الإحكام شرح أصول الأحكام

كتاب الحدود
الحد في اللغة المنع، ومنه يقال للبواب حداد، لأنه يمنع الناس من الدخول، وحدود الله هي ما يمنع الناس من مخالفتها، والحدود في الشرع عقوبة مقدرة لأجل حق الله تعالى أوجبها تعالى على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطبائع، وليس عليها وازع طبيعي زواجر للنفوس وعقوبة ونكالاً فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، قال الشيخ: العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق، وإرادة الإحسان إليهم ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض.
(قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} أي هذه الشرائع التي شرع الله هي حدوده فلا تتجاوزها فحدوده، ما منع المجاوزة عنه، وقد توعد من تعدى حدوده بدخول النار

(4/298)


وأخبر أن من تعدى حدوده فقد ظلم نفسه وفي الصحيح "إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها" ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}.
(وقال) تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي أوامره ونواهيه {فَلَا تَقْرَبُوهَا} أي فلا تأتوها {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *} أي يتقون تلك الحدود فينجون من العذاب، وقال الشيخ: معنى حدود الله أي معصية الله فليست الحدود المقدر فيها حد، بل المحرمات لأن حدود الله محارمه.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حد يعمل به الأرض) أي يقام على من استوجبه (خير لأهل الأرض من أن يمطروا) أي أنفع من ذلك (أربعين صباحًا) وذلك لئلا تنتهك حقوق الله (رواه أحمد) والنسائي وابن ماجه، وللطبراني نحوه من حديث ابن عباس بلفظ "حد يقام في الأرض بحقه أزكى من مطر أربعين صباحًا" فدل على الترغيب في إقامة الحدود ووجوب تنفيذها، ولا تجب إقامتها: إلا على بالغ عاقل ملتزم أحكام المسلمين عالم بالتحريم، ولا يقيمها إلا الإمام أو نائبه، ليؤمن الاستيفاء من الحيف، ولا يحد الخليفة ولو لقذف، لأن الحد له وإقامته إليه دون غيره، ولا يمكنه على نفسه، ويقتص ويؤخذ بالمال لأنهما من حقوق العباد، ويستوفي ولي الحق إما بتمكينه أو الاستعانة بمنعة المسلمين.

(4/299)


وقال الشيخ: الحقوق التي ليست لقوم معينين تسمى حدود الله، وحقوق الله، مثل قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم، ومثل الحكم في الأموال السلطانية، والوقوف والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات يجب على الولاة البحث عنها وإقامتها من غير دعوى أحد بها وتقام الشهادة فيها من غير دعوى أحد بها، وإن كانوا اختلفوا في القطع، لكنهم متفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة المسروق منه بالحد بل اشترط بعضهم المطالبة بالمال، لئلا يكون للسارق شبهة، وهذا القسم تجب إقامته على الشريف والوضيع والقوي والضعيف.
(وله) أي لأحمد -رحمه الله- (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من حالت شفاعته) أي طلبه التجاوز (دون حد من حدود الله) أي دون عقوبات وزواجر (فهو مضاد لله في أمره) ورواه أبو داود والحاكم، وصححه، وابن أبي شيبة موقوفًا، ونحوه للطبراني من حديث أبي هريرة وفيه: "فقد ضاد الله في ملكه" وفي الصحيحين في قصة المخزومية قال: "أتشفع في حد من حدود الله؟ " وفي لفظ "لا أرك تشفع في حد من حدود الله".
فدل الحديث على تحريم الشفاعة في الحدود قال الشيخ لا يحل تعطيل حد من حدود الله بشفاعة ولا هدية ولا غيرهم ولا تحل الشفاعة فيه، ومن عطله لذلك وهو قادر على إقامته

(4/300)


فعليه لعنة الله، قال: والمال المأخوذة لتعطيل حد سحت خبيث، وإذا فعل ولي الأمر ذلك جمع بين فسادين عظيمين، تعطيل الحد، وأكل السحت وترك الواجب وفعل المحرم، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من السارق والزاني والشارب ونحو ذلك لتعطيل الحد سحت خبيث، وأكثر ما يوجد من إفساد أمور المسلمين هو تعطيل الحد بمال أو جاه، وهذا من أكبر الأسباب في فساد البوادي والقرى والأمصار.
وهو سبب سقوط حرمة المتولي وسقوط قدره من القلوب، وانحلال أمره فإنه إذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد ضعفت نفسه أن يقيم حدًا آخر، وصار من جنس اليهود الملعونين، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله ورسوله في أمره» فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده، واعتاض عن المجرمين بسحت مال يأخذه، سواء كان المأخوذ لبيت المال أو للولي سرًا أو علانية، فذلك حرام بإجماع المسلمين اهـ.
وينبغي أن يقيد المنع من الشفاعة بما إذا كان بعد الرفع إلى ولي الأمر، لقوله "هلا كان قبل أن تأتيني به" ولخبر «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع» ووجوب إقامتها إذا بلغت السلطان لا نزاع فيه.
(وفي الصحيحين) أن أبا شريح الخزاعي قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة: "إن مكة حرمها الله" الحديث

(4/301)


فقال عمرو أنا أعلم منك بذلك.
(إن الحرم لا يعيذ عاصيًا) فيخلي سبيله ومعصيته، بل يردع أو يعزر بما يستوجبه (ولا فارًا بدم) وجب عليه حد القتل فهرب على مكة مستجيرًا بالحرم (ولا خربة) أصلها سرقة الإبل ثم استعملت في كل سرقة، وقال الخليل: الخربة الفساد، وقال السهيلي: فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيًا، ولا تمنع من إقامة حد واجب، واستدل بعضهم بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، ونقل ابن الجوزي وغيره الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف عمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم.
وعن مالك والشافعي يجوز إقامة الحد مطلقًا فيها لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، فأما من أوقع فيها فلو لم يقم الحد عليه لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وأما من أوقع في الحل ولجأ إلى الحرم فالأولى أن لا يقام عليه فيه، لأنه لم يزل يعيذ العصاة من لدن الخليل، وقام الإسلام على ذلك، وقال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وفي الحديث "إن الله حرم مكة" فاللاجئ إليه لا يتعرض له ما دام فيه، وذكر عن عمر وابن عباس أن أحدهما لو لقي فيه قاتل أبيه ما هيجه، وأنه قول جمهور التابعين.

(4/302)


باب حد الزنا
الزنا هو فعل الفاحشة، قال ابن رشد هو كل وطء وقع على غير نكاح صحيح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، وهو من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي، لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التناصر على إحياء الدين، وفيه هلاك الحرث والنسل، ولذلك زجر عنه بالقتل والجلد ليرتدع عن مثل فعله من يهم به فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} بالعزم والإتيان بالمقدمات فضلاً عن أن تباشروه {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} فعلة ظاهرة القبح ومعصية مجاوزة حد الشرع والعقل {وَسَاءَ سَبِيلًا} وبئس طريقا طريقه، لاشتماله على أنواع من الفساد منها المعصية وإيجاب الحد، واختلاط الأنساب وضياع الأولاد، وانقطاع النسل، بل وخراب العالم، ,خص الزنا بالنهي وإن كان اللواط أقبح منه لأنه كان ساريًا في العرب، بخلاف اللواط فقد كان في قوم لوط وتنوسي ثم ظهر في هذه الأمة بعد قرن الصحابة والتابعين، وفي الخبر " ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له".
(وقال: الزانية والزاني) قيل رفعهما على الابتداء والخبر محذوف، أي جلدوهما فيما فرض عليكم، أو خبره قوله {فَاجْلِدُوا

(4/303)


كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} الجلد ضرب الجلد لغير المحصن، وهذا مطلق محمول على بعض هو: حر بالغ عاقل ما جامع في نكاح شرعي، فإن حكم من جامع فيه الرجم، للأحاديث الصحاح، ولآية الرجم المنسوخ لفظها دون معناها.
{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ} في طاعته وإقامة حده {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فإن الإيمان يقتضي الصلابة في الدين والاجتهاد في إقامة أحكامه، لا التسامح في ذلك قال - صلى الله عليه وسلم - «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» (وليشهد عذابهما طائفة) فرقة (من المؤمنين) أي يجلد بحضرة طائفة من المؤمنين، وأقلها أربعة أو ثلاثة للشهرة والتخجيل، وقيل أو اثنان أو واحد، فإن الفاسق بين المؤمنين الصالحين أخجل وقد ينكل التفضيح أكثر مما ينكل التعذيب.
(وقال فعليهن) أي على المماليك من العذاب، وسياق الآية في الفتيات {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} أي زنا {فَعَلَيْهِنَّ} أي من العذاب الذي يمكن تبعيضه وهو الجلد لا الرجم {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} أي الحرائر الأبكار، إذا زنين {مِنَ الْعَذَابِ} يعني الجلد فيجلد الرقيق إذا زنا خمسين جلدة، ولا نزاع بين العلماء أنه لا رجم على مملوك ومفهوم الآية أن غير المحصنة لا حد عليها، وقال الجمهور لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم

(4/304)


وقد وردت أحاديث عامة فيها إقامة الحد على الإماء، فقدموها على المفهوم، كما في صحيح مسلم أن عليًا قال: أقيموا الحدود على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن "فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها".
وفي حديث زيد بن خالد أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: إن زنت فاجلدوها وغير ذلك من الأحاديث وليس فيها تفريق بين المحصنة وغيرها، بل فيها النص على التي لم تحصن، وخطب علي رضي الله عنه فقال: أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن العبد والأمة لا يكمل حدهما إذا زنيا، وأن حد كل واحد منهما إذا زنا خمسون جلدة، وأنه لا يفرق بين الذكر والأنثى، وأنهما لا يرجمان وأنه لا يعتبر في وجوب الجلد عليهما أن يكونا تزوجا، بل يجلدان سواء كانا تزوجا أو لم يتزوجا.
(وخطب عمر) رضي الله عنه على المنبر لما رجع من الحج وقدم المدنية (فقال: إن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق) كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} (وأنزل عليه الكتاب) يعني القرآن (فكان فيما أنزل عليه آية الرجم) وهي الآية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) (قرأناها) يعني قوله الشيخ والشيخة إلى آخرها (ووعيناها) أي حفظناها (وعقلناها) فهمناها وتدبرناها (فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وأمر به وسيأتي (ورجمنا بعده) أي رجم

(4/305)


عمر رضي الله عنه واستمر عمل المسلمين عليه (فأخشى إن طال بالناس زمان) وقد وقع ما خشية من الخوارج وبعض المعتزلة وغيرهم، أنكروا مشروعية الرجم.
وهذا من المواضع التي وافق حدس عمر رضي الله عنه فيها الصواب، وقد قال فيه - صلى الله عليه وسلم - إن كان في أمتي محدثون فعمر، ولذا خشي رضي الله عنه (أن يقول قائل) أي جاهل أو مبتدع (والله ما نجد الرجم في كتاب الله) وفي رواية عبد الرزاق سيجيء قوم يكذبون بالرجم، وللنسائي، وإن ناسًا يقولون ما بال الرجم، فإن في كتاب الله الجلد (فيضلون بترك فريضة) من فرائض الله (أنزلها الله) على رسوله - صلى الله عليه وسلم - (وإن الرجم حق في كتاب الله) ثابت الحكم منسوخ اللفظ (على من زنى إذا أحصن) أي تزوج ووطئ مباحًا، وكان بالغًا عاقلاً (ومن الرجال والنساء) بشرطه وهو قول أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار إلا الخوارج.
وذلك (إذا قامت البينة) أي شهادة أربعة شهود ذكور بالإجماع عدول، ليس فيهم مانع، يصفون وقال تعالى {لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وقال {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا لم يكن شهود الزنا أربعة فإنهم قذفة يحدون، وإذا شهد اثنان أنه زنى بها وهي مطاوعته، وآخران أنه زنى بها وهي مكرهة، فلا حد على واحد منهم، وإن

(4/306)


كان أحدهم الزوج فقال الشافعي وأحمد: عليهم الحد إلا الزوج له إسقاطه باللعان، واتفقوا على أنها تسمع في الحال.
(أو كان الحبل) بفتحتين وفي رواية الحمل: واستدل به على أن المرأة تحد إذا وجدت حاملاً ولا زوج لها ولا سيد، ولم تذكر شبهة، واختاره الشيخ، وقال هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بأصول الشريعة، وهو مذهب أهل المدينة، فإن الاحتمالات الباردة لا يلتفت إليها، وقال ابن القيم: حكم عمر برجم الحامل بلا زوج ولا سيد، وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد، اعتمادًا على القرينة الظاهرة.
(أو الاعتراف) أربع مرات في مجلس أو مجالس كما سيأتي، فيشترط لوجوب الحد ثلاثة شروط أحدها ثبوته بأربعة شهود أو بإقراره كما سيأتي، وتغييب حشفة أصلية في قبل أو دبر أصليين وانتفاء الشبهة فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك أو لولده أو وطء امرأة ظنها زوجته أو سريته، أو في نكاح باطل اعتقد صحته أو نكاح أو ملك مختلف فيه أو أكرهت المرأة على الزنا، فإنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن المكرهة لا حد عليها، وهي من غلبها الواطئ على نفسها.
(قال) عمر رضي الله عنه (وقرأناها) ثم نسخ لفظها وبقي حكمها (و) هي (الشيخ والشيخة) قال مالك: يعني الثيب والثيبة وإن كانا شابين، لا حقيقة الشيخ، وهو من طعن في

(4/307)


السن فإن الرجم لا يختص بالشيخ والشيخة، وإنما المدار على الإحصان لقوله - صلى الله عليه وسلم - لماعز «أحصنت» قال: نعم ولأهل ما عز «أبكر أم ثيب» فقالوا: بل ثيب «إذا زنيا» فعلا الفاحشة «فارجموهما» أي ارموهما بالحجارة «ألبتة» بهمزة قطع أي جزما «نكالا من الله» عقوبة من الله وردعًا عن فعل الفاحشة «والله عزيز» لا يغالب «حكيم» في أمره ونهيه (متفق عليه).
ولأحمد وغيره من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء أن فيما أنزل الله من القرآن "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة" ولابن حبان من حديث أبي بن كعب كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، وكان فيها آية الرجم "الشيخ والشيخة" إلى آخره.
فالرجم ثابت بنص القرآن، لهذا الحديث وللسنة المتواترة المجمع عليها، وأجمع عليه أهل العلم إلا ما حكي عن الخوارج وبعض المعتزلة، ولا مستند لهم إلا أنه لم يذكر في القرآن، وما ذهبوا إليه باطل لما ترى، فالمحصن إذا زنا رجم حتى يموت، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، والمحصن هو من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فإن اختل شرط منها في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما، قال الوزير وغيره: أجمعوا على أن من شرائط الإحصان الحرية والبلوغ، والعقل، وأن يكون تزوج امرأة على مثل حاله، تزويجًا صحيحًا، ودخل بها وهو على هذه الصفات الخمس مجمع عليها.

(4/308)


وأجمعوا على أن من كملت فيه شرائط الإحصان وزنا بامرأة مثله في شرائط الإحصان، وهي أن تكون حرة بالغة عاقلة متزوجة تزويجًا صحيحًا، مدخولاً بها في التزويج الصحيح بالإجماع، فإنهما زانيان محصنان عليهما الرجم حتى يموتا اهـ.
وقال الشيخ في الذمي إذا زنا بالمسلمة قتل، ولا يصرف عنه القتل الإسلام، ولا يعتبر فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم، بل يكفي استفاضته واشتهاره اهـ، وخص الثيب بالرجم لكونه تزوج، فعلم ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنا، فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى الحرام.
(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رجلاً) من الأعراب (قال يا رسول الله إن ابني) قيل ابن الأعرابي كما في رواية للبخاري، وقيل الذي وصفه الراوي بأنه أفقه كما سيأتي، ورجحه الحافظ (كان عسيفًا) أي أجيرًا والعسف في اللغة الجور، وسمي الأجير بذلك لأن المستأجر يعسفه على العمل أي يجور عليه (على هذا) أي عنده، أو على بمعنى اللام (فزنى بامرأته) لم يعرف اسمها (وإني أخبرت) وفي رواية فسألت من لا يعلم فأخبرني (أن على ابني الرجم) أي بالحجارة (فافتديت منه) أي بدل الرجم (بمائة شاة ووليدة) وفي رواية وبجارية لي (فسألت أهل العلم) قال الحافظ لم أقف على أسمائهم (فأخبروني أنما على ابني جلد مائة)

(4/309)


بالإضافة لأنه بكر (وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم) لأنه محصنة.
(فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأقضين بينكما بكتاب الله) وذلك أن الأعرابي قال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لنا بكتاب الله؛ وقال: الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال: «قل» قال: إن ابني إلى آخره، والمراد بكتاب الله ما حكم الله به على عباده، سواء كان من القرآن، أو على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - «الوليدة والغنم رد عليك» أي مردودة عليك «وعلى ابنك جلد مائة» حكمه بالجلد من دون سؤال عن الإحصان يشعر أنه عالم بذلك من قبل، وفي رواية وابني لم يحصن، ثم قال: (وتغريب عام) عن وطنه، وقد ورد التغريب في الأحاديث الصحيحة الثابتة باتفاق أهل العلم بالحديث، من طريق جماعة من الصحابة، وقد جاوزت حد الشهرة المعتبرة، وحكى ابن نصر الاتفاق على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين.
وقال ابن المنذر: أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقضي بكتاب الله ثم قال: إن عليه جلد مائة وتغريب عام، وهو المبين لكتاب الله، وخطب عمر بذلك على رءوس المنابر، وعمل به الخلفاء الراشدون، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا وقال ابن القيم: لما رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - المحصن علم أن قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} للبكرين، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن

(4/310)


