الإحكام شرح أصول الأحكام

كتاب العدد
واحدها عدة كبسر العين وهي التربص المحدود شرعًا مأخوذ من العدد لأن أزمنة العدد محصورة مقدرة، والعدة حرم لانقضاء النكاح لما كمل، والقصد منها: استبراء الرحم من الحمل لئلا يطأها غير المفارق لها قبل العلم، فيحصل الاشتباه وتضيع الأنساب، وتعظيم خطر هذا العقد وقضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين، والقيام بحق الله، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع في الجملة.
(قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق بين المؤمنة والكتابية في ذلك باتفاق أهل العلم {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي تجامعوهن {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} أي تحصونها بالأقراء والأشهر. فدلت الآية وأجمع أهل العلم على أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها، وأن لها أن تذهب من فورها وتزوج من شاءت ولا يستثنى من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرًا، وإن لم يدخل بها بإجماع

(4/175)


العلماء، ودلت الآية على وجوب العدة بعد المسيس، ولا نزاع في ذلك. وقال الشيخ: تجب بعد المسيس باتفاق العلماء للآية اهـ (الآية) وتمامها {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي أعطوهن ما يستمتعن به، وذلك إن لم يكن سمي لها صداقًا وإلا فلها نصفه {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} أي خلوا سبيلهن بالمعروف.
(وقال) تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أي ينتظرن بأنفسهن، وتمكث إحداهن بعد طلاق زوجها (ثلاثة قروء) أي حيض، ثم تتزوج إن شاءت وجعلها الشارع ثلاثة رعاية لحق الزوج، وهو اتساع زمن الرجعة له، وحق للزوجة وهو استحقاقها للنفقة والسكنى ما دامت في العدة، وحق للولد وهو الاحتياط لثبوت نسبه، وأخرج الأئمة الأربعة وغيرهم الأمة إذا طلقت، فإنها تعتد بقرءين، لأنها على النصف من الحرة، والقرء لا يتبعض فكمل لها قرءان، وروي عن عائشة وعمر وابنه ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة وأدخل بعض الفقهاء المفارقات بخلع أو فسخ.
والآية نص في المطلقات، وأما المفارقات بخلع أو فسخ فلم يدخلن في حكم المطلقات، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلعة أن تعتد بثلاث حيض، بل روى أهل السنن من حديث الربيع أنه - صلى الله عليه وسلم - (أمرها أن تعتد بحيضة) وتلحق بأهلها، ولأبي داود وغيره من حديث ابن عباس (أمرت أن تعتد بحيضة) وقال الترمذي الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وقال ابن

(4/176)


القيم: محال أن يكون الآمر غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، والصريح يفسره، وقال النحاس هو إجماع من الصحابة.
وقال الشيخ: أصح الروايتين دليلاً عن أحمد أنها تعتد بحيضة، وهو مذهب عثمان وابن عباس، وقد حكى إجماع الصحابة، ولم يعلم لهما مخالف، ودلت عليه السنة الصحيحة، وعذر من خالفهما أنها لم تبلغه، وهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر، قال ابن القيم: وأما النظر فإن المختلعة لم تبق لزوجها عليها عدة فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها، كالمسبية والمهاجرة وكذا الزانية والموطوءة بشبهة اختاره الشيخ: وهو الراجح أثرًا ونظرًا.
(وقال) تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} فلا يرجين أن يحضن {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي شككتم فلم تدروا ما عدتهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} ولما نزلت {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} قال خلاد بن النعمان أو أبي بن كعب يا رسول الله فما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى، فأنزل الله {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} يعني القواعد اللاتي قعدن عن الحيض {إِنِ ارْتَبْتُمْ} في حكمهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يعني الصغار اللائي لم يحضن ويوطأ مثلهن فعدتهن أيضًا ثلاثة أشهر، وأما من لا يوطأ مثلها كبنت دون تسع أو ممن لا يولد لمثله كابن دون عشر فلا عدة عليها لبراءة الرحم بخلاف المتوفى عنها فتعتد مطلقًا.

(4/177)


(وأولات الأحمال) مطلقة أو متوفي عنها (أجلهن) أي منتهى عدتهن {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قال ابن عباس وغيره عدة الحامل المتوفى عنها أبعد الأجلين اهـ، سواء كان الحمل واحدًا أو أكثر، كامل الخلقة أو ناقصها، إذا كان فيه صورة خلقة آدمي، سواء طلقها زوجها أو مات عنها، فوضع الحمل هو مقدم الأجناس كلها، فإذا وجد فالحكم له، ولا الالتفات إلي غيره، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة عند جمهور العلماء من السلف والخلف، لهذه الآية والأخبار الصحيحة الآتية وغيرها وروى الضياء وغيره عن أبي بن كعب قلت يا رسول الله هي المطلقة ثلاثًا؟ أو المتوفى عنها؟ قال: «هي طلقة ثلاثًا والمتوفى عنها».
وعن ابن مسعود وغيره نحوه، مما يدل على أن الآية على عمومها في جميع العدد، وأن عموم آية البقرة مخصص أو منسوخ بهذه الآية الكريمة، وقد حصل نزاع بين السلف في المتوفى عنها أنها تتربص أبعد الأجلين ثم حصل الاتفاق على انقضاء عدتها بوضع الحمل، وقال الوزير وغيره اتفقوا على أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أو المطلقة الحامل أن تضع حملها، بشرط أن يلحق به، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.
(وقال) تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} أي يتوفى عنهن أزواجهن يموتون، وتتوفى آجالهم ويتركون أزواجًا

(4/178)


{يَتَرَبَّصْنَ} أي ينتظرن {بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ذكر العشر مؤنثة لإرادة الليالي، والمراد مع أيامها عند الجمهور، فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة، يعتددن بترك الزينة والطيب النقلة على فراق أزواجهن هذه المدة، وهذا الحكم شمل الزوجات المدخول بها وغير المدخول بها بالإجماع، إلا أن يكن حوامل فعدتهن بوضع الحمل، كما تقدم، وكانت عدة الوفاة في الابتداء حولاً كاملاً، ثم نسخت بأربعة أشهر وعشر.
قال الوزير وغيره اتفقوا على أن عدة المتوفى عنها زوجها ما لم تكن حاملاً أربعة أشهر وعشر، ولا يعتبر فيها وجود الحيض إلا ما روي عن مالك، وقال ابن القيم تجب عدة الوفاة بالموت دخل بها أو لم يدخل بها، لعموم القرآن والسنة واتفاق الناس، وليس المقصود من عدة الوفاة استبراء الرحم ولا هي تعبد محض، لأنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله، ويخفى على من خفي عليه، وقيل إذا طلع فجر الليلة العاشرة، وقال: الصواب أنها لا تنقضي حتى تغيب شمس يوم العاشر.
وقيل حكمة التقدير بهذه المدة والله أعلم أن الولد تتكامل خلقته وينفخ فيه الروح بعد مضي مائة وعشرين يومًا، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلة فجبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط وأما الأمة فعدتها نصف عدة الحرة، لأن الصحابة أجمعوا على تنصيف عدة الأمة في الطلاق، فكذا عدة

(4/179)


الموت، وإن مات زوج رجعية في عدة طلاق سقطت، وابتدأت عدة وفاة منذ مات، بخلاف المبانة فلا تنتقل، وفي مرض الموت الأطول منهما، وإن كانت البينونة منها أو كانت أمة أو ذمية فلطلاق فقط.
(وعن زرارة) ابن أوفى النخعي أبو عمرو توفي زمن عثمان رضي الله عنهما (قال قضى الخلفاء) الراشدون وروي أيضًا عن عمر وعلي وزيد بن ثابت (أن من أغلق بابًا) على زوجته فخلا بها (أو أرخى سترًا) عليهما وخلا بها (فقد وجب المهر) حيث خلا بها مطاوعة مع علمه بها (ووجبت العدة) حيث خلا بها (رواه أحمد) وغيره قال الموفق هذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعًا وضعف أحمد ما روي في خلافها، فدل الحديث أن العدة تلزم كل امرأة فارقت زوجها بطلاق أو خلع أو فسخ كما تقدم إذا كان خلا بها مطاوعة مع علمه بها وقدرته على وطئها.
ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حسًا أو شرعًا إلا أن يكون ممن لا يولد لمثله، أو لا يوطأ مثلها، للعلم ببراءة الرحم ما لم تكن متوفى عنها، فتعتد مطلقاً، ولا تعتد مفارقة في نكاح مجمع على بطلانه، لأن وجوده كعدمه.
(وعن أم سلمة) رضي الله عنها (أن سبيعة) تصغير سبع الأسلمية هي بنت برزة الأسلمي إحدى المهاجرات (توفي عنها زوجها) هو سعد بن خولة العامري من بني عامر بن لؤي كان توفي في حجة الوداع (وهي حبلى) فوضعت فخطبها أبو السنابل

(4/180)


وكانت مكثت قريبًا من عشر ليال ثم نفست، وللبخاري من حديث المسور: نفست بعد وفاة زوجها بليال، أي فخطبت (فقال أبو السنابل) قيل اسمه عمرو وقيل عامر وقيل أصرم بن بعكك بن الحارث من بني عبد الدار (ما يصح أن تنكحي) وفي لفظ ما يصلح أن تنكحي (حتى تعتدي آخر الأجلين) ثم جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته.
قال البخاري: إنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها، فلما تعالت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل فقال مالي أراك تجملت للخطاب فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت فجمعت علي ثياب فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فأفتاني النبي - صلى الله عليه وسلم - بأني قد حللت حين وضعت حملي) وفي رواية قال: «انكحي» (متفق عليه) ولفظ المسور: استأذنت أن تنكح فنكحت ولمسلم قال الزهري ولا أرى بأسًا أن تزوج وهي في دمها، غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر.
فدل الحديث على أن الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وإن لم يمض عليها أربعة أشهر، وعشر، ويجوز بعده أن تنكح، وهو قول جماهير العلماء، وحكي إجماعًا، إلا ما نقل عن سحنون من القول باستكمال آخر الأجلين، لكن قال الحافظ هو مردود، لأنه إحداث خلاف بعد استقرار الإجماع، ولما تقدم، ولابن ماجه أن الزبير كانت عنده أم كلثوم.

(4/181)


بنت عقبة، فقالت وهي: حامل طيب نفسي بتطليقة فطلقها تطليقة، ثم خرج إلى الصلاة وقد وضعت، فقال مالها خدعتني، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «سبق الكتاب أجله أخطبها إلى نفسها» فهذه الأحاديث وما في معناها مصرحة بأن قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عامة في جميع العدد وأن عموم آية البقرة مخصص بها كما تقدم واستقر الإجماع على ذلك.
(ولهما) أي البخاري ومسلم (عن أم عطية) رضي الله عنها (مرفوعًا لا تحد امرأة) ولو صغيرة وهو مذهب الجمهور وذكر المرأة خرج مخرج الغالب (على ميت) أب أو أم أو أخ أو غيرهم (فوق ثلاث) أي ثلاث ليال بأيامها (إلا على زوج) فتحد عليه إذا مات عنها (أربعة أشهر وعشرًا) أي فيجب الإحداد إذًا. فدل الحديث على أن عدة المتوفى عنها زوجها من غير حمل أربعة أشهر وعشر كما في الآية، إذ الإحداد ملازم لعدة الوفاة كما سيأتي، فتعتد بترك الطيب والزينة والنقلة ولها أن تحد على ميت من قريب ونحوه ثلاثًا فما دونها لغلبة الطباع البشرية ويأتي.
(وعن عائشة) رضي الله عنها قالت (أمرت بريرة) أي أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن تعتد بثلاث حيض) كحرة الأصل حيث عتقت (رواه ابن ماجه) وقال الحافظ: رواته ثقات لكنه معلول، وقد ورد ما يؤيده.

