الإحكام
شرح أصول الأحكام كتاب الطلاق
في اللغة التخلية، والإطلاق الإرسال والترك، وفي الشرع حل قيد النكاح أو
بعضه، ويصح من زوج مكلف ومميز يعقله، ويباح للحاجة كسوء خلق المرأة، ويكره
لعدمها، لاشتماله على إزالة النكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها،
ويستحب للضرر باستدامة النكاح في حال الشقاق، أو ترك حق الله تعالى، ويجب
للإيلاء إذا أبى الفيئة، ويحرم للبدعة كفي حيض أو طهر وطئ فيه والأصل في
جوازه الكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية وتمام الآية
{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} أمر تعالى الرجال
إذا
طلق أحدهم المرأة طلاقًا له عليها فيه رجعة أن يحسن في أمرها إذا انقضت
عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه
رجعتها، فإما أن يمسكها بمعروف، وهو أن يشهد على
رجعتها وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها من منزله
إذا انقضت عدتها بالتي هي أحسن، ولا
(4/105)
يمسكها مضارة بتطويل الحبس.
فالبلغوغ هنا بلوغ مقاربة وذلك أن الرجل كان يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء
العدة راجعها إضرارًا، لئلا تذهب إلى غيره قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا}
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يقول أحدكم قد طلقت قد راجعت» فدلت
الآية على جواز الطلاق عند الحاجة إليه، ولم يجعلها تعالى غلاً في عنقه،
وأباح له المراجعة قبل استكمال العدة أو ماله من العدد، وهذا من محاسن هذه
الشريعة المطهرة.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أبغض
الحلال إلى الله الطلاق» رواه أبو داود) لعل المراد بالحلال ما ليس تركه
بلازم الشامل للمباح، والواجب والمندوب والمكروه، فإن كونه مبغوضًا يقتضي
رجحان تركه على فعله، وكونه حلالاً يقتضي مساواة تركه لفعله، وقد يقال
الطلاق حلال لذاته والأبغضية: لما يترتب عليه من انجراره إلى المعصية، وفي
رواية: "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق" وفيه دليل على أن من
الحلال ما هو مبغوض إلى الله، وأن أبغضه الطلاق وأنه يحسن تجنب إيقاع
الطلاق ما وجد عنه مندوحة، وقسموا الطلاق إلى الأحكام الخمسة كما تقدم،
والمكروه الواقع بغير سبب مع استقامة الحال، وهذا والله أعلم هو القسم
المبغوض مع حله.
قال الوزير: أجمعوا على أن الطلاق في حال استقامة
(4/106)
الزوجين مكروه إلا أبا حنيفة، قال: هو حرام
مع استقامة الحال. (وفي السنن) لأبي داود والترمذي وابن ماجه، ورواه أحمد
وغيره (عن ثوبان) رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس) أي من غير أن يكون
في مصاحبتها الزوج بها شدة وضرر نحو ما تقدم مما يبيح لها طلب المخالعة
(فحرام عليها رائحة الجنة) فيه زجر عن طلب المرأة الطلاق من غير ضرورة
ووعيد شديد ومبالغة في التهديد وأن سؤالها الطلاق محرم عليها تحريمًا
شديدًا لأنه من لم يرح رائحة الجنة غير داخلها.
(وعن لقيط) بن صبرة رضي الله عنه قلت (يا رسول الله إن لي امرأة) يعني زوجة
له (وذكر من بذائها) وأنه كرهها لذلك (قال طلقها) أمر ندب (قال إن لها
صحبة) أي طويلة (وولدًا) له منها (قال مرها) أي عظها (فإن يكن فيها خير
فستفعل) أي ما أمرها به (رواه أبو داود) وفيه «ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك»
ورواه البيهقي ورجاله رجال الصحيح وأقره المنذري، فدل الحديث على أنه يحسن
طلاق من كانت بذيئة اللسان وأنه يجوز إمساكها، وأنه لا يحل ضربها كضرب
الأمة.
وأما طلاقها لتركها عفة أو لتفريطها في حقوق الله فلا ريب في ذلك، وله
وعظها في نحو هذه الحال والتضييق عليها لتفتدي منه كما تقدم، (وعن ابن عمر)
رضي الله عنهما (قال
(4/107)
كانت تحتي) أي زوجة لي (امرأة أحبها) لم
نقف على اسمها (وأبي يكرهها) لعله لنقصان في دينها (فأمرني أن أطلقها) لما
يكرهه منها (فأبيت) أي أن أطلقها (فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه
وسلم -) أي أنه أمرني بطلاقها فأبيت عليه لمحبتي لها (فقال طلقها) أي قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك، رواه
أحمد وأبو داود وابن ماجه (وصححه الترمذي).
فدل الحديث على أنه يجب على الرجل إذا أمره أبوه بطلاق زوجته أن يطلقها وإن
كان يحبها فليس ذلك عذرًا له في الإمساك، قال الشيخ: وكلام أحمد في وجوب
طلاق الزوجة بأمر الأب مقيد بصلاح الأب، ولا يجب للبدعة، بل طلاق السنة،
وإن امرأته به أمه فقال أحمد لا يعجبني طلاقه، وقيل، وكذا الأم لحديث «من
أبر قال أمك» ثلاثًا ثم قال «أباك» وفي الحديث «الجنة تحت أقدام الأمهات».
(وعنه) أي عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته) وهي آمنة بنت غفار
وفيه أنه طلقها واحدة (وهي حائض) أي حالة كونها حائضًا، وفي رواية وهي في
دمها حائض (فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -) فتغيظ فيه رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ففيه عظيم حرمته (فقال مره) أي مر ابنك
(فليراجعها) ويأتي «ثم ليمسكها
حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك» بعد فالجمهور على الاستحباب. قال
- صلى الله عليه وسلم - (ثم ليطلقها طاهرًا)
(4/108)
وللنسائي: «فليراجعها فإذا اغتسلت من
حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن يمسكها فتلك العدة التي
أمر الله أن تطلق لها النساء» كما في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ} وذلك طاهرًا (أو حاملاً) أي ثم ليطلقها حاملاً أي إن شاء
وذلك طلاق السنة (رواه مسلم) ورواه الخمسة وغيرهم.
فالتحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا زال زال موجب التحريم وجاز طلاقها في
هذا الطهر كما جاز في الحمل، وكما يجوز في الطهر الذي لم يتقدم طلاق في
حيضة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وحكى الوزير وغيره اتفاقهم على أن الطلاق
في الحيض بمدخول بها، والطهر المجامع فيه محرم، إلا أنه يقع. والحديث دليل
على أنه يقع، قال ابن عبد البر لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع، لأنه أمر
ابن عمر بالمراجعة ولا تكون إلا بعد طلاق.
وعن عائشة رضي الله عنها (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال: «لا طلاق» أي لا يقع طلاق (في إغلاق) بكسر الهمزة أي إكراه، وقيل غضب،
وقال أبو عبيدة الإغلاق التضييق، فكأنه يغلق عليه ويحبس ويضيق عليه حتى
يطلق (رواه أبو داود) ورواه أحمد وابن ماجه، وأبو يعلى والبيهقي والحاكم
وصححه، فدل على أن طلاق المكره لا يقع، قال الشيخ وهو قول جماهير العلماء
كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم لهذا الحديث، وحديث «عفي
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقال تعالى
(4/109)
في حق المكره على الكفر: {مَنْ كَفَرَ
بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} والشرك أعظم من الطلاق، وقال ابن عباس فيمن
أكرهه اللصوص فيطلق.
وذلك أن المكره مغلق عليه في أمره مضيق عليه في تصرفه، كما يغلق الباب على
الإنسان قال، ومن قصد إيقاع الطلاق دون دفع الإكراه وقع طلاقه، كمن أكره
على طلقة فطلق أكثر، وقال: الإكراه يقع بالتهديد أو بأن يغلب على ظنه أنه
يضره في نفسه أو ماله بلا تهديد، وقال كونه يغلب على ظنه تحقق تهديده ليس
بجيد، بل الصواب أنه لو استوى الطرفان كان إكراهًا.
ومذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إذا نطق بالطلاق دافعًا عن نفسه
لم يقع طلاقه، وقال ابن القيم المكره قد أتى باللفظ المقتضي للحكم ولم يثبت
عليه حكمه لكونه غير قاصد، له، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه فانتفى الحكم
لانتفاء قصده، وإرادته لموجب اللفظ اهـ.
وأما الغضب فإذا بلغ به إلى غاية لا يشعر معها لم يقع طلاقه للإغلاق عليه،
قال الشيخ: هوما أغلق عليه قلبه فلا يدري ما يقول، وإن لم يزل عقله ويغيره
الغضب لم يقع اهـ. والغضب على ثلاثة أقسام ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه
ما يقول فهذا لا يقع طلاقه. أو يستحكم الغضب ويشتد
به فلا يزيل عقله بالكلية، ولكن يحول بينه وبين نيته
بحيث يندم على ما فرط منه فهذا محل نظر، وعدم وقوعه
(4/110)
أقوى، أو يكون الغضب في مباديه بحيث لا
يمنع صاحبه من تصور ما يقول فيقع طلاقه، وقل من يطلق حتى يغضب.
(وقال علي) رضي الله عنه (كل الطلاق جائز) أي واقع لا محالة (إلا طلاق
المعتوه) ذكر البخاري وروى عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - وفيه «والمغلوب على عقله» وحكى الطحاوي الإجماع على أن طلاق المعتوه
لا يقع. (وقال ابن عباس) رضي الله عنهما (طلاق السكران) سكر ضد صحا والسكر
حالة تعترض بين المرء وعقله (والمستكره) يعني المكره على الطلاق (ليس
بجائز) ذكره البخاري، وذكر عن عثمان رضي الله عنه أنه قال ليس لمجنون ولا
لسكران طلاق، ورواه ابن أبي شيبة عن جماعة من السلف وقال ابن المنذر ثبت عن
عثمان ولا نعلم أحدًا من الصحابة خالفه.
وقال ابن القيم: ثبت في الصحيح عن عثمان، وابن عباس في السكران ونحوه، ولا
يعرف عن رجل من الصحابة أنه خالفهما في ذلك، واحتج الطحاوي وغيره بأنهم
أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع، قال والسكران معتوه بسكره، وفرق بعضهم
بين السكر بالمحرم وغيره.
والقائلون بعدم وقوع طلاق السكران احتجوا بزوال التكليف وأن كل مكلف يصح
منه الطلاق، وأنه لا يصح من غير مكلف، ولا ممن زال تكليفه، وقد نهى تعالى
عن قربان
(4/111)
الصلاة حالة السكر.
وقال: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} والسكران لا يعلم ما يقول، ومن
كان كذلك فكيف يكون مكلفًا وهو غير فاهم، والفهم شرطًا التكليف، كما هو
مقرر في الأصول، وأن الأحكام لا تختلف بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته
أو من جهة غيره، وأجمعوا على أنه لا يقع الطلاق من مجنون ولا نائم لأنه غير
فاهم ما يقول، وكذا السكران غير عاقل ولا فاهم ما يقول، وليس إسقاطًا منهم
لحكم المعصية بل لعدم مناط التكليف، وحمزة رضي الله عنه لما ثمل، وقال: ما
أنتم إلا عبيد لأبي لم يلزمه، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم تلك
الكلمة، والمقصود أن السكران الذي لا يعقل لا حكم لطلاقه، لعدم المناط الذي
تدور عليه الأحكام.
وقال الشيخ لا يقع طلاق السكران ولو بسكر محرم، وهو رواية عن أحمد، قال
الزركشي ولا يخفى أن أدلة هذه الرواية أظهر، ونقل الميموني الرجوع عما
سواها، وقال ابن القيم زائل العقل إما بجنون أو إغماء أو شرب دواء أو شرب
مسكر لا يعتد به، واختلف المتأخرون فيه، والثابت عن الصحابة الذي لا يعلم
فيه خلاف بينهم أنه لا يقع طلاقه اهـ. ويعتبر لوقوع الطلاق إرادة لفظه
لمعناه، فلا طلاق لفقيه يكرره، وحاك ولو عن نفسه، وأما طلاق الهازل فقال
الشيخ وغيره واقع، لأنه قصد التكلم بالطلاق، وإن لم يقصد إيقاعه وفي الحديث
"ثلاث هزلهن جد" وعد منها الطلاق.
(4/112)
فصل في عدده
أي في حكم عدد الطلاق وفي سنته وهو إيقاعه على الوجه المشروع، وبدعته وهو
إيقاعه على الوجه المحرم المنهى عنه.
(قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} خاطب
النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم خاطب الأمة، أي إذا أردتم طلاقهن
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي وقتها قال ابن مسعود: طاهرات من غير
جماع، وتقدم قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ويأتي قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وسنة الطلاق في حق من تحيض من
وجهين:
أحدهما: من جهة الزمان وهو أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه أو حاملاً.
والثاني: من جهة العدد، وهو أن يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، ثم
قال تعالى {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} اضبطوا ابتداءها وانتهاءها للعلم ببقاء
زمن الرجعة وغير ذلك.
(وقال) تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ} أي المخيلات من حبال أزواجهن
{يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرون ويمكثن {بِأَنْفُسِهِنَّ} بعد طلاقهن {ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ} أي أطهار قال أحمد: هو قول الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فلا يتزوجن حتى تمضي عليهن الثلاثة إلا الإماء فيمكثن قرءين
لأنهن على النصف من الحرائر عند الأئمة الأربعة وغيرهم، والقرء لا يتبعض.
(4/113)
ثم قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي حال العدة {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} أي إن
أرادوا بالرجعة الإصلاح وحسن المعاشرة لا الإضرار، إلى قوله: {الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فأباح
الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة.