البكرين الحرين إذا زنيا فإنهما يجلدان كل واحد منهما مائة جلدة، وحكى ابن رشد إجماع المسلمين، وخفف عنه القتل لما حصل له من العذر ما أوجب له التخفيف، فحقن دمه، وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد، ردعًا عن المعاودة بالاستمتاع بالحرام اهـ.
وأما تغريبه فهو إخراجه عن محل إقامته، بحيث يعد غريبًا، وظاهر الأحاديث أنه سنة، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد، وغرب عمر من المدينة إلى الشام وغرب عثمان إلى مصر وغرب ابن عمر أمته إلى فدك، (واغد) أي اذهب (يا أنيس) قال ابن عبد البر: هو ابن الضحاك الأسلمي، ووقع في رواية التصريح به، (إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) أي فإن اعترفت بالزنى فارجمها، وفيه جواز قبول الواحد فيما طريقه الخبر، وبعثه إليها لم يكن لإثبات الحد عليها، بل لأنها لما قذفت بالزنا بعث إليها لتنكر فتطالب بحد القذف أو تقر بالزنا فيسقط حد القذف ويجب الرجم (فاعترفت فرجمها) وفي رواية فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت قال الحافظ والذي يظهر أن أنيسًا لما اعترفت أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - مبالغة في الاستثبات مع كونه علق له رجمها على اعترافها.
ودل الحديث على جلد البكر مائة، وهو إجماع وتغريبه عند الجمهور، وعلى أن المحصن يرجم، وأنه لا يجب الجمع بين الجلد والرجم، وهو مذهب جمهور العلماء، لهذا الخبر وغيره

(4/311)


كقصة ماعز وهي متأخرة، ولم يرو أنه جلد أحدًا ممن رجم، ولأن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، ولأن الحد إنما وضع للزجر، فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم، وقال ابن رشد: أجمع المسلمين أن الثيب الأحرار المحصنين، حدهم الرجم لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة.
(وفيهما عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (قال أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل) هو ماعز بن مالك الأسلمي، وفي رواية وهو في المسجد فناداه، (فقال إني زنيت فأعرض عنه) - صلى الله عليه وسلم - (فتنحى) ماعز الأسلمي (تلقاء وجهه) الذي أعرض عنه قبله (فقال: إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات) وفي رواية حتى إذا أكثر عليه (فلما شهد على نفسه أربع شهادات) أي أنه زنى، وفي لفظ قال: إني زنيت فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات، ولمسلم من حديث جابر فشهد على نفسه أربع مرات، وله عن ابن عباس نحوه، ورواه جماعة من الصحابة من طرق وتطابقت الروايات أنه أقر أربع مرات.
(قال أبك جنون؟) ولمالك بعث إلى أهله فقال: «أيشتكي أم به جنون؟» فقالوا: يا رسول الله والله إنه لصحيح، أي في العقل والبدن، وفي لفظ «أبه جنون؟» قالوا: لا، وفي لفظ: دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبك جنون؟» قال: لا، «فهل أحصنت؟» بفتح الهمزة والصاد أي تزوجت (قال: نعم) ولمالك قال أي لهم: أبكر أم ثيب فقالوا بل ثيب (قال: اذهبوا به فارجموه) فدل

(4/312)


الحديث على وجوب رجم الثيب إذا أقر أربع مرات قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلي، فلما أذلقته، الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه، وذكر ابن سعد أن الصديق رأس الذين رجموه.
وإن رجع عن إقراره أو هرب كف عنه قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إذا أقر بالزنى ثم رجع عنه فإنه يسقط الحد عنه، ويقبل رجوعه إلا مالكًا إن كان بشبهة قبل، قال ابن رشد: وإنما صار الجمهور إلى تأثير الرجوع في الإقرار، لما ثبت من تقريره - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا وغيره مرة بعد مرة لعله يرجع، ولقوله لما هرب فهلا تركتموه، لعله يتوب فيتوب الله عليه.
(وللبخاري عن ابن عباس) رضي الله عنهما يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز: «لعلك قبلت» أي تلك المرأة فظننته زنى (أو غمزت) أي جسيتها باليد (أو نظرت) أي إليها فحملته على الزنى (قال: لا) أي بل فعل الفاحشة، والمراد لعلك وقع منك هذه المقدمات فتجوزت بإطلاق لفظ الزنا عليها؛ فدل على وجوب التثبت والتلقين المسقط للحد، وأنه لا بد من اللفظ الصريح الذي لا يحتمل سواه.
وفي رواية «أفنكتها» لا يكني، قال: نعم، ولأبي داود "كما يدخل الميل في المكحلة والرشاء في البئر" قال: نعم قال: «فهل تدري ما الزنى» قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من

(4/313)


امرأته حلالاً قال: «فما تريد بهذا القول؟» قال: أريد أن تطهرني فأمر برجمه.
وفيه دليل على وجوب الاستفصال والبحث عن حقيقة الحال، فقد بالغ - صلى الله عليه وسلم - في الاستثبات، ولم يكتف بإقراره بالزنى، بل استفهم بلفظ لا أصرح منه في المطلوب، ثم صوره تصويرًا حسيًا ولا شك أن تصوير الشيء بأمر محسوس أبلغ في
الاستفصال.
(وعن عمران بن حصين) رضي الله عنه (أن امرأة من جهينة) ولمسلم من غامد وغامد بطن من جهينة (أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى) ولمسلم حامل ويقال حبلت المرأة فهي حابل حملت (من الزنى فقالت: أصبت حدًا) أي ذنبًا أوجب علي حدًا أي عقوبة (فأقمه علي) أي فأقم علي الحد، وفي حديث بريدة طهرني فقال: «ويحكِ ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه» فقالت أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، فقال: «وما ذاك؟» قالت إنها حبلى من الزنى، قال: أنت؟ قالت نعم، قال «حتى تضعي ما في بطنك» (فدعا وليها) أي دعا - صلى الله عليه وسلم - متولي أمر المرأة (فقال: أحسن إليها) لأن سائر قراباتها ربما حملتهم الغيرة وحمية الجاهلية على أن يفعلوا بها ما يؤذيها، فأمره بالإحسان إليها تحذيرًا من ذلك.
(فإذا وضعت) أي ولدت (فائتني بها ففعل) ولمسلم فلما

(4/314)


وضعت جاءته كما يأت (فأمر بها) ولمسلم فحفر لها إلى صدرها (فشدت عليها ثيابها) وفي رواية شكت عليها ثيابها، ومعناهما واحد، والمراد أن لا تتكشف عند وقوع الرجم عليها، لما جرت به العادة من الاضطراب عند نزول الموت، وعدم المبالاة بما يبدو من الإنسان، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن المرأة ترجم قاعدة والرجل قائمًا، لما في ظهور العورة من الشناعة. وحكى النووي الاتفاق على أنها ترجم قاعدة، ولا شك أنه أقرب إلى الستر ولمسلم وغيره: فلما وضعت جاءته فقال: «اذهبي حتى ترضعيه» وفيه: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» والروايتان كما قال النووي صحيحتان، والثانية صريحة في أنه أمرها أن ترضعه، وفيها أنه قال: «إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه» ثم قالت: قد فطمته وقد أكل الطعام.
(ثم أمر بها فرجمت) أي بالحجارة جالسة بعد أن شدت عليها ثيابها لئلا تنكشف (ثم صلي عليها) بفتح الصاد واللام وروي بضم الصاد، وأكثر رواة مسلم بفتحها (فقال عمر تصلي عليها وقد زنت) أي أصابت الفاحشة (فقال: لقد تابت توبة لو قسمت) أي توبتها (بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) لعظمها وفي حديث بريدة لو تابها صاحب مكس أي متولي الضرائب التي تؤخذ من الناس لغفر له (وهل وجدت) أي توبة أو عملاً (أفضل من أن جادت بنفسها) سمحت بها فدفعتها (لله عز وجل) وبذلتها له، والجود ليس فوقه شيء

(4/315)


(رواه مسلم) ورواه من حديث بريدة بنحوه، وجاء من طرق عن جماعة من الصحابة، ولمسلم عن علي أمره أن يجلد أمة زنت، فإذا هي حديثة عهد بنفاس فقال: «اتركها حتى تماثل» أي تقارب البرء.
فدلت الأحاديث على إمهال الحامل من الزنى إلى أن تضع وترضع ولدها، وفي هذه الأحاديث ونحوها دليل على أن المريض يمهل حتى يبرأ أو يقارب البرء، وحكي الإجماع على أنه يمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو زواله، بخلاف الرجم لأنه لقصد إتلافه.
(ولهما عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن اليهود) ومنهم كعب بن الأشرف وكعب بن الأسعد وسعيد بن عمرو (أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة) منهم (قد زنيا) ولأبي داود وغيره قد أحصنا (فقال: ما تجدون في كتابكم؟) وفي لفظ «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» أي في حكمه إلزامًا لهم بما يعتقدونه (فقالوا: نحمم وجوهما) وفي لفظ: تسخم وجوههما أي تسود (ويخزيان) أي يفضحان ويشهران، وفي لفظ: نفضحهم ويجلدون (قال: كذبتم إن فيها الرجم) أي على الزاني المحصن، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «فائتوا بالتوراة» ليظهر كذبهم {فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وفي حديث البراء عند مسلم: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولكن كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه

(4/316)


وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد، مقام الرجم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» (فجاءوا بالتوراة) فنشروها (وجاءوا بقارئ لهم) ممن يرضونه وقال: اقرأ (فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها) فيه آية الرجم (وضع يده عليه) ثم قرأ ما قبلها وما بعدها (فقيل له ارفع يدك) قاله عبد الله بن سلام (فرفع يده) عن تلك الآية.
(فإذا هي تلوح) ولفظها المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما (فقالوا يا محمد) أو قال: يا محمد صدق (إن فيها الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا) وفي رواية فما منعكم أن ترجموهما قالوا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، وفي رواية كثر في أشرافنا فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم (فأمر بهما فرجما) عند البلاط مكان بين السوق والمسجد النبوي.
فدل الحديث وما في معناه، على أن الذمي يحد كما يحد المسلم، والحربي والمستأمن يلحقان بالذمي بجامع الكفر، ونزلت {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} على قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ *} وهذا حكم شرعه الله لأهل الكتاب، وقرره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما وهو مأمور أن يحكم بينهم بما أنزل الله ورجم اليهودية مع اليهودي.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا زنت أمة أحدكم) لم تقيد ببكارة ولا إحصان (فليجلدها

(4/317)


الحد) وهو نصف ما على المحصنة (ولا يثرب عليها) أي ولا يوبخها بعد الضرب، فدل على جلد البكر، والآية دلت على جلد المحصنة، إذ الرجم لا يتنصف فتجلد ولو متزوجة عملاً بالكتاب والسنة وإجماع الأمة (ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها) وللنسائي ولا يعنفها أي لا يضم إلى الحد التعنيف واللوم (ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) وفي رواية "فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير" مبالغة في التنفير عنها، والحض على مباعدة الزانية (متفق عليه) ولأحمد وأبي داود أنه ذكر في الرابعة الحد والبيع، ورجح الحافظ أنه يجلدها قبل البيع.
وظاهر الأمر بالبيع الوجوب، والجمهور على الاستحباب وقال ابن بطال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحض على مباعدة من تكرر منه الزنى، لئلا يظن بالسيد الرضى بذلك ولما فيه من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنى، قال: وحمله بعضهم على الوجوب ولا سلف له، ودل على أن السيد يقيم الحد على مملوكه، وهو مذهب الجمهور، وأنه يجلد سواء كان محصنًا
أو لا.
(ولأبي داود عن علي) رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» بالسبي أو الشراء أو غيره، وأصله في صحيح مسلم وغيره.

(4/318)


فدل مع ما قبله على أن السيد يقيم على مملوكه الحد، ولا تقف إقامته على ولي الأمر، ولأنه يملك تأديبه وضربه على الذنب، وهذا من جنسه، ولو كان مكاتبًا أو مرهونًا أو مستأجرًا للعموم ولتمام ملكه عليه دون المشترك.
(وأمر عمر) رضي الله عنه (بجلد ولائد) جمع وليدة والوليدة الأمة وإن كانت كبيرة والوليد الرقيق (خمسين خمسين) أي كل وليد أو وليدة خمسين جلدة (رواه مالك) وللبيهقي عن ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت، قال الشافعي: وكان ابن مسعود يأمر به، وأبو برزة يحد وليدته، ولأحمد عن علي مرفوعًا إذا تعالت من نفاسها فاجلدوها خمسين، وروي عن فاطمة رضي الله عنها أنها كانت تجلد وليدتها إذا زنت خمسين؛ وتقدم قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد.
قال الشيخ: إذا زنى الرقيق علانية وجب على السيد إقامة الحد عليه، وإن كان سرًا فينبغي أن لا يجب عليه إقامته، بل يخير بين ستره واستتابته، بحسب المصلحة في ذلك، كما يخير الشهود على من وجب عليه الحد بين إقامتها عند الإمام، وبين الستر عليه واستتابته بحسب المصلحة، فإنه يرجح أن يتوب إن ستره وإن كان في إقامة الحد عليه ضرر على الناس كان الراجح
فعله.

(4/319)


(وله) أي لمالك في الموطأ (عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم ورواه عبد الرزاق (أن رجلاً اعترف) على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط) ليجلد به لأنه غير محصن (فأتي بسوط مكسور فقال (فوق هذا) لخفة إيلامه (فأتى بسوط جديد) لم يمتهن ولم يلن (لم تقطع ثمرته) أي طرفه (فقال بين هذين) أي سوط متوسط بين المكسور والجديد (فأتى بسوط قدلان) ولم ينكسر (وركب به) الراكب على الدابة وضربها به حتى لان (فأمر به فجلد به) أي جلد الرجل المعترف على نفسه بالزنا.
فدل الحديث على أنه ينبغي أن يكون السوط الذي يجلد به الزاني متوسطًا بين الجديد والعتيق، وإذا كان بعود فينبغي أن يكون متوسطًا بين الكبير والصغير، فلا يكون من الخشب التي تكسر العظم وتجرح اللحم، ولا من الأعواد الرقيقة التي لا تؤثر في الألم، بل يكون متوسطًا، ويفرق الضرب على بدنه ليأخذ كل عضو منه حظه، ولأن توالي الضرب على عضو واحد يؤدي إلى القتل، ويتقي الرأس والوجه والمقاتل، ولا يمد ولا يربط ولا يجرد بل يكون عليه قميص أو قميصان، وروي عن علي أنه قال: يضرب الرجل قائمًا والمرأة جالسة.
(وعن سعيد) بن سعد (بن عبادة) الأنصاري الخزرجي قال ابن عبد البر: صحبته صحيحة (قال: كان بين أبياتنا

(4/320)


رويجل) تصغير رجل للتحقير (ضعيف) يعني سقيم ناقص الخلق، فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم، قال سعد (فخبث) أي زنى (بأمة من إمائهم فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ذكره له سعد بن عبادة رضي الله عنه (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اضربوه حده» أي اجلدوه مائة جلدة.
(فقال: يا رسول الله إنه أضعف من ذلك) وفي لفظ أضعف مما تحسب، لو ضربناه مائة قتلناه (قال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ) وهو العذق الذي يكون فيه البسر والمشراخ غصن دقيق منه (ثم اضربوه به) أي بالعثكال (ضربة واحدة) لقوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (ففعلوا) أي جلدوه بالعثكال، رواه أحمد وابن ماجه و (حسنه الحافظ) ولأبي داود معناه عن بعض الصحابة، وفيه: ولو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، وله شواهد يشد بعضها بعضًا.
فدل على أن نضو الخلقة والمريض إذا لم يحتمل الجلد ضرب بعذق فيه مائة شمراخ أو ما يشبه، مما يحتمله بدن المجلود، وينبغي أن تباشره جميع الشماريخ، ويكفي الاعتماد، وهذا من الحيل الجائزة شرعًا، وقال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}.

(4/321)


فصل في اللواط
أي هذا فصل في بيان حكم الحد في اللواط، يقال لاط الرجل يلوط لوطًا عمل عمل قوم لوط، وكذا اللوطية، فلما أحدثوا هذا الفعل القبيح اشتق الناس من اسمه فعلاً لمن فعل فعل قومه، ولاط الشيء أخفاه، ولاط الشيء بالقلب أخفى إليه.
(قال تعالى: {وَلُوطًا}) أي وأرسلنا لوطًا أو: اذكر يا محمد لقومك لوطًا، وهو لوط بن هارون بن تارخ يعني آزر، فهو ابن أخي الخليل عليهما السلام، وكان قد آمن مع إبراهيم وهاجر معه إلى أرض الشام، فنزل إبراهيم فلسطين، ونزل لوط الأردن، فبعثه الله إلى أهل سدوم وعامورا المؤتفكة، وما حولها، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من الفواحش {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} وهم أهل سدوم {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} يعني إتيان الذكور، توبيخ وتقريع على تلك الفعلة القبيحة.
{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإناث، وهذا شيء لم تكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر لهم ببال، حتى صنع ذاك أهل سدوم عليهم لعائن الله المتتابعة، قال غير واحد من السلف: ما نزا ذكر على ذكر قبل قوم لوط، وقال الوليد بن عبد الملك: لولا أن الله قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا، ولهذا قال لوط عليه السلام {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ

(4/322)


مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} أي في أدبارهم {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} أي عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن، وهذا إسراف منكم وجهل وفي الآية الأخرى {أتأتون الرجال} وفي الآية الأخرى {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ}.
{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} مجاوزون الحلال إلى الحرام، اضرب عن الإنكار إلى الإخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها (وقال: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} يعني سدوم، فقلبناها عليهم، قيل إن جبرائيل أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي المؤتفكات قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} أي المنقلبة (أهوى) أي أهواها جبرائيل بهم بعدما رفعها إلى السماء فقلبها عليهم، ثم قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} قال الوزير وابن رجب وغيرهما الصحيح قتله محصنًا كان أو غير محصن لهذه الآية ووصفها في أخرى فقال: {مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ *} وفي الآية الأخرى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي حجارة من سجيل {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي من يجترئ على معاصي الله ويكذب رسله، وفي الآية الأخرى {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} يريد السجيل فإنه طين متحجر ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي المعتبرين بآثار هذه النقمة الظاهرة على تلك البلاد {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} ثابت يسلكه الناس {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} بالله ورسله.

