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وتوفي وله عشر سنين وتوفي عبد الله سنة ثمانين. قال عروة ابتاع (بيعًا فقال
علي لآتين عثمان) أي قال علي بن أبي طالب لآتين عثمان بن عفان
(3/239)
-رضي الله عنهما- فيما صنعت (فلاحجرن عليك)
أي أمنعك من هذا التصرف فأرد المبيع (فاعلم) عبد الله (بن جعفر الزبير) بن
العوام -رضي الله عنه- (فقال أنا شريكك) أي فيما ابتعت ليتم البيع ويقوى
ساعد عبد الله بشركة الزبير له) (فقال عثمان: احجر على رجل شريكه الزبير)
وهو بالمكانة المرموقة (رواه الشافعي) ورواه البيهقي وأبو عبيد. ولفظه قال
عثمان لعلي ألا تأخذ على يد ابن أخيك وتحجر عليه. اشترى سبخة بستين ألف
درهم ما يسرني أنها لي ببغلي.
وللبيهقي قال الزبير أتحجران على رجل أنا شريكه فقالا لا. وذكر غيرها عن
السلف. فدلت هذه القصة ونحوها على جواز الحجر على من كان سيء التصرف. وهو
مذهب الجمهور وتقدم {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} فالسفهاء
هم المبذرون أموالهم. ورد عليه الصلاة والسلام صدقة الذي تصدق بأحد ثوبيه.
والبيضة. والمعتق عبدًا له عن دبر لا مال له غيره. وذلك أن الأموال
للانتفاع بها بلا تبذير. واستفاض النهي عن إضاعة المال.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - للنساء تصدقن) وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم
- خطب الناس ووعظهم. ثم أتى النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة. ومعه بلال
-رضي الله عنه- (فجعلت المرأة تلقي) أي تضع في ثوب بلال (القرط) نوع من حلي
الأذن (والخاتم) حلي للأصبع معروف؛ ولمسلم الفتخ والخواتم وفي رواية الخاتم
(3/240)
والخرص والشيء فدل الحديث على جواز تصرف
المرأة في مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين من مالها
لعدم استفصال الشارع وهو مذهب جماهير العلماء قال البيهقي يدل عليه الكتاب
والسنة والآثار والعقل.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال (كل من مال يتيمك) وذلك أنه جاء رجل إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني فقير ليس لي شيء. ولي يتيم. وهو من
مات أبوه ولم يبلغ. فقال "كل من مال يتيمك" وارشده - صلى الله عليه وسلم -
إلى الأكل بالمعروف فقال (غير مسرف) أي مجاوز الحد في الأكل منه (ولا مبذر)
مفرق له في كل وجه. ويفسر أحدهما بالآخر وهذا كقوله: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا
إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ} (ولا متأثل) أي مدخر من مال اليتيم
لنفسه ما يزيد على قدر ما يأكله. والتأثل اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده
قديم (رواه الخمسة) وغيرهم (إلا الترمذي) وقال الحافظ إسناده قوي.
وولي اليتيم وكذا المجنون والسفيه حال الحجر الأب. لكمال شفقته. ثم وصيه.
ثم الحاكم. وتكون لغيرهم. كما قال الشيخ. وتقدم قوله لا يجوز أن يولى على
مال اليتيم إلا من كان قويًا خبيرًا بما ولي عليه. أمينًا عليه. والواجب
أنه إذا لم يكن بهذه الصفة أن يستبدل به. ودل الحديث على أن للولي الفقير
الأكل من مال موليه بالمعروف وهو الأقل من كفايته. أو
(3/241)
أجرة عمله. وهذا مذهب الجمهور. وبه قال
الشيخ وغيره. وعليه أن يتصرف له بالأجرة بلا نزاع. وله أن يدفعه لمن يتجر
فيه مضاربة بجزء معلوم من الربح. فعائشة أبضعت مال محمد ابن أبي بكر.
وله البيع نسأ. وله القرض والرهن والإيداع. وشراء العقار وبناؤه لمصلحته.
ولا يبيعه إلا لضرورة أو غبطة. أو مصلحة عامة كبناء مسجد. لقصة شراء مسجد
المدينة من اليتيمين. وقال الشيخ ليس للناظر وولي اليتيم أن يسلم ما يتصرف
فيه إلا بإجارة شرعية. وله شراء أضحية لموسر لأنه يوم سرور وفرح ليحصل بذلك
جبر قلبه. وقال يستحب إكرام اليتيم وإدخال السرور عليه. ودفع الإهانة عنه.
فجبر قلبه من أعظم مصالحه.
باب الوكالة
هي بفتح الواو وقد تكسر التفويض والحفظ. تقول وكلت فلانًا. إذا استحفظته
ووكلت الأمر إليه بالتخفيف إذا فوضته إليه. وهي في الشرع إقامة الشخص غيره
مقام نفسه مطلقًا أو مقيدًا. قال الوزير اتفقوا على أن الوكالة من العقود
الجائزة في الجملة. وأن كل ما جازت النيابة فيه من الحقوق جازت الوكالة فيه
كالبيع والشراء والإجارة وقضاء الديون والخصومة في المطالبة بالحقوق
والتزويج والطلاق وغير ذلك. ووكل
عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف. وقال ابن المنذر
(3/242)
توكيل المسلم حربيًا مستأمنًا وتوكيل
الحربي المستأمن مسلمًا لا خلاف في جوازه، اهـ.
وتصح بكل قول أو فعل دال على الإذن وتصح مؤقتة ومعلقة بشرط. قال ابن القيم
كما صحت به السنة. ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال
عليه. وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. ولدعاء الحاجة إليها إذ لا يمكن
كل أحد فعل ما يحتاج إليه بنفسه.
(قال تعالى: {فَابْعَثُوا} أي أرسلوا {أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ} فضتكم
{هَذِهِ} فإنه كان معهم دراهم {إِلَى الْمَدِينَةِ} أي مدينتكم التي خرجتم
منها والألف واللام للعهد. قيل هي طرسوس {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى
طَعَامًا} أطيب طعامًا {فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} أي قوت وطعام
تأكلونه. فدلت الآية الكريمة على صحة التوكيل في البيع والشراء. فكذا سائر
العقود كالإجارة والقرض والمضاربة والإبراء وما في معنى ذلك.
(وقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} أي قال يوسف لعزيز مصر. ولني
أمر خزائن أرض مصر. والخزائن جمع خزينة. وأراد خزائن الأموال. والطعام
{إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم} أي حفيظ للخزائن عليم بوجوه مصالحها. ويجوز للرجل
مدح نفسه إذا جهل أمره للحاجة. وسؤال العمل إذا علم قدرته عليه. وفيها دليل
على أن من له التصرف في شيء فله التوكيل فيه.
(3/243)
وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إذا كان
يتولاه مثله. ولم يعجزه إن لم يؤذن له فيه. فإن أذن له جاز بغير خلاف.
(وقال والعاملين عليها) أي الساعين في قبض الزكاة فدلت الآية على جواز
الوكالة في قبض الزكاة ولا نزاع في ذلك.
(وكان - صلى الله عليه وسلم - يبعث عماله في قبض الزكاة) كما هو متواتر من
غير وجه وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر على الصدقة.
ومعاذًا وغيرهما مما هو معلوم بالضرورة (وتفريقها) أي ويأمر بتفريق الزكاة.
وقال "إن الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملًا موفرًا طيبة به نفسه
حيث يدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين" وجاء فيه أحاديث شهيرة. بل
قال أبو هريرة وكلني النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفظ زكاة رمضان. ووضع
يزيد دنانير عند رجل في المسجد يتصدق بها. فدفعها إلى ابنه معن. وقال النبي
- صلى الله عليه وسلم - "لك ما نويت يا يزيد" رواه البخاري.
فتصح الوكالة في كل حق لله تعالى تدخله النيابة من قبض زكاة وتفرقتها.
وصدقة ونذر وكفارة ونحو ذلك بلا نزاع. وكحج وعمرة عن الغير كما تقدم. وأما
العبادات البدنية
المحضة كالصلاة والصوم والطهارة من الحدث فلا يصح
التوكيل فيها. لأنها تتعلق ببدن من هي عليه (ويأمر بإقامة الحدود) أي وكان
- صلى الله عليه وسلم - يأمر بإقامة الحدود. فقال اغد يا أنيس
إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فاعترفت فرجمها. ويأتي.
(3/244)
ووكل عثمان عليًا في إقامة حد الشرب على
الوليد. وغير ذلك مما هو معلوم يدل على جواز الوكالة في إقامة الحدود. ولأن
الحاجة تدعو إليه. إذ الإمام لا يمكنه تولي ذلك بنفسه.
وحكم القاضي في ذلك حكم الإمام. لأنه قد يؤدي ذلك إلى تعطيل مصالح الناس
العامة. فأشبه من وكل فيما لا تمكنه مباشرته عادة لكثرته ويجوز في حضرة
الموكل وغيبته. وتصح الوكالة أيضًا في إثبات الحدود ولا تصح في الظهار.
لأنه قول منكر ولا اللعان ولا الإيمان. ولا القسامة ولا القسم بين الزوجات.
والرضاع والالتقاط والاغتنام والغصب والجنابة ونحو ذلك. لتعلق ذلك بعين
الفاعل. ولا تدخلها النيابة.
(وأمر) - صلى الله عليه وسلم - (عليًا) عام حجة الوداع بعد أن نحر من هديه
ثلاثًا وستين (بنحر بقية بدنه) كما تقدم في الهدي وفيه "وأمره بقسم جلودها
وجلالها" وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن عامر غنمًا أضحية
يقسمها بين أصحابه. فدل على صحة التوكيل في نحر الهدي والأضحية وهو إجماع.
إذا كان الذابح مسلمًا. وجواز التوكيل في قسم جلودها وجلالها. وقسم
الأضاحي. وقال ابن بطال وكالة الشريك جائزة كما تجوز شركة الوكيل لا أعلم
فيه خلافًا.
(واستسلف بكرًا كما تقدم) في القرض (وأمر أبا رافع أن
(3/245)
يقضيه من إبل الصدقة) فدل الحديث على جواز
التوكيل في قضاء القرض ونحو ذلك.
(ووكله) أي وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع (وعمرو بن أمية) بن
خويلد الضمري (في قبول النكاح) وذلك أن أبا رافع تولى قبول نكاح ميمونة بنت
الحارث له - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة قبل أن يخرج وعمرًا تولى
نكاح أم حبيبة وهي بالحبشة رواه مالك وغيره. وهو دليل على جواز التوكيل في
عقد النكاح من الزوج. ولا خلاف في ذلك. وكذا الطلاق كما يأتي. وفيه وما
قبله صحة قبول الوكالة على الفور والتراخي. وصحة قبول الوكالة بكل قول أو
فعل دال عليه. فإن قبول وكلائه - صلى الله عليه وسلم - كان بفعلهم. وكان
متراخيًا عن توكيله إياهم. ولأنه إذن في التصرف. والإذن قائم ما لم يرجع
عنه.
(وقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لجابر) بن عبد الله وذلك
أنه لما أراد الخروج إلى خيبر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له
(إذا أتيت وكيلي) أي عاملي (بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقًا فإن ابتغى آية)
أي علامة (فضع يدك على ترقوته) وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق.
لأني قلت له إن العلامة التي بيني وبينك إذا جاءك أحد يطلب منك شيئًا عن
لساني أن يضع يده على ترقوتك. فإن فعل ذلك فاعلم أنه يصدق فيما يقول. وقال
ابن القيم نزل - صلى الله عليه وسلم - هذه العلامة منزلة البينة التي تشهد
أنه أذن له أن يدفع له ذلك. كما نزل الصفة للقطة منزلة
(3/246)
البينة. بل هذا نفسه بينة. إذ البينة ما
بين الحق من قول أو وصف اهـ. ولأن الأمانة طوق في الرقبة (رواه أبو داود)
وغيره.
وفيه دليل على صحة الوكالة فيها. وأن للإمام أن يوكل ويقيم عاملًا على
الصدقة في قبضها ودفعها إلى مستحقها. وإلى من يرسله إليه بإمارة. وفيه جواز
العمل بالإمارة. وقبول قول الرسول إذا عرف المرسل إليه صدقة. وقيل له
الامتناع من الدفع إليه حتى يشهد عليه بالقبض. وفيه أيضًا دليل على جواز
اتخاذ علامة بين الوكيل وموكله. لا يطلع غيرهما. وفي الاختيارات. والذي يجب
أن يقال أن الغريم متى غلب على ظنه أن الموكل لا ينكر وجب عليه التسليم
فيما بينه وبين الله تعالى كالذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى
وكيله وعلم له علامة. فهل يقول أحد إن ذلك الوكيل لا يجب عليه الدفع؟.
وأما في القضاء فقيل إن كان الموكل عدلًا وجب الدفع. لأن العدل لا يجحد.
والظاهر أنه لا يستثنى فإذا دفع من عنده الحق إلى الوكيل ذلك الحق. ولم
يصدقه أنه وكيل. وأنكر صاحب الحق الوكالة. رجع عليه اتفاقًا. قال الشيخ
ومجرد التسليم ليس تصديقًا.
(وله) أي لأبي داود وغيره (عن يعلى بن أمية) بن أبي عبيدة بن همام بن
الحارث التميمي. ويقال ابن منية قتل
(3/247)
يوم صفين مع علي -رضي الله عنهما- أنه -
صلى الله عليه وسلم - قال له: (إذا أتتك رسلي) وكان عزم أن يرسل إليه في
عارية دروع وابل.
قال (فأعطهم ثلاثين درعًا) الدرع قميص من زرد الحديد يلبس وقاية من السلاح
(وثلاثين بعيرًا) البعير يقع على الذكر والأنثى من الإبل. وفيه دليل على
جواز التوكيل من المستعير لقبض العارية. فشمل ما تقدم جواز التوكيل فيما
تدخله النيابة.
وهي عقد جائز من الطرفين. لأنها من جهة الموكل إذن. ومن جهة الوكيل بذل
نفع. والوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط. ويقبل قوله في نفي
التفريط والهلاك مع يمينه. ولا يكلف بينة. لأنه مما يتعذر إقامة البينة
عليه ولئلا يمتنع الناس من الدخول في الأمانات مع الحاجة إليها. قال الشيخ
والوكيل في الضبط والمعرفة مثل من وكل رجلًا فيما له وما عليه كأهل
الديوان. فقوله أولى بالقبول من وكيل التصرف. لأنه مؤتمن على نفس الإخبار
بما له وما عليه.
ونظيره إقرار كاتب الأمراء وأهل ديوانهم بما عليه من الحقوق. وإقرار كاتب
السلطان بما على بيت المال. وسائر أهل الديوان ما على جهاتهم من الحقوق.
ومن ناظر الوقف وعامل الصدقة والخراج ونحو ذلك. فإن هؤلاء لا يخرجون عن
ولاية أو وكالة اهـ. وإن اختلفا في رد العين أو ثمنها إلى الموكل فالبينة
(3/248)
على المدعي واليمين على من أنكر فهي كلمة
جامعة شاملة لا فرق بين متطوع أو بجعل.
(وقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما جهز جيش غزو مؤتة في نحو
ثلاثة آلاف سنة ثمان من الهجرة إلى البلقاء من الشام (أميركم زيد) بن حارثة
بن شراحيل القضاعي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإن قتل فجعفر)
بن أبي طالب بن عبد المطلب. فهو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - (فإن
قتل فـ) عبد الله (بن رواحة) ابن ثعلبة الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنهم-.
ولما انتهوا إلى البلقاء لقيهم جموع هرقل في نحو مائتي ألف. وانحاز
المسلمون إلى قرية مؤتة. فاقتتلوا. وقتل زيد براية رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ثم أخذها جعفر فقتل. ثم ابن رواحة فقتل.
ثم اصطلح الناس على خالد بن الوليد فدافع القوم. ولما أصبحوا جعل المقدمة
مؤخرة. والميمنة ميسرة. فرعب العدو. وفتح على المسلمين فدل الحديث على صحة
الوكالة ولو واحدًا بعد واحد معلقة على موت الأول أو مؤقته كفلان شهرًا ثم
فلان واتفقوا على أنه إن عزل الوكيل انعزل. ومذهب الشافعي لا ينعزل إلا بعد
العلم. وعن أحمد كذلك. واختاره الشيخ. وقال هو الصواب. لأنه قد يتصرف
تصرفات فتقع باطلة. وربما باع الجارية فيطؤها المشتري. ويجب ضمانه فيتضرر
المشتري والوكيل.
وعليه فمتى تصرف قبل علمه فتصرفاته صحيحة، وهو
(3/249)
قول أبي حنيفة، حتى أنه لا يعزل نفسه إلا
بحضرة الموكل، وقال الشيخ: وعلى القول بالعزل فتصرفاته صحيحة أيضًا.
وعند الجمهور لا يبيع لنفسه ولا يشتري من نفسه لئلا تلحقه التهمة. وحيث
حصلت التهمة لم يصح. وعن أحمد جوازه إذا زاد على مبلغ ثمنه. وفي الإنصاف
احتمال لا يعتبر. لأن دينه وأمانته تحمله على الحق. وربما زاد خيرًا. ومحل
الخلاف ما لم يأذن له وإلا جاز. ويتولى طرفي العقد.
(وعن عروة) بن الجعد ويقال ابن أبي الجعد (البارقي) حضر فتوح الشام ونزلها.
وسيره عثمان إلى الكوفة. قيل رؤي في داره ستين فرسًا مربوطة (أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارًا ليشتري له به شاة) وفي لفظ أضحية
(فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار) ضرب معروف من الذهب (وجاءه
بدينار وشاة) وروي من حديث حكيم بن حزام نحوه (فدعا له بالبركة) في بيعه
(رواه البخاري) وفيه وكان لو اشترى ترابًا لربح فيه ببركة دعائه - صلى الله
عليه وسلم - وفيه وفي غيره مما تقدم وغيره ما ينيف على ثلاثين حديثًا تدل
على صحة الوكالة فيما تقدم وغيره وتقدم أنه إجماع.
وفي هذا الحديث دليل على صحة العقد الموقوف. وهو مذهب جماعة من السلف. وأنه
يجوز للوكيل إذا قال له الموكل اشتر بهذا الدينار شاة مثلًا ووصفها أن
يشتري به شاتين بالصفة المذكورة. لأن مقصود الموكل قد حصل. وزاده الوكيل
خيرًا.
(3/250)
ومثله لو أمره أن يبيع شاة بدرهم فباعها
بدرهمين. أو أن يشتريها بدرهم فاشتراها بنصف درهم. وفيه دليل على صحة بيع
الفضولي. وهو مذهب الجمهور. وفيه استحباب الشكر على الصنيعة ولو بالدعاء.
وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه أن لم يرض موكله. فإن جهل الوكيل عيبه رده.
باب الشركة
بفتح وكسر وكسر وسكون. وهي لغة الاختلاط. وشرعًا اجتماع في استحقاق أو
تصرف. فشركة الاستحقاق كثبوت ملك في عقاب بين اثنين فأكثر بإرث ونحوه. أو
منفعة دون العين. وشركة التصرف في العقود من بيع ونحوه. وهي المقصودة هنا.
وهي خمسة أنواع شركة عنان ومضاربة وشركة وجوه وشركة أبدان وشركة مفاوضة
والشركة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء} أي الشركاء {لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ليظلم بعضهم بعضًا {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} أي قليل هم والمراد أن
الصالحين الذين لا يظلمون قليل. فدلت الآية على جواز الشركة في الأملاك
والعقود. والمنع من ظلم الشريك شريكه.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قال الله تعالى
أنا
(3/251)
ثالث الشريكين) أي فيحصل بتلك المعية
الخاصة الحفظ والرعاية والإمداد وإنزال البركة في تجارتهما (ما لم يخن
أحدهما صاحبه) فيما تشاركا فيه (فإذا خانه) أي فإذا حصلت الخيانة من أحدهما
(خرجت من بينهما) فنزعت البركة من تجارتهما (رواه أبو داود) وزاد رزين
"وجاء الشيطان" أي دخل بينهما "وكان ثالثًا لهما" وفيه مشروعية الشركة.
والحث عليهما واستحبابها مع عدم الخيانة. لأن كل واحد من الشريكين يسعى في
غبطة صاحبه. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. وفيه التحذير من
الشركة مع الخيانة.
(وله عن السائب) بن أبي السائب المخزومي. وكان من المؤلفة قلوبهم. وممن حسن
إسلامه. ومن المعمرين حتى إنه عاش إلى زمن معاوية (أنه كان شريك النبي -
صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية) ولابن ماجه "كنت شريكي في الجاهلية "
وفي لفظ "قبل البعثة" في التجارة (فجاء يوم القتح) يعني فتح مكة سنة ثمان
في رمضان (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (مرحبًا) أي لقيت رحبًا
وسعة. أو رحب الله بك مرحبًا (بأخي) أي في الإسلام لما أسلم (وشريكي) أي في
التجارة في الجاهلية "وكان لا يماري ولا يداري" أي لا يمانع ولا يحاور.
وفي لفظ أن السائب أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا يثنون عليه
ويذكرونه فقال "أنا أعلمكم به. فقال: صدقت بأبي أنت وأمي كنت شريكي فنعم
الشريك لا تداري ولا تماري" رواه أبو نعيم
(3/252)
وغيره عن ابن السائب. فدل على جواز الشركة
وأنها كانت ثابتة قبل الإسلام. ثم قررها الشارع على ما كانت عليه وفيه ما
كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من حسن الخلق وحسن المعاملة. والرفق قبل
النبوة وبعدها وجواز السكوت من الممدوح عند سماع من يمدحه بحق.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أكره أن يشارك المسلم اليهودي) وكذا
النصراني لأنهما لا يؤمنان أن يعاملا في الربا. أو يشتريا بمال الشركة
خمرًا أو ميتة. أما غير الكتابي كالمجوسي والوثني فمكروهة. ولو كان المسلم
يلي التصرف.
(وعن المنهال) بن عمرو الأسدي مولاهم الكوفي (أن زيد بن أرقم والبراء) بن
عازب -رضي الله عنهما- (كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة) وشراء الفضة
بنسيئة تقدم أنه لا يجوز لخبر "الفضة بالفضة، يدًا بيد، سواء بسواء" وكذا
الذهب بالذهب" (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان بنقد فاجيزوه"
لقوله - صلى الله عليه وسلم - "يدًا بيد سواء بسواء" وما كان بنسيئة فردوه
ولقوله:
"ولا يباع منها غائب بناجز" (رواه البخاري) وكذا لا يجوز بيع أحد النقدين
بالآخر إلا يدًا بيد. وتقدم موضحًا في باب الربا.
فدل الحديث على جواز الشركة في الدراهم والدنانير. قال ابن بطال وهو إجماع.
وذهب الجمهور إلى الصحة في غير
(3/253)
النقدين من كل ما يتملك. ولا يشترط خلط
المالين إذا عيناهما. أو أحضراهما. وهو مذهب الجمهور. ثم يتصرفان جميعًا
إلا أن يقيم كل واحد منهما الآخر مقام نفسه إجماعًا. ولكل منهما التصرف بما
هو من مصلحة تجارتهما. وأن يشترطا لكل منهما جزءًا من الربح مشاعًا
معلومًا. ومتى اقتسما رجع كل منهما بماله. ثم اقتسما الربح وإن تلف أحد
المالين فهو من ضمانهما.
(وخرج ابنا عمر) عبد الله وعبيد الله رضي الله عنهم (في جيش) أنفذه عمر
-رضي الله عنه- (فاستسلفا من أبي موسى) حين لقياه بالبصرة منصرفهما من غزوة
نهاوند (مالًا) وكان اجتمع عنده مال أراد إرساله إلى عمر. فاستقرضاه منه
وضمناه له (وابتاعا به متاعًا) وقدما به المدينة وباعاه (فربحا فيه).
وقيل: إنه أراد عمر أخذ رأس المال والربح كله. فقالا لو كان تلف كان ضمانه
علينا فكيف لا يكون ربحه لنا؟! فقال رجل يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا.
فقال قد جعلته قراضًا (فأخذ منهما عمر) -رضي الله عنه- (نصف الربح رواه
مالك) والشافعي والدارقطني. وقال الحافظ: إسناده صحيح.
وقد اعتمد الفقهاء على هذا الأثر في باب المضاربة أن الربح مما حصل من
منفعة بدن هذا ومال هذا يكون بينهما. وقال الشيخ والربح الحاصل من مال لم
يأذن مالكه في التجارة به
(3/254)
قيل للمالك. وقيل للعامل. وقيل بينهما على
قدر النفعين بمعرفة أهل الخبرة. قال وهو أصحها وبه حكم عمر. إلا أن يتجر به
على غير وجه العدوان. مثل أن يعتقد أنه مال نفسه فيتبين مال غيره. فهنا
يقتسمان الربح بلا ريب. ودلت هذه الآثار وما في معناها على جواز شركة
العنان. وهي أن يشتركا بماليهما المعلوم ليعملا فيه ببدنيهما. وينفذ تصرف
كل منهما فيهما بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه. وتجوز
المضاربة بالدين. قال ابن القيم وهو الراجح في الدليل. وليس في الأدلة
الشرعية ما يمنع من جوازه. ولا يقتضي تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع.
ولا وقوعًا في محظور ولا غرر ولا مفسدة. وتجويزه من محاسن الشريعة.
(وفي الصحيحين) وغيرهما عن أبي موسى -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال إن الأشعريين) قبيلة أبي موسى الأشعري مشهورين باليمن
(إذا قل طعامهم) وفي رواية: "إذا أرملوا أو قل طعامهم (جمعوا متاعهم) وفي
رواية "جمعوا عندهم ثم
اقتسموا بالسوية، وفي رواية "في إناء واحد بالسوية (فهم مني وأنا منهم) قال
الحافظ أي هم متصلون بي. وقيل فعلوا فعلي
في هذه المواساة. وقال النووي معناه المبالغة في اتحاد
طريقهما وإنفاقهما في طاعة الله. وطريقة السلف أجراؤه على ظاهره. وللبخاري
من حديث جابر أن الصحابة اشتركوا في أزوادهم في غزوة الساحل. ومن حديث سلمة
أنهم
(3/255)
جمعوا ازوادهم فدعا لهم فيها بالبركة.
ولهما شواهد تدل على جواز الاشتراك في جميع أنواع المال.
فصل في المضاربة
وهي دفع مال مضاربة لمتجر به ببعض ربحه مأخوذة من الضرب في الأرض وهو
السفر. لما كان الربح يحصل في الغالب بالسفر. أو من الضرب في المال. وهو
التصرف. والعامل مضارب وتسمى المضاربة قراضًا ومعامَلَة قال ابن القيم:
المضارب أمين وأجير ووكيل وشريك. فأمين إذا قبض المال. ووكيل إذا تصرف فيه.
وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل. وشريك إذا ظهر فيه الربح. وقال ابن حزم
كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة حاشى القراض فما وجد له أصل فيهما
ألبتة. ولكن إجماع صحيح مجرد. والذي نقطع به أنه كان في عصره - صلى الله
عليه وسلم - فعلم به وأقره. ولولا ذلك لما جاز، اهـ. بل المضاربة جائزة
بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة.
(قال تعالى: {وَآخَرُونَ} أي ذو أعذار في ترك قيام الليل {يَضْرِبُونَ فِي
الأَرْضِ} يسافرون في الأرض {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} يطلبون من
رزق الله في المكاسب والمتاجر. والمضاربة من الضرب في الأرض للاتجار. فدلت
الآية على جواز
المضاربة. واشتهرت في عصر النبوة وبعده. لا ينازع في ذلك منازع. وأجمعوا
على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه. أو ما يجمعان
عليه. بعد أن
(3/256)
يكون ذلك معلومًا بجزء من أجزاء. فمن شرط
صحتها تقدير نصيب العامل. لأنه يستحقه بالشرط. فلم يقدر إلا به. وإن قال
والربح بيننا فنصفان. أو لي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثه صح. والباقي للآخر.
وإن اختلفا لمن الجزء المشروط فللعامل لاستحقاقه له بالعمل. ولا نفقة لعامل
إلا بشرط. وقال الشيخ وابن القيم أو عادة.
(وقارض) من القرض في الأرض وهو قطعها بالسير فيها. وهو المضاربة من الضرب
في الأرض. فقد قارض (ابن مسعود وغيره) من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم
- وغيرهم. فروى الشافعي أن ابن مسعود أعطى زيد بن جليدة مالاً مقارضة. يعني
مضاربة يتجر فيه ببعض الربح وروى مالك عن العلاء عن أبيه أنه عمل في مال
لعثمان على أن الربح بينهما. وروى البيهقي أن عمر أعطى مال يتيم مضاربة.
وتقدم خبر ابني عمر وغيره مما يدل على أن المضاربة مما كان الصحابة
يتعاملون بها من غير نكير فكان إجماعًا منهم على الجواز. ولابن ماجه من
حديث صهيب "ثلاث فيهن البركة" منها المقارضة وهي دفع مال لمتجر به ببعض
ربحه.
(وكان حكيم بن حزام) بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. قال ولدت قبل الفيل
بثلاث عشرة سنة. وقيل في جوف الكعبة. وهو من سادات قريش. وأسلم عام الفتح.
وكان من المؤلفة. وأعطي مائة بعير. وفي الصحيح "من دخل
(3/257)
دار حكيم فهو آمن" وعاش مائة وعشرين سنة
وكان (يشترط على من أعطاه مالًا مقارضة) أي مضاربة بسهم معلوم للعامل
(ألا يجعله في كبد رطبة) أي لا يشتري به الحيوانات لأن ما كان له روح
عرضة للهلاك بطرو الموت عليه.
(ولا يحمله في بحر) مخافة الغرق (ولا ينزل به بطن مسيل) فيهجم عليه
السيل فيتلفه. وهذه الثلاثة من أخطر ما يكون (فإن فعل ضمن) لتعديه ما
شرط عليه. وتفريطه بتعرضه لهلاك المال (رواه الدارقطني) والبيهقي. وقوى
الحافظ إسناده فدل على جواز نحو هذه الشروط وعلى هذه المضاربة وفي
تجويز المضاربة أيضًا آثار عن جماعة من الصحابة –رضي الله عنهم.
وأما اشتراط النفقة فيها ففي الاختيارات لا نفقة للمضارب إلا بشرط أو
عادة. فإن شرطت مطلقًا فله نفقة مثله طعامًا وكسوة. وقد يخرج لنا أن
للمضارب في السفر زيادة على نفقة الحضر. كما قلنا في الولي إذا أحج
الصبي اهـ. وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف جبر من الربح قبل
قسمته أو تنضيضه. وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال.
(وعن ابن مسعود) -رضي الله عنه- (قال اشتركت)
أي: وقعت شركة بيني (أنا وعمار) بن ياسر، (وسعد)
بن أبي وقاص (فيما نصيب يوم بدر) الوقعة
(3/258)
المشهورة في السنة الثانية من الهجرة (فجاء
سعد بأسيرين) وأخفق الآخران. قال ابن مسعود (ولم أجئ أنا وعمار بشيء)
وأقرت شركتهم (رواه أبو داود) والنسائي وغيرهما. قال أحمد أشرك بينهم
النبي – - صلى الله عليه وسلم -.
فدل على صحة الشركة في المكاسب. وتسمى شركة الأبدان. وهذا مذهب أبي
حنيفة ومالك وأحمد وجمهور أهل العلم. وهي أن يشتركا فيما يكتسبان
بأبدانهما. وما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله أو يوكل كل منهما
صاحبه أن يتقبل أو يعمل عنه في قدر معلوم. ويعينان الصنعة. أو على أجرة
وعمل وما يحصل لهما بعد العمل والأجرة مشترك بينهما. وتصح شركة الأبدان
في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات. قال الشيخ وتصح شركة دلالين
وجعلها بمنزلة خياطة الخياط. وتجارة التاجر. وموجب العقد المطلق
التساوي في العمل والأجر. ومن عمل أكثر وطلبه فله بقدره. وإن مرض
أحدهما فالكسب بينهما وإن طالبه الصحيح أن يقيم غيره مقامه لزمه.
(وله عن رويفع) بن ثابت بن السكن من بني مالك بن النجار الأنصاري رضي
الله عنهم توفي ببرقة سنة ست وخمسين (إن كان أحدنا) يعني الأنصاري
بالمدينة (ليأخذ نضو أخيه) النضو المهزول من الإبل فيعلفه ويركبه (على
أن له النصف مما يغنم) وذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل
على جواز أخذ الرجل راحلة صاحبه في الجهاد على أن تكون الغنيمة بينهما.
وكذا غيره
(3/259)
من سائر المكاسب المباحة. وذكر بعض أهل
العلم شركة الوجوه، وهي: أن يشتركا في ذمتيهما بجاههما فما ربحاه
فبينهما على ما شرطاه. والوضيعة على قدر ملكيهما. وهي كشركة العنان.
لأنها في معناهما فأعطيت حكمها.
وذكروا شركة المفاوضة، وهي: أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي
أو بدني من أنواع الشركة. وهي الجمع بين عنان ووجوه ومضاربة وأبدان.
فتصح لأن كل واحد منها يصح منفردًا فصح مع غيره كحالة الانفراد.
باب المساقاة
أي والمزارعة. والمساقاة من السقي. سميت بذلك لأنه أهم أمرها بالحجاز.
وهي دفع شجر له ثمر يؤكل. ولو غير مغروس. إلى آخر ليقوم بسقيه. وما
يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمر نفس الشجر للمالك. وللعامل الباقي. أو
على الشطر والشطر
الثاني للعامل. بحسب ما يصطلحان عليه. والمزارعة مفاعلة
من الزراعة. وهي دفع أرض لمن يعمل عليها أو أرض وحب
لمن يزرعه ويقوم عليه. أو حب مزروع ينمى بالعمل لمن
يقوم عليه بجزء معلوم. قال الشيخ هما أصل من المواجرة
وأقرب إلى العدل والأصول. فإنهما يشتركان في المغنم
والمغرم اهـ.
(3/260)
ويصحان بما يؤدي المعنى. وهما جائزتان
بعموم الكتاب والسنة والإجماع. فإن المكاسب من الضرب في الأرض وابتغاء
فضل الله. وكان أهل المدينة أهل حرث. وكثير من أهل الأشجار والأراضي
يعجزون عن عمارتها وسقيها. ولا يمكنهم الاستئجار عليها. وكثير من الناس
لا أرض لهم ولا شجر ويحتاجون إلى الثمر. والعمل فيه من ابتغاء فضل
الله. وهو من أحل المكاسب والسنة طافحة بذلك. وفيه فضل إذا لم يشغل عن
الأمور المطلوبة ففي الصحيحين "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا
فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة".
(عن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (قال عامل النبي - صلى الله عليه وسلم -
أهل خيبر) بعد أن فتحها الله عليه سنة سبع (بشطر ما يخرج منها من ثمر
أو زرع متفق عليه) ولمسلم "دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن
يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها" والشطر هنا بمعنى النصف. ولأحمد
"دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف" فدل الحديث على صحة المساقاة
والمزارعة. وهو قول الخلفاء وفقهاء الحديث وعمل المسلمين في جميع
الأعصار والأمصار. وأنه لا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض. وهو
الذي عليه عمل الناس.
وثبت أن عمر قال إن جاء عمر بالبذر من عنده فالشطر. وإن جاءوا بالبذر
فلهم كذا. واشتهر فلم ينكر. ودل على بيان
(3/261)
الجزء المساقى عليه من نصف أو ربع أو
غيرهما من الأجزاء المعلومة. فلا يجوز على مجهول.
(وفي رواية نقركم بها) أي نمكنكم على ذلك (ما شئنا) أي إلى أن نشاء
إخراجكم. لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عازماً على إخراجهم من جزيرة
العرب. وتقدم أنهم أقروا حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه. فدل على صحة
المساقاة والمزارعة وإن كانت المدة مجهولة.
(وقال أبو جعفر) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي ثقة
فاضل توفي سنة 115هـ (عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر
بالشطر) مما يخرج منها (ثم أبو بكر) -رضي الله عنه- مدة خلافته (ثم
عمر) -رضي الله عنه- مدة خلافته (وعثمان) -رضي الله عنه- كذلك (وعلي)
-رضي الله عنه- كذلك (ثم أهلوهم) آل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (إلى
اليوم) يعني إلى عصر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب رضي الله عنهم, قال أبو جعفر (يعطون الثلث والربع) مما يخرج من
ثمر أو زرع.
وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على
الثلث والربع. وزارع علي وسعد بن
(3/262)
مالك وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز
والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل علي وآل عمر. وعن طاووس أن معاذ بن جبل
أكرى الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر
وعثمان على الثلث والربع. فهو يعمل به إلى يومك هذا. رواه ابن ماجه.
وذكر البخاري وغيره آثاراً كثيرة عن السلف توجب أنه لم ينقل خلاف في
الجواز. وتمسك بذلك الجمهور. وقالوا يجوز العقد على المساقاة والمزارعة
مجتمعتين. فتساقيه على النخل وتزارعه على الأرض. كما جرى في خيبر.
ويجوز العقد على كل واحدة منهما منفردة. وفيه أيضاً بيان الجزء المساقى
عليه من نصف أو ربع أو غيرهما من الأجزاء المعلومة.
وقال ابن القيم في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من
الغلة من ثمر أو زرع. فإنه - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر
واستمر على ذلك إلى حين وفاته - صلى الله عليه وسلم - ولم ينسخ البتة.
واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه. وليس هذا من باب المواجرة في شيء بل
من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء اهـ. ومذهب أحمد وغيره أن
المساقاة والمزارعة عقد جائز قياساً على المضاربة. والجمهور على أنه
عقد لازم دفعاً للضرر. وقيل عليه العمل. واختاره الشيخ وغيره. وعليه
فحكمها حكم الإجارة اللازمة. وعلى الأول إن فسخ المالك فللعامل الأجرة
وإن فسخ العامل فلا شيء له.
وفي التبصرة جائزة من قبل العامل لازمة من جهة المالك.
(3/263)
وذكره الشيخ حمد بن معمر عن الشيخ محمد بن
عبد الوهاب. وأنه عليه العمل. وقال شيخ الإسلام إذا ترك العامل العمل
حتى فسد الثمر فينبغي أن يجبر عليه ضمان نصيب المالك. لأن ترك العمل من
غير فسخ العقد حرام وغرر. وهو سبب في عدم الثمر. وقال إذا فسدت
المساقاة أو المزارعة استحق العامل نصيب المثل. وهو ما جرت العادة في
مثله. لا أجرة المثل. وقال الصحيح من قولي العلماء أن هذه المشاركات
إذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل. فيجب من الربح أو النماء إما
مثله وإما نصفه كما جرت العادة في مثل ذلك. ولا يجب أجرة مقدرة. فإن
ذلك قد يستغرق المال. وأضعافه. وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير ما
يجب في الصحيح. ليس هو أجرة مسماة بل جزء مشاع من الربح مسمى. فيجب في
الفاسد نظير ذلك.
(وقال رافع بن خديج) بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم الخزرجي الأنصاري
عرض يوم بدر وأجيز يوم أحد وشهدها وما بعدها قيل مات سنة ثلاث وسبعين
وقال البخاري مات زمن معاوية رضي الله عنهما. قال (كراء الأرض) أي
إجارتها (بالذهب والفضة) ولأبي داود وغيره عنه مرفوعاً "أما بالذهب
والفضة فـ (ـلا بأس به) وما نهي عنه فلأجل الجهالة والغرر والحظر. وأما
بشيء معلوم فلا. وذكر ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء
الأرض بالذهب والفضة. ونقل
(3/264)
ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه.
قال رافع (إنما كان الناس يؤاجرون) أي يكرون أراضيهم للزرع ونحوه (على
عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيكون لهم ما (على الماذيانات)
مجاري الماء وما ينبت حول السواقي. والماذيانات الأنهار كلمة أعجمية
(وأقبال الجداول) بفتح الهمزة أوائل السواقي جمع جدول. وهو النهر
الصغير (وأشياء من الزرع) يعني مجهولة المقدار (فيهلك هذا) بكسر اللام
(ويسلم هذا) أي ربما يهلك هذا وربما يسلم هذا دون الآخر (ولم يكن للناس
كراء إلا هذا) يعني الشيء المجهول وهو غرر (فلذلك زجر عنه) يعني النبي
- صلى الله عليه وسلم - أو بالبناء للمجهول. والمراد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وذلك لما فيه من الغرر المؤدي إلى التشاجر وأكل أموال
الناس بالباطل.
فدل الحديث وما في معناه على تحريم المساقاة والمزارعة على ما يفضي إلى
الغرر والجهالة. ويوجب المشاجرة. فلأحمد وأبي داود والنسائي عن سعد بن
أبي وقاص أن أصحاب المزارع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا
يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي. وما سعد بالماء مما حول النبت.
فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختصموا في ذلك فنهاهم أن
يكروا بذلك (فأما شيء معلوم مضمون) الحفظ والعمل عليه حتى يسلم إلى أهل
الأرض (فلا بأس به رواه مسلم) وروي من غير وجه بألفاظ متقاربة.
(3/265)
وقال ابن المنذر قد جاءت الأخبار عن رافع
بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل. وهي التي كانوا يعتادونها. قال
كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه.
وبهذه الروايتين يتضح المتفق عليه لفظًا وحكمًا.
قال ابن القيم المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة فإن أحدهما
غانم ولا بد. وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركًا فيه. وإن لم يحصل
شيء اشتركا في الحرمان. فهذا أقرب إلى العدل. وأبعد عن الظلم والغرر من
الإجارة. وذكر أن المزارعة التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم -
وخلفاؤه لم يتناولها النهي بحال.
قال الشيخ ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة.
ولو كانت مغروسة فعامله بجزء من غراسها صح. ولا فرق بين أن يكون الغارس
ناظر وقف أو غيره. وقال وإن غارسه على أن لرب الأرض دراهم مسماة إلى
حين إثمار الشجر. فإذا أثمرت كانا شريكين في الثمر. هذه لا أعرفها
منقولة وقد يقال هذا لا يجوز كما لو اشترط في المزارعة والمساقاة دراهم
مقدرة مع نصيبه من الزرع والثمر. فإن هذا لا يجوز بلا نزاع. كما لو
اشترطا شيئًا مقدرًا. فإنه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط فيبقى الآخر لا
شيء له. لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم، اهـ.
ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة. وصاحب الملك ما يصلحه. والمرجع
إلى العرف في هذه الأشياء. وأما
(3/266)
الكلف السلطانية فقال الشيخ يتبع في الكلف
السلطانية العرف ما لم يكن شرطًا. وما طلب من قرية من كلف سلطانية
ونحوها فعلى قدر الأموال. وإن وضع على المزارع فعلى ربه. وعلى العقار
فعلى ربه. ومطلقًا فالعادة.
(وعنه مرفوعًا: من زرع في أرض قوم بغير إذنهم) أي غصب أرض قوم بغير
إذنهم وزرعها (فليس له من الزرع شيء) الزرع لمالك الأرض لتصرفه فيها
بغير إذن مالكها (وله نفقته) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه و (حسنه
البخاري) والترمذي. وتكلم فيه بعضهم. وقال ابن القيم ليس مع من ضعف
الحديث حجة. فإن رواته محتج بهم في الصحيح. وهم أشهر من أن يسأل عن
توثيقهم. واحتج به أحمد وأبو عبيد. وله شاهد من حديث رافع بن خديج في
قصة الذي زرع في أرض ظهير بن رافع. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
أن يأخذوا الزرع ويردوا عليه نفقته. وقال فيه: لأصحاب الأرض "خذوا
زرعكم" وذكر أنه محض القياس لو لم يأت فيه حديث. فمثل هذا الحديث الحسن
الذي له شاهد من السنة على مثله. وقد تأيد بالقياس الصحيح من حجج
الشريعة. وقال أحمد إذا كان الزرع قائمًا فهو لصاحب الأرض. فأما إذا
حصد فإنما يكون له الأجرة.
* * *
(3/267)
باب الإجارة
لغة المجازاة. يقال آجره الله على عمله إذا جازاه عليه. فهي مشتقة من
الأجر. وهو العوض. ومنه سمي الثواب أجرًا. وفي التنزيل {لَوْ شِئْتَ
لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} والإجارة عقد على منفعة مباحة معلومة.
من عين معينة أو موصوفة في الذمة. مدة معلومة. أو عمل معلوم. بعوض
معلوم. واتفقوا على أن العقد فيها يتعلق بالمنفعة دون الرقبة. وهي نوع
من المعاوضة العامة. لا نوع من البيع عند الإطلاق. وتنعقد بلفظ الإجارة
والكراء وغير ذلك مما يعرف المتعاقدان به المقصود.
وتصح بثلاثة شروط. معرفة المنفعة ومعرفة الأجرة والإباحة في نفع العين.
ويشترط في العين المؤجرة خمسة شروط: معرفتها برؤية أو صفة. والعقد على
نفعها. والقدرة على تسليمها. واشتمالها على المنفعة وأن تكون للمؤجر أو
مأذونًا له فيها. وهي عقد لازم من الطرفين عند جمهور العلماء. لأنها
نوع من البيع. فليس لأحدهما فسخها لغير عيب ونحوه. وجائزة في الجملة
بالكتاب والسنة والإجماع. ومن الرخص المستقر حكمها على وفق القياس.
(قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أي فإن أرضعن
أولادكم وهن طوالق {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على إرضاعهن
فمتى أرضعت استحقت أجر مثلها. ولها أن تمتنع لكن بعد أن
(3/268)
تسقيه اللبأ الذي لا قوام للمولود إلا به.
فدلت الآية على جواز الإجارة. وقال الوزير اتفقوا على أنه يجوز استئجار
الظئر للرضاع. وقال الشيخ يصح أن يستأجر الحيوان لأخذ لبنه. ولو جعل
الأجرة نفقته وهو مذهب مالك. وقال إذا استأجر حيوانًا لأخذ لبنه فنقص
عن العادة كان كتغير العادة بتغير العادة في المنفعة يملك المستأجر
الفسخ.
(وقال: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} يعني الأب {رِزْقُهُنَّ} طعامهن
{وَكِسْوَتُهُنَّ} لباسهن {بِالْمَعْرُوفِ} أي على قدر الميسرة. وبما
جرت به عادة أمثالهن في بلدهن. من غير إسراف ولا إقتار. قال الشيخ ولا
يفتقر إلى تقدير عوض. ولا إلى صيغة. بل ما جرت العادة بأنه إجارة فهو
إجارة. يستحق فيه أجرة المثل في أظهر قولي العلماء {لاَ تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} أي طاقتها. فلا يكلف الوالد من الإنفاق عليه
وعلى أمه إلا بما تتسع به قدرته. وقال في الآية الأخرى {لِيُنفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} وسيأتي إن شاء الله.
والمراد هنا مشروعية الإجارة وصحتها في الظئر بطعامها وكسوتها. وكذا
الأجير. كما روي عن أبي بكر وعمر وغيرهما. ولحمل الإطلاق عليه. وقال
ابن القيم فقد أجرى الشارع الشرط العرفي كاللفظي. ومنه لو دفع ثوبه إلى
من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة. أو عجينه لمن يخبزه أو لحمًا لمن
يطبخ أو متاعًا لمن يحمله. ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك.
(3/269)
وجب له أجرة مثله. وإن لم يشترط معه ذلك
لفظًا عند الجمهور حتى عند المنكرين لذلك فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا
يمكنهم العمل إلا به.
وإن قال إن ركبت هذه الدابة إلى أرض كذا فلك عشرة. أو إلى أرض كذا فلك
خمسة عشر. أو إن خط هذا القميص اليوم فلك درهم أو غدًا فنصف درهم. أو
إن زرعت أرضي حبًا فمائة أو شعيرًا فمائتان فقال ابن القيم وغيره. هذا
كله جائز صحيح لا يدل على بطلانه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس
صحيح. ولا نزاع فيه في عصر الصحابة رضي الله عنهم. بل الثابت عنهم
جوازه. كما ذكره البخاري عن عمر أنه إذا دفع أرضه إلى من يزرعها. قال
إن جاء عمر بالبذر فله كذا وإن جاؤا به فله كذا. ولم يخالفه صحابي. ولا
محذور فيه. ولا غرر ولا جهالة. ولا يقع إلا معينًا والخيرة إلى الأجير.
(وقال) تعالى {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} أي إحدى ابنتي شعيب {يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ} الآية) اتخذ أجيرًا ليرعى أغنامنا {إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين} أي خير من استعملت من هو قوي على
العمل وأداء الأمانة {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي أن
تكون أجيرًا لي إلى ثمان سنين {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ
عِندِكَ} أي تفضل منك. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "آجر
موسى نفسه ثمان سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام
(3/270)
بطنه" واستدلوا بهذه الآية على صحة استئجار
الأجير بالطعام والكسوة.
{قَالَ لَوْ شِئْتَ} أي قال موسى للخضر لو شئت يعني لو أردت على إقامتك
الجدار الذي انقض {لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ} أي على إقامته {أَجْرًا}
مكافأة وإثابة على عملك. فإنك قد علمت أننا جياع وأن أهل القرية لم
يطعمونا فلو أخذت على عملك أجرًا. فدلت الآية على صحة الإجارة على
إقامة الجدار ونحوه.
(واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر) -رضي الله عنه-
عند خروجهما من مكة إلى المدينة عام الهجرة (رجلًا من بني الديل) بكسر
الدال. واسمه عبد الله بن أريقط. والديل حي من عبد القيس (هاديا) إلى
سواء السبيل (خريتا) أي ماهرًا بالهداية. وهو على دين كفار قريش فدفعا
إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال. فأتاهما براحلتيهما
صبيحة ثالثة فارتحلا (رواه البخاري) وغيره في قصة الهجرة عن عائشة رضي
الله عنها. وفيه دليل على جواز الإجارة. واشتراط معرفة المنفعة وجواز
استئجار المسلم للكافر هداية الطريق إذا أمنه. والبخاري ترجم عليه: باب
استئجار المشركين عند الضرورة.
وقال ابن بطال وغيره الفقهاء يجيزون استئجار المشركين
(3/271)
عند الضرورة وغيرها. لما في ذلك من الذلة
لهم. وإنما الممتنع أن يؤجر المسلم نفسه من المشرك. لما فيه من الإذلال
اهـ. والمراد ليستخدمه. وأما لغير الخدمة كإجارة نفسه منه في عمل معين
في الذمة. كخياطة ثوب ونحوه. فقال الموفق يجوز بغير خلاف.
ولما يأتي في خبر علي رضي الله عنه. وأما إجارته داره ونحوها. فنصوص
أحمد كثيرة في النهي عن إجارة المسلم داره من أهل الذمة. وبيعها لهم.
وأكثر الأصحاب على التحريم. ما لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة.
فإن آجره إياها لأجل بيع الخمر أو اتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولًا
واحدًا. حكاه الشيخ وغيره.
وقال بعض الفقهاء يجب على المؤجر كلما يتمكن به من النفع لأن عليه
التمكين من الانتفاع. وفي المغني من أكرى بعيرًا لإنسان ليركبه بنفسه
وسلمه إليه لم يلزمه سوى ذلك. بخلاف ما إذا عقد ليسافر معه والجمهور أن
العمل في ذلك على العرف والعادة. وتنفسخ بتلف العين المؤجرة. وموت
الراكب ونحو ذلك.
(وله) أي البخاري (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه-
(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما بعث الله نبيًا) أي من قبلي
من الأنبياء
(إلا رعى الغنم) لما يحصل في رعايتها من الجلم والشفقة.
فقال أصحابه وأنت "قال نعم" أي كنت أرعى الغنم.
ولذا (قال: كنت أرعاها على قراريط) قال سويد بن
(3/272)
سعيد كل شاة بقيراط نصف عشر دينار وثلث
ثمنه (لأهل مكة) وللنسائي من حديث نصر افتخر أهل الإبل والغنم فقال
رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "بعث موسى وهو راعي غنم. وبعث داود وهو
راعي غنم وبعثت أنا راعي غنم".
قال بعض أهل العلم الحكمة في الهام رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم
التمرن برعيها على ما سيكلفونه من القيام بأمر أمتهم. لأن في مخالطتها
ما يحصل منه الحلم والشفقة على أمته. لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها
بعد تفرقها في الرعي. ونقلها من مسرح إلى مسرح. ودفع عدوها من سبع
وغيره.
وعلموا أن اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة
ألفوا من ذلك الصبر على الأمة. وعرفوا اختلاف طباعها. وتفاوت عقولها.
فجبروا كسرها. ورفقوا بضعيفها. وأحسنوا التعاهد لها. وتكون مشقة ذلك
أسهل مما لو كلفوا القيام به أول وهلة. لما يحصل لهم من التدرج بذلك.
والحديث دليل على جواز الإجارة على رعي الغنم. ويلحق بها في الجواز
غيرها من الحيوانات.
(وعن سويد بن قيس) العبدي أبو مرحب الكوفي
-رضي الله عنه- (في رجل يزن بالأجر) أي بالأجرة وذلك
أنه قدم مكة ببز من هجر فاشترى منه سراويل. وثم رجل
يزن بالأجر (فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - زن) أي زن ثمن
السراويل (وارجح) أي رجح الميزان. رواه الخمسة وغيرهم
(3/273)
(وصححه الترمذي) فدل على جواز الاستئجار
على الوزن وجواز أخذ الأجرة عليه. وعلى الكيل. وما في معناهما كأجرة
القاسم والحاسب.
قال الشيخ والوزن بالقبان كالوزن بسائر الموازين إذا وزن بالعدل جاز
أخذ الأجرة ممن وزن له اهـ. وفيه أن أجرة وزن الثمن على المشتري. لأن
الإيفاء يلزمه. والمبيع على البائع وهو قول فقهاء الأمصار. إلا أن يكون
ثم عادة مطردة في البلد. وفيه استحباب ترجيح المشتري في وزن الثمن
ومثله المبيع.
(وعن علي) -رضي الله عنه- (قال عملت) بالأجرة ليهودية (كل ذنوب) هو
الدلو الملآ (على تمرة) وقال مددت ستة عشر ذنوبًا حتى مجلت يداي أي
تنفطت. ثم أتيتها فعدت لي ست عشرة تمرة (وأخبرت النبي - صلى الله عليه
وسلم -) بذلك وجئته بها (وأكل معي منها) أي من تلك التمرات (رواه أحمد)
ولابن ماجه من حديث ابن عباس أن عليًا آجر نفسه من يهودي يسقي له كل
دلو بتمرة. وفي الصحيح أن خبابًا عمل للعاص بن وائل بمكة قال الحافظ
واطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وأقره.
فدل على جواز إجارة المسلم نفسه في نحو ذلك. لأنه عقد معاوضة لا يتضمن
إذلاله ولا استخدامه. وقال ابن المنير استقرت المذاهب على أن الصناع في
حوانيتهم يجوز لهم العمل
(3/274)
لأهل الذمة. ولا يعد ذلك من الذلة. بخلاف
أن يخدمه في منزله وبطريق التبعية له. ودل أيضًا على جواز الإجارة
معادة. قال ابن القيم لو آجره كل شهر بدرهم صح. وإن كانت جملة الأجرة
غير معلومة تبعًا لمدة الإجارة فقد صح عن علي أنه آجر نفسه كل دلو
بتمرة. وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك التمر.
وفي الحديثين ما كان الصحابة عليه من العيش للتعفف عن السؤال وتحمل
المنن. وأن تأجير النفس لا يعد دناءة. وإن كان المستأجر غير شريف أو
كافرًا. والأجير من أشراف الناس وعظمائهم. وإن آجر دارًا ونحوها مدة
معلومة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح. وقفًا كانت أولا.
لأن المعتبر كون المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة منها غالبًا. وقال
الشيخ ليس لوكيل مطلق إجارة مدة طويلة. بل العرف كسنتين ونحوهما إذا
رأى المصلحة في ذلك قال وتجوز إجارة العين المؤجرة في مدة الإجارة.
ويقوم المؤجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الثاني
وتجوز بزيادة.
وإن شرط أن لا يستوفيها إلا بنفسه أو أن لا يؤجرها إلا لعدل أو أن لا
يؤجرها لزيد صح لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه فينبغي أن
يثبت له الفسخ. كما لو تعذرت المنفعة. قال وليس له إخراج المستأجر قبل
انقضاء المدة لأجل زيادة أو غيرها. وما فعله بعض متأخري الفقهاء من
أصحاب الشافعي وأحمد من التفريق بين أن يزاد قدر الثلث فهو قول
(3/275)
مبتدع لا أصل له عند أحد من الأئمة. لا
بسبب تفاوت وقت ولا وقف ولا غيره.
وإذا التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور لم تلزمه اتفاقًا.
كخوفه من الإخراج. بل له استرجاعها. ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة
من ارتفاع الكراء أو انخفاضه. وقال فيمن احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا
أو بناء وقفه عليه. متى فرغت المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف.
وأخذوا أرضهم. فاستنفعوا بها. وما دام البناء قائمًا فيها فعليه أجرة
المثل. كوقف علو ربع أو دار مسجدًا. ووقف البناء لا يسقط حق ملاك
الأرض. وذكر في الفنون معناه. وقال في الإنصاف هو الصواب. ولا يسع
الناس إلا ذلك. وإن شرط قلعه لزمه بلا نزاع. وإن كان إبقاؤه بتفريط
المستأجر فللمالك أخذه بالقيمة. وقيل بنفقته. أو تركه بالأجرة بلا
نزاع. وبغير تفريط له أجرة مثله لما زاد بلا نزاع.
(وله عن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- قال
(نهى - صلى الله عليه وسلم - عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره) ولفظ
عبد الرزاق "من استأجر أجيرًا فليسم له أجره" ففيه النهي
عن استعمال الأجير حتى يسمي له أجره. وهو أحد
شروط الإجارة. لئلا يكون مجهولًا فيؤدي إلى التشاجر
والخصام. ولا يجب عند مالك وأحمد وغيرهما للعرف. واستحسان المسلمين قال
الشيخ وإذا ركن المؤجر إلى شخص
(3/276)
ليؤجره لم يكن لغيره الزيادة عليه. فكيف
إذا كان المستأجر ساكنًا في الدار. فإنه لا تجوز الزيادة على ساكن
الدار اهـ. ومثله من يعمل له عملًا.
(وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم) حجمه أبو طيبة واسمه
نافع (وأعطي الحجام أجره) صاعين من طعام (رواه البخاري) وفي لفظ أعطاه
أجره صاعًا أو صاعين. وقال ابن عباس لو كان حرامًا وفي لفظ سحتًا لم
يعطه. وفي لفظ لو علم كراهيته لم يعطه. فدل على أنه حلال. وذهب جمهور
العلماء إلى أنه حلال. محتجين بهذا الخبر وغيره. وقالوا هو كسب فيه
دناءة وليس بمحرم. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يجوز ويباح للحر.
ولأنها منفعة مباحة لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة.
(ولمسلم عن رافع مرفوعًا: كسب الحجام خبيث) وكره أحمد وجمهور السلف
للحر الاحتراف بالحجامة والانفاق على نفسه من أجرتها. ويجوز له الإنفاق
على الرقيق والدواب. لحديث محيصة أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن كسب الحجام فنهاه فذكر له الحاجة فقال "أعلفه نواضحك"
وأباحوه للعبد مطلقًا. وقال الشيخ اتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها هو
مما نهي عنه عند إمكان الاستغناء عنه. فإنه يفضي إلى كثرة مباشرة
النجاسات والاعتناء بها. لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه. وإلا
فلا يجتمع عليه استعماله في مباشرة النجاسة وحرمانه
(3/277)
أجرته ونهى عن أكله مع الاستغناء عنه مع
أنه ملكه وإذا كان محتاجًا إلى هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا
مسألة الناس فهو خير له من سؤال الناس. قال بعض السلف كسب فيه دناءة
خير من مسألة الناس.
(وعن عمران بن حصين) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال اقرؤا القرآن) وفضله وفضل قراءته معلوم (واسألوا الله به) حاجات
الدنيا والآخرة فهو كلام الله وصفة من صفاته. ولا يسأل إلا بالله
وأسمائه وصفاته (فإن من بعدكم) و "لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه"
(يقرؤون القرآن) وجاء لا يجاوز حناجرهم (يسألون الناس به) يتأكلون
بالقرآن (رواه الترمذي) وغيره ولأبي داود عن عبادة علمت ناسًا من أهل
الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلى رجل منهم قوسًا فقلت ليست بمال وارمي
عليها في سبيل الله فقال "إن كنت تحب أن تطوق طوقًا من نار فاقبلها"
ولأحمد عن عبد الرحمن ابن شبل: "اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به ولا
تستكثروا به".
وفيه دليل على أنه لا تصح الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل
القربة. كتعليم القرآن. وكالحج والأذان. لأن من شرط هذه الأفعال كونها
قربة. بخلاف العمل الذي يكون قربة ويكون غير قربة. كبناء مسجد وتعليم
خط. ونحو ذلك. وقال الشيخ لا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى
(3/278)
الميت. لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة
الإذن في ذلك. وقد قال العلماء إن القارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب
له. فأي شيء يهدي إلى الميت. وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح،
والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة.
وقال لا يجوز أن يستأجر من يصلي عنه نافلة. ولا فريضة في حياته. ولا
بعد وفاته باتفاق الأئمة. وأما ما يؤخذ من بيت المال فقال ليس عوضًا
وأجرة بل رزق للإعانة على الطاعة. فمن عمل منهم لله أثيب. وما يؤخذ رزق
للإعانة على الطاعة. وكذلك الموقوف على أعمال البر. والموصي به كذلك.
والمنذور له ليس كالأجرة. وجوز أخذ الأجرة مع الحاجة. وذكره وجهًا في
المذهب وهو مذهب مالك في غير الإمامة.
(وعن ابن عباس في قصة اللديغ) وذلك أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - مروا بماء فيهم لديغ فقالوا هل فيكم من راق؟ فرقى أحدهم
بفاتحة الكتاب على شاء فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا أخذت
على كتاب الله أجرًا و (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن
أحق ما أخذتم عليه أجرًا) أي مكافأة (كتاب الله رواه البخاري) ولفظ
حديث أبي سعيد لم يرقه حتى شرط عليه قطيعًا من غنم فتفل عليه وقرأ عليه
(الحمد لله رب العالمين) ولما ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال "قد أصبتم واضربوا لي معكم سهمًا".
(3/279)
فدل الحديث على جواز أخذ العوض على الرقية
بالفاتحة. والذكر. وأنها حلال لا كراهية فيها. فإن هذا عوض في مقابلة
قراءة القرآن. وبها استدل الجمهور على جواز أخذ الأجرة على تعليم
القرآن وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وأما تعليم القرآن والعلم بغير
أجرة فقال الشيخ وغيره هو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله. وقوله "اضربوا
لي معكم سهمًا" من باب المروآت والتبرعات ومواساة الأصحاب. وإلا
فجميعها ملك للراقي. لكن قاله تطييبًا لأنفسهم.
(ويأتي) في كتاب النكاح (أنه) - صلى الله عليه وسلم - (زوج رجلًا) قال
الحافظ لم أقف على اسمه (على سور من القرآن) وفي لفظ "فعلمها من
القرآن" ولأبي داود "عشرين آية" وجاء بألفاظ تدل على جواز جعل تعليم
الرجل لامرأته من القرآن مهرًا. وهذا الخبر يؤيد حديث ابن عباس وأبي
سعيد وما في معناهما على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن. ولأنه يجوز
أخذ الرزق والجعل عليه فجاز أخذ الأجرة كبناء المساجد ولحاجة الاستنابة
في الحج عمن وجب عليه. وعجز عن فعله. وجوزه شيخ الإسلام للحاجة. وقال
من جوزه لأنه نفع يصل إلى المستأجر كسائر النفع. وجوز إيقاعها عبادة في
هذه الحال لما فيها من النفع.
واستثنى الأكثر الإمامة. وتقدم ما في الحج عن الغير. وعن أحمد التعليم
أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين. أو
(3/280)
لرجل من عامة الناس في ضيعة. ومن أن يستدين
ويتجر. لعله لا يقدر على الوفاء. فيلقى الله بأمانات الناس. واختار
الموفق والشيخ وغيرهما جواز أخذ الأجرة على تعليم الفقه والحديث
ونحوهما. ويجوز أخذ رزق على ذلك من بيت المال.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- (مرفوعاً) إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من تطبب) أي تعاطى علم الطب (ولم يعلم
منه طب) أي لم يعلم منه معرفة جيدة للطب ومداواة الجسم. وقيل ولا شهادة
له بعلم الطب (فهو ضامن) أي غارم جنايته (رواه أبو داود) والترمذي
والحاكم وغيرهم. وله أيضاً عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز "أيما
طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن" وفيه
مجهول.
فدل على أن تعاطي الطب يضمن ما حصل من الجناية بسبب علاجه. لأنه لا
يباح له مباشرته إذًا. وإما من علم منه أنه طبيب فلا ضمان عليه. وهو من
يعرف العلة ودواءها. وله مشائخ في هذه الصناعة شهدوا له بالحذق فيها.
وأجازوا له المباشرة. ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ. ولا حجام
ونحوه عرف ححذقه. وراع ونحوه لم يتعد. ولم يفرط. وحكى الوزير الاتفاق
على أن الراعي لا يضمن ما لم يتعد. وإن اختلفا في التعدي ولا بينة
فقوله. وإن تعدى ضمن بلا خلاف.
(3/281)
ويضمن الأجير المشترك ما تلف بفعله عند
الجمهور. لا من حرزه ونحوه. لأن العين أمانة في يده كالمودع. وإن حبسها
على أجرته فتلفت فقال ابن القيم له حبسها حتى يتسلم الأجرة. وعلله بأن
العمل يجري مجرى الأعيان. فكأنه شريك لصاحب العين. وله ذبح مأكول.
ويقبل قوله أنه لم يذبحه إلا خوفًا من موته. قال ابن القيم ما لم يثبت
بينهما عداوة وحقد.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال يقول الله تعالى (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) ومن كنت خصمه
خصمته. وهو تعالى خصم لجميع الظالمين. لكنه أريد التشديد على هؤلاء
بالتصريح (منهم: رجل استأجر أجيرًا) أي استخدمه بعوض (فاستوفى منه)
العمل الذي استأجره فيه بعوض (ولم يوفه أجره) فهو تعالى خصمه لأجل ظلمه
الأجير (رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم والثاني "رجل أعطي بي ثم غدر"
أي حلف بي أو أعطى الأمان بي ثم غدر. أي نكث العهد. والثالث "رجل باع
حرًا فأكل ثمنه" وتقدم. ومن استأجر أجيرًا ولم يوفه أجره فهو كمن باع
حرًا فأكل ثمنه. لأنه استوفى منفعته بغير عوض. فكأنه أكلها فمن استخدمه
بغير أجرة فكأنه استعبده. ولهذا عطفه عليه.
(ولابن ماجه من حديث ابن عمر وفيه ضعف) وله شواهد ضعاف أيضًا بمعنى
(أعطوا الأجير أجره) أي عوض عمله (قبل أن يجف عرقه) مبالغة في تعجيله
أجره وتحذيرًا من
(3/282)
مطلة حقه. حتى أن من العلماء من يقدمه على
الغرماء مع الفلس. ولأحمد من حديث ابن عمر في ذكر آخر ليلة من رمضان
أهي ليلة القدر قال "لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله" فدل
الحديث على تعجيل أجر العامل ما لم يكن مؤخرًا بشرط. لاستحقاقه إياه
بعمله.
وتجب الأجرة بالعقد عن لم تؤجل. وتستحق بتسليم العمل لا قبله. وتستقر
كاملة باستيفاء المنفعة وتسليم العين. ومضي المدة مع عدم المانع. ونحو
ذلك. لا الفاسدة فلا تجب بالعقد. وتجب بالاستيفاء. وإذا تسلم عينًا
بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل. وإذا عمل الأجير بعض العمل
فقال الشيخ يعطى من الأجرة بقدر ما عمل.
باب السبق
هو بفتح الباء العوض الذي يبذل ليسابق عليه. وبسكونها المجارات بين
حيوان وغيره. وهو مشروع أو جائز بالكتاب والسنة والإجماع بحسب الباعث.
قال تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا} أي سرنا {نَسْتَبِقُ} نترامى بالسهام أو
نتجارى على الأقدام أينا أشد عدوًا. وأصل السبق في الرمي بالسهم. وهو
أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهمًا، وأبعد غاية، ثم يوصف
المتراميان بذلك. فيقال استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك. ليتبين أيهما
أسبق سهمًا ويشمل الرمي بالبنادق.
(3/283)
ومشروعية التدرب فيه. لأن الإعداد إنما
يكون مع الاعتياد. إذ من لا يحسن الرمي لا يسمى معدًا للقوة. وأما
الإستباق على الأقدام فكالاستباق على الخيل. وكانوا يجربون بذلك
أنفسهم. ويدربونها على العدو. لأنه كالآلة في محابة العدو. وتقدم أن
شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه.
وقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن
رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} وفي
الحديث "ألا إن القوة الرمي" وقال "فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه"
وقال "من علم الرمي ثم تركه فليس منا" وقال الشيخ السبق والصراع
ونحوهما طاعة إذا قصد به نصرة الإسلام. وأخذ السبق عليه أخذ بالحق اهـ.
وكان الرمي بالقوس في الجاهلية وصدر الإسلام وصنفوا في الرمي به
المصنفات المشهورة. وسموها بالفروسية والفروسية أربعة أنواع ركوب الخيل
والكر والفر بها. والثاني الرمي بالقوس. ويذكرون صفته. والرمي به وغير
ذلك واستعمل الآن آلات أنكى منه وأبعد مدى. فيعتبر لها ما تقرب الإصابة
فيه غالبًا. والثالث المطاعنة بالرماح. والرابع المداورة بالسيوف. ومن
استكملها استكمل الفروسية.
وقال ابن القيم في المفاضلة بين ركوب الخيل والرمي بالنشاب كل واحد
منهما يحتاج في كماله إلى الآخر. والرمي أنفع في البعد. وإذا اختلط
الفريقان قامت سيوف الفروسية. والأفضل منهما ما كان أنكى في العدو.
وأنفع للجيش. ويختلف
(3/284)
باختلاف الجيش ومقتضى الحال.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا: لا سبق) بفتح الباء أي لا
جعل للسابق (إلا في خف) كناية عن الإبل أي ذي خف (أو نصل) أي سهم من
نشاب ونبل (أو حافر) أي ذي حافر وهو للخيل (رواه الخمسة) وغيرهم. ولم
يذكر ابن ماجه النصل. وصححه ابن حبان والحاكم وابن القطان وابن دقيق.
والحديث دليل على جواز السباق على جعل. وجواز بذلك العوض في ذلك وأخذه
لأنه من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها. ومفهومه لا يجوز فيما
سواها وحكى ابن عبد البر تحريم الرهن في غير الثلاثة إجماعًا. ونوقش.
وذكر الخطابي وغيره أن البغال والحمير في معنى الخيل. لأنها كلها ذات
حوافر. وقد يحتاج إلى سرعة سيرها ونجاتها. لأنها تحمل أثقال العساكر.
فتكون معها في المغازي. وفسره بعضهم أنه لا سبق كاملًا ونافعًا ونحوه.
وقالوا أيضًا الحديث يحتمل أن يراد به أن أحق ما بذل فيه السبق هذه
الثلاثة. لكمال نفعها وعموم مصلحتها. فيدخل فيها كل مغالبة جائزة ينتفع
بها في الدين. لقصة ركانة وأبي بكر. وقال ابن القيم الرهان على ما فيه
ظهور الإسلام ودلالته وبراهينه من أحق الحق. وأولى بالجواز من الرهان
على النضال وسباق الخيل اهـ.
والسبق قيل جعالة لكل واحد فسخه، لأنه عقد على ما لا تحقق القدرة على
تسليمه، إلا أن يظهر الفضل لأحدهما فله
(3/285)
الفسخ دون صاحبه. وهذا المشهور عند أصحاب
أحمد ومذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. وقال الشيخ الجعالة تجوز على
العمل المباح. لكن المقصود بالجعل هنا أن يظهر أنه الأقوى والجعالة
الغرض بها العمل من العامل. وقال ابن القيم هو عقد مستقل بنفسه له
أحكام يختص بها ويتميز بها عن الإجارة والجعالة والنذور والعدات
ونحوها. وليس من باب الجعالة ولا الإجارة. ومن أدخله في أحد هذين
البابين تناقض. إلا أن يقصد الباذل تمرين من يسابقه كولده والمعلم
للمتعلم. فهذا هو الجعالة المعروفة. وهو نادر والغالب فيها مسابقة
النظراء بعضهم لبعض.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أجرى) أي سابق يقال أجراه وجاراه وجرى معه (ما ضمر)
أي اعلف حتى سمن وتقوى ثم قلل عليه بعد بقدر القوت
حتى خف لحمه وقوي على الجرى (من الخيل) أي المعدة
للغزو فيجوز لذلك. (من الحفياء) بفتح فسكون قيل إنها
خارج السور قرب مسجد الراية على مقربة من البركة
وقيل بأدنى الغابة لخبر من الغابة (إلى ثنية الوداع) ثنية مشهورة شامي
المدينة بين مسجد الراية ومسجد النفس الزكية قرب سلع وسميت بذلك لأن
الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها. وكان بينهما خمسة أميال أو
ستة (وما لم يضمر) أي سابق
بين الخيل التي لم تضمر (من الثنية) أي ثنية الوداع (إلى
(3/286)
مسجد بني زريق) وكان بينهما ميل (رواه
البخاري) ولهما بلفظ سابق بالخيل التي قد ضمرت من الحفياء. وكان أمدها
ثنية الوداع. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني
زريق.