رفعًا لما كانوا عليه في الجاهلية وابتداء الإسلام يطلق الرجل من غير حصر
ولا عدد كلما قاربت انقضاء العدة راجعها (ثم قال) تعالى بعد ذكر الطلقتين
{فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني الطلقة الثالثة بعدما أرسل عليها الطلاق مرتين
{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد الطلقة الثالثة تحرم عليه
{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي حتى يطأها زوج آخر غير المطلق
فيجامعها في نكاح صحيح.
فلو وطئها واطئ في غير نكاح ولو في ملك يمين لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج،
أو تزوجت ولم يدخل بها الزوج الثاني ويطأها لم تحل للأول أو قصد التحليل
وصرح بمقصوده بطل النكاح عند الجمهور ولم تحل للأول وتقدم.
(فإن طلقها) الثاني بعد وطء في نكاح صحيح لم يقصد به التحليل {فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي على الزوج الأول والمرأة {أَنْ يَتَرَاجَعَا} يعني
بنكاح جديد {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ
اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *}.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته) آمنة بنت غفار (وهي حائض
فسأل عمر) رضي الله عنه
(رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال مره فليراجعها) فتسن مراجعتها لهذا
الخبر
(4/114)
لأنه طلاق بدعة (ثم ليمسكها حتى تطهر ثم
تحيض ثم تطهر) أي فلا يطلق إلا في الطهر الثاني دون الأول، وهو مذهب مالك
وأحد الوجهين عند الشافعية ورواية عن أحمد، فإذا راجعها وجب إمساكها حتى
تطهر، فإذا طهرت سن أن يمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تظهر، وعند أبي حنيفة
وأحمد أنه مندوب (ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس) أي بعد الطهر
الثاني قبل أن يصيبها، فإذا فعل ذلك فهو طلاق السنة، وإن مس ثم طلق فبدعة
محرم ثم قال - صلى الله عليه وسلم - «فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها
النساء» متفق عليه.
فدل الحديث على تحريم الطلاق حال الحيض، أو طهر وطئ فيه، ولمسلم وقرأ رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال ابن رشد أجمع العلماء على
أن المطلق للسنة في المدخول بها هو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه
طلقة واحدة.
وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة، وتقدم قوله -
صلى الله عليه وسلم - «ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً» ففيه جواز الطلاق حال
الطهر، ولو كان الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى
الروايتين عن أحمد وغيره، وعند أحمد وغيره المنع لهذا الخير فالله أعلم.
وجواز طلاق الحامل لزوال العلة التي لأجلها نهى عن الطلاق في حيض أو طهر
وطئ فيه فكذا الصغيرة الآبسة وقال علي رضي الله عنه: لو أن الناس أخذوا ما
أمر الله به من
(4/115)
الطلاق ما اتبع رجل نفسه امرأة أبدًا،
يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثًا فمتى شاء راجعها.
(ولمسلم كان ابن عمر) رضي الله عنهما (إذا سئل) أي عن الحكم فيمن طلق في
الحيض (قال أما إن طلقت مرة أو مرتين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- أمرني بهذا) أي أن أراجعها ثم أمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم أمهلها حتى
تطهر ثم أطلقها قبل أن أمسها (وإن كنت طلقت ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك
به من طلاق امرأتك، وحرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك) فدل على تحريم الطلاق
في الحيض وعلى وقوع الطلاق وإبانتها بالثلاث، وهو مذهب جمهور العلماء.
(وله) أي لمسلم في صحيحه (عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه قال: (كان
الطلاق) أي حكمه (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر) مدة
خلافته (وسنتين من خلافة عمر وظاهر كلام ابن عباس أنه كان الإجماع على ذلك
(طلاق الثلاث واحدة) سواء كان الطلاق في مجلس واحد أو بكلمة واحدة أو
كلمات.
(فقال عمر) رضي الله عنه بعدما مضى صدر من خلافته وتتابع الناس على إيقاع
الثلاث (إن الناس قد استعجلوا في أمر) وهو إيقاع الثلاث معًا (كان لهم فيه
أناة) أي مهلة وبقية استمتاع لانتظار المراجعة (فلو أمضيناه عليهم) أي
ألزمناهم
(4/116)
الثلاث، لما رآه من الأمور التي ظهرت
والأحوال التي تغير وفشو إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل، وصار
الغالب عليهم قصدها (فأمضاه عليهم) أي ألزمهم الثلاث، قال ابن القيم: لم
يخالف رضي الله عنه ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ما كان في
عصر الخليفة الراشد، ولا ما صدر في أول عصره بل رأى رضي الله عنه إلزامهم
بالثلاث عقوبة لهم وتابعه على ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأيدوا رأيه لماعلموا أن إرسال الثلاث حرام وتتابعوا فيه.
(وللنسائي) برواة كلهم ثقات (عن محمود بن لبيد) بن أبي رافع الأنصاري ولد
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدث عنه أحاديث قال البخاري له
صحبة وكان من العلماء مات سنة ست وتسعين (قال أخبر النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا) يعني في مجلس واحد (فقام
غضبان) كراهة لما أوقعه (ثم قال أيلعب بكتاب الله) يريد آيات الطلاق في
سورة البقرة وأن المأذون فيه تطليقة بعد تطليقة وحكمته (لعل الله يحدث بعد
ذلك أمرًا) (وأنا بين أظهركم) أي فكيف يكون التلاعب به بعدي (حتى قام رجل
فقال يا رسول الله ألا أقتله) فدل الحديث على أن جميع الثلاث التطليقات
بدعة محرم، ولو بكلمات في طهر لم يصبها فيه، لا بعد رجعة أو عقد.
ولو طلقها ثلاثًا في ثلاثة أطهار كان حكم ذلك حكم جمع الثلاث في طهر واحد.
(4/117)
وروى سعيد بن منصور عن أنس أن عمر كان إذا
أتي برجل طلق امرأته ثلاثًا أوجع ظهره ضربًا، ولا ريب أن طلاق الثلاث في
مجلس واحد في وقته - صلى الله عليه وسلم - واحدة، وروى أنه قال لركانة: «قد
علمت فراجعها» وهو مروي عن علي وابن مسعود وغيرهما.
وأصحاب ابن عباس وبعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد، ولم تجمع الأمة على
خلافه، وأفتى به الشيخ لما فشا التحليل وأيده بما هو معلوم عنه رحمه الله،
وذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء إلى أن الثلاث تقع ثلاثًا لإلزام عمر
رضي الله عنه بذلك عقوبة، ومتابعة الصحابة له كما تقدم.
وقال ابن القيم لا ريب أن هذا سائغ للأمة أن يلزموا الناس ما ضيقوا به على
أنفسهم ولم يقبلوا فيه رخصة الله عز وجل وتسهيله بل اختاروا الشدة والعسر،
فكيف بأمير المؤمنين وكمال نظره للأمة، وتأديبه لهم ولكن العقوبة تختلف
باختلاف الأزمنة والأشخاص والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه
وخفائه، وعمر رضي الله عنه لم يقل إن هذا عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وإنما هو رأي رآه مصلحة للأمة يكفهم به عن التسارع إلى إيقاع
الثلاث، لما علم أن تلك الأناة والرخصة نعمة من الله على المطلق ورحمة به.
وأنه قابلها بضدها، حال بينه وبينها وألزمه ما استلزمه من الشدة
والاستعجال، وهذا موافق لقواعد الشريعة، بل هو موافق لحكمة الله في خلقه
قدرًا وشرعًا.
(4/118)
(وتقدم) أي في فصل أركان النكاح قوله - صلى
الله عليه وسلم - «ثلاث هزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» وروي عن عبادة
مرفوعًا «لا يجوز اللعب في ثلاث» وذكر الطلاق وقال «فمن قالهن فقد وجبن»
فدل الحديث على وقوع الطلاق من الهازل، وأنه لا يحتاج إلى النية في الصريح،
وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، واختاره الشيخ وغيره.
وحكى غير واحد اتفاق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على
لسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به، وإن قال كنت هازلاً، وقال ابن القيم
طلاق الهازل يقع عند الجمهور وهو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وكذلك نكاحه
صحيح كما في الحديث: «ثلاث هزلهن جد» الحديث وهو قول عمر، وعلي وغيرهما
وأحمد وأصحابه وطائفة من أصحاب الشافعي، وهو مذهب مالك وعليه العمل عند
أصحابه.
وذلك أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد المعنى
المتضمن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما وليس للعبد مع تعاطي السبب أن لا
يترتب عليه موجبه, لا يؤمن مطلق أن يقول كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك
إبطال لحكم الله عز وجل وتلاعب به، اهـ وصريحه لفظ الطلاق وطلقتك وطالق
ومطلقة، وإن نوى بطالق من وثاق ونحوه، أو صرف لفظه إلى ممكن قبل قوله إذا
كان عدلاً. واختار الشيخ أنه يقبل حكمًا، وهو رواية عن أحمد، إلا في حال
(4/119)
غضب أو سؤالها الطلاق فلا يقبل قولا واحدا
ولو سئل أطلقت امرأتك فقال نعم وقع. أو قيل له ألك امرأة فقال لا وأراد
الكذب لم تطلق.
وقال الشيخ يجب أن يفرق بين قول الزوج لست لي بامرأة أو ما أنت لي بامرأة.
وبين قوله ليست لي امرأة. وبين قوله إذا قيل ألك امرأة لأن الفرق بينهما
ثابت وصفا وعددا. إذ الأول نفى نكاحها. ونفي النكاح عنها كإثبات طلاقها.
يكون إنشاء ويكون إخبارًا. بخلاف نفي المنكوحات عموما. فإنه لا يستعمل إلا
إخبارا اهـ.
وإن كتب صريح الطلاق ونواه وقع عند الجمهور وقال مالك وأشهد عليه. وإن قال
لم أرد إلا تجويد خطي أو غم أهلي. أو قرأ ما كتبه. وقال لم أرد إلا القراءة
قبل. كلفظ الطلاق إذا قصد به الحكاية ونحوها.
فصل في الكنايات
أي كنايات الطلاق وهي ما يحتمل غيره. ويدل على المعنى الصريح فيه. وجعلوها
قسمين ظاهرة وخفية والظاهرة هي ما كان معنى الطلاق فيها أظهر من الخفية ولا
يقع بها طلاق إلا بنية مقارنة للفظ. لقصور رتبتها عن الصريح. واحتمالها
الطلاق وغيره فلا يتعين له بدون نيته. وهو مذهب جمهور العلماء.
(قال تعالى) لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} أي خير أزواجك {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا} أي عرض الحياة
(4/120)
الدنيا {وَزِينَتَهَا} زيادة في النفقة وكن
طلبن ذلك منه {فَتَعَالَيْنَ} أي هلم إلي {أُمَتِّعْكُنَّ} متعة الطلاق
{وَأُسَرِّحْكُنَّ} أي أفارقكن {سَرَاحًا جَمِيلًا} قال ابن كثير أعطيكن
حقوقكن وأطلق سراحكن من غير ضرار.
{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية، والمراد البقاء في
عصمته والدار الآخرة يعنى الثواب الجزيل {فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ
لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} قالت عائشة رضي الله عنها
"خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه، فلم يعد ذلك طلاقًا،
فدلت الآية على أن التخيير لا يعد طلاقًا.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة) رضي الله عنها وذلك لما أمر بتخيير
أزواجه فيما تقدم من قوله {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الآية قالت فبدأ بي وقال: (إني ذاكر لك أمرًا) وهو
ما حكاه الله من قوله {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الآيتين (فلا عليك أن تستأمري
أبويك) أي لا تعجلي أن تستأمري أبويك فيه (متفق عليه) قالت وقد علم - صلى
الله عليه وسلم - أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، فقلت في هذا استأمر
أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، "وتقدم أنها قالت خيرنا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه فلم يعد ذلك طلاقًا" وفي رواية
شيئًا، وفي أخرى "فلم يكن طلاقًا" وهذا مذهب جماهير العلماء الأئمة الأربعة
وفقهاء الأمصار وغيرهم أن من خير زوجته فاختارته لم يكن ذلك طلاقًا ولا يقع
به فرقة.
ومفهومه أن كنايات الطلاق لا يقع بها طلاق إلا بنية مقارنة للفظ وإن قال
تزوجي من شئت وحللت للأزواج ولا
(4/121)
سبيل لي عليك ونحو ذلك فكناية ظاهرة، ويأتي
قوله: طلقها البتة وأنها كناية ظاهرة، وكذا بتلة وخلية وبرية وبائن ونحو
ذلك مما هو كناية عن الطلاق ظاهرة، لا يقع طلاقًا إلا بنية، والجمهور على
أنه يقع واحدة ما لم ينو أكثر، وإن قال أمرك بيدك ونواه طلاقًا، فجمهور
العلماء من الصحابة والتابعين يقع واحدة، ولها أن تطلق نفسها متى شاءت
واحدة، ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ ما جعله لها، أو ترد هي، لقول علي رضي
الله عنه ولا يعلم له مخالف في الصحابة.
(وعنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لابنة
الجون) الكندي قيل اسمه النعمان بن شراحيل، وابنته أميمة وتقدم. وروى ابن
سعد أنه قال يا رسول الله أزوجك أجمل أيم في العرب قال: "نعم" قال فابعث من
يحملها إليك.
وكانت سنة سبع ولما أدخلت عليه ودنا منها وقالت أعوذ بالله منك قال: لقد
عذب بعظيم (الحقي بأهلك، رواه البخاري) وفي القصة أنها خدعت لما رؤي من
جمالها فقيل لها استعيذي منه فإنه أحظى لك عنده، ولما علم - صلى الله عليه
وسلم - قال: «إنكن صواحب يوسف» وكانت تقول أنا الشقية.
