الإقناع لابن المنذر

كتاب الغصب
قَالَ اللَّه جل ذكره: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] .
«وحرم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأموال فِي خطبته بعرفة ومنى فِي حجة الوداع» مودعا بذلك أمته، وأجمع أهل العلم عَلَى تحريم أموال المسلمين والمعاهدين بغير حق، فالأموال محرمة بالكتاب والسنة والاتفاق إلا بطيب نفس المالكين من التجارات والهبات والعطايا وغير ذَلِكَ مما دل عَلَى إباحته الكتاب والسنة والاتفاق.
240 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ: نا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ذَكَرَ حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ: جَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، أَمَرَ بِالْقُصْوَى فَرُحِّلَتْ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي وَخَطَبَ

(2/706)


النَّاسَ، فَقَالَ: «أَلا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ

باب ذكر التغليظ عَلَى من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه
241 - نا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ سَرَقَ مِنَ الأَرْضِ شِبْرًا طَوَّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»

باب ذكر التغليظ عَلَى من اقتطع أرضا غصبا بيمين فاجرة
242 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا أَبُو الأَحْوَصِ، قَالَ: نا سِمَاكٌ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ

(2/707)


لأَبِي.
فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضٌ فِي يَدَيَّ أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ: «لَكَ بَيِّنَةٌ؟» قَالَ: لا.
قَالَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ» .
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ لَيْسَ يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلا ذَلِكَ» .
قَالَ: فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»

باب ذكر الجارية يغصبها الغاصب فتزيد أو تنقص
أجمع كل من يحفظ عَنْهُ من أهل العلم عَلَى أن من غصب جارية صغيرة فكبرت، أو مهزولة فسمنت أو مريضة فبرئت، وكانت تسوى ألفا، فزادت قيمتها فجاء المغصوب والجارية فِي يد الغاصب أن عليه دفعها إِلَى المغصوب، وَلا شيء للغاصب فيما أنفق عَلَيْهَا أو مَا نمت به، فإن زادت قيمتها عَلَى مَا غصبها به فتلفت فِي يد الغاصب فعليه قيمتها أكثر مَا كانت قيمة من يوم غصبت إِلَى أن هلكت، وهذا عَلَى مذهب الشَّافِعِيّ، وأبي ثور.
ومن حجة قائل هذا القول: أن الغاصب كَانَ غاصبًا لها فِي جميع الأحوال إِلَى أن تلفت، وكان عليه ردها إِلَى المغصوب إِلَى أن تلفت، وعليه رد ولدها إن كَانَ لها، وقيمة من تلف منهم، وإذا غصبها وقيمتها ألف درهم، فنقصت حَتَّى صارت تسوى مائة درهم أخذها المغصوب منه، وأخذ معها تسع مائة درهم، إذا كَانَ ذَلِكَ نقصانًا فِي بدنها، فإن كانت بعينها كما أخذها، وإنما نقص ثمنها لغلاء السعر ورخصه فلا شيء عليه غيرها.

باب ذكر الشيء المغصوب تكون لَهُ غلة وغير ذَلِكَ
وإذا غصب الرجل الدار أو الأرض أو العبد وللشيء المغصوب غلة فعليه

(2/708)


