الإحكام
شرح أصول الأحكام كتاب الأطعمة
جمع طعام وهو ما يؤكل ويشرب، قال تعالى في النهر {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ
فَإِنَّهُ مِنِّي} والأصل في الأطعمة الحل، وقال الشيخ للمسلم، لأن الله
أحل الطيبات لمن يستعين بها على طاعته لا على معصيته، لقوله تعالى: {لَيْسَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا
إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فلا يستعان
بالمباح على الفواحش، كمن يعطي الخبز واللحم لمن يشرب عليها الخمر، ويستعين
بها على الفواحش، ومن أكل من الطيبات ولم يشكر فمذموم قال تعالى:
{لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أي عن الشكر عليه.
(قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ}) لأجل انتفاعكم {مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا} مطعومًا كان أو مشروبًا أو غيرهما لما إحتج تعالى على وجوده
وقدرته، وأنه الخالق المتصرف المحيي المميت، قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}
تشاهدون ذلك، ولكي تعتبروا وتستدلوا ولكي تنتفعوا بما خلقه لكم فيها.
(وقال) تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} لما بين
تعالى
(4/402)
أنه لا إله إلا هو وأنه المستقل بالخلق
والتدبير، بين أنه الرازق لجميع خلقه، وذكر في مقام الامتنان على خلقه أنه
أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض، في حال كونه حلالاً من الله طيبًا أي
مستطابًا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول، ولمسلم " يقول الله إن كل
مال منحته عبادي فهو لهم حلال " وفي طيب المطعم أحاديث كثيرة، وتأثيره عظيم
في صفاء القلب، واستجابة الدعاء وغير ذلك وأكل الحرام ضرره عظيم، وأي لحم
نبت على الحرام فالنار أولى به، ولو دعا لم يستجب له، كما تواترت بذلك
الأخبار.
ثم قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي في تحريم ما
أحل الله وغيره {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تنفير وتحذير منه، وفي
صحيح مسلم " يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال، وإني
خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما
حللت لهم " قيل نزلت هذه الآية في الذين حرموا على أنفسهم ما أباح لهم الله
من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، إلى أن قال تعالى:
{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من تحريم الحلال من
الطيبات وغير ذلك، وقال الوزير: اتفقوا على أن ما لا يحتاج من الأطعمة إلى
ذكاة كالنبات وغيره من الجامدات والمائعات، فإنه يحل أكله ما لم يكن نجسًا
بنفسه أو مخالطا لنجس أو ضارًا اهـ. أي كالسم ونحوه لقوله: {وَلَاتُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
(4/403)
(وقال) تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ} ما يصاد منه طريًا مما لا يعيش إلا في الماء في جميع الأحوال
(وطعامه) أي ما يتزود منه يابسًا مالحًا، أو ما لفظ ميتًا، وقال ابن عباس
صيده ما أخذ منه حيًا، وطعامه ما لفظه ميتًا، وقال أبو بكر: طعامه كل ما
فيه، ثم قال تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أي منفعة وقوتًا
لكم أيها المخاطبون، والمراد بالبحر جميع المياه.
واستثنى بعض أهل العلم الضفدع ويأتي، والسرطان، وذكر البغوي أن غير السمك
قسمان، قسم يعيش في البر كاضفدع والسرطان، فلا يحل أكله، وقسم لا يعيش في
البر إلا عيش المذبوح، وذكر منه حية الماء، وهي على شكل حية، قال: وأكله
مباح بالاتفاق، وذكره قول أبي بكر وعمر وغيرهما، ومالك وظاهر مذهب الشافعي،
واستثنى أخرون التمساح والحية، لأن التمساح ذو ناب، والحية مستخبثة.
(وقال) تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} أي ويحل الرسول - صلى الله
عليه وسلم - للذين يتبعونه، ما كان أهل الجاهلية حرموه على أنفسهم، من
البحائر والسوائب والوصائل والحام، ونحو ذلك مما ضيقوا به على أنفسهم، وما
حرم عليهم في التوارة من لحوم الإبل والشحوم وغير ذلك، من الطيبات، وكل ما
أحل الله من المأكل والمشرب فهو طيب نافع في البدن والدين، وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ} وقال - صلى الله عليه وسلم - ‘" إن الله أمر المؤمنين بما
أمر به المرسلين " فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
(4/404)
الطَّيِّبَاتِ} وقال {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وقال - صلى
الله عليه وسلم - " وما سكت عنه فهو عفو " ثم قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} كالميتة والدم ولحم الخنزير والزنى وغير ذلك من
المحرمات، وكل ما حرم الله فهو خبيث ضار في البدن والدين، ثم قال تعالى:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}
فقد جاءنا صلوات الله وسلامه عليه بالتيسير والسماحة، وقال: " بعثت
بالحنيفية السمحة " وكانت الأمم قبلنا في شرائعهم ضيق، فوسع الله على هذه
الأمة ببركة نبيها - صلى الله عليه وسلم -، {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ
وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في الدنيا والآخرة.
فدلت الآية على أن الله تعالى أحل لنا الطيبات، وهي كل طيب من المطاعم
والمشارب والملابس والفروج، وحرم الخبائث كالميتة والدم ولحم الخنزير
والنجاسات، وما لم يرد فيه نص تحريم أو تحليل، وكان مما أمر الشرع بقتله
كالفواسق، أو نهى عن قتله كالنحلة والنملة فهو حرام، وقال بعض أهل العلم:
وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادات العرب، فما يأكله الأغلب منهم
فحلال، وإلا فحرام لأن الله خاطبهم بهذه الآية فما استطابوا حلال.
(4/405)
وقال الشيخ: وعند أحمد وقدماء أصحابه لا
أثر لاستخباث العرب، وأن ما يحرمه الشرع حلال، واختاره وقال: أول من قال
يحرم الخرقي، ولعل مراده ما يأكل الجيف، لأن الشافعي حرمه بهذه العلة، قال
الشيخ: وما يأكل الجيف فيه روايتا الجلالة، وعامة أجوبة أحمد ليس فيها
تحريم.
(وقال) تعالى: (قل) أي يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء
على الله {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} أي لا أجد
شيئًا مما حرمتم على أنفسكم حرامًا {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} أي آكل
يأكله {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة ولا
اصطياد، لما فيها من المضرة من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين وللبدن، ولهذا
حرمها الله عز وجل، ويستثني من ذلك الجراد والحوت.
ثم قال: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} يعني مهراقًا سائلاً، وجاء عن ابن عباس
إنما حرم عليكم الدم المسفوح، وعن عائشة إنما نهي عن الدم السافح، وقال ابن
عباس أيضًا: يريد ما خرج من الحيوان وهن أحياء، وما خرج من الأوداج عند
الذبح، ولا يدخل فيه الكبد والطحال، لأنهما جامدان، وقد جاء الشرع
بإباحتهما، ولا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل.
وقال الشيخ: إنما حرم الله الدم المسفوح المصبوب الهراق، فأما ما يبقى في
عروق اللحم فلم يحرمه أحد من
(4/406)
العلماء (أو لحم خنزير) أي وحرم عليكم لحم
الخنزير، وهو حيوان خبيث، حرم على لسان كل نبي، (فإنه) أي لحم الخنزير
(رجس) حرام (أو فسقًا) عطف على لحم خنزير {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ} صفة له
موضحة لتوغله في باب الفسق، أو هو ما ذبح على غير اسم الله.
وجمهور أهل العلم على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء، بل المحرم بنص
الكتاب ما ذكر هنا، وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها مما سيأتي وغيره.
(وعن سلمان) الفارسي رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
سئل عن السمن) وهو ما يخرج من اللبن بالمخض (والجبن) وهو ما يجمد من اللبن
(والفراء) وهو حمار الوحش، صيد معروف (فقال: الحلال) أي ما جعله الله لنا
حلالاً هو (ما أحل الله في كتابه) ضد ما حرمه (والحرام ما حرمه الله في
كتابه) كالميتة والدم ولحم الخنزير وغيرهما مما حرمه الله (وما سكت عنه)
فلم يحرمه (فهو مما عفا لكم، رواه الترمذي) والحاكم وغيرهما وفيه مقال، وله
شواهد تدل على حصر التحريم والتحليل على الكتاب العزيز، وهو باعتبار
اشتماله على جميع الأحكام، ولو بطريق العموم أو الإشارة، أو باعتبار
الأغلب، لحديث "أوتيت القرآن ومثله معه" وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}.
(4/407)
فكل ما لم يبين الله ولا رسوله تحريمه من
المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن الله قد
فصل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا فلا بد أن يكون
تحريمه مفصلاً، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرم الله فكذلك لا يجوز تحريم ما
عفا الله عنه ولم يحرمه، فيباح كل طاهر لا مضرة فيه، وقال الوزير: اتفقوا
على أن ما لا يحتاج من الأطعمة إلى ذكاة كالنبات وغيره من الجامدات
والمائعات، فإنه يحل أكله، ما لم يكن نجسًا بنفسه أو مخالطًا لنجس أو ضارًا
أي كسم ونحوه وتقدم.
(وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى
عن لحوم الحمر الأهلية) وفي لفظ الإنسية وفي رواية أنه وجد القدور تغلي
بلحمها فأمر بإراقتها، وقال: "لا تأكلوا من لحومها شيئًا" وفي رواية "إنها
رجس" وتقدم ما يدل على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وهو مذهب جمهور العلماء،
وما روي في خلاف ذلك لا يلتفت إليه مع صريح النهي من الشارع، ومنه إن الله
ورسوله ينهيانكم عنها، وإنها رجس من عمل الشيطان" وقال ابن المنذر: لا خلاف
اليوم بين أهل العلم في تحريمها، ومفهومه حل الحمر الوحشية، وهو إجماع ثم
قال: (وأذن في لحوم الخيل متفق عليه) وللترمذي وصححه: أطعمنا لحوم الخيل،
ونهانا عن لحوم الحمر، فدل الحديث أيضًا على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وحل
لحوم الخيل.
(4/408)
(ولهما عن أسماء) بنت أبي بكر الصديق رضي
الله عنهما قالت: (ذبحنا فرسًا) وفي لفظ: نحرنا، وتقدم أن النحر في اللبة،
والذبح قطع الأوداج في غير الإبل، وفي الكتاب العزيز {فَذَبَحُوهَا} وثبتا
في السنة، والجواز مذهب الجمهور (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فأكلناه) ولأحمد "نحن وأهل بيته" وورد فيها غير ذلك، فدل الحديثان وغيرهما
على حل لحوم الخيل، وقال عطاء لابن جريج: لم يزل سلفك يأكلونه، قال ابن
جريج: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم"؛ ولم يثبت ما نقل
عن ابن عباس في كراهتها، لاستدلاله بقوله {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية، وخالف أبا حنيفة صاحباه في كراهتها، فالجمهور
على حلها للأخبار المتواترة في ذلك، وما تولد بين حمار وحشي وفرس فهو بغل
حلال، بخلاف المتولد بين حمار إنسي وفرس فحرام.
(ولهما) أي البخاري ومسلم أيضًا (عن أبي موسى) الأشعري رضي الله عنه قال
(رأيته - صلى الله عليه وسلم - يأكل لحم دجاج) فدل الحديث على حله، ولا
نزاع فيه، وفي الحديث قصة، وذلك أن رجلاً امتنع منه وحلف فأخبره أبو موسى
بذلك.
(وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه قال: أنفجنا أرنبًا وهي دويبة معروفة تشبه
العناق، رجلاها أطول من يديها –بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، فأدركتها
فأخذتها فأتيت بها أبا
(4/409)
طلحة فذبحها قال: و (بعث أبو طلحة) زيد بن
سهل الأنصاري إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بورك أرنب) الورك هو ما فوق
الفخذ (وفخذها فقبله متفق عليه) ولفظ أبي داود: صدت أرنبًا فشويتها، فبعث
معي أبو طلحة بعجزها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فدل الحديث على جواز أكل الأرنب، وهو إجماع إلا ما روي عن عبد الله بن عمر
وأبي حنيفة، لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأكلها، وأمر أصحابه أن
يأكلوها، ولا يدل على الكراهة لو صح، فما فعله - صلى الله عليه وسلم - لا
كراهة فيه، ما لم ينسخ أو يكن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وقال
النووي: أكلها حلال عند الأئمة الأربعة والعلماء كافة إلا ما روي عن ابن
عمر رضي الله عنه.
(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال أكل
الضب) دويبة معروفة أكبر من الحرذون يقال إنه يعيش طويلا، حنذ ووضع (على
مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وذلك أنه لما أخبر به رفع يده،
وفيه قال خالد: أحرام؟ قال: "لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه) قال
خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر فلم ينهني
ولمسلم من حديث ابن عمر "كلوا فإنه حلال" فدل الحديث على أن الضب حلال، وهو
إجماع إلا ما روي عن بعض الحنفية من كراهته، وقال النووي: لا يصح كراهته عن
أحد، وإن صح فمحجوج بالنصوص، وإجماع من قبله، وكونه - صلى الله عليه وسلم -
عافه لا ينافي كونه لا يعيب طعامًا قط، لأن عدم العيب إنما هو فيما صنعه،
وما ذكر أنه
(4/410)
مسخ فثبت أن الممسوخ لا عقب له.
(وعن ابن أبي عمارة) واسمه عبد الرحمن بن عبد الله، وثقه النسائي وغيره
(قلت لجابر) بن عبد الله رضي الله عنه (الضبع صيد) أي صيد حلال، يحل أكله
والواحد هو الذكر والأنثى ضبعان وتقدم (قال: نعم) أي هو صيد (قلت: آكلها،
قال: نعم) أي فهي حلال (قلت: قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال:
نعم) أي قال هي صيد حلال (رواه الخمسة، وصححه الترمذي) والبخاري وابن حبان
وغيرهم، ولفظ أبي داود عن جابر قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
عن الضبع، فقال: "هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم" ولأحمد من حديث
جابر أمرنا بأكل الضبع، واحتج به أحمد.
والحديث وغيره دليل على جواز أكل الضبع، وهو مذهب الشافعي وأحمد لهذا
الحديث وغيره، وقال الشافعي مازال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا
والمروة من غير نكير، وقال الشيخ: مباحة عند الجماهير مالك والشافعي وأحمد
وغيرهم، ل
قوله "إنها صيد وأمر بأكلها" اهـ. ولأن العرب تستطيبه وتمدحه، واستدل من
منع منه بحديث: "كل ذي ناب من السباع" وجميع أسنانها عظم واحد، كصفيحة نعل
الفرس، فلا يدخل في عموم النهي، وقال ابن القيم: إنما حرم ما له ناب من
السباع العادية بطبعها كالأسد، وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو
كونها ذات ناب، وليست من السباع العادية
(4/411)
والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية،
التي تورث المغتذي بها شبهها، ولا تعد الضبع من السباع، لا لغة ولا عرفًا.
(وتقدم) أي في باب محظورات الإحرام من حديث أبي قتادة في قصة صيده الحمار
الوحشي (أمره) أصحابه (بالأكل من الحمار الوحشي) قال أبو قتادة فقال النبي
- صلى الله عليه وسلم - لأصحابه –وكانوا محرمين- " هل منكم أحد أمره أو
أشار إليه؟ فقالوا: لا، قال: "فكلوه" والحديث متفق عليه ولا نزاع في حله.
(وعن ابن أبي أوفى) رضي الله عنه (قال غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد، وهو معروف والواحدة جرادة (متفق عليه) وتقدم
قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} واستثناء الجراد والحوت منها،
والحديث دليل على حل الجراد وهو إجماع وللبخاري، نأكل الجراد معه، ولابن
ماجه كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهادين الجراد في الأطباق.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال «أحلت لنا ميتتان ودمان» وأخرجه ابن مردويه
وغيره بلفظ "يحل من الميتة اثنتان، ومن الدم اثنتان" (أما الميتتان" أي
المحللتان (فالجراد) واحدته جرادة وسمي بذلك لأنه
يجرد الأرض من النبات، (والحوت) السمك، وقد غلب في الكبير منه.
والجمهور على إباحة ميتة البحر، سواء ماتت بنفسها أو
(4/412)
ماتت بالاصطياد، وقال أبو بكر: الطافي على
البحر حلال، ولا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواع، لقوله
تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وحديث "هو الطهور ماؤه، الحل
ميتته" واستثنى الضفدع للخبر، والسرطان والتمساح ونحوه للاستخباث، والضرر
اللاحق من السم، (وأما الدمان) أي المحللتان (فالطحال) لحمة معروفة كالغدة،
لازقة في الجنب الأيسر من الحيوان (والكبد) معروفة من سائر الحيوان، وهما
دمان مباحان (رواه أحمد) وابن ماجه والدارقطني وفيه مقال وصححه غير واحد
موقوفًا وله حكم الرفع.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
عن كل ذي ناب من السباع) رواه البخاري، ولمسلم من حديث أبي ثعلبة " كل ذي
ناب من السباع فأكله حرام" وله من حديث أبي هريرة نحوه، والناب السن خلف
الرباعية جمعه أنياب، والسباع جمع سبع، وهو المفترس من الحيوان، قال ابن
الأثير: نهى عن كل ذي ناب من السباع، وهو ما يفترس من الحيوان، ويأكله
قهرًا وقسرًا، كالأسد والذئب والنمر ونحوه، وتقدم قول ابن القيم في اعتبار
هذين الوصفين، وإسلام أبي هريرة بعد نزول: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فالحديث مفسر ومبين لما حرم من السباع، وإليه
ذهب جمهور العلماء، أبو حنيفة والشافعي وأحمد، وروي عن مالك الكراهة.
(4/413)
(و) نهى عن (كل ذي مخلب من الطير) المخلب
بكسر الميم، وهو لما يصيد من الطير، قال النووي: وتحريمه مذهب الجمهور أبي
حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وقال مالك يكره، والحديث (رواه مسلم) وغيره،
وله نحوه من حديث أبي ثعلبة، وأبي هريرة، ولأحمد من حديث العرباض: "حرم يوم
خيبر كل ذي مخلب من الطير" فاستفاضت السنة بالنهي عنه، والنهي يقتضي
التحريم، وحكى بعض المالكية عن مالك مثل قول الجمهور، تحريم كل ذي ناب من
السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
وقال ابن القيم: وقد تواترت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي
عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وصحت صحة لا مطعن فيها،
من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة وأبي ثعلبة، وقال الشيخ: إن الغاذي شبيه
بالمغتذي فيصير في نفسه من الظلم والعدوان بحسب ما اغتذى به اهـ. وما له
مخلب يصيد به كالبازي والصقر والشاهين والباشق ونحوها فحرام، لهذه النصوص
وغيرها.
(زاد الترمذي من حديث جابر: ولحوم البغال) ولفظه: حرم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يعني يوم خيبر- لحوم الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب
من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" وسنده لا بأس به، وأصله في الصحيحين فدلت
الأحاديث على تحريم ما ذكر، ومنها تحريم لحوم البغال، وهو
(4/414)
قول جمهور العلماء وروي عن الحسن خلافه،
ولعله لم يبلغه النهي.
(وله عنه) أي وللترمذي من حديث جابر (نهى عن أكل الهر) واسمه أيضًا السنور
والقط، معروف وهو عند مسلم من حديث جابر أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم -
"نهى عن ثمن الكلب والسنور" وظاهر الأحاديث تحريم أكله، سواء كان أهليًا
وفاقًا، أو وحشيًا عند الجمهور، وقد يقال؛ يعمها اللفظ ولأنه من ذوات
الأنياب.
وروي من طريق عيسى بن نميلة، وهو ضعيف أن أبا هريرة قال: ذكر عند النبي -
صلى الله عليه وسلم - القنفذ، فقال: "خبيثة من الخبائث" فقال ابن عمر إن
كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال، وكرهه مالك وأبو
حنيفة، ورخص فيه الشافعي، وقال بعض أهل العلم: الأصل الحل حتى يقوم دليل
على الحرمة، وقيل أو يتقرر أنه مستخبث في غالب الطباع، وقال الشيخ حرم الله
الخبائث من المطاعم إذ هي تغذي تغذية خبيثة، توجب للإنسان الظلم والعدوان.
وقال الخبائث نوعان: ما خبثه لعينه ولمعنى قام به كالدم والميتة ولحم
الخنزير، وما خبثه لكسبه، كالمأخوذ ظلمًا، أو بعقد محرم كالربا والميسر
فالأول كل ما حرم ملامسته كالنجاسات حرم أكله، وليس كل ما حرم أكله حرم
ملامسته كالسموم.
(4/415)
(وعن عبد الرحمن) بن عثمان بن عبد الله
(التيمي) القرشي ابن أخي طلحة بن عبيد الله الصحابي، قيل إنه أدرك النبي -
صلى الله عليه وسلم - وليست له رؤية، أسلم يوم الفتح، وقتل مع ابن الزبير
رضي الله عنهما، قال: (إن طبيبا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
الضفدع) بزنة الخنصر، مائية معروفة (يجعلها في دواء) أي يجعل لحمها مع
أشياء ترياقًا وكذا شحمها (فنهى عن قتلها، رواه أحمد) وصححه الحاكم، ورواه
أبو داود والنسائي والبيهقي بلفظ: ذكر طبيب عند النبي - صلى الله عليه وسلم
- دواء، وذكر الضفدع يجعلها فيه، فنهى عن قتل الضفادع، وللبيهقي أيضًا من
حديث ابن عمرو: "لا تقتلوا الضفادع، فإن نقيقها تسبيح" وقال: إسناده صحيح،
وهو دليل على تحريم قتل الضفادع، وتحريم أكلها، والتداوي بها، وفي الإنصاف
محرمة بلا خلاف أعلمه.
(وتقدم) أي في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها (قوله - صلى الله عليه
وسلم -: خمس فواسق) فلا حرمة لهن بحال لفسقهن (يقتلن في الحل) ضد الحرم (و)
يقتلن في (الحرم) وهو الذي لم يحل انتهاكه بقتل صيد ونحوه، ولفظه "الغراب
والفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور" فدل الحديث على أن هذه الخمس
محرمة، لأنه أباح قتلها في الحرم، ولا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم، فدل
على حرمتها، وسميت فواسق لخبثها، ولخروجها عن خلق معظم الحشرات ونحوها،
بزيادة الضرر والأذى، فأما الغراب فالمراد منه ما يأكل الجيف، كالأبقع
والغداف، والأسود.
(4/416)
الكبير لا غراب الزرع، والفأرة دويبة في
البيوت معروفة، والعقرب وفي لفظ "والحية" مكان الفأرة والحدأة بكسر الحاء
وفتح الدال وهي أيضًا من الجوارح.
والكلب العقور وهو كل سبع يعقر أي يجرح ويقتل ويفترس كالأسد والنمر والذئب
وغلب اسم الكلب على الحيوان النابح، وإلا فالكلب يقع على كل سبع يعض، وقال
أبو المعالي: الأمر بقتل الكلاب منسوخ، وصح أنه أمر به ثم نهى عنه، واستقر
الشرع على التفصيل، مثل إن كان عقورًا، وأمر بقتل الأسود البهيم، وهو في
الابتداء، وهو الآن منسوخ، قال النووي: ولا مزيد عليه واتفقوا على أنه يحرم
اقتناء الكلب لغير حاجة مثل أن يقتني كلبًا إعجابًا بصورته أو للمفاخرة
فهذا حرام بلا خلاف وحكاه الوزير وغيره.
والترخيص لثلاثة: الزرع والماشية والصيد، وهذا جائز بلا خلاف، وأما العقرب
وكذا الحية فقال الشيخ: أكل الحيات والعقارب حرام مجمع عليه، فمن أكلها
مستحلاً لها استتيب ومن اعتقد التحريم وأكلها فهو فاسق، عاص لله ورسوله.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل
أربع من الدواب) وهن مما يدب من الحيوان، إحداهن (النملة) وحكي أن تحريمها
إجماع، وذكر البغوي والخطابي أن المراد به السليماني لانتفاء الأذى منه،
دون الصغير (والنحلة)
(4/417)
وهي نوع من الحيوان معروف، حريص على جمع
الغذاء (والهدهد) وهو طائر معروف، ذو خطوط وألوان كثيرة، (والصرد) وهو طائر
فوق العصفور (رواه أبو داود) ورواه أحمد، وصححه ابن حبان وقال البيهقي؛ هو
أقوى ما ورد في هذه الباب، ورجاله رجال الصحيح، والحديث دليل على تحريم قتل
الأربع المذكورة، ويؤخذ منه تحريم أكلها، لأنه لو حل لما نهى عن القتل، وفي
الرعاية: ويحرم الخفاش وهو الوطواط وقال أحمد: ومن يأكل الخفاش؟
(وعن أم شريك) القرشية العدوية رضي الله عنها (مرفوعًا) أنه (أمر بقتل
الوزغ) جمعه أوزاغ وهو من الحشرات المؤذية، قال ابن عبد البر؛ مجمع على
تحريمه وسام أبرص جنس منه وهو كباره (متفق عليه) زاد البخاري: "وكان ينفخ
على إبراهيم عليه السلام" يعني في النار، لما جبل عليه من العداوة لنوع
الإنسان ولمسلم من حديث أبي هريرة من قتله في أول ضربة كان له مائة حسنة،
وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك، حسب المبادرة بقتله.
وقال الوزير: اتفقوا على أن حشرات الأرض محرمة إلا مالكًا فإنه كرهها
(ونهى) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس، وابن عمر،
وعمرو بن شعيب وغيرهم (عن أكل الجلالة) وهي الحيوان الذي يأكل العذرة، وكذا
بيضها
(4/418)
(وألبانها، ورواه الخمسة) وسواء في ذلك
الإبل والبقر والغنم والدجاج والأوز وغيرها، مما يلتقط العذرة، وجزم النووي
وغيره أنه إذا كان أكثر علفها، وإن كان أكثر الطاهر فليست جلالة، وقيل
الاعتداد بالرائحة والنتن، فإن تغير ريح مرقها أو لحمها أو طعمها أو لونها
فهي جلالة,.
والنهي حقيقة في التحريم، والأحاديث الواردة في ذلك ظاهرة في تحريم أكل لحم
الجلالة وشرب لبنها ومتى علفت طاهرًا، فطاب لحمها حل، لأن علة النهي
التغير، وقال الجمهور: لا تؤكل حتى تحبس أيامًا، وقال أبو حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد يباح أكل لحم الجلالة وأكل بيضها وإن لم تحبس مع استحبابهم
حبسها، وكراهيتهم لأكلها بدون حبسها وكذا عند الجميع أكل الثمار والزروع
والبقول، وإن كان سقيها بالماء النجس، وقال الشيخ وابن القيم وغيرهما: أجمع
المسلمون على أن الدابة إذا أعلفت بالنجاسة، ثم حبست وأعلفت بالطاهرات حل
لبنها ولحمها، وكذلك الزروع والثمار إذا سقيت بالماء النجس، ثم سقيت
بالطاهر، حلت لاستحالة وصف الخبث، وتبدله بالطيب اهـ.
وكره بعض أهل العلم أكل تراب وفحم وطين وغدة وأذن قلب، وبصل وثوم ونحوهما
ما لم ينضج بطبخ، وقال الخلوتي: كدخان ما لم يضر، فإن ضر حرم إجماعًا، وقال
بحرمته جماعة من أتباع الأئمة وأهل الطب.
(4/419)
فصل في المضطر
أي في بيان حكم ما يباح للمضطر تناوله مما حرم عليه، كالميتة ومال الغير،
والمضطر من أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك، والأصل في إباحته
له الكتاب والسنة والإجماع (قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ}
أي جهد في مجاعة تخمص لها البطون، والاضطرار الوقوع في الضرورة، والمخمصة
خلو البطن من الغذاء، يقال رجل خميص البطن، إذا كان طاويًا خاويًا، أي فمن
وقع في ضرورة فله تناول شيء من المحرمات التي ذكر الله في هذه الآية. وهي
قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية أبيحت له لضرورة الحاجة
إلى ذلك تفاديًا من الموت، أو مبادية (غير متجانف لإثم) أي غير مائل إلى
إثم، أو منحرف إليه، أو مختار له، أي فأكل مما تقدم تحريمه، عليه لضرورته
{فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لا يؤاخذه بأكله.
(وقال) تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ} بكسر النون أي أحوج وألجئ وأصابته الضرورة
إلى تناول شيء مما حرم عليه من الميتة ونحوها (غير باغ) أي في غير بغي،
وأصله قصد الفساد (ولا عاد) أي متعد والعدوان مجاوزة الحد، قال ابن عباس
وغيره: غير باغ في الميتة، ولا عاد في أكله، بأن يتعدى حلالاً إلى حرام يجد
عنه مندوحة، وقيل: غير مجاوز القدر الذي أحل له، ولا مقصر فيما أبيح له
فيدعه، حتى قيل: من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكله ولم يشرب
حتى مات دخل النار، وحتى قيل:
(4/420)
إنه عزيمة. وقال ابن القيم: الباغي الذي
يبتغي الميتة مع قدرته على مباح غيرها، والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة،
وقال الشيخ: غير باغ ولا عاد، صفة لضرورة الباغي، الذي يبتغي المحرم مع
قدرته على الحلال، والعادي الذي يتجاوز قدر الحاجة، كما قال: {فَمَنِ
اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} وهذا قول أكثر
السلف، وهو الصواب بلا ريب.
وقال: وليس في الشرع ما يدل على أن العاصي بسفره لا يأكل الميتة، ولا يقصر،
ولا يفطر بل نصوص الكتاب والسنة عامة مطلقة، كما هو مذهب كثير من السلف،
وهو مذهب أبي حنيفة، وأهل الظاهر، وهو الصحيح اهـ، فدلت الآيتان على إباحة
المحرمات عند الاضطرار، حضرًا وسفرًا، لأنها مطلقة غير مقيدة، ولأن
الاضطرار يكون في الحضر والسفر، ولفظ {فَمَنِ اضْطُرَّ} عام في كل مضطر
وفسر بعضهم غير الباغي أنه غير الطالب ما ليس له طلبه، بأن يأخذ ذلك من
مضطر آخر مثله {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} لا يؤاخذه بذلك.
قال الشيخ: والمضطر يجب عليه أكل الميتة في ظاهر مذاهب الأئمة الأربعة
وغيرهم، لا السؤال قال: وليس له أن يعتقد تحريمها حينئذ ولا يكرهها،
وإباحتها له لأن مصلحة بقاء النفس مقدم على دفع تلك المفسدة، مع أن ذلك
عارض لا يؤثر اهـ، ومن محاسن الشريعة تحريم الميتة لما فيها من خبث
التغذية، فإن اضطر إليها أبيحت له، وانتفى وجه الخبث منها
(4/421)
حال الاضطرار؛ لأنه غير مستقل بنفسه في
المحل المغتذى به، بل هو متولد من القابل والفاعل، فإن ضرورته تمنع قبول
الخبث الذي في المغتذى به، فلم تحصل تلك المفسدة، لأنها مشروطة بالاختيار
الذي به يقبل المحل خبث التغذي فإذا زال الاختيار زال شرط القبول، فلم تحصل
المفسدة أصلاً.
(وقال) تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وقبلها قوله تعالى: {الَّذِينَ
هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *} فجمعوا بين
سهوهم عن صلاتهم فأخروها عن وقتها، وبين المرءات، ومنع الماعون، كالدلو
والماء والملح والنار، وغير ذلك مما تشتد الحاجة إليه، فلا هم أحسنوا عبادة
ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولو بإعارة ما ينتفع به ويستعان به، ومع
بقاء عينه ورجوع إليهم، قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما: الماعون هو ما
يتعاطاه الناس بينهم، ويتعاونونه، من الفأس والقدر والدلو وأشباه ذلك،
وقال: كنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتحدث أن الماعون والدلو
والفأس والقدر، لا يستغنى عنهن.