(4/323)


(وعن ابن عباس مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وجدتموه» ظاهره مسلمًأ كان أو ذميًا (يعمل عمل قوم لوط) أي يأتي الرجال في أدبارها كما فعله قوم لوط (فاقتلوا الفاعل والمفعول به، رواه الخمسة) والحاكم والبيهقي وقال: رجاله موثقون، ولابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة نحوه وفيه أحصنا أو لم يحصنا وفيه ضعف، لكن قال ابن القطان ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» واتفقوا على أن البينة لا تثبت عليه إلا بأربعة شهود كالزنى، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه يثبت بشاهدين وعن أحمد نحوه.
(ولأبي داود) وابن ماجه وغيرهما (فارجموا الأعلى والأسفل) وفيه ضعف (وقال علي: حده الرجم) وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطيًا قال الشافعي: وبهذا نأخذ: يرجم اللوطي محصنًا كان أو غير محصن، وللبيهقي أيضًا عن علي وكان أبو بكر جمع الناس في رجل كان ينكح كما تنكح النساء، فسأل الصحابة فقال علي: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع الصحابة على أن يحرقه بالنار، وفي رواية: يرجم ويحرق، وعن ابن عباس: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به، ثم يتبع الحجارة، وكذا عن عمر وعثمان أنه يلقى عليه حائط، لأن الله قلب على قوم لوط بلادهم.
فدلت الأحاديث والآثار على قتل اللوطي محصنًا كان أو

(4/324)


غير محصن، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وحكي في الشفاء إجماع الصحابة على القتل، ومذهب مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد في أصح الروايتين عنه حده القتل بكل حال بل أطبق الصحابة على قتله، فحق مرتكب هذه الجريمة العظيمة أن يعاقب بما عاقب الله به من سبق، بكرًا كان أو ثيبًا، وقال الشيخ: الصحيح الذي عليه الصحابة أنه يقتل الأعلى والأسفل إن كان محصنين أو غير محصنين، فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به وعن ابن عباس يرجم، وعن علي نحوه.
ولم يختلف الصحابة في قتله وأمر أبو بكر وغيره بتحريقه، وغيره بقتله، وعن بعضهم يلقى، وبعضهم يرفع على أعلى جدار في القرية فيرمى منه، ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط، وهو رواية عن ابن عباس، والثانية يرجم، وعليه أكثر السلف، قالوا لأن الله رجم قوم لوط، ورجم الزاني مشبهًا برجم قوم لوط، وقال أيضًا: ويجب قتل الفاعل والمفعول به رجمًا بالحجارة، سواء كان محصنين أو غير محصنين، فيرجم الاثنان سواء كانا حرين أو مملوكين أو كان أحدهما مملوكًا والآخر حرًا، إذا كان بالغين، وإن كان أحدهما بالغًا والآخر غير بالغ عوقب بما دون القتل ولا يرجم إلا البالغ.
(وعنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (مرفوعًا: ادرءوا الحدود بالشبهات) أي ادفعوا إيجاب إقامة الحدود بالشبهات:

(4/325)


الإلباس، يقال: تشابهت الأمور واشتبهت التبست، لاشتباه بعضها ببعض، فلا تحدوا إلا بأمر متيقن لا يتطرق إليه التأويل (رواه البيهقي) وفيه ضعف، ويتأيد بخبر عائشة وغيره، فلابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا» وللترمذي من حديث عائشة «ادرءوا الحدود والقتل عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة».
وذكر الموفق أن الموقوف أصح قال: وروي عن غير واحد من الصحابة، أنهم قالوا مثل ذلك، مما يعتضد به مشروعية: ادرؤا الحدود بالشبهات المحتملة، لا المطلقة، وعذر عمر رجلاً زنا بالشام وادعى الجهل بتحريم الزنا، وكذا عثمان عذر جارية ادعت الجهل بتحريمه، وتقدم أن اتقاء الشبهة شرط من شروط إقامة الحد على الزاني، فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك أو محرمة برضاع أو نحوه أو لولده فيها شرك أو وطئ امرأة ظنها زوجته أو سريته ونحو ذلك مما تقدم وغيره وكذا ملوط به أكره عليه بالجاء أو تهديد أو منع طعام أو شراب مع اضطرار إليه وكذا الزنا لو أكرهت أو وطئت بشبهة.
(وللحاكم) ومالك والبيهقي وغيرهم وصححه ابن السكن (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا: اجتنبوا هذه القاذورات) جمع قاذورة كل فعل أو قول يستقبح كالزنى والشرب والقذف سميت قاذورات لأن حقها أن تقذر

(4/326)


فوصفت بما يوصف به صاحبها، وفيه: التي نها الله عنه (فمن ألم) بالتشديد أي نزل (بشيء) من القاذورات المنهي عنها (فليستتر بستر الله) الذي أسبله عليه ولا يظهره لنا (وليتب إلى الله) بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود قاله - صلى الله عليه وسلم - بعد رجم ماعز، وجلد بكرًا اعترف بالزنا، وقال هزال الأسلمي لما وقع ماعز على جارية له أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا هزال لوسترته بردائك لكان خيرًا لك» أي من أمرك به بإخباري لما في الستر على المسلم من الثواب الجزيل، المذكور في كثير من
الأحاديث.
(فإن من أدى لنا صفحته) أي فإن من يظهر لنا معاشر الحكام جانبه ووجهه وناحيته مما ستره الله عليه (نقيم عليه كتاب الله) أي الحد الذي حده في كتابه، والسنة من الكتاب، فعلى الشخص إذا فعل ما يوجب حدًا الستر على نفسه والتوبة، فهو أفضل من حد أو تعزير، فإن خالف واعترف عند الحاكم أقامه عليه، ويؤخذ من الحديث أنه لا ينبغي التجسس عليه، فلا يسترق السمع على داره ليسمع صوت الأوتار، ولا الدخول عليه لرؤية المعصية، إلا أن يظهر عليه ظهورًا يعرفه من هو خارج الدار، كصوت آلة اللهو والسكارى، ولا أن يستخبر جيرانه ليخبروه بما يجري في داره، وأنشد الغزالي.
لا تلتمس من مساوي الناس مستترًا ... فيكشف الله سترً عن مساويكا
وقال الماوردي: ليس له أن يقتحم ويتجسس، إلا أن

(4/327)


يخبره من يثق بقوله أن رجلا خلا برجل ليقتله، أو امرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرًا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات.

باب حد القذف
القذف هو الرمي بزنى أو لواط، فهو في الأصل الرمي ثم استعمل في السب والرمي بالزنى أو ما كان في معناه حتى غلب عليه، وقد دل على تحريمه الكتاب والسنة والإجماع، وإيجاب الحد دون الكفر تكذيبًا له وتبرئة للمقذوف، لا سيما إن كان امرأة، وأما الكفر فإن شاهد حال المسلم كاف في تكذيبه.
(قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}) أي: والذين يقذفون بالزنى المحصنات المسلمات الحرائر العاقلات العفيفات {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي ثم لم يأتوا على ما رموهن به بأربعة شهداء يشهدون عليهن بما رموهن به {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أي فاجلدوا كل واحد من الرامين ثمانين جلدة، ولا فرق بين الذكر والأنثى، وإنما خصهن لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} في أي واقعة كانت {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} عند الله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

(4/328)


قال ابن رشد وغيره: اتفقوا على أن القذف الذي يجب به الحد أن يرمي القاذف المقذوف بالزنى، أو ينفيه عن نسبه إذا كانت أمه حرة مسلمة، وأن القذف إذا كان بهذين المعنيين أنه إذا كان بلفظ صريح أوجب الحد واتفقوا على أن حد القذف ثمانون جلدة للقاذف الحر والعبد على النصف للآية وغيرها، ولأن الله لم يجعله كالحر من كل وجه، واتفقوا على أنه يثبت بشاهدين عدلين حرين ذكرين، ولا خلاف أن الإمام يقيمه، وأنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب.
واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد وقال الشيخ: إذا تاب قبل علم المقذوف هل تصح توبته؟ الأشبه أنه يختلف باختلاف الناس، وقال أكثر العلماء إن علم به المقذوف لم تصح توبته وإلا صحت، ودعا له واستغفر، وعلى الصحيح من الروايتين لا يجب له الاعتراف لو سأله فعرض ولو مع استحلافه لأنه مظلوم، وتصح توبته وفي تجويز التصريح بالكذب المباح هنا نظر، ومع عدم توبته وإحسان تعريضه كذب ويمينه غموس، واختيار أصحابنا لا يعلمه، بل يدعو له في مقابلة مظلمته.
(وقال) تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ} أي يقذفون بالزنى {الْمُحْصَنَاتِ} العفائف {الْغَافِلَاتِ} عما قذفن به من الفواحش، لم يقع فعلها في قلوبهن {الْمُؤْمِنَاتِ} بالله ورسوله وما يجب الاعتقاد به {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} يلعنهم المؤمنون في الدنيا والملائكة في الآخرة، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لعظيم ذنوبهم، فعظم

(4/329)


العذاب بالكم والكيف، وسجل عليهم {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} أي جزاءهم الواجب الذي هم أهله {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} حيث حقق لهم الجزاء الذي يشكون
فيه.
(وقال - صلى الله عليه وسلم - اجتنبوا السبع الموبقات) أي المهلكات، سميت موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا، لما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب (وذكر) من السبع (قذف المحصنات الغافلات المؤمنات) القذف الرمي البعيد، وفي الشرع الشتم والعيب والبهتان، والمحصنات هن اللاتي أحصنهن الله وحفظهن من الزنى، والمراد الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمتزوجات، بل حكم البكر كذلك إجماعًا إلا من دون تسع، وقذف غير المحصن يوجب التعزير، والقذف الرمي بزنى أو لواط، وكذا من شتم شخصًا فقال: أنت ملعون ولد زنى، وعليه الحد إن لم يقصد بهذه الكلمة ونحوها ما يقصده كثير من الناس من أنه المشتوم فعله خبيث كفعل ولد الزنا.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (قالت: لما نزل عذري) أي الآيات الدالة على براءتها، شبهتها بالعذر الذي يبرئ المعذور، وأولها {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر) فذكر ذلك (وتلا القرآن) أي تلا الآيات الواردة في شأنها (فلما نزل أمر برجلين) وهما حسان ومسطح (وامرأة) وهي

(4/330)


حمنة بنت جحش (فضربوا الحد) أي حد القذف ثمانين
جلدة.
(رواه الخمسة) وحسنه الترمذي. قال ابن رشد: اتفقوا على أن من شرط المقذوف أن يجتمع فيه خمسة أوصاف البلوغ والحرية والعفاف والإسلام، وأن يكون معه آلة الزنى فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف لم يجب الحد، والجمهور بالجملة على اشتراط الحرية في المقذوف، واتفقوا على أن من شرط القاذف البلوغ والعقل، سواء كان ذكرًا، أو أنثى حرًا أو عبدًا، مسلمًا أو غير مسلم، ويسقط بالعفو، ولا يستوفى بدون الطلب، ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه.
قال شيخ الإسلام: وقذف نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كقذفه، لقدحه في دينه، وإنما لم يقتلهم لأنهم تكلموا قبل علمه ببراءته، اهـ، وقذف نبي من الأنبياء كفر، وكذا قذف أمه لأنه ردة عن الإسلام وخروج عن الملة ويقتل ولو تاب، وكذا السب بغير القذف يسقط الإسلام إلا أنه من الكافر يسقط بالتوبة لإسلامه فتقبل التوبة كمن سب الله ثم تاب.
(وعن أنس) رضي الله عنه (أن شريك بن سحماء) سحماء هي أمه، وأبوه عبدة بن معتب العجلاني البلوي، حليف الأنصار (قذفه هلال بن أمية) أي قال هلال إن شريكًا زنى (بامرأته) أي امرأة هلال، ولا بينة له (فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: البينة) أي أقم البينة أربعة شهداء كما نص عليه القرآن (وإلا

(4/331)


فحد) أي وإلا فعقوبة قذفك حد (في ظهرك) ثمانين جلدة رواه أبو يعلى و (حسنه الحافظ) وفي الصحيح نحوه من حديث ابن عباس، فدل الحديث على وجوب الحد على من قذف مسلمًا، وأن الزوج يجب عليه الحد على ما ادعاه، إذا عجز عن إقامة البينة، أو يشهد أربع شهادات بالله مقام البينة، كما تقدم في اللعان قال ابن رشد.
وإن قذف جماعة فقالت طائفة: ليس عليه إلا حد، جمعهم في القذف، أو فرقهم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، وحجتهم قصة هلال، لاعن بينهما ولم يجد لشريك وذلك إجماع، وقال: اتفقوا على أنه إذا قذف شخصًا واحدًا مرارًا فعليه حد واحد، إذا لم يحد لواحد منها، وأنه إن قذفه فحد ثم قذفه ثانية حد ثانيًا.
(وحد عمر) رضي الله عنه (الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة) وهم أبو بكرة، وشبل بن معبد، ونافع بن الحارث وزياد لم يشهد بما شهدوا وحيث لم يكمل النصاب على الفعل حدوا، ولم يحد المغيرة، فدل على أن من قذف مسلمًا ولم يكمل على أنه إذا لم يكن شهود الزنا أربعة فإنهم قذفة يحدون إلا ما روي عن الشافعي في أحد قولية أنهم لا يحدون.
(وتقدم) في باب اللعان (أن من رمى ولد الملاعنة) أي قال

(4/332)


إنه ولد زنية ونحو ذلك (فعليه الحد) أي حد القذف ثمانين جلدة، وفي رواية: ومن دعاه ولد زنى جلد ثمانين، فدل على أن ولد الزنى كغيره إذا قذف حد قاذفه.

باب حد المسكر
أي الذي ينشأ عنه السكر، وهو أن يخلط في كلامه خلاف عادته، هذا مذهب الشافعي وأحمد، وقال مالك لا يعرف الحسن من القبيح، وقال أبو حنيفة: لا يعرف المرأة من الرجل وما أسكر فخمر، والخمر محرم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، واتفقوا على أن الخمرة حرام كثيرها وقليلها، وفيها الحد، واتفقوا على أنها نجسة، وأجمعوا على أن من استحلها حكم بكفره.
(قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} وهو كل ما خامر العقل {وَالْمَيْسِرُ} وهو القمار {وَالْأَنْصَابُ} يعني الأوثان {وَالْأَزْلَامُ} وهي القداح كانوا يستقسمون بها {رِجْسٌ} أي خبيث مستقذر، وإثم وشر {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} من تزين الشيطان {فَاجْتَنِبُوهُ} أي اتركوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ} يعني في الخمر إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أي عن إتيانها فأخبر تعالى: أن ذلك من الشيطان بتزيينه وتسويله، أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في

(4/333)


الخمر، وذلك أنه إذا شرب سكر فعربد وشاجر؛ وأما الميسر فالعداوة فيها والبغضاء أنه إذا قامر بقي حزينًا مسلوب المال مغتاظًا على حرمانه {وَيَصُدَّكُمْ} يعني الخمر والميسر والأنصاب والأزلام {عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر وفعل القمار ألهاه عن ذكر الله وشوش عليه صلاته {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وهذا تهديد وترهيب عن شرب الخمر وهو ما أسكر كما يأتي «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».
(وعن أنس) بن مالك رضي الله عنه (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «كل مسكر خمر» ورجح الراغب وغيره أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرًا، لأنها سميت بذلك لمخامرتها للعقل وسترها له، وهو قول جمهور أهل اللغة، وحكى ابن عبد البر عن أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم أن كل مسكر خمر، وذكر القرطبي أن الأحاديث تبطل قول الكوفيين أن الخمر لا يكون إلا من العنب، وأنه قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة، فإنهم فهموا من الأمر بالاجتناب تحريم كل ما يسكر، قال - صلى الله عليه وسلم - «وكل خمر حرام» فحده - صلى الله عليه وسلم - بحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر (رواه مسلم) وهو أيضًا في الصحيحين من غير وجه بهذا اللفظ وبلفظ: «كل مسكر خمر» «كل مسكر حرام» «كل شراب أسكر فهو حرام» فكل مسكر يقال له خمر ويحكم بتحريمه، ولا يباح شربه للذة ولا لتداو ولا عطش ولا غيره، واستثنى بعضهم دفع لقمة غص بها ولم يحضره غيره

(4/334)


(وللخمسة عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعًا: ما أسكر كثيره) من عنب أو غيره (فقليله حرام) لعلة سكره، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن كل شراب يسكر قليله وكثيره: حرام، ويسمى خمرًا وفيه الحد وسواء كان ذلك من عصير العنب النيء، أو مما عمل من التمر والزبيب والحنطة والشعير والذرة والأرز والعسل والجوز ونحوها، مطبوخًا كان ذلك أو نيئًا، إلا أبا حنيفة فيسمى بعضها نقيعًا وبعضها نبيذًا لا خمرًا، ويحرم المسكر منه، ويجب به الحد، واتفقوا على أن المطبوخ من عصير العنب، إذا ذهب أقل من ثلثيه فإنه حرام، وإذا ذهب ثلثاه فإنه حلال، إلا ما أسكر فإنه إذا كان يسكر حرام قليله وكثيره، وأن عصير العنب إذا اشتد وقذف بالزبد فهو خمر.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (قال) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أسكر كثيره (فملء الكف منه حرام) أي شربه إذا كان فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه لقلته، وفيه أيضًا تحريم كل مسكر سواء كان من عصير العنب أو غيره، وقال المازري: أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال، وعلى أنه إذا اشتد وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو تخلل بنفسه حل إجماعًا، فغلب التحريم الإسكار، وكل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناوله قليله

(4/335)


وكثيره، والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
(وقال عمر) رضي الله عنه في تعريف الخمر (الخمر ما خامر العقل) أي ستره وغطاه وخالطه حتى غلب عليه، والخمر في الأصل الستر، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها والتغطية ومنه «خمروا آنيتكم» أي غطوها، والمخالطة ومنه «خامره داء» أي خالطه، ومنه اختمر العجين، قال: ابن عبد البر، الأوجه كلها موجودة في الخمر لأنها تركت حتى خمرت وسكتت فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه
وتغطيه.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا لعن الله الخمر) اللعن الطرد والإبعاد وبالقول كما تقدم (وشاربها) أي ولعن الله شاربها (وساقيها) أي لغيره (وبائعها) فيحرم بيع المسكر (ومبتاعها) أي مشتريها (وعاصرها) له أو لغيره (ومعتصرها) أي من عصرت له (وحاملها) لمشتر أو شارب (والمحمولة إليه) وآكل ثمنها، وكذا بائع العنب من العاصر (رواه أبو داود) والحاكم، ورواه ابن ماجه عن أنس، وقال المنذري رواته ثقات، وتحريم الخمر جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أوجه بلغت حد التواتر وأعظمهم إثمًا الشارب، ثم الآكل ثمنها، ثم البائع، ثم الساقي، ودل الحديث على تحريم بيع المسكر، وفيه النبي عن التسبب إلى الحرام، قال الشيخ: ويحرم بيع الحشيشة ويعزر بائعها وآكلها.