(4/182)


ودل على أن العدة تعتبر بالمرأة عند من يجعل عدة المملوكة دون عدة الحرة، وهو الجمهور كما تقدم.
(وله) أي لابن ماجه في سننه (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (عدة الأمة حيضتان) إذا كانت ممن يحضن ورواه الدارقطني مرفوعًا وضعفه ونحوه لأبي داود والترمذي من حديث عائشة وصححه الحاكم، وخالفه الجمهور فضعفوه، وتقدم أن عدة الأمة نصف عدة الحرة، وحكي أنه إجماع الصحابة، وقال الوزير أجمعوا على أن عدة الأمة بالأقراء قرآن.
(وقال عمر) رضي الله عنه (عدة أم الولد حيضتان) كالأمة إذا كانت ممن يحضن ولو لم تحض فعن أحمد شهر ونصف، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وعدة مبعضة بالحساب، ومن ادعت انقضاء عدتها بالأقراء قبل قولها إذا كان ممكنًا إلا أن تدعيه بالحيض في شهر فلا يقبل إلا ببينة.
وقال الشيخ: المذهب المنصوب أنها إذا ادعت ما يخالف الظاهر كلفت البينة، لا سيما إذا أوجبنا عليها البينة فيما إذا علق طلاقها بحيضة فقالت حضت، فإن التهمة في الخلاص من العدة كالتهمة في الخلاص من النكاح، فيتوجه أنها إذا ادعت الانقضاء في أقل من ثلاثة أشهر كلفت البينة.
(وقال) أي عمر رضي الله عنه (فيمن ارتفع حيضها) أي انقطع بعد أن كانت تحيض (ولم تدر ما رفعه) أي لم تعلم سبب

(4/183)


ارتفاعه تعتد (سنة) بين مدة الحمل ومدة العدة فقال (تسعة أشهر للحمل) إذ هي غالب مدته (وثلاثة) أشهر (للعدة)
وهي عدة من لم تحض أو انقطع حيضها، قال الشافعي هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منهم منكر
علمناه اهـ.
وإن علمت المعتدة ما رفع الحيض من مرض أو رضاع أو غيرهما فمتى زال المانع ولم تحض فتعتد سنة، كالتي ارتفع حيضها ولم تدر سببه اختاره الشيخ، واختار أيضًا أنها إن علمت عدم عوده فكآيسة.
وقال في المرضعة: تبقى في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، فإن أحبت أن تسترضع لولدها لتحيض هي، أو تشرب دواء أو نحوه تحيض به فلها ذلك.
(وقال) أيضًا عمر رضي الله عنه (في امرأة المفقود) أي في حكم امرأة المفقود، وهو الذي فقد من بين أهله ولم يعلم
خبره، كما يأتي في القصة قال عمر (تتربص أربع سنين) أي تمكث من حين رفعت أمرها إليه أربع سنين (ثم تعتد)
بعد الأربع سنين (أربعة أشهر وعشرًا) رواه مالك
والشافعي وغيرهما (وقدم زوجها الأول) الذي حكم لها بالتربص والعدة منه، وقد تزوجت أي بعد المدة التي ضرب لها
(فخيره) عمر بينها وبين الصداق الذي أصدقها إياه

(4/184)


والأثر رواه أيضًا البيهقي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم وفيه قصة الذي فقد: قال دخلت الشعب فاستهوتني الجن فمكثت أربع سنين فأتت امرأتي عمر فأمرها أن تتربص أربع سنين من حين رفعت أمرها إليه، ثم دعا وليه فطلقها ثم أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشرًا، قال: ثم جئت بعدما تزوجت فخيرني عمر بينها وبين الصداق الذي أصدقتها وهذا مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي وقول جماعة من السلف والخلف بدليل فعل عمر.
وروي عن علي تصبر حتى يأتيها يقين موته ولا يصح والله أعلم لما فيه من الحرج والضيق، وقال ابن القيم: حكم الخلفاء في امرأة المفقود كما ثبت عن عمر، وقال أحمد ما في نفسي شيء منه، خمسة من الصحابة أمروها أن تتربص، قال ابن القيم وقول عمر هو أصح الأقوال وأحراها بالقياس، وقال الشيخ: الصواب في امرأة المفقود مذهب عمر وغيره من الصحابة وهو أنها تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني باطنًا وظاهرًا ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها خير بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده.
وعلى الأصح لا يعتبر الحاكم، فلو مضت المدة والعدة تزوجت بلا حكم، وشبهه باللقطة من بعض الوجوه، وذكر أن وقف التصرف في حق الغير على إذنه يجوز عند الحاجة، وأن

(4/185)


التخيير فيه بين المرأة والمهر هو أعدل الأقوال، وأن كل صورة فرق فيها بين الرجل وامرأته بسبب يوجب الفرقة ثم تبين انتفاء ذلك السبب فهو شبيه المفقود، ولو ظنت أن زوجها طلقها فتزوجت فهو كما لو ظنت موته اهـ.
وهذا فيما إذا كان ظاهر غيبته الهلاك، وإن كان ظاهر غيبته السلامة فمذهب أحمد وغيره من السلف ينتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرًا.
وأمة فقد زوجها كحرة في التربص أربع سنين أو تسعين سنة، وفي العدة للوفاة بعد التربص المذكور نصف عدة الحرة كما تقدم، وفي المدة الأخيرة أيضًا كالأولى إن قدم الأول خير وله أخذها زوجة، ولو لم يطلق الثاني، ولكن لا يطؤها قبل فرغ عدة الثاني، وله تركها مع الثاني من غير تجديد عقد للثاني، ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني في كلا الحالتين، ويرجع الثاني عليها بما أخذه الأول منه، ومن مات زوجها الغائب أو طلقها اعتدت منذ الفرقة، وإن لم تحد، وإن وطئت بشبهة أو نكاح فاسد فرق بينهما وأتمت عدة الأول، ثم اعتدت للثاني.

فصل في الإحداد
الإحداد لغة المنع، وشرعًا ترك الطيب والزينة للمعتدات من الوفاة، ويجب عليهن لزوم المسكن وعلى المطلقات

(4/186)


الرجعيات بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة.
(قال تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أي في مدة العدة لأن لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس له أن يخرجها إذا كان المسكن الذي طلقها فيه له أو تحت تصرفه بالإجماع في الجملة {وَلَا يَخْرُجْنَ} أي لا يجوز لهن أن يخرجن ما لم تنقض العدة، لأنهن معتقلات لحق الزوج {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة، فتخرج من المنزل، والفاحشة تشمل الزنى والنشوز على الزوج، والبذاء على أهل الرجل وأذيتهم في الكلام والفعال.
(وقال) تعالى {فَإِنْ خَرَجْنَ} أي: الأزواج {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميت {فِيمَا فَعَلْنَ} تلك الأزواج المتوفى عنهن {فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يعني: التزين للنكاح، وهذه الآية قيل نسختها آية أربعة الأشهر والعشر ويتوجه فيما زاد عنها، وذكر شيخ الإسلام وغيره أنها إذا انقضت الأربعة الأشهر والعشر، أو وضعت الحمل واختارت الخروج والانتقال من المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لهذه الآية، قال ابن كثير وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.
(وعن أم عطية) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا

(4/187)


يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت) أي تمنع نفسها الزينة وبدنها الطيب على ميت من قريب كأب وأم وأخ وأخت ونحوهم (فوق ثلاث) ليال فما دونها وذلك أنه أبيح لأجل حظ النفس ومراعاتها، وغلبت الطباع البشرية (إلا على زوج) أي فيجب: أربعة أشهر وعشرًا ولمسلم «إلا امرأة فإنها تحد أربعة أشهر وعشرًا» فيلزم الإحداد كل امرأة متوفى عنها زوجها في نكاح صحيح، وأجمع المسلمون على وجوب الإحداد على الحرائر المسلمات في عدة الوفاة، إلا ما روي عن الحسن، وعند الجمهور يحرم فوق ثلاث على ميت إلا على زوج.
قال ابن القيم وهذا من تمام محاسن الشريعة وحكمتها ورعايتها على أكمل الوجوه، فإن الإحداد على الميت من تطعيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تمس طيبًا، ولا تدهن ولا تغتسل إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب وأقداره، فأبطل الله برحمته سنة الجاهلية، وأبدلنا بها الصبر والحمد، ولما كانت مصيبة الموت لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن مما تتقاضاه الطباع، سمح لها الحكم الخيبر في اليسر من ذلك.
وهو ثلاثة أيام تجد بها نوع راحة، وتقضي بها وطرًا من الحزن، وما زاد فمفسدته راجحة، فمنع منه بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحة مغمورة بمصلحتها، فإن

(4/188)


فطام النفوس عن مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي.
والمقصود أنه أباح لهن لضعف عقولهن، وقلة صبرهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام وأما الإحداد على الزوج فإنه تابع للعدة، وهو من مقتضياتها ومكملاتها، وهي أنها تحتاج إلى التزين لتحبب إلى زوجها، فإذا مات وهي لم تصل إلى آخر فاقتضى تمام حق الأول الأول وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله أن تمنع مما تصنع النساء لأزواجهن مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال، وطمعهم فيها بالزينة.
قال - صلى الله عليه وسلم - «فإنها لا تكتحل» أي المتوفى عنها زوجها فدل على تحريم الاكتحال على المرأة في أيام عدتها من موت زوجها إلى انقضاء عدتها، هو مذهب الجمهور ويأتي تفصيله (ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا) بأي لون من ألوان الصبغ إلا ما استثني قال ابن المنذر أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحادة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبغة، ورخص بعضهم فيما صبغ بسواد، لأنه لا يتخذ للزينة قال (إلا ثوب عصب) برد يمانية يعصب غزلها أي يجمع ويشد ثم يصبغ وينشر فيبقى موشى، لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذ الصبغ، والمراد ما لم يكن فيه زينة فتمنع منه للتعليل بالزينة.
(ولا تمس طيبًا) وفي رواية "ولا تطيب" ففيه تحريم الطيب

(4/189)


على المعتدة، وهو كل ما يسمى طيبًا ولا نزاع في ذلك (إلا إذا طهرت) أي من حيضها (نبذة) أي قطعة نبذة (من قسط) بضم القاف ضرب من الطيب (أو أظفار) وفي لفظ "وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من قسط أو أظفار " قال النووي: نوعان معروفان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا التطيب (متفق عليه).
فدل الحديث مع ما يأتي على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وأنه لا إحداد على المطلقة، فإن كان رجعيًا فإجماع، وإن كان بائنًا فمذهب الجمهور أنه لا إحداد عليها، وهو ظاهر في غير المطلقة ثلاثًا فإنه يصح أن تعود مع زوجها بعقد، وأما المطلقة ثلاثًا فيباح لها الإحداد، يؤيده أنه شرع لقطع ما يدعو إلى الجماع فهي تشبه المتوفى عنها لتعذر رجوعها إلى الزوج، وأما المطلقة قبل الدخول فلا إحداد عليها، قال الحافظ اتفاقًا وإن كان النكاح فاسدًا لم يلزم المتوفى عنها الإحداد، لأنها ليست زوجة وكذا موطوءة بشبهة أو زنا.
ولا يعتبر لوجوب الإحداد كونها وارثة أو مكلفة، فيجنبها وليها الطيب ونحوه، وسواء كان الزوج مكلفًا أو لا، للعموم وللتساوي في اجتناب المحرمات، وأما الأمة فقال ابن رشد لا إحداد عليها، وبه قال فقهاء الأمصار.