فدل الحديث على أن الرجل إذا قال لامرأته إلحقي بأهلك طلاق، لأنه لم يرو
أنه زاد غير ذلك، فيكون كناية طلاق، وإن كانت خفية إذا أريد به الطلاق كان
طلاقًا، زاد البيهقي وجعلها تطليقة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يطلق
ثلاثًا، وفي قصة كعب لما
(4/122)
قيل له اعتزل امرأتك قال إلحقي بأهلك، ولم
يرد الطلاق فلم تطلق.
(ولهما عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لسودة
اعتدي) أي لأني طلقتك، فكذا استبرئي واعتزلي واخرجي واذهبي ونحو ذلك مما هو
كناية عن الطلاق، لأن هذا اللفظ مما يشابه الطلاق فتعين إرادته له، فإن
نواه وقع وهو مذهب جماهير العلماء، وإن لم ينوه لم يقع.
وقيل إلا حال خصومة أو غضب أو سؤالها الطلاق فيقع بالكناية، لدلالة الحال،
وعن أحمد لا يقع إلا بنية وجزم به ابن الجوزي وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة
والشافعي، وقال ابن قندس: الذي يظهر أنه لا بد من النية حال الغضب وسؤال
الطلاق، وقولهم دلالة الحال تقوم مقام النية في هذه الحال، معناه أن دلالة
الحال تدل على النية وليس مرادهم سقوط النية بالكلية.
(وفيهما عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال (إن الله تجاوز عن أمتي) أي عفا عنها وفي لفظ تجاوز
لأمتي «ما حدثت به أنفسها» نوته أو همت به ولابن ماجه "ما توسوس به صدورها"
(ما لم تعمل به) إن كان فعليًا (أو تكلم) به إن كان قوليًا، قال الترمذي
والعمل عليه عند أهل العلم: أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيء حتى
يتكلم به، وورد «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان» فدل الحديث على أنه لا يقع
الطلاق بحديث النفس بأن طلق بقلبه ولم يتكلم بلسانه لأن خطرات القلب مغفورة
للعباد إذا كانت
(4/123)
فيما فيه ذنب، فكذلك لا يلزم حكمها في
الأمور المباحة، فلا يكون حكم حضور الطلاق في القلب إرادته حكم التلفظ به،
وتقدم أنه يقع على ما عمل بكتابته وعزم عليه بقلبه، لا لتجويد خطه أو
قراءته ونحو ذلك.
(وعن ركانة) بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف قيل إنه مات في زمن
معاوية رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته) سهيمة (البتة) أي قال: أنت طالق
البتة (فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي أنه طلقها البتة (فقال
والله ما أردت إلا واحدة) أي بلفظ النية لم أرد إلا طلقة واحدة رجعية
(فردها إليه) حيث لم يرد بها إلا واحدة غير بائن (رواه أبو داود) والترمذي
وصححه هو وابن حبان والحاكم فدل الحديث على أن من طلق البتة ونحوها وأراد
واحدة كانت طلقة واحدة وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحد القولين في مذهب
أحمد جزم به أبو الفرج وغيره، وفيه أنه لو أراد بها أكثر وقع ما نواه.
فصل في الحلف
أي بالطلاق وأنه يكون يمينًا منعقدة أو لغوًا، أو يكون كناية في الطلاق،
(قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ} أي شرع الله لكم (تحلة أيمانكم)
تحليلها بالكفارة وهي ما ذكر في سورة المائدة، وذكر تعالى فرض تحلة الإيمان
عقب تحريم الحلا، فلا بد أن يتناوله، ويأتي قول ابن عباس وحديث أنس
(4/124)
وهو أحد طرق سبب نزول الآية، وقالت عائشة
"آلي من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالاً وجعل في اليمين كفارة" قال الخطابي
والأكثر أن الآية في تحريم مارية، ورجحه الحافظ، وقال ابن عباس إذا قال
لامرأته أنت علي حرام لغو وباطل، لا يترتب عليه شيء، أي طلاق.
وفي لفظ إذا حرم امرأته ليس بشيء، وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} رواه البخاري، وهو قول أكثر أصحاب الحديث وغيرهم
لهذه الآية، ولقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}.
قال الشيخ فالمناكح والمطاعم التي يباح الانتفاع بها بوجه من الوجوه هي مما
سماه الله حلالا، ومن جعل ما أحله الله حرامًا فقد أتى منكرًا من القول
وزورًا، وهو كلام لا يمكن تحقيق موجبه، ولا يحل التكلم به، فلا يجعل سببًا
لما أباحه الله من الطلاق الذي فيه إرسال المرأة، وإن قصد به الطلاق فليس
له أن يقصد الطلاق بمثل هذا الكلام كما لو قال: زواجي بك حرام وقصد به
الطلاق فإن هذا كلام باطل في نفسه. فلا يحصل به ثبوت ملك ولا زواله. ولكنه
يمين. لأنه امتنع به من المباح أنهم جعلوا تحريم الحلال يمينا. وجعلوا
النذر يمينا. وكلاهما يدل عليه النص اهـ. ورجحه جماعة من العلماء.
أما إذا أراد تحريم العين فله حكمه. وإن أراد الطلاق
(4/125)
فلم يرد ما يدل على امتناع وقوعه. قال ابن
القيم قد أوقع الصحابة الطلاق بأنت حرام وأمرك بيدك واختاري ووهبتك لأهلك
وأنت خلية ونحو ذلك. وذهب جمهور العلماء إلى جواز التجوز لعلاقة مع قرينة
في جميع الألفاظ. إلا ما خص فما يمنعه في باب الطلاق وقد نواه. وإن لم ينو
فيمين مكفرة. وكذا إن قال علي الحرام والحرام يلزمني ونحو ذلك لغو. ومع نية
أو قرينة يكون طلاقا. وقال: قوله الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا يمين لا
تعليق.
وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه. وحكى غير واحد
إجماع الصحابة على أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق إذا حنث. وقال علي
وغيره في اليمين بالطلاق والعتق والشرط وغير ذلك لا يلزم من ذلك شيء. ولا
يقضي بالطلاق على من حلف به فحنث. ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة.
وقال: قوله الطلاق يلزمني ونحوه يمين باتفاق العقلاء والفقهاء والأمم. وأما
إذا حرم على نفسه طعاما ونحوه فلغو. قال الشيخ: ومن حلف بالطلاق كاذبا يعلم
كذب نفسه لا تطلق زوجته. ولا يلزمه كفارة يمين.
(وقال) تعالى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} أي ذلك الذي ذكرت لكم وهو
{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} الشرعية {إِذَا
حَلَفْتُمْ} وحنثتم. فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث قال تعالى
{وَاحْفَظُوا
(4/126)
أَيْمَانَكُمْ} لا تتركوها بغير تكفير إذا
حنثتم، واحفظوا اليمين عن الحنث، هذا إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب أو
فعل مكروه، فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مندوب فالأفضل أنه يحنث نفسه
ويكفر، للخبر الآتي وغيره.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه قال (إذا حرم الرجل امرأته) أي قال أنت
حرام أ, أنت علي حرام ونحو ذلك (فهو يمين يكفرها) وقال «لقد كان لكم في
رسول الله أسوة حنسة» (متفق عليه أي فلا يحرم بالتحريم ما حرمه على نفسه
قال ابن القيم: وصح ذلك عن أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت وابن مسعود، وعبد
الله بن عمر وعكرمة وعطاء، وقتادة والحسن وخلق سواهم، وحجة ذلك ظاهر القرآن
فإن الله تعالى فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله
يقينًا.
وقال الشيخ: إذا قال هذا علي حرام أو قال لزوجته أنت علي حرام أو لسريته
أنت علي حرام، أو لطعامه وشرابه هو علي حرام فهذا التحريم يتضمن منعه لنفسه
منه وأنه التزم هذا الامتناع التزامًا جعله لله لأن التحريم والتحليل إنما
يكون لله، وهو إذا قال هذا حرام لم يرد به أن الله حرمه عليه ابتداء فإن
هذا كذب ولا يريد أني أحرمه تحريمًا امتنع منه بتاتًا، فإن هذا كلام لا
فائدة فيه ولا يقوله عاقل، لا يقصد القائل بقوله هذا حرام إلا أني ممتنع
منه من جنس ما حرمه الله علي لا أقربه أبدًا وهذا هو معنى اليمين.
(4/127)
(وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - كان له أمة يطؤها) مارية القبطية أم إبراهيم
(فلم تزل به عائشة وحفصة) رضي الله عنهما (حتى حرمها على نفسه) أي أن لا
يطأها وحلف بالله (فأنزل الله: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، رواه
النسائي) وقال الحافظ سنده صحيح، وله شاهد عند الطبراني بسند صحيح عن زيد
بن أسلم، قال أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم إبراهيم ولده في
بيت بعض نسائه فقالت يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فجعلها عليه حرامًا،
فقالت كيف تحرم عليك الحلال. "فحلف لها بالله لا يصيبها" فنزلت الآية،
ويأتي أنه - صلى الله عليه وسلم - «ألي وحرم» فجعل الحلال حرامًا أي جعل
الشيء الذي حرمه وهو الجارية والعسل حلالاً بعد تحريمه إياه، وجعل في
اليمين كفارة، وهو حلفه بالله لا يصيبها فظاهره أن الكفارة لليمين لا
التحريم.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه مرفوعًا «من حلف على يمين» أي حلف يمينًا وهو
مجموع المقسم به، لكن المراد هنا المقسم عليه (فرأى غيرها خيرًا منها) أي
من حلف يمينًا جزمًا ثم بدا له أمر فعله أفضل من إبرار يمينه (فليأت الذي
هو خير) أي فليفعل ذلك الأمر (وليكفر) بعد فعله (عن يمينه) بما ذكر اللهف ي
كفارة الأيمان (رواه مسلم) وأحمد والترمذي وغيرهم وجاء بألفاظ من طرق،
ولأبي داود وغيره من حديث أبي بردة عن أبيه أنه - صلى الله عليه وسلم -
قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى
(4/128)
غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأنت
الذي هو خير» فدل الحديث على إجزاء الكفارة بعد الحنث واتفق عليه أهل
العلم، ولا تجزئ قبل الحلف بالاتفاق، وتقديم الكفارة على الحنث جائز عند
الأكثر وقد اختلف لفظ الحديث فعند البخاري "فكفر عن يمينك وائت الذي هو
خير" ولأبي داود في رواية "ثم ائت الذي هو خير" وأخرجه مسلم بالواو.
باب ما يختلف به عدد الطلاق
أي هذا باب في حكم من يختلف به عدد الطلاق بالحرية والرق، وهو معتبر
بالرجال وخالص حق الزوج بالكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا}) يعني التطليقة الثالثة {فَلَا تَحِلُّ
لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد الثلاث الطلقات {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ} قال شيخ الإسلام وغيره: بإجماع المسلمين، وحكى ابن رشد إجماع
فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة وتقدم
الكلام فيه، وإن كرره ثلاثًا وقع، إلا أن ينوي تأكيدًا يصح أو إفهامًا،
وتقدم الكلام في صريح الطلاق وكناياته، وإن قالت أنت الطلاق أو علي الطلاق
أو يلزمني الطلاق وقع ثلاثًا بنيتها، لأن لفظه يحتمله، وإن لم ينو إلا
واحدة فواحدة عملاً بالعرف، لأنهم لا يعتقدونه ثلاثًا.
ويقع بلفظ كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى أو الريح
(4/129)
أو نحو ذلك ثلاث ولو نوى واحدة لأنه لا
يحتملها لفظه، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، وقالوا إذا قال لزوجته يدك
أو رجلك أو عضو من الأعضاء المتصلة طالق وقع على جميعها، أو نصف طلقة أو
جزءًا منها وقعت طلقة، لأن الطلاق لا يتبعض، وحكاه الوزير اتفاقًا، ويصح
استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق وعدد المطلقات، وأجاز الجمهور استثناء
الأكثر.
(وفي السنن) والمسند وغيرها (أن ابن عباس) رضي الله عنهما (استفتي في
مملوك) أي طلبت منه الفتيا في مملوك (تحته مملوكة) أي في نكاحه (طلقها
طلقتين) أي طلق المملوك المملوكة طلقتين (ثم عتقا) بصيغة المجهول بعد
الطلاق (هل له أن يخطبها) أي هل للمولك أن يخطب المملوكة بعد أن عتقا
(فقال: نعم) أي يجوز له ذلك قضى بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رواه الخمسة إلا الترمذي (وفي رواية بقيت لك واحدة قضي بذلك رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -) رواه أبو داود وغيره قال أحمد، وهو قول ابن عباس
وجابر وأبي سلمة وقتادة، وهو مذهب الجمهور.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: طلاق
العبد اثنتان) لا يملك أكثر منهما (فلا تحل له) أي بعد طلقتين (حتى تنكح
زوجًا غيره) ويطؤها في نكاح صحيح كما تقدم (رواه الدارقطني) ولابن ماجه
والدارقطني نحوه من حديث ابن عمر قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم
من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكى قوم أنه إجماع وخالف فيه
(4/130)
جماعة من أهل الظاهر، والجمهور قاسوه على
الحدود وقد أجمعوا على أن الرق مؤثر فيها، فيملك العبد اثنتين حرة كانت
زوجته أو أمة، لأن الطلاق خالص حق الزوج فاعتبر به.
تتمة
في إيقاع الطلاق في الزمن الماضي والمستقبل والمستحيل
إذا قالت لزوجته أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك، فقال ابن القيم: إذا قال
أنت طالق في الشهر الماضي أو قبل أن أنكحك فإن كلا الوقتين ليس بقابل
للطلاق، لأنها في أحدهما لم تكن محلاً، وفي الثاني فيه طالقًا قطعًا، فإن
قوله: أنت طالق في وقت قد مضى -ولم تكن فيه- إخبار كاذب أو إنشاء
باطل اهـ.