(4/336)


(وله عنه) أي عن ابن عمر رضي الله عنهما (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من شرب الخمر فاجلدوه» أي إذا شربه المسلم مختارًا عالمًا أن كثيره يسكر، فدل الحديث على وجوب جلد شارب الخمر، ويثبت بإقراره مرة أو بشاهدين عدلين، قال ابن القيم: وحكم عمر وابن مسعود بوجوب الحد برائحة الخمر في الرجل، أو في قيئه، ولم يعلم لهما مخالف، وقال الشيخ: فمن قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة به، أو إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة.
(وللترمذي) والنسائي (عن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعًا إن شرب الخمر فاجلدوه) أي حدوا شارب الخمر، وقال: «إن شرب الثانية فاجلدوه، وإن شرب الثالثة فاجلدوه» أي حد الشارب (فإن عاد في الرابعة فاقتلوه) ولأحمد وأبي داود وابن ماجه من حديث معاوية نحوه، ولأحمد أيضًا نحوه من حديث عبد الله بن عمرو، ولأبي داود من حديث قبيصة مثله، ففي هذه الأحاديث الأمر بقتله، بعد الرابعة (قال ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله) ولأحمد وغيره من حديث أبي هريرة نحو ما تقدم، وزاد: قال الزهري: فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسكران في الرابعة فخلى سبيله، أي لم يقتله.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يقتل، وأن القتل منسوخ،

(4/337)


وقال الشافعي منسوخ بهذا الحديث وغيره، وذكر أنه لا خلاف في ذلك بين أهل العلم، وحكى المنذري عن بعض أهل العلم أنه قال: أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر، وأجمعوا على أنه لا يقتل إذا تكرر منه، إلا طائفة شاذة قالت يقتل بعد حده أربع مرات للحديث، وهو عند الكافة منسوخ، وذكر الترمذي أنه لا يعلم في ذلك اختلافًا بين أهل العلم، وقال الشيخ: يقتل شارب الخمر في الرابعة عند الحاجة إلى قتله إذا لم ينته الناس بدونه.
(وعد علي) بن أبي طالب رضي الله عنه (أربعين) جلدة وذلك أنه أتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، ثم قال عثمان: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها من تولى قارها، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك (ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين) فلمسلم عن أنس نحو أربعين. (و) جلد (أبو بكر أربعين) وهو في الصحيحين من حديث أنس (و) جلد (عمر ثمانين) بعد أن استشار فيه الناس (والكل سنة) أي كل واحد من الأربعين والثمانين سنة.
(وهذا أحب إلي رواه مسلم) وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، وقد قيل الإشارة إلى فعل عمر وهو الثمانون وظاهر

(4/338)


قوله أمسك بعد الأربعين دال على أنه لم يفعل الأحب إليه، وفي صحيح البخاري: أن عليًا جلد الوليد ثمانين، والقصة واحدة، وكأنه بعد أن قال: وهذا أحب إلي، أمر عبد الله بتمام الثمانين، فهو أحب إليه مع جرأة الشاربين، لا أن فعل عمر أولى من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر.
(ولهما) أي البخاري ومسلم (عن أنس) رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل قد شرب الخمر) وتقدم أن الخمر كل مسكر (فجلده بجريدتين) والجريد سعف النخل ويجوز بالعود غير الجريد، فجلده بها (نحو أربعين) وفي رواية لأبي داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال، وقد استقر الإجماع على ثبوت حد الخمر (وفعله أبو بكر) أي ضرب أبو بكر في الخمر أربعين، وهو مذهب جماهير العلماء (فلما كان عمر) رضي الله عنه (استشار الناس) وقال: إن الناس قد دنوا من الريف، وغالب الناس قد انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة، وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم (فقال عبد الرحمن بن عوف) نرى أن تجعله كأخف الحدود، وقال: (أخف الحد ثمانون) ولأبي داود: فأجمعوا على أن يضرب ثمانين، وهو أخف الحدود (فأمر به عمر) تغليظًا عليهم وزجرًا لهم عن شرب الخمر.
فدل الحديث أولاً على ثبوت الحد على شارب الخمر بالجريد ونحوه، وهو مذهب الجمهور، وقال النووي: أجمعوا

(4/339)


على جواز الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب، والأصح جوازه بالسوط، وقال الوزير: اتفقوا على أنه يقام بالسوط، إلا ما روي عن الشافعي، وإن مات من ضربه فقال مالك وأحمد لا ضمان على الإمام، وقال الشافعي، إذا كان بأطراف الثياب ونحوها لا يضمن واتفقوا على أن الواجب المقدر لا تضمن سرايته، لأنه واجب عليه ويأتي تمام الكلام فيه، وأما أمر عمر بالثمانين فلانهماك أكثر الناس فيه وتهالكهم عليه، فرآه رضي الله عنه عقوبة، وزجرًا ليرتدعوا عنه.
(ولأبي داود) نحو ما تقدم (عن ابن أزهر) هو عبد الرحمن بن أزهر القرشي، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، وفيه قال: (ثم أثبته معاوية) بن أبي سفيان أمير المؤمنين رضي الله عنه، أي عين الحد ثمانين وأقره ولم ينكر عليه، وفي رواية لأبي داود عنه: لما كان عمر كتب إليه خالد: إن الناس قد انهمكوا في الشرب، وتحاقروا العقوبة وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم فأجمعوا على أن يضربه ثمانين.
(وللبخاري) في صحيحه بسنده (عن السائب) بن يزيد رضي الله عنه (حتى إذا عتوا فيها) أي انهمكوا وبالغوا في شرب الخمر (وفسقوا) أي خرجوا عن الطاعة، وأول الخبر قال السائب: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين حتى إذا عتوا وفسقوا (جلد عمر) رضي الله عنه (ثمانين) وجمهور العلماء أبو حنيفة

(4/340)


ومالك وأحمد وأحد قولي الشافعي أنه يجب الحد على السكران ثمانين جلدة، وقالوا: لقيام الإجماع عليه في عهد عمر، فإنه لم ينكر عليه أحد.
وقال ابن القيم: الحق عمر حد الخمر بحد القذف، وأقره الصحابة وقال الشيخ: الصحيح أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق، ولا محرمة على الإطلاق بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه بالجريد والنعال وأطراف الثياب، بخلاف بقية الحدود واستظهر أن الأربعين الأخر في حد الشرب تعزير للإمام أن يفعله، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية، وقال أيضًا: حد الشرب ثابت بالسنة وإجماع المسلمين أربعين، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر. وكان ممن لا يرتدع بدونها ونحو ذلك وأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون، وهذا أثبت القولين (وقال ابن شهاب) الزهري رحمه الله (بلغني أن عمر وعثمان) بن عفان في حال واليتهما (وابن عمر جلدوا عبيدهم) أي بأنفسهم (نصف الحد في الخمر رواه مالك) وأجمعوا على أنهم على النصف من حد الأحرار على أصل كل منهم.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبذ له الزبيب) أي يترك عليه الماء (في السقاء) ليصير نبيذًا، وانتبذ اتخذ نبيذًا 0فيشربه يومه ذلك) أي اليوم الذي ينبذ فيه (والغد) أي من اليوم الثاني (وبعد الغد) أي مساء اليوم

(4/341)


الثاني، وأول اليوم الثالث (فإذا كان مساء الثالثة) من نبذه في السقاء (شربه وسقاه فإن فضل منه شيء أهرقه) أي يصب، وفي رواية سقاه الخادم، أو أمر بصبه، وذلك بأنه بدأ فيه بعض تغير في طعمه من حموضة أو نحوها فيسقيه الخادم مبادرة لخشية الفساد ما لم يشتد وإن اشتد أمر بإهراقه.
(رواه مسلم) ونحوه في السنن، وفي لفظ من حديث عائشة ينبذ في سقاء يوكأ أعلاه ينبذ غدوة فيشربه عشاء، وينبذ عشاء فيشربه غدوة، وله ألفاظ أخر فدل الحديث على جواز الانتباذ، ولا نزاع في جوازه، وأنه لا يجوز متى اشتد، وأجمعوا على جواز شرب عصير العنب ما لم يشتد ويقذف بالزبد، فإذا اشتد حرم شربه للعلة التي لأجلها حرم الخمر.

باب التعزير
التعزير مصدر عزره يعزره تعزيرًا من العزر وهو الرد والمنع واللوم وشرعًا تأديب على ذنب لا حد فيه، ويسمى تعزيرًا لدفعه، ورده عن فعل القبيح، ويكون بالقول والفعل على حسب ما يقتضيه حال الفاعل، بخلاف الحد، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فتعزير ذوي الهيئات أخف، ويستوون في الحدود مع الناس، وتجوز فيه الشفاعة دون الحدود، والتألف به مضمون عند الشافعي وأحمد، وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، راجع إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب الحاجة والمصلحة في كل زمان ومكان، وهو أصل من

(4/342)


أصول الشريعة الآتية بالحكم والمصالح، والغايات المحمودة في المعاش والمعاد.
(عن أبي بردة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يجلد) روي مبنيًا للمجهول وللمعلوم ومجزومًا ومرفوعًا (فوق) أي أعلى من (عشرة أسواط) وفي رواية: عشر جلدات، وفي رواية: لا عقوبة فوق عشر ضربات، (إلا في حد من حدود الله) أي إلا ما عين الشارع فيه عددًا من الضرب (متفق عليه) فدل الحديث على أنه لا يجوز التعزير بما فوق عشرة أسواط، وهو مذهب أحمد وغيره، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى جواز الزيادة، وهو رواية عن أحمد إلا أنه لا يبلغ بها أدنى الحدود ويحتمل كلام أحمد أنه لا يبلغ بكل جناية حدًا مشروعًا في جنسها.
ورجح الشيخ وابن القيم وغيرهما أن التعزير بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة، فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله، فقد قتل عمر بن عبد العزيز غيلان القدري، وكذا من لا يزول فساده إلا بالقتل، قال ابن القيم: والمنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - يوافق ذلك، فإنه أمر بالذي وطئ جارية امرأته، وقد أحلتها له مائة جلدة، وأبو بكر وعمر أمرا بجلد من وجد مع امرأة أجنبية في فراش مائة، وعمر ضرب الذي زور عليه خاتمه، فأخذ من بيت المال مائة ثم مائة، ثم في اليوم

(4/343)


الثالث مائة، وعليه يحمل خبر «من شرب الخمر في الرابعة فاقتلوه» اهـ.
ومما يجب فيه التعزير كمباشرة دون فرج، وسرقة لا قطع فيها، وجناية لا قود فيها، والقذف بغير الزنى، وشتم بغير الزنى، وإتيان المرأة المرأة، وكالغضب والنهب والاختلاس ونحو ذلك، ولا يحتاج في إقامته إلى مطالبة، وأما الحدود المتفق عليها فحد الزنى والسرقة، وشرب الخمر، وحد المحارب وحد القذف بالزنى، والقتل في الردة، والقصاص في النفس، وأما سوى ذلك، كالقصاص في الأطراف واللواط ونحوه فاختلف فيه أهل العلم وتقدم.
(وللبخاري) في صحيحه (عن علي) رضي الله عنه
(قال: ما كنت لأقيم على أحد حدًا) ممن اقترف ما يوجبه (فيموتَ) بالنصب وكذا (فأجد في نفسي) أي حزنًا عليه
(إلا صاحب الخمر) أي شاربها (فإنه لو مات وديته) بتخفيف الدال وسكون الياء، أي غرمت ديته لمن يستحق قبضها، فدل الحديث على أن الخمر لم يكن فيه حد محدود من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من باب التعزيرات فإن مات ضمنه الإمام، وكذا كل
معزر يموت بالتعزير يضمنه الإمام، وهذا مذهب جمهور
العلماء، فإنه إذا أعنت في التعزير وهو غير مأذون فيه من أصله يضمن، بخلاف الإعنات في الحد، للإذن فيه من أصله لأن الإعنات للخطأ في صفته، وفي آخر الحديث: «لأن

(4/344)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه» يريد والله أعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - جلد جلدًا غير مقدر، ولا تقررت صفته بالجريد والنعال والأيدي، وأما من مات في حد من الحدود غير الشرب، فقال النووي: أجمع العلماء على أنه إذا جلد الإمام أو جلاده فمات فإنه لا دية ولا كفارة على الإمام ولا على جلاده، ولا بيت المال.
(وخبر النعمان) بن بشير الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه جاء من طرق بألفاظ متعددة (فيمن وطئ جارية امرأته) قال - صلى الله عليه وسلم - «إن كانت أحلتها لك» أي جعلت جاريتها حلالاً لك وأذنت لك فيها «جلدتك مائة» قال ابن العربي: يعني أدبته تعزيزًا وأبلغ به الحد تنكيلا، وفي لفظ لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه فوجدوها قد أحلتها له فجلد مائة.
(رواه أبو داود) وأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وروي عن غير واحد أن عليه الرجم، وقال ابن مسعود: ليس عليه حد ولكن يعزر وذهب الإمام أحمد إلى ما رواه النعمان وقال الشوكاني، هو الراجح لأن الحديث وإن كان فيه مقال فأقل أحواله أن يكون شبهة: يدرأ بها الحد اهـ ولا يسقط حد بإباحة في غير هذا الموضع، قال الشيخ: لو أحلت المرأة لزوجها أمتها إن ظن جوازه لحقه الولد، وإلا فروايتان، ويكون حرًا على الصحيح إن ظن حلها بذلك.
(وقال عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (في رجل وطئ أمة له فيها شرك) أي حصة ونصيب (يجلد الحد إلا سوطًا) أي

(4/345)


فلا يبلغ به الحد كاملاً، لشبهة الشركة، فجعله تعزيزًا رادعًا لهذا وأمثاله، وتقدم أن التعزير بحسب المصلحة.
(وروي أنه) أي أن عمر رضي الله عنه (ضرب رجلاً مائة) أي مائة جلدة (على عملة خاتمًا على نقش خاتم بيت المال) وأخذ من بيت المال (وكلم فيه) إذا لم ينته (فضربه أخرى) فلم ينته عن الأخذ من بيت المال (ثم نفاه) فدل على أن التعزير بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة، قال الشيخ وتلميذه وغيرهما من السلف: التعزير منه ما يكون بالتوبيخ، ومنه ما يكون بالحبس ومنه ما يكون بالنفي من الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، وإذا كان على ترك واجب كأداء الديون والأمانات والزكاة والصلاة فإنه يضرب مرة بعد مرة، حتى يؤدي الواجب، وعلى جرم ماض فعل منه مقدار الحاجة، وليس لأقله حد.
واختلف في أكثره على أقوال، أحدها أنه عشر جلدات، والثاني أقل الحدود، والثالث أنه بحسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، فيجتهد فيه ولي الأمر، والرابع وهو أحسنها أنه لا يتقدر لكن إن كان التعزير فيه مقدر فلا يبلغ على المباشرة حد الزنا، ولا السرقة من غير قطع حد القطع ونحو ذلك، وهذا أعدل الأقوال، وعليه دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بضرب الذي أحلت له امرأته جاريتها مائة جلدة، ودرأ عنه الحد بالشبهة، وأمر أبو بكر وعمر بضرب رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة، وأمر بضرب الذي

(4/346)


نقش على خاتمه وأخذ من بيت المال مائة، ثم في اليوم الثاني مائة، وفي الثالث مائة، وضرب صبيغًا ضربًا كثيرًا لم يعد.
ومن لم يندفع فساده في الأرض، إلا بالقتل يسوغ بالقتل مثل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى غير كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقال «العمل في السلطنة الشرعية بالسياسة هو الحزم، فلا يخلو منه إمام ما لم يخالف الشرع، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريق فثم شرع الله، فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي شرع حق، فقد حبس - صلى الله عليه وسلم - في التهمة وعاقب في التهمة لما ظهرت آثار الريبة، فمن أطلق كلا منهم وخلا سبيله أو حلفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، فقوله مخالف للسياسة الشرعية».
وقال: يجوز التعزير بأخذ المال وإتلافه، فالتعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع مخصوصة، كسلب الذي يصطاد في حرم المدينة، وكسر دنان الخمر، وشق ظروفه، وكهدم مسجد الضرار، وتضعيف الغرم على من سرق من غير حرز، وإحراق متاع الغال، وحرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير، قال: ومن ادعى أنه منسوخ بالإجماع فقد غلط، ومحال أن الإجماع ينسخ السنة، ولو ثبت لكان دليلاً على نص ناسخ، وقول عمر وعلي والصحابة ومالك وأحمد أولى بالصواب بل

(4/347)


هو إجماع الصحابة، فإن ذلك اشتهر عنهم في قضايا متعددة جدًا ولم ينكره منهم منكر.
وعمر يفعله بحضرتهم وهم يقرونه ويساعدونه عليه، ويصوبونه في فعله، وذلك في تحريقه قصر سعد بن ابي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية، وتحريقه هو وعلي المكان الذي يباع فيه الخمر، وقال ابن القيم وغيره: من استمنى بيده بغير حاجة عزر إذا قدر على التزوج أو التسري، وقال ابن عقيل: إذا كان بغير شهوة حرم عليه، لأنه استمتاع بنفسه، والآية تمنع منه، وإن كان مترددًا بين الفتور والشهوة كره، وإن كان مغلوبًا يخاف العنت كالأسير والمسافر والفقير جاز، نص عليه أحمد، وروى أن الصحابة كانوا يفعلونه في غزواتهم وأسفارهم.
قال ابن القيم: والصحيح أنه لا يباح أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أرشد صاحب الشهوة إلى الصوم، وكذا قال الشيخ يحرم عند عامة العلماء، لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف الزنا أو المرض إن لم يفعله فرخص فيه في هذه الحال طوائف من السلف، وذكر غير واحد من الفقهاء أنه يحبس العائن وجوبًا، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، لأنه من نصيحة المسلمين وكف الأذى عنهم.
(وعن عائشة) رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقيلوا) أمر من الإقالة أي أعفوا (ذوي الهيئات) أي ذوي الأقدار بين الناس، وأصحاب المروءات، والخصال الحميدة

(4/348)


(عثراتهم) أي زلاتهم والهيئة الحالة التي تكون على الإنسان من الأخلاق المرضية، فإن الله خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم فمن كان منهم مستورًا مشهورًا بالخير، حتى كبا جواده، ونبا عضب صبره، وأديل عليه، غلبة شيطانه، فلا يسارع إلى تأديبه وعقوبته، بل تقال عثرته (إلا الحدود) أي إلا ما يوجب الحدود فإنه يتعين استيفاؤها من الشريف، كما يتعين أخذها من الوضيع (رواه أبو داود) وأحمد والنسائي والبيهقي وله طرق يشد بعضها بعضًا.
(وقال) - صلى الله عليه وسلم - (لرجل) قيل هو كعب بن عمرو (أصاب من امرأة ما دون الوطء) ولفظه: أصبت منها ما دون الوطء (فقال: أصليت معنا؟) وفي لفظ: أليس قد صليت معنا؟ (قال: نعم) أي صليت معكم (فتلى عليه) {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الليْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فقال رجل من القوم أله خاصة أم للناس كافة؟ فقال: «للناس كافة» وأصله في الصحيحين وغيرهما إن كانت القصة واحدة.
وما في الصحيحين من حديث أنس: أصبت حدًا ولم يسمه ولم يسأله، ومن حديث أبي أمامة نحوه ومن حديث ابن مسعود معناه ما تقدم، ومذهب الجمهور أن المراد بالحد المطلق غير حد الزنا ونحوه، وحديث ابن مسعود مفسر ما أبهم وإن كانت متعددة فظاهر الحديث الصحيح يوجب العمل بالظاهر، وأن الصلاة تكفر ما يصدق عليه أنه يوجب الحد وأن من أقر

(4/349)


بحد ولم يفسره لا يطالب بالتفسير، ولا يقام عليه الحد.