وقال عكرمة: رأس الماعون الزكاة، وأدناه المنخل والدلو والإبرة، ويجمع ذلك
ترك المعاونة بمال أو منفعة، حتى قال بعضهم: الماعون المعروف، وفي الحديث "
كل معروف صدقة" وروي فيه أحاديث مرفوعة، فيكون محظورًا شرعًا، وكذا عقلاً
واستدل بعض الفقهاء بعموم الآية، والتي قبلها على أن من لم يجد إلا طعام
غيره، لزم صاحب الطعام بذل ما يسد رمق
(4/422)
المضطر، ما لم يكن ربه مضطرًا إليه، أو
خائفًا فإن أبى رب الطعام، مع عدم ضرورته، فللمضطر أخذه منه، بالأسهل
فالأسهل، فإن منعه فله قتاله، فإن قتل المضطر ضمنه رب الطعام، بخلاف عكسه،
وإن منعه إلا بما فوق القيمة أخذه ولم يلزمه إلا القيمة.
وقال الشيخ: إن كان فقيرًا فلا يلزمه عوض، إذ طعام الجائع، وكسوة العاري،
فرض كفاية، ويصيران فرض عين على المعين، إذا لم يقم به غيره اهـ وإن بادر
رب الطعام فباعه أو وهبه قبل الطلب صح، ويستحق المضطر أخذه من المشتري أو
المتهب، وبعد الطلب لا يصح البيع، قال ابن رجب وغيره، في الأظهر قال الشيخ:
وإذا وجد المضطر طعامًا لا يعرف مالكه، وميتة فإنه يأكل الميتة، إذا لم
يعرف مالك الطعام، وأمكن رده إليه بعينه، وأما إذا تعذر رده إلى مالكه،
بحيث يجب أن يصرف إلى الفقراء كالغصوب، والأمانات التي لا يعرف مالكها فإنه
يقدم ذلك على الميتة.
(وعن أبي واقد) الليثي رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله إنا بأرض
تصيبنا المخمصة فما يحل لنا من الميتة قال إذا لم تصطبحوا) أي تأكلوا
صباحًا وهو أول النهار، وهو الغداء، معروف عند العرب (ولم تغتبقوا) أي
تأكلوا عشية والصبوح والغبوق شرب اللبن أول النهار وآخره، ثم استعملا في
الأكل للغداء والعشاء (ولم تحتفئوا) بكسر الفاء أي تظهروا
(4/423)
(بها بقلا فشأنكم بها) البقل، هو: ما ينبت
في بزره، وشأنكم بها أي: عليكم بها، وقال الأزهري: أراد إذا لم تجدوا ألبنة
تصطبحونها أو شرابًا تغتبقونه، ولم تجدوا بعد عدم الصبوح والغبوق بقلة
تأكلونها، حلت لكم الميتة، قال وهو الصحيح، وفي حديث العامري، قال: «ما
طعامكم؟» قلنا: نغتبق ونصطبخ" قال عقبة: قدح غدوة، وقدح عشية "قال: ذاك
وأبي الجوع، فأحل لهم الميتة على هذه الحال".
والآية المتقدمة دلت على أنه يجوز أكل المعتاد للمضطر في أيام عدم الاضطرار
والجمهور إلى أنها الحالة التي يصل بها الجوع فيها إلى حد الهلاك، أو إلى
مرض يفضي إليه، وتقدم بيان انتفاء الخبث في نحو الميتة عند الاضطرار، وقال
ابن أبي حمزة: الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة، فلو أكل ابتداء
لأهلكته، فشرع له أن يجوع، ليصير في بدنه بالجوع سمية، هي أشد من سمية
الميتة، والحديث (رواه أحمد) ورواه الطبراني ورجاله ثقات.
(وله) أي الإمام أحمد وأبي داود بسند جيد (عن جابر) بن عبد الله رضي الله
عنهما (أن أهل بيت كانوا بالحرة) أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود (فماتت
عندهم ناقة) لهم أو لغيرهم ولأبي داود أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده،
فقال رجل إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها فمرضت:
فقالت: امرأته انحرها، فأبى فنفقت فقالت:
(4/424)
اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها، ونأكله
فقال: حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فسأله، فقال: هل
عندك غنى يغنيك، قال: لا (فرخص لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
أكلها، قال فعصمتهم بقية شتائهم أو سنتهم) فدل الحديث على جواز تناول
المضطر
من الميتة ما يكفيه، كما هو نص القرآن ولا خلاف في
ذلك.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» متفق عليه وفيه «أيحب أحدكم أن
تؤتى مشربته» أي الغرفة التي يجمع فيها الطعام "فينتثل طعامه؟ وإنما تخزن
لهم ضروع مواشيهم
أطعمتهم.
ولأحمد من حديث اليثربي " لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه".
فدل الحديث وما في معناه على أنه لا يحل أن يحلب ماشية غيره إلا بإذنه
لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وبالغ حتى شبه ما في ضروع المواشي من
اللبن بالمشربة، وفي حفظها لما فيها من الطعام، فكما أن هذه يحفظ فيها
الإنسان طعامه، فتلك تحفظ له شرابه، وهو لبن ماشيته، وكما أن الإنسان يكره
دخول غيره إلى غرفة طعامه لأخذه كذلك يكره حلب غيره لماشيته، فلا يحل
الجميع إلا بإذن المالك، والجمع بينه وبين ما يأتي أن النهي
(4/425)
متناول للمحتلب غير الشارب، كالمتخذ خبنة
من الثمار، وأحاديث الإباحة للمحتلب الشارب فقط.
(وعن سمرة) رضي الله عنه (مرفوعًا إذا أتى أحدكم على ماشية) أي ليحلب ويشرب
(فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه) وظاهره الجواز، سواء كان مضطرًا إلى
الشرب، أو لا، لعدم تقييده بحد، ولا تخصيصه بوقت، ثم قال: (فإن لم يجب
فليحلب، وليشرب ولا يحمل) فأجاز التناول للكفاية فقط، ومنع من الحمل، رواه
أبو داود وغيره و (صححه الترمذي) وقال ابن المديني: سماع الحسن من سمرة
صحيح، وفي معناه أحاديث تشهد لصحته.
(ولأحمد عن أبي سعيد نحوه) ولفظه "إذا مر أحدكم بإبل فاراد أن يشرب من
ألبانها، فليناد: يا صاحب الإبل أو يا راعي الإبل، فإن أجابه وإلا فليشرب.
(وقال في الحائط نحو ذلك) أي "إذا أتى أحدكم حائطًا فأراد أن يأكل فليناد:
يا صاحب الحائط، ثلاثًا فإن أجابه وإلا فليأكل" ووراه ابن ماجه وأبو يعلى
وابن حبان والحاكم، وغيرهم، قال ابن القيم: وذهب إلى القول بهما أحمد في
إحدى الروايتين، والحديث الثالث عن ابن عمر، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة،
وأنه يسوغ الأكل من الثمار، وشرب اللبن، لضرورة وغيرها، ولا ضمان عليه وهذا
المشهور عن أحمد، وقالت طائفة: لا لضرورة، مع ثبوت العوض، وهو المنقول
(4/426)
عن الثلاثة، لقوله تعالى: {وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وخبر إن دماءكم
وأموالكم عليكم حرام" وهذا أكل بإباحة الشارع.
وقيل إن احتلب للحمل كان حرامًا، وهذا المنهي عنه، وإن كان للشرب فلا، ويدل
عليه قوله في حديث عمرو بن شعيب " من أصاب منه من ذي حاجة، غير متخذ خبنة،
فلا شيء عليه" ويدل على الجواز حديث عباد بن شرحبيل، ورافع ابن
عمرو.
فلأبي داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي رافع كنت أرمي نخل الأنصار،
فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رافع لم
ترم نخلهم؟» قلت: الجوع، قال «لا ترم، وكل ما وقع» صححه الترمذي، ولأبي
داود من حديث شرحبيل نحوه، وقال لصاحبه "ما علمته إذ كان جاهلاً ولا أطعمته
إذا كان جائعًا".
وأبي سعيد الخدري: روى عنه من يميز حديثه مع أنه موافق لغيره، مما يدل على
أنه محفوظ وأن له أصلاً، ولذلك صححه ابن حبان، قال المقبلي: ووجه موافقته
للقانون الشرعي، ظاهر فيمن له حق الضيافة، كابن السبيل وفي ذي الحاجة
مطلقًا، وسياقات الحديث تشعر بالاختصاص بمن هو كذلك، فهو المتيقن وأما
الغني الذي ليس له حق الضيافة،
(4/427)
فمشكوك فيه، فيبقى على المنع الأصلي اهـ،
وهذه الأحاديث مخصصة لحديث ابن عمر ونحوه، وحديث: "ليس في المال حق سوى
الزكاة" كما ورد في الضيافة، وسد رمق المسلم
ونحوه.
فصل في الضيف
أي في بيان حكم الضيف، وضيافته، ومن تجب عليه، وله، والضيف يطلق على الواحد
والجمع، وقد يجمع على أضياف وضيوف وضيفان، والضيف هو المجتاز بالقرى
والأمصار وغيرها فتجب للمسلم المجتاز بالقرى دون الأمصار عند الأكثر، لأن
الأمصار يكون فيها السوق والمساجد وغيرها، فلا يحتاج مع ذلك إلى الضيافة،
بخلاف القرى فإنه يبعد فيها البيع والشراء، فوجبت ضيافة المجتاز بها،
وإيواؤه لوجوب حفظ النفس، ودل على مشروعية الضيافة الكتاب والسنة.
(قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ} أي هل جاءك يا محمد {حَدِيثُ} أي خبر {ضَيْفِ
إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} سموا ضيفًا لأنهم كانوا في صورة الضيف، ولأن
الخليل حسبهم كذلك، وسماهم مكرمين، أي عند الله لقوله {بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ} أو عند الخليل حين أكرمهم بنفسه، وعجل لهم القرى، وقرئ
(مكرمين) بالتشديد {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا} أي نسلم
عليك سلامًا {قَالَ سَلَامٌ} أي عليكم سلام قيل: أي نحن وأنتم سلم و
{قَوْمٌ
(4/428)
مُنْكَرُونَ} أي للسلام الذي هو علم
الإسلام، أو لأنهم ليسوا ممن عهدهم من الناس، أو قاله لهم للتعرف.
(فراغ إلى أهله) أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه (فجاء بعجل) هو ولد البقرة
(سمين) ممتلئ الجسد من الشحم واللحم (فقربه إليهم) وضعه لديهم، ففيه أن من
إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل، وأن لا يوضع بموضع ثم يدعي إليه
(قال ألا تأكلون) قيل عرض للأكل، وقيل إنكار لعدم تعرضهم للأكل، ولا ريب
أنه تلطف وعرض حسن، وتضمنت هذه الآية آداب الضيافة.
(وقال) تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} يقدمون المهاجرين على
أنفسهم، فيما عندهم من الأموال {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} حاجة إلى
ما عندهم، نزلت في الأنصاري الذي قدم للضيف قوته وعياله، والإيثار هو تقديم
الغير على النفس في حظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن
قوة النفس، والصبر على المشقة، قال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أي من
سلم من الحرص الشديد، الذي يحمله على ارتكاب المحارم {فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ}.
(وفي الصحيح) أي صحيح البخاري (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه قال: أتى
رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصابني الجهد، فأرسل إلى
نسائه، فلم يجد عندهن شيئًا فقال:
(4/429)
"ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله" إلى آخر
الحديث، وذلك (أنها نزلت في أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري، يعني قوله
(ويؤثرون على أنفسهم) قال أبو طلحة: أنا يا رسول الله؛ ثم (قال لامرأته) أم
سليم بنت ملحان الأنصارية (هذا ضيف
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي نزل به وليس عنده ما يضيفه، لا
تدخريه شيئًا.
(فقالت: والله ما عندي) أي ليس لدي (إلا قوت الصبية) أي ما يقوت الصغار
(فقال: نومي صبيانك) أرقديهم يقال: نومه فنام سكن (وأطفئي السراج) لئلا
يروا ما يصنعون ونطوي بطوننا الليلة (وقدمي ما عندك) من القوت (للضيف) وهو
يقال للمفرد وللجمع، والنازل بك (ونوهمه أنا نأكل) ليأكل والوهم ما يقع في
القلب من الخاطر، وفيه "لقد عجب الله من فلان وفلانة في صنيعهما البارحة".
(وله عنه) أي وللبخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه (في قصة قدح
اللبن) وكان قد اشتد به الجوع فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرف ما
به فدعاه، وإذا قحد لبن أهدي إليه فقال له: ادع أهل الصفة وأخذوا مجالسهم
فقال: "خذ فاعطهم" فجعل يعطي الرجل منهم فيشرب حتى يروى، حتى انتهى إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال له) أي قال لأبي هريرة «اقعد فاشرب
فشربت» أي من ذلك القدح (فقال اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا
أجد له مسلكًا) قال: «فأرنيه» فأعطيته
(4/430)
القدح فحمد الله وأثنى عليه، وشرب الفضلة.
ففي الحديث علم من أعلام النبوة، وتقديم أهل الصفة، فهم كالضيوف.
(وعن أبي شريح) خويلد بن عمرو الخزاعي (مرفوعًا) على النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ} يعني الإيمان الكامل، المنجي
من عذاب الله {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي بيوم القيامة، المستعد المجتهد في
فعل ما يدفع به أهواله، فيأتمر بما أمر الله به، وينتهي عما نهى عنه، ومن
جملة ما أمر به قوله (فليكرم ضيفه) وهو القادم من السفر، النازل عند
المقيم، ويطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى، والضيافة من مكارم
الأخلاق، ومحاسن الدين، واستدل الجمهور بقوله (جائزته) أنها ليست واجبة،
وفسروها بالعطية، والصلة التي أصلها على الندب وأن معناه الاهتمام بالضيف
في اليوم والليلة (قالوا) يا رسول الله (وما جائزته؟ قال: يومه وليلته).
والحديث دليل على وجوبها، لتأكد ذلك بقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر» فإن فعل خلاف ذلك، فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وفروع
الإيمان مأمور بها، ثم تعليق ذلك بإكرام الضيف، وهو أخص من مطلق الضيافة،
فدل على لزومها، ولغير ذلك مما يأتي وغيره، قال: (والضيافة أي القرى ثلاثة
أيام) أي طعام الضيف وشرابه، ومسكنه وعلف دابته
(4/431)
(فما كان وراء ذلك فهو صدقة) أي معروف، إن
شاء فعل، وإن شاء ترك، فصرح أن ما قبل ذلك واجب شرعًا (ولا يحل له أن يثوي)
أي يقيم (عنده حتى يحرجه، متفق عليه) أي حتى يوقعه في الحرج وهو الإثم،
لأنه قد يكدره، فيقول: هذا الضيف ثقيل، أو قد ثقل علينا بطول إقامته، أو
يتعرض له بما يؤذيه، أو يظن به ما لا يجوز.
قال النووي: وهذا محمول على ما إذا أقام بعد الثلاثة بغير استدعائه، وأما
إذا استدعاه وطلب منه إقامته، أو علم أو ظن منه محبة الزيادة على الثلاث أو
عدم كراهته فلا بأس بالزيادة لأن النهي إنما جاء لأجل كونه يؤثمه فلو شك لم
يحل له.
(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن عقبة) بن عامر رضي الله عنه قال:
0قلت يا رسول الله إنك تبعثنا) في العمل (فننزل بقوم لا يقرونا) أي لا
يضيفونا (فما ترى) أي أن نفعل إذا لم يضيفونا (فقال: إن نزلتم بقوم، فأمروا
لكم بما ينبغي للضيف) أي من الإكرام بما لا بد منه من طعام وشراب، وما
يلتحق بهما (فاقبلوا) أي ما ينبغي للضيف من القرى (وإن لم يفعلوا) أي فلم
يقروكم (فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم).
فدل على وجوب حق الضيف مع ما تقدم، وقيل هذا حيث لم يكن بيت المال، وقيل
حيث كانت المواساة واجبة، والتأويل وتخصيص ما شرع الله لأمته لا يقبل إلا
بدليل وليس
(4/432)
في هذه الأدلة ما يخالف القواعد الشرعية،
لأن مؤونة الضيافة بعد شرعتها قد صارت لازمة على المضيف، لكل نازل عليه،
فللنازل المطالبة بهذا الحق الثابت شرعًا كالمطالبة بسائر الحقوق، فإذا
أساء إليه وأهمل حقه، كان له مكافأته بما أباح له الشارع.
(ولأحمد من حديث المقدام) أبي كريمة (سمعته) يعني رسول اله - صلى الله عليه
وسلم - (يقول: ليلة الضيف) أي ويومه (واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه)
أي المتسع أمام الدار وما امتد من جوانبها (محرومًا) أي من الضيافة (كان
دينًا له عليه، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) أي الأخذ بمثل قراه (وله أن
يعقبهم بمثل قراه) فيأخذه، ورواه أبو داود وغيره، وإسناده على شرط الصحيح،
وله أيضًا "أيما رجل استضاف قومًا، فأصبح الضيف محرومًا، فإن نصره حق على
كل مسلم، حتى يأخذ بقرى ليلته، من زرعه وماله" وله شواهد، وقال أحمد له أن
يأخذ من أرضهم وزرعهم ما يكفيه بغير إذنهم، وفي رواية عنه على أهل القرى
دون الأمصار.
باب الذكاة
الذكاة تمام الشيء، ومنه الذكاة في السن، أي تمامه، وسمي الذبح ذكاة لأنه
إتمام الزهوق، ويأتي قوله {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي أدركتموه وفيه حياة
فأتممتموه، ثم استعمل في الذبح
(4/433)
سواء كان بعد جرح سابق أو ابتداء، والذكاة
شرعًا: ذبح أو نحر مقدور عليه مباح أكله من حيوان يعيش في البر بقطع حلقوم
أو مرئ، أو عقر إذا تعذر، قال الوزير: أجمعوا على أن ما أبيح أكله من
الحيوان البري لا يستباح إلا بالذكاة، وأما البحري فما أبيح منه كالسمك فلا
يحتاج إلى ذكاة، وأجمعوا على أن الذبائح المعتد بها ذبيحة المسلم العاقل،
والمسلمة العاقلة القاصدين للتذكية، اللذين يتأتى منهم الذبح، وأن ذبائح
أهل الكتاب العقلاء معتد بها. وقال الشيخ وغيره: يشترط قصد التذكية، فلو لم
يقصد الأكل وقصد حل يمينه لم تبح.
(قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهي ما مات من الحيوان حتف
أنفه، من غير ذكاة ولا اصطياد لما فيها من المضرة، مضرة الدم المحتقن، فهي
ضارة للدين والبدن، فلهذا حرمها الله عز وجل، ويستثنى من الميتة السمك،
فإنه حلال، سواء مات بتذكية، أو غيرها كما سيأتي (والدم) يعني المسفوح منه
لقوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} وهو المصبوب المهراق، وكان أهل الجاهلية
إذا جاع أحدهم، أخذ محددًا ففصد به بعيره أو حيوانًا غيره، فيجمع ما يخرج
منه من الدم فيشويه ويأكله، فلهذا حرم، وأما الطحال والكبد فحلال للأخبار
(ولحم الخنزير) إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، كما هو
المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطرد، فدل على شمول اللحم لجميع
الأجزاء، من الشحم وغيره.
(4/434)
(وما أهل لغير الله به) أي ذبح فذكر عليه
اسم غير الله، فهو حرام، لأن الله أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم،
فمتى عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره، من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير
ذلك من سائر المخلوقات فإنه حرام بإجماع المسلمين (والمنخنقة) وهي التي
تموت بالخنق إما قصدًا وإما اتفاقًا بأن تتخبل في وثاقها فتموت به فهي
حرام، وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت
أكلوها.
(والموقوذة) وهي التي تضرب بغير محدد، كخشب أو حجر أو غيرهما حتى تموت، قال
بعض السلف: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي، حتى إذا ماتت أكلوها، ويأتي
في باب الصيد "إذا أصابه بعرضه فهو وقيذ" فلا يحل بالإجماع، وما صدمه
الجارح بثقله فلم يجرحه، فرجح ابن كثير وغيره عدم حله، وهو مذهب أبي حنيفة
وأحمد قال: وهو أشبه بالصواب، لأنه أجرى على القواعد الأصولية، وأمس للأصول
الشرعية واستدل بحديث " ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل" (والمتردية" وهي
التي تتردى من مكان عال، أو في بئر فتموت.
(والنطيحة) وهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن
وخرج منها الدم، ولو من مذبحها فعيلة بمعنى مفعولة، أي منطوحة، وإنما
استعملت فيها تاء التأنيث لأنها أجريت مجرى الأسماء، أو لتدل على التأنيث
(وما
(4/435)
أكل السبع) أي ما عدى عليها السبع فأكل
بعضها فماتت بذلك، فهي حرام، وإن كان قد سال الدم من مذبحها فلا تحل
بالإجماع، وكان أهل الجاهلية يأكلونه.
(إلا ما ذكيتم) أي إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، فذبحتموه، وفيه روح
فكلوه فهو ذكي، وتقدم أن أصل التذكية الإتمام، ويقال: ذكيت النار إذا أتممت
اشتعالها، والمراد هنا إتمام فري الأوداج وإنهار الدم، وأقل الذكاة في
الحيوان المقدور عليه قطع المرئ والحلقوم، وكماله أن يقطع الودجين معهما،
مع بقاء الحياة فيها مستقرة بأن تحرك بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد
الذبح، فهي حلال، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، فأما متى صارت هذه الأشياء
المذكورة في الآية إلى حالة المذبوح فهي في حكم الميتة، فلا تكون حلالاً
وإن ذبحت، واعتبر بعضهم الحركة القوية.
وقال الشيخ: إن خرج منه دم كعادة المذبوح حل، وقال بعد ذكر كلامهم في شروط
تذكية المريضة ونحوها: الأظهر أنه لا يتشرط شيء من هذه الأقوال بل متى ذبح
فخرج الدم الأحمر، الذي يخرج من الذكي في العادة، ليس هو دم الميت، فإنه
يحل أكله، وإن لم يتحرك.
(وما ذبح على النصب) قيل النصب جمع واحده نصاب، وقيل واحد وجمعه أنصاب، وهو
الشيء المنصوب، قال:
(4/436)
قطرب: لأجل النصب، قال ابن جريج وغيره،
وكانت النصب حجارة حول الكعبة ثلاث مائة وستون نصبًا كانت العرب في
جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح،
ويشرحون اللحم، ويضعونه على النصب، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم
عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم
الله، فالذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله - صلى الله
عليه وسلم -.
(وقال) تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ
عَلَيْهِ} ذكر تعالى قبل هذه الآية ما أباحه لعباده، أن يأكلوا مما ذكر
اسمه عليه، ومفهومه أنه لا يباح ما لم يذكر اسمه عليه، كما كان يستبيحه أهل
الجاهلية، من أكل الميتة والمنخنقة والمقوذة والمتردية، ونحو ذلك، وما ذبح
على النصب وغيرها، ثم قال: (وما لكم أن لا تأكلوا) أي وما يمنعكم أن تأكلوا
{مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا
مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ} وهو ما تقدم في الآية قبلها، ثم نهاهم أن يأكلوا مما لم يذكر
اسم الله عليه ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}.
قال ابن القيم: وأما ذبيحة المجوسي والمرتد، وتارك التسمية، ومن أهل
بذبيحته لغير الله، فنفس ذبح هؤلاء أكسب للمذبوح خبثًا، أوجب تحريمه، ولا
ينكر أن يكون ذكر الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها خبثًا وذكر
اسم الله
(4/437)
وحده يكسبها طيبًا، إلا من قل نصيبه من
حقائق العلم والإيمان، وذوق الشريعة، وقد جعل الله ما لم يذكر اسم الله
عليه من الذبائح فسقًا، وهو الخبيث، ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة
يطيبها، ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح فإذا أخل به لابس الشيطان الذابح
والمذبوح، فأثر خبثًا في
الحيوان اهـ.
واستدل بعض أهل العلم بهذه الآية أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله
عليها، وإن كان الذابح مسلمًا وهو رواية عن مالك وأحمد، وقيل مستحبة، وهو
مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وجماعة من السلف والخلف سقوط التسمية سهوًا
لا عمدًا، لحديث عائشة: أن ناسًا قالوا يا رسول الله: إن قومًا حديثي عهد
بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال: «سموا
أنتم وكلوا» وقال ابن عباس إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل، فإن
المسلم فيه اسم من أسماء الله؛ وفي مراسيل أبي داود مرفوعًا، «ذبيحة المسلم
حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله».
ونقل أبو الحسن في كتابه الهداية الإجماع قبل الشافعي على تحريم متروك
التسمية عمدًا، حتى قالوا: لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ، لمخالفته
الإجماع، وتقدم الخلاف، وقال ابن جرير من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من جميع
الحجة، وخالف
(4/438)
الخبر الثابت يعني " المسلم يكفيه اسمه"
وفيه مقال، ومراده قول الجمهور، فإنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين
مخالفًا لقول الجمهور فعده إجماعًا، ومما استدل به أصحاب هذا القول أن من
تركها عامدًا لا تحل، وناسيًا تحل، قال المراد من الآية الميتات ونحوها،
وما ذبح على غير اسم الله لقوله {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والفسق في ذكر غير
اسم الله كما في قوله {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}.
وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ} وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد تأكلون ما قتلتم ولا
تأكلون ما قتل الله؛ فنزلت هذه الآية {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في أكل
الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إن عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه، إلى قول
غيره، فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك، وهذه الآية تؤيد قول من قال إن
المراد بالآية الميتات، وما ذبح على غير اسم الله.
(وقال) تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} لما
ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث، الميتة والمنخنقة إلى
آخر الآية، وما أحله لهم من الطيبات قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ} يعني الذبائح على اسم الله عز وجل، والآية عامة في جميع
الطيبات ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقال: {وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
(4/439)
لَكُمْ} أي ذبائحهم، وهذا بإجماع المسلمين
أن ذبائحهم حلال للمسلمين لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون
على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه.
قال ابن كثير: ولا يلزم من إباحة طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم
الله عليه، لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم، وهو متعبدون لذلك، ولهذا لم
يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك، ومن شابههم لأنهم لا يذكرون اسم الله على
ذبائحهم، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة، بل يأكلون
الميتة، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة، ومن يتمسك
بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء، على أحد قولي العلماء، ونصارى
العرب كبني تغلب وتنوخ وبهرًا وجذام ولخم وعاملة، ومن أشبههم لا تؤكل
ذبائحهم عند الجمهور، وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعًا لأهل
الكتاب، فإنهم لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
وقال الشيخ: كل من يدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده قد
دخل في دينهم، أو لم يدخل وسواء كان دخوله بعد النسخ والتبديل أو قبل ذلك،
وهو المنصوص الصريح عن أحمد، وإن كان بين أصحابه خلاف، وهو الثابت عند
الصحابة بلا نزاع بينهم، وذكر الطحاوي أنه إجماع قديم، وأجمعوا على أن
ذبائح الكفار من غير أهل الكتاب غير مباحة.
(4/440)
وعن أحمد وغيره يحرم ما ذبحه أهل الكتاب
لعيدهم، أو ليقربوه إلى شيء يعظمونه، ولو ذكروا اسم الله عليه، اختاره
الشيخ، وقال ابن عقيل: يكون ميتة لقوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ
اللهِ} قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: لا يؤكل، وقال الشيخ: هذا أشهر
نصوص أحمد إذا نوى بها التقرب إلى غير الله، وإن سمى الله عليها، وقال:
يحرم ما ذبحه الكتابي لعيده، أو ليتقرب به إلى شيء يعظمه، نص عليه، وقال
تعالى: {وَطَعَامُكُمْ} أي أيها المسلمون {حِلٌّ لَهُمْ} فيحل لكم أن
تطعموهم من ذبائحكم، كما أكلتم من ذبائحهم وهذا من باب المكافأة والمقابلة
والمجازاة، وحديث: "لا تصحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" محمول على
الندب والاستحباب.
(وقال) تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} أي ما يصاد
منه طريًا وطعامه ما يتزود منه مليحًا يابسًا، والمراد بالبحر جميع المياه،
مالحة كانت أو حلوة، وعن ابن عباس، صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به (وتقدم)
أي حديث "أحلت لنا ميتتان ودمان" في كتاب الأطعمة "أما الميتتان فالجراد
والحوت" فيحل بدون ذكاة بالاتفاق وكذا ما طفى منه، عند الجمهور، وكذا الدبا
والجندب يحل بدون ذكاة، سواء مات بسبب كبسه، أو تغريقه، وهو قول عامة أهل
العلم.
(وقوله) أي وتقدم قوله "في البحر: هو الطهور ماؤه" يعني
(4/441)
في باب المياه (الحل ميتته) يعني السمك
وتقدم أن الجمهور على إباحة ميتة البحر، سواء ماتت بنفسها أو ماتت
بالاصطياد، وأنه لا خلاف في حل السمك، على اختلاف أنواعه، للآية واستثنى
الضفدع للخبر، والسرطان والتمساح، ونحوه للاستخباث، والضرر اللاحق من السم.
(وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (ألقى البحر) أي طرح على
جانبه (حوتًا) عظيمًا (ميتًا لم نر مثله) من حيتان البحر (يقال له العنبر)
وهو حوت عظيم، قد يبلغ طوله ثلاثين ذراعًا، ضخم الرأس وله أسنان (فأكلنا
منه نصف شهر) وقبله قال: غزونا جيش الخبط، وأميرنا أبو عبيدة، فجعنا جوعًا
شديدًا فألقى البحر حوتًا، وفيه: فأخذ أبو عبيدة عظمًا من عظامه، فمر
الراكب تحته (وذكرنا ذلك) أي ما وجدوا من الحوت (للنبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال: كلوا رزقًا) أي هذا الحوت (أخرجه الله لكم) "أطعمونا إن كان
معكم" فأتاه بعضكم بشيء، فأكله (متفق عليه) فدل على حل حيتان البحر وإن طفت
على جانبه.
(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن رافع) بن خديج رضي الله عنه قال:
(قلت: يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدًا) لعله عرف ذلك بخبر أو قرينة وهم
بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه (وليس معنا مدي) جمع مدية وهي السكين، سميت
بذلك لأنها تقطع مدي الحيوان أي عمره
(4/442)
(فقال: ما أنهر الدم) أي أساله وصبه بكثرة،
من النهر سمي به لجريانه، أي فهو حلال (وذكر اسم الله عليه فكلوا) أي
حلالاً فدل الحديث على اشترط إنهار الدم، واشتراط التسمية وعلق الأذان
بمجموعهما والمعلق على شيئين لا يكتفي فيه إلا باجتماعهما، وينتفي بانتفاء
أحدهما.
(ليس السن) وهو العظم النابت في فم الحيوان (والظفر) مادة قرنية، تنبت في
أطراف أصابع الحيوان، وفي لفظ "ما لم يكن سنًا أو ظفرًا، وسأحدثكم عن ذلك"
(أما السن فعظم) أي ذلك عظم لا يحل الذبح به، ولعله قد تقرر كون الذكاة لا
تحصل به، فاقتصر على قوله: "فعظم". قال النووي: أي لا تذبحوا بالعظم فإنها
تنجس بالدم وقد نهيتم عن تنجيسها، لأنه زاد إخوانكم من الجن، وقال ابن
القيم: هذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام إما لنجاسة بعضها، وإما على
تنجيسه على مؤمني الجن، وقال ابن الجوزي: دل على أن الذبح بالعظم كان
معهودًا عندهم أنه لا يجزئ وقررهم الشارع على ذلك.
(وأما الظفر فمدى الحبشة) أي فسكين الحبشة، وهم قوم كفار، وقد نهيتهم عن
التشبه بهم، وقيل لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع به غالبًا إلا
الخنق، وتحريم الذبح بهما مذهب جمهور العلماء، وما روي عن أبي حنيفة
مستدلاً بما روي "فر الدم بما شئت" فعلى تقدير صحته هو عوام مخصوص بحديث
رافع وغيره، وقال الوزير: اتفقوا على أن الذكاة بالسن والظفر
(4/443)
المتصلين لا يجوز، وقال مالك والشافعي
وأحمد والمنفصلين لا يجوز أيضًا وتقدم أن الذكاة تكون بالنحر للإبل وهو
الضرب بالحديد في لبة البدنة حتى يفري أوداجها، والذبح لما عداها، وهو قطع
الأوداج، وهما عرقان محيطان بالحلقوم، وتقع على الحلقوم والمريء، فسميت
الأربعة أوداجًا واقتصر بعضهم على الثلاثة، وقال: المريء مجرى الطعام وليس
به من الدم ما يحصل به إنهاره.