(4/190)


(ولأبي داود) والنسائي وأحمد وغيرهم من حديث أم سلمة في المتوفى عنها زوجها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال «ولا تلبس المعصفر من الثياب» أي المصبوغ بالعصفر (ولا الممشقة) أي المصبوغة بالمشق وهو المغرة (ولا الحلي) أي ولا تلبس الحلي من ذهب أو فضة أو غيرهما (ولا تختضب) أي بالحناء فدل على ترك الثياب المعصفرة والممشقة للمحادة على ترك الخضاب وهو مذهب جماهير العلماء.
(وله عنها) أي لأبي داود والنسائي وغيرهما وحسنه الحافظ عن أم سلمة (في الصبر) قال - صلى الله عليه وسلم - «إنه يشب الوجه» أي يجمله ويحسنه (فلا تجعليه إلا بالليل) لأنه لا تظهر فيه الزينة «وانزعيه بالنهار» لظهور الزينة فيه وكذا الاكتحال بالإثمد للتداوي تجعله بالليل وتنزعه بالنهار وظاهره أنه يجوز للمعتدة عن موت أن تجعل على وجهها الصبر بالليل وتنزعه بالنهار لأنه يحسن الوجه فلا يجوز فعله في الوقت الذي تظهر فيه الزينة «ولا تمتشطي بالطيب» لأن الامتشاط به تطيب «ولا بالحناء» أي ولا تمتشطي بالحناء «فإنه خضاب» أي وهي ممنوعة من الخضاب.
فلا يجوز للمعتدة من وفاة أن تمتشط بشيء من الطيب، أو بما فيه زينة كالحناء ولكن بالسدر ونحوه، فإنها قالت يا رسول الله بأي شيء أمتشط؟ قال بالسدر تغفلين بها رأسك، وجملة ذلك أنها تجتنب ما يدعو إلى نكاحها، ويرغب في النظر إليها من الزينة والطيب والتحسين والحناء، وما صنع للزينة، وحلي

(4/191)


وكحل أسود، لا توتيا ونحوها، ولا نقاب وأبيض، ولا أخذ ظفر ونحوه، وتنظيف وغسل، قال ابن رشد وغيره تمتنع عند الفقهاء بالجملة من الزينة الداعية الرجال إلى النساء، وذلك كالحلي والكحل لثبوته بالسنة، لا ما لم تكن فيه زينة وثياب اللباس المصبوغة إلا السواد ورخصوا في الكحل عند الضرورة.
(وعن فريعة) بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري، شهدت بيعة الرضوان رضي الله عنها (أن زوجها قتل) وكان خرج في طلب أعلاج له فأدركهم في طرف القدوم فقتلوه، وهي في دار شاسعة من دور أهلها (فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترجع إلى أهلها) لتسكن عندهم (فإنه لم يترك لها مسكنًا) كان يملكه (ولا نفقة) قالت فلو تحولت إلى أهلي وإخواتي لكان أرفق لي في بعض شأني، وفي لفظ قال (نعم) فلما كنت في الحجرة ناداني (فقال امكثي في بيتك) الذي أتاك نعيه فيه (حتى يبلغ الكتاب أجله) وهو قوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} مع ما يأتي (قالت: فاعتددت فيه) أي في بيتها الذي توفي وهي فيه (أربعة أشهر وعشرًا)
فدل الحديث على وجوب لزوم المعتدة المسكن الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه وهو مذهب جمهور العلماء (وقضى به عثمان) ابن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه بمحضر من

(4/192)


المهاجرين والأنصار وقضى به ثاني الخلفاء الراشدين عمر وابنه وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم (رواه الخمسة) ومالك والشافعي وغيرهم (وصححه الترمذي) وابن حبان والحاكم والذهلي وغيرهم وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقال بهذا الحديث فقهاء الحجاز والشام والعراق ومصر وغيرهم، وذكر ابن عبد البر أنه معروف مشهور عندهم.
وقد دل مع ما تقدم على أن المتوفى عنها تعتد في بيتها الذي مات زوجها وهي به، لا تخرج منه إلى غيره، فلا يجوز أن تتحول منه بلا عذر لقوله: «امكثي في بيتك» مع قولها إنه لم يتركها في منزل يملكه ولا نفقة، وأن لها السكنى مدة العدة، ولما تقدم من قوله {وَلَا يَخْرُجْنَ} وقوله {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} والجمهور يقولون لا تخرج من منزلها إلا لضرورة فيجب عليها بذل الأجرة من مالها إن قدرت.
وإلا {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ومتى تحولت خوفًا على نفسها أو مالها أو حولت قهرًا، أو حولت بحق يجب عليها الخروج من أجله، أو بتحويل مالك المنزل، أو نحو ذلك مما ليس في وسعها انتقلت حيث شاءت لسقوط الواجب ولم يرد الشرع بالاعتداد في معين غيره، ويلزم منتقلة بلا حاجة العود استدراكًا للواجب قال الشيخ: وليس للمرأة أن تسافر في عدة الوفاة للحج عند الأئمة الأربعة.
(وروى مجاهد) ابن جبر رحمه الله تعالى أن نساء من

(4/193)


استشهد بأحد (قلن يا رسول الله نستوحش) وذلك أن رجالاً استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم يا رسول الله إنا نستوحش في بيوتنا يعني منفردات، وكان من المعلوم عندهن وجوب اعتدادهن في بيوتهن (قال: تحدثن عند إحداكن) من أول الليل (حتى إذا أردتن النوم) يعني بالليل (فلتؤب) وفي لفظ تأوي (كل واحدة منكن) يعني المعتدات (إلى بيتها) التي استشهد زوجها وهي به رواه الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما مرسلاً، فدل الأثر على أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن لهن بالخروج نهارًا لحاجتهن إليه من أجل الاستيحاش، لا ليلاً لأن الليل مظنة الفساد.
(وعن جابر) ابن عبد الله رضي الله عنهما (قال طلقت خالتي) لم يوقف على اسمها وذكرت في المبهمات، وفي لفظ ثلاثًا (فأرادت آن تجد) أي تقطع ثمر (نخلها فزجرها رجل أن تخرج) وفي لفظ فخرجت تجذ نخلاً لها فلقيها رجل فنهاها (فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -) فذكرت ذلك له (فقال) اخرجي و (جذي نخلك) أي اصرمي نخلك (فإنك عسى أن تصدقي) منه بحذف أحدى التائين (أو تفعلي معروفًا) وفي لفظ أو تفعلي خيرًا من التطوع والإحسان وأداء واجب الزكاة (رواه مسلم).
فدل الحديث على جواز خروج المطلقة البائن لجذ النخل ونحو ذلك، سواء كان الخروج لغرض ديني أو دنيوي، وقياسًا على المتوفي عنها ومخصص لعموم الآية وهو مذهب الجمهور.
(ولهما عن فاطمة بنت قيس) ابن خالد القرشية الفهرية

(4/194)


أخت الضحاك رضي الله عنهم (أن زوجها) عمرو بن حفص وجاء أنه أبو عمرو بن حفص المخزومي (طلقها البتة) أي البائنة أو المطلقة ثلاثًا فلا رجعة له عليها، يوضحه روايات الحديث فلمسلم من حديثها أنه طلقها ثلاثًا وفي رواية كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان خرج مع علي إلى اليمن فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها (وأرسل إليها بشيء) ولمسلم بخمسة آصع من شعير (فسخطته) فقال ما لك علينا من شيء (وذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ليس لك عليه نفقة) أي مدة العدة (ولا سكنى) حيث لا رجعة له عليها قال الحافظ المتفق عليه في جميع طرق الحديث أن الاختلاف كان في النفقة اهـ.
وفي رواية "إلا أن تكوني حاملاً" ففيه: وجوب النفقة لها إذا كانت حاملاً ودل على أنها لا تجب لمن كانت على صفتها في البينونة (وأمرها أن تعتد عند أم شريك) الأنصارية النجارية وكانت غنية ثم قيل لها: عند ابن أم مكتوم ولأحمد والنسائي وغيرهما من حديث فاطمة "إنما النفقة والسكنى لمن لزوجها عليها الرجعة" والحديث نص صحيح صريح على أن المطلقة ثلاثًا ليس لها نفقة ولا سكنى، وهو مفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فأي أمر بعد الثلاث، وهذا مذهب أحمد وأهل الحديث.

(4/195)


وقال أحمد ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إيجاب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا وقال الدارقطني السنة بيد فاطمة قطعًا، قال ابن القيم: ونحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه أن ما روي عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا «لها السكنى والنفقة» كذب على عمر وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرط الانتصار للمذاهب والتعصب على معارضة السنن النبوية الصحيحة الصريحة اهـ، فللمطلقة ثلاثًا أن تعتد بمأمون من البلد حيث شاءت، ولا تبيت إلا به، ولا تسافر، لما في البيتوتة بغير منزلها، وسفرها إلى غير بلدها من التعرض للريبة.
وإن أراد إسكانها بمنزله أو غيره تحصينًا لفراشه ولا محذور فيه لزمها، (ولمسلم) قالت فاطمة بنت قيس يا رسول الله (أخاف أن يقتحم علي) أي يهجم علي أحد بغير شعور (فأمرها فتحولت) أي عند أم شريك أو ابن أم مكتوم، كما تقدم، فدل الحديث على جواز انتقال المطلقة ثلاثًا من المنزل الذي وقع عليها الطلاق فيه، فيكون مخصصًا لعموم (ولا يخرجن) قال الحافظ: وإذا جمعت ألفاظ الحديث خرج منها، أن سبب استئذانها في الانتقال ما ذكر من الخوف عليها وأما وجوب السكنى فعند بعضهم تجب ومذهب أحمد وغيره لا نفقة لها ولا سكنى على ظاهر حديث فاطمة رضي الله عنها.

(4/196)


باب الاستبراء
الاستبراء من البراءة وهي التمييز والقطع، يقال برئ اللحم من العظم إذا قطع عنه وفصل، وشرعًا تربص يقصد منه العلم ببراءة رحم ملك يمين، سواء كانت قنًا أو مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد أو معلقًا عتقها.
(قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي من كانت حاملاً فعدتها بوضع حملها ولو بفواق ناقة عند الجمهور كما تقدم، فدلت الآية على أنه يحصل استبراء الأمة بوضع حملها، ولو بفواق ناقة سواء كانت مسبية أو مشتراة أو غير ذلك من سائر التملكات، أو بعد طلاق أو موت.
(وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال في سبايا أوطاس) واد في بلاد هوازن بحنين معروف بين مكة والطائف لا توطأ حامل حتى تضع) حملها وعن أبي
هريرة «لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره» رواه أحمد وثبت أنه مر بامرأة محج، فسأل عنها فقالوا أمة لفلان، فقال: «أيلم بها» قالوا: نعم، فقال: «لقد هممت أن ألعنة لعنًا يدخل معه في القبر كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ أم كيف
يورثه وهو لا يحل له؟». قال: (ولا غير حامل حتى تحيض حيضة) ليتحقق براءة رحمها (رواه أبو داود) وأحمد
وصححه الحاكم، وله شواهد من حديث

(4/197)