رد الشيء المغصوب، وعليه كراء مثل الشيء المغصوب، استغل ذَلِكَ أو لم يستغله من حين غصبه إِلَى أن رده، لا فرق فِي ذَلِكَ بين الدار والعبد والدابة، وإذا غصب عبدًا وهو يسوى ألف درهم فزاد حَتَّى صار يسوى ألفي درهم، ثم نقص بعد الزيادة حَتَّى صار يسوى ألفا فعليه رده، ورد ألف درهم، لأنه كَانَ غاصبًا لَهُ وهو يسوى ألفي درهم، وهذا عَلَى مذهب الشَّافِعِيّ، وأبي ثور.
وإذا غصب جارية ووطئها وأولدها أولادا فعليه رد الجارية والأولاد، ويكونون رقيقا لرب الجارية، وَلا يثبت نسبهم منه، وعليه الحد إن كَانَ عالما وعلى الجارية إن علمت الحد، وإن أوتيت مستكرهة فلا حد عَلَيْهَا، وإن مات بعض الأولاد عَلَى الغاصب قيمة من مات منهم.
وإذا غصب جارية ثم باعها وأولدها المشتري أولادا، ثم استحقها المغصوب منه أخذها، وأخذ قيمة أولادها من المشتري، وكانوا أحرارا، ويرجع بقيمة الأولاد عَلَى الغاصب الذي غره، وإذا غصب جارية ثم باعها وأعتقها المشتري وأقام عَلَيْهَا سيدها بينة أنها لَهُ، فسخ البيع، وبطل العتق وقبضها ربها.
وإذا غصب جارية فباعها ثم أقر بعد البيع بأنه غصبها من فلان، أو لا بينة تشهد عَلَى ذَلِكَ، لم يفسخ البيع ولم يصدق الغاصب عَلَى مَا ذكر وضمن الغاصب قيمتها لربها، وكان لربها أن يستخلف المشتري عَلَيْهَا، وإذا ضمنها الذهب بعد أن ذكر أنها تلفت، ثم ظهرت الجارية أخذها ربها ورد مَا أخذ من القيمة، لأن القيمة إنما أخذها، لأن الجارية مستلفة لا يقدر عَلَيْهَا، فلما ظهرت الجارية وجب أخذ الجارية، لأن ذَلِكَ لم يكن بيعا، وإنما القيمة تجب فِي الشيء المستهلك والثمن يكون للشيء القائم، وأبطل أهل العلم أن تباع الجارية بقيمتها.
وإذا غصب رجل جارية وأولدها ثم ادعاها رجل وأقر لَهُ الغاصب بها، وَلا بينة لَهُ فعليه قيمتها وقيمة أولادها، وإن كَانَ فيها نقص فعليه مَا دخلها من النقص، وَلا يحل للغاصب وطؤها، وَلا يستمتع بها، وذلك أنها جارية لربها وهم ولده فِي الحكم، وتعتق

(2/709)


الجارية بموته، وإذا أقام رجل بينة عَلَى صدق أنها لَهُ، فادعت الجارية أن مولاها الأول قد كَانَ أعتقها، وقد ولدت من المشتري، وقال المولى الأول قد كنت أعتقتها لم يقبل قول الجارية، وَلا قول المولى الذي باعها، ولو أقامت الجارية البينة أن المولى كَانَ أعتقها ثبتت لها الحرية، ورجع المشتري عَلَى البائع بالثمن، وعلى المشتري مهر المثل للجارية.

باب ذكر الفرق بين السلع التي يجب عَلَى متلفها مثلها والسلع التي يجب عَلَى متلفها قيمتها
الشيء المتلف الذي يجب عَلَى المتلف فِيهِ القيمة أو المثل شيئان: شيء يجب فِيهِ القيمة، وشيء يجب عَلَى المتلف فِيهِ المثل.
فالأصل فيما يجب عَلَى المتلف فِيهِ القيمة الحيوان وكثير من العروض قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فكان لَهُ مال فبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم» .
وهذا قول عوام أهل العلم.
وأما الشيء الذي عَلَى متلفه فِيهِ مثل مَا أتلف مثل: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والسمن، وما أشبه ذَلِكَ، وهذا عَلَى مذهب: مالك، والشافعي،

(2/710)