وقال الشيخ: يقطع الحلقوم والمريء والودجان، والأقوى أن قطع ثلاثة من
الأربع يبيح، سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن فإن قطع الودجين أبلغ من قطع
الحلقوم، وأبلغ من إنهار الدم اهـ، وفيه أنه يجزئ محدد فيجزئ، السيف
والسكين والحجر والخشبة والزجاج والقصب والخزف والنحاس وسائر الأشياء
المحددة التي تنهر الدم، ويحصل بها القطع جرحًا وحكاه الوزير وغيره
إجماعًا.
(وللبخاري) وغيره (عن كعب) بن مالك رضي الله عنه (أن امرأة) كانت ترعى
الغنم لكعب (ذبحت شاة بحجر)
وذلك بحده لا بثقله (فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عن حل ذبيحتها
(فأمر بأكلها) فدل على صحة تذكية المرأة وهو قول
جمهور العلماء، وفيه خلاف شاذ لا يلتفت له مع النص،
ولا وجه له، ودل على صحة التذكية بالحجر الحاد إذا فرى الأوداج، لأنه جاء
في رواية، أنها كسرت الحجر وذبحت به،
(4/444)
والحجر إذا كسر يكون فيه حد، ودل على جواز
ذبح ما خيف، موته بغير إذن مالكه، وهو مذهب الجمهور، وعلى تصديق الأجير
الأمين فيما اؤتمن عليه، حتى يتبين عليه الخيانة، فإن الأمة كانت راعية
لكعب، فخشيت أن تموت فذبحتها.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن قومًا) أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يسألونه (قالوا: يا رسول الله إن قومًا) وقد دخلوا في الإسلام
(يأتوننا باللحم) من الحيوانات المباحة (لا ندري أذكر اسم الله عليه) أي
عند التذكية (أم لا) أو لم يذكروا اسم الله عليه عند ذكاته (فقال) رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - «سموا عليه أنتم وكلوا» أجاب - صلى الله عليه
وسلم - السائل بغير ما يترقب كأنه يقول الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله
عليه، وتأكلوا منه (قالت وكانوا حديثي عهد بكفر، رواه البخاري).
وفي رواية: حديث عهدهم بالجاهلية؛ زاد مالك، وذلك في أول الإسلام؛ فدل
الحديث على أنه لا يلزم أن تعلم التسمية فيما يجلب إلى أسواق المسلمين، ولا
ما ذبحه الأعراب من المسلمين، لأنهم قد عرفوا التسمية، ولأن المسلم لا يظن
به إلا الخير إلا أن يتبين خلاف ذلك.
(ولمسلم) وغيره (عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه قال (نهى - صلى الله
عليه وسلم - أن يقتل شيء من الدواب صبرًا) أي حبسًا، وهو إمساكه حيًا ثم
يرمى به حتى يموت؛ ولمسلم وغيره أيضًا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا شيئًا
(4/445)
فيه الروح غرضًا» أي هدفًا ولعن من فعله.
(وله) أي لمسلم أيضًا في صحيحه (عن شداد بن أوس) ابن ثابت النجاري، ابن أخي
حسان، مات سنة ثمان وخمسين (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال: «إن الله كتب الإحسان» ضد الإساءة أي أوجب الإحسان (على كل شيء) من
سائر الحيوانات (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) بكسر القاف، لتريحوا المقتول،
وذلك من الإحسان به (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ليحصل راحة الذبيحة
وخلاصها من الألم، والذبحة بالكسر ما يذبح من الحيوان، وبالفتح الفعل نفسه،
فالإحسان يتناول الحسن شرعًا وعرفًا وذكر منه الإحسان في القتل لأي حيوان،
بهيمي أو آدمي حتى في حد وغيره ثم وضع بعض كيفيته فقال:
(وليحد أحدكم شفرته) بفتح الشين وسكون الفاء، أي سكينه، ولأحمد مرفوعًا
"أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم" (وليرح ذبيحته) ويكون ذلك
بإحداد السكين، والاتكاء عليها بقوة، وتعجيل إمرارها، وحسن الصنيعة في
الذبح.
قال النووي: ويستحب أن لا يحد السكين بحضرة الذبيحة وأن لا يذبح واحدة
بحضرة أخرى، ولا يجرها إلى مذبحها وللدارقطني "ولا تعجلوا الأنفس قبل أن
تزهق" أي لا تشرعوا في شيء من الأعمال المتعلقة بالذبيحة قبل أن تموت.
وقال الشيخ: في هذا دليل على أن الإحسان واجب على كل حال، حتى في إزهاق
النفس ناطقها وبهيمها فعلى
(4/446)
الإنسان أن يحسن القتلة للآدميين، والذبحة
للبهائم اهـ.
ولا يجوز الإحراق بالنار، لما روي «لا تعذبوا بالنار فإنه لا يعذب بها إلا
ربها» فيحرم وقيل يحرم شيء: كل من السمك والجراد حيًا.
(وعن أبي سعيد) الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: ذكاة الجنين ذكاة أمه، رواه الخمسة) وفي لفظ "ذكاة الجنين بذكاة أمه"
وللبيهقي "في ذكاة أمه" معللاً بأن ذكاة الأم ذكاة له فإنه جزء من أجزائها،
والذكاة قد أتت على جميع أجزائها وأجزاء المذبوح لا تفتقر إلى ذكاة مستقلة،
وهذا هو القياس الجلي، لو لم يكن في المسألة نص، كيف وقد اتفق النص والأصل.
وقال ابن القيم: من قال ذكاة أمه بالنصب فقوله باطل من وجوه والحديث له طرق
وتكلم بعضهم فيه.
وقال الجويني: لا يتطرق احتمال إلى متنه، ولا ضعف إلى سنده، وبمجموعها يحتج
به، وصححه ابن حبان، وابن دقيق العيد، وفيه عن جماعة من الصحابة ما يؤيد
العمل به، والجمهور على أنه إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتًا بعد ذكاتها
فهو حلال، مذكى بذكاة أمه.
وقال ابن المنذر: لم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا
يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه، إلا ما يروى عن أبي حنيفة، وذلك لصراحة
الحديث فيه أنه يحل بذكاة أمه مطلقًا سواء خرج حيًا أو ميتًا، وقال: كان
الناس على إباحته، لا نعلم أحدًا منهم خالف ما قالوه
(4/447)
إلى أن جاء النعمان فقال: لا يحل، واتفقوا
على أنه إن خرج حيًا يعيش مثله لم يبح إلا بالذبح.
(وعن رافع) بن خديج رضي الله عنه (قال: ند بعير) أي نفر من إبل القوم
وكانوا في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن معهم خيل
(فرماه رجل بسهم) السهم النبل) ونبله رماه به (فحبسه) أي أصابه السهم فوقف
(فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لهذه البهائم أوابد) أي توحشًا
(كأوابد الوحش) أي شديد الهرب من حيوان البر (فما فعل منها هذا) أي فما ند
منها كما يند أوابد الوحش (فافعلوا به هكذا) متفق عليه.
فدل على جواز أكل ما رمي بالسهم فجرح في أي موضع كان من جسده، بشرط كونه
متوحشًا كما نص عليه الشارع، أو كان وحشيًا، وهو مذهب الجمهور، وقالوا فيما
إذا وقع بعير أو بقرة أو شاة في بئر، فلم يقدر عليه إلا أن يطعن في سنامه
أو عقره، فإنها تنتقل ذكاته من الذبح والنحر إلى العقر، إلا أن مالكًا قال:
لا يجوز إلا أن يذكي، وقال أحمد لعله لم يسمع حديث رافع.
باب الصيد
أي هذا باب يذكر فيه أحكام الصيد والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله،
والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، وهو لحاجة جائز، وللهو واللعب مكروه،
وإن كان
(4/448)
فيه ظلم للناس بالعدوان على زروعهم
وأموالهم فحرام، وتقدم أن الله حرم صيد الحرم، ومنع منه، وأن المحرم لا
يباح له أن يصيد، ولا يحل له ما صيد لأجله، واشترطوا لإباحة الصيد أربعة
شروط، كون الصائد من أهل الذكاة، وكون الآلة محددة، والجارح معلماً وقصد
الصيد، والتسمية ويأتي مفصلاً.
(قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}) أي ما يصطاد منه طريًا
{وَطَعَامُهُ} أي ما يتزوج منه مليحًا يابسًا، وقال ابن عباس وغيره: صيد
البحر ما أخذ منه حيًا وطعامه ما لفظه ميتًا وقال أبو بكر: كل ما فيه
{مَتَاعًا لَكُمْ} أي منفعة وقوتًا لكم أيها المخاطبون {وَلِلسَّيَّارَةِ}
جمع سيار أي المسافرين، فدلت الآية على حل صيده وطعامه وميتته، وبحديث
«الطهور ماؤه، الحل ميتته» وخبر الجيش الذي فيهم أبو عبيدة وهم ثلثمائة
«انتهوا إلى البحر فإذا بحوت مثل الظرب، أكلوا منه ثمانية عشرة ليلة،
وتزوجوا منه» وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هو رزق أخرجه الله
لكم».
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} أي في حال
إحرامكم، وتقدم حكمه، ومفهوم الآية حله في غير حرم وإحرام.
(وقال) تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} أي من إحرامكم {فَاصْطَادُوا} أي إذا
فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرمًا عليكم في حال
الإحرام من الصيد، فرد الحكم إلى ما
(4/449)
كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبًا رده
واجبًا، وإن كان مستحبًا فمستحب، أو مباحًا فمباح، قال جمع من أهل العلم:
الأمر الوارد بعد النهي يرفع النهين فيعود الحكم إلى ما كان عليه في
الغالب، وهو هنا إباحة الاصطياد واتفق أهل العلم أن الأمر هنا أمر إباحة لا
أمر وجوب.
(وقال) تعالى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وفي سورة الأعراف {يُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} قيل: نزلت في
عدي وزيد قالا: إنا نصيد بالكلاب والبزاة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} أي وأحل لكم صيد ما علمتم من
الجوارح، وهن الكلاب المعلمة، والبازي وكل طير يعلم للصيد.
والجوارح هي الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها، وعامة العلماء أن
المراد من الجوارح الكواسب من سباع البهائم، كالفهد والنمر والكلب، ومن
سباع الطير، كالبازي والعقاب والصقر ونحوها مما يقبل التعليم، فيحل صيد
جميعها، سميت جارحة لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد، أي كسبها، يقال: فلان
جارحة أهله أي كاسبهم.
(مكلبين) المكلب هو الذي يغري الكلب على الصيد، أي في حال تكليبكم هذه
الجوارح، أي إغرائكم إياها على الصيد، ذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم، والمراد
جميع جوارح الصيد (تعلمونهن) تؤدبونهن آداب أخذ الصيد {مِمَّا عَلَّمَكُمُ
اللهُ} أي
(4/450)
من العلم الذي علمكم الله، وذلك أنه إذا
أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء
إليه، ولا يمسكه لنفسه، فهذه ثلاثة أشياء إذا وجدت فيه كان معلمًا إذا أشلي
استشلى، وإذا زجر انزرج، وإذا أخذ الصيد أمسكه ولم يأكل فمتى كان كذلك
{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} من الصيد فالجارحة المعلمة إذا
خرجت بإرسال صاحبها، فأخذت الصيد وقتلته كان حلالاً.
ثم قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} أي عند إرساله، فيقول:
بسم الله، ويسن والله أكبر؛ كما بينته السنة فالتسمية شرط حالة الذبح، وفي
الصيد حالة إرساله الجارحة، أو السهم فمتى كان معلمًا وأمسك على صاحبه،
وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله حل الصيد وإن قتل بالإجماع وقال
الوزير: اتفقوا على أن من شرط تعليم سباع البهائم أن يكون إذا أرسله استرسل
وإذا زجره انزجر.
واشترط الجمهور ترك الأكل ولم يشترط مالك واتفقوا على أن سائر الجوارح سوى
الكلب لا يعتبر في تعليمه ترك الأكل مما صاده، وإنما تعليمه هو أن يرجع إلى
صاحبه إذا دعاه؛ قال الشيخ والتحقيق أن المرجع في تعليم الفهد إلى أهل
الخبرة، فإن قالوا إنه من جنس تعليم الصقر بالأكل لحق به وإن قيل إنه يعلم
بترك الأكل كالكلب لحق به، وإذا لحق بالكلب بعد تعلمه، لم يحرم ما أمسك من
صيده، ولم يبح ما أكل منه
(4/451)
{وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ}.
(وعن أبي ثعلبة) الخشني رضي الله عنه (قلت: يا رسول الله إنا بأرض صيد) أي
يكثر فيها الصيد فـ (أصيد بقوسي) أي بالنبل (وأصيد بكلبي المعلم) وهو الذي
يغرى فيقصد ويزجر فيقعد، وأما غير المعلم فهو الذي لا يمتثل الزجر، ولا
يترك أكل ما أمسك، (والذي ليس بمعلم؟ فقال: ما صدت بقوسك) وتقدم صفة القوس،
والمراد: بحده لا بعرضه، فمات (وذكرت اسم الله عليه) أي عند غرسال سهمك.
(فكل) ما أمسك عليك بهذه الصفة، فدل على اشتراط التسمية عند إرسال السهم،
وكذا عند إرسال الجارحة، وفي حديث عدي "وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله"
وظاهر الكتاب والسنة وجوب التسمية، وهو قول الجمهور، وإنما تسقط سهوًا
للأخبار. (وما صدت بكلبك المعلم
وذكرت اسم الله عليه فكل) وفي رواية "إذا أرسلت كلبك المعلم" فلا يحل إلا
إذا أرسله صاحبه فلو استرسل بنفسه، لم يحل ما يصيده إذا قتل، عند الجمهور،
وظاهره إن لم يذكر اسم الله عليه فلا يأكل كما تقدم، وقيل لا تسقط بحال،
بخلاف الذكاة فإن التسمية تسقط فيها سهوًا، والفرق بينهما كثرة الوقوع،
وتكرره، بخلاف الصيد، ولا يضر إن تقدمت التسمية بيسير،
أو تأخرت بيسير عرفًا، وبكثير في جارح، إذا زجره فانزجر، ولو سمى على صيد
فأصاب غيره حل، لا على سهم ألقاه
(4/452)
ورمى بغيره، ثم قال: "والذي ليس بمعلم" أي
وما صدت بكلبك غير المعلك "فأدركت ذكاته، متفق عليه" فالاعتماد هنا على
التذكية لا على إمساك الكلب.
ودل الحديث على إباحة الصيد بالكلاب المعلمة، وهو مذهب الجمهور، بشرط
إرساله إذا أرسله، وانزجاره إذا زجره، وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه،
وأن لا يأكل منه، وأن الكلب غير المعلم لا يؤكل ما صاده إلا ما أدرك ذكاته
والآية والسنة دلتا على شمول الجوارح الكواسب، ومن سباع البهائم والطير
والفهد والنمر والعقاب والبازي والصقر والشاهين ونحوها، لأن العرب إذا ذاك
تصيد بالكلاب والطيور، ولأن المكلب هو معلم الجوارح، ومضراها بالصيد
لصاحبها، وارائضها لذلك، بما علم من الحيل، وطرق التأديب وحكي أنه قول
فقهاء الأمصار.
(ولهما) أي البخاري ومسلم (عن عدي) بن حاتم رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول
الله إنا نرسل الكلب المعلم فيمسك علينا) أي ولا ندركه إلا بعد موت الصيد
(قال: كل) أي ما أمسكه عليك، وظاهره ولو أرسله على صيد فصاد غيره (قلت فإن
قتل) أي ما صاده لنا (قال: وإن قتل) أي فكل لزهوقه بالجارح المعلم (ما لم
يشركه كلب غيره) أي فإن شركه كلب غير كلبك المعلم فلا تأكل وفيه "فإن أخذ
الكلب ذكاته" وذلك إذا لم يدركه الصائد إلا بعد الموت، سواء قتله
(4/453)
جرحًا أو خنقًا، وإلا فالتذكية واجبة
اتفاقًا لقوله "فإن أدركته حيًا فاذبحه" وإن أدركته وفيه بقية حياة، فإن
كان قد قطع حلقومه أو مريئه أو جرح أمعاءه أو أخرج حشوته حل بلا ذكاة قال
النووي: بالإجماع.
(فإنك إنما سميت على كلبك) فدل على وجوب التسمية عند الإرسال (ولم تسم على
الآخر) نهى عنه لاحتمال تأثير كلب آخر غير المرسل، ترجيحًا لجانب الحظر،
وفي رواية وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره. وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري
أيهما قتله، فدل الحديث على حل أكل ما صاده كلبه المعلم، وإن قتل الصيد،
ودل على أنه لا يحل أكل ما يشاركه كلب آخر في اصطياد، ومحله إذا استرسل
بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذكاة فإن تحقق أنه أرسل من هو من أهل
الذكاة، حل، وإن لم يقتل فإباحته متوقفة على التذكية لا على الإمساك.
(قال: وإن قتل) أعاده لما يأتي من قوله (إلا أن يأكل الكلب) أي الذي أرسلت،
وفي رواية: "وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله (فإن أكل فلا تأكل فإني
أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه) يعني الكلب، فدل على أنه يحرم ما أكل منه
الكلب ولو كان معلمًا لتعليله بالخوف من أنه إنما أمسك على نفسه وهذا مذهب
جمهور العلماء، ومن شرط المعلم أن لا يأكل، فأكله دليل على أنه غير كامل
التعليم، وما ورد في خبر ثعلبة "وإن أكل منه" فحديث عدي أصح وأصرح، ومقرون
بالتعليل
(4/454)
المناسب للتحريم، وهو خوف الإمساك على
نفسه، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم، ويدل عليه ظاهر القرآن، وهو قوله
{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي صدن لكم.
ولأحمد من حديث ابن عباس: "إذا أرسلت كلبك، فإن أكل الصيد فلا تأكل، فإنما
أمسك على نفسه، فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل، فكل فإنما أمسك على صاحبه"
فجعله - صلى الله عليه وسلم - علامة على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه، وقال
ابن القيم: لا تعارض بين الحديثين على تقدير الصحة، ومحمل حديث عدي في
المنع على ما إذا أكل منه حال صيده، لأنه إنما صاد لنفسه، ومحمل حديث أبي
ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن صاده ونهي عنه.
ثم أقبل عليه فأكل منه، فإنه لا يحرم لأنه أمسكه لصاحبه، وأكله منه بعد
ذلك: كأكله من شاة ذكاها صاحبها، أو من لحم عنده، فالفرق بين أن يصطاد
ليأكل، أو يصطاد ثم يعطف عليه فيأكل منه، فرق واضح، فهذا أحسن ما يجمع به
بين الحديثين.
(وسئل) - صلى الله عليه وسلم - (عن صيد المعراض) قال ابن التين: إنه عصا في
طرفه حديدة يرمي به الصائد، فما أصاب بحده ذكي، وما أصاب بعرضه فوقيذ،
وقيل: هو السهم الذي لا ريش له، ولا نصل (فقال: ما خزق) أي بحده وقتل (فكل)
فتلك ذكاته (وما قتل بعرضه) يعني المعراض (فهو وقيذ) أي موقوذ، والموقوذ ما
قتل بعصا أو حجر أو ما لا حد فيه وقتل (فلا تأكل) فدل على أنه لا يحل صيد
المثقل، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وبندق
(4/455)
الرصاص أقوى من كل محدد فيحل به الصيد.
(ولهما عنه) أي عدي بن حاتم رضي الله عنه (مرفوعًا: إذا رميت الصيد فوجدته
بعد يوم أو يومين) وفي لفظ "ثلاث ما لم ينتن" أي تخبث رائحته (ليس به إلا
أثر سهمك) أي نبلك (فكل) وفي رواية "فكل ما لم يبت" والتعليل بما لم ينتن،
وما لم يبت، نص فيحمل ذكر الأوقات على التقييد به، ويترك الأكل على
الاحتياط، وترجيح جانب الخطر، وإن وجد به أثر غير سهمه لم يأكل كما تقدم،
فيما إذا خالط كلبه كلب آخر.
قال الشيخ: إذا لم يكن فيه إلا سهمه فإنه يحل، على الصحيح من أقوالهم، وبه
أفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عدي بن حاتم، وفي حديث أبي ثعلبة "فغاب
عنك ثلاثة أيام، وأدركته فكل ما لم ينتن" فهذان الحديثان أفتى بهما النبي -
صلى الله عليه وسلم - ومن أفتى بغير ذلك فلم يبلغه الحديث، وأما إذا انتن
فيكره أكله.
(وإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل) وهذا باتفاق العلماء إلا أن يتحقق أن
سهمه أصابه فمات، ولم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم، وظاهره، وإن وجد
به أثر السهم، لأنه يجوز أنه ما مات إلا بالغرق، ما لم يتحقق موته قبل
وقوعه في الماء.
وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا وجده في ماء، أو قد تردى من جبل، فإنه لا
يلح أكله، لأنه يجوز أن يكون الماء أو الجبل هما اللذان قتلاه.
(4/456)
باب الأيمان
جمع يمين وضعت في الأصل لتوكيد المحلوف عليه، وهي القسم والإيلاء والحلف،
واتفق أهل العلم على أن من حلف على يمين لزمه الوفاء بذلك، إذا كان طاعة،
وقال الشيخ: الحالف لا بد له من شيئين، من كراهة الشرط، وكراهة الجزاء عند
الشرط، ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفًا، سواء كان قصده الحظ والمنع، أو لم
يكن، قال: والعهود والعقود متقاربة المعنى أو متفقة، فإذا قال: أعاهد الله
أني أحج العام فهو نذر وعهد ويمين، وإن قال: لا أكلم زيدًا فيمين وعهد لا
نذر، فالأيمان تضمنته مع النذر، وهي أن يلتزم به قربة فيلزمه الوفاء، وهي
عقد وعهد ومعاهدة لله، لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه.
وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس، وهو أن يلتزم كل من المتعاقدين
للآخر ما اتفقا عليه، فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها، إن كان العقد
لازمًا، وإن لم يكن لازمًأ خير، وهذه أيمان بنص القرآن، ولم يتعرض لها ما
يحل عقدتها إجماعًا وما يقصد به الحظ أو المنع أو التصديق أو التكذيب،
بالتزامه عند المخالفة ما يكره وقوعه، سواء كان بصيغة القسم أو الجزاء فهو
يمين، عند جميع الخلق، والأصل في الأيمان الكتاب والسنة والإجماع.
(4/457)
(قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من
الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة، فإن
اللغو كل مطرح من الكلام لا يعتد به، وروي أنه قول الرجل: لا والله بلى
والله من غير قصد في الكلام، وقيل في الهزل، وقيل في المعصية، وقيل على
غلبة الظن، وقيل في النسيان، وقيل هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس
ونحو ذلك والمقصود أنه اليمين من غير قصد ولا عقد.
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} أي يعاقبكم ويلزمكم {بِمَا عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمَانَ} أي بما صممتم عليه منها، وقصدتموها وتعمدتموها، وفي قراءة
"عاقدتم" بالألف، وفي قراءة بالتشديد، أي وكدتم (وعقدتم) أصله عقد أحدهما
يده بيد الآخر {فَكَفَّارَتُهُ} أي ما تعمدتموه {إِطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إلى قوله {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} قال ابن
القيم: فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة، فهذا كفارته ويأتي.
(وقال) تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي
عزمتم وقصدتم إلى اليمين، وكسب القلب العقد والنية، وقال ابن عباس: هو أن
يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، وهذه الآية كالتي قبلها وهي قوله:
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ولا تنعقد اليمين
إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة
(4/458)
من صفاته كقول: والذي نفسي بيده والله
والرحمن، وعزة الله وعظمته ولعمر الله: يمين وكذا أمانة الله.
وأما قول الرجل: لعمرك جرى علي رسم اللغة، وذكر صورة القسم لتأكيد مضمون
الكلام وترويجه فقط، لأنه أقوى من سائر المؤكدات، وأسلم من التأكيد بالقسم
بالله، لوجوب البر به، وليس الغرض اليمين الشرعي، فصورة القسم على الوجه
المذكور لا بأس به، ولهذا شاع بين المسلمين، وقال عليه الصلاة والسلام:
"أفلح وأبيه".
(وقال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فأقسم تعالى بربوبيته
الكاملة الشاملة وخص السماء والأرض وهما من أكبر مخلوقاته ولا نزاع في أن
القسم برب السماء والأرض، وكذا برب كل شيء ونحو ذلك، جائز ويمين منعقدة.
وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي قسمًا غليظًا
وذكر تعالى القسم باسمه الشريف في مواضع، وقال تعالى: {تَاللهِ
لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ *} سؤال توبيخ، من إثباتهم
الشريك، وجعلهم له نصيبًا مما رزقهم الله وقال تعالى: {تَاللهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} وغير ذلك.
وقال تعالى: {قُلْ بَلَى} تبعثون {وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} فأمره
تعالى بالإقسام به على تصديق ما خبر به في ثلاثة مواضع من كتابه، ويستحب
الحلف على
(4/459)
الخبر الديني الذي يريد تأكيده، وقد حفظ
عنه صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثلاثين موضعًا.
وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} أي لا
تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر وصلة الرحم، إذا حلفتم على تركها،
وذلك بأن يدعى أحدكم، إلى صلة رحمه أو بر، فيقول: حلفت بالله أن لا أفعله،
فيعتل بيمينه في ترك البر، قال تعالى: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}.
قال ابن عباس: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن
يمينك واصنع الخير، وفي الصحيحين " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين
فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وقال لعبد
الرحمن بن سمرة "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فأت الذي هو
خير، وكفر عن يمينك"
فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما سيأتي، قال
الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يجعل اسم الله عز وجل عرضة للأيمان يمنع
من بر أو صلة، وإن كان قد حلف فالأولى، أن يحنث إذا حلف على ترك البر،
ويكفر، وقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ} أي لا يحلف من الألية وهي القسم
{أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} أي الطول والصدقة والإحسان {وَالسَّعَةِ} أي
الجدة {أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} أي لا تحلفوا أن لا تصلوا
قراباتكم المساكين، نزلت في الصديق حلف أن لا
(4/460)
ينفع مسطح بن أثاثه بعدما قال في عائشة.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} أي يستبدلون {بِعَهْدِ اللهِ
وَأَيْمَانِهِمْ} الكاذبة {ثَمَنًا قَلِيلًا} أي شيئًا قليلا من حطام
الدنيا {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}.
وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} وهو ادعاء الإسلام {وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} أن الحلف عليه كذب، عنى بها المنافقين الذين تولوا قومًا غضب
الله عليهم، أخبر أنهم كاذبون في
حلفهم.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما قال: (أكثر ما كان النبي - صلى الله عليه
وسلم - يحلف) أي بلفظ (لا ومقلب القلوب، رواه البخاري) فلا رد ونفي للكلام
السابق، ومقلب القلوب هو المقسم به، والمراد تقليب أحوالها، وصرفها من رأي
إلى رأي، وذكر الألفاظ التي كان - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يقسم
بها، وفي رواية "لا ومصرف القلوب" "والذي نفسي بيده" "والذي نفس محمد بيده"
"ورب الكعبة" ولابن أبي شيبة كان إذا اجتهد في اليمين قال: "والذي نفس أبي
القاسم بيده" وفيها دليل على جواز الإقسام بها، وانعقاد
اليمين.
(ولهما عن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: لما خلق الله الجنة) وزخرفت
وأرسل جبريل إليها فقال: انظر إلى ما أعددت
(4/461)
لأهلها فيها (قال جبرائيل: لا وعزتك لا
يسمع بها أحد إلا دخلها) لما رأى من النعيم ولذاتها، وذلك قبل أن تحف
بالمكاره، والنار بالشهوات، وفيه جواز الحلف بعزة الله، وانعقاد اليمين به،
وحكى الله عن إبليس أنه (قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ} وفي الصحيحين في الذي بين الجنة والنار فيقول: رب اصرف وجهي
عن النار، لا وعزتك لا أسأل غيرها، وفي الخبر عن أيوب: بل وعزتك وأقره
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(وعن قتيلة) بنت صيفي الأنصاري صحابية مهاجرة، قالت: (أمرهم - صلى الله
عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة) فلا يقولوا
والكعبة كما ذكر ذلك عنهم من أنهم يقولون والكعبة (رواه أحمد) والنسائي
وذلك أن اليهودي قال: إنكم تنددون تقولون والكعبة، فأمرهم بما لا تنديد فيه
ولا شرك، فدل على جواز الحلف برب الكعبة، وانعقاد اليمين به.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: إن لله تسعة وتسعين اسمًا) عدها
بعض الرواة (من أحصاها دخل الجنة) ففيه فضيلة حفظها، وجواز القسم بها (متفق
عليه) وفي لفظ "من حفظها" وليس الحديث حصرًا لأسماء الله، لحديث "أسألك بكل
اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو
استأثرت به في علم الغيب عندك".
(4/462)
قال الوزير: اتفقوا على أن اليمين بالله
منعقدة بجميع أسماء الله الحسنى، كالرحمن والرحيم والحي وغيرها، وبجميع
صفات ذات الله كعزة الله وجلاله.
والمراد فيما إذا حنث فيها، تجب فيها الكفارة، قال ابن عبد البر وغيره، لا
خلاف في ذلك إلا عمن لا يعتد بقوله.
(ولهما عن عمر" رضي الله عنه (مرفوعًا: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)
وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - سمعه يحلف بأبيه فقال: «إن الله ينهاكم أن
تحلفوا بآبائكم» لأن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي
لله وحده: "فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" أي فلا يحلف إلا بالله
أو أسمائه أو صفاته، وهذا باتفاق أهل العلم، وقال ابن عبد البر: أجمع
العلماء على عدم جواز الحلف بغير الله، والجمهور على أن الحلف بغير الله لا
ينعقد، لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه.
(وللنسائي) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا «لا تحلفوا بآبائكم ولا
بأمهاتكم ولا بالأنداد» و (لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم
صادقون) وفي لفظ "ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون" فدل الحديث- وكذا
غيره- على تحريم الحلف بغير الله، ويأتي "من حلف بغير الله فقد كفر أو
أشرك" ويحرم الحلف بالبراءة من الإسلام، أو من الدين أو بأنه يهودي ونحو
ذلك.
وقال ابن القيم: اتفق الناس أنه إن قال: إن فعلت كذا فهو
(4/463)
يهودي أنه لا يكفر إن قصد اليمين، ولأبي
داود وغيره: "إن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى
الإسلام سالمًا".
(وعن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا: من حلف بغير الله بنبي أو ولي أو غيرهما
(فقد كفر أو أشرك) وفي رواية: "فقد كفر" وفي رواية "فقد أشرك" ويحتمل أن
يكون شكًا من الراوي، ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو (حسنه الترمذي) ورواه
أبو داود وغيره، وصححه الحاكم.
وقد يكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما يكون من الشرك الأصغر، ما
لم يسو بينه وبينه أو يكون المحلوف به عند الحالف أعظم من الخالق جل وعلا،
فهو أكبر ناقل عن الملة، والشرك الأصغر أكبر من الكبائر وقال تعالى: {إِنَّ
اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ}.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنه (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في زيد بن
حارثة) رضي الله عنه حين أمر ابنه (وأيم الله إنه لخليق بالإمارة) أي لجدير
بها يستحق أن يكون أميرًا، وقال في قصة سليمان "وايم الذي نفس محمد بيده"
الحديث، وحديث "وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد" إلخ، قيل أصلها يمين الله،
وقيل عوض عن واو القسم، وقيل كقول بالله، أو أحلف بالله، وحكي غير ذلك،
ومذهب المالكية والحنفية والأصح عن أحمد أنها يمين تنعقد، وعند الشافعية إن
نوى اليمين.