ابن عباس وأبي هريرة والعرباض بن سارية وغيرهم.
فدل الحديث وما في معناه على أنه يحرم على لارجل أن يطأ الأمة المسبية إذا كانت حاملاً حتى تضع حملها وإذا كانت حائلاً حتى تستبرأ بحيضة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء، واتفقوا على أنه يحرم وطؤها زمان الاستبراء وقياس المسبية المشتراة أو المتملكة بأي وجه من وجوه التملك بجامع ابتداء التملك، ويدل قوله: «حتى تحيض حيضة» أنه إذا اشتراها وهي حائض لم يعتد بتلك الحيضة حتى يستبرئها بحيضة مستأنفة، ومن وطئ أمته ثم أراد بيعها أو تزويجها حرما حتى يستبرئها، وإن عتقت لزمها استبراء نفسها، ومن علم براءة رحمها فلا استبراء عليها كما سيأتي، وفيه جواز وطء السبايا بعد الاستبراء وإن لم يدخلن في الإسلام، وعمل به الصحابة في عصر النبوة وفيه جواز الاستمتاع قبل الاستبراء، بدون جماع ولفعل ابن عمر وغيره.
(وله) أي لأبي داود وأحمد والترمذي وغيرهم وصححه ابن حبان وغيره (عن رويفع) تصغير رافع بن ثابت من بني مالك بن النجار المتوفى سنة ست وأربعين (مرفوعًا: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره) يعني إتيان الحبالى وفي لفظ «ولد غيره» زاد أبو داود «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها» ولأحمد «فلا ينكحن شيئًا من السبايا حتى تحيض» وللنسائي نحوه فمن ملك أمة

(4/198)


يوطأ مثلها حرم عليه وطؤها قبل استبرائها إن لم يعلم براءة رحمها.
قال الشيخ: لا يجوز لمن اشترى جارية وطؤها قبل استبرائها باتفاق العلماء، والجمهور على وجوب الاستبراء على المشتري والمتهب ونحوهم بجامع تجدد الملك، وقال علي: من اشترى جارية فلا يقربها حتى تستبرأ بحيضة، وظاهر عموم الأحاديث شمول من لم يجر عليها الحمل، وذهب جماعة من العلماء إلى أن الاستبراء إنما يكون في حق من لم يعلم براءة رحمها وأما من علم براءة رحمها فلا استبراء عليها، قال الشيخ لا يجب استبراء الأمة البكر سواء كانت كبيرة أو صغيرة وهو مذهب ابن عمر واختيار البخاري، وكذا الآيسة، ومن اشتراها من رجل صادق وأخبره أنه لم يطأها أو وطئ واستبرأ. اهـ.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال إذا وهبت الوليدة) أي القينة وقيده بعضهم بمن تولد في الرق (التي توطأ) أي فلتستبرأ (أو بيعت) يعني الوليدة (أو أعتقت فلتستبرأ بحيضة) ليعلم براءة رحمها، واستبراء من ارتفع حيضها عشرة أشهر، وتصدق الأمة إذا قالت حضت وأمكن، قال رضي الله عنه (ولا تستبرأ العذراء) يعني البكر لم توطأ (رواه البخاري) وله نحوه عن علي رضي الله عنه ويؤيده مفهوم ما تقدم، قال المازري القول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل فلا يلزم فيها الاستبراء وكل من غلب على الظن كونها حاملاً

(4/199)


أو شك في حملها، أو تردد فيها فالاستبراء لازم فيها، والأحاديث تشير إلى أن العلة الحمل أو تجويزه.

باب الرضاع
هو لغة مص اللبن من الثدي، وشرعًا مص من دون الحولين لبنًا ثاب عن حمل أو شربه أو نحوه، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} أمك هي التي ولدتك وكما حرمها عليك حكم تعالى بتحريم المرضعة وسماها أما، ويدخل فيهن الجدات، وإن علون من قبل الأم، ومن قبل الأب، كما تقدم في باب المحرمات في النكاح ويأتي «أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} جمع أخت سواء كانت من قبل الأب والأم.
أو من قبل أحدهما سماهن أخوات وحكم بتحريمهن، فدلت الآية على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، واتفق عليه أهل العلم، وحكمه حكم التناكح بشرطين، أن تكون قبل استكمال المولود حولين، وأن يوجد خمس رضعات، والسعوط والوجور محرم لما يأتي، وقال الوزير: اتفقوا على أنه يتعلق التحريم بالسعوط والوجور إلا في إحدى الروايتين عن أحمد، وأنه مقصور على الآدميات.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» متفق عليه، وفي لفظ

(4/200)


«يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» وقال الترمذي: العمل عليه عند عامة أهل العلم، فدل الحديث على أن محارم المرتضع محارم المرضعة والواطئ وبه استدل العلماء على أنه يحرم من الراضع ما يحرم من النسب وذلك بالنظر إلى أقارب المرضع لأنهم أقارب للرضيع وأما أقارب الرضيع فلا قرابة بينهم وبين المرضع.
(ولهما عن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) أي مثله في التحريم. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أريد على ابنة حمزة، فقال: «إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وإنما كانت ابنة أخيه لأنه رضع من ثويبة أمة أبي لهب، وقد كانت أرضعت عمه حمزة.
قال الشيخ: هو حديث صحيح متلقى بالقبول، متفق على صحته، فدل مع ما تقدم على أن محارم المرضعة كآبائها وأمهاتها وأجدادها، وجداتها وإخوتها وأخواتها وأولادهم وأعمامها وعماتها وأخوالها وخالاتها محارم المرتضع وأن محارم الواطئ محارم المرتضع كذلك، ولا نزاع في ذلك يعتد به، فإن أقاربهما أقارب الرضيع لما تقدم وغيره، وأما أقارب الرضيع ما عدا أولاده فلا علاقة بينهم وبين المرضع فلا يثبت لهم شيء من الأحكام فتباح المرضعة لأبي المرتضع وأخيه من النسب وتباح أمه وأخته من النسب لأبيه وأخيه من رضاع إجماعًا، كما يحل لأخيه من أبيه، وأخته من أمه.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن أفلح) أخا أبي القعيس

(4/201)


واسمه وائل بن أفلح الأشعري مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (جاء يستأذن عليها) أي على عائشة رضي الله عنها بعد الحجاب (قالت فأبيت) أي أن تأذن له (فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته) بالذي صنعت وهو أنه استأذن عليها فأبت أن تأذن له (فأمرني أن آذن له علي) أي إذا استأذن ولا تحتجب منه (وقال إنه عمك) أي من الرضاعة (متفق عليه) ولأبي داود قلت دخل علي أفلح فاستترت منه فقال أتستري مني وأنا عمك، قلت من أين؟ قال أرضعتك امرأة أخي، قالت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل.
فدل الحديث مع ما تقدم على ثبوت حكم الرضاع في حق زوج المرضعة وأقاربه كالمرضعة وذلك لأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد لما كان سبب ولد الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده، وكذلك قال ابن عباس اللقاح واحد، فإن الوطء يدر اللبن فللرجل منه نصيب، وهذا مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، حكاه عنهم غير واحد من أهل العلم، وقال الوزير اتفقوا على أن لبن الفحل محرم، وهو أن ترضع المرأة صبية فتحرم هذه الصبية على زوج المرضعة وآبائه وأبنائه ويصير الزوج الذي در اللبن علاقة أبا للمرضعة.
(ولمسلم عنها) أي ولمسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات

(4/202)


يحرمن) أي إذا ارتضع الطفل من المرأة عشر رضعات (ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن) أي إذا ارتضع الطفل من المرأة خمس رضعات (وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فيما يقرأ من القرآن) أي أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدًا أنه توفي صلوات الله وسلامه عليه وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أنه لا يتلى.
وهذا من نسخ التلاوة دون الحكم، كما هو معلوم مقرر في مواضعه، وهو أحد أنواع النسخ المعلومة المتفق عليها بين أهل العلم، وهذا الخبر مبين لما أجمل من الآية والأحاديث السابقة ويشهد له، حديث سهلة وغيره فإنها أرضعت سالمًا خمس رضعات، والرضعة هي المرة من الرضاع فمتى التقم الصبي الثدي وامتص منه ثم تركه لتنفس أو انتقال إلى ثدي آخر ونحو ذلك باختياره من غير عارض كان ذلك رضعة، فإن عاد ولو قريبًا فرضعتان كما هو المعهود، فإذا حصل خمس رضعات على هذه الصفة حرم إذا كان في الحولين قبل الفطام وحكاه الوزير وغيره اتفاقًا.
(وله) أي ولمسلم في صحيحه (عنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أن سهلة) بنت سهيل القرشية العامرية (قالت يا رسول الله إن سالمًا) قيل ابن معقل (مولى أبي حذيفة) بن عتبة

(4/203)


ابن ربيعة بن عبد شمس (معنا في بيتنا) وقالت نراه ولدًا يأوي معي ومع أبي حذيفة ويراني فضلاً (وقد بلغ ما يبلغ الرجال) يعني الحلم وذلك أن أبا حذيفة قد تبنى سالمًا وزوجه، وكان سالم مولى لامرأة من الأنصار فلما أنزل الله {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية كان من له أب معروف نسب إلي أبيه، ومن لا أب له معروف كان مولى وأخا في الدين فعند ذلك جاءت سهلة تذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال: «ارضعيه تحرمي عليه) فلا تحتجبي عنه رخص لها لما في ذلك من مشقة الاحتجاب.
فدل الحديث على أن إرضاع الكبير يحرم عند الحاجة ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال، ويروى عن علي، ويدل: عموم قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فإنه مطلق غير مقيد بوقت، ولما قالت أم سلمة لعائشة إن الحكم خاص بسالم، قالت عائشة أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ فسكتت أم سلمة ولو كان خاصً
لبينه - صلى الله عليه وسلم - ولما قالت سهلة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ قال لها - صلى الله عليه وسلم - «ارضعيه تحرمي عليه وإن كان الجمهور أنه لا يحرم لما يأتي.
فهذا الحديث صحيح غير منسوخ، لما عرفت من قول سهلة وعائشة، وأنه متقرر عندهم أن الإرضاع للصغير وإنه إنما يعتبر الصغر إلا إذا دعت الحاجة لرضاع الكبير الذي لا

(4/204)


يستغنى أهل البيت عن دخوله عليهم، وأنه يشق احتجاب المرأة عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة فمثل هذا يحرم رضاعه لهذا الخبر، وقال الشيخ: ينشر الحرمة بحيث يبيح الدخول والخلوة إذا كان قد تربى في البيت، بحيث لا يحتشمون منه للحاجة، لقصة سالم، وما عداه فلا بد أن يكون الرضاع في حال الصغر.
(ولأبي داود) من حديث عائشة في قصة سالم وسهلة،
قال - صلى الله عليه وسلم - لها «ارضعيه خمس رضعات» فدل على اعتبار الخمس كما تقدم، وأن ما دونها لا ينشر الحرمة، وهو مذهب جماهير العلماء، وإن شك في الرضاع أو شك في كماله، أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم، لأن الأصل عدم الرضاع المحرم، وإن قال الزوج لزوجته أنت أختي لرضاع بطل النكاح، وإن قالته وأكذبها فهي زوجته حكمًا، وأما بينها وبين الله تعالى فلا يحل لها مساكنته إن كانت صادقة، ولا تمكنه من وطئها ولا من دواعيه، لأنها محرمة عليه وعليها أن تفتدي منه وتفر عنه.
(وله) أي لأبي داود وغيره (عن ابن مسعود) رضي الله عنه (مرفوعًا «لا رضاع إلا ما أنشز») أي شد وقوى (العظم وأنبت اللحم) وإنما يكون ذلك لمن هو في سن الصغر فإنه ينمو باللبن، ويقوى به عظمه وينبت عليه لحمه.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا لا يحرم من

(4/205)


