الإشراف
على مذاهب العلماء 87 - كتاب المحاربين
قال أبو بكر:
قال الله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ}.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ} الآية.
وقال جل ذكره: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا}.
(ح 1427) وثبت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال يوم عرفة، "دماؤكم
وأموالكم حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، وفي بلدكم هذا".
(ح 1428) وقال: "أمرت أن أقاتل الناس [2/ 245/ب] حتى يقولوا: لا إله إلا
الله، فإن قالوها فقد عصموا مني (1) دماءهُم، وأموالهم إلا
__________
(1) "مني" ساقط من الدار.
(7/234)
بحقّها، وحسابُهُم على الله عَزَّ وَجَلَّ.
م 4681 - فدماء المؤمنين محرمة على ظاهر كتاب الله عز وجل، وبالأخبار
الثابتة عن رسول الله صلى الله - صلى الله عليه وسلم - وبإجماع أهل العلم،
إلا بالحق الذي استثناه الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه وعلى لسان نبيه - صلى
الله عليه وسلم -.
فأما الكتاب: فقوله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}.
وأما السنة: فقوله: "عصموا مني دماءهُم وأموالهُم إلا بحقّها".
فمن الحق الذي استثناه الله في كتابه، القصاص، قال الله عز وجل: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآية.
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} َ
وقال جل ذكره: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}.
ومن الحق الذي ذكره الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى
الله عليه وسلم -: إباحة دم من كفر بعد إيمانه (1)، أو زل بعد إحصان.
__________
(1) وفي الدار "بعد إسلامه".
(7/235)
وقال الله عز وجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}،
وأوجب حد الزاني، وقطع السارق.
وجلد الشارب على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وأوجب الله عَزَّ وَجَلَّ إقامة الحدود على المحاربين فقال جل ذكره:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} إلى قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
1 - باب اختلاف أهل العلم فيمن نزلت آية
المحاربين
قال أبو بكر:
م 4682 - اختلف أهل العلم فيمن نزل قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية.
فقال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: نزلت الآية فيمن خرج من
المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد.
(7/236)
وقالت طائفة: نزلت الآية في أهل الشرك، هذا
قول الحسن البصري، وعطاء، وعبد الكريم.
وقد احتج أبو ثور بالقول الأول بأن في الآية دليلاً على أن الآية نزلت في
غير أهل الشرك، وهو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}.
م 4683 - وقد أجمع [أهل العلم] (1) على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا
وأسلموا، أن دماءهم تحرم.
فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإِسلام.
واحتج بعض من يقول بالقول الآخر بخبر العرنيين، وقال: في بعض الأخبار: إنهم
كفروا [2/ 246/ألف] بعد إسلامهم، وفيهم نزلت الآية.
قال أبو بكر: قول مالك أصح.
__________
(1) ما بين المعكوفين من الدار.
(7/237)
2 - باب ما يجب على
قطاع الطريق عند من جعل حكم الآية في أهل الإسلام
قال أبو بكر: أمر الله عَزَّ وَجَلَّ بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع
شيئين: محاربة وسعياً في الأرض بالفساد، فقال جل ذكره: {إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية.
م 4684 - فالحكم عند أكثر أهل العلم هذه الآية إنما يجب على من خرج من
المسلمين فقطع الطريق، وأخاف السبيل، وسعى في الأرض بالفساد.
م 4685 - وقد اختلفوا فيما يجب على من فعل ذلك.
فقالت طائفة: تقام عليه الحدود على قدر أفعالهم.
فمن روي هذا المذهب عنه: ابن عباس، قال إذا خرج الرجل محارباً فأخاف
السبيل، وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال وقتل: قطعت يده
ورجله من خلاف، ثم صلب.
وإذا قتل ولم يأخذ قال: قتل، فإن هو لم يأخذ قال ولم يقتل: نفي.
ويروى معنى هذا القول عن أبي مجلز، وقتادة، وعطاء الحراساني، والنخعي.
(7/238)
وكان الأوزاعي يقول: إذا أخاف السبيل فشهر
سلاحه وقتل ولم يصب مالاً، قتل، وإن قتل وأخذ مالاً: صلب فقتل مصلوباً، وإن
هو شهر السلاح وأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتل أحداً، ولم يصب دماً: قطع
من خلاف.
وقال الشافعي رحمه الله: "من قتل منهم وأخذ المال: قتل وصلب.
وإذا قتل ولم يأخذ مالاً: قتل ودفع إلى أوليائه يدفنونه، ومن أخذ مالاً ولم
يقتل، قطعت يده اليمنى ثم حسمت، ثم رجله اليسرى ثم حسمت في مكان واحد،
وخلي.
ومن حضر، وكثّر، وهيّب، أو كان ردءاً يدفع عنهم، عُزّر وحُبس".