(4/464)
(وقال أسيد) بن حضير رضي الله عنه (لسعد)
بن عبادة لما استعذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من عبد الله بن أبي
(لعمر الله لنقتلنه) فتثاور الحيان، والحديثان (متفق عليهما) وذلك فيما قص
الله علينا من قصة أهل الإفك، وتبرئة عائشة رضي الله عنها، فمن قال: لعمر
الله فكأنه قال: أحلف ببقاء الله، واللام للتوكيد، أي: ما أقسم، وهو مذهب
الحنفية والمالكية والحنابلة.
(وقال العباس) بن عبد المطلب رضي الله عنه (للنبي - صلى الله عليه وسلم -
أقسمت عليك) وذلك في هجرة صفوان، وقد انطلق به العباس إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - ليبايعه على الهجرة، فامتنع فقال العباس: أقسمت عليك
(لتبايعنه) فبسط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده فقال: "هات أبر قسم
عمي ولا أهجره" (رواه أحمد) وابن ماجه، فدل على أن قول الرجل: أقسمت عليك:
يمين؛ وهو مذهب الكوفيين والمشهور عن أحمد.
ويحرم الحلف بالله على الكذب، وأعظم منه الحلف بغير الله، وإن كان صادقًا،
وقال ابن مسعود وغيره: لأن أحلف بالله كاذبًا، أحب إلى من أن أحلف بغيره
صادقًا؛ قال الشيخ: لأن حسنة التوحيد، أعظم من حسنة الصدق؛ وسبب الكذب أسهل
من سبب الشرك.
(ولأبي داود عن بريدة) رضي الله عنه (مرفوعًا من حلف بالأمانة) لكونها
مخلوقة (فليس منا) ففيه الوعيد الشديد على من
(4/465)
حلف بالأمانة، حيث تبرأ منه النبي - صلى
الله عليه وسلم -، والأمانة تقع على الطاعة والعبادة، والوديعة والأمان
وغير ذلك، وإذا قال الحالف: وأمانة الله كعهد الله، فيمين وتقدم.
وإن حلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم تنعقد يمينه، وهو مذهب الجمهور
أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحد القولين لأحمد لما تقدم من قوله: "من حلف
بغير الله فقد كفر" وقوله "لا تحلفوا إلا بالله" وغيرهما، وأما الحلف
بالعتاق والطلاق، فقال الشيخ في موضع: لا يكره لأنه لم يحلف بمخلوق، ولم
يلتزم لغير الله شيئًا، وإنما التزم لله كما يلتزم بالنذر، والالتزام لله
أبلغ من الالتزام به، بدليل النذر له واليمين به، ولهذا لم تنكر الصحابة
على من حلف بذلك، كما أنكروا على من حلف بالكعبة.
وقال ابن القيم في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية: فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة، فهذا
كفارتها، وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات، والحلف
بأحب القربات المالية إلى الله، وهو العتق كما ثبت ذلك عن ستة منهم، ولا
مخالف لهم من بقيتهم، وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق، كما
ثبت ذلك عن علي، ولا مخالف له منهم، فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل
بعمومه، حتى يثبت إجماع الأمة إجماعًا متيقنًا على خلافه، فإن الأمة لا
تجتمع على خطأ ألبتة.
(4/466)
(وتقدم) في باب التأويل في الحلف (يمينك)
أي إنما تنعقد يمينك (على ما يصدقك به صاحبك) أي واقع عليه، والحديث رواه
مسلم، وفي رواية: "اليمين على نية المستحلف" بكسر اللام، والمراد المستحلف
المظلوم، أي اليمين حصلت على نية المستحلف، وهو طالب اليمين، فالنظر في
اليمين إلى نية طالب الحق واعتقاده، فالتأويل على خلاف قصد طالب اليمين لا
يدفع إثم اليمين الكاذبة، فالاعتبار بقصد المحلف، سواء كان هو الحاكم أو
الغريم، وأن يكون المحلف بفتح اللام ظالمًا.
أما لو كان مظلومًا، والمحلف بكسر اللام كاذب فالاعتبار بنية الحالف، وكذا
إذا حلف بغير استحلاف، وورّى فتنفعه التورية ولا يحنث سواء حلف ابتداء، أو
حلفه غير القاضي، كما حكاه النووي وغيره، فاليمين على نية الحالف في كل
الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه، قال والتورية
وإن كان لا يحنث بها، فلا يجوز فعلها، حيث يبطل بها حق المستحلف وهذا مجمع
عليه.
وحكى القاضي الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه
له نيته، ويقبل قوله، وأما إذا كان لغيره حق عليه، فلا خلاف أنه يحكم
بيمينه سواء
حلف متبرعًا، أو باستحلاف، ولعل مستند الإجماع على
أن الحالف له نيته في غير استحلاف القاضي ونحوه – خبر
(4/467)
حنظلة، حيث حلف للعدو أن وائلاً أخوه، فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم - "كنت أبرهم وأصدقهم".
وقال الشيخ وغيره: لا يجوز التعريض لغير ظالم وهو قول جماعة، ولأنه تدليس
كتدليس المبيع، ونص أحمد على أنه لا يجوز التعريض مع اليمين.
(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (لأن يستلج) أي يتمادى (أحدكم في يمينه)
فيلج فيها ولم يكفرها زاعمًا أنه صادق (آثم له عند الله) أي أعظم إثمًا (من
أن يؤدي الكفارة) وتقدم أنه قال: "ما حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا
منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني" فدل الحديث على أن أداء
الكفارة، خير من التمادي فيما زعمه الذي يأثم
من أجله.
(وفي السنن عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: من حلف على يمين) أي
مطلقًا (فقال إن شاء الله، فلا حنث عليه) لأن الاستثناء بمشيئة الله،
والتقيد به يمنع الحنث في اليمين، ورواه أحمد وغيره، وله طرق وللخمسة نحوه
من حديث أبي هريرة، ولأبي داود "ولأغزون قريشًا" ثم قال: "إن شاء الله" وفي
الثالثة، ثم سكت، ثم قال: "إن شاء الله" ولم يحنث من قصد تعليق
الفعل على مشيئة الله وإرادته، بخلاف من قاله تبركًا أو سبق لسانه بلا قصد،
والحديث وما في معناه دليل على
(4/468)
أن من قال في يمينه إن شاء الله، لم يحنث
فإن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين، وهو مذهب الجمهور.
وقال ابن العربي: أجمع المسلمون على أن قول: إن شاء الله يمنع انعقاد
اليمين، بشرط كونه متصلاً، قال: ولو جاز منفصلاً كما روى بعض السلف لم يحنث
أحد قط في يمين، ولم يحتج إلى كفارة، والجمهور هو أن يكون قوله إن شاء الله
متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما، ولا يضر سكتة النفس، وقوله: ثم سكت ثم
قال: "إن شاء الله" ظاهره السكوت اختيارًا، فيدل على جوازه ما لم يطل
الفصل، ولا فرق بين الحلف بالله أو بالطلاق أو العتاق أن التقييد بالمشيئة
يمنع الانعقاد، وهو مذهب الجمهور، ومذهبهم أيضًا أن الاستثناء لا بد أن
يكون باللفظ، فلا يكفي بالنية دون اللفظ.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أنه) يعني رسول الله (حلف) وورد بألفاظ (لن
أعود) أي مرة أخرى (إلى شرب العسل) وذلك لما قال له بعض نسائه: أكلت
مغافير، قال: "بل شربت عسلا" (فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} من شرب العسل {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ
أَزْوَاجِكَ} وصحح غير واحد أنها نزلت في شرب العسل لا تحريم مارية.
(إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} قال القاضي
عن عامة العلماء: عليه كفارة يمين بنفس التحريم (متفق عليه)
(4/469)
وقال أبو حنيفة إن تناوله، وذكر بعض أهل
العلم عن مالك والشافعي وغيرهما أنه إذا قال هذا الطعام أو الشراب حرام علي
أو هذا الثوب أو كلام زيد ونحو ذلك لا شيء فيه فالله أعلم.
فصل في الكفارة
أي في كفارة اليمين، وفيها تخيير وترتيب، فالتخيير بين الإطعام والكسوة
والعتق، والترتيب فيها بين ذلك وبين الصيام، والأصل فيها الكتاب والسنة
والإجماع (قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ}) أي: كفارة ما عقدتم الإيمان إذا
حنتثم {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يعني محاويج من الفقراء من ولا يجد
ما يكفيه، بشرط أن يعطيها لمسلم حر محتاج {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ} أي من خير أو أمثل قوت عيالكم.
قال أحمد: مد من بر أو مدان من غيره، سواء كان المطعم واحدًا أو عددًا،
وسواء أطعم البعض برًا والبعض شعيرًا أو تمرًا أو زبيبًا أو غيرها مما يطعم
أهله.
(أو كسوتهم) قال مالك وأحمد وغيرهما: ما يصح أن يصلي فيه، فكل من لزمته
كفارة يمين فهو فيها مخير، إن شاء أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم، وإن
شاء أعتق رقبة، قال تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إذا اختار العتق،
فيجب إعتاق رقبة مؤمنة، وكذا جميع الكفارات، كفارة القتل والظهار والجماع
في نهار رمضان. وهو قول الجمهور، لأن الله قيدها في القتل بالإيمان،
والموجب متحد، وإن اختلف السبب وجاء معاوية
(4/470)
ابن الحكم بجارية فقال لها رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - "أين الله" قالت في المساء، قال: "من أنا" قالت: رسول
الله، قال "أعتقها فإنها مؤمنة".
ويشترط أن تكون سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضررًا بينًا وتقدم.
وهذه الخصال الثلاث في كفارة اليمين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع،
وإنما بدأ تعالى بالأسهل فالأسهل، فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة، كما أن
الكسوة أيسر من العتق، فترقى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فإن لم يقدر
المكلف على واحدة من هذه الخصال، فقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} أي إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن
الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة، وجب عليه صوم ثلاثة أيام، والعجز أن لا
يفضل له عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية ما يطعم أو يكسو أو يعتق، فإنه
يصوم ثلاثة أيام.
والجمهور على أنها متتابعات فإن في قراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام
متتابعات) وإن لم يثبت أنها قرآن فلا أقل من أن يكون خبر واحد، أو تفسيرًا
من الصحابة، وله حكم الرفع، واتفقوا على أنه إذا لم يجد شيئًا مما تقدم
انتقل إلى صيام ثلاثة أيام (ذلك) أي الذي ذكر تبارك وتعالى من الحكم
{كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أي هذه كفارة اليمين الشرعية،
إذا حنثتم،
(4/471)
فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث
{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أي لا تحلفوا، أو إذا حلفتم فلا تحنثوا، وإذا
حنثتم فلا تتركوها بغير تكفير.
والمراد حفظ اليمين عن الحنث إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب، أو فعل
مكروه، فإن حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر،
كما تقدم، وكما سيأتي {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} يوضحها
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
قال ابن القيم: إذا حلف ليفعلن كذا، فهو حظ منه لنفسه، وليس إيجابًا، ولكن
عقد اليمين ليفعلن فأباح الله له حل ما عقده بالكفارة، وسماها تحلة، وليست
رافعة لإثم الحنث.
(وعن عبد الله بن سمرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فائت الذي هو خير وكفر عن
يمينك متفق عليه) وفي لفظ "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" ولمسلم من حديث
عدي " إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير،
وليكفر عن يمينه، وله من حديث أبي هريرة نحوه، ولهما من حديث أبي موسى " لا
أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وفي
لفظ "إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" ولأبي داود وغيره "فكفر عن
يمينك وائت الذي هو خير".
(4/472)
وهذه الأحاديث وما في معناها دالة على أن
الحنث في اليمين أفضل من التمادي، إذا كان في الحنث مصلحة، ويختلف باختلاف
حكم المحلوف عليه، فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام، فيمينه طاعة،
والتمادي واجب، والحنث معصية، والعكس بالعكس، وعلى فعل مستحب، فالتمادي
مستحب، والحنث مكروه، وعلى ترك مندوب فالعكس.
وقال الوزير: اتفقوا على أن الكفارة تجب عند الحنث في اليمين على أي وجه
كان، من كونه طاعة أو معصية أو مباحًا وأجمعوا على أن اليمين المكفرة
المنعقدة هي أن يحلف بالله على أمر في المستقبل أن يفعله ولا يفعله، وإذا
حنث وجبت عليه الكفارة، وقال أبو حنيفة ومالك في اليمين الغموس: لا تكفر
لأنها أعظم من أن تكفر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختاره الشيخ.
واليمين الغموس هي الحلف بالله على أمر ماض متعمد، الكذب فيه، ولفظ "ثم ائت
الذي هو خير" يدل على وجوب تقديم الكفارة، والجمهور على الاستحباب وإجزائها
قبل الحنث، إلا الصوم فبعده، وقال القاضي عياض: اتفقوا على أن الكفارة لا
تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث.
وذكر بعضهم لها ثلاث حالات، أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقًا ثانيها بعد
الحلف والحنث، فتجزئ اتفاقًا وثالثها بعد الحلف وقبل الحنث، والجمهور على
الاستحباب كما تقدم،
(4/473)
والأحاديث دلت على وجوب الكفارة مع إتيان
الذي هو خير.
(ولهما عن البراء) بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا) يعني رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - (بسبع) بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس
(وذكر إبرار القسم) أي بفعل ما أراد الحالف ليصير بذلك، بارًا ثم قال:
"ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام" وأمره بإبرار القسم ظاهره
الوجوب، واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كإفشاء السلام، قرينة
صارفة عن الوجوب وقصة رؤيا أبي بكر، وقوله: فوالله لتحدثني بالذي أخطأت،
قال: "لا تقسم" يشهد لذلك.
فصل في النذور
النذور جمع نذر وهو لغة التزام خير أو شر وشرعًا التزام المكلف شيئًا لم
يكن عليه، منجزًا كان أو معلقًا قال الشيخ: ولا يشترط فيه لفظ معين، بل كل
ما تضمن التزامه قربة فهو نذر، إذ النذر أن يلتزم لله شيئًا ولا يلزم الشيء
إلا إذا كان قربة، والفرق بينه وبين اليمين أن الناذر التزم لله، والحالف
التزم بالله، وإذا التزم لله بالله فهو نذر ويمين اهـ.
فالنذر يعقده العبد على نفسه يؤكد به ما ألزمها به من الأمور، لله، وهو
تعظيم للخالق ولأسمائه ولحقه، وأن تكون العقود به، وله، وهذا غاية التعظيم
فلا يعقد بغير اسمه ولغير التقرب إليه، فإن حلف فباسمه تعظيمًا وتبجيلاً
وتوحيدًا وإجلالاً.
(4/474)
وإن نذر فله توحيدًا وطاعة ومحبة وعبودية.
(قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من
فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.
وللطبراني عن قتادة: كانوا ينذروا طاعات من الصلاة والصيام وسائر ما افترض
الله عليهم، ويقويه ما ذكر في سبب نزول الآية.
(وقال) تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ} أي أيها المؤمنون حضهم الله تعالى على
الإنفاق من طيبات ما كسبوا {مِنْ نَفَقَةٍ} أي فيما فرض الله عليكم أو
تبرعتم به في سائر الطاعات {أَوْ نَذَرْتُمْ} أي أوجبتم على أنفسكم {مِنْ
نَذْرٍ} في طاعة الله فوفيتم به {فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ} فيحفظه لكم حتى
يجازيكم به، فإنه تعالى عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات، من
النفقات والمنذورات، وتضمن إخباره مجازاته على ذلك أوفر الجزءا، للعاملين
لذلك ابتغاء وجهه، ورجاء موعده.
(وقال) تعالى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي ليوفوا نذر الحج والهدي، وما
ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج، وقال بعضهم: المراد منه الوفاء بما نذر
على ظاهره، على نحو ما تقدم وغيره.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من
(4/475)
نذر أن يطيع الله فليطعه) أي يجب عليه
الوفاء بذلك النذر، فإن كان واجبًا كأن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب بقدر
ما وقته أو مستحبًا من العبادات البدني أو المالية انقلب بالنذر واجبًا،
وتقيد بما قيده به لقوله "فليطعه" فصرح بالوفاء به، إذا كان في طاعة، وذكر
غير واحد الاتفاق على وجوب الوفاء به (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) أي
لا يوفي بنذره لأنه معصية (رواه البخاري) ولم يذكر كفارة، وفي حديث عمر عند
ابن ماجه "لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الله" وقال الحافظ: اتفقوا على
تحريم النذر في المعصية.
(وله) أي وللبخاري في صحيحه (عن عمران) بن حصين رضي الله عنه (في خبر
القرون) أي في الخبر الذي ذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - «خير
القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (ثم يجيء قوم) أي بعد تلك
القرون (ينذرون ولا يوفون) أي لا يوفون ما نذروه من الطاعات الواجبة أو
المستحبة، وأما نذر اللجاج والغضب فيخير بين فعله أو كفارة اليمين، وأما
المكروه كالطلاق فيستحب أن يكفر ولا يفعله، وأما نذر المعصية فيحرم كما
تقدم.
(ولهما عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا نهى عن النذر) تأكيدًا لأمره،
وتحذيرًا عن التهاون به، وليس معنى النهي عنه أن يكون مأثمًا، فقد حث
الشارع عليه، وأمر بالوفاء به،
(4/476)
ونقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء به،
لقوله " من نذر أن يطيع الله فليطعه.
(وقال إنه لا يأتي بخير) قيل معناه أن عقباه لا تحمد، وقد يتعذر الوفاء به،
وأنه لا يكون سببًا لخير لم يقدر، فيكون مباحًا، وقيل مكروه لكونه لم يقصد
به خالص القربة، وإنما قصد أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها ضررًا بما التزم،
وقيل لأنه يصير إخراج المال فيه من باب إضاعة المال، كما هو ظاهر قوله.
(وإنما يستخرج به من البخيل) أي إنما يستخرج المنذور ونحوه من البخيل،
بواسطة النذر، وأما غير البخيل فإنه يعطي باختياره بلا واسطة نذر، بخلاف
البخيل، فإنه لا يعطي إلا إذا وجب عليه الإعطاء فثبت بهذا وجوب استخراجه به
من ماله، ولأبي داود وغيره " النذر لا يأتي لابن آدم بشيء، ولكن يلقيه
القدر فيعطي على النذر ما لا يعطي على غيره" وأما النذر بالصلاة والصيام
والحج ونحو ذلك من الطاعات، فلا مدخل للنهي عنه للآية.
قال الشيخ: وما وجب بالشرع إذا نذره العبد أو عاهد عليه الله أو بايع عليه
الإمام أو تحالف عليه فإن هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبًا ثانيًا غير
الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول، فيكون واجبًا من وجهين، ويكون تركه
موجبًا لترك
(4/477)
الواجب بالشرع، والواجب بالنذر، هذا هو
التحقيق، ونص عليه أحمد، وقاله طائفة من العلماء.
(وتقدم) أي في باب الاعتكاف (قول عمر) رضي الله عنه (للنبي - صلى الله عليه
وسلم - إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام) وذلك أنه نذر في الجاهلية
(فقال: أوف بنذرك) فدل على صحة النذر، وعلى وجوب الوفاء بنذر الطاعة، وإن
وقع في حال الكفر، ولكن لا يخلو إما أن يكون مما يفتقر إلى نية كالصلاة
والاعتكاف، فلا سبيل إلى الوفاء به إلا بعد إسلام الناذر، فصحته إلزامه به
بعد إسلامه، ولخبر، «لا نذر ِإلا ما ابتغي به وجه الله» أو لا يفتقر النذر
إلى نية كصدقة بدراهم، فيلزمه الوفاء به، ولو قبل إسلامه لصحته منه.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب)
ذات يوم (إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل) رجل من قريش، قيل
اسمه قشير ذكر ابن الأثير أنه من الصحابة (نذر أن يقوم في الشمس أي قائمًا
(ولا يستظل) أي لا يقوم في ظلال (ولا يتكلم) أي يلزم الصمت (وأن يصوم) لعله
ذلك اليوم (فقال) النبي - صلى الله عليه وسلم - «مروه فليجلس أو ليستظل» أي
يجلس في الظل «وليتكلم وليتم صومه» لأن الصوم عبادة (رواه البخاري).
فدل الحديث على أن كل ما يتأذى به الإنسان مما لم يرد
(4/478)
بمشروعيته كتاب ولا سنة، كالقيام في الشمس
لأنه ليس من طاعة الله فلا ينعقد النذر به، فإنه - صلى الله عليه وسلم -
أمر أبا إسرائيل في هذا الحديث بإتمام الصوم، دون غيره، وهو أنه علم أنه لا
يشق
عليه.
وفيه دليل على أنه لا كفارة على من نذر معصية، ولا على من نذر ما لا طاعة
فيه، قال مالك: لم أسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بكفارة،
وحديث «لا نذر في معصية الله» لم يذكر العدول فيه كفارة، وذكر الوزير أنه
مذهب الثلاثة، واختاره شيخ الإسلام.
(ولهما عن عقبة) بن عامر رضي الله عنه (قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت
الله حافية) وفي لفظ: إلى الكعبة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لتمش ولتركب) ولمسلم: حافية غير مختمرة وفيه أنه شكا إليه ضعفها، فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله غني عن نذر أختك» رواه أحمد
(وللخمسة) عنه: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا» وهو مشيها حافية (مرها
فلتختمر) فلا تكشف وجهها (ولتركب) ولا تمشي حافية (ولتصم ثلاثة أيام) كفارة
لنذرها، ولأحمد "ولتهد بدنة" ولأبي داود "هديًا" ولأحمد وابي داود "ولتكفر
عن يمينها" وقال البخاري: لا يصح الهدي، ولم يجيء في الأحاديث الصحيحة
كفارة لما ليس بطاعة.
فمن نذر المشي إلى بيت الله أو موضع من الحرم لزمه أن
(4/479)
يمشي في حج أو عمرة، فإن ترك المشي وركب
لعذر أو غيره لزمه كفارة يمين، وقال الشيخ: أما لغير عذر فالمتوجه لزوم
الإعادة، كما لو قطع التتابع في الصوم المشروط فيه التتابع، أو يتخرج لزوم
الكفارة والدم، والأقوى أنه لا يلزمه مع البدل عن عين الفعل كفارة، لأن
البدل قائم مقام المبدل.
(وعنه) أي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه (مرفوعًا: كفارة النذر) أي فهو
يمين كفارته (كفارة يمين. رواه مسلم) وزاد فيه الترمذي "إذا لم يسمه"
وصححه. قال الشيخ: وأحاديث عقبة وابن عباس تدل على أن النذر يمين، وذكر
النووي عن جماعة من فقهاء الحديث أنهم حملوا هذا الحديث على جميع أنواع
النذر، وقالوا: هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم،
وبين كفارة اليمين، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا كان النذر مشروطًا
بشيء، فإنه يجب بحصول ذلك الشيء، وقال بعض أهل العلم، اختص الحديث بالنذر
الذي لم يسم حملاً للمطلق على المقيد.
وأما النذور المسماة فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين، وإن كانت
مقدورة وجب الوفاء بها، سواء كانت متعلقة بالبدن أو المال، وإن كانت معصية
لم يجز الوفاء بها ولا تنعقد وإن كانت مباحة مقدورة ففيها الكفارة، وقال
الشيخ:
وما ليس بطاعة كمشيه حافيًا أو حاسرًا فلا يفعله، بل عليه كفارة يمين،
وذكره الأصحاب قولاً واحدًا إذ لا بدل له وقال:
(4/480)
في موضع؛ إذا حلف بمباح أو معصية لا شيء
عليه، كنذرهما، فإن ما لم يلزم بنذره لا يلزم به شيء إذا حلف به، فإن من
يقول لا يلزم الناذر شيء، لا يلزم الحالف بالأولى.
وقول الشخص، لئن ابتلاني الله لأصبرن، ولئن لقيت عدوًا لأجاهدن، ولو علمت
أي العمل أحب إلى الله لعملته فهو نذر معلق بشرط، كقوله تعالى: {لَئِنْ
آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} قال ابن القيم: والملتزم الطاعة
لله لا يخرج عن أربعة أقسام، إما أن يكون بيمين مجردة أو بيمين مؤكدة كقوله
(ومنهم من عاهد الله) الآية فعليه أن يفي به، وإلا دخل في قوله
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} وهو أولى باللزوم من أن يقول:
لله علي كذا، وقال: فرق بين من التزم الله، ومن التزم بالله، فالأول ليس
فيه إلا الوفاء، والثاني يخير بين الوفاء والكفارة.
(وعن بريدة) رضي الله عنه (أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: أوفي بنذرك) أذن لها أن
تفعل ما نذرته (صححه الترمذي) لأنه ليس من قبيل اللهو واللعب، بل نوعًا من
أنواع البر لقصد الصحيح، وهو إظهار المسرة بمقدمه - صلى الله عليه وسلم -
مصحوبًا بالسلامة مظفرًا على الأعداء، وإذا أبيح لأجل إعلان النكاح، فلأن
يكون لإعلاء كلمة الله وإعزاز الداعي إلى الحق أولى.
(4/481)
فدل الحديث على صحة النذر بالمباح، ويشهد
له نفي النذر في المعصية فيبقى ما عداه ثابتًا، ويمكن كما قال البيهقي أن
من قسم المباح ما قد يصير القصد منه مندوبًا وأن إظهار الفرح بعود النبي -
صلى الله عليه وسلم - سالمًا، معنى مقصود يحصل به الثواب.
وقال الشيخ: لا بد لكل ناذر من فعل المنذور أو ما يقوم مقامه، أو الكفارة
وكذا الحالف.
(وعن ثابت) بن الضحاك رضي الله عنه (مرفوعًا: لا نذر في معصية الله)
وللبخاري من حديث عائشة: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ولا يجوز الوفاء
به بإجماع العلماء، ولا فيما لا يملك العبد، رواه أبو داود) ودل الحديث على
أن من نذر ما لا يملك لا ينفذ نذره، وكذلك لا ينفذ نذر المعصية، كما تقدم،
والجمهور على أنه لا تجب فيه الكفارة، ولا نزاع في تحريمه، وإن قال: إن
فعلت كذا فعلي ذبح ولدي أو معصية غير ذلك، وقصد اليمين فيمين، وإلا فنذر
معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشًا وهو مذهب الجمهور.
وإن نذر لغير الله كالأصنام فبمنزلة أن يحلف بغير الله، لا وفاء عليه، ولا
كفارة، وكلاهما شرك، فعليه أن يستغفر الله، ويقول ما أمر به من حلف باللات
والعزى أن يقول لا إله إلا الله، قال الشيخ: ومن أسرج بئرًا أو مقبرة أو
جبلاً أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو المضافين إلى ذلك المكان، لم يجز
ولا يجوز
(4/482)
الوفاء به إجماعًا، ويصرف في المصالح، ما
لم يعلم ربه، ومن الجائز صرفه في نظيره من المشروع، ومن نذر قنديلاً يوقد
للنبي - صلى الله عليه وسلم - صرفت قيمته لجيرانه - صلى الله عليه وسلم -
وهو أفضل من الختمة.
(ولأحمد عن عمرو بن شعيب) عن أبيه، عن جده رضي الله عنه (مرفوعًا: لا نذر
إلا ما ابتغى به وجه الله) فلا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد،
كما تقدم (وفي قصة كعب) بن مالك رضي الله عنه، وكان من الثلاثة الذين تاب
الله عليهم، فأراد كعب أن يتصدق بجميع أمواله شكرًا لله، على قبول توبته،
فإنه قال: يا رسول الله (إن من توبتي) أي من تمامها أو من نفس توبتي (أن
انخلع من مالي) أي أعرى منه كما يعرى الإنسان إذا خلع ثوبه وتجرد منه (صدقة
لله ورسوله) أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ما يملك، شكرًا لله على
ما أنعم به عليه، وليس بظاهر في صدور النذر منه.
(فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمسك عليك بعض مالك) ولم يجز له
الجميع وقال: (فهو خير لك، متفق عليه) فدل الحديث على أنه يشرع لمن أراد
التصدق بجميع ماله، أن يمسك بعضه، ولا يلزم أنه لو نجزه لم ينفذ، وقيل:
يختلف باختلاف الأحوال، فمن كان قويًا على ذلك، يعلم من نفسه الصبر لم
يمنع، وعليه يتنزل فعل أبي بكر، وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة ومن لم يكن كذلك فلا، ويشهد لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا
صداقة إلا عن ظهر غني» ونحوه.
(4/483)
باب القضاء
بالمد الولاية المعروفة، وهو في اللغة مشترك بين إحكام الشيء والفراغ منه،
وبمعنى إمضاء الأمر، وبمعنى الحتم، والإلزام وفي الشرع إلزام ذي الولاية
بعد الترافع بحكم الشرع في الوقائع الخاصة، لمعين أو جهة قال الشيخ: الواجب
اتخاذ ولاية القضاء دينًا وقربة فإنها من أفضل القربات، وإنما فسد حال
الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها، واتفقوا على أنه من فروض الكفايات، ويتعين
على المجتهد الدخول فيه إذا لم يوجد غيره، والأصل في القضاء الكتاب والسنة
وإجماع المسلمين على وجوب نصب القضاة للفصل بين الناس.
(قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} أي بين اليهود، والآية عامة
{بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} إليك من القرآن، وهذه الآية تأكيد للآية التي قبلها
في الأمر بالحكم بما أنزل الله، والنهي عن خلافه، وقال تعالى بعد هذه
الآية: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} والتي قبلها {وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}.
(وقال) تعالى {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أي بالعدل، يأمر
تعالى ولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده، ولا يعدلوا
عنه فقال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}.
(4/484)
وتوعد من اتبع هواه بالعذاب الشديد، وقال
{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي العدل {إِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي العادلين ويأتي في الحديث: "إن المقسطين على
منابر من نور" والعدل محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو من المعروف، الذي تعرفه
القلوب، كما أن الظلم من المنكر الذي تبغضه القلوب وتذمه، قال الشيخ: ومن
فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه، والعبد إذا خلصت نيته لله، وكان قصده
وهمه وعمله لوجه الله، كان الله معه، ومن كان الله معه فمن ذا الذي يغلبه
أو يناله بسوء.
(وقال) تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} أقسم تعالى بنفسه الكريمة
المقدسة قسمًا مؤكدًا، أنه لا يؤمن أحد منهم {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أي حتى
يجعلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكمًا {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
في جميع الأمور مما اختلفوا فيه، فما حكم به مما اختلفوا فيه فهو الحق الذي
يجب اتباعه، والانقياد له باطنًا وظاهرًا ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا
التحكيم حتى ينفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل
الانشراح {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ}
ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضًا حتى يقابلوه بالرضى والتسليم. فقال:
{وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي ينقادوا إلى الأمر انقيادًا وذلك لفرض طاعته
على من أرسله إليهم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} أمره وقدره ومشيئته.
وذكر الشيخ أنه صار لفظ الشرع في هذه الأزمنة ثلاثة
(4/485)
أقسام الشرع المنزل وهو الكتاب والسنة،
واتباعه واجب، ومن خرج عنه وجب قتاله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة
الأمراء، وولاة المال، وحكم الحاكم، وولاة الحسبة، وغير ذلك، وكلهم يجب
عليهم أن يحكموه ولا يخرجوا عنه، والثاني المتأول، وهو مورد النزاع، وهو
الاجتهاد بين الأئمة، فمن أخذ بما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه، ولم يجب على
جميع الناس موافقته، إلا بحجة شرعية لا مرد لها من كتاب الله وسنة رسوله؛
والثالث الشرع المبدل مثل ما ثبت بشهادات الزور، ويحكم فيه بالجهل، أو يؤمر
فيه بإقرار باطل، مثل تعليم مريض أن يقر لوارث بما ليس له، والأمر به حرام،
والشهادة عليه محرمة، والحاكم إذا علم باطن الأمر وأنه غير مطابق للحق،
فحكم به كان جائرًا آثمًا.
(وعن عمرو بن العاص) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: إذا اجتهد الحاكم) أي اجتهد قبل الحكم (فأصاب) أي وقع اجتهاده موافقًا
لحكم الله (فله أجران) أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحكم، (وإذا اجتهد فأخطأ)
أي لم يوافق ما هو عند الله من الحكم. (فله أجر) واحد على الاجتهاد في طلب
الحق، لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، وهذا
فيمن كان جامعًا لأصل الاجتهاد عارفًا بالأصول، عالمًا بوجوه القياس، فأما
من لم يكن محلاً للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ بل يخاف عليه الوزر
للحديث
(4/486)
الآتي وهذا الحديث (متفق عليه).