باب القطع في السرقة
وهي أخذ مال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع واتفقوا على وجوبه في الجملة إذا جمع أوصافًا منها المسروق الذي يقطع في جنسه، ونصاب السرقة، وأن يكون السارق على أوصاف مخصوصة، وأن تكون السرقة على أوصاف مخصوصة، وأن يكون المسروق منه مخصوصًا، ومن حكمته تعالى أنه كلما كانت نعمه على العبد أتم، كانت عقوبته، إذا ارتكب الجرائم، أكبر جمعًا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه، فحيث كانت الجناية بسرقة الأموال دون الجناية على الأبدان، وهي دونه، جعل عقوبتها قطع الطرف، كما أن القذف لما كان دون ذلك جعلت عقوبته الجلد، وحيث كان شرب المسكر أقل مفسدة، جعلت عقوبته دون ذلك.
والسارق إنما قطع دون المنتهب والمختلس، لأنه لا يمكن التحرز منه، فصان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب.
(قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} قدم السارق لوجود السرقة غالباً في الذكور، وقال {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقرأ ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما" قال الشيخ: وبذلك مضت السنة اهـ. والحكم عند جميع أهل العلم موافق لهذه القراءة لا بها،

(4/350)


فالقراءة عند الجمهور {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} واتفق أهل العلم على وجوب قطع السارق والسارقة إذا جمع أوصافًا تأتي إن شاء الله تعالى.
فتقطع يمناه من مفصل الكف، لقول أبي بكر وعمر: تقطع يمين السارق من الكوع، وتحسم وجوبًا لما روي مرفوعًا «اقطعوه واحسموه» وذلك بغمسها في زيت مغلي لينقطع الدم؛ واختار الشيخ وغيره عدم اشتراط مطالبة المسروق منه بماله لهذه الآية، وهو مذهب مالك، كإقراره بالزنا بأمة غيره، وقال: الذي غرضه سرقة أموال الناس ولا غرض له في شخص معين، فإن قطع يديه واجب ولو عفا عنه رب المال.
وقال الوزير: أجمعوا على أن السارق إذا وجب عليه القطع وكان ذلك أول سرقته، وهو صحيح الأطراف أنه يبدأ بقطع يده اليمنى من مفصل الكف ثم يحسم اهـ، ولهذا قال تعالى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} أي مجازاة على صنيعهما {نَكَالًا مِنَ اللهِ} أي تنكيلاً من الله بهما، على ارتكاب ذلك العمل السيء {وَاللهُ عَزِيزٌ} في انتقامه {حَكِيمٌ} في أمره وشرعه وقدره.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعن الله السارق) تقدم أن اللعن يكون بالفعل ويكون بالقول (يسرق البيضة) وللكشميهني بيضة الحديد (فتقطع يده) من أجلها (ويسرق الحبل فتقطع يده أي من أجل سرقته (متفق

(4/351)


عليه) ولمسلم «إن سرق بيضة قطعت يده، وإن سرق حبلاً قطعت يده» وذلك أنها لما خانت هانت، وإن كانت في باب الجنايات بخمسمائة دينار، فإنها لما كانت أمينة كانت ثمينة وذلك من حكمة الله تعالى والمصلحة ففي باب الجنايات ناسب أن تعظم، لئلا يجني عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار، لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فاحتاط الشارع للموضعين، للأموال والأطراف، وظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين، قال الشافعي رحمه الله:
هناك مظلومة غالت بقيمتها ... وههنا ظلمت هانت على الباري
فدل الحديث على أنها تقطع يد السارق في نحو البيضة والحبل، إذا بلغت قيمته ربع دينار فصاعدًا وفيه تحقير شأن السارق وتهجين فعله، وتعظيم ما جني على نفسه وخسارة ما ربحه من السرقة، بما تقل قيمته، وأنه إذا تعاطى هذه الأشياء الحقيرة، وصار ذلك خلقًا له، جرأه على سرقة ما هو أكثر من ذلك مما يبلغ قدره أضعاف أضعاف ما قدره الشارع.
(ولهما عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن) بكسر الميم وفتح الجيم الترس، أي أمر بقطع سارق مجن (قيمته ثلاثة دراهم) وفي لفظ لهما عن عائشة: لم تقطع على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في ثمن مجن حجفة أو ترس، فالمعتبر قيمته، وفي لفظ ثمنه ثلاثة دراهم، ولعله لتساويهما في ذلك

(4/352)


الوقت، أو في عرف الراوي، أو باعتبار الغلبة، وإلا فالمعتبر القيمة، ولابن أبي شيبة عن عروة، كان السارق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ثمن المجن، وكان المجن يومئذ له ثمن، ولم يكن يقطع في الشيء التافه.
(وفيهما عن عائشة) رضي الله عنها (مرفوعًا: لا تقطع يد سارق) وفي رواية لم تكن تقطع (إلا في ربع دينار فصاعدًا) وهذا مذهب الجمهور، ولا تقطع فيما لا تبلغ قيمته ربع دينار، ولأحمد «ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» وفي تخصيص القطع بهذا القدر حكمة ظاهرة، فإنها كفاية المقتصد في يومه، له ولمن يمونه غالبًا؛ ولأنه لابد من مقدار يجعله ضابطًا لوجوب القطع، والجمهور على اشتراط النصاب، ربع دينار من الذهب، وثلاثة دراهم من الفضة، لهذا الحديث، وحديث ابن عمر وغيرهما.
وأتى عثمان بسارق سرق أترجة قومت بثلاثة دراهم، من حساب الدينار باثني عشر، فقطع وعلي قطع في ربع دينار، قال الشافعي: ربع الدينار موافق الثلاثة الدراهم، وذلك أن الصرف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر درهمًا بدينار، وكان كذلك بعده، ولهذا قومت الدية اثنى عشر ألفًا من الورق، وألف دينار من الذهب.
قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة يحصل لكل واحد منهم نصاب، أن على كل واحد منهم القطع.

(4/353)


(وعنها) أي عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأسامة) بن زيد رضي الله عنهما، وذلك أن قريشًا أهمهم أمر المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من يجترئ عليه إلا أسامة، فكلمه فيها، فقال: «أتشفع في حد من حدود الله» أي أن يترك وكان قد سبق علم أسامة بأنه لا شفاعة في حد.
فاستفهامه استفهام إنكار (ثم خطب فقال: أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم) من الأمم الماضية (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه) فلم يقيموا عليه الحد (وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) وجاء "وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه" (متفق عليه) وفيه "وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" وهي رضي الله عنها قد أعاذها الله من أن تسرق، وإنما قاله مبالغة في تثبيت إقامة الحد.
فدل الحديث على النهي عن الشفاعة في الحدود وفي رواية أنه قال لأسامة لما شفع «لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة» ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» ومن حديث ابن عمر «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره». وقال الوزير: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع، ويأتي قوله لصفوان «هلا كان ذلك قيل أن تأتيني به» وغير ذلك مما فيه النهي عن الشفاعة في الحدود إذا

(4/354)


بلغت السلطان، مما تعاضدت على تحريم الشفاعة بعد البلوغ إلى الإمام وأنه يجب على الإمام إقامة الحد، وحكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك.
وحكى الاتفاق على جواز الشفاعة في التعزيرات لا في الحدود وقال: لا أعلم خلافًا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة، ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته، وذكر عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف بأذاهم أنه لا بأس بالشفاعة فيه ما لم تبلغ
السلطان.
(ولمسلم عنها) رضي الله عنها قالت: (كانت امرأة تستعير المتاع) هي المخزومية واسمها فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد، عمها أبو سلمة، وكانت تستعير الحلي كما في النسائي وغيره (وتجحده فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها).
وفي مصنف عبد الرزاق: أن فلانة تستعير حليًا فأعارتها إياه فمكثت لا تراه فجاءت إلى التي استعارت لها فسألتها، فقالت: ما استعرتك شيئًا، فرجعت إلى الأخرى فأنكرت فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألها فقالت: ما استعرت منها شيئًا فقال: «اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها» فأتوه وأخذوه فأمر بها
فقطعت.
فدل الحديث على أنه يجب القطع على جحد العارية، وهو مذهب أحمد، وقال لا أعرف شيئًا يدفعه، والجمهور على خلافه

(4/355)


ورده ابن القيم، وقال الجحد داخل في اسم السرقة، وهو الصحيح لموافقة القياس والحكمة فلا يمكن المعير الإشهاد، ولا الإحراز بمنع العارية شرعًا وعادة وعرفًا ولا فرق بين من توصل إليه بالسرقة أو العارية وجحدها، وقال: ضرره مثل ضرر السارق أو أكثر، وترتيب القطع على جاحدها طريق إلى حفظ أموال الناس.
(وعن أبي أمية) المخزومي رضي الله عنه، عداده في أهل الحجاز، روى عنه أبو المنذر هذا الحديث (قال أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلص) أي جيء بسارق (قد اعترف) اعترافًا أي أقر إقرارًا صحيحًا (ولم يوجد معه متاع) أي من المسروق منه (فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما إخالك) بكسر الهمزة أي ما أظنك (سرقت) قاله درءًا للقطع وتلقينًا للرجوع عن الاعتراف (قال: بلى) أي قال: سرقت (فأعاد عليه) النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين أو ثلاثًا) شك من الراوي، وجيء بالسارق (فأمر به فقطع) وقال: استغفر الله (رواه أبو داود) وأحمد والنسائي وابن ماجه، وقال الحافظ: رجاله ثقات.
فدل الحديث على الاستثبات في حقه، لاحتمال ظنه القطع، ومذهب أحمد أنه لا يقطع إلا بإقراره مرتين، ويأتي أن سارقًا أقر عند علي مرتين فأمر بقطعه.
وعن أحمد يثبت بإقراره مرة، وهو مذهب الجمهور أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم، فلا يفتقر إلى التكرار لقصة

(4/356)


سارق رداء صفوان وغيره، لكن يعتبر أن يصف السرقة فيذكر شروطها من النصاب والحرز وإخراجها منه، وأنه لا شبهة له في المسروق، ولا يقطع إلا بشهادة عدلين يصفان السرقة، بذكر شروطها، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان، ووصفا ما يوجب القطع.
وقال ابن القيم: ولم يزل الخلفاء والأئمة يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نص صريح، لا يتطرق إليه شبهة، وذكر في قصة حيي إقرار المكره إذا ظهر معه المال، وأنه إذا عوقب وظهر عنده قطعت يده، قال: وهو الصواب بلا ريب، لوجود المال، وقال الشيخ في تقديم القيافة، مثل أن يدعي أنه ذهب من ماله شيء، ويثبت ذلك، فيقص القائف أثر الوطء من مكان إلى آخر، فشهادة القائف أن المال دخل إلى هذا الموضع، توجب أحد أمرين، إما الحكم وإما أن يكون لوثًا يحكم به مع اليمين للمدعي، وهو الأقرب. فإن هذه الأمارة ترجح جانب المدعي، واليمين مشروعة في أقوى الجانبين اهـ. وإن ادعى السارق أن ما أخذه من الحرز ملكه، بعد قيام البينة، فقال أحمد وأبو حنيفة لا يقطع، وسماه السارق الظريف، قال أحمد: ما لم يكن معروفًا بالسرقة.

(4/357)


(وللحاكم من حديث أبي هريرة) أي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اذهبوا به)» أي بالسارق «فاقطعوه» أي اقطعوا يده اليمنى لما تقدم «ثم احسموه» بالمهملتين، والحسم الكي بالنار، أي يكوي محل القطع لينقطع الدم، لأن منافذ الدم تنسد، وإذا ترك فربما استرسل الدم فأدى إلى التلف، ويحسم بزيت أو دهن مغلي، لتنسد أفواه العروق فينقطع الدم، والحديث أيضًا رواه البزار، وقال: لا بأس بإسناده وله شواهد.
وهو دليل على مشروعية الحسم حفظًا للنفس، وينبغي أن يقطع بأسهل ما يمكن، بأن يضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه، وتشد يده، وتجر حتى يتعين المفصل، ثم يوضع نحو سكين ويجر بقوة ليقطع في مرة واحدة، وإن علم قطع أو هي من هذا قطع به، لأن الغرض التسهيل عليه، وأجرة القاطع والحاسم من بيت المال، وقيمة الدواء الذي يحسم به منه لأن ذلك واجب على غيره.
(وفي السنن) الأربعة والسنن الكبرى للبيهقي (عن فضالة) بن عبيد رضي الله عنه (ثم أمر بها) أي يد السارق بعد أن قطعت وحسمت (فعلقت في عنقه) وفي لفظ أن فضالة سئل عن تعليق يد السارق في عنقه من السنة فقال: نعم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقًا ثم أمر بيده فعلقت في عنقه، وله عنه أن عليًا قطع سارقًا فمر به ويده معلقة في عنقه، وفي رواية أنه

(4/358)


أقر عنده سارق مرتين فقطع يده وعلقها في عنقه فكأني أنظر إلى يده تضرب صدره.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا إن سرق) أي شخص (فاقطعوا يده) أي اليمنى (ثم إن سرق) أي مرة أخرى (فاقطعوا رجله) أي اليسرى (رواه الدارقطني) وهو قول أبي بكر وعمر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، فكان إجماعًا وقال الوزير: أجمعوا على أنه إن عاد فسرق ثانيًا ووجب عليه القطع أنه تقطع رجله اليسرى من مفصل الكعب ثم تحسم، ومذهب أحمد إن عاد حبس حتى يتوب.
وعنه يقطع في الثالثة والرابعة وهو مذهب مالك والشافعي، فتقطع في الثالثة يسرى يديه، وفي الرابعة يمنى رجليه، ولأبي داود جيء بسارق فقال: «اقتلوه» فقالوا: إنما سرق ثم جيء به في الثانية، ثم في الثالثة، ثم في الرابعة، فقال: «اقتلوه» فقتلوه وقال محمد بن المنكدر: قد أتي بابن النعمان في الرابعة فلم يقتله، وقال الشافعي: القتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، وأنه مما لا
اختلاف فيه.
وعند بعضهم يباح، بحيث يكون من المفسدين في الأرض، وقياس قول الشيخ إن السارق كالشارب في الرابعة يقتل عنده إذا لم يتب، بل هو أولى عنده لأن ضرره أعظم، وأجمعوا على أنه من لم يكن له الطرف المستحق قطعه قطع ما

(4/359)


بعده، وكذلك إن كان شل من الطرف المستحق قطعه، بحيث لا يقطع فيها، قطع ما بعده، إلا ما روي عن أبي حنيفة واشتراط مطالبة المسروق منه بماله فيه نظر، عملاً بإطلاق الآية والأحاديث وهو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما.
(وعن جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس على خائن» قطع والخائن هو الآخذ المال خفية من مالكه، مع إظهاره له النصيحة والحفظ «ولا منتهب» أي وليس على منتهب قطع، والمنتهب هو المغير، من النهبة وهي الغارة والسلب والمراد هنا هو ما كان على جهة الغلبة والقهر ومرأى من الناس فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ويخلصوا حق المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم.
(ولا مختلس قطع) والمختلس هو السالب للشيء الخاطف له من غير غلبة، ولو مع معاينة المالك، من اختلسه إذا سلبه، فإنه لا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ لا يمكنه الاختلاس.
والمقصود أنه ليس على هؤلاء المذكورين قطع بخلاف السارق، وهو الآخذ المال خفية فيقطع بشرطه (رواه الخمسة) فدل الحديث على أن الخائن والمنتهب والمختلس لا قطع عليه، وإنما القطع على آخذ المال خفية كما هو مفهوم الحديث مع ما تقدم وغيره قال الوزير: اتفقوا على أن المختلس والمنتهب والغاصب على عظم جنايتهم وآثامهم لا قطع على

(4/360)


واحد منهم اهـ.
لكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال، والحبس الطويل والعقوبة بما يراه الحاكم، وقال ابن القيم: إنما قطع السارق دون المنتهب والمغتصب لأنه لا يمكن التحرز منه، فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز ويكسر القفل، فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضًا وعظم الضرر واشتدت المحنة. ولهذا قطع النباش، وجاءت السنة بقطع جاحد العارية وتقدم وقال: قصر طائفة في لفظ السارق حيث أخرجوا منه نباش القبور، ولو أعطوا لفظ السارق حقه لرأوا أنه لا فرق في حده ومسماه بين سارق الأثمان، وسارق الأكفان، وأن إثبات هذا ونحوه بالنصوص اهـ.
وقطع النباش هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وقالا يجب على من سرق من أستار الكعبة ما يبلغ ثمنه نصابًا، وقال الوزير: لا خلاف أنه لا يحل أخذ شيء من ذلك فهذا الذي يأخذ منه الجهال يزعمون أنهم يتبركون به فإنهم يأثمون به، وهو من المنكرات التي يجب إنكارها والأمر بردها إلى حيث أخذت منه.
(ولهم) أي لأهل السنن وأحمد (عن رافع) بن خديج رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن عبدًا سرق وديًا فرفع إلى أمير المدينة، فجاء سيده إلى رافع فمشى معه إلى مروان وأخبره أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا قطع في ثمر» المراد ما كان معلقًا في النخل قبل أن يجذ ويحرز، كما قال الشافعي وغيره، وقال:

(4/361)