ولأحمد وأبي داود سابق بين الخيل وفضل القرح في الغاية. وله أيضًا سابق
بالخيل وراهن. وفي لفظ وأعطى السابق. والحديث دليل على مشروعية السباق.
وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد
في الغزو. والانتفاع بها في الجهاد. وقال القرطبي لا خلاف في جواز
المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب. وعلى الأقدام. وكذا الترامي
بالسهام. واستعمال الأسلحة. لما في ذلك من التدريب على الحرب.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا من أدخل فرسًا بين فرسين وهو
لا يأمن أن يسبق فلا بأس به) بل هو كأحدهما. وجعله بعض الفقهاء شرطًا
إذا كان السبق منهما. وأن المراد به الخروج عن شبه القمار. والشرط
الثاني تعيين المركوبين بالرؤية. وهذا بلا نزاع. والثالث اتحادهما في
النوع.
والرابع تعيين الرماة ولا نزاع فيه. وإذا كان السبق من غير المتسابقين
فلا نزاع فيه. ومن أحدهما عند الجمهور. وأما إذا كان السبق منهما فقال
ابن القيم ما علمت في الصحابة من اشترط المحلل. وإنما هو معروف عن سعيد
بن المسيب. وعنه
(3/287)
تلقاه الناس (فإن أمن فقمار) ولفظه "فإن
أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار" أي مقامر (رواه أحمد)
ورواه أبو داود وغيره. وتكلم فيه أهل العلم.
وقال ابن القيم خبر من أدخل فرسًا بين فرسين ليس من كلام النبي - صلى
الله عليه وسلم - بل من كلام سعيد بن المسيب. وجوازه بغير محلل هو
مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح. وقال رجل عند جابر بن زيد بأن
صحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون بالدخيل بأسًا. فقال هم
كانوا أعف من ذلك. قال ابن القيم ونحن نقول كما قال جابر. وذكر
المذاهب. ثم قال: ونتولى علماء المسلمين. ونتخير من أقوالهم ما وافق
الكتاب والسنة. ونزنها بهما. وبهذا أوصانا أئمة الإسلام. وقال في الخبر
على تقدير صحته الذي يدل عليه لفظه أنه إذا أسبق اثنان وجاء ثالث دخل
معهما. فإن كان تحقق من نفسه سبقهما كان قمارًا. لأنه دخل على بصيرة
أنه يأكل ما لهما. وإن دخل معهما وهو لا يتحقق أن يكون سابقًا بل يرجو
ما يرجوانه ويخاف ما يخافانه. فإنه كان كأحدهما. ولم يكن أكل سبقهما
قمارًا.
وأما اشتراط الدخيل الذي هو شريك في الربح برئ من الخسران فكالمحلل في
النكاح. والخبر يدل على جواز حل السبق من كل باذل. وإذا كان منهما لم
يختص أحدهما ببذل ماله لمن يغلبه. بل كل منهما باذل مبذول له باختيار.
فهما سواء في البذل والعمل. ويسعد الله بسبقه من شاء من خلقه. وقال
العقد
(3/288)
المشتمل على الإخراج منهما أحل من العقد
الذي انفرد أحدهما فيه بالإخراج.
(وله) أي لأحمد في مسنده (سئل أنس) بن مالك -رضي الله عنه- قال السائل
(أكنتم) يعني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (تراهنون) أي
تسابقون على الخيل وغيرها (على عهد رسول الله – - صلى الله عليه وسلم
-) فقالوا نعم أي كنا نراهن على عهده - صلى الله عليه وسلم - قال (أكان
يراهن) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال نعم) والله: لقد
راهن على فرس يقال له سبحة فسبق الناس فبش لذلك وأعجبه، وسابق على
العضباء فيجوز على سائر الحيوانات والسفن والأقدام والسهام والمناجيق
والمقاليع ونحو ذلك. وهو قول الجمهور.
وفي الاختيارات وغيرها الصراع والسبق بالأقدام ونحوها طاعة إذا قصد به
نصر الإسلام. وأخذ السبق عليه أخذ بالحق والمغالبة الجائزة تحل بالعوض
إذا كانت مما ينفع في الدين. كما في مراهنة أبي بكر. وظاهره جواز
الرهان في العلم. وهو مذهب الحنفية. لقيام الدين بالعلم. واختاره
الشيخ. قال ابن القيم والصديق أخذ رهنه بعد تحريم القمار. وقال الدين
قيامه بالحجة والجهاد. فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد ففي العلم
أولى بالجواز. هذا القول هو الراجح. فإن القصد الأول إقامته بالحجة
والسيف منفذ.
(وعن عقبة) بن عامر رضي الله عنه (مرفوعًا: كل شيء
(3/289)
يلهو به ابن آدم) أي يلعب به. يقال لهوت
بالشيء ألهو لهوًا وتلهيت به إذا لعبت به وتشاغلت وتغافلت به عن غيره
(فباطل) والباطل ضد الحق. فما لهوت به وشغلك من هوى وطرب ونحوهما فغير
جائز (إلا رميه عن قوسه) القوس آلة منحنية كان يرمى بها العدو وغيره في
العصور الماضية (وتأديبه فرسه) يقال أدب فرسه إذا براضها على السير
(وملاعبته أهله) وقال "فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك" الثلاث جائزة فإنهن
من الحق رواه الخمسة وغيرهم و (حسنه الترمذي) فدل الحديث على أن كل ما
صدق عليه اسم اللهو فهو داخل في حيز البطلان إلا هذه الثلاثة الأمور.
فإنها وإن كانت في صورة اللهو فهي طاعات مقربة إلى الله عز وجل. مع
الالتفات إلى ما يترتب على ذلك الفعل من النفع الديني.
(وعن عمرو بن عبسة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا من رمى بسهم) أي نبل واحد
السهام يرمي به (في سبيل الله) إذا أطلق فالمراد به الجهاد (فهو عِدل)
بكسر العين وفتحها مثل (محرر) زاد الحاكم ومن بلغ بسهم فله درجة في
الجنة (صححه الترمذي) أي من رمى بسهم بنية الجهاد في سبيل الله كان له
ثواب تحرير رقبة أي عتقها وقد ورد في الترغيب في الرمي أحاديث كثيرة.
وتقدم أنه داخل في قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم
مِّن قُوَّةٍ} وقال الشيخ السباق بالخيل والرمي بالنبل ونحوه من آلات
الحرب مما أمر الله به ورسوله. لأنه مما
(3/290)
يعين على الجهاد في سبيل الله.
(وصارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركانة) بن عبد يزيد بن هشام
بن عبد المطلب بن عبد مناف المشهور بالقوة (على شاة) جعلها سباقًا
(فصرعه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي طرحه على الأرض فأخذها أي
الشاة. وذلك أنه قال هل لك أن تصارعني قال "ما تسبقني" قال شاة من غنمي
فصارعه فصرعه فأخذ الشاة. فقال ركانة هل لك في العود (ثم عاد مرارًا)
فصرعه فقال يا محمد ما وضع جنبي أحد إلى الأرض. وما أنت بالذي تصرعني
(فأسلم) يعني ركانة لما صرعه مرارًا.
(فرد عليه غنمه) أي رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنم ركانة
عليه (رواه البيهقي) قال الحافظ وإسناده صحيح إلى سعيد بن جبير. ولأبي
داود أن ركانة صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصرعه النبي - صلى
الله عليه وسلم - وله طرق وفيها مقال. وقال الشيخ عبد الغني هي أمثل ما
روي في مصارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل على جواز المصارعة
وجوازها بين المسلم والكافر.
(ولمسلم) وغيره (سابق سلمة) يعني ابن الأكوع. وذلك في مسيره إلى
المدينة (أنصاريًا) وكان الأنصاري لا يسبق شدًا. فجعل يقول ألا مسابق
قال سلمة فسبقته (على عهد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -). ولأحمد وأبي داود سابق رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - عائشة.
ولفظ أبي داود أنها كانت معه في سفر. قالت فسابقته
(3/291)
فسبقته على رجلي. فلما حملت اللحم سابقته
فسبقني. فقال هذه بتلك السبقة. وفي هذه الأحاديث وغيرها الدلالة على
جواز السبق على الأقدام. ولا نزاع في ذلك.
ويجوز اللعب بما فيه مصلحة بلا مضرة. ويكره بأرجوحة ونحوها. وظاهر كلام
الشيخ لا يجوز اللعب المعروف بالطابة والنقلة. وقيل هي اللعب بالودع.
وكلما أفضى إلى المحرم. إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة. لأنه يكون سببًا
للشر والفساد وقال الشيخ ما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه.
وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة. وأما سائر ما يتلهى به البطالون من
أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي فكله حرام.
باب العارية
بتشديد الياء وتخفيفها. من عار إذا ذهب أو من العري وهو التجرد لتجردها
عن العوض. وقيل من العار. وفيه شيء لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعلها.
وهي في الشرع إباحة عين بغير عوض. قال ابن رشد تكون في الدور والأرضين
والحيوان. وجميع ما يعرف بعينه إذا كانت منفعته مباحة الاستعمال، اهـ.
وتنعقد بكل لفظ أو فعل يدل عليها اتفاقًا بشرط أهلية المعير والمستعير.
واتفقوا على أنها قربة مندوب إليها. وأن للمعير فيها ثوابًا جزيلًا
ومشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.
(3/292)
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ
وَالتَّقْوَى}، فالعارية داخلة في عموم الآية. فإن البر الإحسان
والإعارة منه.
وقال: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون} عارية القدر والفأس والدلو والملح
والنار وأمثال ذلك. وشدد فيها قوم من السلف لهذا الآية. وإنه المتاع في
البيت يتعاطاه الناس. وقال الشيخ تجب مع غنا المالك. وهو أحد القولين
في مذهب أحمد. وتجب إعارة مصحف لمحتاج لقراءة مع عدم غيره. وخرج ابن
عقيل وجوب الإعارة في كتب علم للمحتاج لها من القضاة والحكام وأهل
الفتاوى.
(وقال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا} هذا الخطاب يشمل جميع الأمانات. وورودها على سبب لا ينافي
ما فيها من العموم. فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بإجماع
أهل العلم. فدلت الآية على وجوب رد الأمانات إلى أهلها. واستدل بعضهم
بهذه الآية على وجوب ضمان العارية. والأمر بالتأدية لا يلزم منه الضمان
إذا تلفت.
(واستعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا لأبي طلحة متفق عليه)
من حديث أنس قال كنا فزع بالمدينة فاستعار النبي - صلى الله عليه وسلم
- فرسًا من أبي طلحة يقال له المندوب فركب. فلما رجع قال "ما رأينا من
شيء. وإن وجدناه لبحرًا " فدل على جواز الاستعارة. وأبو طللحة هو زيد
بن سهل بن الأسود ابن حرام الأنصاري
(3/293)
الخزرجي. مشهور بكنيته. وهو زوج أم سليم.
يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد نحري دون نحرك لا
يصيبك بعض سهامهم. خير من ألف رجل. مات سنة أربع وثلاثين. وقيل سنة
خمسين فالله أعلم.
(واستعار) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من صفوان) يعني ابن
أمية قرشي من أشراف قريش. هرب يوم الفتح. واستؤمن له. وحضر حنينًا
والطائف. ثم أسلم وحسن إسلامه (أدراعًا) قمصان زرد الحديد تلبس وقاية
من سلاح العدو. وذلك يوم خيبر فقال صفوان اغصبا أي هي غصب يا محمد
(قال) بل عارية (مضمونة) وحكى الحافظ عن الجمهور ضمانها إذا تلفت في يد
المستعير. إلا فيما إذا كان على الوجه المأذون فيه. قال فضاع بعضها
فعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضمنها له. فقال أنا اليوم
في الإسلام أرغب (رواه أبو داود) فدل على ضمانها بالتعدي لما يأتي في
الرواية الثانية. وقال الشيخ هي مضمونة بشرط ضمانها. وهو رواية عن
أحمد.
(وله عن يعلى) أي ولأبي داود وأحمد والنسائي
وغيرهم عن يعلى بن أمية. ويقال منية صاحبي مشهور
(نحوه) أي نحو حديث صفوان. ولفظه "إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعًا"
قلت أعارية مضمونة أو عارية مؤداة (قال) بل (مؤداة) بدل مضمونة.
والمؤداة التي تجب تأديتها مع بقاء عينها. فإن تلفت لم تضمن بالقيمة.
فدل على أنها لا تضمن
(3/294)
العارية إذا لم يجر منه تعد. وروري "لا
ضمان على مؤتمن" ومنه المستعير. وهو مذهب الحنفية والمالكية. واستظهره
ابن القيم لأوجه.
أحدها هذه الرواية. فإنها تبين أنه أراد بقوله مضمونة يعني بالرد.
والثاني أنه لم يسأله عن تلفها. وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب أو
أخذ رد. فقال "بل عارية مضمونة" أي أؤديها إليك وأردها لك.
والثالث أنه جعل الضمان صفة لها نفسها. ولو كان ضمان تلف لكان الضمان
لبدلها. فلما وقع الضمان على ذاتها دل على أنه ضمان أداء. ولو كان ضمان
تلف لكان لما ضاع بعضها لم يعرض عليه أن يضمنها. ولقال هذا حقك. كما لو
كان الذاهب بعينه موجودًا. فإنه لا يعرض عليه رده.
(وعن أبي أمامة مرفوعًا: العارية مؤادة) موصلة إلى صاحبها. قال الحافظ
ليس فيه دلالة على التضمين. لأن الله يقول {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ
أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وإذا تلفت الأمانة لم
يلزم ردها. والحديث رواه أبو داود و (حسنه الترمذي) وصححه ابن حبان
وغيره.
فدل على أنها لا تضمن إلا بالتعدي. وهو أوضح الأقوال. وأفتى عبد الله
بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنها لا تضمن إلا بالتفريط فيها. وإن تلفت
في انتفاع بمعروف لم تضمن. لأن
(3/295)
الإذن في الاستعمال تضمن الإذن في الإتلاف.
وله استيفاء المنفعة بنفسه ووكيله. وليس له أن يعيرها أو يؤجرها.
(وعن سمرة مرفوعًا على اليد ما أخذت) أي ما أخذته اليد ضمان على صاحبها
(حتى تؤديه) من غير نقص عين ولا صفة وأسند إلى اليد لأنها المتصرفة فمن
أخذ مال غيره لزمه رده (رواه الخمسة) وصححه الحاكم وحسنه الترمذي
والحديث دليل على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره. وعليه مؤونة
الرد. ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه. وهم يعم
العارية والغصب.
ولو سلم شريك شريكه دابة فتلفت بلا تعد لا تفريط لم يضمن. ولا ضمان عند
الجمهور في أربع إذا كانت العارية وقفًا. وإذا أعارها المستأجر أو بليت
فيما أعيرت له. أو أركب دابة منقطعًا للثواب فتلفت تحته ما لم يفرط.
وللمعير الرجوع متى شاء بلا نزاع. ما لم يأذن في شغله بشيء يضر
المستعير برجوعه فيه. كما لو أعاره أرضًا للزرع أو جدارًا ليضع عليه
خشبه.
(ولأبي داود) وغيره (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أد الأمانة) أي ادفع الأمانة
وهي كل حق لزمك أداؤه وحفظه (إلى من ائتمنك) عليها والائتمان إيداع
الشيء لحفظه حتى يعاد إلى المؤتمن (ولا تخن
(3/296)
من خانك) أي لا تكافئ الخائن بمثل فعله.
فلا يجازى بالإساءة من أساء وهذه مسألة الظفر وتأتي. والحديث حسنه
الترمذي وصححه الحاكم. وتكلم فيه أحمد وغيره. وله طرق متعددة فيها
مقال. وقال في نيل الأوطار ينتهض للاحتجاج به.
وهو شامل للعارية والوديعة ونحوهما وأنه يجب أداء الأمانة كما تقدم في
قوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا} ولا نزاع في ذلك.
وإن اختلفا في الإعارة فقال المالك آجرتك فقبل مضي مدة يقبل قول مدعي
الإعارة. وبعد مدة لها أجرة قول المالك. وإن قال أعرتك قال بل أجرتني
فقول المالك. لأن الأصل عدم عقد الإجارة. وإن قال أعرتني أو أجرتني
وقال المالك بل غصبتني فقوله. لأن الأصل عدمهما. وإن قال أعرتك وقال بل
أجرتني والبهيمة تالفة فقول المالك. وإن اختلفا في الرد فقول المالك
للخبر.
باب الغصب
أي باب ذكر أحكام الغصب وجناية البهائم وما في معنى ذلك من الاتلافات.
والغصب مصدر غصب يغصب غصبًا.
وهو لغة أخذ الشيء ظلمًا. تقول غصبه منه وغصبه أو قهره عليه. واصطلاحًا
الاستيلاء عرفًا على حق غيره قهرًا بغير حق
(3/297)
من عقار ومنقول. وهو محرم بالكتاب والسنة
والإجماع في الجملة.
قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم} أي لا يأكل بعضكم مال بعض
{بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} أي من غير الوجه الذي أباحه الله والغصب من
أكل أموال الناس بالباطل وأصل الباطل الشيء الذاهب فالأكل بالباطل
أنواع قال بعض المفسرين قد يكون بطريق الغصب والنهب وقد يكون بطريق
اللهو والقمار.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه ابن عباس وأبو بكرة
وغيرهما في خطبته يوم النحر عام حجة الوداع بمنى ومسلم عن جابر بعرفة
(إن دماءكم) أي إن دماء بعضكم على بعض حرام (وأموالكم) أي وإن أموال
بعضكم على بعض حرام (وأعراضكم) وهي موضع الذم والمدح (عليكم حرام) وقال
الحافظ على حذف المضاف أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم (كحرمة يومكم هذا)
أي يوم النحر، ويوم عرفة أو هما وكلاهما له حرمة أكيدة وثلب أعراضكم
عليكم حرام (في بلدكم هذا) أي بلد مكة وتقدم أنه حرام بحرمة الله إلى
يوم القيامة (في شهركم هذا) أي ذي الحجة وفيه ثم قال ألا هل بلغت؟
قالوا اللهم نعم فقال - صلى الله عليه وسلم - اللهم اشهد الحديث (متفق
عليه).
قال الحافظ فيه مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير
(3/298)
ليكون أوضح للسامع وقال مناط التشبيه ظهوره
عند السامعين لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتاً في نفوسهم
متقرراً عندهم بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية
يستبيحونها فأخبر الشارع أن تحريم دم الإنسان وماله وعرضه أعظم من ذلك
فدل الحديث على آكدية تحريم مال المسلم.
(وعن أنس) بن مالك -رضي الله عنه- (مرفوعاً لا يحل مال امرئ مسلم) اخرج
الكافر غير المستأمن (إلا عن طيب نفسه) رواه الدارقطني و (رواه ابن
ماجه) وغيره ومعناه صريح في الكتاب والسنة ومجمع على تحريمه.
(وعن ابن السائب) عبد الله بن السائب بن يزيد بن سعيد ثمامة الكندي عن
أبيه عن جده يزيد (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لا يأخذ أحدكم متاع
أخيه) منفعة كان أو سلعة مما يتمتع به من الحوائج (لا لاعباً) أي لا في
حالة اللعب فلا يجوز له أخذ متاع على جهة المزح والهزل فدل على تحريم
أخذ متاع الإنسان على جهة المزح (ولا جاداً) أي ولا في حال الجد فيحرم
أخذه على جهة الجد أيضاً وفي النهاية وغيرها أن يأخذه. ولا يريد سرقته
ولكن يريد المزح وإدخال الهم والغيض عليه فهو لاعب في السرقة جاد في
الأذية. وهذا كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وكقوله -
صلى الله عليه وسلم - "إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام" ولا نزاع في
تحريم ذلك لا شرعاً ولا عقلاً بل تطابق على
(3/299)
ذلك الشرع والعقل إلا ما استثنى كالزكاة
وغيرها من الحقوق المالية الموضحة في مواضعها.
(ومن أخذ عصا أخيه) تنبيهًا على ما هو أعلى منها وجاء ولو قضيبًا من
أراك (فليردها إليه رواه أبو داود) وأقره المنذري وحسنه الترمذي فدل
على تحريم أخذ مال المسلم بغير حق وليس المراد العصا بل المراد منه كل
شيء حتى العصا فدل الحديث على تحريم الغصب ووجوب رد المغصوب بعينه إن
أمكن أو مثله وإلا فقيمته كما سيأتي.
(ولهما) أي البخاري ومسلم (عن سعيد بن زيد مرفوعًا من غصب شبرًا من
الأرض) وفي لفظ "من أخذ شبرًا" وفي لفظ "شيئًا" من الأرض (طوقه) أي
حمله طوقًا على رقبته (من سبع أرضين) ولهما من حديث عائشة "من ظلم
شبرًا من الأرض طوقه من سبع أرضين" ولأحمد من حديث أبي هريرة "من اقتطع
شبرًا من الأرض بغير حق طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين" ولأبي
عوانة "جاء به مقلده".
وفيها دليل على تغليظ عقوبة الغصب وأنه من الكبائر. ودليل على أن من
ملك أرضًا ملك قرارها. وله منع من يحفر تحتها بئرًا أو سربًا بغير رضى
المالك. وأن ملك ظاهر الأرض ملك لباطنها بما فيه من حجارة وأبنية
ومعادن وغير ذلك. وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره.
(3/300)
(وعنه مرفوعًا ليس لعرق ظالم حق) قال
الحافظ رواية الأكثر بتنوين عرق. وغلط الخطابي من رواه بالإضافة. وظالم
نعت له. أي ليس لذي عرق ظالم حق (رواه الخمسة) وحسنه الحافظ وله شواهد.
وتمام الحديث ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرس أحدهما نخلًا في أرض الآخر. فقضى
لصاحب الأرض بأرضه. وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها. قال فلقد
رأيتها وإنما لتضرب أصولها بالفؤس. وإنها لنخل عم. يعني طوالًا.
وحكى ابن رشد الإجماع على أن من اغترس نخلًا أو شجرًا. وبالجملة نباتًا
في غير أرضه أنه يؤمر بالقلع اهـ. ولأنه شغل ملك غيره بملكه الذي لا
حرمة له في نفسه بغير إذنه فلزمه تفريغه. ويلزمه ارش نقصها وتسويتها
وأجرة مثلها إلى وقت التسليم. وأكثر الفقهاء على أن صاحب الأرض يملك
إجبار الغاصب على قلعه.
(وعن رافع مرفوعًا: من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع
شيء)، وكذا من بنى أو حفر في أرض غيره بغير حق. ولا شبهة فلا شيء له
(وله نفقته) أي للغاصب ما أنفقه على الأرض من المؤونة في الحرث والسقي
وقيمة البذر ونحو ذلك رواه الخمسة إلا النسائي. (وحسنهما الترمذي) وحسن
البخاري حديث رافع. وله شواهد. وتقدم. وفيه دليل
(3/301)
على أن غاصب الأرض إذا زرعها لا يملك
الزرع. وأنه لمالكها. وله ما غرم على الزرع من النفقة والبذر.
ويقال من بذر في أرض غيره بلا إذنه فلا يخلو: إما أن يسترجعها مالكها
بعد حصاد الزرع أو قبله. فإن أخذها مستحقها بعد حصاد الزرع فالزرع
لغاصب الأرض. قال الموفق لا نعلم فيه خلافًا. وذلك إنه نماء ماله وعليه
أجرة الأرض إلى وقت التسليم، وضمان نقص الأرض. وإن أخذها صاحبها من
الغاصب والزرع قائم فيها فعند الجمهور أن الزرع لمالك الأرض وعليه
نفقته. واختاره الشيخ. ويخير المالك بين أن يدفع إليه نفقته ويكون
الزرع له. أو يترك الزرع للغاصب ولم يملك إجباره على قلعه. لأنه أمكن
رد المغصوب إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمن. فلم
يجز إتلافه.
وفارق الشجر لطول مدته. وحديث ليس لعرق ظالم حق محمول عليه. وهذا
الحديث في الزرع. فحصل الجمع بين الخبرين. وأما من زرع بلا إذن شريكه
والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم. ولربها نصيب معلوم. فقال الشيخ
يقسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك اهـ. ولو طلب أحدهما من الآخر أن يزرع
معه أو يهاييه فأبي فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة. كدار بينهما
فيها بنيان سكن أحدهما عند امتناعه مما يلزمه. وصوبه في الإنصاف. وأنه
لا يسع الناس غيره.
(3/302)
وإن كان المغصوب على خلقته كولد الجارية
فقال ابن رشد: لا خلاف أعلمه أن الغاضب يرده كالولد مع الأم المغصوبة.
قال والقياس أن تجرى المنافع والأعيان المتولدة مجرى واحدًا. وقال
الشيخ المتوجه فيما إذا غصب شيئًا كفرس وكسب به مالًا كالصيد أن يجعل
الكسب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعها. بأن تقوم منفعة الراكب
ومنفعة الفرس. ثم يقسم الصيد بينهما. وأما إذا كسب العبد فالواجب أن
يعطى المالك أكثر الأمرين من كسبه أو قيمة نفعه.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال من اعتق) أي حرر من الرق (شركًا له) وفي رواية شقصًا وفي رواية
نصيبًا له (في عبد) ذكرًا كان أو أنثى (قوم) أي العبد (عليه قيمة عدل)
وفي رواية قوم العبد عليه قيمة عدل (متفق عليه) ورواه غيرهما من غير
وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه "فأعطى شركاءه حصصهم وعتق
عليه العبد وإلا" أي وإن لم يكن له مال "فقد عتق منه ما عتق" فدل على
تقويم حصة الشريك. ولعله مع تعذر المثل.
قال ابن القيم إذا اتلف نقدًا أو حبوبًا. أمكن ضمانها بالمثل. وإن كان
ثيابًا أو آنية أو حيوانًا فمثله. وقد يتعذر فالقيمة. واحتج الشيخ
بقوله: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا
أَنفَقُوا} وقال يضمن المغصوب بمثله مكيلًا كان أو موزونًا أو غيرهما
حيث أمكن. وإلا فالقيمة. واختار اعتبار المثل بكل ما
(3/303)
يثبت في الذمة. والتشابه في غير المكيل
والموزون ممكن. فلا مانع منه. وكذا ما انقسم بالأجزاء بين الشريكين من
غير تقويم مضافًا إلى هذا النوع. لوجود التماثل وانتفاء التخالف.
(وللبخاري) في صحيحه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- (أن إحدى نساء
النبي – - صلى الله عليه وسلم -) وللترمذي أنها عائشة رضي الله عنها
(كسرت قصعة الأخرى) هي زينب بنت جحش. كما رواه ابن حزم وغيره والقصعة
إناء من خشب (فدفع) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قصعة
الكاسرة) وهي لعائشة رضي الله عنها (وحبس المكسورة) في بيت التي كسرت،
وقال "طعام بطعام وإناء بإناء" وللنسائي عن أم سلمة أنها أتت بطعام في
صحفة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فجاءت عائشة متزرة
بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة. ووقع مثل ذلك لحفصة مع عائشة. وصفية
مع عائشة. فلأبي داود قالت ما رأيت صانعًا طعامًا مثل صفية، صنعته
فبعثت به، فأخذني: أفكل –رعدة- فكسرت الإناء. فقلت يا رسول الله ما
كفارة ما صنعت؟ قال "إناء مثل إناء. وطعام مثل طعام".
ولا ريب أن إتلاف مال الغير عدوانًا من أنواع الغصب. ودلت الأحاديث وما
في معناها على أن من استهلك على غيره شيئًا كان مضمونًا بمثله. وهو
إجماع في المثلي. حكاه الحافظ وغيره. وأن القيمي يضمن بمثله. ولا يضمن
بالقيمة إلا عند عدم المثل. وقال الوزير اتفقوا على أنه يجب على الغاصب
(3/304)
للمغصوب منه رد العين إن كانت عينية. ولم
يخف من ردها إتلاف نفس. وأن العروض والحيوان وكل ما كان غير مكيل ولا
موزون يضمن إذا غصب وتلف بقيمته. والمكيل والموزون بمثله إذا وجد مثله.
وقال ابن عبد البر كل مطعوم من مأكول ومشروب فمجمع على أنه يجب على
مستهلكه مثله لا قيمته.
وقال الشيخ وغيره يضمن المغصوب بمثله مكيلًا كان أو موزونًا أو غيرهما.
حيث أمكن. وإلا فالقيمة. وقال إذا تغير السعر وفقد المثل فينتقل إلى
القيمة وقت الغصب. وهو أرجح الأقوال. وقال في الثوب والعصا والقصعة
ونحوها يضمنه بالمثل مراعيًا للقيمة. وقال ولو شق ثوب شخص خير مالكه
بين تضمين الشاق نقصه وبين شق ثوبه.
(وعن سمرة) -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال (من وجد عين متاعه) ما ينتفع به من عروض الدنيا وفي لفظ "عين
ماله" أي ما غصب أو سرق أو ضاع من ماله (عند رجل فهو أحق به) فيأخذه
وفي لفظ ويتبع البيع بكسر الياء مشددة من باعه رجلًا كان أو امرأة (وفي
لفظ إذا سرق من الرجل متاعه) يعني ماله المسروق (أو ضاع) أي متاعه
(فوجده بيد رجل) أي عند رجل (بعينه) أي بعين ماله
المسروق أو الضائع والمراد إذا ثبت ببينة أو إقرار (فهو
أحق به) يأخذه.
(3/305)
وقال الموفق وغيره أجمع العلماء على وجوب
رد المغضوب إذا كان بحاله لم يتغير ولم ينشغل بغيره (ويرجع المشتري) إن
كان اشتراه (على البائع بالثمن) الذي دفعه (رواه أبو داود) والنسائي
ورواه أحمد وابن ماجه. وفي لفظ "ويرجع المشتري" أي للمغصوب ونحوه "على
من باعه" أي وأخذه منه الثمن. فإن له أن يخاصمه ويأخذ عين ماله منه.
ويرجع مشتري الشيء المأخوذ من يده على من باعه إياه.
فمتى ظهر المبيع مستحقاً فللمشتري أن يرجع بالثمن على من قبضه منه أو
ببدله. فإن كان القابض غائباً حكم عليه إذا قامت الحجة. وسلم للمحكوم
له حقه من مال الغائب مع بقائه على حجته.
وإن اختلطت الغصوب واشتبه ملك بعضهم ببعض فقال الشيخ إن عرف قدر المال
تحقيقًا قسم الموجود عليهم على قدره وإن لم يعرف إلا عدده على قدر
العدد. لأن المالين إذا اختلطا قسما بينهم. وإن كان كل منهم يأخذ عين
ما كان للآخر. لأن الاختلاط جعلهم شركاء. وسواء اختلط غنم أحدهما
بالآخر عمداً أو خطأ. يقسم المالان على العدد إذا لم يعرف الرجحان. وإن
عرف وجهل قدره أثبت منه القدر المتيقن. وأسقط الزائد المشكوك فيه. لأن
الأصل عدمه.
قال وقدر المتلف إذا لم يمكن تحديده عمل فيه بالاجتهاد
(3/306)
كما يعمل في قيمته بالاجتهاد. إذ التقويم
والخرص واحد. فإن الخرص الاجتهاد في معرفة مقدار الشيء. وتقويمه
الاجتهاد في معرفة مقدار ثمنه. بل قد يكون الخرص أسهل. وكلاهما يجوز مع
الحاجة. قال ومن ندم ورد المغصوب بعد موت المغصوب منه كان للمغصوب منه
مطالبته في الآخرة لتفويته الانتفاع به في حياته. كما لو مات الغاصب
فرده وارثه. وقال ومن كانت عنده غصوب وودائع وغيرها لا يعرف أربابها
صرفت في المصالح. وقاله العلماء.
ولو تصدق بها جاز. وله الأكل منها. ولو كان عاصيًا إذا تاب. وكان
فقيرًا. وقيل يدفعه إلى الإمام إن كان عادلًا. أو له نائب كذلك. الأسلم
لرجل عالم معروف موثوق به. وأعلمه بالحال ليصرفه في مصارفه. وللعالم أن
يصرفه إليه إن كان ممن يجوز الصرف إليه. وله أن يصرفه من نفسه لنفسه إن
كان بهذه الصفة. وهو عالم بالأحكام الشرعية. وقال من مات معدمًا يرجى
أن الله يقضي عنه ما عليه.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا: العجماء) البهيمة لأنها لا تتكلم (جبار) بضم
الجيم أي جناية البهائم هدر. قال أهل اللغة الجبار الهدر والباطل. وقال
الشيخ كل بهيمة عجماء كالبقر والشاة وغيرهما. فجناية البهائم غير
مضمونة إذا فعلت بنفسها. كما لو انفلتت ممن هي في يده وأفسدت فلا ضمان
على أحد. ما لم تكن عقورًا ولا فرط صاحبها في حفظها في الليل أو في
أسواق
(3/307)
المسلمين ومجامعهم. وكذا قال غير واحد أنه
إنما يكون جبارًا إذا كانت منفلتة ذاهبة على وجهها ليس لها قائد ولا
سائق إلا الضارية. وكذا الجوارح وشبهها يلزم مالكها وغيره ضمان ما
أتلفت.
وفي الفصول من أطلق كلبًا عقورًا أو دابة رفوسًا أو عضوضًا على الناس
وخلاه في طريقهم ومصاطبهم ورحابهم فأتلف مالًا أو نفسًا ضمن لتفريطه.
وكذا إن كان له طائر جارح كالصقر والبازي فأفسد طيور الناس وحيواناتهم.
وقال الشيخ فيمن أمر رجلًا بإمساك الضارية فجنت عليه يضمنه إن لم يعلمه
بها. ويضمن جناية ولد الدابة إن فرط نحو أن يعرفه شموصًا.
(والبئر جبار) وذلك أن يحفر شخص في ملك نفسه فيتردى فيها إنسان). فإنه
هدر. وإن حفر في فناء داره لنفسه ضمن. وكذا إن حفرها في طريق ضيق. وإن
حفرها بطريق واسع لنفع المسلمين بلا ضرر في سابلة لم يضمن ما تلف بها
لأنه محسن (والمعدن جبار) وذلك أن يستأجر من يستخرجها. فإذا انهارت
عليهم فدماؤهم هدر. لأنهم أعانوا على أنفسهم فزال العتب عمن استأجرهم
(متفق عليه) فدل الحديث على أن هذه الثلاثة هدر على ما فصل.
(ولأبي داود والرجل جبار) أي لا ضمان فيما جنته
(3/308)
الدابة برجلها. لكن بشرط أن لا يكون بسبب
مالكها. كأن يجذبها باللجام زيادة على العادة أو يضرب وجهها فيضمن ما
نفحته برجلها. وإن كانت هذه الزيادة فيها مقال فيشهد لها قوله في
الحديث الصحيح "جرحها جبار" فإن عمومه يقتضي عدم الفرق بين جنايتها
برجلها أو بغيرها.
(وعن النعمان) بن بشير -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال (من أوقف دابة) بعيرًا كان أو حمارًا أو غيرهما
(في طريق المسلمين) المسلوك وقيده بعضهم بالضيق (أو سوقهم) أو مجامعهم
(فأوطأت) أي داست (بيد أو رجل) فأتلفت شيئًا (فهو ضامن) لأن من طبع
الدابة الجناية برجلها أو يدها أو فمها (رواه الدارقطني) قال المجد هذا
إذا أوقفها في طريق ضيق أو حيث تضر المار اهـ. وكجعلها في الأسواق
والمجامع طردها في تلك الأمكنة. فيضمن جنايتها حيث كانت لسببه. وأن لا
يكون في الأوقات التي يجب على المالك حفظها فيها كالليل. وبقرب ما
تتلفه عادة.