وفيه أن الحكم عند الله في كل قضية واحد معين، قد يصيبه من أعمل فكره،
وتتبع الأدلة الشرعية، ووفقه الله، وفيه الترغيب في القضاء، ويأتي، وفيه
أنه يشترط أن يكون الحاكم مجتهدًا وهو المتمكن من أخذ الأحكام من الأدلة
الشرعية، وقال بعض المتأخرين: مجتهدًا ولو في مذهب إمامه، وقال الشيخ:
والواجب أن يكون مجتهدًا في الأدلة الشرعية من الكتاب، والسنة وأن تكون هي
إمامه، ويكون تتبعها عوضًا عن تتبع نصوص إمامه، فلهي أقرب إلى الأفهام
وأدنى إلى إصابة المراد، فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه
والأسماع، وأقرب إلى الفهم والانتفاع.
وقال: من اعتقد أنه يجب على الناس اتباع أحد بعينه، من هؤلاء الأئمة، دون
الإمام الآخر، فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، قال: وغاية المتعصب
لأحدهم أن يكون جاهلاً بقدر العلم والدين، وبقدر الآخرين فيكون جاهلاً
ظالمًا، والواجب موالاة المؤمنين والعلماء وقصد الحق واتباعه.
قال ابن رشد: وتولية القضاء شرط في صحة قضائه، لا خلاف أعرفه فيه، ولا خلاف
في حكم الإمام الأعظم، قال الشيخ: والوكالة يصح قبولها على الفور والتراخي،
بالقول والفعل، والولاية نوع منها اهـ. والحاكم فيه ثلاث صفات
(4/487)
فمن جهة الإثبات هو شاهد، ومن جهة الأمر
والنهي هو مفت، ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان، واتفقوا على أنه يحكم في
كل شيء من الحقوق، سواء، كان الحق لله أو لآدمي، وأنه نائب عن الإمام
الأعظم في هذا المعنى، وحقيق بمن أقيم بهذا المنصب أنه يعد له عدته، وأنه
يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج
من قول الحق والصدع به.
وقال ابن القيم: لما كان التبليغ عن الله يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق
فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية، والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق
فيكون عالمًا بما يبلغ به صادقًا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي
السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله اهـ، وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد
باتفاق العلماء، لأنه يجب عليه الحكم بالعدل، وذلك يستلزم أن يكون عدلاً في
نفسه.
(وفي السنن عن بريدة مرفوعًا: القضاة ثلاثة) أي ينقسم القضاة إلى ثلاثة
اقسام (إثنان في النار وواحد في الجنة)
وكأنه قيل: من هم؟ فقال: (رجل عرف الحق فقضى به فهو
في الجنة) فلا بد من العلم والعمل (ورجل عرف الحق فلم
يقض به) وقضى بالظلم (وجار في الحكم) فتعدى الحكم الشرعي عامدًا (فهو في
النار) لجوره (ورجل لم يعرف الحق) ليقضي به (فقضى للناس على جهل) وإن وافق
الحق (فهو في
(4/488)
النار) لتعمده القضاء على جهل، فالعمدة
العمل، فإن من عرف الحق ولم يعمل به، فهو من حكم بجهل سواء في النار، بل
العامد أولى، ففيه أنه لا ينجو من النار من القضاة إلا من عرف الحق وعمل
به، وفيه أعظم وازع عن الدخول في هذه المنصب، الذي ينتهي بالجاهل والجائر
إلى النار، وفيه النهي عن تولية الجاهل القضاء.
ويحرم الدخول فيه على من لا يحسنه، وقال الشيخ: من باشر القضاء مع عدم
الأهلية المسوغة للولاية، وأصر على ذلك عاملاً بالجهل والظلم، فهو فاسق،
ولا تنفذ أحكامه ولا عقوده كما تنفذ أحكام العالم العادل.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: إن المقسطين) أي العادلين في
أحكامهم (على منابر من نور عن يمين الرحمن) فيه إثبات صفة اليمين لله عز
وجل، وعلو مرتبة (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم) زوجاتهم وعيالهم (وما
ولوا) من ولاية عامة وقضاء وغير ذلك (رواه مسلم) ففي الحديث فضل من يحكم
بالعدل، وعلو منازلهم عند الله يوم القيامة؛ وفيه وفي حديث عمرو، ونحوهما
الترغيب في القضاء لمن عدل في قضائه؛ ولأحمد من حديث عائشة "السابقون إلى
ظل الله يوم القيامة، الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه، وإذا
حكموا بين الناس حكموا كحكمهم لأنفسهم".
(4/489)
قال الشيخ: وليس لأحد أن يقلد في المسألة
الواحدة غير مقلده إذا أن مذهب من يقلده، يجعل الحق عليه، بل عليه باتفاق
الأئمة أن يعدل بين غيره وبين نفسه في الأقوال والأحكام، فإذا اعتقد وجوب
شيء أو تحريمه اعتقد ذلك عليه وعلى من يماثله، وقال: من ألزم نفسه التزامه،
فلا بد أن يلتزمه فيما له وعليه، كشفعة الجوار بلا نزاع، ولا يجوز أن يتتبع
الرخص اهـ.
وفي البزار من حديث أبي هريرة " من ولي من أمور المسلمين شيئًا وكل الله به
ملكًا عن يمينه، وملكًا عن شماله، يوفقانه ويسددانه" وللترمذي وابن ماجه
"إن الله مع القاضي ما لم يجر" والمراد القاضي العادل الذي لم يسأل القضاء،
ولم يستعن عليه بالشفعاء، ولديه من العلم بكتاب الله وسنة رسوله ما يعرف به
الحق من الباطل.
وقال أحمد: لا ينبغي أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أن يكون
له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه، وأن يكون له
حلم ووقار وسكينة، وأن يكون قويًا على ما هو فيه، وعلى معرفته وكفايته،
وإلا احتاج إلى الناس والخامسة معرفة الناس.
(وعن أبي هريرة مرفوعُا من ولي القضاء) بين الناس (فقد ذبح بغير سكين)
تحذير من تولي القضاء، لما فيه من الخطر العظيم (رواه الخمسة) وصحيحه ابن
خزيمة وابن حبان
(4/490)
وغيرهما، كأنه يقول: من تعرض القضاء فقد
تعرض لذبح نفسه، فليحذره وليتوقه، فإنه إن حكم بغير الحق مع علمه به، أو
جهله له فهو في النار، والمراد من ذبح نفسه إهلاكها، أي فقد أهلكها بتوليه
القضاء، وكونه بغير سكين حيث أنه لم يرد بالذبح فري الأوداج، وإزهاق النفس،
وإراحتها بالسكين، وإنما ذبحها بما الألم فيه أكثر، فأشار إليه ليكون أبلغ
في التحذير، أو أنه أراد إهلكها بالعذاب الأخروي، أو أنه إن أصاب الحق فقد
أتعب نفسه، لإرادته الوقوف عليه، وموقفه مع الخصمين ونحو ذلك، وإن أخطأ
لزمه عذاب الآخرة، فلا بد له من التعب والنصب.
(وعن أبي ذر) رضي الله عنه (قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟) أي في ولاية
من الولايات (قال: إنك ضعيف) أي فلا تصلح للاستعمال (وإنها أمانة) أي يصعب
حملها على من فيه ضعف (وإنها يوم القيامة خزي وندامة) عند المحاسبة لمن
أخذها بغير حقها، وتقدم "القضاة ثلاثة" ذكر منهم "اثنان في النار" (إلا من
أخذها بحقها) وللطبراني من حديث زيد (نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها
وحملها) (وأدى الذي عليه فيها) بأن عدل فيمن تولى عليه، وقد كان أهلاً
فأجره عظيم (رواه مسلم) وفي معناه ما رواه البزار وغيره "أولها ملامة،
وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل" ورواه الطبراني، وله
نحوه أيضًا وفيه "نعم الإمارة لمن أخذها بحقها،
(4/491)
وبئس الإمارة لمن أخذها بغير حقها، تكون
عليه حسرة يوم القيامة.
وذكر النووي أن حديث أبي ذر أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان
فيه ضعف، وهو من دخل فيها بغير أهلية، ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرط منه،
إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان من أهلها، وعدل فيها فأجره عظيم،
كما تظاهرت به الأخبار، ولكن الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر
منها.
(وللبخاري عن أبي هريرة) رضي الله عنه أي أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: بعد قوله: «إنكم تحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة»
(نعمت المرضعة) أي في الدنيا من حصول الجاه والمال، ونفاذ الكلمة، وتحصيل
اللذات الحسية والوهمية، حال حصولها (وبئست الفاطمة) أي بعد الموت، لأنه
يصير إلى المحاسبة على ذلك فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني فيكون في ذلك
هلاكه، أو لما يصيبه عند الانفصال عنها.
(وعن أبي موسى) رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: (إنا والله لا نولي هذا العمل) أي مما ولاه عليه من إمارة أو قضاء
أو غيرهما (أحدًا سأله) لأنه إذا سأله وكل إلى نفسه (أو أحدًا حرص عليه) أي
على تولي العمل من أعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث أنه لا يعان
عليه، والحديث متفق عليه،
(4/492)
كما سيأتي وذلك أن أبا موسى دخل على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - هو ورجلان من بني عمه، فقال أحدهما: أمرنا على
بعض ما ولاك الله، وقال الآخر مثل ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- «إنا والله».
فأقسم بالله وهو البار الراشد، أنه لا يولي هذا العمل أحدًا سأله أن يوليه
إياه، أو حرص على ذلك، والحكمة والله أعلم أنه لا يولي من سأل الولاية،
لأنه يوكل إليها، ولا يكون معه إعانة كما سيأتي، وإذا لم يكن معه إعانة، لا
يكون كفؤًا ولا يولي غير الكفء.
(وقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لعبد الرحمن بن سمرة: لا
تسأل الإمارة) وفي لفظ "لا تتمن الإمارة" والإمارة عامة لكل إمارة من
الإمامة العظمى، وما دونها من كل ولاية، ومنها القضاء (إنك إن أعطيتها من
غير مسألة) أي عن غير سؤال (أعنت عليها) ولأبي داود وغيره "ومن لم يطلبه،
ولم يستعن عليه، أنزل الله ملكًا يسدده" (وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)
أي صرفت إليها، ولا تكون حينئذ معانًا من عند الله (متفق عليهما).
فمن طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها، من أجل حرصه، فيكره الدخول في
القضاء ونحوه عن حرص أو
مسألة لأن من حرص على ذلك لا يعان أن لا يحصل منه
العدل إذا ولي، وإنما يخشى عليه حيث
(4/493)
كان مسلوب الإعانة أن يتورط فيما دخل فيه،
فيخسر دنياه وآخرته، وفي السنن: "من طلب القضاء وكل إلى نفسه" وربما كان
طلبه لذلك إرادة للظهور على عدو ونحو ذلك، فيكون في توليته مفسدة عظيمة.
وهذا والله أعلم محمول على الأغلب، وإلا فقد قال الله عن يوسف (اجعلني على
خزائن الأرض) وقال عن سليمان {هَبْ لِي مُلْكًا} ولأبي داود من حديث أبي
هريرة " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره فله الجنة" ويجب
على ولي الأمر أن يولي الأفضل، لما روى البيهقي وغيره "من استعمل رجلاً على
عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرض لله منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة
المسلمين".
(ولأبي داود، من حديث أبي شريح) قال الحافظ: اسمه هانئ بن يزيد الكندي، وفي
الخلاصة خويلد الخزاعي (قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء) نكرة عامة (أتوني
فحكمت بينهم) حيث كان صاحب عدل، يصلح بينهم (فرضي كلا الفريقين) لأن مدار
الصلح على الرضى (فقال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحسن
هذا» أي ما أحسن الصلح الذي يرضى به كلا الفريقين، وفي الحديث قال: «إن
الله هو الحكم وإليه الحكم» يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزله،
وإليه الحكم في الدنيا والآخرة، فدل على فضيلة الصلح إذا لم يجد
(4/494)
القاضي نصًا يعتمده وأن الاجتهاد من العالم
جائز بشرطه.
(وبعث) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قاضيًا (و) بعث عليًا رضي الله عنه قاضيًا وجابيًا في اليمن، رواه أبو داود
وغيره (و) بعث (معاذًا) يعني ابن جبل رضي الله عنه قاضيًا في اليمن، وكذا
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فكل هؤلاء بعثهم رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (قضاة) وكذا عتاب من أسيد بعثه قاضيًا في مكة.
(وقال) - صلى الله عليه وسلم - (لمعاذ) بن جبل (بم تحكم؟) به بين الخصمين
(قال: بكتاب الله) فهو أول ما ينظر فيه (قال: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -) فينظر فيها بعد كتاب الله (قال: فإن لم تجد؟
أي فإن لم تجد حكم ما أدلى به إليك في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، ولم يمكنه استنباط الحكم منهما (قال اجتهد رأيي) ولا
ريب أنه فيما لم يخالفهما، وفيه أن السلف استعملوا الرأي الصحيح، وعملوا
به، وأفتوا به، وسوغوا القول به، وذموا الباطل، ومنعوا من العمل والقضاء
والفتيا به، وأطلقوا ألسنتهم بذمه، وذم أهله، بل يحرم القضاء والإفتاء في
دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي هو الذي لم تشهد له النصوص
بالقبول، والرأي الحق الذي لا مندوحة عند لأحد من المجتهدين هو ما يراه
القلب بعد فكر وتأمل، وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تعارض فيه الأمارات.
(4/495)
فصل في آداب القاضي
أي أخلاق القاضي التي يجب أو يسن له أن يتخلق بها، ويحفظ بها نفسه عن
الميل، والأدب بفتح الدال، يقال أدب بكسرها، إذا صار أديبًا في خلق أو علم،
ويقال الأدب الظرف وحسن التناول.
(قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}) من شرعه المطهر
{فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أول الآيات {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} قال ابن كثير: نزلت هذه
الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله، ورسوله،
المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا
آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
هَادُوا} اهـ والآية وإن كانت نزلت في أهل الكتاب فليست مختصة بهم، لأن
الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
فهذه الآية الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، وهو الكتاب
والسنة، ولما قيل لحذيفة نزلت في بني إسرائيل، قال: نعم الإخوة لكم بنو
إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قد
الشراك، وعن ابن عباس نحوه، وإن كان ليس ككفر بالله وملائكته وكتبه ورسله،
وحكى البغوي عن العلماء هذا إذا رد حكم الله عيانًا عمدًا، فأما من خفي
عليه، أو أخطأ في تأويل فلا اهـ.
(4/496)
والتحقيق أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر
مطلقًا كما سماه الله، فإما أن يكون كفر عمل، وإما كفر اعتقاد، ناقل عن
الملة قال شيخنا: وهو أنواع: إما أن يجحد أحقية حكم الله ورسوله، أو يعتقد
أن حكم غير الرسول أحسن من حكمه، أو أنه مثله، أو اعتقد جواز الحكم بما
يخالفه، أو مضاهاة بالمحاكم الشرعية إعدادًا ومراجع وغيرها (1)، وأما كفر
العمل الذي قال ابن عباس وغيره: كفر دون كفر، فهو الحكم في القضية بغير ما
أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، واعترافه بالخطأ.
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} نزلت أيضًا في أهل الكتاب لما لم ينصفوا المظلوم من الظالم
في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه فخالفوا وظلموا
وتعدى بعضهم على بعض؛ قال الشيخ محمد ابن عبد الوهاب: إن كل ما ذم الله به
اليهود والنصارى في القرآن إنه لنا، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الخارجون عن طاعة
ربهم المائلون إلى الباطل، التاركون للحق.
(وقال) تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي استخرج آراءهم، واعلم ما
عندهم، من قول العرب شرت الدابة وشورتها، إذا
__________
(1) وذلك لما انجر كلامه على القوانين الملعونة.
(4/497)
استخرجت جريها، أمره تعالى بمشاورتهم
تطييبًا لقلوبهم فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، فإن سادات العرب
كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، ولذا كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه،
كما شاورهم يوم بدر وأحد الحديبية واستشار عليًا وأسامة في فراق عائشة رضي
الله عنها وغير ذلك، ولابن مردويه سئل عن العزم فقال: مشاورة أهل الرأي ثم
اتباعهم وقال: المستشار مؤتمن، وإذا استشار أحدكم أخاه فليشر
عليه.
وقالت عائشة: ما رأيت أحدًا أكثر استشارة للرجال من رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فدلت الآية وفعله - صلى الله عليه وسلم - على سنية مشاورة ولي
الأمر، وكذا القاضي ذا الرأي، وأهل العلم فيما يشكل، وسؤالهم إذا حدثت
حادثة، ليذكروا رأيهم وأجوبتهم وأدلتهم، وإن اتضح للقاضي الحكم حكم وإلا
أخره حتى يتضح له الحق.
(وعن أبي بكرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا
يحكم بين اثنين وهو غضبان) لأن الحكم حالة الغضب يحصل بسببه من التغير ما
يختل به النظر، بل الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، بل
يحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد، وحيث أنه لا
يستوفي الحكم على الوجه منع منه (متفق عليه) وهذا مذهب
(4/498)
فقهاء الأمصار وعداه الفقهاء بهذا المعنى
إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين، وغلبة النعاس، وسائر
ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر.
وظاهر النهي التحريم، وحمله الجمهور على الكراهة، لكونه مظنة لتشويش الفكر،
فقد يفضي إلى الخطأ، وليس بمطرد مع كل غضب، مع كل إنسان، أما إن أفضى إلى
عدم تمييز الحق من الباطل، فلا خلاف في تحريمه، وإن لم يفض إلى هذا الحد
فأقل أحواله الكراهة، وخصه بعضهم بما إذا لم يكن لله، لأن الغضب لله يؤمن
معه التعدي، وإن خالف الحاكم فحكم في حال الغضب، فمذهب الجمهور صحة حكمه،
وإن وافق الحق لأنه - صلى الله عليه وسلم - قضى للزبير بعد أن أغضبه الخصم،
وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر.
(وعن) عبد الله (بن الزبير) رضي الله عنهما (قال: قضى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم) فدل على وجوب تسويته بينهما
في مجلسه، إذا ترافعا إليه رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، وفي إسناده مقال
و (صححه الحاكم) وروي عن علي رضي الله عنه أنه جلس إلى جنب شريح في خصومة
له مع يهودي، وقال: لو كان خصمي مسلمًا جلست معه بين يديك؛ وفيه أيضًا
مشروعية الجلوس بين يدي القاضي، إعزازًا للحكم الشرعي، وقال ابن رشد أجمعوا
على أنه واجب
(4/499)
عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس اهـ.
وإن كانت التسوية بين الخصمين ممكنة، بأن يقعد أحدهما عن يمينه والآخر عن
شماله أو أحدهما في جانب المجلس والآخر في الجانب الآخر جاز، وفيه مشروعية
التسوية بين الخصمين لأنهما لما أمرا بالقعود جميعًا على تلك الصفة، كان
الاستواء في الموقف لازمًا لهما، وفي قصة على تخصيص بالمساواة بين
المسلمين، دون المسلم والكافر.
(وعن أم سلمة) رضي الله عنها (مرفوعًا: من ابتلي بالقضاء بين المسلمين،
فليعدل بينهم في لفظه) ولحظه ودخولهما عليه (وإشارته) فلا يخص أحدهما دون
الآخر (ولا يرفع صوته على أحد الخصمين) ليكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر
(رواه الدارقطني) وأبو يعلي (وفيه ضعف) فإن في إسناده عباد بن كثير وهو
ضعيف، ويشهد له ما تقدم.
وقال ابن القيم: نهى - صلى الله عليه وسلم - عن رفع أحد الخصمين عن الآخر،
وعن الإقبال عليه، وعن مشاورته، والقيام له دون خصمه، لئلا يكون ذريعة إلى
انكسار قلب الآخر، وضعفه عن القيام بحجته، وثقل لسانه بها، ولا يتنكر
للخصوم، لما في التنكر لهم من إضعاف نفوسهم، وكسر قلوبهم، وإخراس ألسنتهم
عن التكلم بحججهم، خشية معرة التنكر، ولا سيما لأحدهم دون الآخر، فإن ذلك
الداء العضال.
(4/500)
(وعن علي) بن أبي طالب رضي الله عنه
(مرفوعًا: إذا جلس إليك الخصمان) أي للحكم بينهما وفي لفظ "إذا تقاضي إليك
رجلان" (فلا تقض بينهما) إذا سمعت من أحدهما (حتى تسمع من الآخر كما سمعت
من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) وفي لفظ "فسوف تدري كيف تقضي)
رواه أحمد وأبو داود و (حسنه الترمذي) وصححه الحاكم، وله طرق عن البزار
وغيره.
وفيه دليل على أنه يحرم على الحاكم أن يحكم قبل سماع حجة كل واحد من
الخصمين، واستفصال ما لديه، وإحاطته بجميعه، لجواز أن يكون مع خصمه حجة
يدفع بها بينة، فإن قضى قبل السماع من أحد الخصمين كان حكمه باطلاً، فلا
يلزم قبوله بل يتوجه عليه نقضه، ويعيده على وجه الصحة، أو يعيده حاكم آخر،
وفيه دليل على أن الحاكم لا يقضي على غائب، وذلك لأنه إذا منع أن يقضي لأحد
الخصمين وهما حاضران، حتى يسمع كلام الآخر، فقد دل على أنه في الغائب الذي
لم يحضر ولم يسمع قوله أولى بالمنع، وإن امتنع أحد الخصمين عن الإجابة
لخصمة جاز القضاء عليه، لتمرده، ولكن بعد التثبت المسوغ للحكم كما في
الغائب.
(وعن أم سلمة) رضي الله عنها (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما
أنا بشر) أي مشارك، للبشر في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص
بها - صلى الله عليه وسلم - (وإنكم تختصمون إلي) فكل يدلي بحجته
(4/501)
(ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) أي
أفطن للحجة، وأعرف بها من غيره، أو أبلغ في إيراد الكلام، وأحسن كما في
رواية (فأقضي له بنحو مما أسمع) أي من الدعوى والإجابة والبينة أو اليمين،
وقد تكون باطلة في نفس الأمر (فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا) أي قضيت له
بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه، فلا يأخذه (فإنما أقطع له
قطعة من النار) أي فهو عليه حرام، يئول به إلى النار (متفق عليه).
وذلك بحيث تكون حجته باطلة في نفس الأمر فيقتطع من مال أخيه قطعة من النار،
باعتبار ما يئول إليه، وهذا تمثيل منه - صلى الله عليه وسلم - يفهم منه شدة
التعذيب على ما يتعاطاه بكذبه وفجوره في دعواه على أخيه المسلم، واقتطاع
ماله بذلك، وفي الحديث دليل على عظم إثم من خاصم في باطل، حتى استحق به في
الظاهر شيئًا هو في الباطن حرام عليه، وأن من احتال الأمر باطل بوجه من
وجوه الحيل، حتى يصير حقًا في الظاهر ويحكم له به، أنه لا يحل له تناول في
الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم له به.
وفيه دليل أيضًا مع ما تقدم على أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم، بل يؤجر
على اجتهاده كما في الصحيح "وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" قال الحافظ وفيه أن
من ادعى مالاً ولم يكن له بينة فحلف المدعى عليه، وحكم الحاكم ببراءة
(4/502)
الحالف أنه لا يبرأ في الباطن، ولا يرتفع
عنه الإثم بالحكم، وحكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام،
ويعلم من الحديث أيضًا كما قال ابن القيم أن ما علمه الحاكم في زمن ولايته
ومكانها، وما علمه في غيرها، لا يحكم به، وهل هو إلا محل التهمة.
ولو فتح هذا الباب – ولا سيما لقضاة الزمان – لوجد كل قاض له عدو: السبيل
إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه، والتفريق بينه وبين امرأته، ولا سيما إذا كانت
العداوة خفية، لا يمكن عدوه إثباتها وحتى ولو كان الحق هو حكم الحاكم بعلمه
لوجب منع قضاة الزمان من ذلك، وقد ثبت عن أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف
وابن عباس ومعاوية المنع من ذلك، ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف.
(ولمسلم) والترمذي وصححه (أنه) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(قال: للحضرمي) وهو ربيعة بن عيدان (ألك بينة؟) وذلك أنه كان بينه وبين رجل
من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس الشاعر الصحابي، خصومة في أرض، قال
الحضرمي: غلبني على أرض كانت لأبي، وقال الكندي: هي أرضي في يدي، أزرعها
ليس له فيها حق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: «ألك بينة على
دعواك على ما في يده؟» (قال: لا، قال: فلك يمينه) قال: الرجل فاجر، لا
يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: "ليس لك إلا ذلك" ففيه أنه
لا يجب للغريم
(4/503)
على غريمه اليمين المردودة، ولا يلزمه
التكفيل، ولا يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس، وفيه: فانطلق ليحلف،
فقال: «لئن حلف على ماله ليأكله ظلمًأ ليلقين الله وهو عنه معرض».
وأما التهمة فلأبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة، طلبًا
لإظهار الحق بالاعتراف، قال ابن القيم: والأصول المتفق عليها بين الأئمة
توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعي عليه الذي يسوغ
إحضاره، وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس الحكم، حتى يفصل بينهما، وقد يكون
مشغولاً عن تعجيل الفصل، فيكون المطلوب محبوسًا من حين يطلب إلى أن يفصل
بينه وبين خصمه، وهذا حبس بدون التهمة، ففيه التهمة أولى، فإن الحبس الشرعي
ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه،
سواء كان في بيت أو مسجد أو كان بتوكيل الخصم، أو وكيله عليه وملازمته له.
قال: فإذا جاز حبس المجهول، فحبس المتهم بالفجور والسرقة وقطع الطريق
والقتل ونحو ذلك أولى، قال الشيخ: وما علمت أحدًا من الأئمة يقول إن المدعي
عليه يحبس وذكر كثيرًا من الدعاوي ثم قال: في جميع هذه الدعاوي يحلف، ويخلى
سبيله بلا حبس ولا غيره، ومن زعم أنه مذهب لأحد من الأئمة وأنه على إطلاقه
وعمومه هو الشرع، فقد غلط غلطًا فاحشًا مخالفًا للنصوص وإجماع الأمة وبمثل
هذا الغلط تجرأ
(4/504)
الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن الشرع
لا يقوم بسياسة العالم، ومصلحة الأمة، وتعدوا حدود الله، والشرع لم يسوغ
تكذيب صادق، ولا إبطال إمارة، وعلامة شاهدة بالحق.
(ولهما قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الأشعث بن
قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقال: «شاهداك» فالأشعث هو المدعي فعليه البينة (أو
يمينه) لأن خصمه أنكر دعواه، وتقدم "البينة على المدعي، واليمين على من
أنكر" قال: (ليس لك إلا ذلك) فقلت إذا يحلف ولا يبالي، فقال: "من حلف على
يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، وهو فيها فاجر لقي الله وهو علي غضبان".
وتقدم أن ابن عمر باع غلامًا بثمانمائة درهم بالبراءة، فقال الذي ابتاعه،
به داء لم يسم، فقضى عثمان باليمين على ابن عمر، فأبى فحكم عليه بالنكول،
وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة، وهو المشهور عن أحمد؛ واستلف المقداد سبعة آلاف
درهم، وأتاه بأربعة، فقال عثمان: سبعة، فقال المقداد لعمر: ليحلف أنها كما
يقول، وليأخذها فقال عمر: أنصفك وكان شريح إذا قضي باليمين على رجل فردها
على الطالب، فلم يحلف لم يعطه شيئًا ولم يستحلف الآخر، وعبد الله بن عتبة
إذا قضي على رجل باليمين فردها على المدعي، فأبى لم يجعل له شيئًا، وقال
أبو عبيد: رد اليمين له أصل في الكتاب والسنة، قال تعالى {أَوْ يَخَافُوا
أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} وفي القسامة ردها على المدعي
(4/505)
عليه فهذا هو الأصل في رد اليمين، قال ابن
القيم: وهذا مذهب الشافعي ومالك وصوبه الإمام أحمد.
وقال شيخ الإسلام: ليس المنقول عن الصحابة في النكول ورد اليمين بمختلف بل
هذا له موضع، وهذا له موضع، فكل موضع أمكن المدعي معرفته والعلم به، فرد
المدعي عليه اليمين فإنه إن حلف استحق، وإن لم يحلف لم يحكم له بنكول
المدعي عليه، وهذا كحكومة عثمان والمقداد فإن المدعي هنا يمكنه معرفة ذلك
والعلم به، فإذا لم يحلف لم يحكم له إلا ببينة أو إقرار، وأما إن كان
المدعي لا يعلم ذلك، والمدعى عليه هو المتفرد بمعرفته، فإنه إذا نكل عن
اليمين حكم عليه بالنكول، ولم ترد على المدعي كابن عمر.
(وكتب عمر) بن الخطاب أمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين المحدث الملهم
كتابه المشهور الذي قال فيه أبو إسحاق: هو أجل كتاب، فإنه بين آداب القضاة،
وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد، واستنباط القياس، وقال الشيخ: رسالة عمر
المشهورة في القضاء إلى أبي موسى، تداولها الفقهاء، وبنوا عليها، واعتمدوا
على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، وكلامه من أجمع الكلام وأكمله، فإنه
محدث ملهم، كل كلمة من كلامه تجمع علمًا كثيرًا. وقال ابن القيم: هذا كتاب
جليل، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم
والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه، وروي
(4/506)
أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقال
- صلى الله عليه وسلم - «إن يكن في أمتي محدثون فعمر».
وقال حذيفة: هو أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وأعرفنا بالله،
والله لهو أبين من طريق الساعين، وقال ابن مسعود: لو أن علم عمر وضع في كفة
ميزان، ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح عليهم، وقال الشعبي: من سره أن يأخذ
بالوثيقة في القضاء، فليأخذ بقول عمر، وقال ابن المسيب: لا أعلم أحدًا بعد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم من عمر، وهذا كتابه (إلى أبي موسى)
عبد الله بن قيس الأشعري، وكان - صلى الله عليه وسلم - استعمله على بعض
اليمن.
قال عمر رضي الله عنه: أما بعد فـ (إن القضاء فريضة محكمة) أحكمها الله في
كتابه (وسنة متبعة) سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال - صلى
الله عليه وسلم - «العلم ثلاثة، آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة»
(فافهم إذا أدلي إليك) أي أدلى إليك الخصوم، وتنبه لما يقولونه، وافهم نفس
الواقع، مما توصل به من الكلام الذي تحكم به بين الخصوم، واستنبط حقيقته
بالقرائن والأمارات والعلامات، وافهم أحوال الناس وميز بين الصادق والكاذب،
والمحق والمبطل، وافهم حكم الله الذي تحكم به فيه، وعلى لسان رسوله - صلى
الله عليه وسلم - وطابق بين هذا وهذا.
وأعط الواقع حكمه من الواجب، ولا تجعل الواجب
(4/507)
مخالفًا للواقع بل توصل بمعرفة الواقع،
والتفقه فيه إلى معرفة حكمة الله ورسوله، كما توصل نبي الله سليمان إلى
معرفة عين الأم بشق الولد ونحو ذلك، ولم يزل الحذاق يستخرجون الحقوق
بالأمارات، والفراسة، والفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين
الحق والباطل؛ والمحق والمبطل ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الله عز
وجل، قال رضي الله عنه (فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له) إلى قلبك
لتفهمه.
وقال ابن القيم: مراد عمر تحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع
تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفيذه، فهو تحريض منه على العلم بالحق، والقوة
على تنفيذه قال عمر (آس الناس في مجلسك) وقضى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم، قال عمر (و) آس الناس (في وجهك)
وعليه أن يعدل بينهم في لفظه وإشارته (و) آس بينهم في (قضائك) وقد أمر الله
بالحكم بالقسط وهو العدل، وبالحق، ومتى عدل الحاكم بين الخصمين فهو عنوان
عدله، ومتى خص أحد الخصمين بمجلس أو قيام أو بشاشة أو نحو ذلك، كان عنوان
ظلمه وجوره.