الرضاع) يعني الذي تقدم أنه يحرم منه ما يحرم منه ما يحرم من النسب (إلا ما فتق الأمعاء) أي شق أمعاء الصبي ووقع موقع الغذاء فوصل إليها فلا يحرم القليل الذي لا ينفذ إليها، وتقدم أن المحرم خمس رضعات (وكان قبل الفطام) أي قبل أوان فطام الرضيع (صححه الترمذي) والحاكم ولأبي داود وغيره عن ابن مسعود نحوه، وفيه «وأنشز العظم» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا رضاع إلا في الحولين، وروي عن عمر وابن مسعود قال الترمذي والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الصغر، وقالوا مهما كان في الحولين فإن رضاعه يحرم، ولا يحرم ما كان بعدهما لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فتمام الرضاعة الحولان وما بعدهما لا يحرم وفي الاختيارات، الارتضاع بعد الفطام لا ينشر الحرمة وإن كان دون الحولين، واختار الشيخ أيضًا ثبوت الحرمة بالرضاع إلى الفطام ولو بعد الحولين أو قبلهما.
(وفي الصحيحين من حديث عائشة) رضي الله عنها يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الرضاعة» أي المعتبرة المغنية أو المطعمة (من المجاعة) وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل فكأنه تغير وجهه فقالت إنه أخي فقال «انظر من إخوانكن» أي تحققن في أمر الرضاعة هل هو رضاع صحيح

(4/206)


«فإنما الرضاعة من المجاعة» أي الواقعة في زمن الإرضاع بحيث إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع وهو كما قال أبو عبيدة وغيره تعليل لإمعان التحقق في شأن الرضاع، وأن الرضاع الذي تثبت به الحرمة وتحل به الخلوة هو حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعه، لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير جزءًا من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها ومحارمها، وتعليل أيضًا لمقدار الإرضاع، فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع بشرطه من وقوعه في زمن الرضاع، ومقدار الإرضاع كما تقدم.
وفيه دليل على أن التغذي بلبن المرضعة محرم، سواء كان شربًا أو وجورًا أو سعوطًا أو حقنة حيث كان يسد جوع الصبي وهذا مذهب جمهور العلماء وتقدم ذكر الاتفاق عليه، ومن أفسدت نكاح نفسها بسبب رضاع ونحوه قبل الدخول فقيل لا مهر لها، وبعد الدخول مهرها بحاله، وقال ابن القيم: يتوجه سقوطه بإفسادها وكان الشيخ يذهب إليه وهو منصوص أحمد واقوى دليلاً ومذهبًا وإن أفسده غيرها فلا نصفه قبله، وجميعه بعده يرجع به الزوج على المفسد، جزم به الشيخ وغيره.
(وعن عقبة بن الحارث) بن عامر القرشي النوفلي أسلم يوم الفتح (أنه تزوج بنت أبي إهاب) يقال لها أم يحيى (فجاءت امرأة) وفي الترمذي امرأة سوداء قال الحافظ لا أعرف اسمها

(4/207)


(فقالت قد أرضعتكما) قال وهي كاذبة مرارًا وهو يعرض عنه (فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عن تزوجه بها وقول تلك المرأة إنها أرضعتهما (فقال: كيف وقد قيل) أي كيف تباشرها وتفضي إليها وقد قيل بأنك وهي قد ارتضعتما من ثدي واحد، ولفظ الترمذي وغيره «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما دعها عنك» (ففارقها) عقبة رضي الله عنه فنكحت زوجًا غيره (رواه البخاري).
فدل الحديث وما في معناه على قبول شهادة المرضعة وحدها، وهو مذهب أحمد وجماعة من السلف، لهذا الحديث وقد تكرر سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعقبة أربع مرات وأجابه بقوله: «كيف وقد قيل» وفي لفظ «دعها» وللدارقطني «لا خير لك فيها» وذلك قلما يطلع الرجال على ذلك فالضرورة داعية إلى اعتبارها قال ابن القيم: إذا شهدت امرأة عدل بأنها قد أرضعته وزوجته فقد لزمت الحجة من الله في اجتنابها، ونوجب عليه مفارقتها لقوله - صلى الله عليه وسلم - «دعها عنك» وليس لأحد أن يفتي غيره، وقال الشيخ: إذا كانت المرأة معروفة بالصدق وذكرت أنها أرضعت طفلاً خمس رضعات قبل ذلك، وثبت على الصحيح اهـ، وإن شك في الرضاع أو كماله أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم، لأن الأصل عدم الرضاع المحرم.
(ولأبي داود) والبيهقي (عن زياد) السهمي (نهى - صلى الله عليه وسلم - أنه تسترضع الحمقاء) أي خفيفة العقل فإن اللبن يشبه وذلك لأن

(4/208)


للرضاع تأثيرًا في الطباع، فيختار للطفل حسنة الخلق، ويكره استرضاع سيئة الخلق والفاجرة، وكذا الجذماء والبرصاء، وروى البيهقي عن عمر وابنه وعمر بن عبد العزيز أن اللبن يشبه وحكى القاضي أن من ارتضع من امرأة حمقاء خرج الولد أحمق ومن ارتضع من سيئة الخلق تعدى إليه ومن ارتضع من بهيمة كان بليدًا كالبهيمة.

باب النفقات
جمع نفقة وهي كفاية من يمونه طعامًا وكسوة ومسكنًا، وتوابع ذلك من ماء شرب، وطهارة وغير ذلك من زوجة وأقارب ومماليك وغيرهم، وأحقهم في ذلك الزوجة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب نفقتها على الزوج وكذا الولد الصغير والأب والرقيق وغيرهم مما سيأتي تفصيله.
(قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}) أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته وعموم الآية يدل على وجوب نفقة الزوج على زوجته وأقاربه بشرطه بحسب سعته {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} ضيق عليه في المال {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} على قدر ذلك فكل بحسبه {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} أي لا يكلف الله نفسًا في النفقة إلا ما أعطاها من المال، كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
ثم قال تعالى: {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} أي بعد ضيق وشدة غني وسعة، فدلت الآية على وجوب نفقة المولود على والده أو وليه بحسب قدرته. والآيات والسنة أيضًا

(4/209)


دلت على أحقية نفقة الزوجة، فعموم الآية دال على وجوبها للزوجة والأقارب بقدر اليسر والعسر فيطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى بالمعروف، وعليه عمل المسلمين.
(وقال) تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} أي أوجبنا على المؤمنين في أزواجهم من الأحكام، فدلت الآية الكريمة وغيرها على وجوب نفقة الزوجة ولا نزاع في ذلك، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن على العبد نفقة زوجته.
(وقال) تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} هو الاحتمال في القول والمبيت والنفقة، فدلت الآية على وجوب نفقة الزوجة وكان - صلى الله عليه وسلم - يتلطف بأهله ويوسعهم نفقة وقال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» ولا نزاع في مشروعية المعاشرة بالمعروف.
(وقال) تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} المعروف كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة (أو تسريح بإحسان) فلا يضار امرأته ولا يضاجرها لتفتدي منه بل يحسن عشرتها وينفق عليها كما في قوله {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ} (وقال)
تعالى {وَلَهُنَّ} أي للزوجات على الأزواج من الحق {مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} للأزواج من الحق (بِالْمَعْرُوفِ) الذي لا ينكر
في الشرع فليؤد كل واحد

(4/210)


منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الحقوق التي للمرأة وعليها، وأن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم ويجعلونه معدودًا.
وقال الشيخ في النفقة والكسوة والسكنى، وكغطاء وماعون الدار ونحو ذلك يكون بقدر الحاجة والعمل عليه، فمتى تسلمها أو بذلت نفسها ولو مع صغره وجبت نفقتها، ووجوب نفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة لما تقدم والبائن بفسخ أو طلاق إن كانت حاملاً، والنفقة للحمل نفسه، ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها، لأن المال انتقل عن الزوج إلى الورثة، فإن كانت حاملاً فالنفقة من حصة الحمل من التركة أو على وارثه الموسر، ومن نشزت أو تطوعت بصوم أو صلاة أو حج بلا إذنه، أو سافرت لحاجتها ونحو ذلك سقطت نفقتها مدته لمنعها نفسها عنه بسبب من جهتها، بخلاف من أحرمت بحج فرض أو صوم فرض أو صلاة فرض أو صامت قضاء رمضان في شعبان، لوجوب ذلك بالشرعِ.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته) للناس بمنى (في حجة الوداع) سنة عشر سميت حجة الوداع لأنه ودع الناس فيها، قال لما ذكر النساء (ولهن عليكم) أي يجب لنسائكم عليكم (نفقتهن) بالمعروف {وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الذي عرفه الشارع ويتعارفه الناس بينهم كل ينفق على قدر حاله، لما تقدم من قوله {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ} (رواه

(4/211)


مسلم) والحديث دليل على وجوب النفقة والكسوة للزوجة، ولا نزاع في ذلك، والواجب عند الجمهور طعام مصنوع، لأنه الذي يصدق عليه أنه نفقة، ولا تجب القيمة إلا برضى من يجب عليه الإنفاق.
قال ابن القيم أما فرض الدراهم فلا أصل له في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من الصحابة البتة ولا التابعين ولا تابعيهم، ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الإسلام، والله تعالى أوجب نفقة الأقارب والزوجات والرقيق بالمعروف، وليس من المعروف فرض الدراهم، بل المعروف الذي نص عليه الشرع أن يكسوهم مما يلبس ويطعمهم مما يأكل، وليست الدراهم من الواجب ولا عوضه ولا يصح الاعتياض عما لم يستقر ولم يملك، فإن نفقة الأقارب يومًا فيومًا، ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضة عنها بغير رضى الزوج والقريب.
فإن الدراهم تجعل عوضًا من الواجب الأصلي، وهو إما البر عند الشافعي أو المقتات عند الجمهور فكيف يجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم من غير رضا ولا إجبار الشرع له على ذلك، فهذا مخالف لقواعد الشرع، ونصوص الأئمة ومصالح العباد ولكن إن اتفق المنفق والمنفق عليه جاز باتفاقهما انتهى. وللزوجة وكذا القريب نفقة كل يوم من أوله، وإن اتفقا على تعجيلها أو تأجيلها جاز، وكذا الكسوة ونحوها.