والنعمان، ويعقوب، ومحمد، وأبي ثور، وَلا نعلم أحدًا خالف ذَلِكَ، فإن كَانَ المتلف مَا لَهُ مثل، ولم يوجد فِي المكان الذي اختصما فِيهِ ففي ذَلِكَ قولان، أحدهما: أن عليه قيمتها يوم يختصمان فِيهِ هذا قول أبي ثور، وأصحاب الرأي، قالوا: لأن الغاصب أن يعطيه مثلها يوم يخاصمه، فإذا لم يقدر عَلَى مثلها كَانَ عليه القيمة يومئذ.
القول الثاني: ليس يؤخذ منه إلا مثله يأتي به إلا أن يصطلحا عَلَى شيء، هذا قول ابن القاسم صاحب مالك.
الأول أصح.
ومن كسر صحفة كسرًا صغيرًا أو كبيرًا قومت الصحفة صحيحة ومكسورة، وكان عَلَى الجاني مَا نقصها الكسر من الجاني.
والجواب فِي كل ثوب يقطع وشيء من الأواني يكسر كالجواب فِي الصحفة، لا يستحق الجاني شيئا من الأشياء التي جنى عَلَيْهَا الشيء المجني عليه، ولكنه يكون عليه مَا نقص الشيء المجني عليه، وَلا يزول ملك مالك عن مَا ملكه اللَّه بغير حجة، وَلا يملك رجل شيئا إلا أن يشاء ربه أن يملكه إياه إلا الميراث.
فأما مَا جني عليه من الحيوان وسائر السلع فالجواب فِي ذَلِكَ كما ذكرت إلا العبيد والإماء، فإنهم إذا جني عليهم يقومون صحاحًا قبل الجناية، ثم ينظر إِلَى الجناية فيعطون أرشها من قيمة العبد صحيحا كما يعطى الحر أرش الجناية عليه من دمه

(2/711)


بالغًا مَا بلغ من ذَلِكَ، وإن كانت قيمًا يأخذ الحر ديات وهو حي، وَلا يملك أحد بالجناية شيئا إلا أن يشاء المالك أن يملكه إلا الميراث.
وإذا غصب الرجل جارية قيمتها ألف درهم فجنى عَلَيْهَا إنسان وقيمتها ألفا درهم ضمن رب الجارية الجاني ألفي درهم، فإن لم يأخذه ضمن الغاصب ألفي درهم، ثم كَانَ للغاصب أن يأخذ الجاني بقيمتها وذلك أنه استهلكها وهي فِي يده وقد ضمن قيمتها، وإذا غصب الرجل دار الرجل فسكنها أو لم يسكنها فانهدمت الدار كَانَ عليه مَا نقصها وكرى مثلها فِي المدة التي أقامت بيديه غير مهدومة.
وإذا غصب من رجل دابة فأجرها فأصاب من غلتها أو غصبه عبدا فأصاب من غلته، فأجره الغاصب فأجرته فاسدة، لأنه أجر مَا لم يملك وعلى الغصب كراء المثل فِي المدة التي أقامت الدابة فِي يديه أو العبد غائبا عن صاحبها، وهو ضامن لقيمته إن تلف.

باب ذكر صبغ الثوب الذي غصبه الغاصب وغير ذَلِكَ
وإذا غصبه ثوبًا فصبغه صبغًا يزيد فِي ثمن الثوب أو ينقصه، ففيها قولان، أحدهما: إن كَانَ الصبغ زيادة فِي ثمن الثوب وأمكنه أخذه بلا ضرر عَلَى الثوب فذلك لَهُ.
وإن لم يمكنه استخراجه أو كَانَ مستهلكا فِي الثوب، فلا شيء لَهُ وهو استهلك شيئه، هذا قول أبي ثور.
والقول الثاني: إن الصبغ إن كَانَ زاد فِي الثوب قيل للغاصب إن شئت فاستخرج الصبغ عَلَى أنك ضامن لما نقص، وإن شئت فأنت شريك بما زاد الصبغ، وإن كَانَ نقص الثوب ضمن النقصان، وله أن يخرج الصبغ عَلَى أن يضمن مَا نقص الثوب، وإن شاء ترك، هذا قول الشَّافِعِيّ، وإذا غصبه غزلا فنسجه ثوبًا فهو لرب الغزل، إلا أن يكون نقص من ثمن الغزل شيئا فعلى الغاصب مَا نقصه.
وإذا غصبه حنطة فزرعها الغاصب كَانَ مَا أخرجت الأرض من الحنطة لصاحب الحنطة، وكذلك لو اغتصب فسيلة فغرسها أو نواة فغرسها أن مَا خرج منها لصاحب الفسيلة والنواة، وليس للغاصب بقيامه ونفقته شيء.