(حتى لا يطمع شريف في حيفك) أي في ميلك معه لشرفه، والحيف الجور والظلم
(ولا ييأس ضعيف من عدلك) حيث إنه لا يميل بك الهوى، فتجور عليه في الحكم
(البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) البينة هي لكل ما يبين الحق
(4/508)
ويدل عليه، ويأتي مرفوعًا. قال ابن القيم:
فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به، من البينات
التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يرد حقًا قد ظهر دليله، ولا يقف ظهوره
على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به، مع مساواة غيره في ظهور الحق، أو
رجحانه عليه ترجيحًا لا يمكن جحده ودفعه كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد،
في صورة من على رأسه عمامة، وبيده عمامة وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو أثره،
ولا عادة له بكشف رأسه.
وذكر النكول واليمين والشاهد الواحد، وفي الزنا بالحبل، وفي الخمر بالرائحة
والقيء، وفي السرقة بوجود المسروق، وأن البينة في كلام الله، وكلام رسوله
وكلام الصحابة أعم منها في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين، أو الشاهد
واليمين وأن الحاكم يحكم بالحجة التي ترجح الحق إذا لم يعارضها مثلها، وأن
يعلم ما يقع، ثم يحكم فيه بما يجب.
قال: والحكم قسمان، إثبات وإلزام، وكلاهما له طرق متعددة، أحدها الحكم
باليد المجردة، التي لا تفتقر إلى يمين والإنكار المجرد، وباليد مع يمين
صاحبها، إذا سئل إحلافه، وبالنكول وحده، أو به مع رد اليمين، أو بشاهد
وامرأتين، أو بشهادة امرأتين ويمين المدعي، أو امرأتين فقط، وبثلاثة واربعة
وبالصبيان المميزين، والفساق والكفار في صور، وبالإقرار وبالتواتر
وبالإستفاضة، وبأخبار الآحاد، والخط، وبالعلامات الظاهرة،
(4/509)
والقرعة والقافة وذكر نحو خمسة وعشرين
طريقًا.
قال عمر رضي الله عنه (والصلح جائز بين المسلمين) وليس بحكم لازم يقضي به،
إن لم يرض به الخصم وقوله: بين المسلمين: خرج مخرج الغالب (إلا صلحا أحل
حراما، أو حرم حلالاً) وهذا لفظ حديث مرفوع تقدم صححه الترمذي وغيره، وندب
تعالى عن الصلح في غير موضع من كتابه، وقال عمر: ردوا الخصوم حتى يطصلحوا
فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن، وقال: ردوا الخصوم، ولعلهم أن
يصطلحوا فإنه آثر للصدق، وأقل للخيانة، وقال: ردوا الخصوم إذا كان بينهم
قرابة، فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن.
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الصلح أفضل من درجة الصائم القائم، قال
ابن القيم: والحقوق نوعان حق لله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود والزكاة
والكفارات ونحوها، وإنما الصلح بين العبدوربه في إقامتها، لا في إهمالها،
وحقوق الآدميين هي التي تقبل الصلح، والإسقاط والمعاوضة عليها، والصلح
العادل هو الذي أمر الله به ورسوله كما قال تعالى: {فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} والصلح الجائر، هو: الظلم بعينه قال وكثير من
الظلمة والمصلحين يصلح بين القادر الظالم، والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى
به القادر الظالم، ويصلح بين الغريمين على دون الطفيف على حق أحدهما،
والصلح الذي يحل الحرام ويحرم
(4/510)
الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال،
وإحلال بضع حرام، أو إرقاق حر أو نقل نسب أو ولاء عن محل إلى محل أو أكل
ربا أو إسقاط واجب، أو تعطيل حد وما أشبه ذلك.
والصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله ورضى الخصمين يكون
المصلح عالمًا بالوقائع، عارفًا بالواجب، قاصدًا للعدل، كما أصلح النبي -
صلى الله عليه وسلم - بين كعب وغريمه وأرشد الخصمين اللذين كانوا بينهم
مواريث، بأن يتوخيا الحق بحسب الإمكان ونحو ذلك قال رضي الله عنه: (ومن
ادعى حقًا غائبًا) فاضرب له أمدًا ينتهي إليه (أو ادعى (بينة) غائبة (فاضرب
له أمدًا ينتهي إليه) فإن المدعي قد تكون له حجة أو بينة غائبة فلو عجل
عليه بالحكم بطل حقه.
فإذا سأل أمدًا تحضر فيه حجته أجيب إليه، ويكون الأمد بحسب الحاجة (فإن
بينه أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك) أي ما ادعاه من الحق، ومضى الأمد (استحللت
عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلي للعمى) فإن ظهر عناده ومدافعته
للحاكم لم يضرب له أمدًا، بل يفصل الحكومة فإن ضرب هذا الأمد إنما كان
لتمام العدل، فإذا كان فيه إبطال للعدل لم يجب إليه الخصم، قال: (ولا يمنعك
قضاء قضيته في اليوم) أي القريب لا فيما بعد (فراجعت فيه رأيك) معتقدك
(فهديت فيه
(4/511)
لرشدك) والرشد الاستقامة على طريق الحق، ضد
الغي (أن تراجع فيه الحق) يعني الصواب من الشرع.
(فإن الحق قديم) سابق على الباطل (لا يبطله شيء) من الآراء وغيرها، فإذا
اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته
(ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل) فإن الحق أولى بالإيثار، لأنه
قديم سابق، ولو كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني، والثاني هو الحق فهو
أسبق من الاجتهاد الأول، لأنه قديم سابق على ما سواه، ولا يبطله وقوع
الاجتهاد الأول على خلافه، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد
الأول.
وعمر رضي الله عنه قضى في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها
وأمها وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة، فقال له رجل: إنك لم تشرك
بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا
اليوم فأخذ رضي الله عنه في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه
القضاء الأول، من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني، قال ابن
القيم: فجرى أئمة الإسلام على هذين الأصلين.
قال رضي الله عنه (والمسلمون عدول بعضهم على بعض) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عدلاً
(4/512)
خيارًا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ} فالمسلمون عدول، بعضهم على بعض بالإجماع إلا من قام به مانع
الشهادة، كما قال أمير المؤمنين (إلا مجربًا عليه شهادة زور) فلا يوثق بعد
ذلك بشهادته، وقالت عائشة: ما جر على أحد كذبًا فرجع إليه، حتى يعرف منه
توبة، وقال - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال قدمًا شاهد الزور حتى يقذف به
في النار» وهي من الكبائر.
(أو مجلودًا في حد) فلا تقبل شهادته، وهذا لا نزاع فيه، لأن الله تعالى نهى
عن قبول شهادته قال: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فتقبل عند الجمهور، قال عمر: (أو ظنينًا) أي متهمًا
والشهادة ترد بالتهمة (في ولاء) كشهادة السيد لعتيقه بمال، أو شهادة العتيق
لسيده إذا كان في عياله، أو منقطعًا إليه يناله نفعه، ولا ترد بالولاء قال:
(أو قرابة) كشهادة القريب لقريبه، فلا تقبل مع التهمة.
وتقبل بدونها، لعموم الآيات، وعدم الاستثناء في الآيات والأخبار، وخبر "لا
تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ظنين في ولاء، أو قرابة ولا مجلود" قال ابن
القيم: وهو الصحيح حيث لا تهمة فالتهمة وحدها مستقلة بالمنع، سواء كان
قريبًا أو أجنبيًا ولا ريب أن تهمة الإنسان في صديقه وعشيرته، ومن تعنيه
مودته ومحبته، أعطم من تهمته في أبيه وابنه، والواقع شاهد بذلك، وكثير من
الناس يحابي صديقه وعشيرته وذا وده
(4/513)
أعظم مما يحابي أباه وابنه وقال عمر: تجوز
شهادة الوالد لولده والولد لوالده، والأخ لأخيه إذا كانوا عدولاً لم يقل
الله حين قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} إلا والدًا وولدًا
وأخًا، قال ابن القيم: هذا لفظه، وليس في ذلك عنه روايتان، بل إنما منع من
شهادة المتهم في قرابته وولائه، وقال إسحاق بن راهويه، لم تزل قضاة الإسلام
على هذا اهـ.
فالتهمة هي الوصف المؤثر في الحكم، فيجب تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا ولا
تأثير لخصوص القرابة ولا عمومها، بل توجد القرابة حيث لا تهمة، وتوجد
التهمة حيث لا قرابة والشارع إنما علق قبول الشهادة بالعدالة، وكون الشاهد
مرضيًا وعلق عدم قبولها بالفسق.
قال رضي الله عنه (فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر) وقال في خطبته:
من أظهر لنا خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شرًا ظننا به
شرًا وأبغضناه عليه، وقال: إن الوحي قد انقطع ولا نؤاخذكم إلا بما ظهر لنا،
ومراده من ظهر لنا من علانيته خير قبلنا شهادته، ووكلنا سريرته، إلى الله،
وقال: لا نقبل إلا العدول فأحكام الدنيا على الظواهر والسرائر تبع لها.
قال: (وستر عليهم الحدود) أي وستر على المسلمين المحارم، وهي حدود الله،
والحد يراد به الذنب، ويراده به العقوبات قال: (إلا بالبينات) الأدلة
والشواهد، فقد صح عنه الحد في الزنا، بالحبل قال: (والأيمان) والمراد بها
أيمان الزوج في اللعان، وأيمان
(4/514)
أولياء القتيل في القسامة قال ابن القيم:
وهي قائمة مقام البينة قال: (ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك) كرر الفهم
لمسيس الحاجة إليه قال إياس بن معاوية: إنما القضاء فهم، وقال تعالى:
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وهو الذي اختص به إياس وشريح وأمثالهما، مع
مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم.
والمراد الفهم في الواقع، والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال، قال ابن
القيم: وهو الذي فات كثيرًا من الحكام، فأضاعوا كثيرًا من الحقوق، ثم قال:
(مما ورد عليك) من القضايا وفي رواية " الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك"
(مما ليس في قرآن ولا سنة) وفي لفظ "في كتاب ولا سنة) حثه على الأصل الثالث
للأحكام وهو القياس وهو أن يلحق ما لم يعلم حكمه من الكتاب والسنة بما علم
حكمه، لمشابهة بينهما في السبب الذي من أجله شرع الحكم فقال رضي الله عنه
(ثم قايس الأمور عند ذلك) وقال لشريح: اجتهد رأيك، وفي خبر معاذ: اجتهد رأي
ولا آلوا.
وقال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا
وهلم جرًا استعلموا المقاييس في الفقه، وفي جميع الأحكام في أمر دينهم،
قال: وأجمعوا أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار
القياس، لأنه التشبيه بالأمور، والتمثيل عليها، قال الشيخ: القياس الصحيح
هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين،
(4/515)
فالأول قياس الطرد، والثاني قياس العكس.
وهو العدل الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وهو الميزان
الذي أنزل به الكتاب، وهو أن يكون الجامع هو العلة التي لأجلها شرع الحكم
في الأصل.
وقال ابن القيم: الأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة، قياس علة، وقياس
دلالة، وقياس شبه، وقد وردت في القرآن، فمن قياس العلة (إن مثل عيسى عند
الله كمثل آدم) وقياس الدلالة هو الجمع بين الأصل والفرع، بدليل العلة
وملزومها ومنه {تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} الآية، وقياس الشبه حكاه عن
المبطلين، وقال أحمد: القياس: الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله،
فإذا أشبهه في حال، وخالفه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأت.
قال: (واعرف الأمثال) أي الأشباه والنظراء من القضايا الواردة عليك، وفي
لفظ "ثم أعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك" أي على ما ورد في
الكتاب والسنة، والأحكام الشرعية مشتملة على التسوية بين المتماثلين،
وإلحاق النظير بالنظير، واعتبار الشيء بمثله، والله تعالى قد فطر عباده
عليه، وعلى العقل والميزان، ومن قياس الشبه ما وقع في القرآن من الأمثال
فإنها تشبيه شيء بشيء، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من
الآخر واعتبار أحدهما بالآخر، وهي كثيرة، وقال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا
إِلَّا الْعَالِمُونَ}
(4/516)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - ضرب
الأمثال في كثير من الأحكام التي سئل عنها، ولا مراء في أنس النفس بضرب
الأمثال.
قال: (ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله) مما أمر به، وفي لفظ "وأعمد
على أقربها إلى الله" أي إلى شرع الله وحكمه "والله يحب المقسطين" ويحب
العدل، ويكره الظلم والجور، ثم قال: (وأشبهها بالحق) أي ثم أعمد في قضاياك
إلى أشبهها بالحق ضد الباطل (وإياك) والغضب (والقلق) الانزعاج، ويروى
بالغين المعجمة (والضجر) وعدم الصبر على تنفيذ الحق، فحذره عما يحول بينه
وبين معرفة الحق، فالغضب غول العقل، يغتاله كما يغتاله الخمر، وتقدم النهي
عنه، وهو نوع من القلق، فهو يغلق على صاحبه حسن التصور.
(والتأذي بالناس) أي وإياك والتأذي بالناس، وفي لفظ "والتأذي بالخصوم "
أمره أولاً بالمساواة بين الخصوم، ثم حضه على الصبر، وفيه الأجر الجزيل
قال: وإياك (والتنكر من الخصوم) لما في التنكر لهم من إضعاف نفوسهم وكسر
قلوبهم، وإخراس ألسنتهم، ولا سيما لأحدهم دون الآخر كما تقدم (فإن القضاء
في مواطن الحق) حظه على تنفيذ الحق، والصبر عليه لأنه (مما يوجب الله به
الأجر) الجزيل كما في الحديث "ورجل قضى بالحق" إلخ (ويحسن به الذكر) فيوصف
بالعدل، ويثنى عليه، حثه على الصبر أولاً لما في التحلي به، والاحتساب
والجهاد في إقامة الحق وتنفيذه، وإلزام من هو عليه، من الأجر
(4/517)
الجزيل عند الله، وحسن الذكر، ولسان الصدق.
(فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه) قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} فمن فعل ذلك (كفاه
الله ما بينه وبين الناس) وفي الحديث "من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله
عنه وأرضى عنه الناس" والمخلص في العمل قد يجعل الله له ثواب إخلاصه:
المحبة والمهابة في قلوب الناس، مع ما يدخره له في الآخرة (ومن تزين بما
ليس فيه، شانة الله) أي بين الناس، لأنه شان باطنه عند الله، فعامله بنقيض
قصده.
(فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا) له وموافقًا شرعه وقال
تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أخلصه وأصوبه، والخالص
ما كان لله، والصواب ما كان على السنة (فما ظنك بثواب عند الله) يجزيك به
على عملك إذا كان خالصًا وذلك الثواب يكون (في عاجل رزقه) إما للقلب وإما
للبدن أولهما فإن الله تعالى يجزيك من خير الدنيا (و) كذا (خزائن رحمته)
يكون مدخرًا لك في الآخرة، وليس ما يحصل في الدنيا جزاء توفيه بل يكمل له
أجره في الآخرة، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} فمن
أخلص لله في أعماله في القضاء بين الناس أو غيره، نال الثواب الجزيل في
الدنيا والآخرة.
(4/518)
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما وغيره (قال:
لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي) وهو من يعطي الذي يعينه على
الباطل، وإن كان على حق مجمع عليه جاز (والمرتشي) الآخذ الرشوة في الحكم،
وهو من حديث أبي هريرة فاستحقا اللعن جميعًا، لتوصل الراشي بماله إلى
الباطل، والمرتشي للحكم بغير الحق (رواه الخمسة، وصححه الترمذي) وابن حبان
وغيرهما، وزاد أحمد "والرائش" وهو الذي يمشي بينهما يعني السفير بين الدافع
والآخذ وإن لم يأخذ على سفارته أجرًا فإن أخذ فهو أبلغ.
والرشوة حرام بإجماع المسلمين، سواء كانت للقاضي، أو للعامل على الصدقة، أو
لغيرهما، وقد قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا
مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وقال الشيخ: أجمع المسلمون على أن الحاكم ليس له أن يقبل الرشوة، وما يأخذه
القضاة من الأموال أربعة أقسام، رشوة وهي حرام بالإجماع، وهدية فإن كان لا
يهدي إليه إلا بعد الولاية فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده جازت
وكرهت، وإن كانت ممن بينه وبين أحد خصومة عنده، فهي حرام على الحاكم
والمهدي، وأما الأجرة فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق حرمت
بالاتفاق، لأنه إنما أجري له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم، وإن كان لا جراية
له فقيل بالجواز لأنه إنما يعطى لكونه يعمل عملاً لا لأجل كونه حاكمًا ولا
(4/519)
يستحق لأجل كونه حاكمًا بالاتفاق، فأجرة
العمل أجرة مثله.
ومن ادعى أن بعض الحكام أخذ منه شيئًا فقال الشيخ: إن كان الرجل معروفًا
بالصدق، فله على الحاكم اليمين، وإن كان غيره من الصادقين قد قال مثل قوله،
فينبغي عزل الحاكم، وإن كان الحاكم معروفًا بالأمانة، والرجل فاجر، لم
يلتفت إلى قوله، وإن كان كل منهما متهمًا، فله تحليفه، ولا يعزر.
(وعن جابر) رضي الله عنه (مرفوعًا: كيف تقدس أمة) أي كيف تطهر أمة (لا يؤخذ
من شريفهم) أي لا يؤخذ الحق من شريف تلك الأمة وكريمهم وفي لفظ: " من
شديدهم" (لضعيفهم) الذي تستضعفه تلك الأمة وتتجبر عليه لضعفه وفقره (رواه
ابن حبان) وابن خزيمة وابن ماجه، وله شواهد كثيرة، والمراد أنها لا تطهر
أمة من الذنوب، لا ينتصف لضعيفها من قويها فيما يلزم من الحق له، فإنه يجب
نصر الضعيف حتى يأخذ حقه من القوي، وفي الحديث: "انصر أخاك ظالمًا أو
مظلومًا".
(وعن عمرو بن مرة) رضي الله عنه (مرفوعًا: من ولاه الله شيئًا من أمور
المسلمين) سلطانًا كان أو أميرًا أو قاضيًا أو غيرهم ممن ولي (فاحتجب عن
حاجتهم) وفقيرهم وفي حديث معاذ عند أحمد "فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة"
(احتجب الله دون حاجته) يوم القيامة (رواه أبو داود) ورواه الترمذي ولفظه.
(4/520)
"ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة
والخلة والمسكنة، وإلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته"
والحديث وما في معناه دليل على أنه يجب على من ولي من أمور المسلمين قضاء
أو غيره أن لا يحتجب عنهم، وأن يسهل الحجاب ليصل إليه ذو الحاجة من فقير
وغيره.
(وكتب - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى) عظيم فارس "سلام على من اتبع
الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن
محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله فإني أنا رسول الله (و) كتب إلى
(قيصر) عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية
الله، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين،
"ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، وبينكم، أن لا نعبد إلا الله
إلخ (و) كتب إلى (النجاشي) ملك الحبشة وهو غير
أصحمة.
(و) كتب (إلى ملوك الأطراف) فكتب إلى المقوقس ملك الإسكندرية، وإلى المنذر
بن ساوي العبدي، ملك البحرين، وإلى جيفر الجلندري، وعمار صاحبي عمان، وإلى
هوذة بن علي صاحب اليمامة، وغيرهم.
(و) كتب إلى (ولاته وسعاته وغيرهم) مما يطول عدهم وتقوم بها الحجة، ولم يكن
يشافه رسولاً بكتابه، ولا جرى هذا
(4/521)
في مدة حياته، بل يدفع الكتاب مختومًا،
ويأمر بدفعه إلى المكتوب إليه، وهذا معلوم بالضرورة لأهل العلم بسيره
وأيامه، وفي الصحيح "ما حق امرئ، مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا
ووصيته مكتوبة عنده" ولو لم يجز الاعتماد على الخط، لم يكن لكتابة وصيته
فائدة، فدلت كتبه - صلى الله عليه وسلم - المستفيضة وكتب الخلفاء والأمراء
والقضاة والعمال وغيرهم بعضهم إلى بعض على قبول كتاب القاضي إلى القاضي،
لدعاء الحاجة إليه، وأجمعت عليه الأمة في الجملة.
وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب، فإنه لو لم يعمل بما فيها تعطلت
الشريعة حتى قال الشيخ: الأمراء الذين يستدينون ما يحتاجون إليه، ويكتب
الأمير خطه لصاحبه، أو يقيده وكيله أو نائبه في دفتره، أو يقرض دراهم وكل
ذلك بغير حجج ولا إشهاد، ثم يموت فكل ما وجد بخط الأمير أو أقر به كاتبه أو
وكيله في ذلك، فيجب العمل بذلك لأن خطه كلفظه، وإقرار وكيله فيما وكل فيه
مقبول، فلا تحتاج أصحاب لحقوق إلى بينة، لأن في ذلك ظلمًا للأموات، وخروجًا
عن العدل المعروف.
وقال الوزير: اتفقوا على أن كتاب القاضي إلى القاضي من مصر إلى مصر، في
الحقوق التي هي المال أو ما كان المقصود منه المال، جائز مقبول واتفقوا على
أنه في الحدود والقصاص، والنكاح والطلاق والخلع غير مقبول، إلا مالكًا،
وقال الشيخ:
(4/522)
يقبل في الحدود والقصاص، وهو مذهب مالك
وأبي ثور والشافعي، أيضًا في القصاص، والمحكوم إذا كان عينًا في بلد الحاكم
فإنه يسلمه إلى المدعي ولا حاجة إلى كتاب، وأما إن كان دينًا أو عينًا في
بلد أخرى، فهنا يقف على الكتاب.
وإذا كان المحكوم غائبًا فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عندهن من شهادة
الشهود، حتى يكون الحكم في بلد التسليم، ولو أوجب لكان متوجهًا وقال:
وإخبار الحاكم أنه ثبت عنده بمنزلة إخباره أنه حكم به، أما إن قال: شهد
عندي فلان أو أقر عندي فلان، فهو بمنزلة الشاهد سواء، فإنه في الأول تضمن
قوله: ثبت عندي الدعوة والشهادة والعدالة أو الإقرار، وهذا من خصائص الحكم،
بخلاف شهد عندي، أو أقر عندي، فإنما يقتضي الدعوى اهـ.
ويقبل كتاب القاضي فيما حكم به لينفذه المكتوب إليه، وإن كان كل منهما في
بلد واحد، لا فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر، فأكثر،
ويجوز إلى قاض معين وإلى من يصل إليه من قضاة المسلمين من غير تعيين،
واشترط بعضهم الإشهاد عليه، وقال ابن القيم وغيره: لم يزل الخلفاء والقضاة
وغيرهم يعتمدون كتب بعضهم إلى بعض، ولا يشهدون حاملها على ما فيها، ولا
يقرأونه عليه، هذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن قال: والقصد حصول العلم
(4/523)
بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف وتيقن، كان
كنسبة اللفظ إليه.
وقد جعل الله في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره، كتمييز صورته وصوته،
والناس يشهدون شهادة لا يستريبون فيها أن هذا فيه خط فلان، وقال: ومن عرف
خطه بإقراره أو إنشاء أو عقد أو شهادة عمل به كالميت، فإن حضر وأنكر مضمونه
فكاعترافه بالضرب، وإنكار مضمونه، وقال الشيخ: العمل بالخط مذهب قوي، بل هو
قول جمهور السلف اهـ، ويلزم الحاكم أن يكتب للمدعي عليه إذا ثبتت براءته
محضرًا بذلك، إن تضرر بتركه، وللمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية
البينة ليتمكن من القدح فيها بالاتفاق.
باب القسمة
من قسمت الشيء إذا جعلته أقسامًا والقسم بالكسر النصيب.
والقسمة نوعان قسمة تراض وهي قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر أو رد
عوض، وقسمة إجبار، وهي ما لا ضرر فيه، ولا رد عوض، والأصل في القسمة الكتاب
والسنة والإجماع والحاجة داعية إلى القسمة في المشترك، لدفع ضرر الشركة قال
تعالى {وَنَبِّئْهُمْ} أي قومك (أن الماء قسمة بينهم)
(4/524)
أي يوم للناقة، ويوم لهم (كل شرب) نصيب
(محتضر) يحضره من كانت نوبته، قال الشيخ: وإذا كان بينهما أشجار فيها
الثمرة وأغنام فيها اللبن والصوف، فهو كاقتسام الماء الحادث والمنافع
الحادثة وجماع ذلك انقسام المعدوم لكن لو نقص الحادث المعتاد فللآخر الفسخ.
وقال الوزير: اتفقوا على جواز القسمة فيما لا ضرر فيه، فما أمكن قسمه
بالأجزاء كبئر واسعة، يمكن أن يجعل نصفها لواحد، ونصفها للآخر ويجعل بينهما
حاجز في أعلاها، أو يكون البناء كبيرًا يمكن أن يجعل لكل منهما نصفه، أو
يكون في أحد جانبي الأرض بئر يساوي مائة مثلاً وفي الجانب الآخر مثلها فهو
من قسمة الإجبار، إذا طلب شريكه القسمة أجبر عليها، وكذا كل ما لا ضرر في
قسمه، ولا رد عوض، كالدور والبساتين والأرض الواسعة، والدكاكين، والمكيل
والموزون من جنس واحد، وهي إفراز لا بيع.
(وقال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} يعني قسمة المواريث {أُولُو
الْقُرْبَى} ممن لا يرث {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ} أمر ندب أو وجوب، أو منسوخ بالميراث والوصية فعموم الآية يدل على
مشروعية القسمة (وقسم - صلى الله عليه وسلم -) بعض (خيبر) على الغزاة، ووقف
نصفها رواه أبو داود وغيره، فدل على جواز قسمة الأرضين، والوقف على جهة
واحدة أو جهات لا تقسم عينه اتفاقًا لكن تجوز بالمهايات بلا مناقلة.
(4/525)
(وقسم) - صلى الله عليه وسلم - (الغنائم)
يوم خيبر، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه، وجاء أنه
لم يسهم لخيل الرجل أكثر من اثنتين فيكون له خمسة واحد له، وأربعة لفرسيه،
فما أمكن فيه التعديل بالأجزاء كالمكيلات والموزونات غير المختلفة، أو
بالقيم إن اختلفت أو بالرد إن اقتضته القسمة، أجبر الممتنع عليه، قال ابن
القيم: وتجوز قسمة الدين في الذمم ويختص كل بما قبضه، سواء كان في ذمة أو
ذمم وهو أولى من قسمة المنافع بالمهايات، ولا يهدم ذلك قاعدة من قواعد
الشريعة، ولا خالف نص كتاب ولا سنة، ولا قول صاحب، ولا قياسًا شهد له الشرع
باعتبار، وليس في أصول الشريعة ما يمنعه.
(وتقدم) في باب الشفعة (قوله: الشفعة فيما لم يقسم) من العقار وغيره، "فإذا
وقعت الحدود" أي حصلت قسمة الحدود في المبيع، واتضحت بالقسمة مواضعها "فلا
شفعة" الحديث متفق عليه، وفيه دليل على مشروعية القسمة إذا لم يحصل على
أحدهما ضرر، لما يأتي (و) تقدم في باب الصلح (خبر: لا ضرر ولا ضرار) فيحرم
على أي صفة كان من قسمة أو غيرها ومشروعية القسمة لإزالة الضرر الحاصل
بالشركة، وحصول النفع للشريكين، لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز كان له أن
يتصرف فيه بحسب اختياره.
ومشروعيتها فيما لا ضرر في قسمته، وهو قسمة الإجبار،
(4/526)
وأما قسمة التراضي فلا تجوز قسمة الأملاك
التي لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض من أحدهما على الآخر إلا برضى الشركاء
كلهم وذلك كالدور الصغار، والحمام والطاحون الصغيرين، والأرض التي لا تتعدل
بالأجزاء ولا بالقيمة، وهذه في حكم البيع، لا يجبر من امتنع منها، والضرر
المانع نقص قيمة المقسوم بالقسمة، لأن نقص قيمته ضرر، وهو منتف شرعًا وسواء
انتفعوا به مقسومًا أولا، فإذا وجد الضرر بالقسمة، لم يجبر الممتنع.
وتجوز القسمة برضاهم، ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بينهم بأنفسهم، قال ابن
القيم: ويجوز الاكتفاء بواحد، لقصة عبد الله بن رواحة، وتجب عليه إجابتهم
لقطع النزاع، وأجرته على قدر الأملاك، فإذا اقتسموا واقترعوا لزمت القسمة،
وكيفما اقترعوا جاز، وإن خير أحدهم الآخر لزمت برضاهم وتفرقهم ويواصل بين
أنصباء الشخص لدفع الضرر.
باب الدعاوي والبينات
الدعاوي جمع دعوى، وهي اسم مصدر من ادعى شيئًا إذا زعم أنه له، حقًا كان أو
باطلاً واطصلاحًا إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو ذمته،
والمدعي هو من إذا سكت ترك، والمدعي عليه هو من إذا سكت لم يترك والبينات
جمع بينة، وهي الحجة الواضحة، سميت الحجة بينة
(4/527)
لوضوح الحق وظهوره بها، وتكون بشاهد فأكثر،
وتارة بشاهد ويمين الطالب، وتارة بامرأة فأكثر، وتارة بشاهد الحال، وتارة
بعلامات يصفها المدعي، وتارة يختص بها أحدهما، وتارة شبهًا بينًا وتارة
قرائن ظاهرة، وتارة بنكول وغير ذلك، فإن البينة في الشرع اسم لما يبين الحق
ويظهره، وقد نصب تعالى عليه علامات وأمارات تدل عليه وتبينه.
قال ابن القيم: فمن أهدر الأمارات والعلامات بالكلية، فقد عطل كثيرًا من
الأحكام وضيع كثيرًا من الحقوق، وعلى المدعي أن يظهر ما يبين صحة دعواه،
فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حكم له به، ويرجع باليد العرفية، إذا استويا
والحسية أو عدمها، وإذا كانت العين بيد أحدهما فمن شاهد الحال معه كان ذلك
لوثًا، فيحكم له بيمينه (قال تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} يتمنون
ويشتهون مهما طلبوا من جميع أصناف الملاذ في الجنة، فعموم الآية يؤخذ منه
جواز دعوى من له شيء بيد غيره، فإن الدعوى لغة هي الطلب، ولا تصح الدعوى
إلا من جائز التصرف، قال الشيخ، ولا تقبل بما يناقض إقراره إلا أن يذكر
شبهة تجري بها العادة.
(وقال) تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي بالمعروف، وكلما يعرفه الشرع، قال
ابن القيم: وقد أوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوي،
وذكر أن مذهب أهل المدينة من أسد المذاهب وأصحها فيها، وهي عندهم على ثلاث
(4/528)
مراتب الأولى: دعوى يشهد لها العرف بأنها
مشبهة، أي تشبه أن تكون حقًا، مثل أن يدعي سلعة معينة بيد رجل أو غريب
وديعة أو مسافر أنه أودع أحد رفقته، والمدعي على بعض أهل الأسواق المنتصبين
للبيع أنه باعه منه واشترى، وما أشبه ذلك، فهذه تسمع، وله أن يقيم البينة
على مطابقتها، أو يستحلف المدعى عليه.
والثانية أن يدعي على رجل عينا في ذمته، أو على رجل معروف بكثرة المال، أنه
اقترض منه، أو على رجل أنه باعه بثمن في ذمته، ونحو ذلك فهذه تسمع،
ولمدعيها أن يقيم البينة على مطابقتها، قالوا: ولا يملك استحلاف المدعى
عليه على نفيها إلا بإثبات خلطة بينه وبينه، والثالثة: أن يكون رجل حائزًا
الدار، متصرفًا فيها السنين العديدة، وينسبها إلى نفسه، وإنسان حاضر يراه،
ويشاهد أفعاله فيها، ولا يعارضه ولا مانع من مطالبته، ولا بينه وبينه
قرابة، ولا شركة في ميراث، وما أشبه ذلك مما يتسامح فيه القرابات ثم جاء
يدعيها لنفسه.