حوائط المدينة ليست بحرز وأكثرها تدخل من جوانبها، والثمر اسم جامع لليابس والرطب، من الرطب والعنب وغيرهما (ولا كثر) بفتح الكاف والثاء وبضم الكاف طلع النخل أول ما يبدو، أو جمار النخل وهو شحمه الذي في وسط النخلة، وللنسائي: ولا جمار، والجمار شحم النخل (صححهما) أي صحح حديث جابر وحديث رافع (الترمذي) وابن حبان وغيرهما، وقال الطحاوي في حديث رافع: تلقته الأمة بالقبول.
فدل الحديث على أنه لا قطع في سرقة الثمر والكثر والجمار، ومذهب الجمهور ما لم يحرز، فإن أحرز فعليه القطع، سواء كان على أصله باقيًا أو قد جذ وسواء كان أصله مباحًا كالحشيش ونحوه، أو لا لعموم الآية والأحاديث الواردة في اشتراط النصاب، وهذا الحديث أخرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها، فترك القطع لعدم الحرز فإذا أحرزت الحوائط كانت كغيرها، قال الوزير: أجمعوا على أنه يسقط القطع عن سارق الثمر المعلق على رءوس النخل، إذا لم يكن محرزًا اهـ وكالثمر والكثر البطائح والشواء والهرائس ونحوها، إذا لم تحرز وأما إذا أحرزت فيجب فيها القطع، وهو مذهب الجمهور.
(ولهم) أي للخمسة وغيرهم (عن عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنه (مرفوعًا ليس في شيء من الماشية قطع) سواء كانت في المرعى أو غيره (إلا فيما أواه المراح) أي إلا فيما

(4/362)


ضمه المبيت والمأوى (فبلغ ثمن المجن) الترس سمي بذلك لأنه يواري حامله (ففيه القطع) أي قطع السارق ما أواه المراح (وما لم يبلغ) أي ثمن المجن (ففيه غرامة مثليه) على الأخذ (وجلدات) نكال وفي رواية وضرب نكال.
(وقال في الثمر المعلق) يعني من خرج بشيء منه فعليه (هو ومثله معه) وفي لفظ: "غرامة مثليه (والنكال) وفي لفظ "غرامة مثليه والعقوبة" (وليس في شيء منه قطع) أي ليس من الثمر المعلق قطع وحكاه الوزير إجماعًا واختاره الشيخ وغيره (إلا فيما أواه الجرين) وهو موضع تجفيفه لكونه معدًا حرزًا له (فأخذ منه ثمن المجن ففيه القطع) لكمال شروط القطع (وما لم يبلغ ففيه غرامة مثليه) والعقوبة، وهو قول الجمهور، وذهب بعض أهل العلم، إلى أن التضعيف خاص بالثمر والكثر والجمار والماشية، للأخبار، وما عداها يضمن بمثله إن كان مثليًا أو بقيمته إن كان متقومًا، لأنه الأصل، كالمتلف والمغصوب وغيرهما مما تجب غرامته.
واختار الشيخ وجوب غرامة المثلين في كل سرقة لا قطع فيها، وأما المختلس والمنتهب والخائن وغيرهم فلا يغرم إلا مثله أو قيمته، لأنه الأصل فدل الحديث على أن لكل مال حرز يخصه، فحرز الماشية الصير، وفي المرعى بالراعي ونظره إليها، وحرز الثمار الجرين ونحوه، وحرز البقل ونحوه الشرائج والحطب الحظائر ويعتبر العرف في الكل، غير حرز الذهب والفضة ففي الأبنية الحصينة.

(4/363)


وأسقط عمر القطع زمن المجاعة وقال: لا تقطع اليد في الغزو، ولا عام سنة، وأسقط القطع عن غلمان حاطب، لما سرقوا ناقة لرجل من مزينة، وقال: إنكم تستعملونهم وتجيعونهم، وأضعف قيمتها، ووافق أحمد على سقوط الحد في المجاعة، قال ابن القيم: وهو محض القياس ومقتضى قواعد الشرع، وهي شبهة قوية، تدرأ القطع عن المحتاج ونص العلماء، على أن الحدود لا تقام في أرض العدو وحكى أبو محمد المقدسي إجماع الصحابة.
(ولهم) أي وللخمسة (عن صفوان) بن أمية رضي الله عنه ومالك والشافعي، وصححه ابن الجارود والحاكم (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بقطع الذي سرق رداءه) وكان نائمًا عليه في المسجد وسرق (فشفع فيه) بعد أن رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هلا كان ذلك» أي شفاعتك.
وفي رواية قال: أنا أهبها له أو أبيعها له، قال: فهلا كان ذلك (قبل أن تأتيني به) ولأحمد وغيره فقطعه، وذلك أن صفوان اضطجع بالبطحاء، إذ جاء إنسان فأخذ بردة من تحت رأسه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقطعه فقال: إني أعفو وأتجاوز، فقال: فهلا قبل أن تأتيني به.
فدل على أن يد السارق تقطع فيما إذا كان مالك المسروق حافظًا له، وإن لم يكن مغلقًا عليه في مكان وهو مذهب الجمهور، قال ابن رشد: إذا توسد النائم شيئا فتوسده، حرز على ما جاء في رداء صفوان، ويقطع الطرار وهو الذي

(4/364)


يبط الجيب ويأخذ ما فيه، وقال الوزير: اتفقوا على أن الحرز معتبر في وجوب القطع اهـ، ومذهب مالك والشافعي وأحمد أن الحرز يختلف باختلاف الأموال، وأن العرف معتبر في ذلك، ويختلف بعدل السلطان وجوره، وقوته وضعفه، وهذا أحد شروط وجوب القطع في السرقة.
والثاني أن تنتفي الشبهة، فلا يقطع بالسرقة من مال أبيه أو ولده أو مال له فيه شرك، وأن يكون المسروق محترمًا فلا قطع بسرقة آلة لهو ولا محرم كالخمر، وأن يكون المسروق نصابًا وهو كما تقدم ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وأن يثبت بشهادة عدلين، أو بإقراره، واشترط بعضهم مطالبة المسروق منه بماله، وتقدم قول الشيخ، وإذا تمت الشروط قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت كما تقدم مفصلاً واتفقوا على أنه إذا كانت العين قائمة، فإنه يجب ردها، وإن كانت تالفة وجب الغرم والقطع عند الشافعي وأحمد.
(ولأبي داود) وغيره (عن النعمان) بن بشير رضي الله عنه (في الذين اتهموا قومًا) من الحاكة وذلك أن طائفة من الكلاعيين سرق لهم متاع، فأتوا النعمان فحبس الحاكة أيامًا ثم خلى سبيلهم، فقال الكلاعيون: خليت سبيلهم من غير ضرب ولا امتحان، فقال: إن شئتم (اضربهم) وفي رواية ما شئتم
إن شئتم أن أضربهم (فإن خرج متاعكم) فذاك (وإلا
أخذت لهم من ظهوركم) مثل ما أخذت من ظهورهم فقالوا:

(4/365)


هذا حكمك، فقال: هذا حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مستدلاً بما رواه النسائي وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - حبس ناسًا في تهمة وفي رواية: رجلاً في تهمة.
فدل الحديث على أنه لا يجوز امتحان السارق بالضرب، بل يحبس بحسب ما يراه الحاكم، لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن فتش عليه لقصة المخزومية جاز، أو دلت قرائن عوقب لما تقدم.

باب حد قطاع الطريق
وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح أو غيره، في الصحراء أو البنيان فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة، والأصل في حكمهم الكتاب والسنة والإجماع في الجملة (قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطاع الطريق وإخافة السبيل، يقال حرب الرجل، سلبه ماله، وحاربه قاتله، والآية، نزلت في قطاع الطريق، عند أكثر السلف، لقصة العرنيين، بل هذه الآية هي الأصل في حكمهم، وظاهر القرآن ومقتضى ما عليه عمل المسلمين يدل على أن هذه الحدود نزلت في المسلمين.
قال الوزير: اتفقوا على أن من أبرز وشهر السلاح مخيفًا للسبيل خارج المصر، بحيث لا يدركه الغوث فإنه محارب، قاطع الطريق، جارية عليه أحكام المحاربين، وقال الشيخ: ولو

(4/366)


شهر السلاح في البنيان أو الصحراء فواحد، هو قول مالك، والمشهور عن الشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء، لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، لا محل تقاتل الناس وتعاديهم، وإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، لأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالبًا إلا بعض ماله، وهذا هو الصواب، لا سيما هؤلاء المتحزبون.
ولو حاربوا بالحصى والحجارة المقذوفة بالأيدي والمقاليع ونحوها، فهم محاربون أيضًا، فالصواب ما عليه جماهير المسلمين، على أن من قاتل على أخذ الأموال بأي نوع من أنواع القتال فهو حربي، وقال: وإذا كان يقتل سرًا لأخذ المال، مثل أن يجلس في خان يكري لابن السبيل، وإن انفرد في قوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة، أو طب ونحو ذلك فيقتله، ويأخذ ماله.
قال: وقد يكون ضرره أشد، لأنه لا يدري به، ولأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، وكلاهما لا يمكن الاحتراز منه، وذكر أنه أشبه بأصول الشريعة، قال تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} الفساد ضد الصلاح والإفساد يطلق على أنواع: منها أخذ المال ظلمًا، حتى قال كثير من السلف: قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقيل نزلت في المشركين وقيل في الحرورية، وقيل غير ذلك، وقال ابن كثير:

(4/367)


الصحيح أنها عامة في المشركين وغيرهم، ممن يرتكب هذه الصفات، وقال غير واحد: إن كانوا كفارًا فقد قال الله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وأن الإمام مخير في الأمور الثلاثة {أَنْ يُقَتَّلُوا} أي فجزاؤهم أن يقتلوا، يعني إن قتلوا مكافئًا أو غير مكافئ، كالولد يقتله أبوه، وكالعبد يقتله الحر، وكالذمي يقتله المسلم.
{أَوْ يُصَلَّبُوا} فإذا قتل أحدهم، وأخذ المال صلب حتى يشتهر أمره، ولا يقطع مع ذلك، وإن وقع منه سرقة وزنى، ونحوه لأنها حقوق الله، فأتى عليها القتل، وهو الغاية، وإن قذف وقطع يدًا وقتل قطع وجلد وقتل، لأن حقوق الآدميين مبنية على التضييق، ولا تتداخل وإن قتل أحدهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، للخبر الآتي. {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} أي إن أخذوا مالاً قطع من كل واحد منهم يده اليمنى {وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} أي وقطع من كل واحد منهم رجله اليسرى أي إن أخذوا ما يبلغ نصاب السرقة أو أخذ بعضهم نصابًا تحتم قطع جميعهم ولو لم يأخذ إلا واحد منهم، وهو أولى من ثبوت القتل في حق جميعهم إذا قتل بعضهم، فتحتم قطعهم بأخذ أحدهم النصاب أولى.
قال الشيخ: وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل فإن الأعراب، وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائمًا بينهم من هو مقطوع اليد والرجل، تذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل، فإنه قد ينسى، وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على

(4/368)


قطع يده ورجله من خلاف، فيكون هذا أشد تنكيلاً لأمثاله {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} إن أخافوا السبيل، ولم يأخذوا ما لا يبلغ نصاب السرقة، وشردوا متفرقين، فلا يتركون يأوون إلى بلد حتى تظهر توبتهم، وهذا مذهب الجمهور إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وتمام الآية (ذلك) أي الذي ذكر تعالى من الحدود {لَهُمْ خِزْيٌ} شر وعار وذلة وهوان وفضيحة {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *}.
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أما من الشرك فظاهر، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا من قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل، والصلب وقطع الرجل، والجمهور واليد، وعليه عمل الصحابة، فإن عليًا أمن ابن بدر، وأبا موسى أمن المرادي، في زمن عثمان، وأبا هريرة قال في علي الأسدي: لا سبيل لكم عليه؛ ولكهم جاءوا تائبين قبل القدرة عليهم، أما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء قال الشيخ: اتفق العلماء على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما، إذا رفعوا إلى ولي الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم، بل تجب إقامته وإن تابوا، وإن كانوا صادقين في التوبة.
فاستثناء التوبة قبل القدرة عليهم فقط، فالتائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد للعموم والمفهوم والتفصيل ولئلا يتخذ ذريعة إلى تعطيل حدود الله إذ لا يعجز من وجب عليه الحد أن يظهر التوبة ليتخلص من العقوبة وإن

(4/369)


تاب توبة نصوحًا سدًا لذريعة السكوت بالكلية؛ قال الوزير: اتفقوا على أن حقوق الآدميين من الأموال والأنفس والجراح يؤخذ بها المحاربون، إلا أن يعفى لهم عنها، وقال: اتفقوا على أن من قتل وأخذ المال منهم وجب إقامة الحد عليه، وإن عفا ولي المقتول، والمأخوذ المال منه، فإنه غير مؤثر في إسقاط الحد عنه.
وقال الشيخ: فمن كان قتل من المحاربين فإنه يقتله الإمام حدًا ولا يجوز العفو عنه بإجماع العلماء، حكاه ابن المنذر، ولا يكون رده إلى وارث المقتول، بخلاف ما لو قتل رجل رجلاً لعداوة بينهما أو خصومة ونحو ذلك من أسباب المخاصمة؛ فإن هذا دم لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا عنه، وإن أحبوا أخذوا الدية، لأن قتله لغرض خاص، وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السُّراق، فكان قتلهم حدًا لله، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، حتى لو كان ذميًا أو مستأمنًا، فقد اختلف العلماء هل يقتل في المحاربة لأنه قتل لفساد العالم كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم.
(قال ابن عباس) رضي الله عنهما (إذا قتلوا وأخذوا المال) يعني المحاربين (قتلوا وصلبوا) وقتلهم متحتم لا يدخله عفو قال الموفق وغيره: أجمع على هذا كل أهل العلم (وإذا قتلوا
ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا) قال الموفق: وهي أصح
لأنه الخبر المروي فيهم، قال فيه: ومن

(4/370)


قتل ولم يأخذ المال قتل، ولم يذكر صلبًا (وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم) في مقام واحد وحسمتا، ولا خلاف في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل، إذا كانا صحيحتين (من خلاف) تقطع يمنى يديه، ثم يسري رجليه، (وإذا خافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض) وشردوا حتى تظهر توبتهم (رواه الشافعي).
وروي عن ابن عباس قال: وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بردة الأسلمي، فجاء ناس يريدون الإسلام، فقطع عليهم أصحابه فنزل جبرائيل بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال، قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف؛ وقيل إنه رواه أبو داود، وهو كالمسند وإن كان المحاربون جماعة، وإنما باشر القتل أحدهم والباقون أعوان له وردء. فقال الشيخ: قيل إنه يقتل المباشر فقط، والجمهور على أن الجميع يقتلون، ولو كانوا مائة، والردء والمباشر سواء، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، فإن عمر قتل ردء المحاربين، والردء هو الناظر، الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء، والمباشر إنما تمكن من قتله بقوة الردء والمعونة من قتله بقوة الردء، والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض، حتى صاروا ممتنعين، فهم مشتركون في الثواب والعقاب.
قال: وإذا ظفر السلطان بالمحابين وقد أخذوا الأموال، فعليه أن يستخرج منهم الأموال، مع إقامة الحد على أبدانهم،

(4/371)


وكذا السارق، فإذا امتنعوا بعد ثبوته، عاقبهم بالحبس والضرب، حتى يمكنوا من إحضاره والإخبار بمكانه، وكما يعاقب كل ممتنع من الحق الواجب عليه أداؤه، وهذه المطالبة حق رب المال، بخلاف إقامة الحدود عليهم، ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلاً على طلب السارقين، لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد، وإن كان لهم شوكة تحتاج إلى تأليف أعطاهم من الفيء وغيره لبعض رءوسائهم ليعينه على إحضار الباقين، أو لتركهم فيضعف الباقون، وهو ظاهر الكتاب والسنة وأصول
الشريعة.
(وعن أنس) رضي الله عنه (أن ناسًا من عكل) قبيلة من عبد مناة، وفي لفظ "أو عرينة" وفي لفظ: وعرينة: قبيلة من بجيلة حي باليمن من معد، وهم عرينة بن نذير بن قيس بن عبقر الذين استاقوا إبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وللطبراني "أربعة من عرينة وثلاثة من عكل من الرباب" (استوخموا المدينة) أي لم يستمرؤها فلم يوافق هواءها أبدانهم، واستوبؤها (فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوا إلى إبل الصدقة) وكانت خارج المدينة (فيشربوا من أبوالها) فدل على طهارتها (وألبانها) فانطلقوا إليها وفعلوا فصحوا وارتدوا (فقتلوا الراعي) وفي رواية، فقتلوا رعاتها (واستقاوا الإبل) وفي رواية "واستاقوا الذود".
(فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم) أي عقبهم وفي

(4/372)


حديث سلمة خيلاً من المسلمين، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم (فأمر بهم) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (فسمروا أعينهم) وفي لفظ "سملوا أعينهم" (وقطعوا أيديهم) وفي رواية "وأرجلهم" (وتركوا في ناحية الحرة) وهي أرض بالمدينة ذات حجارة سود (حتى ماتوا على حالهم) وفي لفظ "يستسقون فلا يسقون" (متفق عليه).
قال الشيخ: واختلفوا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان، هل هم كالمحاربين فيقتلون حدًا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم؟ هذا إذا قدر عليهم فأما إذا طلبهم السلطان ونوابه لإقامة الحد بلا عدوان، فإن امتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلهم، وإن لم ينقادوا والقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا إلى أن قال: إلا أن قتالهم ليس كقتال الكفار، إذا لم يكونوا كفارًا، ولا تؤخذ أموالهم إلا إن أخذوا أموال المسلمين بغير حق، فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا، والمقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود، ومنعهم من الفساد.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) يسأله (فقال: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي) وللنسائي: إن عد على مالي (قال: لا تعطه) وله قال فانشده بالله (قال: أرأيت إن قاتلني) أي دون مالي (قال: قاتله) أي دون مالك (قال: أرأيت: إن قتلني) أي لأجل مالي (قال: فأنت

(4/373)