وإن قال أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر أو نحو ذلك لم يجز وطؤها إلى موته،
وقال الشيخ: تأملت نصوص أحمد فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته في كل يمين
حلف الرجل عليها بالطلاق وهو لا يدري بار هو أو حانث حتى يستيقن أنه بار،
فإذا لم يعلم أنه بار اعتزلها أبدًا اهـ. فإن قدم قبل مضي الشهر ونحوه لم
تطلق، وبعد شهر وجزء يقع، وإن قال: قبل موتي أو موت زيد طلقت في الحال، لأن
ما قبل موته من حين عقد الصفة وإن علق الطلاق على المستحيل، فقال ابن القيم
إذا
(4/131)
علق الطلاق بأمر يعلم العقل استحالته لم
يقع، فإن المستحيل عادة كالمستحيل في نفسه.
وأما تعليقه بوجود الشيء وبعدمه فقال الشيخ: لو قال لا نزلت ولا صعدت ولا
قمت في الماء ولا خرجت يحنث بكل حال، كمنعه لها من الأكل، ومن تركه، فكان
الطلاق معلقًا بوجود الشيء وبعدمه، فوجود بعضه وعدم البعض لا يخرج عن
الصفتين، بخلاف ما إذا علقه بحال الوجود فقط، أو بحال العدم فقط اهـ، وإن
قال أنت طالق في غد أو في رمضان طلقت في أوله، وإلى غد أو شهر فعند
انقضائه، وإن قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد قيل لغو، وقال لاشيخ يقع على
ما رأيته لأنه جعل هذا شرطًا يتعلق وقوع الطلاق به، فهو كما لو قال أنت
طالق قبل موتي بشهر، فإنه لم يجعل موته شرطًأ يقع به الطلاق عليها قبل شهر،
وإنما رتبه فوقع على ما رتب.
ومن علق الطلاق على شرط أو التزامه لا يقصد بذلك لا الحض أو المنع فإنه
يجزئه فيه كفارة يمين إن حنث، وإن أراد الجزاء بتعليقه طلقت كره الشرط أو
التزمه، وعليه يدل كلام أحمد، وقال فيمن قال الطلاق يلزمني ما دام فلان في
هذا البلد، إن قصد به الطلاق إلى حين خروجه فقد وقع، ولغا التوقيت وهذا هو
الوضع اللغوي، وإن قصد أنت طالق إن دام فلان فإن خرج عقب اليمين لم يحنث،
وإلا حنث، وهذا نظير أنت طالق إلى شهر.
(4/132)
باب تعليق الطلاق
بالشروط
أي ترتيبه على شيء حاصل أو غير حاصل، بإن أو إحدى أخواتها، والشروط جمع
شرط، وتقدم معناه، والمراد هنا الشرط اللغوي، لأن أنواع الشرط ثلاثة، عقلي
وشرعي ولغوي، فالعقلي كالحياة للعلم، والشرعي كالطهارة للصلاة واللغوي كإن
دخلت الدار فأنت طالق، والمعلق للطلاق على شرط هو إيقاع له عند الشرط، ولا
يصح إلا من زوج وإذا علقه بشرط لم تطلق قبله.
(قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فدلت الآية على أنه لا يقع الطلاق
على المرأة قبل نكاحها، إذ هي أجنبية قال ابن عباس ولم يقل إذا طلقتموهن ثم
نكحتموهن، فإذا قال المطلق إن تزوجت فلانة هي طالق مطلق لأجنبية فإنها حين
أنشأ الطلاق أجنبية؛ والمتجدد هو نكاحها فهو كما لو قال لأجنبية إن دخلت
الدار فأنت طالق، فدخلت وهي زوجته لم تطلق إجماعًا.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده رضي الله عنهم (مرفوعًا) أي إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال «ليس على الرجل طلاق فيما لا يملك» عصمة
نكاحها (رواه الخمسة وصححه الترمذي) قال البخاري أصح شيء فيه وأشهره حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقاله البيهقي وغيره، والحديث دليل على أنه
لا يقع الطلاق على الأجنبية، فإن كان منجزًا فإجماع، وإن كان
(4/133)
معلقًا فهو قول الجمهور، ورواه البخاري عن
جماعة من الصحابة وله شواهد منها:
(ولأبي يعلى) الحافظ الموصلي (من حديث جابر) بن عبد الله رضي الله عنه أي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا طلاق إلا بعد نكاح» ورواه الحاكم
وصححه، وقال أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، وقد صح على شرطهما من حديث
ابن عمر وعائشة وابن عباس، ومعاذ بن جبل وجابر اهـ.
وقد روي من طرق بمجموعها يصلح أن يحتج به، وأنه لا يصح الطلاق قبل النكاح
مطلقًا، ولابن ماجه وغيره من حديث المسور وعلي بن أبي طالب لا طلاق قبل
نكاح فدلت الأحاديث والآثار: أنه لا يصح الطلاق قبل النكاح مطلقًا وكما هو
مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
(ولابن ماجه من حديث عياض) بن حمار رضي الله عنه (إنما الطلاق لمن أخذ
بالساق) فلو زوج عبده أمته ثم أراد أن يفرق بينهما لم يقع طلاقه، ودل
الحديث مع ما تقدم أنه لا يصح إلا من زوج يملك الطلاق، ويعضده قوله تعالى:
{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وقوله {إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فلو قال إن تزوجت امرأة أو فلانة فهي طالق لم يقع
بتزويجها، ودلت بمفهومها على وقوع طلاق الزوج مع ما تقدم، منجزًا كان
الطلاق أو معلقًا، وإن علقه بشرط متقدم أو متأخر، كإن دخلت الدار فأنت
طالق، أو أنت طالق إن قمت، لم تطلق قبل
(4/134)
وجود الشرط، وحكي قولاً واحدًا، وقيل يتعجل
إذا عجله وهو ظاهر كلام الشيخ فإنه يملك تعجيل الدين المؤجل.
ومتى وجد الشرط الذي علق به الطلاق وهي زوجته وقع، وإن قال سبق لساني
بالشرط ولم أرده وقع في الحال كالمنجز، وإن علق الطلاق على صفات فاجتمعت في
عين فقال الشيخ لا تطلق إلا واحدة، لأنه الأظهر في مراد الحالف، والعرف
يقتضيه، إلا أن ينوي خلافه، وإن قال إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق حرم
وطؤها قبل استبرائها بحيضة، ليستبين له عدم حملها، وحكي إجماعًا، والآيسة
والصغيرة قبل أن تستبرأ بمثل الحيضة، وكل ما يكون الشرك فيه عدميًا يستبين
فيما بعد، وقال في السريجية وهي إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا
فلا تطلق- إنه قول باطل لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد من
الأئمة الأربعة.
وقال إذا قال إن عصيت أمري فأنت طالق ثم أمرها بشيء أمرًا مطلقًا فخالفته
حنث، وإن تركته ناسية أو جاهلة أو عاجزة ينبغي ألا يحنث، لأن هذا الترك ليس
عصيانًا، وذكر الأدلة واختاره في غير موضع، وقال ولو حلف على شيء يعتقده
كما حلف عليه فتبين بخلافه فهذه المسألة أولى بعدم الحنث من مسألة فعل
المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلاً، وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا حلف
بالطلاق يحنث قولاً واحدًا، وهذا خطأ بل الخلاف في مذهب أحمد، وقال فيمن
حلف على غيره ليفعلن
(4/135)
كذا أو لا يفعله لا يحنث إن قصد إكرامه لا
إلزامه بالمحلوف عليه، لأن الإكرام قد حصل.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا من حلف) بالله تعالى أو صفة من
صفاته (فقال إن شاء الله لم يحنث حسنه الترمذي) فدل الحديث على أن من علق
طلاق امرأته على مشيئة الله تعالى، كأن قال لزوجته أنت طالق إن شاء الله لم
تطلق، وقال الشيخ: إذا قال لزوجته أنت طالق إن شاء الله لا يقع به الطلاق
عند أكثر العلماء، وإن قصد أنه يقع به الطلاق، وقال إن شاء الله تثبيتًا
لذلك وتأكيدًا لإيقاعه وقع عند أكثر العلماء وهذا هو الصواب اهـ.
وإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله طلقت إن دخلت الدار، لتعليقه
على وقوع الفعل وقد وقع، وإن قال أنت طالق إن لم يشأ زيد، فقيل قد علق
الطلاق بصفة هي عدم المشيئة، فمتى لم يشأ وقع لوجود شرطه، وقال الشيخ
القياس أنها لا تطلق حتى تفوت المشيئة، إلا أن تكون نية أو قرينة تقتضي
الفورية، وقال الطلاق بعد هذا لا يشاء إلا بكلمه بعد بمشيئة الله فإذا طلق
بعد ذلك فقد شاء الله وقوع طلاقها وكذا إن قصد وقوعه الآن، فإنه يكون
معلقًا أيضا على المشيئة ولا يشاء وقوعه حتى يوقعه.
(4/136)
باب التأويل في
الحلف
أي بالطلاق أو غيره، ومعنى التأويل في الحلف أن يريد بلفظه في الحلف ما
يخالف لفظ يمينه، كنيته بنسائه طوالق بناته أو أخواته ونحوها، فإذا حلف
وتأول في يمينه نفعه التأويل، ولم يحنث إلا أن يكون ظالمًا بحلفه، والضابط
أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام، لأنه كتمان وتدليس، وكلما حرم بيانه
فالتعريض فيه جائز، بل واجب إذا أمكن، وإن كان جائزًا فجائز، واختار الشيخ
أنه لا يجوز التعريض في المخاطبة لغير ظالم بلا حاجة.
(عن سويد) بن حنظلة قيل جعفي وقال ابن عبد البر لا أعلم له نسبًا ولا
حديثًا غير هذا (قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا
وائل) بن حجر رضي الله عنهما (فأخذه عدو له فحلفت أنه أخي) أي ونيته أنه
أخوة في الإسلام (فقال كنت أبرهم) به (وأصدقهم) بيمينك أنه أخوك (المسلم
أخو المسلم) وقال صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم" في غير ما حديث
(رواه أبو داود) وطرق رجل الباب على أحمد فسأله عن المروذي فقال ليس هنا،
وأشار إلى يده. فو حلف ما زيد ههنا ونوى غير مكانه بأن أشار إلى غير مكانه
لم يحنث، أو حلفه ظالم ما لزيد عندك شيء وله عنده وديعة بمكان فنوى غيره لم
يحنث.
قال ابن القيم: استعمال المعاريض إذا كان المقصود رفع ضرر غير مستحق فهو
جائز، وقد يكون واجبًا إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك، وإذا
اعتقد أن غيره أخذ
(4/137)
ماله فيحلف ليردنه أو ليحضرن زيد فقال
الشيخ: الأول يظهر جدًا أنه لا يحنث؛ لأن مقصوده ليردنه إن كان أخذه
والثاني وإن لم يحصل غرضه لكن لا غرض له مع وجود المحلوف عليه فيصير كأنه
لم يحلف عليه.
(ولمسلم) وغيره (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله
عليه وسلم - قال (يمينك) أي إنما يقع (على ما يصدقك به صاحبك) لا تؤثر فيه
التورية فالمعنى يمينك التي يجوز أن تحلقها هي التي لو علمها صاحبك لصدقك
فيها، فدل الحديث على أنه إذا حلف ظالمًا بحلفه آثم بحلفه لا ينفعه التأويل
وانصرفت يمينه إلى ظاهر ما عناه المستحلف وفي المبدع بغير خلاف نعلمه (وفي
لفظ على نية المستحلف) فالتورية لا تفيد ولا يجوز الحلف إلا على ما في نفس
الأمر، فلو حلف شخص وتأول في يمينه ظالمًا حنث بحلفه ولم ينفعه التأويل.
وذكر ابن القيم وغيره أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام، لأنه كتمان
وتدليس، وجوز الأكثر التعريض في المخاطبة لغير ظالم بلا حاجة واختار الشيخ
وتلميذه أنه تدليس كتدليس المبيع ونص أحمد أنه لا يجوز التدليس مع اليمين
فلو حلف: لا يطأ نهار رمضان ثم سافر ووطئ فقال لا يعجبني لأنه حيلة، ومن
احتال بحيلة فهو حانث، وذكر ابن حامد وغيره أنه لا تجوز الحيل في اليمين،
وأنه لا يخرج منها إلا بما ورد به سمع، كنسيان وإكراه واستثناء، وأنه لا
يجوز التحلل لإسقاط
(4/138)
حكم اليمين، ولا تسقط، واستدلوا بلعن
المحلل، حتى قال الشيخ ومن أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة عد لنكاح فهو من
المعتدين فإنه يريد أن يستحل محارم الله قبل الطلاق وبعده، وغالب هذا الباب
مبني على التخلص مما حلف عليه بالحيل والمذهب أن الحيل لا يجوز فعلها ولا
يبرأ بها ولا يخرج منمها إلا بنسيان أو إكراه ونحوه.
باب الشك في الطلاق
الشك هو التردد بين أمرين لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وهو هنا مطلق التردد
بين وجود المشكوك فيه من طلاق أو عدده وعدمه، فيدخل فيه الظن والوهم.
(تقدم) في باب سجود السهو (حديث) أبي سعيد عند مسلم وغيره (فليطرح الشك)
وفي لفظ لأحمد فليلق الشك، أي يرم به ولا يعبأ به (وليبن على ما استيقن يعن
من صلاته وجاء فليتحر الصواب وقوله - صلى الله عليه وسلم - «دع ما يريبك
إلى ما لا يريبك» وقوله «لا ينصرف أحدكم حتى يسمع صوتًا أو يحد ريحًا» فدلت
هذه الأحاديث وما في معناها على أن من شك في طلاق لم يلزمه الطلاق، لأن
النكاح متقين فلا يزول بالشك، ولأنه لم يعارض يقين النكاح إلا شك محض فلا
يزول النكاح به، وهذا قول جمهور العلماء.