فدعواه غير مسموعة أصلاً فضلا عن بينته، لأن كل دعوى يكذبها العرف، وتنفيها
العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة واستدلوا بقوله تعالى: {وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ} وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوي،
كالنقد وغيره، كالدار بيد حائزها المدة الطويلة، وليس ذلك خلاف العادات،
فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا
(4/529)
المجرى من غير عذر، وكوصي على طفل وفي يده
شيء انتقل إليه من أبيه، إذا ادعى على صاحب اليد دعوى يكذبه فيها الحس، فلا
تسمع دعواه بل ولا يحلف له.
وقالوا: ومن كانت دعواه ينفيها العرف، فإن الظن أسبق إليه في عدواه
بالبطلان، كبقال يدعي على خليفة وأمير ما لا يليق بمثله شراؤه، أو يدعي رجل
معروف بالفجر وأذى الناس على مشهور بالديانة والصلاح أنه سرق متاعه، أو
تعرض لأهله بكلام قبيح أو فعل، فلا تسمع ويعزر المدعي بذلك، ونحو ذلك، من
الدعاوي، التي يشهد الناس بفطرهم وعقولهم أنها من أعظم الباطل.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا: لو يعطى الناس بدعواهم) أي لا
يقبل قول، أحد فيما يدعيه، وهذا نص واضح في أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه،
ولو جاز ذلك (لادعى رجال دماء قوم وأموالهم) لما ركب في طباع غالب البشر
إلا من حماه الله- من الطمع في حق الغير، مهما وجد إليه سبيلاً فقرر الشارع
ما يحفظ على خلقه ما أعطاهم من نعمة، وبين - صلى الله عليه وسلم - الحجة
المانعة فقال: (ولكن اليمين على المدعي عليه، متفق عليه) وفي رواية لهما
أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين على المدعى عليه، فإذا ساغت
الدعوى، ولا بينة للمدعي على ما ادعاه، حلف المدعي عليه وبرئ لضعف جانب
المدعي،
(4/530)
والحجة القوية مع المدعي عليه، لأن الأصل
فراغ ذمته مما ادعى عليه به فاكتفى منه باليمن.
(وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (مرفوعًا) البينة على المدعي واليمين
على من أنكر) أي ما ادعي به عليه، رواه البيهقي وغيره و (صححه الحافظ)
ولابن حبان نحوه من حديث ابن عمر، وللترمذي من حديث عمرو بن شعيب، وفي هذه
الأحاديث دليل واضح أنه لا يقبل قول أحد فيما يدعيه لمجرد دعواه بل يحتاج
إلى البينة أو تصديق المدعي عليه، فإذا تداعيا عينًا هي بيد أحدهما فهي لمن
هي بيده مع يمينه في الجملة إذا سئل إحلافه ولم تكذبها القرائن الظاهرة.
قال ابن القيم: والأيدي ثلاث يد يعلم أنها مبطلة ظالمة، فلا يلتفت إليها،
ويد يعلم أنها محقة عادلة فلا تسمع الدعوى عليها، ويد يحتمل أن تكون محقة،
وأن تكون مبطلة فهي التي تسمع الدعوى عليها، ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى
منها، فالشارع لا يعتبر يدًا شهد العرف والحس أنها مبطلة، ولا يهدر يدًا
شهد العرف بكونها محقة، واليد المحتملة يحكم فيها بأقرب الأشياء. وهو
الأقوى فالأقوى اهـ.
فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك، وهذا مذهب سلف الأمة، وثبت عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه طلب البينة من المدعي، واليمين من المنكر، في
حكومات معينة كثيرة، وعموم حديث "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر".
(4/531)
قال ابن القيم: لم يقل بعمومه أحد من علماء
الأمة إلا طائفة من فقهاء الكوفة، وأما سائر علماء الأمة فتارة يحلفون
المدعى عليه، كما جاءت بذلك السنة، والأصل عندهم أن اليمين مشروعة في أقوى
الجانبين وأجابوا عن ذلك الحديث تارة بالتضعيف، وتارة بأنه عام، وأحاديثهم
خاصة، وتارة بأن أحاديثهم أصح وأكثر، فالعمل بها عند التعارض أولى اهـ.
والحكمة والله أعلم في جعل اليمين على المدعى عليه هو قوله "لو يعطى الناس
بدعواهم" الحديث.
وقال بعضهم: الحكمة في ذلك أن جانب المدعي ضعيف، لأنه يقول بخلاف الظاهر،
فكلف الحجة القوية، وهي البينة، لأنها لا تجلب لنفسها نفعًا ولا تدفع عنها
ضررًا فيقوى بها ضعف المدعي، وأما جانب المدعى عليه فهو قوي لأن الأصل فراغ
ذمته، فاكتفي فيه باليمين، وهي حجة ضعيفة، لأن الحالف يجلب لنفسه النفع،
ويدفع عنها الضرر، فكان في ذلك غاية الحكمة، وإن كان للمدعي بينة أقامها
ولا يحلف معها، اكتفاء بها، وإن كانت بينته بشهادة وارتاب الحاكم فيها،
فقال ابن القيم: ليس ببعيد، قد شرع تحليفهما من غير ملتنا.
وقال ابن عباس فيمن شهدت بالرضاع، قال الشيخ: هذان الموضعان قبل فيهما
الكافر والمرأة للضرورة فقياسه أن من قبلت شهادته للضرورة استحلف وقال ابن
القيم: إذا
(4/532)
كان للحاكم أن يفرق الشهود إذا ارتاب بهم،
فأولى أن يحلفهم إذا ارتاب بهم.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على
قوم اليمين) أي سألهم أن يحلفوا (فأسرعوا) كل منهم يريد أن يحلف ليستحق
(فأمر أن يسهم بينهم) أي يقرع بينهم (أيهم يحلف) على ما ادعاه أي فمن خرجت
له القرعة حلف وأخذ ما ادعى (رواه البخاري) ولأبي داود، أن رجلين اختصما في
متاع ليس لواحد منهما بينة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «استهما على
اليمين» وروي عن علي نحوه في نعل ادعاها اثنان، وأقام كل منهما بينة فقضى
أن يحلف أحدهما أنه ما باعه ولا وهبه، وأنه نعله فإن تشاحا أيهما يحلف أقرع
بينهما فأيهما قرع حلف وأخذ.
فدلت هذه الأخبار على أن الخصمين إذا استويا في الدعوى ولا بينة لواحد
منهما، وليست في يده، أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واستحق، وذلك أن
ترجيح أحد الخصمين بلا مرجح لا يسوغ، فلم يبق إلا المصير إلى ما فيه
التسوية بين الخصمين وهو القرعة، وهذا نوع من التسوية المأمور بها بين
الخصوم.
وعند جمهور أهل المدينة، وقول الشافعي وأحمد أنه إذا أقام كل واحد منهما
بينة، قضي بها للداخل، وهو الذي بيده العين ولغت بينة الخارج، وإن ادعى أنه
اشترى من زيد شيئًا وادعى الآخر كذلك، وأقامة بينة، صحح أسبق التصرفين إن
(4/533)
علم التأريخ، وإلا تساقطتا وقال الشيخ:
الأصوب أنهما لم يتعارضا فإنه من الممكن أن يقع العقدان لكن يكون بمنزلة لو
زوج وليان وجهل السابق، فإما أن يقرع أو يبطل العقدان بحكم أو بغير حكم.
(وعن أبي أمامة) الباهلي رضي الله عنه (مرفوعًا: من اقتطع مال امرئ مسلم
بيمينه) وفي لفظ "حق امرئ مسلم بيمينه" (فقد أوجب الله له النار) بما
اقتطعه من مال أخيه المسلم (وحرم عليه الجنة) وهذا وعيد شديد وأحاديث
الوعيد تجري على ظاهرها (فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرا) أي ما اقتطع
بيمينه (قال: وإن كان قضيبا من أراك) شجر معروف (رواه مسلم) فدل الحديث على
عظم ذنب من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه وشدة الوعيد على ذلك، وسواء حلف
ليأخذ حقًا لغيره، أو يسقط عن نفسه حقًا لغيره، والتعبير بحق المسلم يدخل
فيه ما ليس بمال، وذكر المسلم خرج مخرج الغالب وإلا فالذمي مثله، في هذا
الحكم.
(ولهما عن الأشعث) بن قيس بن معدي كرب الكندي، رئيس وفد كندة سنة عشر، وكان
مطاوعًا في قومه في الجاهلية والإسلام، مات سنة اثنتين وأربعين، روى هذا
الخبر (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حلف على
يمين يقتطع بها) أي يأخذ بها (مال امرئ مسلم) وتقدم في رواية مسلم من حديث
أبي أمامة "حق امرئ مسلم" (وهو فيها فاجر) أي متعمد عالم أنه
(4/534)
غير محق فالمراد باليمين في حديث أبي أمامة
اليمين الفاجرة ولذلك قرن بين الحديثين.
(لقي الله وهو عليه غضبان) فيه إثبات الغضب لله كما هو مذهب أهل السنة.
وفي إثبات غضب الله عليه، وإيجاب النار له، وتحريم الجنة، إذا لم يتب
ويتخلص من الحق الذي أخذه بالباطل، أعظم وعيد، وأدل دليل على أنه من
الكبائر.
وفيه أن اليمين الفاجرة في الحكم الظاهر، كيمين البر، لخبر الذي قال: لا
يتورع من شيء؛ ليس لك إلا ذلك.
(وللبخاري عن أبي هريرة) رضي الله عنه "ورجل حلف على يمين كاذبة" (بعد
العصر) ليقتطع بها مال امرئ مسلم يعني فهو من الثلاثة الذين لا يكلمهم
الله، ولا ينظر إليهم، وهذا وعيد شديد، وخص ما بعد العصر لشرفه، بسبب
اجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار فيه، فدل الحديث على عظم إثم من حلف
فيه كاذبًا ليقطتع مال امرئ مسلم بيمينه، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب.
(وعن جابر) رضي الله عنه (قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من
حلف على منبري هذا» وكان ثلاث درجات ثم زيد إلى سبع (بيمين آثمة) أي كاذبة
يستحل بها مال مسلم (تبوأ مقعده من النار) وهذا وعيد شديد، لمن استحل مال
امرئ مسلم
(4/535)
بيمينه يجري على ظاهره، أبلغ في الزجر
(رواه أبو داود) ورواه أحمد، وصححه ابن حبان، ورواه النسائي بلفظ "من حلف
على منبري هذا بيمين كاذبة، يستحل بها مال امرئ مسلم، فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً" وهذا أعظم
وعيد.
والحديث دليل على عظم إثم من حلف على منبره - صلى الله عليه وسلم - كاذبًا
ولأبي داود من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل حلفه
"إحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما له عندي شيء يعني المدعي وهذه الأحاديث
وما في معناها تدل على عظيم إثم حلف الكاذب عند منبره، واستدل به بعضهم على
جواز التغليظ على الحالف، بزمان معين كبعد العصر ويوم الجمعة، ونحو ذلك أو
بمكان معين كالحرم والمسجد، ومنبره - صلى الله عليه وسلم - وبالتغليظ في
لفظ اليمين، وهو مذهب جمهور العلماء.
وقد ورد عن جماعة من الصحابة طلب التغليظ على خصومهم في الأيمان، بالحلف
بين الركن والمقام، وعلى منبره - صلى الله عليه وسلم - وورد عن بعضهم
الامتناع عن الإجابة إلى ذلك، وروي عن بعض الصحابة التحليف على المصحف وذكر
ابن القيم من فوائد اليمين تخويف المدعي عليه سواء عاقبة الحلف الكاذب،
فيحمله ذلك على الإقرار بالحق، ومنها القضاء عليه بنكوله عنها، ومنها
انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، وتخليص كل من الخصمين من ملازمة الآخر،
ولكنها لا تسقط
(4/536)
الحق، ولا تبرئ الذمة باطنًا ولا ظاهرًا،
فلو أقام بينة سمعت وحكم بها، ومنها إثبات الحق بها، إذا ردت على المدعي،
أو أقام شاهدًا واحدًا ومنها تعجيل عقوبة الكاذب، المنكر لما عليه من الحق،
فإن اليمين الغموس تدع الديار بلاقع، فيتشفى بذلك المظلوم، عوضًا عن ظلمه
بإضاعة حقه.
(ولابن ماجه عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: من حلف بالله فليصدق)
فيما يحلف عليه، وتقدم عظم الوعيد على الكاذب (ومن حلف له بالله فليرض)
تعظيمًا لله، حيث حلف باسمه تعالى أو صفة من صفاته، وتقدم قوله - صلى الله
عليه وسلم - للذي قال إنه لا يبالي قال: "ليس لك إلا ذلك" أي إلا يمينه
(ومن لم يرض فليس من الله) وعيد لمن لم يرض، ففيه الاكتفاء بمجرد الحلف
بالله كما تقدم، أو صفة من صفاته، من دون تغليظ بزمان أو مكان، ولعل ما
تقدم من التغليظ بزمان أو مكان، أو بزيادة قول الحالف مع يمينه: العظيم
الذي لا إله إلا هو: فيما له وقع فالله أعلم.
(وعن أبي موسى) الأشعري رضي الله عنه (أن رجلين اختصما في دابة) لعلها لم
تكن في يد أحدهما ولا ثم قرينة و (ليس لواحد منهما بينة) ليحكم له ببينة
ولعله ما ثم قرينة تقوي جانب أحدهما (فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بينهما نصفين) وقيل يشبه أن تكون في أيديهما معًا فقضى بها بينهما
لاستوائهما
(4/537)
(رواه أبو داود) ورواه النسائي وجود
إسناده، فإذا لم تكن العين بيد أحدهما، ولا ثم ظاهر يعمل به ولا بينة
لأحدهما فهي بينهما نصفين، وقال بعضهم: تحالفا وتناصفاها، وإن نكل أحدهما
فهي للآخر، وإن وجد أمر ظاهر لأحدهما عمل به فيحلف ويأخذها فلو تنازع
الزوجان في قماش البيت فما يصلح لرجل فله، وما يصلح لامرأة فلها وما يصلح
لهما فلهما.
(وللدارقطني) وضعفه ورواه البيهقي، ولم يضعف إسناده وأخرج نحوه عن الشافعي
والحديث (عن جابر) رضي الله عنه (أن رجلين اختصما في ناقة) وما رواه
البيهقي عن الشافعي في دابة (فقال كل واحد منهما) أي المتخاصمين (نتجت) أي
وضعت (هذه الناقة عندي؛ وأقاما بينة) أي أقام كل من الخصمين بينة على أن
هذه الناقة نتجت عنده (فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للذي هي
في يده) فدل على أن اليد مرجحة للشهادة الموافقة لها، فإذا تداعيا عينًا هي
بيد أحدهما، وأقام كل منهما بينة أنها له قضي بها لمن هي بيده، وإن تداعيا
عينًا هي بيد أحدهما ولا بينة، فهي لمن هي بيده بيمينه، وإن كانت بيديهما
تحالفا وتناصفاها.
(4/538)
باب الشهادات
واحدتها شهادة مشتقة، من المشاهدة، لأن الشاهد يخبر عما شاهده، وهي الإخبار
بما علمه، وقال بعضهم: بلفظ أشهد أو شهدت، وكثير من الفقهاء وهو رواية عن
أحمد وغيره أنه لا يشترط لفظ أشهد، قال ابن القيم: الإخبار شهادة محضة في
أصح الأقوال، وهو قول الجمهور، فإنه لا يشترط في صحة الشهادة لفظ أشهد، بل
متى قال الشاهد رأيت كيت وكيت، أو سمعت ونحو ذلك كانت شهادة منه، وليس في
كتاب الله، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موضع واحد يدل على
اشتراط لفظ الشهادة ولا عن رجل واحد من الصحابة، ولا قياس، ولا استنباط
يقتضيه، بل الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة ولغة العرب
تنفي ذلك، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وظاهر كلام أحمد.
وذكر الأدلة ثم قال: قال شيخنا: لفظ الشهادة لا أصل له في كتاب الله ولا
سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا أقوال أحد من الصحابة، ولا يتوقف
إطلاق لفظ الشهادة لغة على ذلك، وقال: إقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة،
بدليل الأمة السوداء في الرضاع اهـ. والشهادة سبب موجب للحق، وحيث امتنع
آداؤها، امتنع كتابتها وظاهر كلام الشيخ وغيره يحرم كتمانها ويقدح فيها ولو
كان بيد إنسان شيء لا يستحقه، ولا يصل إلى مستحقه، إلا بشهادة لزمه أداؤها
وتعين، ولو كان الشهود أكثر من نصاب
(4/539)
الشهادة، وطلب أحدهم وجب عليه أداؤها في
أصح قولي العلماء، وأما إذا كان المطلوب لا يتم نصاب الشهادة إلا به فقد
تعينت عليه إجماعًا والأصل في الشهادة الكتاب والسنة والإجماع، وكذا
الاعتبار لدعاء الحاجة إليها، لحصول التجاحد بين الناس، فوجب الرجوع إليها.
(قال تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} أي للتحمل،
فعليهم الإجابة، ومذهب الجمهور أنه فرض كفاية، وفي الأداء إذا دعي للأداء
فعليه الإجابة عينًا، إذا تعينت عليه، فإن الشاهد حقيقة فيمن تحمل، وقال
ابن القيم: نعم التحمل والأداء فهي حق يأثم بتركه، قال الشيخ: يجب على من
طلبت منه الشهادة أداؤها، بل إذا امتنع الجماعة من الشهادة أثموا كلهم،
باتفاق العلماء، وقدح ذلك في دينهم وعدالتهم.
قال ابن القيم: وقياس المذهب أن الشاهد إذا كتم الشهادة بالحق ضمنه، لأنه
أمكنه تخليص حق صاحبه فلم يفعل، فلزمه الضمان، كما لو أمكنه تخليصه من هلكة
فلم يفعل، وطرد هذا: الحاكم إذا تبين له الحق فلم يحكم لصاحبه به، فإنه
يضمنه، لأنه أتلفه عليه، بترك الحكم الواجب عليه {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ} أي الحق {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} أي إلى محل
الحق {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ} أي أعدل {عِنْدَ اللهِ} لأنه أمر به وإتباع أمره
أعدل من تركه {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} لأن الكتابة تذكر الشهود (وأدنى)
أحرى وأقرب {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} تشكوا في الشهادة
(4/540)
والمراد: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة
للحق إذا كان مؤجلاً هو أعدل عند الله، وأثبت للشاهد إذا وضع خطه، ثم رآه
تذكر به الشهادة، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا،
وهو أقرب إلى عدم الريبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه،
فيفصل بينكم بلا ريبة، واستثنى تعالى فقال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا
تَكْتُبُوهَا} لانتفاء المحذور في ترك الكتابة.
(وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} أي أشهدوا على حقكم، سواء كان
فيه أجل أو لم يكن، والجمهور أنه على الندب والإرشاد، لا على الوجوب لقوله:
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} قال: {وَلَا يُضَارَّ} أصله يضارر،
فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى، ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، أي
ولا يضار {كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} قيل معناه: لا يضار الكاتب فيأبى أن
يكتب، ولا الشهيد فيأبى أن يشهد، أو يزيد الكاتب أو ينقص، أو يحرف ما أملي
عليه، أو الشهيد بما لم يستشهد عليه، أو يكتمها.
وقيل: لا يضر بهما، بأن يدعوهما إلى الكتاب والشهادة، فيقولان إنا على
حاجة، فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا فليس له أن يضارهما ثم قال: {وَإِنْ
تَفْعَلُوا} أي ما نهيتكم عنه {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
(4/541)
وقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} أي
إذا دعيتم إلى إقامتها، فلا تخفوها ولا تغلوها، بل أظهروها قال ابن عباس
شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمان الشهادة كذلك {وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أي فاجر قلبه، وفيها من الوعيد الشديد، حتى قيل:
ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة قال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وأراد به مسخ القلب، نعوذ بالله من ذلك، وخص
القلب لأنه موضع العلم بها.
فدلت الآية على أن أداء الشهادة فرض عين على من تحملها متى دعي إليها إن
قدر بلا ضرر يلحقه في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله، لما تقدم من قوله
{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} ثم قال تعالى: {وَاللهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ} أي: بيان الشهادة وكتمانها {عَلِيمٌ} فلا يخفى عليه خافية،
وإذا غلب على ظن الشاهد أنه يمتحن فيدعى إلى القول المخالف للكتاب والسنة،
أو إلى محرم، فلا يسوغ له أداء الشهادة اتفاقًا اللهم إلا أن يظهر قولاً
يريد به مصلحة عظيمة.
(وقال) تعالى: {كُونُوا} أي أيها الذين آمنوا {قَوَّامِينَ} أي قائمين لله
{بِالْقِسْطِ} أي بالعدل، فلا تعدلوا عنه يقينًا ولا شمالاً ولا تأخذكم في
الله لومة لائم، ولا يصرفكم عنه صارف {شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ} أي قولوا الحق ولو على أنفسكم ولو ضرره عليك، فإن الله يجعل
لمن أطاعه مخرجًا من كل أمر يضيق عليه، ثم قال: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ} فلا تراع
(4/542)
أحدًا في الشهادة، قريبًا كان أو بعيدًا،
بل أدها ابتغاء وجه الله، عادلة خالية من التحريف.
(وقال) تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ} أي كونوا قوامين لله بالصدق
قوالين به، لا لأجل الناس، ولا للسمعة وكونوا {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي
بالعدل لا بالجور، وقال - صلى الله عليه وسلم - في نحلة بشير لابنه النعمان
"لا تشهدني على جور" فتقبل شهادة الأب على ابنه، والابن على أبيه ويأتي،
ولهم إذا انتفت التهمة {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنكم {شَنَآنُ
قَوْمٍ} أي بغض قوم، وعداوة بينكم وبينهم، وخصومات وغير ذلك {عَلَى أَلَّا
تَعْدِلُوا} أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم، بل يجب العدل في كل أحد ثم
قال: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي عدلكم أقرب إلى التقوى من
تركه ثم قال: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
وسيجزي كل عامل على عمله.
(وقال) تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} ضد الباطل {وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} أي بقلوبهم ما شهدت به ألسنتهم فعموم الآية يدل على أنه لا
يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه، والعلم إما برؤية أو سماع من مشهود عليه كعتق
وطلاق وعقد، أو سماع باستفاضة فيما يتعذر علمه بدونها، كنسب وموت وملك
وطلاق ونكاح ووقف ونحو ذلك؛ قال الشيخ: تصح الشهادة بالمجهول، ويقضي له
بالمتيقن، وللمجهول في مواضع كثيرة أما حيث يقع الحق مجهولاً فلا ريب فيها،
كما لو شهد بالوصية
(4/543)
بمجهول، أو لمجهول، أو شهد باللقطة أو
اللقيط، والمجهول نوعان: مبهم كأحد هذين ومطلق كثوب وعبد.
قال: ويشهد بالاستفاضة، ولو عن واحد تسكن نفسه إليه، قال: ويتوجه أن
الشهادة بالدين لا تقبل إلا مفسرة للسبب، ولو شهد شاهدان أن زيدًا يستحق من
ميراث مورثة قدرًا معينًا، أو من وقف كذا وكذا جزءًا معينًا، أو أنه يستحق
منه نصيب فلان ونحو ذلك، وفكل هذا لا تقبل فيه الشهادة إلا مع بيان السبب،
لأن الانتقال في الميراث والوقف حكم شرعي، يدرك باليقين تارة، وبالاجتهاد
أخرى، فلا تقبل حتى يتبين سبب
الانتقال اهـ.
ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه، لاختلاف الناس في
بعض الشروط، وإن شهد برضاع أو سرقة أو شرب مسكر أو قذف فإنه يصفه، ويصف
الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها، ويذكر ما يعتبر للحكم، ويختلف
الحكم به في كل ما يشهد به فيه.
(وقال) تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} البهت والكذب ولأحمد
مرفوعًا " عدلت شهادة الزور الإشراك بالله" فهي كبيرة من كبائر الذنوب،
ولما يأتي (وعن زيد بن خالد) الجهني رضي الله عنه (مرفوعًا: ألا أخبركم
بخير الشهداء) جمع شهيد، ويجمع على شهود، أي ألا أخبركم بأكمل الشهداء في
رتبة
(4/544)
الشهادة وأكثرهم ثوابًا عند الله (الذي
يأتي بشهادته) يخبر بها (قبل أن يسألها) وفي رواية "قبل أن يستشهد " (رواه
مسلم) فإذا كان عند شخص شهادة بحق، لا يعلمها صاحب الحق، فيأتي إليه فيخبره
بها، أو يموت صاحبها، فيخلف ورثة فيأتي إليهم، فيخبرهم بأن عنده لهم شهادة.
وقيل: المراد بها شهادة الحسبة، وهي ما لا تتعلق بحقوق الآدميين المختصة
بهم محضًا ويدخل فيها ما يتعلق بحق الله، أو ما فيه شائبة منه، كالوقف
والوصية العامة وغير ذلك، أو أن يأتي بالشهادة قبل أن يسألها، مبالغة في
الإجابة فيكون في ذلك كالجواد يعطي قبل أن يسأل. قال الشيخ: والطلب العرفي
أو الحالي في طلب الشهادة كاللفظي علم المشهود له أولا، وهو ظاهر الخبر،
"يشهدون ولا يستشهدون" محمول على شهادة الزور، وإذا أدى الآدمي شهادة قبل
الطلب، قام بالواجب، وكان أفضل، كمن عنده أمانة أداها عند الحاجة.
(ولهما عن عمران بن حصين) رضي الله عنه (مرفوعًا: خير أمتي) وأفضلهم وأقلهم
شرًا (قرني) لفضيلتهم في العلم
والإيمان، والأعمال الصالحة (ثم الذين يلونهم) لفضيلتهم في ذلك، وهم دون
القرن الأول (ثم الذين يلونهم لأنهم دون
القرن الثاني. وفي رواية: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة،
والمشهود أن القرون المفضلة ثلاثة، وإن كان الثالث قد كثرت فيه البدع، لكن
العلماء متوافرون، والإسلام ظاهر (ثم
(4/545)
إن بعدهم قومًا) أي بعد الثلاثة أو الأربعة
(يشهدون ولا يستشهدون) لاستخفافهم أمر الشهادة وعدم تحريمهم للصدق، لقلة
دينهم، وضعف أماناتهم، وقد وقع اليوم في ذلك الكثيره (ويخونون ولا يؤتمنون)
فدل على أن الخيانة قد تغلب على كثير منهم أو أكثرهم كما يشهد له الواقع.
(وللبخاري من حديث ابن مسعود) "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم، ثم يجيء قوم" (تسبق شهادة أحدهم يمينه) استخفاف بالأيمان وبالشهادة
(ويمينه شهادته) لضعف دينهم، وقلة مبالاتهم بالشهادة واليمين وتسرعهم إلى
ذلك، وقد خف أمر الله عندهم، وأمر الشهادة واليمين وقل خوفهم من الله،
ومبالاتهم بالشهادة واليمين، وإذا كان وقع في الصدر الأول، فما بالك بالناس
اليوم، ولم يبق من الإسلام إلا اسمه؟ فالله المستعان.
(وعن أبي بكرة مرفوعًا: ألا وقول الزور) الفجور والكذب والبهت (ألا وشهادة
الزور) كررها لما فيها من قطع حقوق المسلمين، والضرر الحاصل بها عليهم (فما
زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، متفق عليه) وقد وقع ما خافه على أمته - صلى
الله عليه وسلم - فلا يبالي الأكثر اليوم من قول الزور، وشهادة الزور،
والكذب
والفجور.
(وعن عبد الله بن عمرو) رضي الله عنهما (مرفوعًا: لا
(4/546)
تجوز) أي لا تعتبر ولا تقبل (شهادة خائن
ولا خائنة) قال أبو عبيدة تكون في حقوق الله، كما تكون في حقوق الناس، من
دون اختصاص، فإذا كان خائنًا فليست له تقوى ترده عن ارتكاب محظورات الدين،
التي منها الكذب، فليس عدلاً تجوز شهادته (ولا ذي غمر) بكسر فسكون الحقد
والعداوة (على أخيه) أي المسلم المشهود عليه، وكذا الكافر لا يجوز أن يشهد
ذو حقد عليه، إذا كانت العداوة بسبب غير الدين، فإن ذا الحقد مظنة عدم صدق
خبره، لمحبته إنزال الضرر بمن يحقد عليه، وتقبل شهادة المسلم على الكافر
إذا انتفى الحقد.
فدل لحديث على أنه لا تقبل شهادة عدوه على عدوه، وهو مذهب الجمهور، ولخبر
"لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" لأنه موضع تهمة، وقد أجمع الجمهور على
تأثيرها في الأحكام الشرعية. وقال ابن القيم: منعت الشريعة من قبول شهادة
العدو على عدوه، لئلا يتحذ ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه، بالشهادة الباطلة،
وقال الشيخ: الواجب في العدو أو الصديق ونحوهما أنه إن علم عنه العدالة
الحقيقية تقبل، ويتوجه هذا في الأب ونحوه قال: (ولا تجوز شهادة القانع لأهل
البيت) وهو الذي ينفق عليه أهل البيت، وأجازها لغير من هو تابع لهم،
فالخادم المنقطع إلى الخدمة، لاتقبل شهادته، للتهمة بجلب النفع إلى نفسه،
أشبه العبد.
وقد حكى الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده،
(4/547)
وكذا الأجير لمستأجره، والوصي للميت،
والوكيل لموكله، قال الشيخ في قوم آجروا شيئًا: لا تقبل شهادة أحدهم على
المستأجر، لأتهم وكلاء أو ولاة (رواه أحمد) ورجاله ثقات، ورواه أبو داود،
وفي رواية لأبي داود " ولا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية،
ولا ذي غمر على أخيه " وللترمذي وغيره بسند ضعيف من حديث عائشة " لا تجوز
شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه، ولا ظنين ولا قرابة " واعتمد
الشافعي خبرًا ضعيفًا، إلا أن له طرقًا يتقوى بعضها ببعض " لا تجوز شهادة
خصم ولا ظنين " وللبيهقي " ذي الظنة والحنة ".
فدلت هذه الأحاديث ونحوها على منع شهادة العدو على عدوه، لأن العداوة تورث
التهمة، وتخالف الصداقة، فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور، نفع غيره بمضرة
نفسه، بالتشفي من غيره، بخلاف عداوة الدين لأنها لا تخل بالشهادة، وهذا
مذهب جمهور العلماء، وأنها لا تقبل شهادة ظنين أي متهم، فدل على أنها ترد
بالتهمة، وقال ابن رشد: اتفقوا على أنها لا تقبل شهادة الأب لابنه، والابن
لأبيه، وكذا الأم لابنها، وابنها لها، وقال ابن القيم: القريب لقريبه لا
تقبل مع التهمة، وتقبل بدونها، هذا الصحيح.
وقال أيضًا: الصحيح أنها تقبل شهادة الابن لأبيه، والأب لابنه فيما لا تهمة
فيه، نص عليه أحمد، والتهمة وحدها توجب
(4/548)
المنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًا، فشهادة
القريب لا ترد بالقرابة، وإنما ترد بتهمتها، ولا ريب في دخولهم في قوله:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}
كدخول الأجانب، وتناوله للجميع بتناول واحد، هذا مما لا يمكن دفعه، ولم
يسثن الله ولا رسوله من ذلك لا أبًا ولا أخًا ولا قرابة، ولا أجمع المسلمون
على استثناء أحد من هؤلاء، وإنما التهمة هي الوصف المؤثر في الحكم، فيجب
تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا.
مما يدل على أن احتمال التهمة بين الوالد ووالده لا يمنع قبول الشهادة، أن
شهادة الوارث لمورثه جائزة، وشهادة الإبنين على أبيهما بطلاق ضرتهما،
فشهادة الوالد لولده وعكسه بحيث لا تهمة هناك أولى بالقبول، وهذا هو القول
الذي ندين الله به، وقال عمر: تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده،
والأخ لأخيه، إذا كانوا عدولاً، وإنما منع المتهم في قرابته أو ولائه، أي
وإن كان عدلاً في الرواية، فإن الشهادة إلزام لمعين يتوقع منه العداوة، وحق
المنفعة والتهمة الموجبة للرد، فاحتيط لها بالعدد والذكورية، وردت بالقرابة
والعداوة، وتطرق التهم.