شهيد) تقدم تعريف الشهيد (قال: أرأيت إن قتلته) أي دون مالي (قال: فهو في النار) أي أنه يستحق ذلك.
وقد يجازي وقد يعفى عنه (رواه مسلم) وقال الحسن: من عرض لك في مالك فإن قتلته فإلى النار، وإن قتلك فشهيد، ونحوه عن أنس وغيره وقال أحمد في اللصوص يريدون نفسك ومالك: قاتلهم تمنع نفسك ومالك، وقال عمر في امرأة أرادها رجل على نفسها فقتلته: والله لا يؤدي أبدًا.
فدل الحديث وما في معناه على أن من صال عليه شخص يريد أخذ ماله أن له الدفع عنه بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به، فإن اندفع بالعصا مثلاً فليس له ضربه بالحديد، وإن ذهب هاربًا لم يكن له قتله، ولا اتباعه فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك. قال النووي: وهذا قول الجماهير من العلماء وصوَّبه، ولا ضمان عليه إلا أنه لا بد من بينة على أنه لا يندفع إلا بالقتل، وإلا ضمنه، ويلزمه الدفع عن نفسه في غير فتنة، فله التولي عنهم، وقال الشيخ: لا يلزمه الدفع عن مال الغير، وقال في جند قاتلوا عربًا نهبوا أموال تجار ليردوها لهم: هم مجاهدون في سبيل الله، ولا ضمان عليهم، بقود ولا دية ولا كفارة اهـ، وأما المدافعة عن الحريم فواجبة قال النووي: بلا خلاف، وعن المال جائزة غير واجبة، فقوله لا تعطه، أي لا يلزمك أن تعطيه وليس المراد تحريم الإعطاء.
(وعن عمران بن حصين) رضي الله عنه (أن رجلاً عض

(4/374)


يد رجل) ولمسلم: قاتل يعلى رجلاً فعض أحدهما صاحبه (فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه) فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل؟ أي الذكر من الإبل ويطلق على غيره (لا دية لك) وفي رواية: فأبطله وقال: "أردت أن تأكل لحمه" (متفق عليه) ومن حديث يعلى بن أمية: فعض رجل فانتزع ثنيته، فأبطلها النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل الحديث على أن من عض إنسانًا فانتزع يده من فيه، فسقطت بعض أسنانه فهدر، ويروى أن رجلاً عض رجلاً فانتزع يده من فيه فسقطت بعض أسنان العاض فاختصما إلى شريح، فقال: أنزع يدك من في السبع، وأبطل أسنانه، وهذا مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
(ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (مرفوعًا لو أن امرءًا اطلع عليك) أي نظر إليك من علو (بغير إذن فحذفته بحصاة) أي رميته بحصاة (ففقأت عينه) أي شققت عينه (لم يكن عليك جناح) ولمسلم "فقد حل لهم أن يفقئوا عينه" ولأحمد والنسائي وغيرهما: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فلا دية ولا قصاص" وفي رواية "فهدر".
وفيهما من حديث سهل أن رجلا اطلع في جحر من باب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحك رأسه بمدري في يده، فقال: «لو علمت أنك تنظرني لطعنت به في عينك» فدل الحديثان على أن من نظر

(4/375)


في بيت غيره من خصاص باب مغلق ونحوه، فحذف عينه أو نحوها فتلفت فهدر، ولو أمكن دفعه بدون ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد، فإن ترك الإطلاع ومضى لم يجز رميه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطعن الذي اطلع ثم انصرف، وسواء كان المطلع منه صغيرًا كثقب أو شق، أو واسعًا كنقب كبير، لا من باب مفتوح، لأن التفريط من تارك الباب مفتوحًا وليس لصاحب الدارمي الناظر بما يقتله ابتداء، لأن له ما يقلع به العين ونحوه، فإن لم يندفع إلا بما يقتل فله ذلك.

باب قتال أهل البغي
البغي مصدر بغى عليه بغيًا علا وظلم وجار وعدل عن الحق، وما عليه أئمة المسلمين، فإذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على إمام المسلمين، بتأويل سائغ فهم بغاة والأصل في قتالهم الكتاب والسنة والإجماع في الجملة، وإن كانوا جمعًا يسيرًا كالعشرة، لا شوكة لهم، أو لم يخرجوا بتأويل، أو بتأويل غير سائغ، فقطاع طريق، تقدم حكمهم.
(قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} أي تقاتلوا سماهم مؤمنين مع القتال، وفي الصحيح "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فأصلح الله به بين أهل الشام، وأهل العراق بعد الحروب الطويلة {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} بالنصح وبالدعوة إلى حكم كتاب الله

(4/376)


تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والرضا بما فيهما لهما وعليهما {فَإِنْ بَغَتْ} تعدت {إِحْدَاهُمَا} أي التي صدر منها البغي، وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله {عَلَى الْأُخْرَى} أي التي لم تبغ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} على الطائفة الأخرى {حَتَّى تَفِيءَ} الباغية {إِلَى أَمْرِ اللهِ} حكم الله عز وجل {فَإِنْ فَاءَتْ} رجعت إلى الحق، ورضيت بحكم الله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بحملهما على الإنصاف وقيده ههنا بالعدل لأنه مظنة بالحيف.
فإن الناصح المصلح لما تقاتل مع الباغي، ربما ثار غضبه، فحين الإصلاح قد لا يراعي العدل، فيحيف على إحدى الطائفتين إن قاتلها، ثم قال تعالى {وَأَقْسِطُوا} أي اعدلوا بينهما فيما أصاب بعضهم لبعض، بالقسط وهو العدل {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} العادلين في الأمور ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} في الدين والولاية {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إذا اختلفا واقتتلا {وَاتَّقُوا اللهَ} ولا تعصوا أمره {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
فأوجب تعالى على المؤمنين قتال الباغين، وأجمع على ذلك الصحابة وجماهير العلماء، وقالوا يجب على الإمام أن يراسل البغاة فيسألهم عما ينقمون منه، إذ هو الطريق إلى الصلح، فإن ذكروا مظلمة أزلها، وإن ادعوا شبهة كشفاها لهم، ليرجعوا إلى الحق، ولا يجوز قتالهم قبل ذلك، إلا أن يخاف كلبهم، فإن كان ما ينقمون منه مما لا يحل أزاله، وإن كان حلالاً لكن التبس عليهم، فاعتقدوا أنه مخالف للحق بين لهم دليله، وأظهر لهم وجهه، كما فعل علي

(4/377)


رضي الله عنه، فإن بعث ابن عباس إلى الخوارج فبين لهم وجه الحجة التي تمسكوا بها.
فإن رجعوا تركهم وإن أبوا وعظهم وخوفهم القتال، وإن أبوا قاتلهم وجوبًا، للأمر بذلك، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا خرج على إمام المسلمين طائفة، ذات شوكة، بتأويل مشتبه فإنه يباح قتالهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله اهـ والأفضل ترك قتال أهل البغي حتى يبدءوا الإمام، وهو مذهب مالك، وله قتل الخوارج ابتداء أو متممة تخريجهم، صرح به الشيخ، وقال: جمهور العلماء يفرقون بين الخوارج والبغاة المتأولين وهو المعروف عن الصحابة، ويأتي تمام الكلام في حكم الخوارج.
(وقال) تعالى {أَطِيعُوا اللهَ} أي اتبعوا كتابه {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي خذوا بسنته، وقد أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله في غير موضع من كتابه، ثم قال تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} أي وأطيعوا أولي الأمر منكم، فيما يأمرون به من طاعته تعالى وتقدس، قيل أولى الأمر الأمراء والولاة، وقيل والعلماء، والآية عامة في أولي الأمر من العلماء والولاة والأمراء وجاءت أحاديث كثيرة في الأمر بطاعة ولاة الأمر، ما لم يأمروا بمعصية، فإن أمروا بمعصية فلا سمع لهم ولا طاعة، وتقدم: «من يعص الأمير فقد عصاني» "ومن عصاني فقد عصى الله" وقال علي: حق الله على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك، فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.

(4/378)


وللبخاري مرفوعًا «اسمع وأطع، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» ولمسلم «وإن كان عبدًا حبشيًا مجدع الأطراف» ولابن جرير وغيره "سيليكم ولاة بعدي، فيله البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق" ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} فكل ما تنازع الناس فيه يجب أن يرد التنازع إلى الكتاب والسنة. كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فمن لم يرد التحاكم إليهما في محل النزاع، ولا يرجع إليهما في ذلك فليس بمؤمن بالله ولا باليوم الآخر (ذلك) أي التحاكم إلى الكتاب والسنة {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} عاقبة ومآلاً وأحسن جزاء.
واستدل القرطبي وغيره بقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} على وجوب نصب الخليفة، ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، ونصبه فرض كفاية لحماية البيضة، والذب عن الحوزة وغير ذلك وقال الشيخ: يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا الدنيا إلا بها، وقد أوجبه الشارع في الاجتماع القليل العارض، تنبيهًا بذلك على أنواع الاجتماع.
وقال: من المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، ولو

(4/379)


تولى من الظلمة، فهو خير من عدمهم اهـ، ويخاطب بذلك من توجد منه شرائط الإمامة، ويجبر من تعين لذلك، وتعتبر إمامته بالإجماع عليه، كأبي بكر، أو بنص عليه كفعله، أو شورى في عدد كفعل عمر، أو بقهر الناس بسيفه، حتى تثب له، وشرطه أن يكون حرًا ذكرًا عدلاً عالمًا كافيًا ابتداءً ودوامًا، ويجب على رعيته ومعونته لهذه الآية وغيرها.
(وعن عبادة) بن الصامت رضي الله عنه (قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة) أي عاهدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع له فيما يأمرنا به، والطاعة مذعنين منقادين له (في المنشط) الذي ننشط له، ونؤثر فعله (والمكره) أي الذي نكره ويشق علينا أي بايعناه على المحبوب والمكروه (وأن لا ننازع الأمر أهله) أي لا ننازع ولاة الأمور ولايتهم، ونخرج عليهم (متفق عليه) وللبخاري من حديث أنس "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عبد حبشيء، رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله".
فدل الحديث وغيره على وجوب طاعة ولي الأمر، في حال النشاط، وحال الكراهة، والعجز عن العمل بما يأمر به، ولو منع حقنا (ولهما) أي البخاري ومسلم وغيرهما (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رأى من أميره» أي سلطانه وإمامه (ما يكره) ولو أخذ ماله، وضرب ظهره (فليصبر) وللبخاري "فليصبر عليه" (فإنه من فارق الجماعة) أي جماعة المسلمين، المتفقين على إمام واحد انتظم به

(4/380)


جمعهم، واجتمعت به كلمتهم، وحاطهم من عدوهم، (فمات فميتته جاهلية) أي منسوبة إلى أهل الجهل، والمراد به من مات على الجهل قبل الإسلام، وهو تشبيه لميتة من فارق الجماعة بمن مات على الكفر، بجامع أن الكل لم يكن تحت إمام.
فإن الخارج عن الطاعة كأهل الجاهلية، لا إمام له، ولمسلم من حديث أبي هريرة "من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، ومات فميتته جاهلية" أي حالته في الموت كموت أهل الجاهية على ضلال، وتقدم الدليل على وجوب طاعة أولي الأمر، وهو يقتضي تحريم الخروج عليهم، وهذه الأحاديث وما في معناها دليل على أنه إذا فارق الجماعة، ولم يخرج عليهم ولا قاتلهم أنا لا نقاتله لنرده إلى الجماعة، ويذعن للإمام بالطاعة، بل نخليه وشأنه، لأنه لم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بقتاله، بل أخبر عن حال موته، وأنه كأهل الجاهلية، ولا يخرج بذلك عن الإسلام، وقال علي للخوارج: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دمًا حرامًا، ولا تقطعوا سبيلاً، ولا تظلموا أحدًا، فإن فعلتم نفذت إليكم بالحرب؛ ولم يقاتلهم رضي الله عنه حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم الحرام.
(ولأبي داود) وغيره أنه قال: (من فارق الجماعة شبرًا) تنبيه بالأدنى على ما فوقه (فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) وللترمذي: "من فارق الجماعة شبرًا فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه".

(4/381)


(وعن عبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعطى إمامًا) أي سلطانًا أو أميرًا (صفقة يده) أي عقد بيعته بيده (وثمرة قلبه) أي أعطاه الإخلاص الذي في القلب في الطاعة (فليطعه ما استطاع) وفي الحديث "من أطاع أميره فقد أطاعني"، "ومن أطاعني فقد أطاع الله (فإن جاء آخر ينازعه) الأمر ويخرج عليه (فاضربوا عنق الآخر) ولا خلاف في ذلك (رواه مسلم). وله أيضًا: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله ولا حجة له» فمن فارق الجماعة جرى له كذلك، فدلت هذه الأحاديث على تحريم معصية الإمام ومحاربته والخروج عليه، وعلى جواز قتال البغاة، وهو إجماع.
(وله) أي لمسلم في صحيحه (عن عرفجة) بضم فسكون، ابن شريح (مرفوعًا: من أتاكم وأمركم جميع) على رجل واحد قد أجمع عليه (يريد أن يفرق جماعتكم) وفي لفظ "فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع (فاضربوا عنقه بالسيف) كائنًا من كان" وفي لفظ "فاقتلوه" وجاء معناه من طرق، دلت على أن من خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين، والمراد أهل قطر فإنه قد استحق القتل، لإدخاله الضرر على العباد، وظاهره سواء، كان جائرًا أو عادلاً وجاء تقييده بـ "بما أقاموا الصلاة" وفي لفظ: "ما لم تروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله برهان".
قال ابن القيم: ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الأمراء والخروج على الأئمة، وإن ظلموا أو جاروا، ما أقاموا الصلاة، سدًا لذريعة

(4/382)


الفساد العظيم، والشر الكثير، بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم، والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه، ولم تزل الأمة في بقايا تلك الشرور، وقال - صلى الله عليه وسلم - «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما» سدًا لذريعة الفتنة اهـ، وإن تنازعها اثنان متكافئان، قدم أحدهما بقرعة، وإن بويع لهما معًا، أو جهل السابق منهما فالعقد باطل فيهما، صرح به في الإقناع وغيره.
(ولهما) أي البخاري ومسلم (من حديث علي في الخوارج) الذين يخرجون على جماعة المسلمين، كما خرجوا على الصحابة، وفي عصر الأمويين والعباسيين، وأحاديثهم جاءت من طرق قال: (أينما لقيتموهم) أي حيث وجدتموهم (فاقتلوهم) وقد قتلهم الصحابة رضي الله عنهم، كما هو مشهور (فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة) وجاء بروايات تدل على فضل قتلهم، وتقدم أنه ينبغي لولي الأمر أن يبين لهم وجه الحجة، كما فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الشيخ: أهل السنة متفقون على أن الخوارج مبتدعة ضالون، وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة، "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة" "لو يعلم الذين يقاتلون ماذا لهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - لنكلوا عن العمل" "خير قتلى من قتلوه" فأمر بقتالهم، وقاتلهم علي وسائر الصحابة الذين معه، بل اتفق الصحابة على قتالهم،

(4/383)


ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل، وهل يقاتلون مع أئمة الجور؟؟ نقل عن بعض أهل العلم أنهم يقاتلون، وكذلك من نقض العهد من أهل الذمة، وهو قول الجمهور.
وقالوا يغزى مع كل أمير برًا كان أو فاجرًا، إذا كان الغزو الذي يفعله جائزًا فإذا قاتل الكفار، أو المرتدين أو ناقضي العهد، أو الخوارج قتالًا مشروعًا قوتل معه، وإن قاتل قتالاً غير مشروع لم يقاتل معه، ومن أظهر رأي الخوارج ولم يخرج عن قبضة الإمام لم يتعرض لهم، وهو مذهب جماهير العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وتجري الأحكام عليهم فيما لهم وعليهم كأهل العدل.
(وللبزار) الحسن بن الصباح الحافظ، روى عنه البخاري وأبو داود وغيرهما، مات سنة تسع وأربعين ومائتين (عن ابن مسعود) رضي الله عنه (مرفوعًا: لا يتبع مدبرهم) ليقتل (ولا يجهز على جريحهم) أي لا يتمم قتل من كان جريحًا من البغاة (ولا يقتل أسيرهم) بل يحبس حتى لا شوكة ولا حرب، لأن قتالهم لكفهم عن المحاربة، (ولا يقسم فيئهم) لأنه مال مسلم؛ وروى سعيد أنه صرخ صارخ لعلي يوم الجمل، لا يقتل مدبرهم ولا يذفف على جريحهم، ومن ألقي السلاح فهو آمن ومن وجد ماله بيد غيره أخذه لأن أموالهم كأموال غيرهم من المسلمين.

(4/384)


وقال الوزير: اتفقوا على أن أموالهم لهم؛ وقال مالك والشافعي وأحمد لا يستعان بسلاحهم وكراعهم على حربهم، ويحرم قتالهم بما يعم إتلافهم، لأن إتلاف أموالهم، وقتل غير المقاتلة لا يجوز إلا لضرورة تدعو إليه، وما تلف حال الحرب غير مضمون.
وقال الوزير: اتفقوا على أن ما يتلفه أهل العدل على أهل البغي فلا ضمان فيه، وما يتلفه أهل البغي كذلك، وهو مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة ومالك وأحمد، وظاهر كلام شيخ الإسلام أن من قتل باغيًا في غير حرب متأولاً فلا شيء فيه، وأن قتل الباغي العادل كذلك، وقال: الأمة يقع منها التأويل في الدم والمال والعرض، وذكر قصة أسامة وخبر المقداد وخالد ومع ذلك لم يضمن المقتول بقود ولا دية ولا كفارة، لأنه متأول، وقال أسيد لسعد في قصة الإفك: إنك منافق، والذي لعن رجلاً بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبهما.
فالمتأول المخطئ مغفور له خطؤه بالكتاب والسنة، وقال هو وغيره: إن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلفته على الأخرى، قال: فأوجب الفقهاء الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعل عين المتلف، وإن تقاتلتا تقاصتا لأن المباشر والمعين سواء عند الجمهور، وإن جهل قدر ما نهبه كل طائفة من الأخرى تساويا،

(4/385)


ومن دخل بينهما لصلح فقتل وجهل قاتله أو أتلف ماله وجهل متلفه ضمنتاه على السواء

باب حكم المرتد
أي باب بيان حكم المرتد وما يوجب الردة من الأقوال والأفعال وغيرها، ومن يجب استتابته ومن يجوز قتله بدونها، وغير ذلك، والأصل في قتل المرتد الكتاب والسنة والإجماع والمرتد لغة الراجع واصطلاحًا الكافر بعد إسلامه طوعًا ولو هازلاً بنطق أو اعتقاد أوشك أو فعل (قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِد} أي يرجع {مِنْكُمْ} أيهما المسلمون {عَنْ دِينِهِ} إلى دين اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، أو الوثنية أو على غير دين {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} أي يرجع عن دين الإسلام ثم يموت على الكفر {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} النافعة {فِي الدُّنْيَا} لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام {وَالْآخِرَةِ} بسقوط الثواب {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
فدلت الآية على كفر من ارتد عن دين الإسلام بأي نوع مما يوجب الردة، ولو كان إسلامه بحق، كمن أكره على النطق بالشهادتين فنطق بهما ثم ارتد، وسواء كان رجلاً أو امرأة لقصة أم مروان، وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد إن لم يتب.