قال الشيخ ولو كان معها قائد أو سائق فما أفسدت بفمها أو يدها فهو
عليه. لأنه تفريط. قال الحارثي والبهيمة النزقة التي لا تضبط بكبح ولا
نحوه ليس له ركوبها بالأسواق. فإن ركب ضمن لتفريطه. وكذا الرموح التي
تضرب برجلها.
(وللخمسة) وغيرهم؛ (إلا الترمذي عن البراء) ابن
(3/309)
عازب -رضي الله عنه- قال (قضى رسول الله
عليه وسلم أن حفظ الحوائط) وهي البساتين إذا كانت محاطة بالجدر. وكذا
المزارع حفظها (بالنهار على أهلها) فلا يضمن مالك البهيمة ما جنت
بهيمته بالنهار ما لم يرسلها بقرب ما تتلفه عادة. وهذا مذهب مالك
والشافعي وأحمد وغيرهم (وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها) ومطلقًا عما
تتلفه عادة لخبر "لا ضرر ولا ضرار" (وأن على أهل الماشية ما أصابت
ماشيتهم بالليل) لتفريطهم بإرسالها كما لو أرسلوها قرب الزرع قاله
الشيخ وغيره.
وقال أيضًا هذا إذا كانت ترعى في المراعي المعتادة فانفلتت نهارًا من
غير تفريط من صاحبها حتى دخلت اصطبلًا فأفسدته أو أفسدت زرعًا لم يكن
على صاحبها ضمان عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد لقصة سليمان بن
داود والنفش. ولحديث ناقة البراء. فإنها دخلت حائطًا فأفسدته فقضى فيها
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بما تقدم. وأما إن كان صاحبها
اعتدى وأرسلها في زرع قوم أو بقرب زرع أو ادخلها إلى اصطبل الحمار بغير
إذن صاحبه فأتلفت فهنا يضمن لعدوانه.
وقال البغوي ذهب أهل العلم إلى أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال
الغير فلا ضمان على أهلها. وما أفسدت بالليل ضمنه مالكها. لأن في العرف
أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار. وأصحاب المواشي بالليل.
فمن خالف هذه
(3/310)
العادة كان خارجًا عن رسوم الحفظ. هذا إذا
لم يكن مالك الدابة معها. فإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفته. وهذا
مذهب مالك والشافعي. وذهبت الحنفية على أنه إن لم يكن معها فلا ضمان
عليه ليلًا كان أو نهارًا، اهـ.
وفي قصة داود وسليمان ما يشهد لهذا الخبر. لأن النفش إنما يكون بالليل.
كما جزم به الشعبي وشريح ومسروق وغيرهم.
وقال الشيخ فصح أنما أفسدت المواشي بالليل ضمان على أهلها. وصح بنص
القرآن الثناء على سليمان بتفهيم الضمان بالمثل. فإن النفش رعي الغنم
ليلًا. وكان ببستان عنب. فحكم داود بقيمة المتلف. فاعتبر الغنم فوجدها
بقدر القيمة. فدفعها إلى أصحاب الحرث. وقضى سليمان بالضمان على أصحاب
الغنم. وأن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان.
ولم يضيع عليهم مغله من حين الإتلاف إلى حين العود.
بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك لياخذوا
من ثمارها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير
ما فاتهم من نماء حرثهم. واعتبر النمائين فوجدهما سواء.
وهذا هو العلم الذي خصه الله به وأثنى عليه بإدراكه. قال ابن القيم وصح
بالنصوص والقياس الصحيح وجوب الضمان بالمثل.
(3/311)
فصح أنه هو الصواب والحق. وهو أحد القولين
في مذهب أحمد ووجه للشافعية والمالكية.
(وعن عبد الله بن عمرو) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال (من قتل دون ماله) قاتل أو لم يقاتل (فهو
شهيد) له أحكام الشهداء في الآخرة والبرزخ وأما تغسيله والصلاة عليه
فتقدم (متفق عليه) وفي لفظ "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد"
صححه الترمذي وله أيضًا وصححه من حديث سعيد بن زيد "من قتل دون دينه
فهو شهيد. ومن قتل دون دمه فهو شهيد. ومن قتل دون ماله فهو شهيد".
ولمسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رجل يا رسول الله إن جاء رجل
يريد أخذ مالي. قال "فلا تعطه مالك" قال أرأيت إن قاتلني؟ قال "قاتله"
قال أرأيت إن قتلني؟ قال "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته؟ قال "هو في
النار". ولأحمد إن عدا على مالي قال "أنشد الله" قال فإن أبى قال "انشد
الله" قال فإن أبى قال "قاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلته ففي النار"
ففيه أنه يدفع بالأسهل فالأسهل. ودلت الأحاديث وما في معناها أنها تجوز
مقاتلة من أراد أخذ مال الإنسان من غير فرق بين القليل والكثير. إذا
كان الأخذ بغير حق. وهو مذهب الجمهور.
(3/312)
وقال ابن المنذر الذي عليه أهل العلم أن
للرجل أن يدفع عن ماله ونفسه ودينه وحريمه إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل.
واستثنى السلطان للآثار الواردة بالصبر على جوره وترك القيام عليه
واستثنى بعضهم حالة الفرقة والاختلاف. وأنه يستسلم المبغي على نفسه أو
ماله ولا يقاتل. وقال الشيخ يجوز للمظلوم قتل المحاربين والدفع عن
النفس والحرمة. ولا يجوز بذلهم من المال لا قليلًا ولا كثيرًا. وقال من
طلب منه الفجور كان عليه أن يدفع الصائل عليه. فإن لم يندفع إلا بالقتل
فله ذلك باتفاق الفقهاء.
فإن ادعى القاتل أنه صال عليه وأنكر أولياء المقتول. فإن كان المقتول
معروفًا بالبر. وقتل في محل لا ريبة فيه لم يقبل قول القاتل. وإن كان
معروفًا بالفجور والقاتل معروفًا بالبر فالقول قول القاتل مع يمينه. لا
سيما إذا كان معروفًا بالتعرض له قبل ذلك. ومن رأى رجلًا يفجر بأهله
جاز له قتلهما فيما بينه وبين الله. سواء كان الفاجر محصنًا أو غير
محصن. معروفًا بذلك أم لا كما دل عليه كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة.
وليس هذا من باب دفع الصائل كما ظنه بعضهم. بل هو من عقوبة المعتدين
المؤذين. وأما إذا دخل الرجل ولم يفعل بعد فاحشة. ولكن دخل لأجل ذلك
ففيه نزاع. والأحوط لهذا أن يتوب من القتل في مثل هذه الصورة.
(3/313)
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - شق زقاق الخمر) أي ظروفها والزق بالكسر السقاء
أو جلد يجز شعره ولا ينتف وقيل كل وعاء اتخذ للشراب وغيره والزق بالضم
من أسماء الخمر (رواه أحمد) وذلك أنها جلبت من الشام فشق ما كان من تلك
الزقاق. قال ابن عمر وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر
إلا شققته ففعلت.
(وللترمذي) وغيره (عن أبي طلحة) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو
النجاري كان من النقباء وصلى عليه عثمان (في خمر لأيتام) جمع يتيم وهو
من مات أبوه ولم يبلغ (في خمر لأيتام) جمع يتيم وهو من مات أبوه ولم
يبلغ (في حجر أبي طلحة) ومن حديث أنس أن أبا طلحة سأل رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرًا (قال - صلى الله عليه وسلم -
لأبي طلحة (أهرق) أي أرق (الخمر) من الإراقة فدل على وجوب إراقتها
(واكسر الدنان) الدن الراقود أطول من الحب ولمسلم أفلا أجعلها خلا قال
لا وهو مال يتيم ولأحمد أيضًا عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أمره أن يأخذ مدية ثم يخرج إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر
قد جلبت من الشام فشققت بحضرته وأمر أصحابه بذلك.
فدلت الأحاديث على وجوب أهراق الخمر وكسر دنانها. وشق أزقاقها وإن كان
مالكها غير مكلف. وكذا آلة اللهو كالطنبور والعود والطبل والدف والصنوج
والنرد والشطرنج ونحوها. والصليب وآنية الذهب والفضة لقوله - صلى الله
عليه وسلم - "إن الله
(3/314)
حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"
وللنهي عن اتخاذ تلك الاشياء في غير ما حديث. ومنه "بعثت بمحق القينات
والمعازف" وغير ذلك. وكسوها هدر. لأنه لا يجوز اتخاذها. ولا يحل بيعها
وكذا اتلاف كتب كفر وسحر وأكاذيب وبدع وسخافات لأهل الخلاعة والبطالة.
وصور وآلاتها. وحرق مخزن خمر ونحوه لأمره - صلى الله عليه وسلم -
بتحريق مسجد الضرار.
باب الشفعة
بضم الشين وسكون الفاء من الشفع. وهو الزوج لأن الشفيع بالشفعة يضم
المبيع إلى ملكه الذي كان منفردًا وشرعًا انتقال حصة شريكه بسبب شرعي
ممن انتقلت إليه بعوض مالي. كالبيع والصلح والهبة. فيأخذ الشفيع نصيب
البائع بثمنه الذي استقر عليه العقد. قال ابن القيم شرع تعالى الشفعة
وسلط الشريك على انتزاع الشقص من يد المشتري سدًا لذريعة المفسدة
المتعلقة بالشركة. قال فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به
من الأجنبي. ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه
من الثمن. وهذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر.
ومصالح العباد. وهي مشروعة بالسنة والإجماع.
(عن جابر -رضي الله عنه- قال: قضى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -)
أي حكم (بالشفعة) وأجمع أهل العلم أنها تجب للشريك.
(3/315)
غير الذمي في جزيرة العرب لأنهم ممنوعون من
البقاء فيها. وكانت الشفعة معروفة عند العرب في الجاهلية. كان الرجل
إذا أراد بيع منزل أو حائط أتاه الجار والشريك والصاحب يشفع إليه فيما
باعه فيشفعه. وجعله أولى به ممن أبعد منه. فسميت الشفعة. وسمي طالبها
شافعًا (في كل ما لم يقسم) من الدور والعقار والبساتين. وهذا مجمع عليه
إذا كان مما يقسم. وفيما لا يقسم كالحمام الصغير ونحوه اختاره الشيخ
وغيره.
وقال الصواب ثبوت الشفعة ولو لم تمكن القسمة لعموم الأخبار. وهو مذهب
أبي حنيفة واختيار أبي شريح وابن عقيل وغيرهما. ولأن الشفعة لإزالة
الضرر وهو في هذا النوع أكثر (فإذا وقعت الحدود) أي حصلت قسمة الحدود
في المبيع واتضحت بالقسمة مواضعها. والحدود جمع حد. وهي هنا ما تتميز
به الأملاك بعد القسمة. وأصل الحد المنع. ففي تحديد الشيء منع خروج شيء
منه، ومنع دخول غيره فيه (وصرفت الطرق) بضم الصاد وتشديد الراء أي بينت
مصارفها مشتق من الصرف بالكسب وهو الخالص من كل شيء. سمي بذلك لأنه صرف
عنه الخلط.
والطرق جمع طريق. وكذا شوارعها. وذلك بأن حصل لكل نصيب طريق مخصوص (فلا
شفعة) أي بعد القسمة
(متفق عليه) والمراد بينت أقسام الأرض المشتركة بأن قسمت وصار كل نصيب
منفردًا. فلا شفعة لأن الأرض بالقسمة
(3/316)
صارت غير مشاعة. ولأبي داود من حديث أبي
هريرة "إذا قسمت الدار وحدت فلا شفعة فيها" وهو إجماع ومفهومه أنها إذا
وقعت الحدود ولم تصرف الطرق ثبتت الشفعة. قال ابن القيم وهو أصح
الأقوال في شفعة الجوار ومذهب أهل البصرة وأحد الوجهين في مذهب أحمد
واختيار الشيخ وغيره.
(ولمسلم في كل شرك) بكسر الشين من أشركته في المبيع أي جعلته لك شريكًا
وفي لفظ شركة أي قضى بالشفعة في كل مشترك (في أرض) وفي رواية في كل
شركة لم تقسم ربعة (أو ربع) بفتح فسكون. وهو المنزل الذي يتربعون فيه
ومطلق الأرض (أو حائط) وهو البستان من النخل إذا كان عليه جدار.
وخصت الشفعة بالعقار لأنه أكثر الأنواع ضررًا وما سواه قال النووي
اتفقوا على أنه لا شفعة في الحيوان والثياب والأمتعة وسائر المنقول
اهـ. وللطحاوي "قضى بالشفعة في كل شيء" قال الحافظ ورجاله ثقات.
وللترمذي عن ابن عباس مرفوعًا "الشفعة في كل شيء" فيكون مقيدًا بحديث
الباب. ففيه إثبات الشفعة بالشركة وهو اتفاق. وأنها لا تجب إلا في
الأرض والعقار دون غيرهما من العروض والأمتعة والحيوان ونحوها. قال علي
الباجي هو قول عامة أهل العلم:
وقال غير واحد الجمهور على عدم ثبوتها في المنقول. لقوله:
(3/317)
"فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة"
وقوله "في كل شرك أو ربع أو حائط" وفي لفظ للبيهقي "لا شفعة إلا في ربع
أو حائط" ولأحمد من حديث عبادة "قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرض
والدور" وعن أحمد تجب في الغراس والبناء. والبناء من العقار.
(وفيه) أي في صحيح مسلم من حديث جابر (لا يحل له أن يبيع) أي الشريك
(حتى يؤذن شريكه) وفيه "فإن شاء أخذ. وإن شاء ترك. فإن باعه ولم يؤذنه
فهو أحق به" فدل الحديث على أنه لا يحل له أن يبيع حتى يعرض على شريكه.
وأنه يحرم عليه البيع قبل عرضه عليه. وحمله بعضهم على الكراهة. وظاهر
الخبر وجوب إعلام شريكه وفيه أنها إنما تثبت فيما كان بعقد البيع. وهذا
مجمع عليه. وفي الصلح والهبة إذا وقع أحدهما بمعنى البيع لأنهما بيع في
الحقيقة يثبت فيهما أحكام البيع. وهذا مذهب الجمهور. وهل له الشفعة.
بعد أن آذنه ثم باعه من غيره، الأكثر له الشفعة. ولا يكون مجرد الإذن
مبطلاً لها.
وقال طائفة من أهل الحديث تسقط شفعته بعد عرضه عليه. وقال ابن القيم
إسقاط الشفعة قبل البيع إسقاط لحق
كان بعرض الثبوت رضي صاحبها بإسقاط. وأن لا يكون البيع سبباً لأخذه
بها. فالحق له. وقد أسقطه. وقد دل النص على
(3/318)
سقوطها. كما لو أذن له في إتلاف ماله
وإسقاط الضمان عنه قبل الإتلاف. فإنه لا يضمن اتفاقاً. فهذا موجب النص
والقياس. وقال أيضاً حرم على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يؤذن شريكه. فإن
باع ولم يؤذنه فهو أحق به. وإن أذن في البيع. وقال لا غرض لي فيه. لم
يكن له الطلب بعد البيع. وهذا مقتضى حكم الشرع. ولا معارض له بوجه وهو
الصواب المقطوع به.
(وعن أبي رافع) -رضي الله عنه- (مرفوعاً: الجار) وهو المجاور, وعن ابن
الأعرابي هو الذي يجاورك بيت بيت (أحق بصقبه) ويقال بالسين وهو القرب
والمجاورة قال في النهاية والمراد به الشفعة (رواه البخاري) ولفظه أن
عمرو بن الشريد قال وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة. ثم
جاء أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا سعد ابتع مني
بيتي في دارك. فقال سعد والله ما أبتاعها. فقال المسور والله
لتبتاعنها. فقال سعد والله ما أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة.
قال أبو رافع لقد أعطيت بها خمسمائة دينار. ولولا أني سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقول "الجار أحق بسقبه" ما أعطيتكها بأربعة آلاف.
وأنا أعطى بها خمسمائة دينار. فأعطاها إياه.
ولأحمد والنسائي قلت يا رسول الله أرض ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا
الجوار؟ فقال "الجار أحق بسبقه ما كان" ففيه
(3/319)
الحث على عرض المبيع على الشريك كما تقدم.
ودليل على ثبوت الشفعة بالجوار.
(وعن سمرة) بن جندب -رضي الله عنه- (مرفوعًا جار الدار) أي المجاور
لدار الجار (أحق بالدار) وفي لفظ "جار الدار أحق بدار الجار" وللطبراني
"أحق بالشفعة" رواه أحمد وأبو داود وغيرهما (وصححه الترمذي) فللجار إذا
باع جاره أن يأخذها بالشفعة. وعند ابن سعد أحق بالدار من غيره ولأبي
داود "جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض" ونحوهما حديث الشريد بن سويد
في ثبوت الشفعة بالجوار. والجار وما في معناه قد يحمل على أنه إذا كان
طريقها واحدًا. كما يأتي.
والجمع بين الأحاديث أن الجوار لا يكون مقتضيًا للشفعة إلا مع اتحاد
الطريق ونحوه. لأن شرعية الشفعة لدفع الضرر والضرر إنما يحصل في الأغلب
مع المخالطة في الشيء المملوك أو في طريقه ونحوه. ولا ضرر على جار لم
يشارك في أصل ولا طريق ولا شرب إلا نادرًا والنادر غير معتبر. لأن
الشارع علق الأحكام بالأمور الغالبة. وقال الشيخ تثبت شفعة الجوار مع
الشرك في حق من حقوق الملك من طريق وماء ونحو ذلك نص عليه أحمد واختاره
ابن عقيل وأبو محمد وغيرهم. وقال الحارثي هذا الذي يتعين المصير إليه.
وفيه جمع بين الأخبار.
وقال ابن القيم القول الوسط بين الأدلة الذي لا يحتمل
(3/320)
سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء
الحديث: أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو
ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة. وإن كان كل واحد منهما متميزًا ملكه.
وحقوق الملك فلا شفعة نص عليه أحمد. وهو قول عمر بن عبد العزيز وهو
الصواب وأعدل الأقوال والقياس الصحيح اهـ. ويقدم بالشفعة الشريك
مطلقًا. ثم المشارك في الشرب. ثم المشارك في الطريق. ويقدم بالجوار
الأقرب لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة في الهدية "إلى أقربهما
منك بابًا".
(وعن جابر) بن عبد الله -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال (الجار أحق) من المشتري (بشفعة جاره) أي الجار أحق
بشفعة شريكه فالجار يطلق أيضًا على الشريك لغة وشرعًا (ينتظر بها) أي
بحقه من الشفعة (وإن كان غائبًا) فشفعة الغائب لا تبطل وإن تراخى. ولا
يجب عليه السير حين يبلغه الشراء لأجلها. وكذا إن كان حاضرًا ولم يعلم
فهو على شفعته. ولو مضى عليه سنون. وقال الوزير اتفقوا على أنه إذا كان
الشفيع غائبًا فله إذا قدم المطالبة بالشفعة ولو تناول المبيع جماعة.
(إذا كان طريقهما واحدًا) أي فالجوار بمجرده لا تثبت به الشفعة. بل لا
بد معه من اتحاد الطريق. وكذا الشرب وغيره من مصالح العقار. رواه
الخمسة و (حسنه الترمذي) وقال الحافظ رجاله ثقات.
فدل الحديث على أن الجار أحق بالشقص المبيع. وأنها لا
(3/321)
تبطل في حق الغائب وإن تراخى. وذلك مع
اتحاد الطريق. قال ابن القيم وهذا أعدل الأقوال. واختيار شيخ الإٍسلام
وحديث جابر هذا صريح فيه. فإنه أثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق
ونفاها مع عدم الاتحاد في قوله "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا
شفعة" فمفهوم حديث جابر هذا هو منطوق حديثه المتقدم. فأحدهما يصدق
الآخر ويوافقه. وقال أيضًا فمفهوم حديث عبد الملك هو منطوق حديث أبي
مسلمة.
وحديث أبي رافع يدل على ما دل عليه حديث عبد الملك. وهذا المذهب أوسط
المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها إلى العدل. وقال الحارثي فيما اختاره
الشيخ: إن الشفعة تجب بالشركة في مصالح العقار هذا هو الذي يجب المصير
إليه. ثم ذكر أدلته. وقال: وفيه جمع بين الأخبار.
(وقال شريح) بن الحارث بن قيس الكندي القاضي ولي لعمر الكوفة فقضى بها
ستين سنة وكان من جلة العلماء وأذكياء العالم، قال الشعبي كان أعلم
الناس بالقضاء مات سنة ثمانين وله مائة وعشر وقيل وعشرون سنة (الصغير
أحق بالشفعة حتى يكبر) أي ينتظر بحقه من الشفعة حتى يدرك فيطالب بها أو
يدع وللطبراني عن جابر مرفوعًا الصبي على شفعته حتى يدرك. فإذا أدرك
فإن شاء أخذ وإن شاء ترك. ولما ذكر الوزير اتفاقهم على أن للغائب
المطالبة بها إذا قدم. قال وكذا أي الصغير إذا كبر إذا طالب وقت علمه
وأشهد على نفسه بالمطالبة اهـ.
(3/322)
ثم إذا أشهد على الطلب له أن يخاصم المشتري
ولو بعد أيام أو شهر أو شهرين أو سنين. لأن إشهاده دليل على رغبته.
وإن نهاه وليه عن التصرف ولم يطالب بها لم يصر المشتري ممنوعًا. بل
تسقط على القول أنها على الفور. واقتصر عليه ابن رجب وغيره. وقال
الفقهاء إذا كبر فله الأخذ عفا الولي عنها أو لا. وسواء كان الحظ في
الأخذ له أو لا. وقال في الإنصاف إن ترك الولي شفعة للصبي فيها حظ لم
تسقط. وإن تركها لعدم الحظ سقطت. اختاره الشيخ. فإن بنى أو غرس في حال
يعذر فيه الشريك بالتأخير فقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور للشفيع
تملكه بقيمته. وله قلعه ويغرم نقصه. ولربه أخذه بلا ضرر.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود) من حيلهم في
تحليل ما حرم عليهم. كنصبهم الشبابيك يوم الجمعة لتقع فيها الحيتان يوم
السبت. ويقولون ما اصطدنا يوم السبت. وكجملهم الشحوم وإذابتها وبيعها
(فتستحلوا محارم الله) ويدخل فيه التحيل لإسقاط الشفعة (بأدنى الحيل)
بأي نوع من التحيل لإسقاطها، وقد قال الله فيهم {فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً
لِّلْمُتَّقِين} يعني من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليتعظوا بذلك
فيجتنبوا مثل فعلهم بالتحيل على ما نهوا عنه. وفي الخبر "لا تحل
الخديعة لمسلم".
والله تعالى ذم المخادعين. والمتحيل مخادع. ومن يخدع الله
(3/323)
يخدعه. واتفق السلف على أن الحيل بدعة
محدثة لا يجوز تقليد من يفتي بها. ويجب نقض حكمه. ومن احتال على تحليل
ما حرم الله وإسقاط ما فرض الله وتعطيل ما شرعه الله كان ساعيًا في دين
الله بالفساد. والحيلة لإسقاط الشفعة أن يظهر المتعاقدان في البيع
شيئًا لا يؤخذ بالشفعة معه. وقال الشيخ وما وجد من التصرفات لأجل
الاحتيال على إسقاط الشفعة فهو باطل اهـ.
لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر فلو شرع التحيل لإبطالها لكان عودًا على
إبطال مقصود الشريعة.
وقال ابن القيم من له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم انصف لم
يشك أن تقرير الإجماع من الصحابة على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها
للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يدعى فيه
إجماعهم. بل أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها.
ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسنة. وذلك كان يقفه المشتري أو يهبه
حيلة لإسقاطها. فلا تسقط عند أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم. ويغلط
من يحكم به ممن ينتحل مذهب أحمد. ولو جعله مسجدًا لم تسقط الشفعة.
وذكر غير واحد أنه إن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو وصيته به ونحو ذلك
قبل الطلب لم تبطل. لأن حق الشفيع
أسبق وجنبته أقوى. فلم يملك المشتري تصرفًا يبطل حقه. والمفتى به أنه
إذا كان الوقف صحيحًا ولم يكن حيلة سقطت
(3/324)
نص عليه أحمد. وأختاره الشيخ. وأنها لا
تسقط فيما سواه. وقال ابن القيم من الحيل الباطلة أن يتفقا على مقدار
الثمن ثم عند العقد يصبره صبرة غير موزونة فلا يعرف الشفيع ما يدفع.
فإذا فعلا ذلك فللشفيع أن يستحلف المشتري أنه لا يعرف قدر الثمن. فإن
نكل قضي عليه. وإن حلف فللشفيع أخذ الشقص بقيمته.
ومنها أن يهب الشقص للمشتري ثم يهبه ما يرضيه. وهذا لا يسقط الشفعة.
وهذا بيع. وإن لم يتلفظا به. فله أن يأخذ الشقص بنظير الموهوب. ومنها
أن يشتري الشقص ويضم إليه سكينًا. ومنها أن يشتري الشقص بألف دينار ثم
يصارفه عن كل دينار بدرهمين. وهذه الحيل ونحوها لا تسقط الشفعة. ومنها
أن يشتري بائع الشقص منه عبدًا قيمته مائة درهم بألف في ذمته. ثم يبيعه
الشقص بالألف فيأخذه بقيمة العبد. ومنها أن يشتري الشقص بألف وهو يساوي
مائة. ثم يبريه من تسعمائة. أو يشتري جزءًا منه بالثمن كله ثم يهب له
بقيته وهذا لا يسقطها. ويأخذ الشفيع الشقص بالثمن. ولا تغير حقائق
العقود بتغير العبارة.
وقال الشيخ يجب على المشتري أن يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذي تراضيا
عليه في الباطن إذا طالبه الشريك. وإذا حابا البائع المشتري بالثمن
محاباة خارجة عن العادة يتوجه أن يكون للشفيع أن لا يأخذه إلا بالقيمة
اهـ. وإن أقر البائع بالبيع
(3/325)
وأنكر المشتري وجبت الشفعة. وعهدة الشفيع
على المشتري وعهدة المشتري على البائع.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (الشفعة كحل العقال) شبهة بحل عقال
البعير لسرعة حله (رواه ابن ماجه بسند ضعيف) ورواه ابن حزم. وزاد "فإن
قيدها مكانه ثبت حقه وإلا فاللوم عليه" وأخرج عبد الرزاق عن شريح: إنما
الشفعة لمن واثبها. أي بادر إليها. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد
أنها على الفور وقت علمه. وقال الوزير اتفقوا أنه إذا طالب وقت علمه أو
أشهد على نفسه بالمطالبة اهـ. أي وقت علمه فإن لم يطلبها إذا بلا عذر
بطلت وإذا كان وجه شرعيتها لدفع الضرر ناسبت الفورية. وكيف يقال بالغ
الشرع في دفع ضرر الشفيع ولا يبالغ في دفع ضرر المشتري ببقائه معلقًا.
وإن قال الشفيع للمشتري بعني أو صالحني قبل أن يشفع بطلت لعدم الفورية
أو كذب العدل لتراخيه عن الأخذ بلا عذر أو طلب أخذ البعض لما فيه من
الإضرار بالمشتري. وإن كان دلالًا بينهما أو وكيلًا لأحدهما. وشفع إذا
تم العقد ثبتت له.
وإن اختلفا في قدر الثمن فقول المشتري مع يمينه. ولو
أثبت البائع بأكثر وإن قال المشتري ليس لك ملك في شركتي فعلى الشفيع
إقامة البينة بالشركة. وإذا ثبتت الشفعة فالغلة
(3/326)
والنماء المنفصل والزرع والثمرة الظاهرة
بعد البيع للبائع. لخبر "الخراج بالضمان".
باب الوديعة
من ودع الشيء إذا تركه. لأنها متروكة عند المودع. وشرعًا اسم للمال أو
المختص المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض. وهي عقد جائز واتفق أهل العلم
على أنها من القرب المندوب إليها. وأن في حفظها ثوابًا. ويستحب قبولها
لمن علم من نفسه العفة وأنه قادر على حفظها. وفي الحديث "والله في عون
العبد ما كان العبد في عون أخيه" ولحاجة الناس إلى ذلك. وأجمعوا في كل
عصر على جوازها للأمر بأدائها في الكتاب والسنة.
قال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} من دين أو وديعة أو
غيرها. فإن الأمر بأداء الأمانة حكم عام يدخل فيه البيع وغيره.
كالوديعة. فهو من جوامع الكلم واحكم المحكمات {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} أي ليقضه على الأمانة والوديعة أمانة داخلة في
عموم الآية {وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} يعني المؤتمن في أداء الوديعة
في حرز مثلها. كما يحفظ ماله عادة. لأمره بأدائها ولا يمكن ذلك إلا
بالحفظ. لأنه المقصود من الإيداع. والاستبداع التزام ذلك. فإذا لم يحفظ
لم يفعل ما التزم به.
(3/327)
(وتقدم) أي في باب العارية (قوله - صلى
الله عليه وسلم - أد الأمانة إلى من ائتمنك) أي من جعلك أمينًا وحافظًا
على ماله رواه أبو داود وغيره وله شواهد ينتهض بها للاحتجاج على وجوب
أداء الوديعة ونحوها كما هو ظاهر الآية وغيرها وفي الترغيب في أدائها
أحاديث كثيرة فمتى أراد المودع أخذ الوديعة لزم المستودع ردها وإن أراد
المستودع ردها إلى ربها لزمه قبولها وإن أذن المالك في التصرف فعارية
لها حكم العارية.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من أودع وديعة) ولم يفرط (فليس عليه
ضمان) وروي عن أبي بكر وعلي وابن مسعود -رضي الله عنهم- (رواه ابن ماجه
بسند ضعيف) والبيهقي وله بسنده عنه لا ضمان على مؤتمن ورواه الدارقطني
بلفظ لا ضمان على مؤتمن وفيه ضعف أيضًا ورواه أيضًا بلفظ "ليس على
المستودع غير المغل ضمان" وحكي إجماعًا إلا لجناية منه على العين وما
حكي عن الحسن أن الوديعة لا يضمن إلا بشرط الضمان حمل على ضمان التفريط
لا الجناية المتعمدة.
قال ابن رشد اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة قال وبالجملة فالفقهاء
بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى وقال الوزير اتفقوا
على أن الوديعة أمانة محضة وأن الضمان لا يجب على المودع إلا بتعديه
واتفقوا على أنه إذا أودعه على شرط الضمان فإنه لا يضمن بالشرط اهـ.
والوجه
(3/328)
في تضمينه الجناية أنه صار بها خائنًا
والخائن ضامن وهو المغل كما في الخبر وكذا إذا وقع منه تعد في حفظ
العين لأنه أيضًا نوع من الخيانة.
وإن ادعى أنه لم يتعد ولم يفرط فالقول قوله مع يمينه إن كذبه المودع
لأن الله أمر برد الأمانة ولم يأمر بالإشهار فوجب أن يصدق المودع في
دعواه رد الوديعة قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه أن المستودع إذا
أحرز الوديعة ثم ذكر أنها ضاعت قبل قوله بيمينه وحكى الوزير الاتفاق
على أن القول قول المودع في التلف والرد مع يمينه وقال ابن القيم إذا
لم يكذبه شاهد الحال وقال إذا ادعى الهلاك في الحريق أو تحت الهدم أو
في نهب العيارين ونحوهم لم يقبل إلا إذا تحقق وجود هذه الأسباب وإن
هلكت من بين ماله فجاء أن عمر ضمنه ولعله لتفريطه.
(وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -) أخرجه البيهقي وغيره عن عائشة -رضي
الله عنها- وغيرها من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه كان
عنده ودائع) أي عنده للناس بمكة (فلما أراد الهجرة) إلى المدينة حين
همت قريش بقتله (أودعها عند أم أيمن) ورواية البيهقي (وأمر عليًا) -رضي
الله عنه- (أن يردها) أي تلك الودائع (على أهلها) فأداها علي عنه - صلى
الله عليه وسلم - فدل الخبر على أنه إن حدث للمودع سفر أو خوف ردها على
صاحبها وإلا حملها معه إن كان أحرز وإلا أودعها الحاكم أو ثقة لأنه
موضع حاجة ولأن في السفر بها غررًا.
(3/329)
قال مالك والشافعي وأحمد إذا أودعها من غير
إذن صاحبها ومن غير ضرورة فتلفت فلصاحبها تضمين أيهما شاء وقال الشيخ
لو أودع المودع بلا عذر ضمن المودع الثاني لا يضمن إن جهل نص عليه أحمد
وكذا المرتهن منه وإن ركب الدابة أو لبس الثوب أو أخرج الدراهم من
حرزها أو رفع الختم ونحوه عنها أو خلطها بغير متميز فضاع الكل ضمن
الوديعة لتعديه وإن غصبت منه فله مطالبة غاصبها ومتى طلبها صاحبها وجب
على المودع أن لا يمنعها مع الإمكان باتفاق أهل العلم وإن لم يفعل ضمن.
باب إحياء الموات
بفتح الميم الأرض التي لم تعمر. شبهت العمارة بالحياة وتعطيلها بالموت.
وإحياؤها عمارتها. واصطلاحًا الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم.
فلا تملك بالإحياء الطرق والأفنية ومسائل المياه والمحتطبات ونحوها.
وما جرى عليه ملك معصوم بشراء أو عطية أو غيرها. والأصل في إحياء
الموات السنة والإجماع في الجملة.
(وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
من أحيى أرضًا) بأن يعمد شخص إلى أرض كانت (ميتة) لم يتقدم ملك لأحد
عليها فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء. أو إجراء الماء
إليها من عين ونحوها أو حبسه عنها ليزرع
(3/330)
(فهي له) أي بذلك الإحياء اتفاقًا. مسلمًا
كان المحيي أو ذميًا. إلا أن على الذمي خراج ما أحيى وسميت ميتة
تشبيهًا لها بالميتة التي لا ينتفع بها لعدم الانتفاع بالأرض الميتة
بزرع أو غرس أو غيره وظاهره سواءً كان بإذن الإمام أو لا. فإن هذه كلمة
شرط وجزاء فهو غير مقصور على عين دون عين ولا على زمان دون زمان. رواه
أحمد والنسائي وغيرهما و (صححه الترمذي).
ولهم عن سعيد بن زيد مرفوعًا "من أحيى أرضًا ميتة فهي له" ولأبي داود
عن عروة أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قضى أن الأرض أرض
الله والعباد عباد الله ومن أحيى مواتًا فهو أحق بها جاءنا بهذا عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين جاءوا بالصلوات عنه" - صلى الله
عليه وسلم - فدل الحديث وما في معناه مما سيأتي وغيره أن الإحياء بحفر
أو تحجير أو إجراء ماء إليه ونحو ذلك من وجوه العمارة. كما لو عمد إلى
أرض فقطع شجرها وجمع لها السيل فالإحياء يرجع فيه إلى العرف كالحرز.
وتملك به إن لم يكن قد ملكها مسلم. أو ذمي. أو ثبت فيها حق للغير.
وذكر الحافظ عن الجمهور أن الأرض التي لا يعلم تقدم ملك أحد عليها
بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء تصير بذلك ملكه. سواء كانت فيما
قرب من العمران أو بعد. أذن الإمام أو لم يأذن. ولو تحول جري الماء عن
أرض جاز إحياؤها لانقطاع الحق وعدم تعين أهله.
(3/331)
(وعن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعًا) إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من عمر أرضًا) بفتح العين
وتخفيف الميم (ليست لأحد) ببناء أو غرس ونحو ذلك (فهو أحق بها) وتصير
ملكًا له بذلك. قال عروة وقضى به عمر في خلافته (رواه البخاري) ومالك
وغيرهما. وقال ابن عبد البر سنده صحيح متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة
وغيرهم وما ملك بإحياء ثم دثر فعند الجمهور ملك بالإحياء. وعند مالك
للإمام أن يقطعه من شاء لأنه فيء.
(ولأبي داود) وغيره وصححه ابن الجارود من حديث جابر وغيره (من أحاط) أي
أدار (حائطًا) أي جدارًا منيعًا (على أرض) أي حول أرض بما جرت العادة
به (فهي له) أي صارت تلك الأرض المحوطة ملكًا له. ولأحمد وغيره من حديث
سمرة نحوه فدل على أن التحيوط على الأرض من جملة ما يستحق به ملكها
والمقدار المعتبر ما يسمى حائطًا في اللغة. ولا بد من تقييده بأنه لا
حق فيها لأحد كما تقدم.