(2/712)


وإذا غصبه خشبة وشقها الغاصب ألواحًا أخذ رب الخشبة الألواح، فإن كانت مثل قيمة الخشبة أو أكثر أخذها وَلا شيء للغاصب فِي زيادة قيمة الألواح عَلَى الخشبة من قبل أن مَا لَهُ فيها أثرًا وَلا عينًا، وإن كانت الألواح أقل من قيمة الخشبة أخذها وفضل مَا بين القيمتين، ولو عمل من الخشبة ألواحًا ولم يدخل فيها شيئا من غيره كَانَ هكذا، ولو أدخل الغاصب فيها مسامير من عنده أو حديدًا أو خشبًا أو غير ذَلِكَ أخذ، فان يميز مَا زاد فِيهِ من مال المغصوب ويدفع إِلَى المغصوب ماله إلا من يشاء أن يدع ذَلِكَ متطوعًا، ولو كانت إذا ميز منها مَا زاد فيها من المسامير وغيره نقص ذَلِكَ من قيمة الخشبة غرم لَهُ مَا دخل فِيهِ من النقص.
وإذا غصب خمرًا من مسلم ونصراني فاستهلكها فلا شيء عليه، لأن الخمر محرم لا يحل بيعه وَلا شراؤه، وقد روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه «لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها» ، وفي حديث أبي سعيد الخدري، قَالَ: كَانَ عندنا ليتيم خمر، فلما نزلت الآية التي فِي المائدة سألنا عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلنا لَهُ: إنه يتيم.
فَقَالَ: «اهريقوه» فلو كَانَ إِلَى اتخاذ الخل منه سبيل لأمرهم بفعل ذَلِكَ، لأنه «نهى عن إضاعة المال» ، ولم يكن ليأمر بصب مَا يوجد السبيل إِلَى اتخاذ الخل منه مع أنا قد روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه «نهى أن نتخذ من الخمر خلا» .
وإذا أودع رجل رجلا حنطة وأودعه آخر شعيرًا فخلط بينهما، فالحنطة والشعير بين الرجلين عَلَى قدر أموالهما، فإن كَانَ نقص من قيمتهما شيء بالخلط كَانَ عَلَى المستودع

(2/713)


مَا دخل ذَلِكَ من النقص، لأنه خان، وإن أمكن أن يميز بينهما أمر بأن يميز بينهما، وإذا غصبه حنطة وحبسها حَتَّى فسدت أو دخل فيها نقصان كَانَ عليه دفعها إِلَى مالكها، وعليه قيمة مَا نقصها.
وإذا غصب رجل رجلا صفرا فضرب منه كوزًا أو آنية، أو غصب منه نقرة فضة فضربها دراهم، فذلك كله لصاحب الصفر ويرجع عليه بنقصان إن كَانَ دخل فِيهِ، والجواب فِي الفضة يضرب منها الدراهم كذلك، وليس للغاصب فِي زيادة عمله شيء.
وإذا اغتصب رجل من رجل طعامًا حنطة أو تمرًا أو ثوبًا يخفى، ثم إن الغاصب وهب ذَلِكَ الشيء لربه أو أهداه إليه فأكل مالك الطعام، ولبس الثوب حَتَّى بلي وهو لا يعلم أن ذَلِكَ لَهُ فلا شيء عَلَى الغاصب، لأنه قد دفع الشيء كما أخذه إِلَى ربه وليس بين هذا وبين أن يأخذ من كيس الرجل دينارًا، ثم يرده فِي كيسه من حيث لا يعلم، وكذلك لو غصبه حنطة فطحنها، أو عمل منها سويقا أو سميدا أو نشاء وأهدى ذَلِكَ إِلَى المغصوب منه أو دفعه إليه فلا شيء عَلَى الغاصب، وقد يؤدي منه حين دفعه إليه إلا أن يكون فِي ذَلِكَ نقص عن قيمة الحنطة، فيضمن لَهُ النقص الذي دخل فِيهِ بالعمل.
وإذا قَالَ الرجل للرجل: اغتصبتك هذه الدار.
ثم قَالَ بعد: والبناء لي.
أو قَالَ: اغتصبتك هذا الخاتم، والفص لي.
لم يقبل منه ذَلِكَ، لأنه أقر بشيء ثم ادعى بعضه.
وإذا غصب رجل حنطة من رجل فاستهلكها ولم يكن للغاصب حنطة مثلها، فأراد أن يأخذ مكانها شعيرًا أو تمرًا أو عرضًا من العروض، فلا بأس بذلك بعد أن يقبض رب الحنطة الشيء الذي اتفقا عليه قبل أن يفترقا من مقامهما ذَلِكَ، فإن افترقا قبل أن يقبض ذَلِكَ فسد ذَلِكَ ورجع عليه بالحنطة التي كانت عليه.
وإذا غصب شاة فأنزى عَلَيْهَا تيسًا، فجاءت بولد كانت الشاة وولدها للمغصوب منه، وَلا شيء للغاصب فِيهِ.