وقال أحمد بن حنبل: من قتل قتل، ومن أخذ المال: قطع.
وقال أصحاب الرأي: إذا قتلوا وأخذوا المال، قطعت أيديهم اليمنى وأرجلهم
اليسرى من خلاف، ويقتلهم، أو يصلبهم إن شاء، فإن أصابوا الأموال ولم يقتلوا
قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف،
ولا يقتلوا.
فإن [2/ 246/ب] قتلوا ولم يصيبوا مالاً: يقتلون، ولا تقطع أيديهم وأرجلهم.
وقالت طائفة: الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام
التي أوجبها الله جل ذكره في الآية، من القتل والصلب، أو القطع، أو النفي،
بظاهر الآية.
(7/239)
وروي هذا المذهب عن ابن عباس، وهذا مذهب
عطاء، والحسن البصري، ومجاهد، والنخعي، والضحاك بن مزاحم.
وبه قال مالك، وأبو ثور.
واحتج بعضهم بأن الآية لما كان فيها أو كان ككفارة اليمين التي الحانث فيها
(1) بالخيار: إن شاء أعتق، وإن شاء كسا، وإن شاء أطعم، ومثل فدية الأذى.
وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: ما كان في القرآن أو، أو فصاحبه بالخيار.
3 - باب صلب المحارب
قال أبو بكر: قال الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} الآية.
م 4686 - واختلف أهل العلم في صلب المحارب.
فروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إذا أخذ المال وقتل، قطعت يده
ورجله من خلاف، ثم صلب.
__________
(1) وفي الدار "التي الحالف في يمينه".
(7/240)
وقد روينا عن قتادة، وسعيد بن جبير، وعطاء
الخراساني، والنخعي، والسدي، وعطية، والكلبي، أنهم قالوا: إذا أخذ المال،
وقتل، صلب.
وقال الليث بن سعد: يصلب حياً، ثم يطعن بالحربة حتى يموت.
وقال الشافعي: وأحب إليّ أن يبدأ بقتله، ثم يصلب.
وقال الأوزاعي: يصلب ويقتل مصلوباً.
وقال يعقوب: يصلب وهو حي، ثم يقتل على الخشبة، إذا جمع القتل وأخذ المال.
4 - باب نفي المحارب
قال أبو بكر: قال الله عز وجل: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}.
م 4687 - واختلف أهل العلم في نفي المحارب.
فروينا عن ابن عباس أنه قال: ينفي من بلده إلى بلدِ غيره.
وقال الشعبي: ينفيه من عمله.
(7/241)
وقال أبو الزناد: كان منفى الناس إلى باضع،
ودهلَك، وتلك الناحية.
وقال مالك: ينفى من بلد إلى بلد، ويحبس في الحبس، وقال: لا ينفى إلى شيء من
بلدان الكفر.
وقال الحسن البصري: ينفى حتى لا يقدر عليه.
وقال الزهري: نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه كلها سمع به في أرض طلب فيها (1).
وقال الشافعي [2/ 247/ألف] بخبر رواه عن ابن عباس: أن نفيهم أن يطلبوا حتى
يؤخذوا، فتقام عليهم الحدود.
وقال أصحاب الرأي: يطلب حتى يؤخذ، فتقام عليه الحدود.
وبه قال أبو ثور.
وقال بعضهم: ينفى من البلدة التي هو بها إلى بلدة غيرها، واحتج بأن الزاني
كذلك ينفى.
5 - باب عفو السلطان عن المحارب، أو عفو ولي
دمه دون الإمام
قال أبو بكر:
م 4688 - أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلطان ولي من
__________
(1) "فيها" ساقط من الدار.
(7/242)
حارب فإن قتل محارب أخاً امرئ، أو أباه في
حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي
الدم، والقائم بذلك الإمام.
جعلوا ذلك بمنزلة حد من (1) حدود الله، روي هذا القول عن عمر ابن الخطاب
رضي الله عنه، وبه قال سليمان بن موسى، والزهري، ومالك، والشافعي، وأبو
ثور، وأصحاب الرأي.
وقال أحمد: السلطان ولي من حارب الدين.
قال أبو بكر: وبه نقول.
6 - باب توبة المحارب قبل أن يقدر عليه، وما
يجب عليه من حقوق بني آدم (2)
قال أبو بكر: قال الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}.
م 4689 - واختلف أهل العلم في معنى هذه الآية.
__________
(1) "حد من" ساقط من الدار.
(2) وفي الدار "حقوق ابن آدم".
(7/243)
فقال قتادة، والزهري: ذلك لأهل الشرك.
وقال كثير من أهل العلم: الآية نزلت في المسلمين، فإذا تاب المحارب الذي قد
جنى الجنايات قبل أن يقدر عليه الأمام، سقط عنه ما كان من حد لله، وأخذ
بحقوق الآدميين، واقتص منه من النفس الجراح، وأخذ ما كان معه من مال، وقيمة
ما استهلك.
هذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، [أبو ثور عنهم] (1).
7 - باب المحاربة في الأمصار والقرى
قال أبو بكر:
(ح 1429) ثبت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "من انتهب نُهبةً
مشهورةً فليس منا".
م 4690 - واختلف أهل العلم فيمن قطع الطريق في مصر من الأمصار، أو قرية من
القرى، فقتل وأخذ المال.
فقالت طائفة: لا تكون المحاربة في [2/ 247/ب] المصر، إنما يكون خارجاً من
المصر، هذا قول سفيان الثوري، وإسحاق، والنعمان.
__________
(1) ما بين المعكوفين من الدار.
(7/244)
وقد اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت
المحاربة في المصر مرة، ونفي ذلك مرة.
وقالت طائفة: حكم ذلك في الصحراء، والمنازل، والطريق، وديار أهل البادية،
والقرى سواء، إن لم يكن من كان في المصر أعظم ذنباً فحدودهم واحدة هذا قول
الشافعي، وأبي ثور.
قال أبو بكر: كذلك هو، لأن كلاً يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على
العموم، وليس لأحد أن يُخرج من جملة الآية قوماً بغير حجة.
8 - باب ما يجب على من قطع الطريق وأخذ أقل مما
تقطع فيه اليد في السرقة
قال أبو بكر:
م 4691 - واختلفوا في المحارب يصيب من المال أقل مما يجب فيه قطع اليد.
فقال مالك: للإمام أن يحكم عليه بحكمه على المحارب إذا شهر السلاح وأخاف
السبيل، هذا قول مالك، وأبي ثور.
وقال آخرون: لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق،
هذا قول الشافعي، وأصحاب الرأي.
(7/245)
قال أبو بكر: فمن الفرق البين بينهما وجوب
قطع اليد والرجل على المحارب، وإنما يجب على السارق قطع اليد فقط، فإذا جاز
التغليظ على المحارب دون السارق فكذلك جاز أن يغلظ عليه، فيوجب عليه على
ظاهر الآية قطع اليد وإن أخذ أقل من قدر ما يجب فيه قطع اليد.
وهذا يلزم من قال: لا يقاس أصل على أصل.
9 - باب قطع الطريق على أهل الذمة وقطع الذمي
الطريق على أهل الملة
قال أبو بكر:
م 4692 - كان الشافعي يقول: وإذا قطع المسلمون على أهل الذمة، حُدوا حدودهم
لو (1) قطعوا على المسلمين، إلا أني واقف في أن أقتلهم إن قتلوا، أو أضمنهم
الدية.
وقال أبو ثور: نحكم عليهم على من قطعوا، على مسلمين أو ذميين.
وكذلك نحكم عليهم مسلمين كانوا أو ذميين.
وحكي ذلك عن الشافعي، والكوفي.
م 4693 - وقال الشافعي، وأبو ثور: إذا قطع أهل [2/ 248/الف] الذمة على
المسلمين، حدوا حدود المسلمين، وبه قال أصحاب الرأي.
__________
(1) وفي الدار "أو".
(7/246)
م 4694 - وفي قول الشافعي: الحكم على
المرأة كالحكم على الرجل.
م 4695 - وكذلك قال أبو ثور في العبيد، والنساء: أن الحكم عليهم كالحكم على
الأحرار.
م 4696 - وليس كذلك الصبيان، في قول الشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، لأن
الحدود غير واجبة عليهم، ويغرمون ما أتلفوا من مال.
10 - باب قتال الرجل عن نفسه وماله
قال أبو بكر:
(ح 1430) ثبتت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من
قُتل دون مالهِ فهُو
شهيدٌ.
م 4697 - قال أبو بكر: روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص،
ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم.
هذا مذهب ابن عمر، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وقتادة، ومالك،
والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والنعمان.
(7/247)
قال أبو بكر: وهذا يقول عوام أهل العلم إن
للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله، إذا أريد ظلماً (1)، للأخبار التي
جاءت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، لم تخص وقتاً دون وقت، ولا حالاً
دون حال؟ إلا السلطان، فإن جماعة أهل الحديث كالمجمعين على أن من لم يمكنه
أن يمنع نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته: أنه لا يحاربه، ولا
يخرج عليه.
(ح 1431) للأخبار الدالة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - التي فيها
الأمر بالصبر على ما يكون منهم من الجور والظلم، وترك قتالهم، والخروج
عليهم ما أقاموا الصلاة.
(ح 1432) وروينا عن ابن عباس عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من
رأى من أميره شيئاً يكرهُهُ فليصبر فإنه ليس أحدُ يفارقُ الجماعةَ إلا مات
ميتةً جاهليةَ".
__________
(1) وفي الدار "إذا أريد ظلمه".
(7/248)
|