(وله عن أسمر) بن مضرس (مرفوعًا: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو
أحق به) واتفق عليه علماء الأمصار وفي لفظ:"إلى لفظ "إلى ما لم يسبق
إليه مسلم فهو له" قال فخرج الناس يتعادون يتخاطون. صححه الضياء في
المختارة. وقوله "مسلم لأن الكافر الحربي لا حكم لتقدمه. وأما الذمي
فلا لأنه من
(3/332)
أهل دار الإسلام فيملكه كالشراء. ومن سبق
إلى معدن أو حطب أو صيد مباح فهو أحق به. ومن سبق إلى جلوس في طريق
واسع فهو أحق به لهذا الخبر. وحديث الزبير فيحتطب فيضعه في السوق. وكذا
من سبق إلى رحبة مسجد غير محوطة فهو أحق بها لأنه سبق إلى ما لم يسبق
إليه. وإن سبق اثنان معًا اقترعا. ومن جلس في نحو جامع للفتوى أو
الإقراء فهو أحق بمكانه ما دام فيه. وإن غاب لعذر أو وعاد قريبًا فهو
أحق به. ومن سبق إلى رباط أو تدريس أو نزل فقيه بمدرسة لتدريس لم يبطل
حقه بخروجه لحاجة. ومن نزل عن وظيفته لزيد وهو لها أهل لم يتقرر غيره
فيها. فإن قرر هو وإلا فهي للنازل. وقال الشيخ لا يتعين المنزول له.
ويولي من له الولاية من يستحقها شرعًا.
(وله عنه أن رجلين اختصما في أرض غرس أحدهما فيها وهي للآخر فقضى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بالأرض لصاحبها) أي مالكها (وأمر صاحب
النخل) الذي غرس في الأرض بغير إذن مالكها (يخرج نخله) منها لظلمه
بغرسها (وقال ليس لعرق ظالم) أي لذي عرق ظالم من غرس أو زرع أو بناء أو
حفر في أرض غيره بغير حق (حق) ولا شبهة حق. وتقدم أنه قال لقد رأيتها
وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس. وإنها لنخل عم. وأنه مجمع على أن من اغترس
نخلًا أو شجرًا في غير أرضه أنه يؤمر بالقلع. لأنه شغل ملك غيره بملكه
الذي لا حرمة له في نفسه. فلزمه تفريغه.
(3/333)
(وعن ابن المسيب) سعيد بن المسيب بن حزن بن
أبي وهب المخزومي. أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين.
قال ابن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه. مات بعد التسعين.
وقد ناهز الثمانين. وأبوه المسيب صحابي وجده (قال السنة في حريم البئر)
الحريم هو ما يمنع منه المحيي والمحتفر لإضراره. سمي بذلك لأنه يحرم
منع صاحبه منه ويحرم على غيره التصرف فيه (البدئ) أي المحدثة التي لم
يسبق لها عمارة (خمسة وعشرون ذراعًا) لأجل البئر أو سقي الماشية
(والعادي) بتشديد الياء أي القديمة. نسبة إلى عاد ولم ترد بعينها
وحريمها (خمسون) ذراعًا من كل جانب.
والمراد إذا كانت أنطمت وذهب ماؤها فجدد حفرها وعمارتها. أو انقطع
ماؤها فاستخرجه. رواه البيهقي مرسلًا. وقال غير واحد أصح المراسيل
مراسيل سعيد. ونحوه عند أحمد وغيره عن أبي هريرة بسند ضعيف. ولابن ماجه
بسند ضعيف أيضًا عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا "من حفر بئرًا فله أربعون
ذراعًا عطنًا لماشيته" زاد البيهقي من طريق سعيد بن المسيب "وحريم بئر
الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها" وذلك إذا حفر بئرًا فوصل إلى
الماء فإن لم يصل إلى الماء فهو كالمتحجر الشارع في الإحياء. وإن حفرها
ليرتفق بمائها كحفر السفارة في بعض المنازل. كالأعراب ينتجعون فيحفرون
لشرابهم وشراب دوابهم لم يملكوها. وهم أحق بمائها ما أقاموا.
(3/334)
وعليهم بذل الفاضل لشاربه. وبعد رحيلهم
تكون سابلة للمسلمين. فإن عادوا إليها كانوا أحق بها.
(وللدارقطني من حديث أبي هريرة) نحو خبر ابن المسيب وفيه (والعين
السائحة) أي حريم العين الجارية على وجه الأرض (ثلاثمائة ذراع) حريم
(وعين الزرع ستمائة ذراع) وحريم النهر قدر ما يلقى منه كسحه. وحريم
الأرض قدر ما تحتاج إليه وقت عملها. وإلقاء كسحها. وكذا المسيل حريمه
قدر ما يحتاج إليه كسحه. ونحوه قياسًا على البئر بجامع الحاجة. وحريم
دار مطرح تراب وكناسة وثلج وماء ميزاب وحريم شجرة مد أغصانها. هذا في
الأرض المباحة.
وأما الأرض المملوكة فلا حريم في ذلك. بل كل يعمل في ملكه ما شاء فلا
حريم لدار ونحوها محفوفة بملك. ويتصرف كل منهم بحسب العادة. ومن تحجر
مواتًا بأن أدار حوله أحجارًا ونحوها لم يملكه. وهو أحق به ووارثه من
بعده. وقيل ليس له بيعه. وله النزول عنه بعوض. لا على وجه البيع. وقال
بعضهم له بيعه. وإن لم يتم إحياؤه لأنه أحق به.
(وفي الصحيحين) من حديث أسماء بنت أبي بكر في حديث ذكرته (أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير) وللبخاري من أموال بني النضير
أرضًا. قالت كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - على رأسي وهو مني على ثلثلي فرسخ.
(3/335)
(ولأبي داود) وأحمد وغيرهما. قال: اقطع
النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير (حضر) بضم الحاء وسكون الضاد أي
ارتفاع (فرس) في عدوه وفيه أجرى الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه. فقال
"أعطوه حيث بلغ السوط" فدل على جواز إقطاع الموات لمن يحييه ولا يملكه
بالإقطاع. بل هو أحق به من غيره. فإذا أحياه ملكه.
(وعن وائل) بن حجر -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أقطعه أرضًا بحضر موت) وبعث معاوية ليقطعها إياه رواه أبو داود وغيره و
(صححه الترمذي) وابن حبان والبيهقي وغيرهم فدل أيضًا على جواز إقطاع
الموات لمن يحييه. قال القاضي عياض الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله
شيئًا لمن يراه أهلًا لذلك. وأكثر ما يستعمل في الأرض وهو أن يخرج منها
لمن يراه ما يحوزه. إما بأن يملكه إياه فيعمره. وإما أن يجعل له غلتها
مدة. وقال الشيخ الإقطاع نوعان إقطاع تمليك. كما يقطع ولي الأمر الموات
لمن يحييه. وإقطاع استغلال وهو إقطاع منفعة الأرض لمن يشاء يستغلها أو
يحتجزها.
(وللبخاري) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- (أنه - صلى الله عليه
وسلم - دعا الأنصار ليقطعهم البحرين) فقالوا يا رسول الله إن فعلت
فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها. فلم يكن ذلك عند النبي - صلى الله عليه
وسلم - يعني بسبب الفتوح. فقال "إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى
تلقوني" ويحتمل أنه أراد الموات ليتملكوه
(3/336)
بالإحياء. أو أراد أن يخصهم بتناول جزيتها.
وقال الحافظ أراد أن يخصهم بما يحصل منها. أما الناجز فالجزية. وأما
بعد ذلك فخراج الأرض. وقد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - ذلك في عدة
أراض بعد فتحها. وقبل فتحها. منها إقطاعه تميمًا الداري بيت إبراهيم.
فلما فتحت في عهد عمر، نجز ذلك لتميم. واستمر في يد ذريته.
واقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - صخر بن أبي العبلة ماء لبني سليم
لما هربوا من الإسلام. وتركوا ذلك الماء ثم رده إليهم.
ولما خرج إلى تبوك لقيته جهينة بالرحبة. فقال لهم "من أهل ذي المروة"
فقالوا بنو رفاعة من جهينة فقال "اقطعتها لبني رفاعة" فاقتسموها. فمنهم
من باع. ومنهم من أمسك. فعمل وغير ذلك من الأحاديث الدالة على إقطاع
النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتخصيصه بعضًا دون بعض. إذا كان فيه
مصلحة وجوازه للأئمة من بعده.
(ولأبي داود وخط لعمرو بن حريث دارًا بالمدينة) حسنه الحافظ ولفظه عن
عمرو بن حريث قال خط لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دارًا
بالمدينة بقوس. وقال "أزيدك أزيدك" وللبيهقي والطبراني وغيرهما أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة اقطع الدور. واقطع ابن
مسعود فيمن اقطع. وللإمام إقطاع جلوس في الطرق الواسعة.
ورحاب المساجد غير المحوطة، ما لم يضر بالناس. ويكون المقطع أحق
بجلوسها. ولا يزول حقه بنقل متاعه منها. لأنه
(3/337)
استحق بإقطاع الإمام له. وأما بيعه شيئاً
من طريق المسلمين. فقال الشيخ لا يجوز لوكيل بيت المال ولا غيره بيع
شيء من طريق المسلمين النافذ. وليس للحاكم أن يحكم بصحته.
(وأقطع بلال بن الحارث) المزني وفد في رجب سنة خمس وكان معه لواء مزينة
يوم الفتح ومات سنة ستين -رضي الله عنه- أقطعه النبي - صلى الله عليه
وسلم - (المعادن القبلية) بفتح القاف والباء منسوبة إلى قبل. وهي ناحية
من ساحل البحر. بينها وبين المدينة خمسة أيام. ولأبي داود وهي من ناحية
الفرع. والخبر رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس وعمرو ابن عوف.
"وفيه جلسيها وغوريها. وحيث يصلح الزرع من قدس. ولم يعطه حق مسلم" وقدس
جبل عظيم معروف. وعند أبي عبيد أقطعه العقيق فدل هذا الحديث على أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع المعادن. فكذا الأئمة بعده. وهو جعل
بعض الآراض الموات مختصة ببعض الأشخاص سواء كان معدناً أو أرضاً كما
تقدم ويصير أولى بها من غيره بشرط كونها من الموات التي لا يختص بها
أحد.
وإذا ظهر المعدن بإظهاره ملكه. كملح وجص أو المعدن الجامد الباطن
كالذهب والفضة. يملك بالإحياء. ولا تملك معادن منفردة مطلقاً ظاهرة أو
باطنة. ولا تملك المعادن الظاهرة كملح وكحل وجص. بل هي مشتركة بين
الناس. لأنها منافع دائمة إليها حاجات الناس. كالماء ونحوه. ولا
الجارية بإحياء الأرض لكن صاحب الأرض أحق بها كما تقدم.
(3/338)
و (قال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (من
تحجر أرضاً) بأن شرع في عمارتها ولم يحيها بما يعد إحياء (فعطلها) من
العمارة (ثلاث سنين) وعمرها غيره بعد الثلاث (فعامرها أحق بها) لإحيائه
لها وتعطيل المتحجر.
(وقال) يعني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (لبلال بن الحارث) المتقدم
خبره (ما اقطعت) أي ما أقطعك النبي - صلى الله عليه وسلم - (لتحجبه) عن
عمارة الناس له (خذ ما قدرت) أي على إحيائه (وذر الباقي) وهذا الأثر مع
ما تقدم يدل على أن المقطع أحق من غيره وأولى بالإحياء. ولكن لا يملكه
بمجرد الإقطاع. وإنما يملكه بالإحياء فمتى أقطع الإمام أحداً أكثر مما
يقدر على إحيائه. ثم تبين عجزه عن إحيائه وحصل متشوف للإحياء. وطالت
المدة عرفاً. أو ثلاث سنين. كما تقدم. استرجعه الإمام منه. كما استرجع
النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني سليم وغيرهم. وكما استرجع عمر من
بلال بن الحارث ولم ينكر.
(وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لا يمنع الماء
والنار والكلأ) النبات رطباً كان أو يابساً. رواه ابن ماجه وغيره و
(صححه الحافظ) وعن رجل من الصحابة قال غزوت مع النبي - صلى الله عليه
وسلم - فسمعته يقول "الناس شركاء في ثلاثة الكلأ والماء والنار" رواه
أحمد وأبو داود. ووثقه الحافظ أيضاً. وفيه أحاديث أخر. بمجموعها يحتج
بها. وفي الماء بخصوصه أحاديث في صحيح مسلم وغيره. وقال "لا تمنعوا فضل
الماء لتمنعوا به
(3/339)
الكلأ" فلا يرعى ذلك الكلأ بدون ماء ذلك
البئر. فدل الحديث وما في معناه على عدم اختصاص أحد من الناس بأحد
الثلاثة. الكلأ في الأرض المباحة. والجبال التي لم يحرزها أحد. فأنه لا
يمنع من أخذ كلئها أحد. إلا ما حماه ولي أمر المسلمين. وأما النابت في
الأرض المملوكة والمتحجرة فصاحبه أحق به. وما أحرز بعد قطعه فلا شركة
فيه بالإجماع.
وأما النار فقيل المراد الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها. والمشهور أن
المراد الشجر الذي يحتطبه الناس من المباح فيوقدونه. وقيل الأقرب أن
المراد بها النار حقيقة. وأما الماء فماء السماء والعيون والأنهار التي
لا تملك. والمجتمعة من الأمطار وغيرها في أرض مباحة. وليس أحد أحق بها
من أحد إلا لقرب أرضه منها ولو كان في أرض مملوكة فكذلك إلا أن صاحب
الأرض المملوكة أحق به يسقيها ويسقي ماشيته إجماعاً. ويجب بذل ما فضل
من ذلك فلو كان في أرضه أو داره عين نابعة أو بئر احتفرها فإنه لا يملك
الماء بل حقه فيه تقديمه في الانتفاع به على غيره وللغير دخول أرضه.
وتقدم. وأما الماء المحرز في الجرار ونحوها فملك إجماعاً.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - اسق يا زبير) وكان تخاصم مع رجل من
الأنصار في شراج الحرة التي يسقون بها النخل إذا سالت من ماء المطر
وكان يمر بأرض الزبير فيحبسه لإكمال سقي أرضه. وطلب الأنصاري تعجيل
إرساله فقال - صلى الله عليه وسلم - "اسق يا زبير ثم
(3/340)
أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري فقال
"اسق يا زبير (ثم احبس الماء) أي على أرضك (حتى يرجع) أي الماء (إلى
الجدر) أي جدران الشربات التي في أصول النخل. والمعنى حتى يبلغ تمام
الشرب (متفق عليه) زاد عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. قال نظرنا إلى
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر"
فكان ذلك إلى الكعبين.
وذلك أنه لما علم السلف أن الجدر يختلف بالطول والقصر. قاسوا ما وقعت
فيه القصة. فوجدوه يبلغ الكعبين. فجعلوا ذلك معياراً لاستحقاق الأول
فالأول. والحديث دليل على أن من سبق إلى شيء من مياه الأدوية والسيول
التي لا تملك فهو أحق به. وأنه ليس له إذا استغنى أن يحبس الماء عن
الذي يليه.
(ولأبي داود) وابن ماجه وغيرهما وحسنه الحافظ (من حديث عمرو بن شعيب)
عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قضى) يعني في سيل
مهزور واد بالمدينة (أن يمسك) يعني الأعلى (حتى يبلغ) السيل (الكعبين
ثم يرسل الأعلى على الأسفل) ورواه الحاكم وغيره من حديث عائشة. ورواه
أبو داود من حديث ثعلبة. وعبد الرزاق عن أبي حاتم القرظي أنه سمع
كبراءهم يذكرون أن رجلاً من قريش كان له سهم في بني قريظة. فخاصم إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - في مهزور. المسيل الذي يقتسمون ماءه.
فقضى أن الماء إلى الكعبين.
(3/341)
فدلت هذه الأحايث وغيرها على أن الأعلى
تستحق أرضه الشرب بالسيل والغيل وماء البئر ونحوها قبل الأرض التي
تحتها. وأن الأعلى في السيل ونحوه يمسك الماء حتى يبلغ كعبي الرجل
الكائنين عند مفصل الساق والقدم. ثم يرسله بعد ذلك إلى من يليه. وهكذا.
فإن كان الماء مملوكاً قسم بين الأملاك بقدر النفقة والعمل. وتصرف كل
واحد في حصته بما شاء.
(وعن الصعب بن جَثَّامة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال لا حمى) أي لا مكان محمي من موات كثيرة العشب ونحوه (إلا
لله ورسوله) - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز لأحد من الناس أن يحمي
مواتاً يختص به (رواه البخاري) وأحمد وأبو داود وغيرهم. وأصل الحمى عند
العرب أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان
عال. فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب. فلا يرعى فيه غيره. ويرعى
هو مع غيره فيما سواه. ومعناه أن يمنع من الإحياء في ذلك الموات ليتوفر
فيه الكلأ. وترعاه مواش مخصوصة. ويمنع غيرها. وفرق بين الحمى المنهي
عنه. والإحياء المباح مما لا منفعة للمسلمين فيه شاملة.
(وقال بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمى النقيع) أصل
النقيع كل موضع يستنقع فيه الماء. وهذا النقيع المذكور في هذا الحديث
على عشرين فرسخاً من المدينة. قدره ميل في ثمانية أميال. وهو غير نقيع
الخضمات. وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
(3/342)
حمى النقيع للخيل خيل المسلمين رواه أحمد
وغيره.
(وعمر) -رضي الله عنه- (حمى الشرف) سرة نجد قرب الشريف الذي قيل إنه
أعلى جبل في بلاد العرب. حمى ضرية والربذة (والربذة) قرية من قرى
المدينة على طريق الحاج. فيها قبر أبي ذر رضي الله عنه. ولابن أبي شيبة
بسند صحيح أن عمر -رضي الله عنه- حمى الربذة لنعم الصدقة. وقال الوزير
وغيره اتفقوا على أنه يجوز للإمام أن يحمي الحشيش في أرض الموات لإبل
الصدقة. وخيل المجاهدين. ونعم الجزية. والضوال إذا احتاج اليها. ورأى
فيه المصلحة.
وقال: اتفقوا على أن الأرض إذا كانت أرض صلح, أو ما للمسلمين فيه
منفعة. فإنه لا يجوز للمسلم أن ينفرد بها اهـ. وما حماه النبي - صلى
الله عليه وسلم - فليس لأحد نقضه. لثبوته بالنص. وما حماه غيره من
الأئمة يجوز نقضه. لأنه بالاجتهاد. ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أرباب
الدواب عوضاً عن مرعى موات أو حمى. لأنه قد ثبت أن الناس شركاء فيه.
ومن أخذ مما حماه إمام عزر في ظاهر كلام بعض أهل العلم. ولا ضمان.
(وقال) عمر رضي الله عنه (لمولاه) هني. وكان استعمله على الحمى. يا هني
(اضمم جناحك) أي جانبك (على المسلمين, واتق دعوة المظلوم) فإن دعوة
المظلوم مستجابة (وادخل رب الصريمة) تصغير صرمة. وهي ما بين العشرين
إلى الثلاثين من
(3/343)
الإبل. أو من العشر إلى الأربعين
(والغنيمة) تصغير غنم. وتمام الخبر: وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان.
فإنهما أن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع. ورب الصريمة ورب الغنيمة
إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه. يقول: يا أمير المؤمنين؟
أفتاركهم أنا لا أبا لك. فالماء والكلأ أيسر عليَّ من الذهب والورِق.
وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم. إنها لبلادهم. قاتلوا عليها في
الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام. والذي نفسي بيده لولا المال الذي
أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شيئاً. رواه البخاري.
وقال مالك بلغني أنه كان يحمل على أربعين ألفاً في سبيل الله.
باب الجعالة
به بتثليث الجيم. وهي ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله ويقال جعل له كذا
على كذا شارطه به عليه. واصطلاحاً جعل جائز التصرف شيئاً متمولاً
معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة.
وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة.
(قال تعالى: {وَلِمَن جَاء بِهِ} أي دل على سارقه {حِمْلُ بَعِيرٍ}
وهذا جعل. والعمل الذي يؤخذ عليه الجعل نحو ذلك. والرقية ورد الآبق كما
سيأتي. وبناء حائط وسائر ما
(3/344)
يستأجر عليه من الأعمال. ولا فرق بين أن
يجعله لمعين أو غير معين. كما في الآية وقال الوزير اتفقوا على أن رد
الآبق يستحق الجعل برده إذا شرط. وقال أبو حنيفة وأحمد وإن لم يشترط.
وقال مالك إن كان معروفاً به. وهي عقد جائز لكل منهما فسخه. ولا يشترط
العلم بالعمل. ولا المدة ويقوم العمل مقام القبول. بخلاف الإجارة. ومن
عمل بعد قول صاحب العمل من فعل كذا فله كذا استحق الجعل. لأن العقد
استقر بتمام العمل. وإن بلغه الجعل في أثناء العمل يأخذ قسط تمام
العمل. وإن لم يبلغه إلا بعد العمل لم يستحق شيئاً لذلك. وإن كان في
يده حرم عليه أخذه إلا أن تبرع له ربه به.
(وعن أبي سعيد) الخدري -رضي الله عنه- (في قصة اللديغ) وهو اللسيع. وهو
ضرب ذات الحمة من حية وعقرب وغيرهما وصرح بها في إحدى الروايات. وذكر
أنه انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة حتى
نزلوا على حي من أحياء العرب. فاستضافوهم فابوا فلدغ سيد ذلك الحي,
فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء. فأتوهم فقالوا يا أيها الرهط إن سيدنا
لُدغ وسعينا بكل شيء لا ينفعه. فهل عند أحد منكم من شيء؟ قال بعضهم:
إني والله لأرقي ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا. ثم (قال ما أنا
براق لكم) أي نافث على لدغته والرقية كلام يستشفى به من كل عرض (حتى
تجعلوا لنا جعلاً) وهو ما يعطاه المرء على عمل.
(3/345)
(فصالحوهم) أي صالحهم الحي أن يرقوا سيدهم
(على قطيع) وهو الشيء المنقطع (من غنم) كان أو من غيرها. قال بعضهم
الغالب استعماله فيما بين الأربعة والأربعين. وللبخاري إنا نعطيكم
ثلاثين شاة. ولعل الرهط نحو من ذلك فكأنهم جعلوا لكل رجل شاة فانطلق
يتفل عليه ويقرأ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين} فكأنما نشط من
عقال. فانطلق يمشي وما به قَلَبَة. فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه.
فقال بعضهم اقتسموا ذلك. فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صلى
الله عليه وسلم - فنذكر الذي كان. فنظر الذي يأمرنا. فقدموا على النبي
- صلى الله عليه وسلم - (فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -)
فقال وما يدريك أنها رقية (فقال) قد (أصبتم) فصوب صلوات الله وسلامه
عليه أخذ الجعل على الرقية. (وقال "اقتسموا واضربوا لي معكم سهماً)
وضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - (متفق عليه).
(وعن عمر) -رضي الله عنه- (وغيره) من الصحابة علي وابن مسعود رضي الله
عنهم (في رد الآبق) إذا جاء به من خارج الحرم (ديناراً أو اثني عشر
درهماً) من المصر أو خارجه. وجزم بعض أهل العلم بمشروعية هذا التقدير
لمجيئه مرفوعاً وموقوفاً. قال عمرو بن دينار وابن أبي مليكة أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - جعل في رد الآبق من خارج الحرم ديناراً. هذا إذا
فعل ذلك من
غير جعل, وإن وجد صاحبه وشهدت له به بينة, أو
صدقة مكلف دفعه إليه. وإلا إلى ولي الأمر ليحفظه
(3/346)
لصاحبه. وليس له تملكه كضوال الإبل. وإنما
جاز التقاطه لما تقدم. ولأنه لا يؤمن لحاقه بدار الحرب. وارتداده.
واشتغاله بالفساد.
ويرجع راد الآبق وغيره بنفقته. لأنه مأذون في الإنفاق عليه شرعاً.
بحرمة النفس. إن لم ينو التبرع. ولو هرب منه في الطريق. والمراد إذا لم
يكن ذلك تخليصاً له من هلكة ونحوها. فله أجرة المثل. قال شيخ الإسلام
وغيره من استنقذ مال غيره من المهلكة ورده استحق أجره المثل. ولو بغير
شرط في أصح القولين. وهو منصوص أحمد وغيره. وقال إذا استنقذ فرساً أو
نحوه للغير ومرض بحيث أنه لم يقدر على المشي فيجوز بل يجب في هذه الحال
أن يبيعه الذي استنقذه ويحفظ الثمن لصاحبه. نص الأئمة على هذه المسألة
ونظائرها.
وقال ابن القيم متى كان العمل في مال الغير انقاذاً له من التلف المشرف
عليه كان جائزاً. كذبح الحيوان المأكول إذا خيف موته. ولا يضمن ما نقص
بذبح. قال ولهذا جاز لأحدهم ضم اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة. حتى إنه
يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة. وينزل انفاقه عليها منزلة
انفاقه لحاجة نفسه. لما كان حفظاً لمال أخيه. وإحساناً إليه. فلو علم
المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه
يذهب باطلاً في حكم الشرع لما أقدم على ذلك. ولضاعت مصالح الناس.
ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضاً.
(3/347)
وتعطلت حقوق كثيرة. وفسدت أموال عظيمة.
ومعلوم أن شريعة الإسلام بهرت العقول وفاقت كل شريعة. واشتملت على كل
مصلحة. وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك. كل الإباء. وذكر أصولاً. ثم قال:
وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملاً بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل
إلى حقه. أو فعله حفظاًًًً لمال المالك. وإحرازاً له من الضياع.
فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله. وقد نص عليه أحمد في عدة مواضع.
منها إذا حصد زرعه في غيبته. ومنها لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في
البحر فخلصه. فلو ترك ذلك لضاع. والمؤمنون يرون قبيحاً أن يذهب عمل مثل
هذا ضائعاً. ومال هذا ضائعاً. ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا.
وينجح سعي هذا.
باب اللُقَطة
بضم اللام وفتح القاف. وهي مال أو مختص ضل عن ربه. وقال ابن رشد اللقطة
بالجملة كل مسلم معرض للضياع كان ذلك في عامر الأرض أو غامرها. والجماد
والحيوان في ذلك سواء إلا الإبل بالاتفاق. فاللقطة ثلاثة أقسام: ما لا
تتبعه همة أوساط الناس كالتمرة والسوط. أولا كالشاة والمتاع. أو نحو
ضوال الإبل.
(عن أنسب) -رضي الله عنه- (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بتمرة
في الطريق فقال لولا أني أخاف أن تكون) يعني تلك التمرة
(3/348)
(من الصدقة) والصدقة لا تحل له - صلى الله
عليه وسلم - ولا لأهل بيته (لأكلتها متفق عليه) فدل على إباحة المحقرات
في الحال.
(وقال جابر) -رضي الله عنه- (رخص لنا - صلى الله عليه وسلم - في العصا
والسوط والحبل وأشباهها) كشسع النعل والتمرة يلتقطه الرجل ينتفع به
(رواه أبو داود) ورواه أحمد وغيره. وفي الحديثين ونحوهما دليل على جواز
الانتفاع بما يوجد في الطرقات من المحقرات. كالتمرة والسوط والعصا ونحو
ذلك مما لا خطر له. ولا يلزم دفع بدله. ولا يحتاج إلى تعريف لفعله -
صلى الله عليه وسلم - وإرخاصه في ذلك. ولم تجرِ عادة المسلمين بالتعريف
بمثل ذلك. وهو ظاهر قوله "لأكلتها" أي في الحال. وكذا متروك قصداً.
وملقى لعجز. ولقاط ثمرة ونحو ذلك.
(وعن زيد بن خالد) الجهني -رضي الله عنه- (قال جاء رجل إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - فسأله عن اللقطة) وهي مال ضل عن ربه (فقال اعرف
عِفاصها) بكسر العين وعاءها التي تكون فيه النفقة جلداً كان أو غيره.
من العفص. وهو الثني. لأن الوعاء يثنى على ما فيه. وفي رواية "خرقتها"
(ووكاءها) بكسر الواو ممدود, ما يربط به الوعاء الذي تكون فيه النفقة.
يقال أوكيته إيكاء فهو موكأ. وفي حديث أبي بن كعب "وجنسها وصفتها
وعددها" وغير ذلك مما تتميز به (ثم عرفها سنة) أي اذكرها للناس في مظان
اجتماعهم في الأسواق وأبواب المساجد أدبار الصلوات. والمجامع الحافلة
ونحو ذلك.
(3/349)
يقول من ضاعت له نفقة ونحو ذلك. ولا يصفها
بصفاتها. لأنه لا يُؤْمَن أن يدعيها من سمع ذلك. ويتوصل الكاذب به إلى
أخذها وصحح النووي أن يذكر بعض الصفات ولا يستوعبها. ولا يجب التعرف
بعد السنة غير الجمهور. وما ورد في البخاري وغيره من الزيادة على
الحول. فقال ابن الجوزي وغيره خطأ من بعض الرواه. ثم ثبت واستمر على
حول واحد. ولا يؤخذ إلا بما لا يشك فيه. لا بما يشك في راويه. فدل
الحديث على وجوب التعرف لعفاصها ووكائها ونحو ذلك. ووجوب تعريفها سنة.
وذلك يكون على المعتاد. كأن يكون في الابتداء كل يوم مرتين في طرفي
النهار. ثم في كل يوم مرة. ثم في أسبوع ثم شهر.
ولا يشترط أن يُعَرفها بنفسه. بل له توكيل غيره. ويعرفها في مكان
وجودها وغيره وقال الشيخ قريبًا من المكان الذي وجدها فيه وقال الوزير
وغيره اتفق فقهاء الأمصار: أنه إذا انقضت له أن يأكلها إن كان فقيراً.
أو يتصدق بها إن كان غنياً. والجمهور له أكلها (فإن جاء صاحبها) أي
فأعطه إياها. كما في صحيح البخاري. والمراد إذا وصفها بالصفات التي
اعتبرها الشارع واتفقوا على أنها لا تُدفع إليه إذا لم يعرف العِفاص
ولا الوِكاء ونحوه. وأنه إن غلط لم تدفع إليه. ويجب الرد بالوصف عند
الجمهور. وهو ظاهر النص.
ولا يحتاج إلى بينه ولا يمين. بل ربما يكون وصفها أظهر
(3/350)
وأصدق من البينة واليمين. ويدفع معها
نماءها المتصل والمنفصل في حول التعرف. وبعده المنفصل لواجدها (وإلا
فشأنك بها) أي فإن لم يأت صاحبها ويصفها فشأنك بها. وللبخاري "ثم كلها"
وفي لفظ "فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك. فإن جاء طالبها
يوماً من الدهر فادفعها إليه" وفي رواية "فأدها إليه" بعد قوله "كلها"
أي أد إليه بدلها. قال ابن رشد اتفق فقهاء الأمصار أن له أن يتصرف
فيها. ثم قال مالك والشافعي له أن يتملكها. وكلهم متفقون على أنه إن
أكلها ضمنها لصاحبها. إلا أهل الظاهر. ولا يضمن إن تلفت إلا بتفريط أو
جناية.
(قال: فضالة الغنم) الضالة تقال على الحيوان. وما ليس بحيوان يقال له
لقطة (قال هي لك أو لأخيك أو للذئب) جنس معروف من السباع يأكل الشاة
ونحوها. والحديث دليل على جواز أخذها. كأنه قال هي ضعيفة لعدم
الاستقلال. معرضة للهلاك. مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك. وهذا حث
على أخذها. لأنه إذا علم أنها إن لم يأخذها بقيت للذئب. كان ادعى له
إلى أخذها. واتفقوا على أن لواجد الغنم في المكان القفر البعيد من
العمران أن يأكلها. يعني بعد معرفة صفاتها. واجمعوا على أنه لو جاء
صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط كان له
أخذها. وإلا بدلها عند الجمهور. بل يخير بين ذبحها وعليه القيمة. أو
بيعها ويحفظ ثمنها. أو ينفق عليها من ماله بنية
(3/351)
الرجوع ويفعل الأحظ.
وكذا حكم كل طعام لا يبقى إذا خشي عليه التلف إن ترك. وهل التقاط
اللقطة في الجملة أفضل؟ إن أمن نفسه على ذلك وقوي على التعرف. أم
الترك؟ قال أبو حنيفة والشافعي الالتقاط أفضل. لأن من الواجب على
المسلم حفظ مال أخيه. وقال مالك وأحمد الترك أفضل. لخبر " ضالة المؤمن
حرق النار" وقيل واجب. وتأولوا الحديث على من أراد الانتفاع بها من أول
الأمر قبل التعريف. والمراد ما عدا لقطة الحاج. فأجمعوا على أنه لا
يجوز التقاطها. بل تترك في مكانها لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك.
ولقطة مكة لا يجوز التقاطها إلا لمنشد. وقيل ثم تملك عند الجمهور بعد
الحول للعموم. والتخصيص لتأكدها. وقال الشيخ لا تملك بحال للنهي عنها.
ويجب تعريفها أبدًا. وهو رواية عن أحمد. واختاره طائفة من العلماء (قال
فضالة الإبل) ويقال الهوامي والهوامل (قال مالك ولها) استفهام إنكار أي
اتركها (معها سقاؤها) أي جوفها وقيل عنقها (وحذاؤها) بكسر الحاء
المهملة فذال معجمة أي خفها (ترد الماء وتأكل الشجر) فحكم - صلى الله
عليه وسلم - بأنها لا تلتقط بل تترك ترد المياه وتأكل الشجر. وذلك لشدة
صبرها عن الماء لكثرة ما توعي في بطنها منه. وقوتها على وروده.
(3/352)
(حتى يلقاها ربها) إشارة إلى استغنائها عن
الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش. وتناول المأكول
بغير تعب. لطول عنقها. وقوتها على المشي وامتناعها من السباع.
فلا تحتاج إلى ملتقط كما تقدم ما لم تكن بمهلكة. والحكمة أن بقاءها حيث
ضلت أقرب إلى وجدان مالكها من تطلبه لها في رحال الناس (متفق عليه)
وقال ابن رشد اتفقوا على أن الإبل لا تلتقط، والبقر والخيل والظباء
ونحوها في معنى الإبل للعلة.
وقال الشيخ وغيره لا يلتقط الطير والظباء ونحوها إذا أمكن صاحبها
إدراكها. وأما إذا خيف عليها كما لو كانت بمهلكة أو في أرض مسبعة أو
قريبًا من دار الحرب أو بموضع يستحل أهله أموال المسلمين أو ببرية لا
ماء فيها ولا مرعى جاز أخذها. ولا ضمان على آخذها. لأنه إنقاذ لها من
الهلاك. حتى لو قيل بوجوب أخذها والحالة ما ذكر لكان متوجهًا.
(وللبخاري في ضالة الغنم: وهي تُعرَف) فدل على وجوب تعريفها. ومثل
الغنم في جواز الالتقاط إذا أمن نفسه.
ووجوب التعريف: فصلان وعجاجيل وأفلاء ونحو ذلك مما لا يمتنع من صغار
السباع. وقال الموفق في الحمر الأهلية الأولى إلحاقها بالشاة لمساواتها
لها في العلة. وأنها لا تمتنع من الذئب. وتفارق الإبل في علتها لذلك.
ولكونها لا صبر لها عن الماء. ويملك اللقطة بشرطها بعد التعريف ملكًا
حكميًا، للخبر مراعي.
(3/353)
(ولمسلم من آوى ضالة فهو ضال) أي ليس
بمهتد. والمراد بالضالة هنا ما يحمي نفسه من إبل وبقر وخيل وبغال.
ويقدر على الإبعاد في طلب المرعى والماء. بخلاف نحو الغنم.
فالحيوان الممتنع من صغار السباع لا يجوز التقاطه. سواء كان كبير
الجثة. كالإبل والبقر والخيل والبغال. أو يمنع نفسه بطيرانه كالطيور
المملوكة. أو بنابه كالفهود المعلمة بجامع العلة في الإبل.
وما سوى ذلك من نحو الغنم فحقه أن يعرف بها. فإذا أخذها من دون تعريف
كان ضالًا أيضًا. لقوله: (ما لم يُعَرفها) ليردها للواصف لها. وظاهر
هذه الأخبار وجوب التعريف. لأن الأمر يقتضي الوجوب. ولأنه - صلى الله
عليه وسلم - قد سمى من لم يعرفها ضالًا. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال في الضالة المكتومة غرامتها ومثلها معها. بل ولا يجوز
التقاطها لمن لم يأمن نفسه عليها. وإلا فكغاصب. ومن التقط ما لا يجوز
التقاطه زال ضمانه بدفعه إلى الإمام أو نائبه. ولا يبرأ برده إلى
موضعه.