وكذا من شك في شرط الطلاق الذي علق عليه وجوديًا كان أو عدميًا لم يلزمه
الطلاق، ومن شك في عدد الطلاق بني
(4/139)
على اليقين، فإن شك في الثانية فواحدة، أو
في الثالثة فثنتان قال ابن القيم وغيره لأن النكاح متيقن فلا يزول بالشك،
وهو الصحيح وقول الجمهور، وقال متى وقع الشك في وقوع الطلاق فالأولى
استبقاء النكاح، بل يكره أو يحرم إيقاعه لأجل الشك، فإن الطلاق بغيض إلى
الرحمن حبيب إلى الشيطان، وأيضًا دوامه آكد من ابتدائه كالصلاة.
(وقال علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن) ولا
تعرف عينها منهن (ثم مات) المطلق لإحدى نسائه (لا يدري الشهود) الذين
أشهدهم على الطلاق (أيتهن طلق) من الأربع (أقرع بين الأربع) لتعين بالقرعة
(وأمسك منهن واحدة) تعينت بالقرعة (ويقسم بينهن الميراث) وقال أحمد في رجل
له نسوة طلق إحداهن ولم تكن له نية في واحدة بعينها يقرع بينهن فأيتهن
أصابتها القرعة فهي المطلقة، وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ونسيها وإن كان
نوى معينة طلقت بلا خلاف.
قال: والقرعة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جاء بها القرآن فهي
طريق شرعي لإخراج المجهول، فقد جعل الله طريقًا إلى الحكم الشرعي في كتابه،
وفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها، وحكم
بها علي في هذه المسألة، قال ابن القيم: وكل قول غير القول بها فإن أصول
الشرع وقواعده ترده فإن التعيين إذا لم يكن لنا سبيل إليه بالشرع فوض إلى
القضاء، والقدر، وصار
(4/140)
الحكم به شرعيًا قدريًا. شرعيًا في فعل
القرعة، قدريًا فيما تخرج به، وذلك إلى الله، وقال فإن الحق إذا كان لواحد
غير معين فإن القرعة تعينه، فهي دليل من أدلة الشرع اهـ وإن طلق إحدى
امرأتيه ونوى معينة طلقت المنوية، وإلا من قرعت وإن تبين أن المطلقة غير
التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج، أو تكن القرعة بحاكم، ما لم تشهد بذلك
بينة، فترد إليه، لأن حكم الحاكم لا يغير الشيء عن صفته باطنًا.
باب الرجعة
الرجعة إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد نكاح، بشرط الدخول
والخلوة بها، وكون الطلاق عن نكاح صحيح، وكونه دون ما يملك، وكونه بلا عوض،
فإن فقد بعضها لم تصح.
(قالت تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} خاطبه الله تشريفًا له، ثم خاطب
الأمة تبعًا فقال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} أي إذا أردتم تطلقهن
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن، وفي
قراءة (في قبل عدتهن) وتقدم أمره ابن عمر لما طلق امرأته حائضًا أن
يراجعها، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك، وقرأ {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فلا يطلقها وهي حائض ولا في طهر قد جامعها
فيه {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي احفظوها واعرفوا ابتدائها وانتهاءها، لئلا
تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج.
(4/141)
{وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ} أي في ذلك ثم
قال {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أي في مدة العدة لها حق السكنى
والنفقة على الزوج ما دامت مقيدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولها النفقة
والكسوة فهي زوجة يملك منها ما يملكه ممن لم يطلقها، إلا أنه لا قسم لها
(ولا يخرجن) أي لا يجوز لهن أن يخرجن من بيوتهن ما لم تنقض العدة، فإن خرجت
لغير ضرورة أو حاجة أثمت {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
أي إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة فتخرج من المنزل، والفاحشة تشمل الزنى
والنشوز والبذاء على أهل بيت الرجل، فيحل إخراجها (وتلك حدود الله) يعني ما
ذكر من سنة الطلاق وما بعده إلى قوله {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي
إذا بلغت المعتدات أجلهن أي شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك، ولم تفرغ
العدة بالكلية.
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي راجعوهن بمعروف محسنين إليهن في صحبتهن
وذلك قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}
يعني الرجعة {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن،
فيبن منكم من غير مقابحة ولا مشاتمة {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
أي على الرجعة إذا عزمتم عليها وعلى الطلاق، أمر منه تعالى بالإشهاد حتى
قيل بوجوبه وجعله بعضهم شرطًا، فتبطل إن أوصى الشهود بكتمانه، قال الشيخ
ولا تصح الرجعة مع الكتمان بحال، وقال أحمد: يفرق بينهما ولا رجعة له
عليها، فيلزم إعلان الرجعة والإشهاد كالنكاح
(4/142)
والجمهور أنه سنة لأن الرجعة لا تفتقر إلى
قبول ولا إلى ولي ولا صداق ولا رضي المرأة ولا علمها، وأجمعوا على
مشروعيته، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلهِ} أيها الشهود
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
أي هذا الذي أمرناكم به إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر، وأنه
شرعه {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا
*}.
(وقال) تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ} أي تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت،
واستثنى أهل العلم الأمة لأنها على النصف من الحرة فتمكث قرءين {وَلَا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} أي لا يحل للمطلقات كتمان {مَا خَلَقَ
اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} من حيض أو حمل وهو يريد أن يراجعها لتبطل حق
الزوج من الرجعة والولد، وجعلها تعالى مؤتمنة على ذلك، ما لم تأت من ذلك ما
يعرف به كذبها.
قال تعالى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} تهديد لهن
على خلاف الحق، وفيها أن المرجع إليهن في ذلك لأنه أمر لا يعلم إلا من
جهتهن، ويتعذر إقامة البينة عليه غالبًا، فرد الأمر إليهن وتعودهن فيه،
لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالا لانقضاء العدة أو رغبة في بطئها.
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي أولى برجعتهن في
(4/143)
حال العدة بوطئها مع نية الرجعة، أو بلفظ
راجعت امرأتي ونحوه، ما لم يغتسل من الحيضة الثالثة، وإن ادعت انقضاء عدتها
في زمن يمكن انقضاؤها فيه أو بوضع الحمل الممكن وأنكره فقولها، وإلا فلا بد
من بينة {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} أي إن كان مرادهم بردها الإصلاح
والخير، قال الشيخ: لا يمكن من الرجعة إلا من أراد إصلاحًا وإمساكًا
بمعروف، وهذا في الرجعيات، وأما من طلق في نكاح فاسد أو خالع بعوض أو طلق
قبل الدخول والخلوة فلا.
ونفى تعالى الإضرار عما كانوا يفعلونه في الجاهية من تطويل العدة، وذكر
تعالى ما لهن وما عليهن بالمعروف وتقدم (إلى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي إذا راجعها فعليه أن يمسكها بالمعروف،
والمعروف كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة {أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي فيتركها حتى تنقضي عدتها وقبل الطلقة الثالثة
فتبين منه ويطلق سراحها محسنًا إليها، لا يظلمها من حقها شيئًا ولا يضار
بها، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية يطلق أحدهم ثم يراجع لا يؤويها ولا
يفارقها.
ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي إن طلق الرجل زوجته طلقة ثالثة بعدما أرسل
عليها الطلاق مرتين {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد الثلاث بل
تحرم عليه {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي حتى يطأها زوج آخر في
نكاح صحيح، قال العلماء كل موضع
(4/144)
في القرآن ذكر فيه النكاح فالمراد به
العقد، إلا هذه الآية، فالمراد به الوطء، واتفقوا على أنه شرط في جواز
عودها إلى الأول، وأنه إنما يقع الحل في الوطء في النكاح الصحيح، وأنه إن
كان الوطء في النكاح الفاسد فاتفقوا كلهم على أن الإباحة لا تحصل به، لأن
النكاح الفاسد لا اثر له في الشرع، فلا يدخل في قوله تعالى {حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.
وقال الشيخ النكاح الذي يبيحها له الذي يقران عليه بعد الإسلام، والمجيء به
إلينا للحكم صحيحًا، فعلى هذا يحلها النكاح بلا ولي ولا شهود، وكذا لو
تزوجها على أختها ثم ماتت الأخت قبل مفارقتها فأما لو تزوجها في عدة أو على
أختها ثم طلقها مع قيام المفسد فموضع نظر، فإن هذا النكاح لا يثبت به
التوارث، ولا نحكم فيه بشيء من أحكام النكاح فينبغي أن لا تحل له اهـ وإن
وطئ في حال الحيض أو الإحرام وقع الحل عند الجمهور أبي حنيفة ومالك وأحمد
وغيرهم {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي هذه أوامر الله ونواهيه، وحدود الله ما
منع الشرع من مجاوزته {فَلَا تَعْتَدُوهَا} أي فلا تجاوزها {وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}.
وحكى ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على أن الحر إذا طلق دون الثلاث
والعبد دون اثنتين أن لهما الرجعة في العدة وحكاه الوزير وغيره اتفاق أهل
العلم، وأنه إذا طلق الحر زوجته ثلاثًا لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره،
وإذا طلق العبد
(4/145)
اثنتين فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره،
ومن ادعت مطلقته ثلاثًا نكاح من أحلها وانقضاء عدتها منه وأمكن قبل، وإن لم
يمكن فقال شيخ الإسلام: من كان لها زوج وادعت أنه طلقها لم تتزوج بمجرد
دعواها باتفاق المسلمين.
(وعن عمر) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة) هي
بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين رضي الله عنهما روي أنه لما بلغ عمر هذا
الخبر اهتم له، فأوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - راجع حفصة فإنها
صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة (ثم راجعها) - صلى الله عليه وسلم - (رواه
أبو داود) ورواه النسائي وابن ماجه وغيرهم، فدل الحديث على مشروعية الرجعية
(وتقدم) قريبًا في موضعين حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما طلق امرأته
وهي حائض قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر (مره فليراجعها) فدل على
مشروعية المراجعة إذا طلق الرجل امرأته حائضًا حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر
"ثم ليطلقها إن شاء طاهرًا أو حاملاً أو يمسكها".
(وعن عائشة أن امرأة رفاعة) القرظي سمتها امرأة باعتبار ما كان أولاً أو
لاشتهارها بها وروي أنها تميمة بنت وهب (وكان طلقها آخر ثلاث تطليقات)
وللترمذي وغيره، طلقني فبت طلاقي، يعني جزم البتة ولم يبق من الثلاث شيئًا
وتقدم أنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره (فتزوجت بابن الزبير) بفتح الزاي
بن باطيًا القرظي (قالت والله يا رسول الله ما معه إلا مثل
(4/146)
هدبة الثوب) بفتح الهاء وضمها وسكون
المهملة طرف الثوب الذي لم ينسج منه، أرادت أن ذكره يشبه الهدبة في
الاسترخاء وعدم الانتشار.
(قال: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة) القرظي (لا) أي لا ترجعين إليه «حتى
تذوقي» يعني المرأة المطلقة ثلاثًا «عسيلته» بالتصغير أي لذة جماع الزوج
الثاني «ويذوق عسيلتك» أي لذة جماعها (متفق عليه) وهو حديث مشهور وقع
الإجماع عليه.
قال أهل العلم ذو العسيلة كناية عن الجماع، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج
المرأة، والعرب تسمي كل شيء تستلذه عسلاً، ولأحمد والنسائي وغيرهما عن
عائشة مرفوعًا «العسيلة هي الجماع» وعن ابن عمر: سئل نبي الله - صلى الله
عليه وسلم - عن الرجل يطلق امرأته ثلاثًا ويتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي
الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها هل تحل للأول؟ قال: «لا حتى يذوق عسيلته»
رواه أحمد والنسائي، وقال: قال: «لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر».
وفيه أحاديث أخر نحو هذا، وهو مذهب جمهور العلماء وقالوا يكفي ما يوجب
الحد، ويحصن الشخص ويوجب كمال الصداق، ويفسد الحج والصوم، فدل الحديث وما
في معناه أنه لا بد فيمن طلقها زوجها ثلاثًا ثم تزوجها زوج آخر من الوطء في
الفرج، فلا تحل للأول إلا بعده، قال ابن المنذر وغيره أجمع العلماء على
اشتراط الجماع لتحل للأول إلا سعيد بن المسيب
(4/147)
ولم يوافقه إلا طائفة من الخوارج، ولعله لم
يبلغه الحديث، واشترطوا أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني ولا
إرادة تحليل للأول.
ومن طلق دون ما يملك ثم راجع لم يملك من الطلاق أكثر مما بقي له إجماعًا،
ولو وطئها زوج غيره، لأنه غير محتاج إليه في الإحلال فلم يغير حكم الطلاق.
(وسئل عمران بن حصين) رضي الله عنه (عن الرجل يطلق ثم يراجع) أي يطلق
امرأته ثم يقع بها، أي يجامعها للرجعة، هذا لفظه (ولا يشهد) أي على رجعتها
(فقال: طلقت) أي امرأتك (لغير سنة) أي إشهاد (وراجعت لغير سنة) أي إشهاد
(أشهد على طلاقها ورجعتها) ولا تعد (رواه أبو داود) ورواه ابن ماجه وغيرهما
ولم يقل ولا تعد.
ورواه البيهقي والطبراني وزاد واستغفر الله، وسنده صحيح، واستدل به بعضهم
على وجوب الإشهاد على الرجعة، والجمهور أنه مستحب لوقوع الإجماع على عدم
وجوبه في الطلاق، والرجعة قرينته، فلا يجب فيها كما لا يجب فيه، إلا أنه
يتأكد في الرجعة للآية وهذا الخبر وغير ذلك وخروجًا من الخلاف.