(4/386)


(وقال) تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} أي ويغفر تعالى ما دون الشرك أكبره وأصغره {لِمَنْ يَشَاءُ} من عباده ثم قال {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا *} وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وفي الصحيحين لما قيل له: أي الذنب أعظم؛ قال " أن تجعل لله ندًا وهو خلقك" وقال "أكبر الكبائر الإشراك بالله" ولأحمد " الدواوين ثلاثة؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله" وله أيضًا "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا".
(وقال) تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ} فيعبد معه غيره {فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} فلا يدخلها من أشرك بالله {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} أي فقد أوجب له النار، وحرم عليه الجنة {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *} أي وما للمشرك بالله الظالم المعتدي من ناصر ولا معين، ولا منقذ مما هو فيه، وفي الصحيح «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار» وروى عبد بن حميد من حديث جابر قال رجل: يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك به شيئًا دخل النار" فدلت هذه الآية والأحاديث وما في معناها على عظم الشرك، وأن من أشرك بالله فقد كفر، ومن كفر بعد إسلامه وجب قتله إن لم يتب.
وقال الشيخ: ومن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم

(4/387)


ويسألهم أو يتوكل عليهم كفر إجماعًا ومن جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته كفر؛ وقال: ومن شك في صفة من صفاته ومثله لا يجهلها فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، ولهذا لم يكفر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الشاك في قدرة الله وإعادته لأنه لا يكون إلا بعد الرسالة.
(وقال) تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ} أي فأولئك هم الكافرون حقًا {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ} بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أي يؤمنون ببعض رسله ويكفرون ببعضهم بمجرد التشهي والعادة، وما ألْفوا عليه آباءهم، قيل نزلت في اليهود آمنوا بموسى، وكفروا بعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض واجب فمن رد نبوة نبي من الأنبياء حسدًا أو عصبية أو تشهيًا تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًا إنما هو عن غرض وهوى وعصبية.
ولهذا وسمهم الله تعالى بالكفر به وبرسله، وأنهم يريدون أن يفرقوا بين الله وبين رسله في الإيمان، فيقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} دينًا ومذهبًا يذهبون إليه، وطريقًا غير طريق الرسل، ومسلكًا، سوى مسلكهم {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} أي كفرهم محقق لا محالة.

(4/388)


بمن ادعوا الإيمان به، لأنه ليس إيمانًا شرعيًا، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسوله، لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهانًا منه، وإنما حقق تعالى كفرهم ليعلم أن الكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم، ثم قال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} كما استهانوا بمن كفروا به.
فدلت الآيات وما في معناها على أن من كفر برسول من رسله، أو سبه فقد كفر، وقال الشيخ: بالإجماع، وقال: معلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين، أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وقال من أطلق لعن التوراة يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وأما إن لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس عليه، ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي بإيمانهم بالله وكتبه ورسله، وهم المؤمنون كما ذكر الله عنهم، يقولون: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
(وقال) تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ} أي لا يريدونه ولا يحبونه {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وسماهم تعالى كفارًا، فأول الآية قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} أي سقوطًا لهم وشقاءً لهم وهلاكًا ثم قال: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أحبطها وأبطلها بسبب كراهتهم لما أنزل الله، وقال الشيخ: أو كان مبغضًا

(4/389)


للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به فقد كفر، وقال: ومن شفع عنده في رجل فقال: لو جاءني محمد يشفع فيه ما قبلت منه، إن تاب بعد القدرة عليه قتل، لا قبلها في أظهر قولي العلماء.
(وقال) تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي المنافقين في غزوة تبوك لما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، وقيل غير ذلك، فأنزل الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فقال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} توبيخ وتقريع لهم، فإنهم كاذبون في اعتذارهم وقولهم: نخوض ونلعب ونتحدث نقطع به الطريق {لَا تَعْتَذِرُوا} فإني أعلم كذبكم {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي بهذه المقالة التي استهزأتم بها، وأظهرتم الكفر بعدما أظهرتم الإيمان.
(إن نعف عن طائفة منكم) فنتوب عليهم قيل إنه مخشي ابن حمير، كان يضحك ولا يخوض، وينكر بعض ما يسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وسأل الوفاة قتلاً في سبيل الله {نُعَذِّبْ طَائِفَةً} منكم أي: لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.
فمن أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين كفر بالإجماع، وقال الموفق: ينبغي أن لا يكتفى من الهازل بذلك

(4/390)


بمجرد الإسلام حتى يؤدب أدبًا يزجره عن ذلك.
(وقال) تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} لما نبه تعالى على قدرته العظيمة وأن {مِنْ آيَاتِهِ} الدالة على ذلك {الليْلُ} الباهر بظلامه {وَالنَّهَارِ} بضيائه {وَالشَّمْسُ} بنورها {وَالْقَمَرُ} بضيائه وكانا أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبه على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده، تحت قهره تعالى وتسخيره، ونهى عن السجود لهما، وإشراكهما في
عبادته.
ثم قال {وَاسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} فهو المستحق أن يعبد وحده {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فلا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، ثم قال: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} عن إفراده بالعبادة، وأبو إلا أن يشركوا معه غيره {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} كما قال {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.
فمن سجد للشمس أو للقمر أو للصنم أو نحوهما كفر بإجماع المسلمين.
(وقال) تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ} أي من دون الله (أولياء) يعني الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ} أي قالوا ما نعبدهم {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} تقريبًا ويشفعوا لنا عند الله إلى قوله {إِنَّ

(4/391)


اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي لا يرشد لدينه من كذب فقال إن الآلهة تشفع، وكفى باتخاذه الآلهة من دون الله كذبًا وكفرًا، فكفرهم تعالى باتخاذهم الشفعاء وسائط بينهم وبينه، وأخبر أنه يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، فيفصل بين الخلائق يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله، ولا يهدي من كفر بآياته وحججه، وتقدم قول الشيخ: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم، كفر إجماعًا.
(وقال) تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسله {ثُمَّ كَفَرُوا} أي ارتدوا عن الإسلام {ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} ثم ارتدوا {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} على كفرهم بتكرر ردتهم، واستمرارهم على ضلالهم، وموتهم عليه، ولهذا قال: {لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} لموتهم على كفرهم، أو لإقامتهم عليه بدون توبة، وحكي أنه لا تقبل توبتهم، وأكثر أهل العلم على قبول توبتهم، وإنما المراد لا يغفر الله لهم ما أقاموا على كفرهم، وتقدم قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ولا يجعل لهم فرجًا ولا مخرجًا {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} طريقاً إلى الحق، قال ابن عباس: {ازْدَادُوا} تمادوا على كفرهم حتى ماتوا.
ثم قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} من كفرهم ونفاقهم {وَأَصْلَحُوا} أعمالهم

(4/392)


{وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ} اتقوا الله {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلهِ} الآية أراد تعالى الإخلاص بالقلب، لأن النفاق كفر القلب، فزواله يكون بإخلاص القلب {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وفي زمرتهم يوم القيامة {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله {وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا *} بمن شكره، ومن آمن به جازاه أوفر الجزاء والشكر ضد الكفر، وهذه الآيات كقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
(وقال) تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ} يعني هاروت وماروت {مِنْ أَحَدٍ} من الناس {حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} امتحان وابتلاء {فَلَا تَكْفُرْ} ففيها أن تعلم السحر وعمله كفر، فمن أراد الله شقاوته تعلم السحر منهما فيكفر به، ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان بالله، قال ابن العباس: إذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وذلك أنهما علما الخير والشر، والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر، قال فإذا أبي عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه، فإذا تعلمه خرج من النور، فنظر إليه ساطعًا في السماء، فيقول يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع.
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} أي فيتعلم

(4/393)


الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون بين الزوجين ويؤخذ كل منهما عن صاحبه، ويبغض كل منهما إلى صاحبه، مع ما بينهما من الائتلاف وهذا من صنيع الشياطين، وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء المنظر أو الخلق ونحو ذلك أو عقدًا وبغضه ونحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة. {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} بقضاء الله وقدره، ثم أخبر أنهم {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} أي يضرهم في دينهم وليس له نفع {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} حظ ولا نصيب {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
(وقال) تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} وتبصره وشرح صدره بالكفر واطمئنانه به، فله العذاب العظيم في الدنيا والآخرة، لارتداده عن دين الإسلام بعد الدخول فيه، لاستحباب الدنيا على الآخرة، وأخبر أنه طبع على قلبه وسمعه وبصره وأنه من الغافلين، وفي الآخرة هم الخاسرون {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فهو استثناء ممن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه مكرهًا، لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله والرسول.

(4/394)


نزلت في عمار بن ياسر أخذه المشركون فعذبوه، فوافقهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان وأجمع أهل العلم على أن من أكره على كلمة الكفر، يجوز له أن يقول بلسانه غير معتقد بقلبه، وإن أبى حتى يقتل كان أفضل.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من بدل دينه فاقتلوه) أي من بدل دين الإسلام، لأن الدين في الحقيقة هو دين الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وللطبراني من حديث ابن عباس: من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه، وتقدم ما يحل به دم المرء وهو التارك لدينه.
فدل الحديث على أن كل من وقع منه التبديل يقتل، ومن ترك دينه يجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال النووي هو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فأما من بدله في الظاهر بلا إكراه فلا نزاع في قتله، ومن بدل في الباطن ولم يثبت عليه في الظاهر فإنها تجري عليه أحكام الظاهر، ومن بدل دينه في الظاهر لكن مع الإكراه على ما تقدم فتقدم.
واستدل الجمهور بالحديث على قتل المرتدة كالمرتد، وخالفت الحنفية، وتمسكوا بحديث النهي عن قتل النساء، وحمله الجمهور على الكافرة الأصلية، إذا لم تباشر القتال، لقوله «ما كانت هذه لتقاتل» ثم نهى عن قتل النساء، وابن عباس راوي الحديث أمر بقتل المرتدة، وقتل أبو بكر في خلافته امرأة

(4/395)


ارتدت والصحابة متوافرون، فلم ينكر ذلك أحد منهم، وفي حديث معاذ وحسنه الحافظ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له لما أرسله إلى اليمين أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وايما امرة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها، ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها، كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف، وقال الوزير: اتفقوا على أن المرتد عن الإسلام يجب قتله، ومذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي أنه يستتاب، فإن تاب في الحال قبل منه وإلا أجل للاستتابة ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل.
قال: (ولا تعذبوا بعذاب الله) أي فلا تحرقوا بالنار (رواه البخاري) قال الشيخ: إذا أسلم المرتد عصم دمه وماله، وإن لم يحكم بصحة إسلامه حاكم باتفاق الأئمة، بل مذهب أحمد المشهور عنه وأحد قولي أبي حنيفة والشافعي، أن من شهد عليه بالردة فأنكر حكم بإسلامه، ولا يحتاج أن يقر بما شهد به عليه، بل بين تعالى أنه يتوب على أئمة الكفر.
(وعن معاذ بن جبل) رضي الله عنه (في رجل أسلم ثم تهود) قال الحافظ لم أقف على اسمه، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه إذا عند رجل موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًا فأسلم ثم تهود؛ فقال معاذ (لا أجلس حتى يقتل) وذلك أنا أبا موسى وضع له وسادة وقال: أنزل. فأبى حتى يقتل (قضاء الله

(4/396)


ورسوله) وفي رواية لأحمد: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه، ولأبي داود أن أبا موسى دعاه عشرين ليلة أو قريبًا منها، فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه، ولفظ الصحيحين وغيرهما (فأمر به فقتل متفق عليه) وتقدم حكاية الإجماع على قتل المرتد عن الإسلام، واختلفوا في استتابة من تكررت ردته، وفي الزنديق وهو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ومذهب مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وأحمد أنه يقتل بكل حال، لفساد عقيدته، وقلة مبالاته بالإسلام.
(وقال عمر) بن الخطاب رضي الله عنه لما أتاه رجل من قبل أبى موسى، في رجل كفر بعد إسلامه – ما فعلته؟ قالوا: قربناه فضربنا عنقه.
فقال عمر (فهلا حبستموه) ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا (واستتبتموه) لعله يتوب ويراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني؛ رواه مالك والشافعي، وللبيهقي قال عمر: يا أنيس ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين قال: يا أمير المؤمنين قتلوا بالمعركة فاسترجع قلت: وهل كان سبيلهم إلا القتل؟ قال: نعم كنت أعرض عليهم الإسلام، فإن تابوا وإلا أودعهم السجن.
فدل خبر عمر مع ما تقدم على استتابة المرتد، وهو قول الجمهور وحكي إجماعًا سكوتيًا، لأن عمر كتب في أمر المرتد، هلا حبستموه ثلاثة أيام، وخبر "من بدل دينه فاقتلوه" وللآية

(4/397)


المتقدمة وغيرها، فكأن الصحابة فهموا من الخبر وغيره إن لم يرجع لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} وغيرها.
وعلى هذا فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار، رجل أو امرأة، دعي إليه ثلاثة أيام، وضيق عليه وحبس لعله أن يتوب ويراجع، فإن أسلم لم يعزر، وإن لم يسلم قتل بالسيف، إلا رسول كفار فلا يقتل للخبر، ولا يقتل المرتد إلا إمام أو
نائبه.
وتوبة المرتد وكذا كل كافر بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لقصة اليهودي وغيره، ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه فتوبته إقراره بالمجحود به أو براءته من كل دين يخالف دين الإسلام.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما قال (إن أعمى كانت له أم ولد) أي غير مسلمة (تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم -) تسبه (وتقع فيه) أي تعيبه وتذمه (فينهاها فلا تنتهي) وفي لفظ: يزجرها فلا تنزجر والمراد أنه يمنعها فلا تمتنع (فلما كان ذات ليلة) أي لما كان الأمر في ذات ليلة (أخذ المعول) بكسر فسكون المهملة سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه، أو حديدة دقيقة لها حد ماض (فجعله في بطنها واتكأ عليه) أي تحامل عليه (فقتلها) من أجل شتمها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا اشهدوا) أي على ما أحكم به (أن دمها هدر) باطل لا قصاص

(4/398)


فيه ولا دية (رواه أبو داود) والنسائي وغيرهما، وقال الحافظ رواته ثقات.
فدل الحديث على أن من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتل، أما إذا فعل ذلك المسلم فقال الخطابي: لا أعلم فيه خلافًا وأما الذمي فإنه إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له؛ فيحل قتله، وكذا من سب نبيًا أو رسولاً أو ملكًا، لما تقدم، وقال الشيخ: من سب الصحابة أو أحدًا منهم أو اقترن بسبه دعوى أن عليًا إله أو نبي أو أن جبرائيل غلط، فلا شك في كفره.
(وعن جندب) بن عبد الله رضي الله عنه (مرفوعًا) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حد الساحر ضربه بالسيف» وجاء من طريق آخر أن جندب الخير جاء إلى ساحر فضربه بالسيف، وقال: سمعت رسول الله، الحديث (رواه الترمذي) وروي من حديث بريدة «حد الساحر ضربة واحدة» وبهذا الحديث أخذ أبو حنيفة ومالك وأحمد، وقال الشافعي: إن عمل ما يبلغ به الكفر، وقول الجمهور أسعد بالدليل.
(وكتب عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، رواه البخاري) عن بجالة بن عبدة، وزاد فيه قال: فقتلنا ثلاث سواحر، وقال أحمد: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني عمر وجندب وحفصة، فإنها أمرت

(4/399)


بقتل جارية لها سحرتها، والسحر عقد ورقي وكلام يتكلم به فاعله أو يكتبه، أو يعمل شيئًا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل ومنه ما يمرض ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه كما تقدم، وتعلمه وتعليمه وفعله حرام بلا نزاع، ويقتل الساحر المسلم، ومعتقد حله لا ذميًا إلا أن يقتل بسحره.
ويحرم طلسم، وهو خطوط وكتابة يستعملها الساحر يزعم أنها تدفع عنه كل مؤذ، ورقية بغير العربية، قال الشيخ: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به، ولو عرف معناه وجعل الألفاظ الأعجمية شعارًا ليس من دين الإسلام.
(ولهما عن ابن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت أن أقاتل الناس) أي المشركين منهم (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) والمراد العلم بمعناها، والعمل بمقتضاها (وأن محمدًا رسول الله) ومن قال: إنه مسلم ولم ينطق بالشهادتين لم يحكم بإسلامه {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} فهما ركنان لا يستقيم إسلام العبد إلا بهما (فإذا فعلوا ذلك) أي شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة (عصموا مني دماءهم وأموالهم) فلا يحل قتالهم حتى يأتوا بمناف للشهادتين (إلا بحق الإسلام) وهو التزام شرائعه قال أبو بكر: لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على ذلك.

(4/400)


ولأحمد من حديث ابن مسعود في قصة اليهودي الذي يقرأ التوراة حتى أتى على صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته وقال هذه صفتك وأمتك أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله فقال: «آووا أخاكم» ومن كانت ردته بجحد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى غير العرب، فلا بد أن يشهد أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس كافة، ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه فتوبته مع الشهادتين إقراره بما جحده من ذلك، وإن قال: أنا مسلم، ولا أنطق بالشهادتين لم يحكم بإسلامه، وإن أسلم المرتد وإلا صار ماله فيئًا من موته مرتدًا.
ومن جحد عبادة من الخمس أو حكمًا ظاهرًا مجمعًا عليه إجماعًا قطعيًا كفر، ومن جحد شيئًا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها، أو شيئًا من الحلال المجمع عليه ومثله لا يجهله كفر، لمعاندته الإسلام، وامتناعه من التزام أحكامه، وعدم قوله لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع الأمة وإن كان مثله يجهله عرف حكم ذلك ليرجع عنه، قال الشيخ أو ترك إنكار منكر بقلبه.

(4/401)