وإلا باعها الملتقط بعد حول التعريف. قال الشيخ الأشبه أن المالك لا
يملك انتزاعها من المشتري. وإنما على الملتقط بدلها. كما تقدم.
(وله) أي لمسلم (عن أبي) ابن كعب -رضي الله عنه- (مرفوعًا) إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال (فإن جاء أحد) أي ممن يطلبها (يخبرك
بعدتها) وفي لفظ أنه قال وجدت مائة دينار
(3/354)
فقال "عرفها حولًا" فعرفتها فلم تعرف فرجعت
إليه فقال: اعرف عددها ووعاءها ووكاءها وجنسها وصفتها فإن جاء أحد
يخبرك بعدتها (ووعائها ووكائها) وفيه جواز تأخير معرفة عدتها ونحوه إلى
تمام الحول. والسنة أن يعرف ذلك حين يلتقطها. وبعضهم يقول يكتب صفتها
مخافة النسيان. أو وارث لا يعلم ذلك (فأعطها إياه) أي فادفعها إليه إن
كانت موجودة أو بدلها.
وفيه جواز دفعها على من وصفها بالعلامات المذكورة من دون إقامة بينة.
وهو مذهب الجمهور. وهذا فيما إذا كان لها عفاص ووكاء أو عدد. فإن كان
لها البعض فيكفي ذكره. وإن لم يكن لها شيء من ذلك فلا بد من ذكر أوصاف
مختصة بها. تقوم مقام وصفها بالأمور التي اعتبرها الشارع (وإلا فاستمتع
بها) ظاهره غنيًا كان أو فقيرًا. والأمر بالاستمتاع للإباحة. وكذا قوله
"فاستنفقها" ونحوه. وإن جاء صاحبها فترد العين إن كان موجودة أو البدل
إن استهلكت.
(ولأحمد) وغيره (عن عياض) ابن حمار -رضي الله عنه- (مرفوعًا) أنه - صلى
الله عليه وسلم - قال (فليشهد ذوي) أي صاحبي (عدل)
على التقاطه. وقال ابن القيم في السنن الأمر بالإشهاد خوفًا
من تسويل النفس وانبعاث الرغبة فيها. أو حدوث
المنية فيحوزها الورثة في جملة التركة. ومذهب مالك
وأحمد وغيرهما استحباب الإشهاد احتياطًا. لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لم
(3/355)
يأمر به في حديث زيد وغيره. ولو كان واجبًا
لبينه (وليحفظ عفاصها ووكاءها ثم لا يكتم) أي لا يجوز كتم اللقطة إذا
جاء صاحبها. وذكر من أوصافها ما يغلب الظن بصدقه. وفي لفظ "فإن جاء
صاحبها فلا تكتم فهو أحق بها" وللبيهقي "وليعرف ولا يغيب".
(فإن جاء ربها فهو أحق بها) أي من الملتقط. فهي مال صاحبها ضلت عنه. ثم
وجدها فهي له (وإلا فهو مال الله) أضافه إلى الله تعالى. وله ما في
السموات والأرض (يؤتيه من يشاء) فيجوز أن يصرفها في نفسه بعد التعريف
المشروع.
سواء كان غنيًا أو فقيرًا. للإطلاق. ولقوله "فاستمتع بها" وفي لفظ "فهي
كسبيل مالك" وفي لفظ "فاستنفقها" وفي لفظ "فهي لك".
(ولأبي داود عن سهل) ابن سعد الساعدي -رضي الله عنه- (أن عليًا) يعني
ابن أبي طالب -رضي الله عنه- (وجد دينارًا في السوق فاشترى به طعامًا
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كلوا) ولأبي داود أيضًا وغيره
من حديث أبي سعيد أن عليًا أتى به فاطمة رضي الله عنها فسألت عنه رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقال كلوا) فقال "هو رزق الله" فأكل منه
وأكل علي وفاطمة (ثم جاء صاحبه فدفعوه إليه)، وفي حديث أبي سعيد ثم أتت
امرأة تنشد الدينار فقال - صلى الله عليه وسلم - "يا علي أد الدينار"
وروي من طرق بألفاظ لا تخلو من مقال. وحسنه الحافظ وغيره. وفي دليل على
رد البدل.
(3/356)
وهو قول الجمهور. وأن اللقطة إذا كانت
دراهم أو دنانير ليست بصرة ولا نحوها لا يجب تعريفها. وكذا إذا كان لا
يرجى وجود صاحبها. وظاهر المنتهى وغيره يجب مطلقًا.
(وقال ابن شهاب) الزهري (كانت ضوال الإبل في زمن عمر) ابن الخطاب -رضي
الله عنه- يعني في خلافته. وهو الخليفة الراشد الذي قال فيه - صلى الله
عليه وسلم - هو وأبو بكر "اقتدوا باللذين من بعدي" وقال "عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" أي كانت الضوال (إبلًا مؤبلة) أي كثيرة
متخذة للقنية (حتى إذا كان عثمان) أي في خلافة عثمان ثالث الخلفاء
الراشدين المهديين رضي الله عنهم (أمر بمعرفتها) أي صفة تلك الضوال
لئلا تضيع على أصحابها (ثم تباع) أي تلك الضوال (فإذا جاء صاحبها) أي
الضالة التي كانت مع تلك الضوال ووصفها بالصفات التي تتميز بها (أعطي
ثمنها) فدل على جواز التقاط الإبل ودفعها إلى ولي الأمر.
وجواز بيعها بعد معرفة صفاتها. وإذا جاء مالكها ووصفها دفع ولي الأمر
أو نائبه إلى صاحبها ثمنها.
(وعن عبيد بن حميد) ابن عبد الرحمن الحميري رحمه الله وقد وثقه بعضهم
(عن الشعبي) عامر بن شراحيل
الحميري الكوفي راوية يضرب به المثل مات سنة ثلاث ومائة رحمه الله (عن
غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والشعبي قد لقي جماعة
من الصحابة رضي الله عنهم. ومجهولهم مقبول. وقد
(3/357)
سمع من نحو خمسين منهم (أنه قال) يعني
النبي – - صلى الله عليه وسلم - (من وجد دابة) وظاهره العموم (قد عجز
عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها فهي له رواه أبو داود) وله عن
الشعبي يرفعه "من ترك دابة بمهلكة فأحياها رجل فهي لمن أحياها" يعني
بالسقي والعلف إلى أن قويت على المشي والركوب والحمل. ملكها بذلك.
وإن تركها لا لرغبة عنها بل ليرجع إليها أو ضلت عنه فتقدم حكمها. وما
يلقى في البحر خوفًا من غرق يملكه آخذه ولا يملك متاعًا ولا عبدًا. لأن
المتاع لا حرمة له في نفسه، ولا يخشي عليه التلف. كما يخشي على
الحيوان. ولأن العبد يمكنه في العادة التخلص إلى الأماكن التي يعيش
فيها وإن انكسرت سفينته فاستخرجه قوم فهو لربه. وعلى الآخذ أجرة المثل.
وإن وجد عنبرة على الساحل فله. وإن أخذ نعله ونحوه ووجد موضعه غيره فهو
لقطة. له أحكام اللقطة. ويأخذ حقه منه بعد تعريفه.
باب اللقيط
بمعنى ملقوط. وهو طفل لم يميز وقيل من الولادة إلى البلوغ. ذكرًا كان
أو أنثى. لا يعرف نسبه ولا رقه. نبذ في شارع أو غيره. أو ضل وأخذه فرض
كفاية ويسن الإشهاد عليه.
(3/358)
(قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ
وَالتَّقْوَى} فدل عموم الآية على وجوب التقاطه. ولأن فيه إحياء نفس
معصومة. فوجب كإطعامه وإنجائه.
(وعن واثلة) ابن الأسقع -رضي الله عنه- (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال (المرأة تحوز ثلاث مواريث عتيقها) ولا نزاع
في ذلك (ولقيطها) وبه قال إسحاق وغيره. وقال ابن القيم وهو في غاية
القوة اهـ. وإن صح الحديث فالقول ما قاله. والجمهور إنما لها الولاية
لا الولاء. لحديث "إنما الولاء لمن أعتق" وإن لم يخلف وارثًا صرف ماله
لبيت المال. فإن المسلمين خولوا كل مال لا مالك له (وولدها الذي لا عنت
عليه) قال ابن القيم والقول به أصح الأقوال.
وهو مقتضى الآثار والقياس. والحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن
ماجه. وغيرهم و (حسنه الترمذي) وتكلم فيه بعضهم.
وهو دليل على جواز التقاط المرأة للطفل. وحضانتها له. وصحة ولايتها
عليه. فالحر العدل المكلف الرشيد أولى بالجواز بغير إذن حاكم. لأنه
وليه. وإن كان الملتقط فاسقًا أو رقيقًا أو كافرًا. واللقيط مسلم. أو
بدويًا ينتقل في المواضع. أو وجده في الحضر. وأراد نقله إلى البادية لم
يقر بيده.
(وقال عمر) ابن الخطاب -رضي الله عنه- (لأبي جميلة)
(3/359)
واسمه سنين أدرك النبي - صلى الله عليه
وسلم - وشهد عام الفتح، وكان وجد لقيطًا فأتى به عمر. فقال عريفي يا
أمير المؤمنين إنه رجل صالح. فقال أكذلك قال نعم، قال فاذهب فـ (ـهو
حر) قال ابن المنذر. وأجمع عليه عوام أهل العلم. وقال الوزير اتفقوا
على أنه حر وولاؤه لجميع المسلمين (ولك ولاؤه) أي ولايته فدل على أن
اللقيط يقر في يد واجده الأمين. لأن عمر أقره في يده حين قيل له إنه
رجل صالح (وعلينا نفقته) يعني من بيت مال المسلمين. وفي رواية من بيت
المال. هذا إذا لم يكن له مال ينفق عليه منه.
قال الوزير وغيره اتفقوا على أنه إن وجد مع اللقيط مال أنفق عليه منه.
فإن لم يوجد معه نفقة أنفق عليه من بيت المال اهـ. ولا تجب نفقته على
الملتقط. فإنما هو محسن قام بفرض الكفاية. فإن الولاية هنا كالحضانة.
ولا توجب الإنفاق بالاتفاق. وإن تعذر الإنفاق من بيت المال فعلى من علم
حاله من المسلمين. فإن تركوه أثموا. قال وعلينا (رضاعه) أي في بيت
المال (رواه سعيد) ابن منصور في سننه. وهو مسلم إذا وجد في دار
الإسلام. وأما في بلد كفر لا مسلم فيه يمكن كونه منه فكافر.
وما وجد معه من فراش أو ثياب أو مال في جيبه أو تحته ظاهرًا أو مدفونًا
طريًا. أو متصلًا به كحيوان وغيره مشدودًا بثيابه. أو مطروحًا قريبًا
منه. فهو له عملًا بالظاهر. ولأن له
(3/360)
يدًا صحيحة كالبالغ ينفقه عليه ملتقطه
بالمعروف لولايته عليه ووليه في القتل العمد العدوان: الإمام يخير بين
القصاص والدية. لأنه ولي من لا ولي له. والتخيير هنا تفويض النظر إليه
في أصلح الأمرين وإن أقر رجل أنه ولده لحقه. ولا يلحق الكافر في دينه.
ولا يلحق بامرأة حكاه ابن المنذر إجماعًا. وإن اعترف بالرق مع سبق مناف
له لم يقبل منه. وكذا إن قال إنه كافر لم يقبل منه. لأنه محكوم
بإسلامه. متى ولد في دار الإسلام بإسلام أبيه. وكذا بإسلام أمه
اتفاقًا. وإن وجد في كنيسة أو بيعة أو قرية من قرى أهل الذمة فهو ذمي.
(وله) أي لسعيد بن منصور في سننه (عن عمر) -رضي الله عنه- (أن امرأة
وطئها رجلان في طهر فقال القائف قد اشتركا فيه فجعله بينهما) وذلك
بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر ذلك أحد منهم فكان إجماعًا. وكذا
إن وطئ امرأة اثنان بشبهة أو جارية مشتركة بينهما في طهر واحد ونحو ذلك
أو ادعى اللقيط اثنان فأكثر ولا بينة. أو تعارضت بينتاهما فلمن ألحقته
القافة به. وإن ألحقته باثنين فأكثر لحقهم. لا بأكثر من أم. وإن ألحقته
بكافر لم يحكم بكفره إلا ببينة مع بقاء أبويه ويلحق به نسبًا. قال
الشيخ وغيره قد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده
القافة دليلًا من أدلة ثبوت النسب.
وقال بعض الفقهاء ومن العجيب إنكار لحوق النسب بالقافة التي اعتبرها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمل بها الصحابة من بعده.
(3/361)
وحكم بها عمر رضي الله عنه. وإن وصفه
أحدهما بعلامة خفية بجسده حكم له به عند الجمهور. والقافة قوم يعرفون
الأنساب بالشبه. ولا يختص بقبيلة معينة. ويكفي واحد. وشرطه أن يكون
عدلًا مجربًا في الإصابة. . ويكفي مجرد خبره. واختار ابن القيم وغيره
أن قوله حكم لا رواية.
باب الوقف
الوقف لغة الحبس. يقال وقف الشيء أي حبسه. وكذا أحبسه وسبله بمعنى.
وشرعًا تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. وتسمية الوقف وقفًا بمعنى أنه وقف
على تلك الجهة ونحوها تأباه اللغة. والوقف مما اختص به المسلمون فلم
يوجد قبل هذه الأمة. وشرطه أن يكون الواقف جائز التصرف. وأركانه الواقف
والموقوف عليه. والصيغة التي ينعقد بها. ويصح بالقول وبالفعل الدال
عليه عرفًا. والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع في الجملة.
(قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} والوقف من فعل الخير المأمور به.
ومن أفضل القرب المندوب إليها {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} تسعدون وتفوزون
بالجنة. فدلت الآية الكريمة على مشروعية الوقف في أعمال البر.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال
(3/362)
إذا مات ابن آدم) يعني العامل بطاعة الله
(انقطع عمله) الذي كان يعمل في حياته (إلا من ثلاث) وفي لفظ "ثلاثة
أشياء" وضحها بقوله (صدقة جارية) أي وقف كما فسره به أهل العلم (أو علم
ينتفع به من بعده) كالتعليم والتصنيف. فيبقى من يرويه عنه. وينتفع به.
وكذا كتب العلم النافع. ولو بالأجرة مع النية الصالحة. أو وقف الكتب
النافعة (أو ولد صالح يدعو له) ذكرًا كان أو أنثى وشرط صلاحه ليكون
الدعاء مجابًا (رواه مسلم) في كتاب الوقف لأنه فسر به. ورواه أحمد وأهل
السنن وغيرهم. إلا ابن ماجه. والبخاري تعليقًا.
والحديث دليل على أنه ينقطع أجر كل عمل بعد الموت إلا هذه الثلاثة
الأشياء. فإنه يجري أجرها بعد الموت. ويتجدد ثوابها. لكونه كاسبًا لها.
وفيه فضيلة الصدقة الجارية. والعلم الذي يبقى بعد موته. والتزوج الذي
هو سبب وجود الأولاد. ولابن ماجه بلفظ "إنما يلحق المؤمن من عمله
وحسناته بعد موته علم نشره. أو ولد صالح تركه. أو مصحف ورثه. أو مسجد
بناه. أو بيت لابن السبيل بناه. أو نهر أجراه. أو صدقة أخرجها من ماله
في صحته وحياته تلحقه بعد موته" ووردت خصال غير هذه نظمها السيوطي:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من فعال غير عشر
علوم بثها. ودعاء نجل ... وغرس نخل. والصدقات تجري
(3/363)
وراثة مصحف. ورباط ثغر ... وحفر البئر. أو
إجراء نهر
وبيت لغريب بناه يأوي ... إليه أو بناء محل ذكر
(وعن ابن عمر قال أصاب عمر) -رضي الله عنهما- (أرضًا بخيبر) وللنسائي
أنه كان لعمر مائة رأس فاشترى بها مائة سهم من خيبر. وهي المسماة بثمغ.
كما في رواية لأحمد والبخاري (فقال يا رسول الله لم أصب مالًا قط أنفس
عندي منه) أنفس أي أعظم أو أكثر منه والنفيس الجيد. ويسمى الجيد نفيسًا
لأخذه بالنفس (قال فما تأمرني) أي أن أصنع بتلك الأرض (قال إن شئت حبست
أصلها) أي أصل الأرض التي لك بخيبر. فهذا أصل في أن الوقف شرعًا تحبيس
مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به (وتصدقت بها) أي بمنفعتها. وللبخاري
"حبس أصلها وسبل ثمرتها" وله أيضًا "تصدق بثمره وحبس أصله".
وعند الفقهاء ألفاظ الوقف الصريحة: وقفت وحبست وسبلت. والكنايات تصدقت
وحرمت وأبدت. واشترطوا النية مع الكناية. أو اقترانها بأحد الألفاظ
الخمسة أو حكم الوقف. وعند الشيخ وغيره يحصل الوقف بكل ما أدى معناه.
وأنه لو قال جعلت ملكي للمسجد وفي المسجد ونحو ذلك صار وقفًا على
المسجد (غير أنه لا يباع أصلها) وللدارقطني حبيس ما دامت السموات
والأرض (ولا يوهب ولا يورث) وللبخاري "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا
يورث" ولكن ينفق ثمره.
(3/364)
وأجاز أبو حنيفة بيع الوقف. وقال أبو يوسف
لو بلغه هذا الحديث لقال به ورجع عن بيع الوقف.
وقال القرطبي رد الوقف مخالف للإجماع. فلا يلتفت إلى قول أبي حنيفة.
وتقدم قول "صدقة جارية" وللنسائي وغيره عن قتادة مرفوعًا "خير ما يخلفه
الرجل بعده ثلاث منها: صدقة تجري يبلغه أجرها" فدلت هذه الأحاديث على
لزوم الوقف. وأنه من أفضل القربات. وعلى عدم جواز نقضه. وأنه عقد لازم
بمجرد القول أو الفعل. وإن لم يحكم به حاكم. وقال الترمذي العمل عليه
عند أهل العلم. فلا يجوز فسخه بإقالة ولا غيرها من واقف وغيره. لأنه
مؤبد يتعذر الرجوع فيه بعد التحبيس.
ومذهب الجمهور أنه تشترط فيه المنفعة دائمًا من معين ينتفع به مع بقاء
عينه. وعند الشيخ أقرب الحدود في الموقوف أنه كل عين تجوز إعارتها (قال
فتصدق بها عمر على الفقراء) وتقدم أنهم من لا يجدون شيئًا أو يجدون بعض
الكفاية وإذا أفردوا دخل فيهم المساكين (وذوي القربى) أي: قربى عمر
(والرقاب) يعني المماليك في فك رقابهم من الرق (وفي سبيل الله) أي وفي
النفقة في سبيل الله يعني الجهاد (وابن السبيل) أي الطريق وهو المسافر
المنقطع به (والضيف) وهو من نزل بقوم يريد القرى. وفيه أن الوقف من
شرطه أن يكون على بر. لأن المقصود منه التقرب إلى الله.
(3/365)
وأما الشروط التي يذكرها كثير من الواقفين
فخبر "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل". متفق على عمومه. وقال الشيخ
إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة. وإلا كانت باطلة. فإن شرط فعلًا محرمًا
ظهر أنه باطل. أو مباحًا لا قربة فيه كان أيضًا باطلًا. لأنه شرط شرطًا
لا منفعة فيه لا له ولا للموقوف عليه. فيكون منفقًا للمال في الباطل.
لا سيما والوقف محبس مؤبد. فيكون في ذلك ضرر على الورثة بحبس المال
عنهم بلا منفعة. وضرر على المتناولين باستعمالهم بدون مصلحة دينية أو
دنيوية.
(لا جناح على من وليها) أي صدقته -رضي الله عنه- (أن يأكل منها
بالمعروف) وهو القدر الذي جرت به العادة بأن العامل يأكل من ثمرة
الوقف. حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل لاستقبح ذلك منه. وقيل
المراد أن يأخذ منه بقدر عمله. وفيه صحة شرط الأكل من الوقف واستثناء
الغلة مدة حياته ونحو ذلك. فإن عمر -رضي الله عنه- كان هو الوالي على
وقفه. مدة حياته. وكذا فعله جماعة من الصحابة. قال ابن القيم وهذا جائز
بالسنة الصحيحة والقياس الصحيح. وهو مذهب فقهاء الحديث.
واختار هو وشيخه صحة الوقف على نفسه. وفي الإنصاف عليه العمل في
زماننا. وقبله عند حكامنا من أزمنة متطاولة وصوبه. ولو وقف على الفقراء
فافتقر شمله الوقف. قال (أو
(3/366)
يطعم صديقًا) وفي لفط "أو يؤكل صديقًا له)
وللبخاري وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر. ويهدي لناس من أهل مكة كان
ينزل عليهم (غير متأثل مالا) وهو اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم.
وفي لفظ "غير متمول مالاً" أي غير متخذ منها مالاً. أي ملكاً.
والمقصود أنه لا يتملك شيئاً من رقابها. ولا يأخذ من غلتها ما يشتري
بدله ملكاً. بل ليس له إلا ما ينفقه (متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم
بألفاظ متقاربة ولأحمد أنه أوصى بها إلى حفصة. ثم إلى الأكابر من آل
عمر. وقال ابن عمر أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام صدقة عمر. وتلقاه
أهل العلم بالقبول. واتخذوه أصلًا في أحكام الوقف.
(ولهما عن علي مرفوعًا من بني لله مسجدًا) يقصد وقفه لذلك سواء بناه
بنفسه أو بني له بأمره (بنى الله له بيتًا في الجنة) ومن حديث عثمان
يبتغي به وجه الله ولأحمد من حديث ابن عباس ولو كمفحص قطاة. فدل على
فضيلة بناء المساجد. وعظم الجزاء على ذلك. وعلى صحة الوقف بالفعل الدال
على التوقيف. وقد استدل البخاري وغيره بهذا الحديث وغيره على صحة وقف
المشاع. وهو مذهب الجمهور. وحكى الوزير وغيره الاتفاق على جوازه. وفي
قصة بناء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يؤيد ذلك. فإنه قال
ثامنوني حائطكم. فقالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل.
(3/367)
فهذا ظاهر في جواز وقف المشاع. ولو كان غير
جائز لأنكر عليهم صلوات الله وسلامه عليه. وقيل لا يصح وقف المجهول.
وقال الشيخ المجهول نوعان: مبهم ومعين. مثل دار لم يرها. فمنع هذا
بعيد. وكذلك هبته. فأما الوقف على المبهم فهو شبيه بالوصية له. وفي
الوصية للمبهم روايتان: أن يوصي لأحد هذين أو لجاره محمد وله جاران
بهذا الاسم ووقف المبهم مفرع على هبته وبيعه. وليس عن أحمد في هذا منع.
وقال إذا كان الوقف على معين ولم يقبله فالتحقيق أنه ليس كالوقف
المنقطع. بل الوقف هنا صحيح قولًا واحدًا. ثم إنه ينتقل إلى من بعده
كما لو مات أو تعذر استحقاقه.
(وعن عثمان) بن عفان -رضي الله عنه- (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال
من يشتري بئر رومة) بضم الراء وسكون الواو. وتسمى بئر عثمان. مشهورة في
العقيق. شمالي غربي المدينة. بقرب مسجد القبلتين. وذلك أنه - صلى الله
عليه وسلم - قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة. فقال "من
يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين" ففيه فضل وقف الماء.
وأنه يجوز للواقف أن يجعل لنفسه نصيبًا من الوقف (يوسع بها على
المسلمين) وكانت بيد رجل يغليها عليهم. ولذلك قال (بخير له منها في
الجنة).
وللبغوي كانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة وكان يبيع منها
القربة بمد. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "تبيعنيها بعين في
(3/368)
الجنة" فقال يا رسول الله ليس لي ولا
لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال (فاشتريتها
من صلب مالي) أي أصله أو خالصه. وللبغوي بخمسة وثلاثين ألف درهم. ثم
أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أتجعل لي ما جعلت له. قال نعم
قال قد جعلتها للمسلمين. والحديث رواه النسائي وغيره (حسنه الترمذي)
وأخرجه البخاري تعليقًا. وللنسائي اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك.
وقال ذلك أيضًا وهو محصور. وصدقه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا من احتبس فرسًا في سبيل الله) أي للجهاد في
سبيل الله وتقدم تعريفه (إيمانًا واحتسابًا) وفي لفظ إيمانًا بالله
وتصديقًا بوعده أي من الثواب (فإن شبعه) بكسر أوله أي ما يشبع به وريه
(وروثه) أي روث الفرس (وبوله) يوضع يوم القيامة (في ميزانه) حين توزن
الأعمال (حسنات رواه البخاري) فدل الحديث على فضل الوقف في سبيل الله.
وعلى جواز وقف الحيوان. وهو مذهب الجمهور.
ويشهد له أيضًا ما تقدم من خبر عمر في نهي المتصدق من شراء ما تصدق به.
وكان حمل على فرس في سبيل الله. وأراد المحمول بيعه برخص. فنهى النبي -
صلى الله عليه وسلم - عمر عن شرائه. ولخبر أم معقل أن ناضح زوجها جعله
في سبيل الله. وقال البخاري باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت.
وقال الشيخ ولو وقف منفعة يملكها كالعبد الموصى بخدمته. أو منفعة أم
(3/369)
ولده في حياته. أو منفعة العين المستأجرة.
فإنه لا فرق بين وقف هذا. ووقف البناء والغراس. ولا فرق بين وقف ثوب
على الفقراء يلبسونه. أو فرس يركبونه. أو ريحان يشمه أهل المسجد. وذكر
أن التطيب منفعته مقصودة. لكن قد يطول بقاء مدة التطيب وقد يقصر. ولا
أثر لذلك. قال وأقرب الحدود في الموقوف أنهكل عين تجوز إعارتها.
(وتقدم أن خالدًا) يعني ابن الوليد -رضي الله عنه- (احتبس أدراعه
وأعتده في سبيل الله) فدل على جواز وقف المنقولات من عروض وغيرها. وعلى
صحة وقف الحيوان. فقد فسرت الاعتاد بالخيل. وهو مذهب الجمهور.
(واحتبست حفصة) بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أم المؤمنين زوجة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي وقفت (حليًا) وهو كل ما يتزين به
من مصاغ الذهب والفضة (على آل الخطاب) أي أهل بيت الخطاب وقفًا حبسته
عليهم فدل على جواز وقف الحلي وما في معناه.
(وفي قصة كعب) ابن مالك -رضي الله عنه- لما نزلت {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُواْ} إلى قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ
إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم} قال (إن من توبتي) لتخلفه عن
غزوة تبوك في قصته المشهورة ثم تاب الله عليهم فقال -رضي الله عنه- (أن
أنخلع من مالي) أي أخرج من جميع مالي كله (صدقة)
(3/370)
مصدر في موضع الحال أي متصدقًا (إلى الله
ورسوله) شكرًا لله أن تاب عليه وعفا عن تخلفه عن تلك الغزوة ففيه
استحباب الصدقة شكرًا للنعم المتجددة (قال) رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (امسك عليك) أي استبق لك (بعض مالك) ولم يعين له بل وكله إليه
(فهو خير لك) خشية أن يتضرر بالخروج من ماله بل أمره بالاقتصار على
البعض خوفًا ألا يصبر على الإضاقة (رواه البخاري) ومسلم وغيرهما.
ولأبي داود إن من توبتي أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال
لا قلت نصفه قال لا قلت فثلثه قال نعم ولأحمد في قصة أبي لبابة حين قال
إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله. صدقة لله ورسوله فقال يجزئ عنك
الثلث وخبر الصحيحين لم يعين له فيه قدرًا بل أطلق ووكله إلى اجتهاده
في قدر الكفاية قال بن القيم وهو الصحيح فإن ما تقصي عن كفايته وكفاية
أهله لا يجوز له التصدق به وما انفرد به أبو داود وغيره نظره وقصة أبي
لبابة تقيد إطلاق حديث كعب حيث عزما على الصدقة وأجزأهما بعض المال ولم
يحتاجا إلى إخراجه كله والجمع بين قصتيهما وقصة أبي بكر أنه - صلى الله
عليه وسلم - عامل كلا منهم بما يعلم من حاله وتقدم.
(ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور) وثبت أنه نهى
عن اتباعهن الجنائز وهو مخصوص من عموم زوار القبور لوجوه
(3/371)
(والمتخذين) أي ولعن البانين (عليها) أي
على القبور (المساجد) فتعظم لأجل المقبور (و) لعن المتخذين عليها
(السرج) رواه أهل السنن وصححه شيخ الإسلام فدل على تحريم الوقف على
تنوير القبور. وعلى ستورها وتبخيرها. وعلى من يقيم عندها أو يخدمها.
لأن الوقف على ذلك إعانة على الشرك. فلا يصح.
قال ابن القيم الوقف على المشاهد باطل. وهو مال ضائع. فيصرف في مصالح
المسلمين. فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله. فلا يصح على
مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له. ويحج إليه ويعبد من دون الله.
ويتخذ وثنًا من دون الله. وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام
ومن اتبع سبيلهم اهـ. ولا يصح الوقف على كنيسة وبيعة وبيت نار وصومعة.
لأنها بنيت للكفر. ولا يصح على نسخ التوراة والإنجيل. وكتب زندقة وبدع
مضلة. لأنه إعانة على الكفر.
فصل في شرط الواقف
وإبدال الوقف لحاجة وغير ذلك
المراد العمل بما يشترطه في وقفه من اعتبار وصف أو عدمه. أو جمع أو
تقديم أو ترتيب أو ضده. ونظر وغير ذلك. ويلزم الوفاء بشرطه إذا كان
مستحبًا خاصة. وقول بعض الفقهاء نصوص الواقف كنصوص الشارع يعني في
الفهم
(3/372)
والدلالة. لا في وجوب العمل مع أن لفظ
الواقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد يحمل على مذهبه وعادته في
خطابه. ولغته التي يتكلم بها. وافق لغة العرب. أو لغة الشارع أو لا.
فإن المقصود في الألفاظ دلالتها على مراد الناطق. والعادة المستمرة
والعرف المستقر في الوقف يدل على شرط الواقف أكثر مما يدل لفظ
الاستفاضة. قاله الشيخ. وقال ابن القيم شروط الواقف كنصوص الشارع في
الدلالة. وتخصيص عامها. وحمل مطلقها على مقيدها. واعتبار مفهومها. كما
يعتبر منطوقها. ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدًا. والصواب عرض شروط
الواقف على كتاب الله وعلى شرطه. فما وافقه فهو صحيح وما خالفه باطل.
(قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} {لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أمر منه تعالى بالعدل في الأولاد ولفظ الولد يشمل
الذكر والأنثى فإذا وقف على الفقير من ولده أو ولد غيره مثل شمل الذكر
والأنثى. والأولى كالإرث اتباعًا للنص. واختاره الموفق وغيره. وإن فضل
بعضهم لمقصود شرعي جاز وإلا فلا. وحكى الوزير الاتفاق على أنه إذا أوصى
لولد فلان كان للذكور والإناث من ولده. وكان بينهم بالسوية. والأول
أولى. واستنبط بعض أهل العلم أن الله أرحم بخلقه من الوالدة بولدها من
هذه الآية.
(3/373)
حيث أوصى الوالدين بأولادهم. ثم بعد أولاده
أو أولاد غيره لولد بنيه. وإن سفلوا لأنهم ولده وينتسبون إليه.
ويستحقونه مرتبًا كقوله بطنًا بعد بطن. أو الأقرب فالأقرب. قال الشيخ
ويستحق ولد الولد وإن لم يستحق أبوه شيئًا. ومن ظن أن الوقف كالإرث فإن
لم يكن والده أخذ شيئًا لم يأخذ هو. فلم يقله أحد من الأئمة. ولم يدر
ما يقول. ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضها لم تحرم
الثانية مع وجود الشروط فيهم إجماعًا. وقال إذا مات شخص من مستحقي
الوقف وجهل شرط الواقف صرف إلى جميع المستحقين بالسوية.
وإن قال على ولد فلان وولد ولده اشتركوا. لأن الواو تدل على التشريك.
بخلاف ثم فتدل على الترتيب فلا يستحق البطن الثاني شيئًا من الوقف ما
دام من البطن الأول مستحق. وإن قال من مات عن ولد فنصيبه لولده استحق
كل ولد بعد أبيه نصيبه. لأنه صريح في ترتيب الأفراد. ويدخل فيه أولاد
البنات. كما لو قال على ولد زيد فلان وفلان وفلانة. ثم أولادهم. أو على
أولاده وفيهم بنات. أو قال من مات عن ولد فنصيبه لولده ونحو ذلك. وإن
انقرض الموقوف عليهم أو لم يكن للوقف مصرف فقال بعضهم يكون لورثة
الواقف وقفًا عليهم نسبًا بقدر إرثهم. وقال آخرون يكون ملكًا للورثة
قال الشيخ وهذا أصح وِأشبه بكلام أحمد.
(3/374)
(وقال تعالى) في حق الذرية ودخول أولاد
البنات فيهم {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} أي إبراهيم أو نوح {دَاوُودَ}
وسليمان وأيوب ويونس (إلى قوله وعيسى ابن مريم) فدل على دخول أولاد
البنات في ذرية الرجل. لأن عيسى إنما ينسب إلى إبراهيم بأمه مريم. فإنه
لا أب له وروى ابن أبي هاشم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر بلغني أنك
تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم - تجده في
كتاب الله. وقد قرأته من أوله إلى آخره. فلم أجده قال أليس تقرأ سورة
الأنعام {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} حتى بلغ (ويحيى
وعيسى) قال بل قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم. وليس له أب قال صدقت.
فلهذا إذا وقف الرجل لذريته أو على ذرية زيد أو أوصى إليهم أو وهبهم
دخل أولاد البنات فيهم. وهو إحدى الروايتين عن أحمد وغيره.
(وقال - صلى الله عليه وسلم -) فيما رواه البخاري وغيره أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال للحسن بن علي -رضي الله عنهما- (إن ابني هذا سيد)
ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فسماه صلوات الله
وسلامه عليه ابنا. وهو أفصح العرب على الإطلاق. فدل على دخول ولد بنت
الواقف في الأبناء. وللترمذي وصححه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال
لصفية بنت حيي "إنك لابنة نبي. وإن عمك لنبي. وإنك لتحت نبي" وذلك أنها
من ذرية هارون. وعمها موسى. وبنو قريظة من ذرية هارون فسماه أبًا لها.
وبينها وبينه آباء متعددون.
(3/375)
وقال "اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار.
وأبناء أبناء الأنصار" وفي لفظ لذراري الأنصار. وذراري ذراريهم" صححه
الترمذي. فدلت هذه الأحاديث على أن حكم الأبناء وأبناء الأبناء وبنات
الأبناء وأبناء بنات الأبناء حكم الأبناء. فكذا في الوقف وغيره وأن
الأولاد وأولاد الأولاد من باب أولى. ويشهد لذلك قوله "ابن أخت القوم
منهم" وهذا مذهب طوائف من أهل العلم. وذهب بعضهم إلى عدم دخول أبناء
البنات في لفظ الأبناء إلا بنص أو قرينة والله أعلم.
(وقال عمر) -رضي الله عنه- (تليه حفصة) يعني بنت عمر إحدى أمهات
المؤمنين رضي الله عنها (ما عاشت) وعاشت إلى سنة خمس وأربعين (ثم يليه
ذو الرأي من أهله) فوليه بعدها ابنه عبد الله. فدل على اعتبار شرط
الواقف في النظر سواء كان لنفسه. فإن عمر ولي وقفه في حياته أو لغيره
بالتعيين. أو بالوصف. وسواء كان من أهل الوقف أو لا وإن أطلق ولم يشترط
في معين فالنظر للموقوف عليه. وغير المعين للحاكم يولي عليه الأصلح.
قال الشيخ ولا يجوز أن يولي فاسقًا في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقًا.
لأنه يجب الإنكار عليه وعقوبته. ويعتبر في ناظر إسلام وتكليف وكفاية
للتصرف وخبرة به، وقوة عليه. ويضم لضعيف: قوي أمين. وفي أجنبي ولايته
من حاكم أو ناظر عدالة. فإن فسق عزل. ومن واقف وهو فاسق أو فسق يضم
(3/376)
إليه أمين. وإن كان الموقوف عليه بجعل. أو
لكونه أحق من غيره. فهو أحق مطلقًا.