(4/148)
باب الإيلاء
الإيلاء لغة الحلف، وشرعًا الامتناع باليمين من وطء الزوجة أكثر من أربعة
أشهر، بشرط أن يكون ممن يمكنه الوطء، وأن يحلف بالله، أو صفة من صفاته، وأن
يكون على ترك الوطء في القبل، وأن يحلف على أكثر من أربعة أشهر وأن تكون
ممن يمكن وطؤها، وهو محرم في ظاهر كلام الأصحاب لأنه يمين على ترك واجب.
(قال تعالى: {لِلَّذِينَ} أي للأزواج الذين {يُؤْلُونَ} أي يحلفون والألية
اليمين {مِنْ نِسَائِهِمْ} أي يحلف أحدهم على ترك وطء زوجته مدة تزيد على
أربعة أشهر {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي إن حلف أن لا يجامع زوجته
أكثر من أربعة أشهر فلا يتعرض له قبل مضيها، وبعد مضيها يوقف ويؤمر بالفيء
أو الطلاق بعد مطالبة المرأة، وهذه الآية نزلت لإبطال ما كان عليه أهل
الجاهلية من إطالة مدة الإيلاء، فإنه كان الرجل يولي من امرأته السنة
والسنتين، فأبطل الله ذلك، وانظر المولي أربعة أشهر فإما أن يفيء وإما أن
يطلق.
قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} أي رجعوا عن اليمين بالوطء {فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} عما جناه من التقصير في حقهن بسبب اليمين، فهو محظور
وعليه كفارة يمين عند الجمهور، وإن كان يمينه أقل من أربعة أشهر فله أن
ينتظر انقضاء المدة، ثم يجامع، وعليها أن تصبر وليس لها مطالبتها بالفيئة
في هذه المدة، لما ثبت في
(4/149)
الصحيحين وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم
- «آلى من نسائه شهرًا فنزل لتسع وعشرين» وهو مذهب الجمهور {وَإِنْ
عَزَمُوا الطَّلَاقَ} أي فإن حلف لا يجامع زوجته أكثر من أربعة أشهر ولم
يفيء بل عزم وحقق إيقاع الطلاق وقع، فإنه بعد مضي الأربعة يوقف إما أن يفيء
وإما أن يطلق، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور المتأخرين، وأنه لا
يقع عليها الطلاق، بمجرد مضي الأربعة قال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ} لقولهم {عَلِيمٌ} بنياتهم، وفيه أنها لا تطلق إلا بقول يسمع.
فدلت الآية: على أن من آلى من زوجته أكثر من أربعة فإن فاء وإلا طلق، وقال
الوزير وغيره، اتفقوا على أنه إذا حلف بالله أن لا يجامع زوجته أكثر من
أربعة أشهر كان موليًا فإن حلف أن لا يقربها أقل من أربعة أشهر لم يتعلق به
أحكام الإيلاء، وإذا حلف أن لا يقربها أربعة أشهر فقال مالك والشافعي وأحمد
في المشهور عنه لا يكون موليًا، يعني لا يوقف إلا بعد مضي الأربعة.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت آلى) أي حلف (رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -) على ترك وطء نسائه شهرًا واعتزلهن، فلذا قالت آلى (من نسائه وحرم)
أي حرم مارية أو شرب العسل، وهو في الصحيحين (فجعل الحرام حلالاً) لأن كل
حلال حرم لم يحرم، وعن ابن عباس أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا (وجعل في
اليمين الكفارة) وهي كفارة اليمين لما تقدم من الآية (رواه
(4/150)
الترمذي) ورجح إرساله، وقال الحافظ رجاله
ثقات.
وتقدم أنه حرم مارية أو العسل، وقال: "ما حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا
منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يمين" وتقدم أن الإيلاء: هو الحلف
بالله، أو صفة من صفاته، فلا إيلاء بحلف بنذر أو عتق أو طلاق ونحوه، ولا
بحلف على ترك وطء سريته ونحو رتقاء، ويصح من كل من يصح طلاقه من مسلم وكافر
وقن وبالغ ومميز وممن لم يدخل بها.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال إذا مضت أربعة أشهر) ممن حلف على مدة
تزيد عليها فهو مول (يوقف المولي) أي يطالب بأحد أمرين حتى يفيء أو (حتى
يطلق ولا يقع الطلاق حتى يطلق) فلا يقع الطلاق بمضي المدة (رواه البخاري
وهذا الحديث كالتفسير للآية التي هي الأصل في حكم الإيلاء (وذكره) أي ذكر
البخاري أنه يذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة وأثنى عشر رجلاً
فالمعنى (عن بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) والبضعة بكسر
الباء ما بين الثلاثة إلى التسعة، فذكره عن ستة عشر، وقال سليمان بن يسار
أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يقفون
المولي، ونحوه عن أبي صالح.
وقال أحمد بن حنبل قال عمر وعثمان وعلي وابن عمر يوقف المولي بعد الأربعة
فإما أن يفيء وإما أن يطلق، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، وهو ظاهر الآية
وإن لم يفيء بوطء
(4/151)
من آلى منها ولم تعفه ولم يطلق أمره الحاكم
بالطلاق إن طلبت ذلك منه. ويطلق عليه واحدة أو يفسخ لقيامه مقام المولي عند
امتناعه، قال الشيخ: وإن لم يفيء وطلق بعد المدة أو طلق الحاكم عليه لم يقع
إلا طلقة رجعية، وهو الذي يدل عليه القرآن ونص عليه أحمد، وإن ادعى بقاء
المدة أو أنه وطئها وهي ثيب صدق مع يمينه، وإن كانت بكرًا أو ادعت البكارة
وشهدت بذلك امرأة عدل صدقت، وإن ترك وطأها إضرارًا بها بلا يمين ولا عذر
فكمول، أو ظاهر ولم يكفر ضرب له أربعة أشهر، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق، وإن
كان بأحدهما عذر أمر أن يفيء بلسانه ثم متى قدر وطئ أو طلق.
باب الظهار
أي باب ما يذكر من حكم الظهار وكفارته، وما يتعلق بذلك، والظهار مشتق من
الظهر لقول القائل أنت علي كظهر أمي، وخص بالظهر لأنه موضع الركوب، وشبهت
الزوجة بذلك لأنها مركب الرجل، ويصح ظهار زوج يصح طلاقه، مسلم أو كافر أو
قن من كل زوجة معجلاً ومعلقًا بشرط ومؤقتًا، والأصل في الظهار الكتاب
والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} أي يقول
أحدهم لامراته أنت علي كظهر أمي أو مثل أمي وما أشبه ذلك {مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ} أي ما اللواتي يجعلونهن من زوجاتهم كالأمهات، لسن كأمهاتهم
{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} أي ما أمهاتهم {إِلَّا
(4/152)
اللائِي وَلَدْنَهُمْ} أي لا تصير أمه
بقوله أنت كأمي ونحو ذلك إنما أمه التي ولدته.
{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ} أي المظاهرون من نسائهم {مُنْكَرًا مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورًا} أي كلامًا فاحشًا باطلاً لا يعرف في الشرع، بل كذبًا
بحتًا وحرامًا محضًا منكرًا من القول في الإنشاء، وزورًا في الخبر أبطله
الشارع وجعله منكرًا لأنه يقتضي تحريم ما لم يحرمه الله، وزورًا لأنه يقتضي
أن تكون زوجته مثل أمه، وهذا باطل وذكر بعض أهل العلم أنه إذا قال لامرأته
أنت علي حرام فهو ظهار.
قال ابن القيم: لما صح عن ابن عباس وابي قلابة وسعيد بن جبير وغيرهم، ومذهب
أحمد وغيره، وذلك لأن الله تعالى جعل التشبيه بمن تحرم عليه ظهارًا،
فالتصريح منه بالتحريم أولى، وذكر أقوالاً، وقال هذا أقيس الأقوال، ويؤيده
أن الله لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم بل ذلك إليه تعالى، وإنما جعل له
مباشرة الأقوال والأفعال التي يترتب عليها التحليل والتحريم، فإذا قال أنت
علي كظهر أمي أو أنت علي حرام فقد قال منكرًا من القول وزورًا، وكذب علي
الله فإن الله لم يجعلها عليه كظهر أمه، ولا جعلها عليه حرامًا.
فقد أوجب بهذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين وهي كفارة الظهار، وقال
الموفق: أكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينوبه الظهار فليس بظهار، وهو
قول مالك وأبي حنيفة والشافعي {وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ *} عفا
عنهم وغفر لهم
(4/153)
بإيجاب الكفارة عليهم، نزلت هذه الآية في
خولة وأوس بن الصامت، وكان الظهار طلاقًا في الجاهلية، فاستفتت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قالت: كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه دخل
عليها يومًا فراجعته بشيء فغضب، فقال أنت علي كظهر أمي، ثم أرادها فامتنعت
منه، وأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته.
فأنزل الله في حكمها صدر هذه السورة {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قال أحمد ومالك وغيرهما من
السلف هو أن يعود المظاهر إلى الجماع، فيحرم قبل أن يكفر، أو يعزم عليه،
فلا تحل له حتى يكفر بما ذكر الله في هذه الآية، وكذا قاله غير واحد من أهل
التفسير هو أن يعودوا إلى الجماع الذي قد حرموه على أنفسهم فإن وطئ فيه كفر
لظهاره. قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي إعتاق رقبة كاملة مؤمنة كما
في الآية الأخرى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} المراد بالمماسة هنا
الجماع فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر، سواء أراد
التكفير، بالإعتاق أو لم يجد فكفر بالصيام أو لم يستطع فكفر بالإطعام، وهذا
مذهب جمهور العلماء وحكاه الوزير اتفاقًا.
وأنه لا يحرم سوى الوطء في الفرج، قال ابن رشد يحرم عليه الوطء، وقال
الجمهور لا يحرم ما عداه، وإن جامع قيل التكفير عصى الله تعالى والكفارة في
ذمته ولا يجب عليه كفارة ثانية، ورتب تبارك وتعالى الكفارة فقدم تحرير
الرقبة، ولا تلزم
(4/154)
إلا من ملكها أو أمكنه ذلك بثمن مثلها
فاضلاً عن كفايته ومن يمونه، وما يحتاجه كما في الحج، ولا يجزئ إلا رقبة
مؤمنة، كما في كفارة القتل ولما سأل معاوية السلمي رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن إعتاق جارية عن الرقبة التي عليه لم يستفصل، وقال لها «أين
الله» قالت في السماء قال: «من انا» قالت أنت رسول الله، قال: «اعتقها
فإنها مؤمنة».
قال الشيخ المراد مطلق الإيمان، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأن تكون
سليمة من عيب يضر بالعمل ضررًا بينًا، وتجب النية في التكفير فلا يجزئ ع تق
ولا صوم ولا إطعام إلا بنية {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي تزجرون به
{وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي بما يصلحكم عليم بأحوالكم {فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ} أي الرقبة أو كان له رقبة، إلا أنه محتاج إلى خدمته أو له ثمن
رقبة لكن محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله. {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ} فإن تخلله رمضان أو فطر يجب كعيد وأيام تشريق وحيض ونفاس
وجنون ومرض مخوف ونحوه، أو أفطر ناسيًا أو نكرهًا أو أفطر لعذر يبيح الفطر
لم ينقطع التتابع، لأنه فطر لسبب لا يتعلق باختياره.
وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهارًا انقطع التتابع، هذا مذهب الجمهور
أبي حنيفة، ومالك وأحمد، وقال الشافعي، إن وطئ نهارًا، وصحح الوزير أن
الوطء في هذه المدة عمدًا سواء كان ليلاً أو نهارًا يوجب الاستئناف بنص
القرآن وهو قوله تعالى {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وعن أحمد إن
وطئ ناسيًا لا
(4/155)
يفطر ولا ينقطع التتابع وهو قول الشافعي
وابن المنذر وظاهر اختيار الشيخ لأنه فعل المحظور ناسيًا أشبه ما لو أكل
ناسيًا {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي يجامعها وظاهر الآية وكذا
الأحاديث أن حكم العبد حكم الحر في ذلك، وحكي الإجماع على أنه إذا ظاهر
لزمه وأن كفارته بالصيام شهران، وقال مالك إن أذن له سيده بالإطعام أجزأ.
{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} الصوم لمرض أو فرط شهوة لا يصبر عن الجماع (فـ)
يجب عليه {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} ويجزئه إجماعًا لكل مسكين مدبر
أو نصف صاع من غيره عند الجمهور لكل واحد ممن يجوز دفع الزكاة إليه
لحاجتهم، واقتصر ابن القيم على الفقراء والمساكين لنص القرآن، واختار
الشيخ، أن ما يُخرج في الكفارة المطلقة غير مقدر بالشرع بل العرف قدرًا أو
نوعًا من غير تقدير ولا تمليك، وهو قياس مذهب أحمد في الزوجة والأقارب
والمماليك والضيف والأجير والمستأجر بطعامه إن كان يطعم أهله بإدام وإلا
فلا، وعادة الناس تختلف في ذلك في الرخص والغلاء واليسار والإعسار، وتختلف
بالشتاء
والصيف اهـ.
فكفارة الظهار على الترتيب وهو إجماع، فلو أعسر موسر قبل التكفير لم يجزئه
صوم وتبقى الرقبة في ذمته، ولو أيسر معسر لم يلزمه عتق ويجزئه، فلو شرع في
الصيام ثم وجد الرقبة فمذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد لا يلزمه الخروج
منه
(4/156)
والعتق، وقال مالك إن كان قد مضى فيه
{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا} أي لتصدقوا {بِاللهِ وَرَسُولِهِ} في قبول ما أتى به
الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الله عز وجل {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ}
يعني ما وصف لكم محارمه فلا تعتدوها والكفارات في لظهار فلا تتركوها فدلت
الآية على وجوب الكفارة إن وطئ قبل فراغ المدة، وأنه يلزم إخراجها قبله عند
العزم عليه، ولا تثبت في الذمة إلا بالوطء، ولا تجب قبله، وإنما يؤمر بها
من أراده ليستحله.