ومن كان معروفًا من القرابة ونحوهم بمتانة الدين، البالغة إلى حد لا يؤثر
معها محبة القرابة ونحوهم، فقد زالت عنه مظنة التهمة، ومن لم يكن كذلك
فالواجب عدم قبول شهادته، لأنها مظنة للتهمة، قال ابن رشد: اتفقوا على
إسقاط التهمة في
(4/549)
شهادة الأخ لأخيه، ما لم يدفع بذلك عن نفسه
عارًا، كما قال مالك، وما لم يكن منقطعًا إلى أخيه يناله ببره أو صلته،
ولأبي داود " ولا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية " لما فيهم من عدم العلم
بإتيان الشهادة على وجهها، والمراد- والله أعلم- من لم تعرف عدالته، وإلا
فقد قبل في الهلال بدويًا.
وقال الشيخ: تقبل شهادة البدوي على القروي في الوصية في السفر، وهو أقوى من
قول من قبل مطلقًا، أو منع مطلقًا، وقال: وإذا كان قاطنًا مع المدعيين في
القرية، قبلت شهادته، لزوال هذا المعنى اهـ. وقد أجاز تعالى شهادة الكفار
على المسلمين في السفر على الوصية للحاجة، واختار شيخ الإسلام قبول شهادة
بعضهم على بعض، ومعلوم أن حاجة قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم، ولو لم تقبل
لأدى إلى ضياع حقوقهم، والكافر قد يكون عدلاً بين قومه، صادق اللهجة عندهم،
فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم، إذا ارتضوه.
(وقال عمر) رضي الله عنه (إن الناس كانوا يؤخذون بالوحي) لعله في الأغلب
(على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -) ينزل عليه الوحي في ذلك (وإن الوحي
قد انقطع) بوفاته - صلى الله عليه وسلم - (وإنما نأخذكم الآن) أي بعد
النبوة (بما ظهر لنا من أعمالكم) أي وما خفي من سرائركم فإلى الله.
فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته
(4/550)
شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا
سوءًا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة (رواه البخاري).
وفيه دليل على قبول شهادة من لم يظهر منه ريبة، نظرًا إلى ظاهر الحال، وأنه
يكفي في التعديل ما يظهر من حال المعدل، من الاستقامة من غير كشف عن حقيقة
سريرته، لأن ذلك متعذر إلا بالوحي، وقد انقطع، وهذا وإن كان قول صاحب، فعمر
خطب به وأقره من سمعه، فكان قول جماهير الصحابة، ولجريانه على قواعد الشرع،
وظاهره لا يقبل المجهول، وشهد رجل عند عمر فقال: لست أعرفك، إئت بمن يعرفك،
فقال رجل من القوم: أنا أعرفه. قال بأي شيء؟ قال بالعدالة. والفضل قال: هو
جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فعاملك
بالدينار والدرهم الذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فرفيقك في
السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: لست تعرفه. ثم قال
للرجل: إئت بمن يعرفك اهـ.
وما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه، فإنه يشهد به عليه،
إذا علمه بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحًا شرعيًا فيه، كما صرحوا بأنه يجرح بما
سمعه أو رآه أو استفاض عنه، وقال شيخ الإسلام: وما أعلم في هذا نزاعًا بين
الناس.
(4/551)
فصل في عدد الشهود
لاختلاف الشهود باختلاف المشهود به، وعدها بعضهم سبعة تعلم بالاستقراء.
(قال تعالى: لولا) أي هلا {جَاءُوا عَلَيْهِ} أي على ما قالوه
{بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يشهدون على صحة ما جاؤا به {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ} أي أربعة يشهدون على ما زعموه {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ
هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي في حكم الله كاذبون فاجرون فدلت الآية الكريمة على
اعتبار أربعة شهداء يشهدون على وقوع الفعل، واعتبر العلماء صفة الفعل
وزمانه ومكانه وغير ذلك، وتقدم في حد الزنا.
قال ابن رشد وغيره: اتفق المسلمون على أنه لا يثبت الزنا بأقل من أربعة
عدول ذكور اهـ، لأنه مأمور فيه بالستر ولهذا غلظ فيه النصاب، فإنه ليس هناك
حق يضيع، وإنما حد وعقوبة، والعقوبات تدرأ بالشبهات، بخلاف حقوق الله،
وحقوق عباده التي تضيع إذا لم يقبل فيها قول الصادقين.
وقال ابن القيم: اشتراط الأربعة بالنص والإجماع، وأما اللواط فقالت طائفة:
هو مقيس عليه في نصاب الشهادة، كما هو مقيس عليه في الحد، وقالت طائفة هو
داخل في حد الزنا، لأنه وطء في فرج محرم، وقالت طائفة: بل هو أولى بالحد من
الزنا فإنه وطء في فرج لا يستباح بحال، والداعي إليه قوي، فهو أولى بوجوب
الحد فنصابه نصاب حد الزنا، قال:
(4/552)
وبالجملة فلا خلاف بين من أوجب عليه حد
الزنا أو الرجم بكل حال، أنه لا بد فيه من أربعة شهداء أو إقرار، اهـ ويكفي
على من أتى بهيمة رجلان، لأنه موجبه التعزيز، ومن عرف بغنى وأدعى الفقر
ليأخذ من الزكاة لم يقبل إلا بثلاثة لخبر "حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى"
وتقدم.
(وقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي أشهدوا من
رجالكم يعني المسلمين المكلفين، وهو قول جمهور أهل العلم، واستثنى بعضهم
العبيد، وقال أنس بن مالك: ما علمت أحدًا رد شهادة العبيد، وحكاه أحمد
إجماعًا قديمًا وقال ابن القيم: قبول شهادة العبد هو موجب الكتاب والسنة
وأقوال الصحابة، وصحيح القياس، وأصول الشرع، وليس مع من ردها كتاب ولا سنة
ولا إجماع ولا قياس قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.
فلا ريب في دخول العبد في هذا الخطاب، فهو عدل بنص القرآن وقد عدله الله
ورسوله في قوله: "يحمل هذا الدين من كل خلف عدو له" والعبد من حملة العلم،
فهو عدل بنص الكتاب والسنة، وأجمع الناس على أنه مقبول الشهادة على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إذا روى عنه الحديث، فكيف يقبل عليه، ولا يقبل
على الناس.
(فإن لم يكونا رجلين) أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين
(4/553)
{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي فليشهد رجل
وامرأتان، وأجمع المسلمون على أنه يقبل في المال وما يقصد به المال رجل
وامرأتان، قال ابن القيم: إنما جعلت المرأة على النصف من الرجل لحكمة أشار
إليها، وهي أنها ضعيفة العقل، قليلة الضبط لما تحفظه، وقد فضل الله الرجال
عليهن في العقول والفهم والحفظ والتمييز، فلا تقوم المرأة في ذلك مقام
الرجل، وفي منع قبولها بالكلية إضاعة لكثير من الحقوق، فكان من أحسن الأمور
أن ضم إليها في قبول الشهادة نظيرتها، لتذكرها إذا نسيت فتقوم شهادة
امرأتين مقام شهادة الرجل ويقع من العلم أو الظن بشهادتهما ما يقع بشهادة
الرجل.
وقال: قد جعل الله المرأة على النصف من الرجل في عدة أحكام (أحدها) هذا. و
(الثاني) في الميراث و (الثالث) في الدية و (الرابع) في العقيقة و (الخامس)
في العتق وقال: تنازعوا في العتق والوكالة في المال والإيصاء إليه فيه،
ودعوى قتل الكافر، لاستحقاق سلبه، ودعوى الأسير الإسلام السابق لمنع رقه،
وجناية الخطأ، والعمد التي لا قود فيها، والنكاح والرجعة هل يقبل فيها رجل
وامرأتان؟ أم لا بد من رجلين على قولين، وهما روايتان عن أحمد، فالأول قول
أبي حنيفة، والثاني قول مالك والشافعي.
قال: وقد استقرت الشريعة على أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، فالمرأتان
في الشهادة كالرجل الواحد، بل هذا
(4/554)
أولى، فإن حضور النساء عند الرجعة أيسر من
حضورهن عند كتابة الوثائق بالديون، وكذلك حضورهن عند الوصية وقت الموت،
فإذا سوغ فيها فهنا أولى، يوضحه أنه قد شرع في الوصية شهادة آخرين من غير
المسلمين عند الحاجة، فلأن يجوز شهادة رجل وامرأتين بطريق الأولى والأحرى،
بخلاف الديون، قال: "أليس شهادتها بنصف شهادة الرجل" فأطلق ولم يقيد.
وقال للمدعي: "شاهداك أو يمينه" وقد عرف أنه لو أتى برجل وامرأتين حكم له،
ولو لم يأت المدعي بحجة حلف المدعى عليه، وأن المقصود بالشهادة ثبوت
المشهود به، وأنه حق، فإذا عقلت المرأة وحفظت، وكانت ممن يوثق بدينها، فإن
المقصود حاصل بخبرها، ولهذا تقبل شهادتها وحدها في مواضع.
قال شيخنا: ولو قيل يحكم بشهادة امرأة ويمين الطالب لكان متوجهًا، فالطرق
التي يحكم بها الحاكم أوسع من الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ
حقه بها، وقال: وهذا أصل عظيم يجب أن يعرف، غلط كثير من الناس فيه {مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يعني ممن كان مرضيًا في ديانته وأمانته.
فدلت الآية على اشتراط العدالة في الشهود، تقيد بها كل مطلق في القرآن من
الأمر بالإشهاد من غير اشتراط، ثم قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} قال ابن القيم: أي إن ضلت، وذلك لضعف
العقل، قال الشيخ: فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو
لإذكار
(4/555)
إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون
فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط، فما كان فيه من
الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف الرجل، قال ابن
القيم: وفيه دليل على أن الشاهد إذا نسي شهادته فذكره بها غيره لم يرجع إلى
قوله حتى يذكرها، وليس له أن يقلده.
(وقال) تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي صاحبي عدل من
المسلمين في المقال، وهو الصدق والبيان الذي هو ضد الكذب والكتمان كما قال
تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} وتقدم {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ}
أيها الشهود عند الحاجة {لِلهِ} خالصة لوجهه {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
فدلت الآية على أنه يقبل في الرجعة اثنان عدلان، وتقدم أن العدل بحسبه في
كل زمان ومكان، قال الشيخ: وشهادة الفاسق مردودة بنص القرآن، واتفاق
المسلمين، وقد يجيز بعضهم الأمثل فالأمثل في الفساق عند الضرورة إذا لم
يوجد
عدول.
(وقال) تعالى {اثْنَانِ} أي ليشهد ذكران، لفظ خبر ومعناه الأمر {ذَوَا
عَدْلٍ} وصفهما بأن يكونا عدلين أهل أمانة وعقل {مِنْكُمْ} أي من المسلمين.
فدلت الآية: أنه يقبل في الوصية عدلان، واتفقوا أنه لا
(4/556)
يقبل في الحدود والقصاص إلا رجلان عدلان،
وأن جميع الحقوق ما عدا الزنى بشاهدين عدلين ذكرين، وأما الزنى فلعظم أمره
اجتمع على ستره الشرع والقدر، فلم يقبل فيه إلا أربعة، ينتفى معها
الاحتمال.
(أو آخران) أي أو ليشهد مع عدم عدم حضور المسلمين يشهدون على وصية مسلم
رجلان (من غيركم، الآية) أي من غير دينكم وملتكم، فيعم أهل الكتابين
وغيرهم، وذلك فيما {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ}
والجمهور أنها ثابتة غير منسوخة، وعمل بها الصحابة وفقهاء الحديث، وبين
تعالى جواز شهادة الآخرين فقال: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}
أي سافرتم {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} وهذا شرطان لجواز شهادة
الذميين عند فقد المؤمنين، أن يكون ذلك في سفر وأن يكون في وصية.
والجمهور أن يكونا شاهدين، فإن لم يكن معهما وصي اجتمع فيهما الوصفان،
الوصاية والشهادة، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء، أوصى إليهما رجل
من المسلمين ومعه جام من فضة، يريد به الملك، فباعاه، ولما أسلم تميم تأثم
ورد نصيبه، وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستحلفوا ابن بداء،
فنزلت هذه الآية، وهو حكم مستقل بنفسه، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس
جميع الأحكام، بل حكم خاص، بشهادة خاصة، في محل خاص، وقد اغتفر فيه من
الأمور ما لم يغتفر في غيره، وقال
(4/557)
الشيخ: قول أحمد أقبل أهل الذمة إذا كانوا
في سفر ليس فيه غيرهم، هذه ضرورة، يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة،
حضرًا وسفرًا، وصية وغيرها، كما تقبل شهادة النساء في الحدود إذا اجتمعن في
العرس والحمام اهـ.
فإذا قامت قرينة الريبة حلف هذا الشاهد لقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ
بَعْدِ الصَّلَاةِ} قيل صلاة العصر، والمقصود صلاة اجتمع الناس فيها
بحضرتهم، قال ابن االقيم: فإن الله حكم بأنه إن اطلع على أن الشاهدين
والوصيين ظلما وغدرا، أن يحلف اثنان من الورثة على استحقاقها، ويقضي لهم،
فإن لوث الظلم والغدر أثرا في وصايتهماوشهادتهما، قال تعالى:
{فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي ظهرت لكم منهما ريبة أنهما
خانا أو غلا فيحلفان بالله {لَا نَشْتَرِي بِهِ} أي بأيماننا {ثَمَنًا
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي ولو كان المشهود عليه قريبًا لنا {وَلَا
نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ} تعظيمًا لأمرها {إِنَّا إِذًا لَمِنَ
الْآثِمِينَ}.
{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي فإن تحقق أنهما
خانا {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ
مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي لقولنا أنهما خانا أثبت، وهذا تحليف للورثة {وَمَا
اعْتَدَيْنَا إِنَّا
إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ
عَلَى وَجْهِهَا} أي: أن يأتوا بها على وجهها {أَوْ يَخَافُوا
أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي أقرب إلى أن يخافوا رد
اليمين بعد يمينهم على المدعين، فيحلفوا على خيانتهم
(4/558)
فينفضحوا ويغرموا {وَاتَّقُوا اللهَ} أن
تحلفوا أيمانًا كاذبة {وَاسْمَعُوا} الموعظة {وَاللهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
وذكر ابن القيم أن التحليف ثلاثة أقسام، تحليف المدعي، وتحليف المدعى عليه،
وتحليف الشاهد، وتحليف المدعي في صور القسامة، وهي نوعان، قسامة في الدماء
أن يبدأ بأيمان المدعي، وقسامة مع اللوث في الأموال، قال الشيخ: لما ادعى
ورثة السهمي الجام المفضض، فأنكر الوصيان الشاهدان، وذكر المشتري أنه
اشتراه منهما، صار لوثًا، فإذا حلف الأولياء بأن الجام كان لصاحبهم صدقًا،
لكن هنا ردت اليمين على المدعي بعدما حلف المدعي عليه، وفي كلا الموضعين
يعطي المدعي بدعواه مع يمينه، وإن كان المطلوب حالفًا أو باذلاً للحلف.
قال ابن القيم: والحكم باللوث في الأموال أقوى منه في الدماء، وهو علامة
ظاهرة لصدق المدعي، وقد أعتبرها الشارع في اللقطة والنسب، واستحقاق السلب،
قال: والثانية إذا ردت عليه اليمين، والثالثة إذا شهد شاهد واحد، والرابعة
في مسألة تداعي الزوجين والصانعين، والخامسة تحليفه مع شاهديه، وذكر أثارًا
ثم قال: وهذا القول ليس ببعيد من قواعد الشرع، ولاسيما مع احتمال التهمة،
وقال أحمد: فعله علي والصحابة
قال ابن القيم: وهذا يقوى مع وجود التهمة، وأما بدونها فلا وجه له.
(4/559)
وإذا كان للحاكم أن يفرق الشهود إذا ارتاب
بهم، كما صرح به الفقهاء، بأن الحاكم إذا ارتاب بالشهود فرقهم وسألهم كيف
تحملوا الشهادة، وأين تحملوها، وإذا ارتاب بالدعوى، سأل المدعي عن سبب
الحق، وأين كان، ونظر في الحال هل تقتضي صحة ذلك، وكذا إذا ارتاب بمن القول
قوله، والمدعي عليه، وجب عليه أن يستكشف الحال، ويسأل عن القرائن التي تدل
على صورة الحال.
قال: ومنه لو ادعى عليه شهادة فأنكرها، فهل يحلف وتصح الدعوى بذلك؟ قال
شيخنا: لو قيل إنه تصح الدعوى بالشهادة لتوجه، لأن الشهادة سبب موجب للحق،
فإذا ادعى على رجل أنه شاهد له بحق، وسأل يمينه كان له ذلك، وإذا نكل عن
اليمين لزمه ما ادعى بشهادته، إن قيل إن كتمان الشهادة موجب للضمان لما
تلف، وما هو ببعيد، لكن لو ادعت الطلاق على زوجها، فقال: لا يحلف بدعواها،
فإذا أقامت على ذلك شاهد واحدًا لم تحلف مع شاهدها، ولم يثبت الطلاق على
زوجها، لا نعلم فيه نزاعًا بين الأئمة الاربعة، وهل يحلف لها زوجها فيه
قولان أحدهما يحلف، وهو مذهب الشافعي ومالك، وأبي حنيفة، وإحدى الروايتين
عن أحمد.
وإن نكل فهل يقضي عليه؟ فيه روايتان عن مالك "إحداهما" يطلق عليه بالشاهد
والنكول، وهذا في غاية القوة، وهو مقتضى الأثر والقياس "والثانية" يحبس
وقال الشيخ: من
(4/560)
قبلت شهادته للضرورة استحلف، وقاسه على
الكافر في الوصية والمرأة في الرضاع.
(وتقدم) في باب حد القذف (أربعة) كما في الآية، وفي قصة هلال "البينة" أي
ائت بأربعة شهود، يشهدون على أن شريك بن سحماء زنا بامرأتك، وفي لفظ "أربعة
وإلا حد في ظهرك" أي: حدًا لقذفه بالزنا، وشهد أربع شهادات بالله، قامت
مقام البينة أربعة شهود، فدل على وجوب أربعة يشهدون، وأنه إن نقص العدد
حدوًا حد القذف، كما فعله الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه.
(وقوله) أي وتقدم قوله (شاهداك أو يمينه) في باب آداب القاضي، وذلك أنه كان
بين الأشعث وبين رجل خصومة في بئر فقال - صلى الله عليه وسلم - للأشعث
"شاهداك" لأن خصمه أنكر دعواه، ولما لم يكن للأشعث بينة، قال: "ليس لك إلا
ذلك" أي ليس لك إلا يمينه، فدل على صحة البينة بشاهدين، وثبوت القضاء بهما
وتقدم {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وإذا لم يكن للمدعي
بينة فيمين المدعى عليه، وهذا قول أهل العلم من الصحابة والتابعين، إلاما
ذكر في العبيد، وتقدم قبول
شهادتهم.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال: قضي النبي - صلى الله عليه وسلم -
بيمين وشاهد، رواه مسلم) ولأبي داود والترمذي نحوه
(4/561)
وصححه، وقال أبو حاتم: وهو صحيح، وقد أخرج
الحديث عن أكثر من عشرين من الصحابة، فدلت على أنه يثبت القضاء بشاهد
ويمين، وهو مذهب الجماهير من الصحابة والتابعين وغيرهم، وهو مذهب فقهاء
المدينة قال الشافعي: وعمدتهم هذه الأحاديث، واليمين وإن كان حاصلها تأكيد
الدعوى، لكن يعظم شأنها فإنها إشهاد لله تعالى أن الحقيقة كما يقول.
ولو كان الأمر على خلاف الدعوى لكان مفتريًا على الله أنه يعلم صدقه، فلما
كانت بهذه المنزلة هابه المؤمن بإيمانه، وعظمه شأن الله عنده، أن يحلف به
كاذبًا، وهابه الفاجر لما يراه من تعجيل عقوبة الله لمن حلف يمينًا فاجرة،
فلما كان بهذا الشأن، صلحت للهجوم على الحكم، كشهادة الشاهد، قال الخطابي:
وهذا خاص بالأموال، ولا يخرج والله أعلم من الحكم بالشاهد واليمين إلا الحد
والقصاص، للإجماع أنهما لا يثبتان بذلك، ولا تثبت دية، ويثبت بها المال في
السرقة دون القطع، وقال ابن القيم: الذي يحكم فيه بالشاهد واليمين المال،
وما يقصد به المال، كالبيع والشراء وتوابعهما، من اشتراط صفة في المبيع، أو
نقد غير نقد البلد، والإجارة والجعالة والمساقاة والمزارعة والمضاربة
والشركة والهبة.
قال: والحكم بالشاهد واليمين حكم بكتاب الله فإن الله أمر بالحكم بالحق،
والرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حكموا به، ولا
(4/562)
يحكمون بباطل، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} وهو مما حكم به فهو عدل مأمور به من الله
ولا بد، ولا يعارض واليمين على المدعى عليه" فإن المراد به إذا لم يكن مع
المدعي إلا مجرد الدعوى، فإنه لا يقضى له بمجرد الدعوى، فأما إذا ترجح
جانبه بشاهد أو لوث أو غيره لم يقض له بمجرد دعواه، بل بالشاهد المجتمع من
ترجيح جانبه ومن اليمين، قال: ومن شرطها تقدم الشهادة عليها، فيشهد الشاهد
أولاً، ثم يحلف صاحب اليمين، وقال: الحكم بهما تقوية، فلو رجع الشاهد كان
الضمان عليه.
وقال: إذا عدمت امرأتان قامت اليمين مقامهما والشاهد واليمنى سكت عنه
القرآن، وفسرته السنة، وقال: قد ذهب طائفة من قضاة السلف العادلين إلى
الحكم بشهادة الواحد إذا ظهر صدقه من غير يمين، فإذا علم الحاكم صدق الشاهد
الواحد، جاز له الحكم بشهادته، وإن رأى تقويته باليمين فعل، وإلا فليس ذلك
بشرط، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما حكم بالشاهد واليمين لم يشترط
اليمين بل قوى بها شهادة الشاهد.
وأجاز شريح وزرارة شهادة شاهد واحد علما صدقة وعدل النبي - صلى الله عليه
وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين، وقبل شهادة الأعرابي وحده على هلال
رمضان، وأجاز شهادة الشاهد الواحد في قصة السلب، ولا استحلفه، وهو الصواب،
ولا معارض لهذه السنة، ولا مسوغ لتركها، قال: فالبينة تطلق على الشاهد
(4/563)
الواحد، وهو أحد الوجوه في هذه المسألة،
وهو الصواب، وقال: الحكم بشهادة امرأتين ويمين المدعي، في الأموال وحقوقها،
وهو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وحكاه شيخنا، واختار.
وظاهر القرآن والسنة يدل على صحة هذا القول، فإن الله أقام المرأتين مقام
الرجل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح «أليس شهادة
المرأتين مثل شهادة الرجل» ولا في القرآن ولا في السنة، ولا في الإجماع ما
يمنع من ذلك، بل القياس الصحيح يقتضيه لأن ذكر البينة اسم لما يبين الحق،
وهو أعم من أن يكون برجال أو نساء، أو نكول أو يمين أو أمارات ظاهرة،
والحكم بشهادة امرأتين فقط من غير يمين، في إحدى الروايتين عن أحمد فيما لا
يطلع عليه الرجال، وبشهادة واحدة، وهي أشهر والرجل فيه كالمرأة، ولم يذكروا
يمينًا والفرق بين هذا وبين الشاهد واليمين، حيث اعتبرت، أن المغلب في هذا
هو الإخبار عن الأمور الغائبة، التي لا يطلع عليها الرجال، فاكتفي بشهادة
النساء، وبالشاهد واليمين في الشهادة على أمور ظاهرة، يطلع عليها الرجال في
الغالب، فإذا انفرد الشاهد الواحد احتيج إلى تقويته باليمين.
(وتقدم في الرضاع) يعني حديث عقبة بن الحارث، وهو في الصحيح، أن أمة سوداء
قالت: قد أرضعتكما، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كيف وقد
زعمت ذلك» أي أن قد
(4/564)
أرضعتكما قال الزهري: قد مضت السنة أنها
تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، وقال الوزير: اتفقوا على أنه
تقبل شهادتهن فيما لا يطلع عليه الرجال، كالولادة والرضاع والبكارة وعيوب
النساء، وما يخفى على الرجال غالبًا وقال ابن رشد: لا خلاف في هذا إلا في
الرضاع فإن ابا حنيفة قال مع الرجال، لأنه عنده من حقوق الأبدان التي يطلع
عليها الرجال والنساء والحديث حجة عليه.
وقال ابن القيم: يجوز القضاء بشهادة النساء منفردات في غير الحدود والقصاص،
عند جماعة من السلف والخلف، وذكر أنه أرجح الأقوال، وقال: ما كان لا يخاف
فيه الضلال في العادة تقبل شهادتين فيه منفردات، إنما هو أشياء تراها
بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها، من غير توقف على عقل كالولادة
والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة، والحيض وعيوب النساء تحت الثياب
ونحو ذلك، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل،
كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره، فإن هذا له معان
معقولة، ويطول العهد بها في الجملة، قال: والرجل فيه كالمرأة ولم يذكروا
ههنا يمينًا.
وظاهر نص أحمد أنه لا يفتقر إلى اليمين، والفرق بينه وبين الشاهد واليمين،
حيث اعتبرت اليمين هناك، أن المغلب في هذا الباب هو الإخبار عن الأمور
الغائبة، التي لا يطلع عليها
(4/565)
الرجال، فاكتفي بشهادة النساء، وفي باب
الشاهد واليمين، الشهادة على أمور ظاهرة، يطلع عليها الرجال في الغالبن
فإذا انفرد بها الشاهد الواحد احتيج إلى تقويته باليمين.
باب الإقرار
وهو الاعتراف بالحق، مأخوذ من المقر وهو المكان، كأن المقر يجعل الحق في
موضعه، وقالوا: إنه إخبار عما هو ثابت في نفس الأمر من حق الغير على المقر،
وقال الشيخ: التحقيق أن يقال: إن المخبر، إن أخبر بما على نفسه فهو مقر،
وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع، وإن أخبر بما على غيره لغيره، فإن
كان مؤتمنًا عليه، فهو مخبر، وإلا فهو شاهد، فالقاضي والوكيل، والكاتب
والوصي، والمأذون له، كل هؤلاء ما أدوه مؤتمنون فيه، فإخبارهم بعد العزل
ليس إقرارًا وإنما هو خبر محض، وقد دل الكتاب والسنة وأجمع العلماء على صحة
الإقرار في الجملة، ويصح من مكلف مختار، غير محجور عليه، ويلزم قبول الحكم
به بلا خلاف.
(قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا
آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} أي: لمهما آتى الله أحدهم من كتاب
وحكمة، وبلغ، ثم جاءه رسول من بعده، ليؤمنن به، ولينصرنه (إلى قوله: قالوا
{أَقْرَرْنَا} أي بالإيمان به ونصرته وذلك أنه قال) {أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي قبلتم على ذلك عهدي وميثاقي
(4/566)
(قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا)
أي على أنفسكم {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} عليكم فدل عموم الآية
على صحة الإقرار وثبوت المقريه.
(وقال) تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} أي ومن أهل المدينة
أو الأعراب آخرون اعترفوا أي أقروا بذنوبهم {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا}
وهو إقرارهم بذنوبهم وتوبتهم {وَآخَرَ سَيِّئًا} أي بعمل آخر سيء، وذلك أن
الله لما ذكر حال المتخلفين عن الغزو رغبة وشكًا، ثنى بالمتأخرين كسلاً
وميلاً إلى الراحة مع إيمانهم وتصديقهم، فأخبر أنهم أقروا بذنوبهم،
واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم، ولهم أعمال صالحة خلطوا هذه بهذه، فهم تحت
عفو الله، والاعتراف إقرار، فعموم الآية يدل على صحة الإقرار، فإن الاعتراف
إقرار منهم.
(وقال) تعالى: {شُهَدَاءَ لِلهِ} أمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا
قوامين بالقسم، وهو العدل، شهداء لله على من كانت له الشهادة {وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ} بالإقرار {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ
غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا} فأقيموها لله، فيجب أن
يقول المرء الحق، ولو عاد ضرره عليه، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجًا
ومخرجًا ثم قال: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي فلا
يحملنكم الهوى والعصيبة على ترك العدل في أموركم، بل الزموا العدل على كل
حال، في كل أحد.
(4/567)
(وقال) تبارك وتعالى لما أخذ (مِنْ بَنِي
آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) أي أوجدهم شاهدين بذلك،
قائلين له حالاً وقالاً، فالشهادة تكون بالقول تارة وبالحال تارة {أَنْ
تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لئلا تقولوا يوم القيامة {إِنَّا كُنَّا
عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أي عن هذا الميثاق والإقرار بالتوحيد غافلين، حتى
قيل هو الفطرة التي فطروا عليها.
(ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا) بإقراره على نفسه بالزنا
والحديث متفق عليه، وتقدم في باب حد الزنا، (و) رجم (الغامدية) بإقرارها
على نفسها بالزنا، وتقدم أيضًا في باب حد الزنا، فدلت الأحاديث وكذا الآيات
على صحة الإقرار، وثبوت الأخذ به.
(وقتل) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اليهودي) الذي رض رأس الجارية
وأقر، قتله بإقراره، ورجم الذين زنيا، بعدما أتوا بالتوراة، فأمر بهم
(بإقرارهم) وتقدم ذكر ذلك في مواضعه، وتقدم أن من أقر على نفسه أخذ بما أقر
به، وعلى غيره فإما أن يكون إقراره شهادة، أو إخبارًا على ما تقدم.
ومن أقر في مرضه بشيء فكإقراره في صحته، إلا في إقراره بالمال لوارثه، وهو
قول أكثر أهل العلم، وذكر ابن القيم من الحيل الباطلة إذا أراد أن يخص بعض
ورثته ببعض الميراث أن
(4/568)
يقول كنت وهبت له كذا وكذا في صحتي، أو يقر
له بدين فيتقدم به، وهذا باطل والإقرار في مرض الموت لا يصح، للتهمة عند
الجمهور، بل مالك يرده للأجنبي إذا ظهرت التهمة، وقوله هو الصحيح، وأما
إقراره أنه وهبه إياه في الصحة، فلا يقبل أيضًا، كما لا يقبل إقراره له
بالدين، وأيضا هذا المريض لا يملك إنشاء عقد التبرع المذكور فلا يملك
الإقرار به، لاتحاد
المعنى الموجب لبطلان الإنشاء، فإنه بعينه قائم مقام
الإقرار اهـ.
وإن أقر لزوجته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية، ولو أقر أنه أبانها في
صحته، لم يسقط إرثها، وإن أقر لوارث فصار عند الموت أجنبيًا لم يلزم ولغير
وارث فصار عند الموت وارثًا صح، وإن أقر بنسب صغير مجهول النسب ثبت نسبه
وإن ادعى على شخص فصدقه صح.
وإن وصل بإقراره ما يسقطه كان مقرًا مدعيًا للقضاء، فلا يقبل إلا ببينة،
فإن لم تكن بينة حلف المدعي أنه لم يقض ولم يبرئ واستحق، قال الوزير: هذا
قول جماهير الفقهاء.
(وعن أبي ذر) رضي الله عنه (مرفوعًا: قل الحق) والحق من أسماء الله تعالى،
والحق ضد الباطل، والحق الواجب والثابت (ولو كان مرًا) وقل الحق ولو على
نفسك فلا تأخذك في الله لومة لائم، ولا يصرفك عن الحق صارف فحث على
(4/569)
قول الحق ولو مع مرارته (صححه ابن حبان)
وتقدم قوله {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وقالو {كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ} الآية، وأدلة وجوب الإقرار بما يجب على الشخص لغيره كثيرة، من مال
أو غيره، وتقدم بعض تفاصيل من مسائل الإقرار، وبسطها كتب الفقه، والله
الموفق لا إله غيره ولا رب سواه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(4/570)
|