(4/212)


(وعن أبي هريرة مرفوعًا «امرأتك تقول أطعمني أو فارقني» رواه أحمد وصححه المجد ووثقه الحافظ، (وللخمسة إلا الترمذي) وصححه ابن حبان والحاكم (عن حكيم بن معاوية) القشيري عن ِأبيه معاوية بن حيدة، ومعاوية صحابي روى عنه ابنه وحفيده بهز (قلت: يا رسول الله ما حق زوج أحدنا عليه) زوج بلا تاء هي اللغة الفصحى.
وجاء بالتاء (قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت) فدل الحديث مع ما تقدم على وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وأن النفقة بقدر سعته لا يكلف فوق وسعه، لقوله «إذا طعمت» فمتى قدر على تحصيل النفقة وجب عليه أن لا يختص بها دون زوجته بما زاد على سد خلته لخبر «ابدأ بنفسك» ولا يلزمه تمليك الزوجة النفقة والكسوة.
قال الشيخ: بل ينفق ويكسو بحسب العادة، لقوله: «إن حقها عليك أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت» كما قال عليه الصلاة والسلام في المملوك اهـ، ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع كما هو مذهب جمهور العلماء مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، فيفرض للموسرة تحت الموسر وهو من يقدر على النفقة بماله أو كسبه قدر كفايتها ومثل بعضهم خبزًا من أرفع خبز البلد وأدمه ولحمًا عادة الموسرين بمحلهما وما يلبس مثلها من حرير وغيره، وللنوم فراش ولحاف، ونحوه مما جرت العادة لمثلهما ويفرض للفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد

(4/213)


ومن أدم يلائمهما، ومن الكسوة ما يلبس مثلها، ويجلس وينام عليه وللمتوسطة والغنية مع الفقير والفقيرة تحت الغني ما بين ذلك عرفًا.
(وعن ابن المسيب) سعيد بن المسيب رضي الله عنه (في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله) قوتًا وكسوة ومسكنًا (قال السنة أن يفرق بينهما) قال بعض أهل العلم له حكم الرفع وله شواهد (رواه سعيد) ابن منصور في سننه عن سفيان عن أبي الزناد عن سعيد قال: قلت لسعيد سنة قال سنة.
قال الحافظ وهذا مرسل قوي ومراسيل سعيد معمول بها لما عرف من أنه لا يرسل إلا عن ثقة، قال الشافعي والذي يشبه أن يكون قول سعيد سنة سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه إنما سأل عما هو حجة وهو سنته - صلى الله عليه وسلم -، وللدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: «يفرق بينهما» ومذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم أنه متى أعسر الزوج بنفقة القوت أو بالكسوة أو بالمسكن أو ببعض ذلك فلها فسخ النكاح بإذن الحاكم، ولها الصبر مع منع نفسها وبدونه ولا يمنعها تكسبًا ولا يحبسها.
(وله) أي لسعيد بن منصور في سننه والشافعي بسند جيد وصححه أبو حاتم الرازي (أن عمر) ابن الخطاب رضي الله عنه (كتب إلى أمراء الأجناد) جمع جندي وجمعه جند أيضًا وجنود العسكر والأعوان (في رجال غابوا عن نسائهم) من الأجناد (أن

(4/214)


يأخذوهم) فيلزموهم (بأن ينفقوا) على أزواجهم مدة غيابهم (أو يطلقوا) أي إن لم ينفقوا عليهن (فإن طلقوا) بعد غيابهم (بعثوا بنفقة ما حبسوا) أزواجهم وحكى إجماع الصحابة على ذلك للزوم نفقة ما مضى. ولو لم يفرضها الحاكم سواء ترك الإنفاق لعذر أو لا مع اليسار أو الإعسار. فإن فرضها الحاكم لزمت بالاتفاق. وكذا إن اتفقا على قدر معلوم. فتصير ديناً باصطلاحها.
ومتى غاب زوج موسر ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله أو من وكيله وتعذرت استدانتها عليه فلها الفسخ بإذن الحاكم. وكذا امرأة المفقود لها الفسخ إذا لم يكن له مال ينفق على زوجته منه. وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتا غرمها الوارث ما أنفقته بعد موته. وإن اختلفا في أخذ نفقة ونحوها فقول من يشهد له العرف. وهو مذهب مالك. ويخرج على مذهب أحمد في تقديم الظاهر على الأصل. وقال ابن القيم: وقول إنه لا يقبل قول المرأة إن زوجها لم يكن ينفق عليها ويكسوها فيما مضى هو الصواب. لتكذيب القرائن الظاهرة لها. وقولهم هو الذي ندين الله به. ولا نعتقد سواه والعلم الحاصل بإنفاق الزوج وكسوته في الزمن الماضي اعتمادا على الإمارات الظاهرة أقوى من الظن الحاصل باستصحاب الأصل.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن هندًا) هي: بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف أسلمت عام الفتح بعد

(4/215)


إسلام زوجها. وتوفيت سنة أربع عشرة (قالت يا رسول الله إن أبا سفيان) ابن حرب واسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس. من رؤسا قريش. أسلم عام الفتح حين أخذته جند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجاره العباس ثم غدا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وتوفي سنة اثنتين وثلاثين (رجل شحيح) الشح البخل مع الحرص. فهو أخص من البخل. والبخل يختص بمنع المال والشح يعم كل شيء في جميع الأحوال أي هو بخيل حريص (لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي) أي مقدار ما يكفيني من النفقة ويكفي ولدي (إلا ما أخذت من ماله بغير علمه) أي بغير علم منه بذلك ولا إذن فهل عليَّ في ذلك من جناح؟.
(فقال خذي) أي: من مالِهِ (ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي ما يعرفه الشرع يأمر به. وهو الوسط العدل. وقال الحافظ القدر الذي عرف بالعادة أنه الكفاية (متفق عليه) وفي البخاري " لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف" وتقدم أنه الوسط العدل وما عرف أنه الكفاية.
فدل الحديث على وجوب نفقة الزوجة والأولاد على الزوج. وأن الواجب الكفاية من غير تقدير النفقة. وهو مذهب جمهور العلماء وأن من تعذر عليه استيفاء ما يجب له من نفقة: أن يأخذه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أقرها على الأخذ في ذلك لاسيما مع تمرد الأب. وأن للأم ولاية الإنفاق على أولادها. وغير ذلك مما هو مذكور في مواضعه. والمراد هنا جواز الأخذ من ماله إن لم يقم

(4/216)


بكفايتها وولدها بالمعروف بلا إذنه. فإن لم تقدر أجبره الحاكم.

فصل في نفقة الأقارب
من أم وأب وولد وأخ وأخت وغيرهم بشرطين. حاجة المنفق عليه من الأقارب. وغنى المنفق. قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانًا، برًا بهما وإعطافًا عليهما. لأن الله تعالى جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود وربياك. وكثيرًا ما يقرن تعالى حقه وحقهما في غير موضع من كتابه. فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وغير ذلك. فحق الله أوكد الحقوق. وهو عبادته وحده وأعظمها. ثم بعد حقه تعالى حقوق المخلوقين وأوكدها حق الوالدين فثنى به. وعطف بذي القربى غير ما آية ووصى بذلك سبحانه وتعالى فقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}.
ووصى به بني إسرائيل. بل أخذ عليهم الميثاق: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى} الآية. ومن أعظم الإحسان بالوالدين إذا كانا أو أحدهما لا يملك نفقة. أن ينفق ولده عليه. ويأتي " ابدأ بمن تعول أمك وأباك" قال شيخ

(4/217)


الإسلام: وعلى الولد الموسر أن ينفق على أبيه المعسر وزوجة أبيه. الآية دلت مع ما يأتي كعلى أنها تحب النفقة أو تتمتها للوالدين وإن علوا مع حاجتهم وغنى الولد.
(وقال) تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} أما إذا كن مع الأزواج. فقال الشيخ: إرضاع الطفل واجب على الأم. بشرط أن تكون مع الزوج. وهو قول غير واحد من السلف. ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها.
وهو اختيار القاضي والحنفية. ولم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة. وهو الواجب بالزوجية كما قال في الحامل. فدخلت نفقة الولد في نفقة أمه وكذا المرتضع. فتكون النفقة هنا واجبة بشيئين: حتى لو سقط الوجوب بأحدهما ثبت بالآخر. وقال: لا تستحق شيئًا إذا كانت تحته. وقال الشيرازي لو استأجرها لرضاع ولده لم يجز لأنه استحق نفعها. وكذا قال القاضي وغيره.
وأما الوالدات المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} خبر بمعنى الأمر. وهو أمر استحباب.
لأنه لا يجب عليهن الإرضاع إذا كان يوجد من يرضع الولد. لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فمتى رغبت الأم في الإرضاع فهي أولى من غيرها. والحولين السنتين. وذكر الإكمال للتأكيد. وفيها دليل على أنه لا يعتبر

(4/218)


الإرضاع بعد كمال السنتين. وهو مذهب الجمهور كما تقدم {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أي هذا منتهى الرضاعة. وليس فيما دون ذلك حد محدود. وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به.
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي الأب {رِزْقُهُنَّ} أي طعام الوالدات {وَكِسْوَتُهُنَّ} أي لباسهن {بِالْمَعْرُوفِ} أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن على قدر الميسرة من غير إسراف ولا إقتار فالمقتدر بحسب فقدرته والمتوسط بحسبه والفقير بحسبه {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} أي طاقتها. قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته. وليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبأ الذي لا يعيش بدون تناوله غالبا. ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت. وإن كان مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك.
{وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أي لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها. وقيل لا تكره على إرضاعه. فليس لكل واحد منهما أن يضار صاحبه بسبب الولد. ولا يضاران الصبي. {وَعَلَى الْوَارِثِ} أي وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي. وله مال ورثه. {مِثْلُ ذَلِكَ} أي مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على الطفل وكسوته، وعلى والدة الطفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها. وهذا قول جمهور العلماء. واستدل بهذه الآية

(4/219)


الحنابلة والحنفية وغيرهم على وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ممن يرثهم بفرض أو تعصيب. وهو قول عمر وجمهور السلف والخلف.
واستأنسوا بحديث الحسن عن سمرة مرفوعًا " من ملك ذا رحم محرم عتق عليه " وغيره من الأحاديث الآتية وغيرها. وقالوا إذا لم يكن للصبي ونحوه مال ينفق عليه أجبر ورثته الذين يرثونه على أن يسترضعوه. كل منهم على قدر ميراثه نساًء كانوا أو رجالاً. عصبة أو غيرهم فيعتبر كون المنفق غنيا وارثا.
سوى عمودي النسب فتجب سواء كان وارثا أو لا، ويعتبر كون المنفق عليه فقيرا من عمودي النسب وغيرهم من الأقارب. وقال الشيخ: تجب النفقة لكل وارث ولو كان مقاطعا من ذوي الأرحام وغيرهم. لأنه من صلة الرحم. وهو عام. كعموم الميراث في ذوي الأرحام. وهو رواية عن أحمد. والأوجه وجوبها مرتبًا.
وإن كان الموسر القريب ممتنعا فينبغي أن يكون كالمعسر. كما لو كان للرجل مال وحيل بينه وبينه لغصب أو بعد. لكن ينبغي أن يكون الواجب هنا القرض. رجاء الاسترجاع. وعلى هذا فمتى وجبت عليه النفقة وجب علية القرض إذا كان له وفاء. {فَإِنْ أَرَادَا} يعني الوالدين {فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} أي اتفاق على فطام قبل الحولين {وَتَشَاوُرٍ} أي يشاورون أهل العلم به حتى يعلموا أن الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد.