(2/714)


باب ذكر استهلاك مَا يحرم ثمنه
وإذا قتل رجل لرجل كلبا من الكلاب المأذون فِي الانتفاع بها، فليس عَلَى قاتلها غرم، وينهى الإمام عن استهلاك ذَلِكَ، لأن فِيهِ منفعة مَا دون فيها.
وقد ثبت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن ثمن الكلب» .
243 - نا الرَّبِيعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ»
وقد ثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام» .
فلا قيمة لشيء أتلف مما حرم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هذا الحديث، وفي معنى ذَلِكَ الطنابير والعيدان والمزامير والطبول وما يتخذ للهو لا يصلح لغيره.
فمن أتلف من ذَلِكَ شيئا فلا قيمة لَهُ إلا أن يكون بعض مَا ذكرناه يصلح أن يجعل وعاء لغير مَا ذكرناه، فيكون عَلَى متلف ذَلِكَ قيمته، لأنه يصلح لغير اللهو، وقد روينا أن رجلا كسر طنبورا لرجل فخاصمه إِلَى شريح فلم يقض فِيهِ بشيء.
وإذا جنى الرجل عَلَى دابة لرجل ففقأ عينها فعليه مَا نقصها، وَلا يثبت عن عمر أنه جعل فِي عين الدابة ربع ثمنها، وكذلك أي جناية جنى عَلَيْهَا إلا أن تصير مستهلكة

(2/715)


بالجناية، فيكون عليه قيمتها، وكذلك كل مَا جني عليه من الثياب والخشب، والدواب وغير ذَلِكَ يقوم الشيء المجني عليه، قبل أن يجنى عليه، ويقوم بعد مَا جني عليه، ثم ينظر مَا بينهما فيغرم الغاصب أو الجاني مَا بينهما من القيمة، ويكون الشيء المجني عليه لربه، لا يجوز أن يزال ملكه عن مَا ملكه اللَّه إلا أن يكون ذَلِكَ للجاني، وَلا نعلم مع بعض من خالف مَا قلناه فجعل الشيء الذي جنى عليه الجاني لَهُ، ويكون عليه قيمته حجة.