(وعن خولة) بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها (قالت ظاهر مني) زوجي (أوس) بن
الصامت (فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشكو إليه ويجادلني) فيه
ويقول: «اتقي الله فإنه ابن عمك» فما برحت حتى نزل القرآن وكان الظهار في
الجاهلية طلاقًا فحلفت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ما ذكر
طلاقًا، «فقال حرمت عليه» فقالت: أشكو إلى الله، وجعلت تراجع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وترفع رأسها إلى السماء. وتشكو إلى الله ما نزل بها.
وأبي صبيتها وفي بعض أخبارها تقول أشكو فاقتي وشدة حالي وأن لي صبية صغارًا
إن ضممتهم إليه ضاعوًا وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها وتقول.
اللهم إني أشكو إليك (حتى نزلت) {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} أي تخاصمك وتحاورك وتراجعك في شأنه، وما نزل به
{وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} مراجعتكما
الكلام {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ} لما تناجيه {بَصِيرٌ} بمن يشكو إليه.
(4/157)
قالت عائشة تبارك الذي وسع سمعه الأصوات
كلها إن المرأة لتحاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في ناحية
البيت أسمع بعض كلامها ويخفي علي بعضه وهي تشتكي إلى الله وتقول: أكل مالي
وافنى شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم
إني أشكو إليك، حتى أنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللهُ} الآيات (قال يعتق رقبة)
وفي رواية «يحرر رقبة» (قلت لا يجد) أي ما يعتق به رقبة (قال فيصوم شهرين
متتابعين) ففيه وجوب التتابع في الصيام (قلت إنه شيخ كبير) أي لا يطيق
الصيام فسرت ذلك بقولها (ما به من صيام) أي ليس فيه قوة على الصيام.
(قال: {فيطعم ستين مسكينًا} كفارة لظهاره (قلت ما عنده من شيء) أي يطعم به
ستين مسكينًا (فأتي) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (بعرق) بفتحتين هو
السفيفة المنسوجة من الخوص أو الزنبير، ويقال له المكتل يسع نحوًا من خمسة
عشر صاعًا، كما جاء عن أبي سلمة وصححه الترمذي وعن سليمان بن يسار وغيرهما
وهو مذهب أحمد وغيره، والمشهور عرفًا، فيكون لكل مسكين مد.
(فقلت سأعينه بآخر) قال قد أحسنت أي في تلك الإعانة (قال فأطعمي بها عنه
ستين مسكينًا) كفارة لظهاره (وارجعي إلى ابن عملك رواه أبو داود) وأحمد
والترمذي وحسنه وصححه الحاكم وتكلم فيه بعضهم، ولأبي داود عن عروة أن جميلة
كانت تحت أوس وكان به لمم فإذا اشتد لممه ظاهر من
(4/158)
امرأته فنزلت الآية وله عن عائشة نحوه.
(وعن سلمة بن صخر) البياضي وبنو بياضة بطن من بني زريق من ولد جشم بن
الخزرج الأنصاري رضي الله عنه (قال دخل رمضان) قال: وكنت امرءًا أصيب من
النساء ما لا يصيب غيري، كناية عن كثرة شهوته (فخشيت أن أصيب امرأتي) وقال
يتابع بي حتى أصبح، أي يلازمين ملازمة الشر، والتتابع الوقوع في الشر من
غير فكر (فظاهرت منها) أي قال هي كظهر أمي حتى ينسلخ شهر رمضان، ففيه أن
الظهار المؤقت كالمطلق، وإن كان دون أربعة أشهر له حكمه إذا أصابها قبل
انقضاء المدة.
(فانكشف لي شيء منها) وفي لفظ فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها
شيء (فوقعت عليها) أي جامعها وفيه فما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر،
وقلت امشوا معي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: لا والله لا
نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فيا مقالة يبقى فينا عارهًا، ولكن اذهب أنت، فانطلقت إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: «أنت بذاك أنت بذاك» ثلاثًا، ثم قلت نعم ها
أنا فأمض في حكم الله فأنا صابر له (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- «حرر رقبة» وفي لفظ «اعتق رقبة» ظاهره صغيرًا كان أو كبيرًا ذكرًا أو
أنثى إلا ما يمنع دليل الإجماع منه.
(4/159)
(فقلت) والذي بعثك بالحق (ما أملك إلا
رقبتي) ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي بيدي (قال: فصم شهرين
متتابعين قلت، وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام) أي بسبب الصيام (قال أطعم
فرقًا من تمر) وفي لفظ «وسقا من تمر» والوسق ستون صاعًا وفي رواية «عرقا من
تمر» وتقدم أنه: خمسة عشر صاعًا، وأمره أن يطعم {سِتِّينَ مِسْكِينًا} قال:
والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين أي جائعين ما لنا طعام، قال: "فانطلق إلى
صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فاطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر، وكل
أنت وعيالك بقيتها".
فرجعت إلى قويم فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي - صلى
الله عليه وسلم - السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم (حسنه الترمذي)
وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والحاكم، وظاهرها أن حكم
العبد حكم الحر في ذلك ونقل ابن بطال الإجماع على أن العبد إذا ظاهر لزمه
وأن كفارته بالصيام شهران كالحر وأجمعوا على أن الكفارة في الظهار على
الترتيب وفيه أنها لا تسقط لأنه أعانة بما
يكفر به.
(وللخمسة) وغيرهم من طرق (وصححه) أي الترمذي (عن ابن عباس) رضي الله عنهما
(أن رجلاً ظاهر من امرأته) وفي رواية فرأى بريق ساقها في القمر وفي لفظ
بياض ساقها في
(4/160)
القمر (ثم وقع عليها) جامعها بعد ظهاره
منها (فأتى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -) يسأله عما فعل معها (فقال إني وقعت عليها قبل
أن أكفر) أي كفارة الظهار (قال فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) وفي
رواية فأمره أن يكفر، وفي رواية "فاعتزلها حتى تكفر" أي عن ظهارك.
ودل الحديث على أنه يحرم وطء الزوجة المظاهر منها قبل التكفير، وهو إجماع
ولما تقدم من قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ولو وطئ ولم يسقط
التكفير، ولا يتضاعف لقوله «حتى تكفر» ولما رواه الترمذي وابن ماجه من حديث
سلمة في المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال: "كفارة واحدة، قال الترمذي والعمل
عليه عند أكثر أهل العلم وقال ابن دينار سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر
يجامع قبل التكفير فقالوا كفارة واحدة، وهو قول الأئمة الأربعة وغيرهم من
الفقهاء، ودل على ثبوت الكفارة في الذمة.
باب اللعان
من اللعن لأن الملاعن يلعن نفسه في الخامسة وقيل لأن اللعن الطرد والإبعاد
وهو مشترك بينهما، واللعان شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين مقرونة بلعنة
وغضب، ويشترط كونه بين زوجين مكلفين وسبق قذفه منها بزنى، وأن تكذبه وأن
يستمر إلى انقضاء اللعان، وأن يكون بحكم حاكم، والأصل فيه الكتاب والسنة
والإجماع.
(4/161)
(قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ}) أي يقذفون نساءهم ويعسر على أحدهم إقامة البينة، {وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} يشهدون على صحة ما قالوا {إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}
أي غير أنفسهم فلهم إسقاط الحد باللعان {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} التي تدرأ
عنه الحد إذا قذف امرأته {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} أي يشهد أربع
شهادات بالله بأن يقول: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه وذلك في مقابلة أربعة
شهداء {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أي فيما رماها به من الزنى وعند
الشيخ وغيره أنه لا يلزم قول فيما رماها به وهذا فرج من الله للأزواج إذا
قذف أحدهم زوجته وعسر عليه إقامة البينة لنفي الولد وإسقاط الحد عنه أن
يلاعنها كما أمر الله وقدم لأن جانبه أرجح من جانب المرأة قطعًا فإن إقدامه
على إتلاف فراشه ورميها بالفاحشة على رءوس الأشهاد وتعريض نفسه لعقوبة
الدنيا والآخرة مما تأباه طباع العقلاء وتنفر عنه نفوسهم لولا أن الزوجة
اضطرته بما رآه وتيقنه منها إلى ذلك.
وجوز طائفة من العلماء ملاعنة الرجل امرأته إذا رأى رجلاً يعرف بالفجور
يدخل عليها ويخرج من عندها نظرًا إلى الأمارات والقرائن، وقال النووي: يجوز
مع غلبة الظن بالزنى ومع العلم ويحرم مع عدمها، (والخامسة أن لعنة الله
عليه إن كان من الكاذبين) أي ويزيد شهادة خامسة أن لعنة الله عليه إن كان
من الكاذبين عليها فيما رماها به من الزنى وحكمه سقوط الحد عنه وبينونتها
منه. {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} أي يدفع عنها
(4/162)
الحد {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ
بِاللهِ} أي ثم تقول هي أربع مرات أشهد بالله {إِنَّهُ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ} أي عليها فيما رماها به من الزنى، وذلك أن تقول أربع مرات
أشهد بالله لقد كذب علي فيما رماني به من الزنى (والخامسة أن غضب الله
عليها إن كان من الصادقين) أي فيما رماها به من الزنى.
وذلك أنه حيث لا شاهد له إلا نفسه مكنت المرأة أن تعارض أيمانه بأيمان
مكررة مثلها وسن أن يأمر الحاكم من يضع يده على فم زوج وزوجة عند الخامسة
ويقول: اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وذكر ابن
رشد وغيره أن صفة اللعان عند جماهير العلماء على ما تضمنته ألفاظ الآيات
الكريمة وإذا تم اللعان سقط عنه الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير
محصنة بلا نزاع، أو كانت ذمية أو أمة، وثبتت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد،
وخصها بالغضب لأن المغضوب عليه هو الذي يعرف الحق ويحيد عنه، ولعظم الذنب
بالنسبة إليها، واختير في حقه اللعن لأنه قول وهو الذي بدأ به.
ويسن تلاعنهما قيامًا لما يأتي، ولأنه أبلغ في الردع بحضرة جماعة لحضور ابن
عباس وغيره، فإن نكلت صارت أيمانه مع نكولها بينة قوية لا يعارض لها. قال
ابن القيم: والذي يقوم عليه الدليل أن الزوجة تحد وتكون أيمان الزوج بمنزلة
الشهود،
كما قاله مالك والشافعي، قال: ويحكم بحدها إذا نكلت عن الأيمان، وهو الصحيح
وهو الذي يدل عليه القرآن في قوله {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} والعذاب
ههنا هو العذاب المذكور في أول السورة، فأضافه أولاً وعرفه، باللام ثانيًا،
وهو عذاب واحد، اهـ، وجزم به الشيخ وغيره.
وإن قذف الصغيرة أو المجنونة عزر ولا لعان، لأنه أيمان لا تصح من غير مكلف
وإن قال وطئت زوجته بشبهة أو مكرهة أو نائمة فلا لعان بينهما، لأنه لم
يقذفها بما يوجب الحد، وإن قال لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فشهدت امرأة
ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال: سأل فلان) وفي رواية رجل من الأنصار
وفي حديث ابن عباس هلال بن أمية، وفي لفظ أنه أول من سأل عن ذلك (رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال: أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، أي
أخبرني عن حكم من يقع له ذلك (كيف يصنع) قاله غيره منه على فساد فراشه، وفي
لفظ حديث سهل في قصة عويمر العجلاني لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً كيف
يصنع (إن تكلم تكلم بأمر عظيم) وهو قذف زوجته (وإن سكت سكت على مثل ذلك) أي
على أمر عظيم. وفي قصة عويمر إن تكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت
على غيظ (فلم يجبه) وثبت أن سعدًا قال: يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً
لم أمسه حتى أتى بأربعة شهداء
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نعم» قال كلا والذي بعثك بالحق إن
كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، فقال: «اسمعوا إلى ما
(4/163)
يقول سيدكم إنه لغيور، وأنا أغير منه والله
أغير مني».
والجمهور على منع الإقدام على قتله، وقالوا يقتص منه إلا أن يأتي ببينة
الزنى، أو يعترف المقتول وأن يكون محصنًا، وقال بعض السلف لا يقتل ويعذر
إذا ظهرت أمارات صدقه (فلما كان بعد) أي بعد أيام (أتاه فقال إن الذي سألتك
عنه قد ابتليت به فأنزل الله الآيات) وأكثر الروايات وقول الجمهور أن سبب
نزول الآيات قصة هلال بن أمية وزوجته، وكانت متقدمة على قصة عويمر، وإنما
تلاها عليه لأن حكمها عام للأمة، وفي لفظ فقال اللهم افتح، وجعل يدعو فنزلت
آية اللعان، وقيل سنة سبع، وللبخاري وغيره من حديث أنس أن هلالاً لما قذف
امرأته بشريك بن سحماء قال - صلى الله عليه وسلم - «البينة أو حد في ظهرك»
فنزلت الآية، فدلت الآية والأحاديث على أنه إذا قذف زوجته بالزنى وعجز عن
إقامة البينة وجب عليه الحد.
وإذا وقع اللعان سقط عنه الحد وهو مذهب الجمهور، والملاعنة من فرج الله له
فإنه يلحق بزناها من العار والمسبة وفساد الفراش، وإلحاق ولد غيره به، وغير
ذلك ما هو معروف، فهو محتاج إلى قذفها، وتخلصه من العار، وأن لا يكون زوج
بغي، ولا يمكنه إقامة البينة على زناها في الغالب، وهي لا تقربه، وقوله
عليها غير مقبول، فلم يبق سوى تحالفهما بأغلظ الأيمان، وتأكيدها بدعائه على
نفسه باللعنة، ودعائها على نفسها
(4/165)
بالغضب إن كانا كاذبين، ثم يفسخ النكاح
وينتفي هو من الولد.