ووظيفته: حفظ الوقف وعمارته وإيجاره وزرعه ومخاصمته فيه. وتحصيل ريعه
والاجتهاد في تنميته. وصرفه في جهاته. وغير ذلك. قال الشيخ وإن فرط سقط
مما له بقدر ما فوته من الواجب عليه من العمل. قال وعليه أن لا يؤجر
حتى يغلب على ظنه أنه ليس هناك من يزيد. وعليه أن يشهر المكان عند أهل
الرغبات. فإن حابا به بعض أصدقائه كان ضامنًا. لما نقص أهل الوقف من
أجرة المثل.
قال -رضي الله عنه- (ينفق حيث يرى) أي أنه الأحق أو الأولى (من السائل
والمحروم) أي الذي يسأل والذي لا يسأل فيحسب غنيًا فيحرم ولا مفزع له
(وذوي القربى) أي قربى عمر -رضي الله عنه- (ولا حرج على من وليه) أي
بالتعيين كحفصة. أو بالوصف كذي الرأي (إن أكل أو اشترى رقيقًا رواه أبو
داود) وتقدم لا متأثلًا مالا وأنه لا جناح على من وليها أن يأكل منها
بالمعروف. وهو القدر الذي جرت به العادة.
قال الشيخ ولا أعلم خلافًا أن من قسم شيئًا يلزمه
أن يتحرى فيه العدل. ويتبع ما هو أرضى لله ورسوله. سواء استفاد القسمة
بولاية كالإمام والحاكم. أو بعقد كالناظر والوصي. أو باستحقاق النظر
كالموقوف عليه. وقال كل
(3/377)
متصرف بولاية إذا قيل له افعل ما تشاء.
فإنما هو لمصلحة شرعية. حتى لو شرط الواقف بفعل ما يهواه أو ما يراه
مطلقًا فهو شرط باطل. لمخالفته الشرع. وغايته أن يكون شرطًا مباحًا.
وهو باطل على الصحيح المشهور.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام
النجاري الأنصاري -رضي الله عنه- وذلك أنه قال يا رسول الله إن الله
يقول {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}
تمسك -رضي الله عنه- بعمومها. وقال إن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها
صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله. فضعها يا رسول بالله حيث أراك
الله. فقال "بخ بخ ذاك مال رابح" مرتين "وقد سمعت (أرى) (أن تجعلها في
الأقربين) ففيه دليل على فضل الصدقة على الأقربين. وهو من أفضل أعمال
البر. ومن شرط الوقف أن يكون على بر.
(فقال افعل) أي اجعلها في الأقربين (فقسمها) أبو طلحة (في أقاربه وبني
عمه) وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم (متفق عليه) وللبخاري
"اجعلها لفقراء قرابتك" ولمسلم فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب.
قال محمد بن
عبد الله الأنصاري: أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن
زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. وحسان بن ثابت بن المنذر
بن حرام يجتمعان إلى حرام. وهو الأب الثالث. وأبي بن كعب بن قيس بن
عتيك بن
(3/378)
زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار.
فعمرو يجمع حسانًا وأبا طلحة وأبيًا. وبين أبي وأبي طلحة ستة آباء.
ولما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين} دعا قريشًا فعم وخص.
قال "يا بني كعب بن لؤي، يا بني مرة بن كعب يا بني عبد شمس يا بني عبد
مناف يا بني هاشم. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار" وذكر
فاطمة ابنته وصفية عمته. فجميع من ناداهم يطلق عليهم لفظ الأقربين.
فإذا وقف على قرابته أو قرابة زيد. أو أهل بيته أو قومه أو عشيرته. شمل
الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وأولاد جده وإن علا. ويستوي
الصغير والكبير والقريب والبعيد. والغني والفقير. لشمول اللفظ لهم. لا
من يخالف دينه كحربي ومرتد. وكفقراء أهل الذمة.
ويصح على ذمي معين لأن حفصة وقفت على أخ لها يهودي. وإن وقف على جماعة
يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي. وإن كان لا يمكن حصرهم واستيعابهم
كبني هاشم وتميم لم يجب تعميمهم. وجاز تفضيل بعضهم على بعض. والاقتصار
على أحدهم. لأن مقصود الواقف بر ذلك الجنس.
وإن وقف مدرسة أو رباطًا ونحوهما على طائفة اختص بهم كعلى العلماء وهم
أهل التفسير والحديث والفقه. وكالمتفقهة وهم طلبة الفقه. وكأهل الحديث
وهم المشتغلون بالحديث. وإن عين إمامًا ونحوه تعين. أو عين للإمامة
بمذهب تعين. ما لم يكن.
(3/379)
في شيء من أحكام الصلاة مخالفًا لصريح
السنة.
قال الشيخ يجب أن يولى في الوظائف الدينية وإمامة المساجد الأحق شرعًا.
ومن لم يقم بوظيفته فلمن له الولاية أن يولي من يقوم بها إلى أن يتوب
ويلتزم بالواجب. والنيابة في مثل هذه الأعمال المشروطة جائزة. ولو عينه
الواقف. إذا كان مثل مستنيبه. ومن وقف على مدرسة أو فقهاء فللناظر ثم
الحاكم تقدير أعطيتهم. ولو زاد النماء فهو لهم. ولو عطل وقف مسجد سنة
تقسط الأجرة المستقبلة عليها. وعلى السنة الأخرى. لأنه خير من التعطيل.
وقال ولا ينقص الإمام بسب تعطيل الزرع بعض العام. والأرزاق التي يقدرها
الواقفون ثم يتغير النقد يعطي المستحق من نقد البلد ما قيمته قيمة
المشروط. وله أن يفرض له على عمله ما يستحقه مثله. وقال تجب عمارة
الوقف بحسب البطون. والجمع بين عمارة الوقف وأرباب الوظائف حسب الإمكان
أولى. بل قد يجب.
(وجعل الزبير) بن العوام -رضي الله عنه- (دوره) وقفًا (على بنيه)
الذكور (لا تباع ولا توهب) وتقدم أن الأصل في الوقف تحبيس الأصل وتسبيل
المنفعة (وأن للمردودة) أي المطلقة (من بناته) المردودة إلى بيت أبيها
أو غيره (أن تسكن) أي في تلك الدور الموقوفة (وإن استغنت بزوج) أي
(3/380)
كانت تحت زوج لم ترد (فلا حق لها في الوقف)
وهذا نص في الاستحقاق حالة الرد. وعدمه حالة الاستغناء بالزوج. فمتى
وجد نص أو وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها. أو فضل
بعض أهل الوقف لغرض شرعي كالأفقه أو الأضعف ونحوهما.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
لولا أن قومك) يعني قريشًا (حديثو عهد) وفي رواية لولا حدثان قومك
(بجاهلية) وكانت تعظم أمر الكعبة جدًا فخشي أن يظنوا أنه غير بناءها
لينفرد بالفخر عليهم (لنقضت الكعبة) قال فإن قريشًا حين بنت البيت
استقصرت يعني على هذا المقدار لقصور النفقة (ولألصقتها بالأرض) "ولجعلت
بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر" وفي لفظ: "بابين" (ولأنفقت كنزها
في سبيل الله) وهو: المال المجتمع مما يهدي إلهيا وفي رواية في بنائها
فدل على جواز تغيير صورة الوقف للمصلحة. وهو مذهب الجمهور. وجواز صرف
ما فضل عن حاجة الوقف في مثله. وفي سبيل الله وسائر مصالح المسلمين.
وهو مذهب جمهور العلماء (رواه مسلم) وفيه ولأدخلت فيها من الحجر وتقدم
ذكر ما فيه منها.
(وللبخاري عن عمر) -رضي الله عنه- وكان جلس إليه شيبة بن عثمان بن عبد
العزى بن عثمان بن عبد الله بن عبد الدار. فقال له عمر (لقد هممت أن لا
أدع فيها) يعني في
(3/381)
الكعبة المشرفة (صفراء) يعني من الذهب (ولا
بيضاء) يعني من الفضة والمراد الكنز الذي بها. وهو ما كان يهدى إليها
فيدخر مما يزيد عن الحاجة. أو مما كان يهدى إليها في الجاهلية تعظيمًا
لها. فيجتمع فيها (إلا قسمتها بين المسلمين) قال شيبة ما أنت بفاعل.
قال لم؟ قال لم يفعله صاحباك. فقال هما المرآن يقتدى بهما. وللبخاري
أقتدي بهما.
أراد عمر ذلك لكثرة إنفاقه في منافع المسلمين. قال الحافظ يحتمل أن
تركه - صلى الله عليه وسلم - لذلك رعاية لقلوب قريش. كما ترك بناء
الكعبة على قواعد إبراهيم. وقال لولا قومك حديثو عهد بجاهلية وفيه
ولأنفقت كنزها في سبيل الله. فهم عمر وتركه كترك رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فدل على جواز صرف ما فضل عن حاجة الوقف ما لم يكن مانع.
(ونقل) عمر -رضي الله عنه- (المسجد بالكوفة) وذلك أنه كتب إلى سعد لما
بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب أن أنقل المسجد الذي بالتمارين
واجعل بيت المال في قبلة المسجد. فإنه لن يزال في المسجد مصل. وكان هذا
بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعًا. فدل على جواز بيع الوقف
وإبداله إذا تعطلت منافعه. كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتًا. ولم
تمكن عمارتها. ولو شرط الواقف أن لا يباع إذًا. فشرط فاسد ويصرف ثمنه
في مثله ومع الحاجة
(3/382)
يجب إبداله بمثله. وبلا حاجة يجوز بخير منه
لظهور المصلحة. وهو قياس الهدي.
وجوز شيخ الإسلام بيعه والمناقلة به لنقصه أو رجحان مغله. ولو لأجل
ضيقه على أهله. أو خراب محله. ويصح بيع بعضه لإصلاح ما بقي. واتفقوا
على أنه إذا خرب لم يعد إلى ملك الواقف. وما فضل عن حاجة المسجد يجوز
صرفه في حاجة مسجد آخر. وفي سائر المصالح. وبناء مسكن لمستحقي ريعه
القائمين بمصالحه. وكان شيبة بن عثمان الحجبي يتصدق بخلقان الكعبة. لما
روى الخلال بإسناده أن عائشة أمرته بذلك. ولأنه مال الله لم يبق له
مصرف فصرف إلى المساكين. وأما فضل موقوف على معين استحقاقه مقدم فيتعين
إرصاده.
وقال الشيخ إن علم أن ريعه يفضل دائمًا وجب صرفه. لأن بقاءه فساد له.
وعلى نحو قنطرة فانحرف الماء يرصد لعله يرجع الماء. فيصرف عليها ما وقف
عليها. وإلا فإلى أخرى. وعلى ثغر اختل في ثغر مثله. ومن ظهر عليه دين
وقد وقف وقفًا مستقلًا ولم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف وهو
في مرض الموت بيع بالإتفاق. وإن كان الوقف في الصحة فقال الشيخ وغيره
ليس بأبلغ من التدبير. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع
المدبر في الدين.
(3/383)
باب الهبة
بكسر الهاء. مصدر وهبت له وهبًا وهبة. والاتهاب قبول الهبة والاستيهاب
سؤال الهبة. والهبة شرعًا التبرع من جائز التصرف بتمليك ماله المعلوم
الموجود في حياته غيره. وتطلق بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء. وهو
هبة الدين ممن هو عليه. والصدقة وهي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة.
والهدية وهي ما يلزم الموهوب له عوضه. لأنه المعطي يقصد به الرفد
والثواب. وقدر الثواب على العرف والعادة، أو قيمة الموهوب. أو ما يرضي
الواهب. وتطلق بالمعنى الأخص على ما يقصد له بدل وقال الموفق الهبة
والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة. وكلها تمليك في الحياة بغير
عوض.
(عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال تهادوا) أي ليهد بعضكم لبعض (تحابوا) أي ليحب بعضكم بعضًا رواه
البيهقي وأبو يعلى والبخاري. في الأدب المفرد و (حسنه الحافظ) وإن كان
فيه مقال. فلشواهده. ولموقع الهدية في القلوب.
(وللبزار) الحسن بن الصباح بن محمد أبو علي الواسطي البغدادي أحد أعلام
السنة روى بسنده (عن أنس مرفوعًا تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة يعني
الحقد وفي لفظ وتذهب وحر الصدر" وللترمذي عن أبي هريرة نحوه وله عن
عائشة
(3/384)
تذهب الضغائن والهدية هي ما يقصد به إكرام
شخص معين. إما لمحبة أو صداقة أو قضاء حاجة.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال) يا نساء المسلمات (لا تحقرن جارة لجارتها) أي بهدية تهديها إليها
(ولو فرسن شاة) بكسر الفاء والسين. وهو من البعير بمنزلة الحافر من
الدابة. وربما استعير للشاة (متفق عليه) والمراد المبالغة في الحث على
هدية الجارة لجارتها لا حقيقة الفرسن. لأنه لم تجدر العادة بإهدائه.
وظاهره النهي للمهدي عن استحقار ما يهديه بحيث يؤدي إلى ترك الإهداء.
ويحتمل أن المراد المهدي إليه لا يحتقرن ما أهدي إليه. ولو كان حقيرًا
ويحتمل إرادة الجميع. وفيه الحث على التهادي. لا سيما الجيران. ولو
بالشيء اليسير. لما فيه من جلب المحبة والتأنيس.
ومن أعطى شيئًا يريد به التقرب إلى الله لمحتاج فصدقة. وإلى الشخص
والمحبة له فهدية. وإلا فهبة وعطية ونحلة. والكل مندوب إليه إذا قصد به
وجه الله. لا مباهات ورياء وسمعة. وقال الشيخ الصدقة أفضل من الهبة إلا
لقريب يصل بها رحمه أو أخ له في الله. فقد تكون أفضل من الصدقة. وقال
إعطاء المال ليمدح ويثنى عليه مذموم. وإعطاؤه لكف الظلم والشر عنه
ولئلا ينسب إلى البخل مشروع. بل محمود مع النية الصالحة ويجوز للمهدي
أن يبذل في دفع الظلم عنه. أو التوصل إلى
حقه الذي ما يتوصل إلى أخذه إلا به. أو دفع
(3/385)
الظلم عنه. وهو المنقول عن السلف والأئمة.
والأكابر. وفيه حديث مرفوع رواه أبو داود.
(وقال) - صلى الله عليه وسلم - (لأم سلمة) لما تزوج بها إني (أهديت
للنجاشي) واسمه أصحمة (حلة وأواقي من مسك ولا أراه) أي النجاشي (إلا قد
مات) "ولا أرى هديتي إلا مردودة" (فإن ردت علي فهي لك) قالت وكان كما
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وردت عليه هديته فأعطي كل امرأة
من نسائه أوقيه مسك. وأعطاني بقية المسك والحلة (رواه أحمد) ورواه
الطبراني والحاكم وحسنه الحافظ. وفيه دليل على أن الهبة تصح وتملك
بالإيجاب والقبول بأي لفظ دل عليه. وبأي فعل يقترن بما يدل على الهبة.
وهو مذهب الجمهور.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ الهدية التي بعث بها إلى
النجاشي بعد رجوعها دل ذلك على أن الهدية لا تملك بمجرد الإهداء بل لا
بد من القبول بلفظ أو فعل دال عليه. وذهب الجمهور إلى أن الهدية لا
تنقل إلى الهدى إليه وتلزم إلا أن يقبضها هو أو وكيله. ويشهد لقبول
الهدية من رسول المهدي ما رواه أ؛ مد أيضًا وغيره عن عبد الله بن بسر
أن أخته كانت تبعثه بالشيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تطرفه
إياه فيقبله مني. وفي لفظ كانت تبعثني بالهدية فيقبلها. وكان عبد الله
صبيًا مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشيخ وتصح هبة المجهول: كقوله ما أخذت من مالي
(3/386)
فهو لك. أو من وجد من مالي فهو له. وتصح
هبة المعدوم كالثمرة واللبن بالسنة. وفي جميع هذه الصور يحصل الملك
بالقبض ونحوه.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال لو دعيت إلى كراع) أو ذراع (لأجبت) والكراع هو ما دون الكعب من
الدابة (ولو أهدى إلى كراع) أو ذراع (لقبلت رواه البخاري) وللترمذي
وصححه عن أنس مرفوعًا "لو أهدي إلى كراع لقبلت. ولو دعيت إليه لأجبت"
وهذا ترغيب منه - صلى الله عليه وسلم - في قبول الهدية وإن كانت من شيء
يسير. وعند الطبراني عن أم حكيم قلت يا رسول الله تكره رد اللطف قال
"ما أقبحه لو أهدى إلي كراع لقبلته" خطأ منه - صلى الله عليه وسلم -
على إجابة الدعوة. ولو كانت إلى شيء يسير كالكراع. وعلى قبول الهدية
ولو كانت شيئًا يسيرًا من كراع ونحوه.
وعلى أنها تصح وتملك بالقبول. وأن الإيجاب والقبول ليسا شرطًا بل تصح
وتملك بالمعاطاة الدالة على الهبة. ولأنه عليه الصلاة والسلام يهدي
ويهدى إليه. وكذا أصحابه, ولو كان الإيجاب والقبول باللفظ شرطًا لنقل
عنهم نقلًا متواترًا. وكان ابن عمر على بعير لعمر فقال - صلى الله عليه
وسلم - لعمر بعنيه. فقال هو لك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع ماشئت. وقال الموفق
ولا خلاف بين العلماء في أن
(3/387)
تقديم الطعام بين يدي الضيفان والإذن في
الأكل لا يحتاج إلى إيجاب وقبول.
فمتى وجد ما يدل على التراضي بنقل الملك أكتفي به. وإنما يجب مع
الإطلاق وعدم العرف القائم من المعطي والمعطي. وقال الشيخ صحح الجمهور
الهبة بمثل آجرتك وأطعمتك وحملتك على هذه الدابة ونحو ذلك مما يفهم منه
أهل الخطاب الهبة. قال وتجهيز المرأة بجهاز إلى بيت زوجها تمليك وأفتى
به طوائف من اتباع الأئمة اهـ. والهبة المطلقة التي لم يشترط لها عوض
لا تقتضي عوضًا ولو دلت قرينة على العوض كقضاء حاجة وشفاعة ونحو ذلك.
وسواء كانت لمثله أو دونه عند جمهور العلماء. أو أعلى منه لأنه عطية
على وجه التبرع.
(وله) أي البخاري رحمه الله (عن عائشة) رضي الله عنها (كان) يعني رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - (يقبل الهدية) من مسلم وكافر ككسرى. وغير
واحد من المشركين. كما هو مشهور عنه - صلى الله عليه وسلم - (ويثيب
عليها) أي يعطي المهدي بدلها. والمراد بالثواب المجازاة. وأقله ما
يساوي قيمة الهدية. فدل على أن عادته - صلى الله عليه وسلم - كانت
جارية بقبول الهدية والمكافأة عليها. ولابن أبي شيبة "ويثيب عليها ما
هو خير منها" ولأحمد وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال وهب رجل
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة فأثابه عليها فقال"رضيت" قال
لا "فزاده" فقال "رضيت" قال
(3/388)
لا "فزاده" فقال "رضيت" قال نعم ورواه
الترمذي وبين أن العوض ست بكرات.
فتسن الإثابة على الهدية. لهذا الخبر وغيره قال الشيخ ومن العدل الواجب
من له يد أو نعمة أن يجزيه بها. ولا ترد وإن قلت خصوصًا الطيب للخبر.
ويجوز لأمور نحو لو يريد أخذها بعقد معاوضة أو لا يقنع بالثواب
المعتاد. أو تكون بعد السؤال أو استشراف النفس. أو لقطع المنة. ويجب
كهدية صيد صيد لمحرم.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا: من أتى) أي صنع (إليكم
معروفًا) أي إحسانًا والمعروف اسم جامع لكل ما ندب إليه الشرع من طاعة
الله والإحسان إلى الناس (فكافئوه) أي جازوه عن المعروف الذي أسداه
إليكم (فإن لم تجدوا ما تكافئوه) عند ذلك العرف (فادعوا له) أي كافئوه
بالدعاء له (حتى تروا) بضم التاء أي حتى يغلب على ظنكم. وبفتحها حتى
تعلموا (أنكم قد كافأتموه) أي جازيتموه على معروفه الذي صنع إليكم
(رواه أبو داود) وغيره والعرف والغالب أن الواهب لا يهب إلا لغرض.
فالهبة من الغني والأعلى ونحوهما للأدنى أكثر ما تكون كالصدقة.
وللمساوي معاشرة لحسن العشرة. وجلب المودة.
ولا يستريب العارف بتخالف الهدايا باعتبار حال المهدي
(3/389)
والمهدي إليه. فالمهدي لنحو الملوك غرضه
التكسب. ومن مراده تحصيل المودة وصفاء ذات البين لا تهمه المكافأة. ومن
غرضه التماس الثواب كالصدقة. وإن شرط فيها عوضًا معلومًا فهي بيع. وإن
كان مجهولًا فقيل لا يصح. ويكون حكمها كالبيع الفاسد. وثبت عن ابن عمر
أنه قال من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب عليها. وروي مرفوعًا وصححه
الحاكم. والحديث فيه دليل على المكافأة.
والأثر على جواز الرجوع فيها ما لم يثبت عليها. وعدم جواز الرجوع في
المثاب عليها. وما ورد في الصحيحين من قوله - صلى الله عليه وسلم -
"العائد في هبته كالعائد في قيئه" ونحو ذلك فالمراد به الرجوع في الهبة
بعد أن تقبض. كما هو مذهب الجمهور. والغني يهب الفقير ونحو من يصل رحمه
والصدقة يراد بها ثواب الآخرة وقال الحافظ اتفقوا على أنه لا يجوز
الرجوع في الصدقة بعد القبض.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن أبا بكر) الصديق -رضي الله عنه- (نحلها)
أي أعطاها ووهبها ابتداء من غير عوض (جذاذ) أي صرام (عشرين وسقًا) أي
ستين صاعًا. والمراد أنه يحصل من ثمرته عشرين وسقًا (بالغابة) المعروفة
في المدينة المنورة من ماله بالعالية (فلما مرض) يعني أبا بكر -رضي
الله عنه- (قال كنت نحلتك) أي أعطيتك في حال الصحة (ولو حزتيه) أي
قبضتيه (لكان لك) لصحة الهبة إذ ذاك
(3/390)
(وإنما هو اليوم مال وارث) فاقتسموه على
كتاب الله تعالى (رواه مالك) والبيهقي وغيرهما ولابن عيينة عن عمر
نحوه.
ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة حكاه الموفق وغيره.
وقال المروذي اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على أن الهبة لا تجوز إلا
مقبوضة. كما لو مات الواهب. فدل على أن الهبة لا تملك وتلزم إلا
بالقبض. وهو مذهب الجمهور. وأن قبض الثمر يكون بالجذاذ وما كان في يد
متهب أو وديعة أو غصب أو نحوهما فيلزم بالعقد لأن قبضه مستدام. وقال
الوزير اتفقوا على أنها تصح بالإيجاب والقبول والقبض. وتلزم به عند أبي
حنيفة والشافعي وأحمد. وعند مالك لا تفتقر صحتها ولزومها إلى القبض.
ولكنه شرط في نفوذها وتمامها. لا في صحتها ولزومها. وأنه يقبض للطفل
أبوه ووليه اهـ. ومن وهب غريمه من دينه برئت ذمته. وإن وقع الإبراء
بلفظ الإحلال أو الصداقة أو الترك أو العفو أو نحو ذلك برئ. ولو لم
يقبل لأنه إسقاط فلم يفتقر إلى القبول.
(وعن جابر) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
العمرى) من العمر وهو الحياة سميت بذلك لأنهم في الجاهلية كان الرجل
يعطي الرجل الدار ويقول له أعمرتك إياها أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك
فقضى - صلى الله عليه وسلم - بها (لمن وهبت له) وهو مذهب جمهور العلماء
أنها إذا وقعت كانت ملكًا للآخذ ولا ترجع إلى الأول. إلا أن يصرح
باشتراط ذلك
(3/391)
(متفق عليه) وللخمسة "العمرى جائزة لأهلها.
والرقبى جائزة لأهلها" والرقبى بوزن العمرى من المراقبة. لأن كلا منهما
يرقب الآخر متى يموت لترجع إليه فقضى - صلى الله عليه وسلم - أنها لمن
أعطيها.
(زاد مسلم حيًا وميتًا) أي مدة حياته وبعد موته (ولعقبه) وأول الحديث
"امسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها. فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها
حيًا وميتًا ولعقبه" ولأبي داود "لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقب شيئًا
أو أعمر شيئًا فهو لورثته" فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على
مشروعيتها وأنها ملك لمن وهبت له. وهو مذهب العلماء إلا ما روي عن داود
أنها لا تصح والأحاديث الصحيحة حجة عليه. وأن العمرى صحيحة في جميع
الأحوال وأن الموهوب له يملكها ملكًا تامًا يتصرف فيه بالبيع وغيره.
لتصريح الشارع بأنها لمن أعمرها حيًا وميتًا ولعقبه.
وقال بعض أهل العلم إن قال هي لك ما عشت فإذا مت فإنها ترجع إلي فهي
عارية صحيحة. ترجع إلى صاحبها. وكما لو أعمره شهرًا أو سنة. فإنها
عارية إجماعًا. وقال الشيخ تصح العمرى وتكون للمعمر ولورثته. إلا أن
يشترط المعمر عودها إليه فيصح الشرط. وهو قول طائفة من العلماء ورواية
عن أحمد.
(3/392)
فصل في العطية
أي في بيان حكم العطية ووجوب تعديل الوالد بين أولاده فيها. والعطية
تمليك عين مالية موجودة مقدور على تسليمها معلومة أو مجهولة تعذر علمها
في الحياة بلا عوض. قال الحارثي وغيره فهي مصدر. وليس عند أهل اللغة
كذلك بل نفس الشيء المعطى. والجمع عطايا. وأما المصدر فالإعطاء. والاسم
العطى. وأكثر المراد بالعطية هنا الهبة في مرض الموت.
(عن النعمان بن بشير) -رضي الله عنه- (أن أباه أتى به النبي - صلى الله
عليه وسلم -) ومن حديث جابر عند مسلم وغيره أن امرأة بشير وهي عمرة بنت
رواحة قالت انحل ابني غلامًا وأشهد لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- (فقال) بشير (إني نحلت) أي أعطيت (ابني هذا غلامًا كان لي) يعني بلا
عوض. فالنحلة: العطية بلا عوض ولا استحقاق؛ والهبة. ولابن حبان أخذ
بيدي وأنا غلام. ولمسلم انطلق بي يحملني فهو إذ ذاك صغير السن حين جيء
به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء بألفاظ كثيرة والقصة
مشهورة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل ولدك نحلته مثل
هذا) أي هذا الغلام (فقال لا قال فارجعه) ولمسلم "أردده " أي أردد ما
نحلته ولدك هذا دون إخوته.
(وفي لفظ انطلق بي) أي انطلق بشير بابنه النعمان إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - (ليشهده على صدقتي) أي على عطيته الغلام.
(3/393)
(فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (أفعلت هذا بولدك كلهم قال لا) ولمسلم من حديث جابر سأتلني أن
أنحل ابنها غلامي فقال (له إخوة) قال نعم قال (فكلهم أعطيته مثل ما
أعطيته) قال لا (قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ولمسلم أيضًا عن
جابر "لا يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق" فدل على تحريم الشهادة على
التفضيل تحملًا وأداء إن علم. ولأحمد وأبي داود والنسائي "اعدلوا بين
أولادكم" ثلاث مرات ولأحمد "إن لنبيك عليك من الحق أن تعدل بينهم"
(فرجع أبي في تلك العطية) أي ردها (متفق عليه) ولمسلم "فاشهد على هذا
غيري" من باب التهديد. ثم قال "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء"؟ قال
بلى قال "فلا إذًا".
فدل الحديث على وجوب العدل بين الأولاد في العطية. وهو قول جمهور أهل
العلم. وفي بعض ألفاظ الحديث "لا أشهد على جور" قال ابن القيم وكل هذه
ألفاظ صحيحة صريحه في التحريم والبطلان من عشرة أوجه تؤخذ من الحديث.
وقال الشيخ الحديث والآثار تدل على وجوب التعديل بينهم في غير التمليك.
وهو في ماله ومنفعته التي ملكهم. والذي أباحهم كالمسكن والطعام. قال ثم
هنا نوعان: نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك.
فتعديله في أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه. ولا فرق بين محتاج قليل أو
كثير. ونوع تشترك حاجتهم إليه من عطية أو نفقة أو تزويج
(3/394)
فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه.
وينشأ من بينهما نوع ثالث وهو أن ينفرد أحدهما بحاجة غير معتادة. مثل
أن يقضي عن أحدهما ما وجب عليه من أرش جناية. أو يعطي عنه المهر. أو
يعطيه نفقة الزوجية ونحو ذلك. ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر.
وتجهيز البنات بالنحل أشبه. والأشبه في هذا أن يكون بالمعروف. فلو كان
أحدهما محتاجًا دون الآخر انفق عليه قدر كفايته. وأما الزيادة فمن
النحل. قال ويتوجه في ولد البنين التسوية كآبائهم. ولا يجب بين سائر
الأقارب الذين لا يرثونه كالأعمام والإخوة مع وجود الأب. وأما التسوية
بين الذكور والإناث فقال ابن القيم وغيره عطية الأولاد المشروع أن تكون
على قدر ميراثهم. لأن الله منع مما يؤدي إلى القطيعة والتسوية بين
الذكر والأنثى مخالفة لما وضعه الشرع من التفضيل. فيفضي ذلك إلى
العداوة ولأن الشرع أعلم بمصالحنا اهـ.
وإن أعطاه لمعنى فيه من حاجة أو زمانة أو عمى. أو كثرة عائلة أو
لاشتغاله بالعلم ونحوه كصلاحه. أو منع بعض ولده لفسقه أو بدعته. أو
لكونه يعصى الله بما يأخذه ونحوه جاز التخصيص والتفضيل. وبدون معنى
يخصه تجب التسوية برجوع حيث أمكن الرجوع فيما فضل به بعضهم على بعض أو
بإعطاء المفضول ليستوي بمن فضل. ولو في مرض الموت. لأنه من العدل
الواجب وإن مات قبل ذلك فقال الشيخ وغيره
(3/395)
للباقين الرجوع على المفضل.
(ولهما عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مرفوعًا العائد في هبته) أي
الذي يهب شيئًا ثم يرجع فيه (كالكلب يقيء) أي يستخرج ما في جوفه (ثم
يرجع) وفي لفظ ثم يعود (في قيئه) وهذا من أبلغ الزجر. وللبخاري "ليس
لنا مثل السوء الذي يعود من أبلغ الزجر. وللبخاري "ليس لنا مثل السوء
الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه" فدل على تحريم الرجوع في الهبة
اللازمة. وهو مذهب جمهور أهل العلم. سواء عوض عنها أولًا. لأن الهبة
المطلقة لا تقتضي ثوابًا إلا ما استثناه الشارع. وهو ما إذا وهب لولده
فله الرجوع فيه.
(وعنه مرفوعًا لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها) وفيه "مثل
الرجل يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع
في قيئه" إلا ما استثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله (إلا
الوالد فيما يعطي ولده) أي فله الرجوع بشرطه (رواه الخمسة) وغيرهم
(وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم. قال الحافظ وغيره القول
بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض مذهب جمهور العلماء. إلا هبة
الوالد لولده فيجوز له أن يرجع فيما وهب لابنه. وهذا مذهب الجمهور.
وذلك بأن يكون ما وهبه عينًا باقية في ملك الابن. وباقية في تصرفه. وأن
لا تزيد عند الولد زيادة متصلة. وأن لا يكون الأب قد أسقط حقه من
الرجوع. وإن أفلس الابن وحجر عليه فلا رجوع للأب.
(3/396)
وكذا قال الشيخ ما لم يتعلق به حق رغبة.
فلا يرجع بقدر الدين. ولا بقدر الرغبة. وعموم لفظ الوالد يدل على أن
للأم الرجوع كالأب. ولأنه طريق إلى التسوية وربما لا يكون لها طريق
غيره. ولأنها ساوته في تحريم تفضيل بعض ولدها. فينبغي أن تساويه في
التمكن من الرجوع فيما فضلت به تخليصًا لها من الإثم. وإزالة التفضيل
المحرم. قال الموفق وهذا الصحيح إن شاء الله تعالى.
(ولهم) أي وللخمسة وابن حبان والحاكم وغيرهم (من حديث عائشة) رضي الله
عنها أي أنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن أطيب ما
أكلتم من كسبكم) سواء كان عملًا بيد أو اتجار أو غير ذلك من أنواع
المكاسب المباحة (وإن أولادكم من كسبكم حسنه الترمذي) وفي لفظ "ولد
الرجل من أطيب كسبه. فكلوا من أموالهم هنيئًا " رواه أحمد.
(ولابن ماجه من حديث جابر: أنت ومالك لأبيك) وذلك أن رجلًا قال يا رسول
الله إن لي مالًا. وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال ذلك. ولفظ أبي
داود من حديث عمرو بن شعيب إن لي مالًا وولدًا وإن والدي يريد أن يجتاح
مالي فقال: "أنت ومالك لأبيك. إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم
من كسبكم فكلوه هنيئًا " وفي البزار وغيره عن سمرة وغيره نحوه.
وبمجموعها تدل على أن للوالد الأخذ والتملك والأكل من مال ولده ما لم
يضره ولا يحتاجه. قال الشيخ له
(3/397)
التملك من مال ولده ما لم يتعلق به حق
كالرهن والفلس. وإن قوله "أنت ومالك لأبيك" يقتضي إباحة نفع نفسه
كإباحة ماله.
وإنه يجب على الولد خدمة أبيه. ويقويه جواز منعه من الجهاد والسفر ونحو
ذلك فيما يفوت انتفاعه به. لكن هذا يشترك فيه الأبوان. واشترط بعض أهل
العلم ستة شروط: أن يكون ما يأخذه من مال ولده فاضلًا عن حاجة الولد.
وأن لا يعطيه لولد آخر. وأن لا يكون في مرض موت أحدهما. وأن لا يكون
الأب كافرًا والابن مسلمًا. وأن يكون عينًا موجودة. والسادس حصول تملكه
بقبض مع قول أو نية. وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه إلا بنفقته
الواجبة عليه. وله المطالبة بعين مال له بيد أبيه. وإن مات رجع الابن
بدينه في تركته.
(وعن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
سئل أي الصدقة أفضل) وأعظم أجرًا قال "أما وأبيك لتفتأن" من الفتيا وفي
نسخة "لتنبأن" من النبأ (قال أن تصدق) بتخفيف الصاد. وأصله أن تتصدق
(وأنت صحيح) أي سليم من مرض مخوف (شحيح) أي حريص على الضنة بالمال. وهو
الجامع للبخل مع الحرص. فهو أبلغ منه (تأمل الغنى) أي تطمع في الغنى
(وتخشى الفقر) فمجاهدة النفس حينئذ على إخراج المال آية صحة القصد وقوة
الرغبة. فكان ذلك أفضل. لأن صحة البدن تجعل للمال موقعًا في القلب. لما
يأمله من
(3/398)
البقاء. والمرض يقصر يد المالك عن بعض
ملكه. فاشترطت صحة البدن في الشح بالمال.
وحيث أن الشح غالبًا في الصحة. فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية
وأعظم للأجر. بخلاف من يئس من الحياة. ورأى مصير المال لغيره (ولا
تمهل) أي لا تؤخر الصدقة في الصحة (حتى إذا بلغت الحلقوم) أي قاربت
الروح بلوغ الحلقوم. وهو الوصول إلى مجرى النفس عند الغرغرة ولم تبلغه
بالفعل. إذ لو بلغته لما صح تصرفه (قلت لفلان كذا) أي لمن يعطيه أو
يوصي له (ولفلان كذا) أي لمن يعطيه. أو يوصي له أيضًا على سبيل المثال
(وقد كان لفلان) يعني الوارث (متفق عليه).
فدل على أن التصدق في حال الصحة أفضل منه في حال المرض. لأنه في حال
الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبًا. لما يخوفه به الشيطان. ويزين له
من إمكان طول العمر. والحاجة إلى المال. كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} وللترمذي وصححه "مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته
مثل
الذي يهدي إذا شبع" ولأبي داود "لأن يتصدق الرجل
في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند
موته بمائة" وفي معنى ذلك قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا
رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وجاء في
فضل الصدقة آيات وأحاديث كثيرة. منها {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ} وخبر "والصدقة تطفيء الخطيئة" وغير
(3/399)
ذلك فدل على فضلها في الصحة وجوازها عند
الموت قبل الغرغرة.