(4/220)


أو تشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، والمشاورة استخراج الرأي {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي لا حرج عليهما في الفطام قبل الحولين إذا رأيا ذلك مصلحة للولد.
{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} أي تجعلوا لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم، أو تعذر لعلة بهن أو انقطاع لبن، أو أردن النكاح {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي لا جناح على الوالد والوالدة إذا اتفقا على أن يستلم منها الولد في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا أسلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، دون إضرار، واسترضع لولده غيرها بالأجرة.
{وَاتَّقُوا اللهَ} في جميع أحوالكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} فلا يخفى عليه خافية وهذه كقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي أرضعن أولادكم فآتوهن أجورهن على إرضاعهن {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} فأمرهم أن يأتمروا بالمعروف وبما هو الأحسن، ولا يقصدوا المضارة فلها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة بالمعروف، ولها طلب أجرة المثل لرضاع ولدها، ولو أرضعه غيرها مجانًا لأنها أشفق من غيرها ولبنها أمرى لولدها.
(وقال) تعالى {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} أي في الإرضاع والأجرة بأن طلبت أم الطفل في أجرة الرضاع كثيرًا ولم يجبها الرجل إلى ذلك أو بذل لها قليلاً ولم توافقه عليه (فسترضع له أخرى) أي فليسترضع له غيرها، وليس له إكراهها على إرضاعه، وإن

(4/221)


رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها لما تقدم من قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} ولا يلزمها إرضاع ولدها إلا لضرورة ثم قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا *}.
فدلت الآيات على وجوب النفقة لولده، وإن سفل، ذكرًا كان أو أنثى، وفي قوله {وَذِي الْقُرْبَى} وقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} دليل على أن للقريب حقًا على قريبه، وأنه مع حاجته وغنى قريبه تجب عليه النفقة ومع عدمها فحقه البر والإكرام ويأتي تفصيل ذلك في السنة.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - لهند) لما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي وتقدم (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) فدل على وجوب نفقة الولد، وأنه يختص بها الأب ولأحمد "يقول إلى من تتركني" وهو في الصغير إجماع وأما الكبير فبشرطه، ومن وجبت نفقته على شخص ومنعه فقال الشيخ، ومن كان له عند إنسان حق ومنعه إياه جاز له الأخذ من ماله بغير إذنه إذا كان سبب الحق ظاهرًا لا يحتاج إلى إثبات.
مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها واستحقاق الأقارب النفقة على أقاربهم واستحقاق الضيف الصيافة على من نزل به، وإن كان سبب الحق خفيًا يحتاج على إثبات لم يجز وهذه

(4/222)


الطريقة المنصوصة عن أحمد، وهي أعدل الأقوال اهـ، ومع عدم الأب فعلى القريب كما تقدم.
(وقال) - صلى الله عليه وسلم - في حديث طارق المحاربي، وكان قدم المدينة فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يخطب الناس ويقول: "يد المعطي العليا و (ابدأ بمن تعول) أي تمون بمعنى بمن تلزمك مؤونته وفيه وجوب النفقة على القريب المحتاج، وفصله بقوله (أمك وأباك) فبدأ بذكر الأم قبل الأب فدل على أن الأم أحق من الأب، وفي الصحيح من أبر؟ قال «أمك» ثلاثًا ثم ذكر الأب معطوفًا بثم، فمن لم يجد إلا كفاية أحدهما بدأ بالأم، وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} الآية قال القاضي عياض هو مذهب جمهور العلماء.
ثم الأب، فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن لي مالا وإن والدي يحتاج على مالي قال: «أنت ومالك لأبيك» «إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم» وفيه: وجوبها على الولد إذا كان واجدًا لها.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - «وأختك وأخاك» فيعم الإخوة لأبوين أو لأب أو لأم، فدل على وجوب الإنفاق على القريب المعسر، لجعله - صلى الله عليه وسلم - الأخت والأخ ممن يعول، وهو قول جمهور العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم قال - صلى الله عليه وسلم - «ثم أدناك أدناك» الأقرب

(4/223)


فالأقرب فيحصل بذلك الأجر بالمواساة وصلة الرحم (رواه النسائي) وصححه ابن حبان والدراقطني وللنسائي وغيره من حديث جابر ابدأ بنفسك أي بما تحتاجه من مؤونة وغيرها فإن فضل فلأهلك فإن فضل فلذي قرابتك، فإن حمل على التطوع شمل كل قريب أو الواجب اختص به من تجب نفقته من أصل وفرع.
وهذان الحديثان وما في معناهما مفسران لقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} وغيرها، فيجب الإنفاق للقريب المعسر على قريبه الغني على الترتيب في الحديث، ونحوه والزوجة تقدم ذكرها، وأنها لا تسقط نفقتها بمضي الزمان، وأما الأقارب فهي إنما شرعت للمواساة لأجل إحياء النفس، وقد انتفى بالنظر إلى الماضي.
قال ابن القيم: تسقط النفقة بمضي الزمان عند الأكثر في نفقة الأقارب، واتفقوا عليه في نفقة العبد والحيوان البهيم.

فصل في نفقة المملوك
أي في حكم نفقة المملوك على سيده ونفقة البهائم على مالكها وما يتعلق بذلك والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع في الجملة.
(قال تعالى: {وَمَوَالِيكُمْ}) أول الآية {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فهذا في التسمية عوضًا عمًا فاتهم من النسب وقال {قَدْ عَلِمْنَا مَا

(4/224)


فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين مما بينه الشارع وغير ذلك من الأصول الشرعية الدالة على وجوب نفقة المملوك.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للموك) وكذا المملوكة على مالكهما (طعامه) من غالب قوت البلد ويقتاته مثله (وكسوته) من غالب كسوة البلد، وكذا سكناه (بالمعروف) وهو ما عرفه الشارع وتعارفه الناس بينهم.
قال ابن المنذر أجمعوا على أن الواجب إطعام الخادم من غالب قوت البلد الذي يأكل مثله في تلك البلد، وكذا كسوته وسكناه (ولا يكلف من العمل ما لا يطيق) أي لا يكلفه مالكه من العمل ما لا يطيقه رقيقه (رواه مسلم).
فدل الحديث: على وجوب طعام الرقيق وكسوته بالمعروف ولا نزاع في ذلك وظاهر هذا اللفظ مطلق الطعام والكسوة فلا يجبان من عين ما يأكل المالك ويلبس، وفي مسلم أيضًا وغيره الأمر بإطعامهم مما يطعم وكسوتهم مما يلبس كما سيأتي، فلعله للندب للإجماع على أنه لا يجب ذلك على المالك، ودل على أنه لا يكلف المملوك من العمل ما لا يطيقه، ولا نزاع في ذلك أيضًا وينبغي أن يريحه وقت القائلة والنوم والفرائض لخبر «لا ضرر ولا ضرار» وعليه أن يركبه في السفر عقبة، وإن اتفق المالك والرقيق على المخارجة كل يوم أو كل شهر على شيء

(4/225)


معلوم جاز إن كان بقدر كسبه فأقل، بعد نفقته بالمعروف وكسوته وسكناه، لفعل الزبير.
(ولهما عن أبي ذر) رضي الله عنه (مرفوعًا إخوانكم) أي مماليككم جمع أخ وهو الناشئ مع أخيه منشأ واحدًا (خولكم) الخول حشم الرجل وأتباعه، أي خدمكم جمع خائل أي خادم سمي به لأنه يتخول الأمور أي يصلحها (جعلهم الله) قنية بكسر القاف (تحت أيديكم) يعني قدرتكم تتصرفون فيهم، وقال في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم» أي أحسنوا إليهم، فيتأكد حق المملوك على سيده (فمن كان أخوه تحت يده) أي فمن كان مملوكه تحت يده في قبضته وتحت حكمه وسلطانه.
(فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس) وتقدم أن المراد هنا والله أعلم الندب أو أنه خطاب مع من ألبستهم وأطعمتهم غليظة وخشنة، إذ العرب إذ ذاك كذلك ولا منافاة بينه وبين قوله «طعامه وكسوته بالمعروف» لأن ما هنا في حق العرب إذ ذاك، وأما من طعامهم رقيق الطعام ولباسهم رقيق الثياب فإن واسى رقيقه كان أحسن، وإن لم يفعل فلا يجب عليه لرقيقه إلا المعروف من نفقة أرقاء أمثاله وأهل بلده وكسوتهم، لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - «بالمعروف» وهو ما يتعارفه الناس بينهم، وأكثر طعام العرب إذ ذاك ولباسهم غليظ خشن.
ويدل على أنه للندب ما في الصحيحين «إذا أتى أحدكم

(4/226)


خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليضع في يده أكلة أو أكلتين». وحكى ابن المنذر وغيره الإجماع على أن الواجب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلد، وكذا الكسوة (ولا تكلفوهم ما يغلبهم) أي ما لا يطيقون الدوام عليه لا ما لا يطيق يومًا أو يومين أو ثلاثة، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه بنفسه أو بغيره، فيحرم عليه أن يكلفه على الدوام ما لا يطيقه ومثل القن نحو خادم وأجير ودابة وفيه العطف على المملوك والشفقة عليه، وإن طلب الرقيق نكاحه زوجه أو باعه، لقوله تعالى: {وَإِمَائِكُمْ} وإن طلبته الرقيقة وطئها أو زوجها أو باعها ويزوج أمة صبي أو مجنون من يلي ماله، وله تأديب رقيقه لما تقدم وقيده إن خاف إباقه.
(ولمسلم عن عبد الله بن عمرو) ابن العاص رضي الله عنه (مرفوعًا كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته) وفي رواية للنسائي «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» فدل الحديث على وجوب نفقة الإنسان لمن يملكه فإنه لا يكون آثمًا إلا على تركه لما يجب عليه، وقد بالغ - صلى الله عليه وسلم - في إثمه فقال: «كفى به إثمًا أي عن كل إثم سواه، ولفظ النسائي عام لمن يجب عليه الإنفاق عليه وهم أهله وأولاده وعبيده.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاريتك» أيها الإنسان «تقول أطعمني» مما تطعم (واستعملني) في أي عمل أقدر عليه (وإلا فبعني) حتى أحصل

(4/227)


على ذلك. (رواه أحمد) وعن أبي ذر مرفوعًا من لاءمكم من مملوككم فاطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تكتسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله" يعني بالضرب والشتم، ولا يلزم بيعه بطلبه مع القيام بحقه.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عذبت امرأة» روي أنها حميرية وروى مسلم أنها من بني إسرائيل طائفة من حمير، دخلوا في اليهودية، وقال الحافظ لم أقف على اسمها «في هرة» هي انثى السنور «حبستها» عن الطعام والشراب «حتى ماتت جوعًا» لحبسها «لا هي أطعمتها» وسقتها إذ هي حبستها «ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض» أي من هوام الأرض (متفق عليه) ولهما عن أبي هريرة نحوه، فدل الحديث على تحريم تعذيب الهرة ونحوها بمثل هذا الفعل من دون طعام ولا شراب لأن ذلك من تعذيب خلق الله، وقد نهى الشارع عنه.
ودل على وجوب النفقة على الحيوان المملوك، لأن السبب في دخول تلك المرأة النار ترك الهرة عن الإنفاق عليها وحبسها، وإذا كان هذا الحكم ثابتًا في مثل الهرة فثبوته في مثل الحيونات التي تملك أولى، لأنها مملوكة محبوسة مشغولة بمصالح المالك، وهذا مذهب جمهور العلماء، وقال الوزير للإمام أن يجبره على نفقتها أو بيعها عند مالك والشافعي وأحمد اهـ. لأن مالك البهيمة إذا أخل بعلفها أو حملها ما لا تطيق ولم يسيبها

(4/228)


بمكان تتمكَّن فيه من تناول ما يقوم بكفايتها أجبر كما يجبر المالك للرقيق لهذا الخبر وغيره، ولكون كل منهما مملوكًا ذا كبد رطبة، مشغولاً بمصالح مالكه، محبوسًا عن مصالح نفسه.
(ومسلم عن أبي هريرة) رضي الله عنه (في الذي سقى الكلب فغفر له) وذلك أنه كان يمشي في طريق فاشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فنزل ثم سقاه فغفر له (قالوا يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرًا) عام لكل بهيمة (فقال في كل كبد رطبة أجر) ضد يابسة وأريد بها هنا الحياة، لأن الرطوبة في البدن تلازمها، فدل الحديث على عظم أجر من أطعم أو سقى شيئًا من الحيوان فما يملكه أولى.
(ويأتي) أي في باب الذكاة من حديث شداد عن مسلم وغيره «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته، وله عن جابر "نهى أن يقتل شيء من الدواب صبرًا".
وعن سهل بن الحنظلية قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة»، فدلت هذه الأحاديث وما في معناها من أصول الشرع: أنه يجب على مالك البهيمة أن لا يحملها ما تعجز عنه، ويلزمه علفها وسقيها وسائر ما يصلحها، وإن امتنع أجبره الحاكم عند جمهور العلماء على نفقتها أو بيعها، أو إجارتها إن لم يبعها لمن يصلحها، أو ذبحها إن أكلت، لأن

(4/229)


بقاءها في يده مع ترك الإنفاق عليها ظلم ويستحب نفقته على ماله غير الحيوان، للنهي عن إضاعة المال.