(فتلاهن) أي آيات اللعان المتقدمة عليه (ووعظه) ولأبي داوود وغيره عن ابن
عباس فذكرهما (وذكره) والعطف هنا عطف تفسير إذ الوعظ هو التذكير (وأخبره أن
عذاب الدنيا) وهو الحد (أهون من عذاب الآخرة) الموعود به في قوله تعالى
{لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وفي حديث
أنس «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب» (قال والذي بعثك بالحق
ما كذبت عليها أي فيما رماها به من الزنى (ثم دعاها فوعظها كذلك) كما وعظ
الرجل وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة (قالت والذي بعثك
بالحق إنه لكاذب) أي عليها فيما رماها به من الزنى.
(فبدأ بالرجل) فقال: «قم فاشهد أربع شهادات بالله إنك من الصادقين» (فشهد
أربع شهادات بالله) إنه لمن الصادقين فدل الحديث على أنه يبدأ به كما تقدم
في الآية الكريمة وهو قياس الحكم الشرعي، لأنه المدعي، وأجمعوا على أن
تقديمه سنة، والجمهور على وجوبه لخبر "البينة وإلا حد في ظهرك" فشهد أربع
شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من
الكاذبين (ثم ثَنى بالمرأة) "فشهدت أربع شهادته بالله إنه لمن الكاذبين
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وفي حديث أنس فلما كانت
عند الخامسة وقفوها
(4/166)
فقالوا إنها موجبة، فلتكأت ونكصت حتى ظننا
أنها ترجع، ثم قالت: لا أفصح قومي سائر اليوم، فالمعتبر التصريح لا
الدلالات الظنية ولا الشبه (ثم فرق بينهما رواه مسلم).
فدل الحديث كالآيات على صفة اللعان، ودل على أن الفرقة بينهما لا تقع إلا
بتفريق الحاكم وهو مذهب كثير من العلماء لا بنفس اللعان، والجمهور أن
الفرقة تقع بنفس اللعان كما في صحيح مسلم من قوله - صلى الله عليه وسلم -
«ذاكم التفريق بين كل متلاعنين» وقوله الآتي «لا سبيل لك عليها» ولأبي داود
عن ابن عباس «وقضى أن ليس عليه قوت ولا سكنى» من أجل أنهما يفترقان بغير
طلاق، وهو ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان.
(ولهما عنه) أي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم
- قال: «لا سبيل لك عليها» أي لا ملك لك عليها، ولا يجوز لك أن تكون معها،
بل حرمت عليك أبدًا، وهذا إبانة للفرقة بينهما كما تقدم (قال: مالي) يريد
به الصداق الذي سلمة إليها، يعني إذا حصلت الفرقة فأين ذهب ما أعطيتها من
المهر (قال: إن كنت صدقت عليها) فيما رميتها به (فهو بما استحللت من فرجها)
أي فالمهر في مقابلة وطئك إياها (وإن كنت كذبت عليها) فيما رميتها به (فذلك
أبعد لك منها) أي فأيضًا مهرك في مقابلة وطئك إياها، كما لو صدقت فعود
المهر إذا كنت كذبت عليها أبعد، لأنه لم يعد المهر مع صدقك، فلأن لا يعود
إليك مع أنك كاذب أولى.
(4/167)
فدل الحديث على الفرقة باللعان، وأن أحدهما
كاذب في نفس الأمر، وحسابه على الله، وأنه لا يرجع بشيء من الصداق، لأنه إن
كان صادقًا في القذف فقد استحقت المال بما استحل منها، وإن كان كاذبًا، فقد
استحقته أيضًا بذلك، ورجوعه إليه أبعد، لأنه هضمها بالكذب عليها، فكيف
يرتجع ما أعطاها، وهو إجماع في المدخول بها، وغير المدخول بها الجمهور: أن
لها النصف كغيرها من المطلقات قبل الدخول.
(ولأبي داود) والنسائي وغيرهما، ووثقه الحافظ (عن ابن عباس) رضي الله عنهما
(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أن يضع يده عند الخامسة
على فيه وقال إنها الموجبة) أي للعذاب والفرقة، فدل الحديث على أنه يشرع
للحاكم المبالغة في منع الحلف خشية أن يكون كاذبًا، فإنه - صلى الله عليه
وسلم - منع بالقول والتذكير والوعظ كما تقدم، ثم منع في هذا الخبر بالفعل،
وكما تقدم في حديث أنس أنهم وقفوها عند الخامسة وقالوا إنها الموجبة، ودل
على أن اللعنة الخامسة واجبة.
(وله) أي لأبي داود وغيره (عن سهل) بن سعد الساعدي رضي الله عنه (قال مضت
السنة بعد في المتلاعنين أنه يفرق بينهما).
ولمسلم في قصة عويمر كان فراقه إياها سنة في المتلاعنين أي تفريقًا مؤبدًا
(ثم لا يجتمعان أبدًا) فيه تأبيد الفرقة، وأخرجه
(4/168)
البيهقي بلفظ فرق رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بينهما وقال: «لا يجتمعان أبدًا» وفي الصحيحين في قصة عويمر
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ذاكم التفريق بين كل متلاعنين» وعن علي
وابن مسعود قالا مضت السنة بين المتلاعنين أن لا يجتمعان أبدًأ، وعن عمر
يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا، ولأبي داود عن ابن عباس " وقضى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أن لا مبيت لها عليها ولا قوت من أجل أنهما يفترقان
من غير طلاق ولا متوفى عنها" فدلت الأحاديث والآثار على التحريم المؤبد،
وهو مقتضى حكم اللعان، ومذهب جمهور العلماء، فإن لعنة الله وغضبه قد حلت
بأحدهما لا محالة ومذهب الجمهور أنه فسخ.
(ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحيهما (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال:
فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما) أي المتلاعنين (وألحق الولد
بالمرأة) أي صيره لها وحدها، ونفاه عن الزوج، فلا توارث بينهما، وأما الأم
فترث منه ما فرض الله لها وتقدم ولأبي داود من حديث سهل فكان الولد ينسب
لأمه وفي رواية: يدعى لأمه وفي الصحيحين من حديث أنس ما يدل على أنه ينتفي
باللعان، وإن لم يذكر النفي في اليمن وفيهما في قصة
هلال وزوجته أنها كانت حاملاً وأنه نفى الحمل، فدلت الأحاديث على مشروعية
اللعان لنفي الولد، وعلى صحته
قبل الوضع، ونفي الحمل، وإن لم يذكر في اللعان صريحًا أو تضمنًا، أو كذب
نفسه بعد ذلك لحقه نسبه، وإلا
(4/169)
انتفى لكن بشرط أن لا يتقدمه نفي أو إقرار
به أو بما يدل عليه.
(ولأبي داود) في حديث طويل (عن ابن عباس) رضي الله عنهما قال: (وقضى) يعني
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ولد المتلاعنين إذا نفاه الزوج (أن لا
يدعى ولدها لأب) لانتفائه منه (ولا يرمى ولدها) أي أنه ولد زنى (ومن رماها)
أي بالزنى (أو رماه) بذلك (فعليه الحد) أي حد القذف، ورواه أحمد وغيره، وله
من حديث عمرو بن شعيب "قضى في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه ومن
رماها به جلد ثمانين جلدة ومن دعاه ولد زنى جلد ثمانين" قال عكرمة: فكان
بعد ذلك أميرًا على مصر ولا يدعى لأب.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: جاء رجل) اسمه ضمضم بن قتادة (من بني
فزارة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ولدت امرأتي غلامًا
أسود) وهو حينئذ يعرض بأنه ينفيه (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
«هل لك من إبل) ليمثل له بها (قال: نعم» لي إبل (قال: ما ألوانها؟) حمر بيض
سود؟ (قال: حمر) أي أكثرها (قال: هل فيها من أورق) وهو الذي في لونه سواد
ليس بحالك (قال: نعم قال: فإنى ذلك) جاءها أي إذا كان ألوان غبلك الحمرة
فمن أين ترى حصل الأوراق (قال لعله نزعه عرق) أي جذبه إلى اللون الأورق
والمراد بالعرق الأصل من النسب (قال فلعل ابنك) الذي ولدته امرأتك أسود
(نزعه عرق) أي فكما أن هذا عرق نزعها فلون ولدك أيضًا نزعه عرق، ولم يرخص
له في
(4/170)
انتفائه (متفق عليه) ولأبي داود إن امرأتي
ولدت غلامًا أسود وإني أنكره وأنا أبيض فكيف يكون مني؟
فدل الحديث على أنه لا يرخص لمن جاء في ولده لون يخالف لون أبيه أو أمه أن
ينفيه بمخالفة صورتهما فإنه - صلى الله عليه وسلم - حكم بأن الولد للفراش
ولم يجعل خلاف الشبه واللون دلالة يجب الحكم بها، وضرب له المثل بما يوجد
من اختلاف الألوان في الإبل ولقاحها واحد، وحكي الإجماع على أنه لا يجوز
نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة إن لم ينضم إليه قرينة زنى، وإن
اتهمها بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز، والمذهب يجوز مع القرينة
مطلقًا، ولا يجب الحد بالكنية والتعريض بالقذف، وإنما يجب في القذف الصريح،
وهذا مذهب الجمهور.
وقال النووي إذا كان على جهة السؤال لا حد فيه، وإنما يجب الحد في التعريض
إذا كان على المواجهة والمشاتمة وفرق بعضهم بين الزوج والأجنبي في التعريض،
أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة، والزوج قد يعذر بالنسبة إلى صيانة النسب.
(ولهما عن عائشة) رضي الله عنها (قالت دخل علي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - مسرورًا) وقال بعض الرواة تبرق أسارير وجهه، أي من السرور (فقال:
ألم تري) أي لم تعلمي يا عائشة (أن مجززًا المدلجي) القائف المشهور، ومجزز
اسم فاعل من الجز، لأنه جز نواصي قوم (نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد)
بن حارثة
(4/171)
ابن شراحيل الكلبي مولى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وذلك أن أمه زارت قومها وهو معها فأغارت خيل لبني القين
في الجاهلية على أبيات بني معن فاحتملوه وعرضوه في عكاظ فاشتراه حكيم بن
حزام لعمته خديجة، ثم وهبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم أبوه
بفدائه فاختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجه زينب وقيل بمولاته
أم أيمن فولدت له أسامة وكان أسود قالت: (فقال إن هذه الأقدام بعضها من
بعض) أي أسامة من زيد، وكان زيد أبيض غاية البياض وأسامة أسود غاية السواد.
وأما أسامة أم أيمن جارية حبشية الأصل، ورثها النبي - صلى الله عليه وسلم -
من أبيه عبد الله فأعتقها، فدل الحديث على ثبوت العمل بالقافة، وصحة الحكم
بقولهم في إلحاق الولد، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يظهر عليه السرور
إلا بما هو الحق عنده، وكان الناس قد أرتابوا في زيد بن حارثة وابنه أسامة
وكان زيد أبيض، وأسامة أسود فتمارى الناس في ذلك وتكملوا فيه، فلما سمع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول المدلجي فرح به.
فالقافة والقرعة طريقان شرعيان أيهما حصل وقع به الإلحاق فإن حصلا معًا فمع
الاتفاق لا إشكال ومع الاختلاف فالاعتبار بالأول منهما لأنه طريق شرعي يثبت
به الحكم، ولا ينقضه طريق آخر يحصل بعده.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال)
لما نزلت آية المتلاعنين «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم» بأن تنسب
إلى زوجها ولدها من غيره (فليست من الله في
(4/172)
شيء) بريئة من الله، وهذا وعيد شديد (ولن
يدخلها جنته) بل يعذبها، وهذا أيضًا وعيد فيعد ذلك من الكبائر «وأيما رجل
جحد ولده وهو ينظر إليه» أي يعلم أنه ولده «احتجب الله عنه» وعيد شديد
«وفضحه على رءوس الأولين والآخرين» بجحوده ولده وهو ينظر إليه ويتحقق ذلك
(رواه أبو داود) ورواه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان وغيره، ولأحمد من
حديث مجاهد عن ابن عمر نحوه والبزار عن ابن عمر، وفيه أن الله يرى في
الآخرة وأنه لا غاية في النعيم أعظم من النظر إلى وجه الله الكريم.
وعبر بالجحود ليفيد مع الوعيد على النفي الوعيد على قذف الزوجة فباء بأعظم
الإثم، نعوذ بالله من غضبه، وعن ابن عمر: من أقر بولده طرفة عين فليس له أن
ينفيه، رواه البيهقي، وأجمعوا على أنه لا يصح النفي للولد بعد الإقرار به،
ومن ولدت زوجته من أمكن أنه منه لحقه نسبه لخبر «الولد للفراش» وذلك بأن
تلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه، أو دون أربع سنين منذ أبانها.
وذكر ابن القيم أنه وجد لأكثر لكن بشرط أن يكون ممن يولد بمثله. واتفقوا
على أن الأمة تصير فراشًا بوطء السيد، فمن أقر بوطء أمته فولدت لنصف سنة
فإنه يلحقه إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه.
ومن أقر بنسب أو شهدت به بينة فشهدت بينة أخرى أن هذا ليس من نوع هذا بل
هذا رومي وهذا فارسي فقال
(4/173)
الشيخ: التغاير بينهما إن أوجب القطع بعدم
النسب فهو كالبينة، مثل أن يكون أحدهما حبشيًا والآخر روميًا ونحو ذلك فهذا
ينتفي النسب، وإن كان أمرًا محتملاً لم ينفه لكن إن كان المقتضي للنسب
الفراش، لم يلتفت إلى المعارضة، وإن كان المثبت له مجرد الإقرار أو البينة
فاختلاف الجنس معارض ظاهر.
(4/174)
|