(2/716)


كتاب الإقرار
«أقر ماعز عند النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالزنى فأمر برجمه» ، «واعترفت الجهنية عند النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالزنى فأمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجمها» ، وأمر أنيس الأسلمي أن يسأل امرأة، فإن اعترفت بالزنى رجمها، واعترفت فأمر بها النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجمت.
244 - نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ زَنَى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَ، وَكَانَ فِيمَا زَعَمُوا مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ»
وأجمع كل من يحفظ عَنْهُ من علماء الأمصار عَلَى أن الحر البالغ العاقل الرشيد إذا أقر بمال أو قصاص أو حد أو قطع أن ذَلِكَ يلزمه.
وإذا أقر الرجل أنه

(2/717)


اغتصب من رجل شيئا ولم يسمه، قيل لَهُ: أقر بما شئت فإن أقر بشيء وصدقه المدعي سلم إليه مَا أقر لَهُ به، وإن لم يصدقه كَانَ القول قول الغاصب مع يمينه، وَلا يلزمه غير مَا أقر به، وهذا قول: الشَّافِعِيّ، وأبي ثور، والنعمان، وأصحابه.
وإذا أقر أنه غصب من رجل عبدًا فأي عبد جَاءَ به فالقول قوله مع يمينه، وَلا ينظر إِلَى دعوى المدعي، فإن ادعى عبدًا آخر وأنكر، فإن ثبتت لَهُ بينة بأنه غصبه عبدًا وصفته البينة غير العبد الذي أحضره لزمه مَا تثبت به البينة، وإن لم تكن لَهُ بينة، فالجواب مَا أجبنا به، ولو أقر بشاة أو بعير أو بقرة أو ثوب أو أي سلعة أقر بها، فالجواب فيها كالجواب فِي العبد.
وإذا أقر أنه غصبه عبدا ووصف العبد، كأنه قَالَ: غصبته عبدا روميا، ثم أقر بأن قيمته مَا لا يحتمل أن يكون قيمة عبد رومي لم يقبل قوله، وَلا يقبل منه إلا أن يكون ذَلِكَ قيمة عبد من الصنف الذي وصفه.
وإذا أقر أنه غصبه دارا، ثم قَالَ: هِيَ بالكوفة أو بالبصرة كَانَ القول قوله مع يمينه، وإذا قَالَ الغاصب: هِيَ هذه الدار لدار فِي يدي رجل والذي فِي يديه الدار ينكر مَا ذكره الغاصب فعلى الغاصب قيمتها، لأنه لما أقر بالغصب صار ضامنًا كأنه استهلكها عَلَى صاحبها فعليه قيمتها.
وإذا قَالَ: غصبت هذا العبد من هذا لا بل من هذا، فإنه للأول، وللآخر عليه قيمته، لأنه أقر أنه استهلكه عَلَى الآخر لما أقر به للأول، ثم أقر به للآخر. وإذا أقر بغصب

(2/718)


شيء من الأشياء من والد لَهُ أو ولد أو قريب أو بعيد، وقد استهلك الشيء فعليه قيمته، وإذا أقر أنه اغتصب هذه الأمة وولدت أولادًا وماتوا ضمن قيمة الأولاد، ورد الأمة، ونقصا إن كَانَ فيها.
وإذا اختلف الغاصب والذي غصب منه الشيء فِي قيمة الشيء المغصوب، فالقول قول الغاصب مع يمينه إذا لم تكن بينة تشهد لرب الشيء بما يذكر، وإذا قَالَ: غصبتك ثوبا من عيبة أو طعاما من بيت، فإنه يضمن الثوب والطعام، دون العيبة والبيت، وهذا قول الشَّافِعِيّ، والكوفي.

باب ذكر الإقرار بالدين فِي المرض والصحة للوارث وللأجنبيين
وإذا أقر الرجل فِي مرضه للأجنبي بدين أو لوارث وعليه دين فِي الصحة ببينة فهما سواء لا يقدم أحد منهم عَلَى أحد، وممن كَانَ يرى إقرار المريض للوارث بالدين جائز عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، روينا عن: شريح، والحسن، والبصري أنهما أجازا إقرار الرجل فِي مرضه لامرأته بالصداق أو ببعضه، وبه قَالَ الأوزاعي.
وأصل مَا يعتمد عليه الذي أبطل إقرار المريض للوارث بالدين التهمة، وقد نهى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الظن، وقال: «إنه أكذب الكذب» .
245 - نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، وَإِنَّ أَكْذَبَ الْحَدِيثِ الظَّنُّ»

(2/719)