باب الحضانة
من الحضن وهو الجنب، ومصدر من حضن الصبي حضنًا جعله في حضنه أو رباه فاحتضنه، سميت بذلك لأن المؤوي يضم الطفل إلى حضنه، وهي حفظ صغير ونحوه عما يضره، وتربيته بعمل مصالحه، ووقايته عما يرضه، والأصل فيها السنة والإجماع.
(عن عبد الله بن عمرو) رضي الله عنهما (أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء) بكسر الواو والمد الظرف (وثديي له سقاء) ككساء جلد السخلة إذا جذع يكون للماء واللبن كما فيه أيضًا (وحجري له حواء) أي حضنها له حواء بزنة كساء اسم للمكان الذي يحوي الشيء، أي مكانًا يحويه ويضمه ويحرسه،
(وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني) أي يأخذه وأنا قد ساويته في الولادة وزدت عليه بهذه الخصوصيات: فهو آنس بي وأقرب رحمًا، فأنا أستحق التقديم (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت
أحق به) أي بحضانة ولدك «ما لم تنكحي» أي تزوجي فإذا تزوجت فأبوه أحق به منك لكونها كانت في حكم غير
أبيه، وقد يشتد بغضها للمطلق ومن يتعلق

(4/230)


به كما سيأتي (رواه أبو داود) ورواه أحمد والحاكم
وصححه.
فدل الحديث على أن الأم أحق بحضانة ولدها إذا أراد الأب انتزاعه منها، وذكرت هذه المرأة صفات اختصت بها تقتضي استحقاقها، وأولويتها بحضانة ولدها وأقرها - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وحكم لها، وقضى بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وحكى ابن المنذر الإجماع عليه، وقال أبو بكر: ريحها وفراشها وحجرها خير له منك، حتى يشب ويختار لنفسه، وقيل لا خلاف فيما دل عليه هذا الحديث وقال الشيخ أما الصغير فالأم أصلح له من الأب، لأنها أوثق بالصغير وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله وأصبر وأرحم به، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع، فتعينت في حق الطفل غير المميز بالشرع، وقال: تقديم الأم على الأب في حق الصغير متفق
عليه.
ودل الحديث على أنها إذا نكحت سقط حقها من الحضانة وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه، والمراد مع طلب من تنتقل إليه الحضانة ومنازعته، وإلا فللأم المزوجة أن تقوم بولدها بالاتفاق، فإن خالة بنت حمزة مزوجة، وولد أم سلمة في كفالتها، وأنس وغيرهم مما هو أشهر من أن يذكر.
(وللخمسة) وصححه الترمذي وغيره (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال جاءت امرأة) وذلك أنه أتى إلى أبي هريرة

(4/231)


امرأة فارسية قد طلقها زوجها وأراد أن يذهب بابنها قال فجاءت (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت إن زوجي يريد أن يذهب بابني) ويختص به دوني (وقد سقاني من بئر أبي عنبة) بكسر العين واحدة حبات العنب، بئر معروفة بالمدينة قالته إظهار لحاجتها إليه، ولعله بعد مدة الحضانة (وقد نفعني) أي بغير سقي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «استهما عليه» فقال زوجها من يحاققني في ولدي (فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا غلام هذا أبوك» وأجلسه ناحية «وهذه أمك» ناحية «فخذ بيد أيهما شئت».
قال الخطابي هذا في الغلام الذي قد عقل واستغنى عن الحضانة (فأخذ بيد أمه) اختار أمه لعله لأجل رأفتها به وشفقتها عليه (فانطلقت به) فدل الحديث على أن الابن بعد استغنائه بنفسه يخير بين الأم والأب، وهو عمل الخلفاء ومذهب جمهور العلماء، وينبغي أنه إن كان عند الأب كان ليلاً ونهارًا، ولا يمنع زيارة أمه، وإن اختارها كان عندها ليلاً وعند أبيه نهارًا ليعلمه ويؤدبه، وإن عاد الصبي فاختار الآخر نقل إليه، وإن لم يختر أو اختارهما معًا أقرع، وقيل يقرع بينهما لما تقدم، ولما في السنن للبيهقي من حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال «استهما» فقال الرجل: من يحول بيني وبين ولدي فقال - صلى الله عليه وسلم - «اختر أيهما شئت» فاختار أمه فذهبت به، وإنما قدم الجمهور الاختيار للأخبار، ولعمل الخلفاء الراشدين به.
وقال الشيخ: تخيير شهوة حيث كل من الأبوين نظير

(4/232)


الآخر، ولا يمكن أن يعتبر أحدهما، فإنه قد يكون أصلح له من الآخر، وقال هو وابن القيم: التخيير والقرعة لا يكونان إلا إذا حصلت به، مصلحة الولد، فلو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت عليه، ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة، فإنه ضعيف العقل، يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك فلا التفات إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له، ولا تحتمل الشريعة غير هذا.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع» والله تعالى يقول: {قُو أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فإذا كانت الأم تتركه في المكتب أو تعلمه القرآن والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه وأبوه يمكنه من ذلك فإنها أحق به، ولا تخيير ولا قرعة وكذلك العكس.
(وعن البراء) ابن عازب رضي الله عنه (أن عليًا) يعني ابن أبي طالب (وجعفرًا) يعني ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم (وزيدًا) يعني ابن حارثة بن شراحيل الكلبي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبه (اختصموا في حضانة ابنة حمزة) عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعد أن دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة بعد صلح الحديبية، ثم خرج فتبعته ابنة حمزة، واسمها عمارة وتكنى أم الفضل تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها، وقال لفاطمة دونك ابنة عمك احمليها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر (فقال

(4/233)


علي) ابن أبي طالب أنا أخذتها وهي (ابنة عمي) حمزة بن عبد المطلب (وقال زيد) ابن حارثة (ابنة أخي) حمزة وكان - صلى الله عليه وسلم - آخى بينه وبينه (وقال جعفر) ابن أبي طالب (ابنة عمي) حمزة وتساوى مع علي (و) زاد (خالتها) أسماء (تحتي) يعني زوجة جعفر.
(فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالتها) أسماء امرأة جعفر (وقال الخالة بمنزلة الأم) في الحنو والشفقة ولأحمد من حديث علي «فإن الخالة والدة» ثم قال - صلى الله عليه وسلم - تطيبا لنفوسهم وبدأ بعلي فقال: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد «أنت أخونا ومولانا» (متفق عليه) فدل الحديث على ثبوت الحضانة للخالة وأنها كالأم، وابنة حمزة لم يكن لها أم ولا جدة، وأبوها قتل رضي الله عنه وقال الشيخ في قوله تعالى: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} إذا احتاجت مريم إلى من يكلفها ويحضنها حتى اقترعوا على كفالتها، فكيف بمن سواها من النساء وهذا أمر يعرف بالتجربة أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا يحتاج إليه الصبي، وكلما كان أصون لها وأستر كان أولى.
ورجح أن المميزة عند الأب، ومن عين الأم وهم الجمهور: لا بد أن يراعوا مع ذلك صيانتها لها، فإذا لم تكن في موضع حرز وتحصين، أو كانت غير مرضية فللأب أخذها منها بلا ريب، لأنه أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد، والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس

(4/234)


للأم، قال: وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها ضرر في ذلك، فلو قدر أنه عاجز عن حفظها وصيانتها ويهملها لاشتغاله عنها، والأم قائمة بحفظها وصيانتها، فإنها تقدم في هذه الحال، فمع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى بها بلا ريب.
ودل الحديث على أن المرأة المزوجة أولى من الرجال، فإن عصبة ابنة حمزة طالبون للحضانة، وقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخالة زوجة جعفر وحق المزوجة للزوج فلم تسقط حضانتها لأنها تشتغل بالقيام بحقه وخدمته، فإذا رضي بأنها تحضن من لها حق في حضانته وأحب بقاء الطفل في حجره لم يسقط حق المرأة من الحضانة بالتزويج وإنما يسقط حضانة الأم وحدها حيث كان المنازع لها الأب، ويؤيده أن المرأة المطلقة يشتد بغضها للزوج المطلق، ومن يتعلق به، فقد يبلغ بها الشأن إلى إهمال ولدها منه قصدًا لإغاضته، ومبالغة في التحبب عند الزوج الثاني لتوفير حقه.
وإلا فقوله - صلى الله عليه وسلم - «الخالة بمنزلة الأم» دليل على أن الأم لا تنازع في حضانة ولدها، وأنه لا حق لغيرها مع وجودها، قال الشيخ: وجنس النساء مقدم على جنس الرجال كما قدمت الأم على الأب، وقال: تقديم أخواته على إخوته وعماته على أعمامه وخالاته على أخواله هو القياس الصحيح وأما تقديم جنس نساء الأم على نساء الأب فمخالف للأصول والمعقول وقال: مجموع

(4/235)


أصول الشرع تقديم أقارب الأب على أقارب الأم، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف الأصول والشريعة اهـ.
ثم لذوي الأرحام غير من تقدم، وإن كانت أنثى وتم لها سبع سنين فيعتبر أن يكون جنس الرجال من محارمها، ولو برضاع وإلا سلمها لثقة أو محرمه، ثم الحاكم لعموم ولايته، ويتوجه لمن سبقت إليه اليد كاللقيط كما في الاختيارات.
(وعن جعفر) ابن رافع (أن أبا رافع) ابن سنان الأنصاري رضي الله عنه (أسلم وأبت امرأته أن تسلم) وكان في أول الأمر، وأما في آخر الأمر فأسلم جميع نساء الأنصار، قال الشيخ فلم يكن فيهن إلا مسلمة، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء الأنصار» (فأقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأم ناحية والأب ناحية والصبي بينهما فمال إلى أمه) وذلك قبل أن تسلم، وكان - صلى الله عليه وسلم - أول ما قدم المدينة لم يكن يكره أحدًا على الإسلام (فـ) لما مال الصبي على أمه ولم تكن تحت حكمه - صلى الله عليه وسلم - (قال اللهم اهده) وذلك لأنهم لم يكونوا إذ ذاك ملتزمين لحكم الإسلام.
قال الشيخ: إذ التزامه إنما يكون بالإسلام، أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام بل دعا الله أن يهديه فاستحباب الله دعاءه وهداه أن يكون عند المسلم، لكن لم يمكنه ذلك بالحكم الظاهر، لعدم دخول حكم الكافرة تحت حكمه فطلبه بدعائه (فمال إلى أبيه فأخذه رواه

(4/236)


أبو داود) وهذا يدل على أنه متى أمكن أن يجعل مع المسلم لا يجعل مع الكافر، وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمين جريان حكم الله ورسوله عليهم، يحكم بينهم بذلك نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل الحرب الذين لم يلتزموا جريان حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذ في تغليب الإسلام بالدعاء، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشيخ فالحديث إن كان ثابتًا دليل على التخيير في الجملة، والقائلون بالتخيير لا يخيرون بين المسلم والكافر، وهو في الدين يتبع خيرهما دينًا اهـ والحديث (رواه) أحمد والنسائي و (أبو داود) وغيرهم لكن بلفظ الأنثى وتقدم الكلام في الأنثى ولأبيها وعصبتها منعها من الانفراد خشية الوقوع في المحرمات، وإن لم تمتنع إلا بالحبس حبسوها وإن احتاجت إلى القيد قيدوها، والمعتوه ولو أنثى عند أمه مطلقًا، لحاجته لمن يخدمه ويقوم بأمره والنساء أعرف بذلك.

(4/237)