(ولمسلم) وغيره (عن عمران بن حصين) -رضي الله عنه- (أن رجلًا أعتق في
مرضه) أي الذي مات فيه (ستة أعبد) قال القرطبي ظاهره أنه نجز عتقهم في
مرضه. ولأحمد عن أبي زيد عند موته (لم يكن له مال غيرهم) أي غير ستة
الأعبد (فاستدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم أثلاثًا) أي
اعتبر عدد أشخاصهم (فأعتق اثنين وأرق أربعة) وقال له قولًا شديدًا وفي
لفظ فجاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بما صنع. قال "أو فعل ذلك؟ لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه" ولأحمد
"لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين" قاله تغليظًا شديدًا
وذمًا بليغًا. لأن الله لم يأذن للمريض بالتصرف إلا في الثلث. فإذا
تصرف في أكثر منه كان مخالفًا لحكم الله. مشابهًا لمن وهب غير ماله.
وحكي الإجماع على أن تصرفات المريض لا تجوز بأزيد من الثلث لمن له وارث
لهذا الخبر وغيره. ولابن ماجه وغيره "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم
زيادة في أعمالكم " وقال سعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا
يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بشطر مالي قال "لا" قال فالثلث قال: "الثلث
والثلث كثير" ففيها ونحوها أن تبرع المريض مرضًا مخوفًا متصلًا بالموت
بعتق أو عطية أو هبة أو نحوها لا يصلح إلا من الثلث عند الموت. وهو
مذهب جمهور
(3/400)
العلماء أبي حنيفة ومالك وأحمد وأحد قولي
الشافعي.
والمراد بالمرض المخوف كبرسام وذات الجنب ووجع قلب ودوام قيام ورعاف.
وأول فالج وآخر سل. والحمى المطبقة ومثله من وقع الطاعون ببلده. أو كان
بين الصفين عند التحام حرب. أو في لجة بحر عند هيجانه. أو قدم أو حبس
للقتل. ونحو ذلك. قال الشيخ وأقرب ما يقال ما يكثر حصول الموت منه. فلا
يلزم تبرعه بما فوق الثلث. ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لهما إن
مات منه. وإن عوفي من ذلك فتبرعه كتبرع الصحيح في نفوذ عطاياه كلها.
وكذا من مرضه غير مخوف كصداع يسير ووجع ضرس ونحو ذلك. لأنه في حكم
الصحيح.
وإن ملك من يعتق عليه بهبة أو وصية. أو أقر أنه أعتق ابن عمه في صحته
عتق من رأس المال. لأنه لا تبرع فيه. بل كالحقوق التي تلزم بالشرع. وإن
اشترى في مرضه المخوف من يعتق عليه ويرث منه كأبيه ونحوه عتق من الثلث
وورث. وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدره. وإن قال أنت حر آخر حياتي
عتق وورث. وإن دبره عتق ولم يرث. وإن ضاق الثلث عن العطايا في مرض
الموت والوصايا قدمت العطايا لأنها لازمة ويبدأ بالأول فالأول في
العطايا. ويعتبر القبول لها عند وجودها
ويثبت الملك إذًا وإن اتهموا المريض بالتبرع زيادة
(3/401)
على الثلث مثل أن يتصدق أو يهب أو يحابي
ولا يحسب ذلك. أو خافوا أن يعطي بعض المال لإنسان يمتنع عطيته ونحو
ذلك.
فقال الشيخ يملك الورثة أن يحجروا على المريض إذا اتهموه. وكذلك لو كان
المال بيد وكيل أو غير ذلك أو مضارب وأرادوا الاحتياط على ما بيده. بأن
يجعلوا معه يدًا أخرى فالأظهر أنهم يملكون ذلك. وهكذا يقال في كل عين
تعلق بها حق الغير. وقال نكاح المريض في مرض موته صحيح. وترث المرأة في
قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين. ولا تستحق إلا مهر المثل لا
الزيادة عليه. بالاتفاق وقال ابن رشد دلت الدلائل على أنه إن قصد
بالنكاح خيرًا لا يمنع. وإن دلت على أنه قصد الإضرار بورثته منع. كما
في أشياء من الصنائع.
باب الوصايا
جمع وصية. من وصيت الشيء إذا وصلته. فالموصي وصل ما كان له في حياته
بما بعد موته. واصطلاحًا الأمر بالتصرف بعد الموت. أو التبرع بالمال
بعده. قال ابن رشد الوصية بالجملة هي هبة الرجل ماله لشخص آخر أو
لأشخاص بعد موته. أو عتق غلامه. سواء صرح بلفظ الوصية أو لم يصرح به.
وهذا العقد عند أهل العلم من العقود الجائزة اهـ. وتصح
من البالغ الرشيد. ومن الصبي العاقل والسفيه
(3/402)
بالمال. ومن الأخرس بإشارة مفهومة. وإن
وجدت وصية إنسان بخطه الثابت ببينة أو إقرار ورثته صحت. وقال الشيخ تصح
الوصية بالرؤيا الصادقة المقترنة بما يدل على صدقها لقصة ثابت بن قيس.
والأصل في الوصية الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أي فرض عليكم {إِذَا حَضَرَ} أي جاء
{أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي أسبابه وآثاره من العلل والأمراض {إِن
تَرَكَ خَيْرًا} أي مالًا كثيرًا عرفًا ورجح الموفق أنه متى كان
المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لم تستحب الوصية لقوله "إنك إن تذر
ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" وقال الشعبي ما من مال أعظم أجرًا
من مال يتركه الرجل لولده يغنيهم به عن الناس {الْوَصِيَّةُ}
{لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} لا يزيد على الثلث
ولا يوصي للغني ويدع الفقير أو من غير إسراف ولا تقتير.
وكان ذلك واجبًا في ابتداء الإسلام للوالدين والأقربين على من مات وله
مال ثم نسخت بآية الميراث. وقال - صلى الله عليه وسلم - "إن الله قد
أعطى كل ذي جق حقه فلا وصية لوارث" فرفع حكم أهل الفروض والعصبات
بالكلية. وبقي الأقارب الذين لا ميراث لهم. يستحب أن يوصي لهم من الثلث
فما دونه في قول عامة أهل العلم. استئناسًا بهذه الآية الكريمة وما
اشتملت عليه وبينته السنة مما سيأتي وغيره. ومنها الحديث القدسي "ابن
آدم جعلت لك نصيبًا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك به
(3/403)
وأزكيك" فالوصية لمن له مال مستحبة قال
الوزير أجمعوا على أنه مستحبة مندوب إليها لمن لا يرث الموصي من أقاربه
وذوي أرحامه.
وقال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء إذا كانوا ذوي حاجة. لأن الله
كتب الوصية للوالدين والأقربين فخرج منه الوارثون بقوله - صلى الله
عليه وسلم - "لا وصية لوارث" وبقي سائر الأقارب على الوصية لهم. وأقله
الاستحباب فإن أوصي لغيرهم وتركهم صحت في قول أكثر أهل العلم. وإن لم
يكن له قريب منه فقير فللمساكين. وعالم ودين ونحوهم. وأجمعوا على أن من
كانت ذمته معلقة بأمانة أو دين ونحو ذلك فالوصية واجبة عليه. وأن
الوصية غير واجبة لمن ليس عنده أمانة يجب عليه الخروج منها. ولا عليه
دين. أو عليه ولا يعلم من هو له. أو ليس عند وديعة بغير إشهاد.
(وقال {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} أي الإرث من
بعد وصية إن كان أو دين إن كان. والإرث مؤخر عن كل واحد منهما إجماعًا.
وللترمذي وغيره عن علي -رضي الله عنه- "قضى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بالدين قبل الوصية" قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم
فيخرج الواجب كله من دين لله أو لآدمي من كل ماله. وإن لم يوص به وإنما
قدم الوصية لأنها كانت على وجه البر والصلة والدين يقع بعد الميت بنوع
تفريط. بدأ بالوصية لكونها أفضل. أو لأن الوصية شيء يؤخذ
(3/404)
بغير عوض فكان إخراج الوصية أشق على الوارث
من إخراج الدين فبدأ بها. أو لأنها حظ الفقير غالبًا. والدين حظ الغريب
ويطلبه بقوة. أو قدمت لأجل ذلك كله وغيره. ولا نزاع في أن الدين مقدم
على الوصية.
{غَيْرَ مُضَآرٍّ} أي لتكن وصيته على العدل. لا على الإضرار والجور
والحيف بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه أو يزيده على ما فرض الله له من
الفريضة. أو يجاوز الثلث في الوصية أو غير ذلك مما يخالف السنة. فقيد
تعالى ما شرعه من الوصية بعدم الضرار. فتكون الوصية المشتملة على
الضرار باطلة لمخالفتها لما شرعه الله تعالى. وللترمذي وغيره وحسنه عن
أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة
الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" ثم
قرأ أبو هريرة {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ
مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ} إلى قوله {وَذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيم}. وفي هذا الوعيد الشديد لأن مجرد المضارة في الوصية إذا
كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في السنين المتعددة فلا ريب
أنها من أشد الذنوب. وعن ابن عباس وصية الضرار من الكبائر.
(وعن أبي الدرداء) عويمر بن عامر الأنصاري الخزرجي أسلم يوم بدر وشهد
أحدًا وولاه معاوية قضاء دمشق أيام عمر
(3/405)
ومات في أيام عثمان رضي الله عنهم (أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)
وذلك أن الميت ينتقل عنه ماله بالموت إلى ورثته وإنما أذن له بالثلث
ليتقرب به إلى الله (عند وفاتكم) يعني ما يتقرب به مما يخلف (زيادة في
حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم) وتقدم "أو صدقة جارية" لما ذكر
أن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث (رواه الدارقطني) ونحوه
لأحمد وابن ماجه والبزار. وسكت عليه الحافظ في التخليص. وفيه وما في
معناه دليل على أن الإذن بالتصرف في ثلث المال عند الوفاة من الألطاف
الإلهية. والتكثير للأعمال الصالحة. وهو من الأدلة على اشتراط القربة
في الوصية.
(وعن ابن عمر) -رضي الله عنهما- (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال ما حق امرئ) ولابن عبد البر لا يحل لامرئ (مسلم) وقال الشافعي
والخطابي وغيرهما ما الحزم والاحتياط لمسلم (له شيء يريد أن يوصي فيه)
بتصرف بعد الموت أو تبرع بمال بعده (يبيت ليلتين) ولمسلم "ثلاث"
والمراد لا يمضي عليه زمان ,عن كان قليلًا (إلا ووصيته مكتوبة عنده)
لأنه لا يدري متى يأتيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك (متفق
عليه) وذكر المسلم لتقع المبادرة إلى الامتثال لما يشعر به من نفي
الإسلام عن تارك ذلك. وإلا فوصية الكافر جائزة في الجملة. وحكى ابن
المنذر فيه الإجماع. قال ابن عمر -رضي الله عنهما- لم أبت ليلة منذ
(3/406)
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا
ووصيتي عندي. وتقدم الإجماع على الندب عليها. وأن المراد الحزم
والاحتياط. لئلا يفجأه الموت وهو على غير وصية. وتفويض الأمر إلى إرادة
الموصي يدل على عدم الوجوب. بخلاف من عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على
صاحبه إن لم يوص به كالدين والوديعة ونحوهما. فترجح قول الجمهور أن
الوصية غير واجبة بعينها. وإنما الواجب بعينة الخروج من الحقوق الواجبة
للغير. سواء كان بتنجيز أو وصية.
ومحل وجوب الوصية إذا كان عاجزًا عن تنجيزه ولم يعلم بذلك غيره ممن
يثبت الحق بشهادته.
وقالوا لا يندب أن يكتب جميع الأشياء المحقرة. ولا ما جرت العادة
بالخروج منه. والوفاء به عن قرب. وفي الحديث دليل على جواز الاعتماد
على الكتابة والخط. ولو لم يقترن ذلك بالشهادة. فإذا عرف خط الموصي عمل
به. ومثله خط الحاكم. وعليه عمل الناس قديمًا وحديثً. وقد كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث الكتب وتقوم بها الحجة. ما جرت به
عادة الناس من كتب الشاهدين ونحو ذلك فليس فيه نص من الشارع. واستحبه
بعضهم قطعًا للنزاع. واحتياطًا وحفظًا لما فيها.
وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن أنس موقوفًا: كانوا يعني أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يكتبون في صدور وصاياهم هذا ما أوصى به
فلان ابن فلان. أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن
محمدًا عبده ورسوله. وأن الساعة آتية لا ريب
(3/407)
فيها وأن الله يبعث من في القبور. وأوصى من
ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن
كانوا مؤمنين. وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب {يَا بَنِيَّ
إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ
وَأَنتُم مُّسْلِمُون} وفي وصية أبي الدرداء وغيره نحو ذلك.
(ولهما عن سعد بن أبي وقاص) -رضي الله عنه- (قلت يا رسول الله أنا ذو
مال) وفي رواية كثير أو كبير (ولا يرثني إلا ابنة لي) واحدة قاله في
حجة الوداع. ثم ولد له بعد ذلك قيل أكثر من عشرة. ومن البنات اثنتا
عشرة (أفأتصدق بثلثي مالي؟) وفي لفظ أوصي بثلثي مالي (قال لا قولت
فالشطر قال لا) وفي لفظ قلت أفأتصدق بشطر مالي أي النصف (قال لا قلت
فالثلث) أي أتصدق بثلثه (قال الثلث والثلث كثير) وصفه بالكثرة بالنسبة
إلى ما دونه وأن الأولى الاقتصار عليه. كما قال ابن عباس وددت أن الناس
غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية.
(إنك أن تذر) بفتح الهمزة وكسرها (ورثتك أغنياء) عبر - صلى الله عليه
وسلم - بلفظ الورثة ولم يكن له إذ ذاك إلا ابنة لكون الوارث لم يتحقق
أو لوجود أولاد أخيه وإنما قال سعد ذلك بناء على موته في ذلك المرض
(خير من أن تذرهم عالة) أي فقراء جمع عائل (يتكففون الناس أي يسألون
الناس بأكفهم. فعلل كثرة الوصية بذلك. وفيه دليل على منع الوصية بأكثر
من الثلث لمن
(3/408)
له وارث. وعلى هذا استقر إجماع أهل العلم.
واستحب الجمهور الأقل من الثلث. كما ذهب إليه ابن عباس. وبه أوصى أبو
بكر وعمر: أبو بكر بالخمس. وعمر بالربع. قال قتادة والخُمس أحبّ إليَّ.
وقال الموفق وغيره هو أفضل للغني. وقال الوزير أجمعوا على أنه إنما
يستحب للموصي أن يوصي بدون الثلث مع إجازتهم له عملا بإطلاق النصوص.
وقوله "إنك أن تذر ورثتك أغنياء" يشعر باعتبار الورثة. وقال ابن القيم
الصحيح أن له ذلك. لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث إذا كان
له ورثة. فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله. فتجوز وصيته
إذًا بكل ماله. إذا لم يكن له ورثة لا بفرض ولا عصبة ولا رحم ولا ولاء
ولا نكاح. ولو ترك زوجًا أو زوجة لا غير. وأوصى بجميع ماله ورد أحد
الزوجين بطلت بقدر فرضه من الثلثين. ولو أوصى أحد الزوجين للآخر بماله
كله وليس له وارث غير الزوج أخذ المال كله فرضًا ووصية.
وإن لم يف الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط عند الجمهور فيتحاصون لا فرق
بين متقدمها ومتأخرها والعتق وغيره لأنهم تساووا في الأصل. وإن تفاوتوا
في المقدار. فوجبت المحاصة كمسائل العول. وهذا مذهب جمهور العلماء أبي
حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم. وإن قال أدوا الواجب من ثلثي بدئ به من
الثلث فإن فضل شيء من الثلث أخذه صاحب التبرع.
(3/409)
وإلا سقط التبرع إلا أن يجيز الورثة ولا
يعتبر القبول ولا يثبت الملك إلا بعد الموت قال الوزير: أجمعوا على أن
لزوم العمل بالوصية إنما هو الموت. واتفقوا أنها إنما تلزم بعده.
(وللخمسة) إلا أبا داود من حديث عمرو بن خارجة. ولهم إلا النسائي من
حديث أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (إن الله أعطى
كل ذي حق حقه) بما قدره من الفروض فلا وصية لوارث، وصححه الترمذي)
وحسنه الحافظ وقال ولا يخلو إسناد كل منها من مقال لكن مجموعها يقتضي
أن للحديث أصلًا. وذكر الشافعي أنه متواتر. فقال وجدنا أهل الفُتيا ومن
حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح "لا وصية لوارث" ويأثرونه
عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم. فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى
من نقل واحد. وأخرج نحوه البخاري عن ابن عباس موقوفًا وله حكم الرفع.
وقال الحافظ الحجة في هذا إجماع العلماء على مقتضاه كما صرح به الشافعي
وغيره قال الشيخ ولما كان ما ذكره تعالى من تحريم تعدي الحدود عقب ذكر
الفرائض المحدودة دل على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على
ما قدر له ودل على أنه لا تجوز الوصية لهم وكان هذا ناسخًا لما أمر به
أولًا من الوصية للوالدين والأقربين. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -
عام حجة الوداع "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" رواه
(3/410)
أهل السنن والسير. واتفقت الأمة عليه اهـ.
والمراد بعدم صحة الوصية للوارث عدم اللزوم. لأن الأكثر على أنها
موقوفة على إجازة الورثة.
(وللدارقطني إلا أن يجيز الورثة) ولفظه من حديث عمرو بن شعيب " إلا أن
يجيز الورثة " وحسنه الحافظ. فإذا رضي الوارث صارت صحيحة كما هو شأن
بناء الخاص على العام. ولأن المنع إنما كان لحق الورثة. فإذا أجازوه لم
يمتنع. قال الموفق في قول الجمهور. وقال الوزير أجمعوا على أن الوصية
بالثلث لغير وارث جائزة. وأنها لا تفتقر إلى إجازة الورثة. وعلى أن ما
زاد على الثلث إذا أوصى به من ترك بنين أو عصبة أنه لا ينفذ إلا الثلث.
وأن الباقي موقوف على إجازة الورثة. فإذا أجازوه نفذ. وإن أبطلوه لم
ينفذ. واتفقوا على أن لا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة. وقال
الموفق وغيره لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية
بالموت. وهو كون الموصى له عند الموت وارثاً أولا.
(ولأحمد عن أبي هريرة مرفوعاً في الرجل يعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة
فيحيف في وصيته) كأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث. أو فيما لا تجوز
فيه الوصية (فيختم له بشر عمله) وتمامه " وإن الرجل ليعمل بعمل أهل
الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيدخل الجنة" ولفظ أبي داود والترمذي
"إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت
(3/411)
فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" حسنه
الترمذي. وفيه وعيد شديد وزجر وتهديد في الحيف في الوصية. كما أن له
الأجر الجزيل في العدل فيها. وتقدم أن الضرار فيها يوجب بطلانها.
ويؤيد هذا الحديث ما رواه ابن عباس "إن الضرار في الوصية من الكبائر"
وتقدم قوله (غير مضار) وذكر تعالى بعد التبديل في الوصية أن (من خاف من
موص جنفاً أو إثماً) بأن زاد وارثاً ولو ببيع شيء محاباة ونحو ذلك إما
مخطئًا غير عامد بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر. أو متعمدًا آثم في ذلك.
(فأصلح بينهم) أي الوصي أو غيره فيصلح القضية ويعدل في الوصية على
الوجه الشرعي. ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء
إليه وأشبه الأمور به جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي (فلا إثم
عليه) وليس من التبديل في شيء.
فصل في الموصى له وإليه
والموصى به والوصية بالأنصباء والأجزاء. وما يتعلق بذلك. وأركان الوصية
أربعة موص وصيغة والثالث موصى له والرابع موصى إليه.
{قال تعالى: إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا}
ذكرها تعالى بعد قوله {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}
أي بالتوارث لما نسخ بالحلف
(3/412)
والهجرة. أي إلا أن تواصوا لمن تولونه بما
تحبون من ثلث أموالكم. وتقدم قوله (إن ترك خيراً الوصية للوالدين
والأقربين) ويأتي الأمر به. فتصح لمن يصح تملكه من مسلم وكافر معين
كالهبة. وهو مذهب مالك وأحمد وأكثر أصحاب الشافعي. وقال محمد بن
الحنفية في الآية هو وصية المسلم لليهودي أو النصراني. وعمر كسا خاله
حلة وهو بمكة مشرك. وأسماء وصلت أمها وهي راغبة عن الإسلام. وصحح
الحارثي أنه إذا لم يتصف بالقتال أو المظاهرة وإلا فلا. والمراد المعين
فلا تصح لكافر غير معين كاليهود والنصارى والمجوس. أو فقرائهم كالوقف
عليهم. وتصح الوصية لمكاتبه ومدبره وأم ولده. ولعبده بمشاع كثلثه.
وبعتق منه بقدره. ولعبد غيره فهو من كسبه. لعموم هذه الآية وغيرها.
{وقال: فَمَن بَدَّلَهُ} أي بدل الوصية وحرفها فغير حكمها وزاد فيها أو
نقص. وأعظم من ذلك لو كتمها من الأوصياء أو الأولياء أو الشهود
{بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي من بعد ما سمع قول الموصي {فَإِنَّمَا
إِثْمُهُ} أي إثم التبديل والتغيير {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}
والميت بريء منه. وقد وقع أجره على الله. وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك
{إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ} لما أوصى به الموصي قد اطلع عليه {عَلِيم} بذلك
وبما بدله الموصى إليهم أو غيرهم. حتى قال بعض أهل العلم الأولى ترك
الدخول في الوصايا لما فيه من الخطر. وخصوصاً في هذه الأزمنة.
(3/413)
لكن قال الحارثي وغيره الوصية إما واجبة أو
مستحبة وأولوية ترك الدخول يؤدي إلى تعطيلها فالدخول قد يتعين فيما هو
معرض للضياع. ولما فيه من درء المفسدة وجلب المصلحة. فيجوز أو يستحب
الدخول لمن قوي عليه ووثق من نفسه. وقال بعضهم قربة مندوبة. وكما أن
التغيير والتبديل مذموم. فحفظ مال المسلم مندوب وهو فعل أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -.
(وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر وأبا طلحة) -رضي الله عنهما-
(وغيرهما) من الصحابة (أن يجعلوا وصاياهم في القربى) كقربى عمر وغيره
(وللفقراء) وتقدم تعريفهم (وغير ذلك) كسبيل الله وابن السبيل وغير ذلك
من أبواب البر. مما هو مشهور مستفيض بين المسلمين. جار عليه عملهم
قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل. فعمر -رضي الله عنه- جعلها في الفقراء
وفي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل. بعد أن أمره النبي - صلى الله
عليه وسلم - بذلك. ومن الرواه من رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم
-. وأبو طلحة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " اجعلها في قرابتك"
كما تقدم. فجعلها في حسَّان وأبي وغيرهما.
ولو أوصى لزيد والفقراء والمساكين فله التسع. ولو أوصى بثلثه للمساكين
وله أقارب محاويج غير وارثين لم يوص لهم فهم أحق به. وفي أعمال بر
وذريته ضعفاء جاز لمتوليها أن يدفع لهم ما يستغنون به. وإذا كانت غير
حجة الإسلام صرفت عليهم.
(3/414)
وكذا الأضحية لأن الصدقة عليهم أفضل إذا
احتاجوا ولابد من تنفيذ الوصية ابتداء ثم النظر للمتولي عليها. كما
أفتى به الشيخ عبد الرحمن بن حسن. وتصح الوصية لحمل تحقق وجوده قبل
الوصية. ويقبل عنه وليه بعد موت الموصي. لا لما تحمل به هذه المرأة ما
لم يتحقق وجوده قبل الوصية.
ولا تصح لملك أو بهيمة أو ميت. وإن أوصى لحي وميت فللحي نصف الوصية.
وكذا لو مات أحدهما أو رد الوصية لعدم الأهلية. وإن أوصى من لا حج عليه
أن يحج عنه بألف مثلاً صرف من ثلثه مؤونة حجة بعد أخرى حتى ينفد وإن
قال. بألف دفع لمن يحج به واحدة. وقال الشيخ لو وصى أن يحج عنه زيد
تطوعاً بألف فيتوجه إذا أبى المعين حج عنه غيره. وقال ومن أوصى بإخراج
حجة فولاية الدفع والتعيين للوصي الخاص إجماعاً. وإنما للولي العام
الاعتراض عليه لعدم أهليته أو فعله محرماً.
(وأوصى عمر) -رضي الله عنه- (بثمغ) أرض بخيبر وللبخاري كان أرضاً تقدم
خبرها في الوقف.
(وأوصى أبو طلحة) -رضي الله عنه- (ببيرحاء) بئر وبستان شمالي سور
المدينة من جهة الشرق مربعة الطي يستقى الماء منها بالدلاء وقال - صلى
الله عليه وسلم - مال رابح وتصح بالمجهول كعبد وشاة عند جمهور العلماء
وتقدم نحوه وبما يعجز عن تسلمه كآبق وطير
(3/415)
في هواء. وبالمعدوم كما يحمل حيوانه
وشجرته. وبما فيه نفع مباح ككلب حرث وماشية وزيت متنجس ونحو ذلك. وإن
أوصى بثلث ماله فاستحدث مالاً دخل في الوصية. وإن تلف الموصى به بطلت
وإن تلف المال غيره فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة.
والاعتبار حالة الموت.
(وأوصت أم الشريد) ابن سويد الثقفي -رضي الله عنهما- (أن يعتق عنها
رقبة مؤمنة) فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال عندي جارية
سوداء فقال "ائت بها" فدعا بها فجاءت فقال لها "من ربك" قالت الله قال
"من أنا" قالت أنت رسول الله قال "اعتقها فإنها مؤمنة" رواه أحمد وأبو
داود والنسائي فدل الحديث على صحة الوصية بعتق الرقبة المؤمنة وفضلها
ودل على جواز النيابة في العتق بالوصية. واكتفى بمعرفة الله ورسوله في
كون تلك الأمة مؤمنة. وقد ثبت نحو ذلك في غير ما حديث.
(وعن عمرو) ابن شعيب عن أبيه عن جده (أن العاص) ابن وائل بن هشام
القرشي السهمي (أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة) وكان عتق الرقاب معهوداً
في الجاهلية (فأعتق) ابنه
(هشام خمسين رقبة) تنفيذاً لوصية أبيه العاص ابن وائل
(وأراد ابنه عمرو) -رضي الله عنه- تنفيذ وصية أبيه كما فعل أخوه هشام
(أن يعتق عنه الخمسين) الرقبة (الباقية) عليه
فجاء عمرو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن أبي
أوصى
(3/416)
أن يعتق عنه مائة رقبة وإن هشاماً أعتق عنه
خمسين رقبة. وبقيت خمسون أفأعتق عنه؟.
(فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان) يعني العاص بن وائل
(مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم أو حججتم عنه) وتقدم حكم النيابة في
الحج (نفعه ذلك) فدل على صحة الوصية بالعتق. وفضل الوصية ونفعها لو كان
مسلماً (رواه أبو داود) وقد صحح له بهذا الإسناد الترمذي وغيره فدل
الحديث على صحة الوصية وصحة وصية الكافر بالمباح فالمندوب أولى ودل على
أن الكافر إذا أوصى بقربة من القرب لم ينفعه ذلك لأن الكفر مانع لحبوط
العمل بالكفر قال تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ}
فأثبت لهم عملاً وقال {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا َ} وقال
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمَالَهُم}.
فلا ينفع الكافر ما عمله ولا ما أوصى بفعله. ولا ما فعله له قرابته
المسلمون من أي قربة من القرب كالصدقة والحج والعتق وغير ذلك. ولا يلزم
تنفيذ وصيته. وأما صحتها فتصح وصية الذمي عند جمهور أهل العلم أبي
حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم. ولم يتعرض في هذا الخبر لعدم
صحتها. وإنما ذكر عدم القبول. فتصح بالمباح إذ لا مانع. فلا تصح وصية
مسلم ولا كافر لكنيسة وبيت نار وبيعة وصومعة. ولا أي مكان من أماكن
الكفر أو عمارتها أو سدنتها. ولا لشيء من الإنفاق عليها لأنه معصية.
ولا لكتب التوراة والإنجيل وبدع ونحوها.
(3/417)
(وروي عن ابن مسعود) -رضي الله عنه- من
طريق محمد العزرمي (أن رجلاً أوصى) يعني في زمن النبي - صلى الله عليه
وسلم - (لرجل بسهم) أي من ماله (فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم -
السدس) ومحمد العزرمي تكلم فيه أهل العلم. لكن هو قول علي وابن مسعود.
وقال الموفق وغيره لا نعلم عن غيرهما خلافهما. وقال إياس بن معاوية
السهم في كلام العرب السدس. وهو مذهب أحمد وغيره.
وإن صح الحديث المذكور. أو صح أن السهم في لسان العرب السدس فكما لو
وصى له بسدس من ماله. والإ فقال الموفق وغيره الذي يقتضيه القياس أنه
كما لو وصى له بجزء من ماله على ما اختاره الشافعي وغيره أن الورثة
يعطونه ما شاءوا.
وإن أوصى بشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء قولاً واحداً. لأن
القصد بالوصية بره. وإنما وكل قدر الموصى به وتعيينه إلى الورثة. لأنه
لا حد له في لغة ولا في شرع. فكان على إطلاقه. وإن كان له ثلاث أولاد
مثلاً فأوصى لشخص بمثل نصيب أحدهم. فقال الجمهور: أبو حنيفة والشافعي
وأحمد وغيرهم له الربع. وإن أوصى بمثل نصيب أحد ورثته ولم يعين كان له
مثل ما لأقلهم نصيباً.
(وقال سعد بن أبي وقاص) -رضي الله عنه- (أوصى أخي) عتبة بن أبي وقاص
(أن أنظر ابن أمة زمعة) فأقبضه له
(3/418)
يعني أنه ابن له من أمة زمعة والحديث رواه
البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص
اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابن أمة زمعة. فقال
سعد يا رسول الله أوصاني أخي إذا قدمت أن أنظر ابن أمة زمعة فأقبضه
فإنه ابني. وقال ابن زمعة أخي وابن أمة أبي ولد على فراش أبي. فرأى
النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهاً بينا بعتبة. فقال "هو لك يا عبد بن
زمعة. الولد للفراش. واحتجبي منه يا سودة" وسيأتي إن شاء الله. ووجه
الاستدلال به هنا جواز الإيصاء بالنيابة في دعوى النسب. والمحاكمة في
ذلك. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على سعد دعواه بوصاية
أخيه في ذلك. بل أقرها وحكم بينهما.
(وأوصى أبو عبيدة) ابن الجراح الفهري أمين هذه الأمة وأحد العشرة -رضي
الله عنهم- واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح أوصى (إلى عمر) -رضي الله
عنه- وأوصى عمر إلى ابنه عبد الله وأوصى عبد الله إلى ابنه جابر -رضي
الله عنهما- في قضاء دينه وغيره (و) أوصى (إلى الزبير) ابن العوام
جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بسهم (عثمان بن عفان) -رضي الله عنه-
كما رواه البيهقي وأوصى الزبير إلى ابنه عبد الله في قضاء دينه وغيره
(وغيره) أي وأوصى إلى الزبير غير عثمان منهم ابن مسعود وعبد الرحمن بن
عوف والمقداد ومطيع واشتهر فكان كالإجماع.
حتى قال عمر لو تركت تركة أو عهدت عهداً إلى أحد لعهدت إلى الزبير إنه
ركن من أركان الدين وقال الوزير اتفقوا
(3/419)
على أن الوصية إلى العدل جائزة. وأن الوصية
إلى الكافر لا تصح. وتصح وصية الكافر إلى المسلم إن لم تكن تركته نحو
خمر. وتصح الوصية إلى عاجز. ويضم إليه أمين. وتصح إلى زيد وبعده إلى
عمر. لقوله - صلى الله عليه وسلم - "أميركم زيد فإن قتل فجعفر" وإلى
صبي إذا بلغ كغائب إذا حضر. وتقدم أنه لا بأس بالدخول في الوصية لمن
قوي عليها ووثق من نفسه. وأن الدخول فيها للقوي قربة.
وإذا أوصى إلى رجلين وأطلق لم يجيز لأحدهما التصرف دون الآخر. وهو مذهب
الجمهور. مالك والشافعي وأحمد. وليس له أن يوصي إلا أن يجعل إليه. وله
أن يوكل فيما لا يباشره مثله أو يعجز عنه كالوكالة. وهو مذهب مالك وأبي
حنيفة وأحمد. وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتراكا
وإن جعل الحل واحد التصرف صح وإن مات أو غاب جعل الحاكم مكانه أميناً.
ولا تصح التوصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي كقضاء دينه وتفرقة
وصيته والنظر لصغاره ونحو ذلك فلا تصح بالنظر على بالغ رشيد من أولاده
من ورثته ولا بالنظر على أولادهما الأصاغر. ويصح قبول الوصية في حياة
الموصي وبعد موته. وله عزل وصيه متى شاء كالوكالة. وقال بعضهم ليس
للوصي عزل نفسه إن لم يجد حاكماً. لأنه تضييع للأمانة. وإبطال لحق
المسلم. وكذا إن تعذر تنفيذ حاكم للموصى به.
(3/420)
أو غلب على الظن إسناده إلى من ليس بأهل.
(وعن سعد) -رضي الله عنه- ابن الأطول بن عبد الله بن خالد (الجهني) من
جهينة القبيلة المشهورة (أن أخاه) يسار بن الأطول (ترك دراهم وعيالاً)
وعليه دين قال فأردت أن أنفق الدراهم على عياله (فقال - صلى الله عليه
وسلم - إنه محتبس بدينه) فاقض عنه (فقال يا رسول الله قد أديت عنه) فيه
استقلال الوصي في قضاء ديون الميت لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -
ذلك. وحكى إجماعاً لنيابته عنه. ثم قال (إلا دينارين ادعتهما امرأة ولا
بينة) أي وليس لها بينة
(قال فاعطها فإنها محقة رواه أحمد) وابن ماجه وغيرهما.
وفيه دليل على تقديم إخراج الدين على ما يحتاج إليه من نفقة أولاد
الميت ونحوها. ولا خلاف في ذلك. وتقدم أن الدين يقدم على الوصية. وقال
بعض أهل العلم لا يدفع إلا إذا ثبت ببينة. وقال الشيخ من ادعى ديناً
على ميت وهو ممن يعامل الناس نظر الوصي إلى ما يدل على صدقه ودفع إليه.
وإلا فتحريم الإعطاء حتى يثبت عند القاضي خلاف السنة والإجماع. وكذلك
ينبغي أن يكون حكم ناظر الوقف ووالي بيت
المال. وكل وال على حق غيره إذا تبين له صدق الطالب
دفع إليه. وذلك واجب عليه إن أمن التبعية. وإن خاف التبعية فلا اهـ.
وإن ظهر دين يستغرق التركة بعد تفرقة الوصي لم يضمن
(3/421)
لرب الدين شيئاً. لأنه معذور بعدم علمه
بالدين. وإن أمكن الرجوع فعل. ووفى الدين. وإن قال الموصي ضع ثلثي حيث
شئت. أو تصدق به على من شئت ونحو ذلك. فقال الجمهور لا يحل للوصي أخذه.
وقال أصحاب الرأي وغيرهم له أخذه لنفسه وولده. وقال الموفق يحتمل أن
يجوز ذلك عندنا أيضاً. لأن لفظ الموصي يحتمله. ويحتمل أن ينظر إلى
قرائن الأحوال. فإن دلت على أنه أراد أخذه منه مثل أن يكون من جملة
المستحقين أو عادته الأخذ من مثله فله الأخذ منه.
وقال الحارثي المذهب جواز الدفع إلى الولد والوالد ونحوهم. واختاره
المجد وغيره. فإن عبارته تستعمل في الرضا بصرف الوصي إلى ما يختاره كيف
كان. لا إلى ورثة الموصي. وإن قال اصنع في مالي ما شئت أو هو بحكمك
افعل فيه ما شئت ونحو ذلك من ألفاظ الإباحة لا الأمر فقال الشيخ له أن
يخرج ثلثه. وله أن لا يخرجه. فلا يكون الإخراج واجباً ولا محرماً. بل
هو موقوف على اختيار الوصي. وقال له صرف الوصية فيما هو أصلح من الجهة
التي عينها الموصي اهـ. والمال الموصى به في يد الموصى إليه أمانة يجب
عليه حفظه حيث تحفظ الأمانات. وإن أودعه لخائن مع إمكانه أن لا يفعل
فهو مفرط.
(3/422)
|