الإقناع
لابن المنذر كتاب قتال أهل البغي
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] إِلَى قوله:
{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] .
228 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، قَالَ: نا عَارِمٌ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالا: نا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَوْ أَتَيْتَ ابْنَ أُبَيٍّ.
فَانْطَلَقَ وَرَكِبَ حِمَارًا، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ وَهِيَ أَرْضٌ
سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: " إِلَيْكَ عَنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ ".
فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ،
وَبِالأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، وَهُوَ لَفْظُ ابْنُ عَبْدِ الأَعْلَى
(2/669)
إذا اعتزلت جماعة من الرعية إمام المسلمين،
ومنعوه حقا من الحقوق ولم يعتلوا فِيهِ بعلة يجب عَلَى الإمام النظر فِيهِ،
ودعاهم الإمام إِلَى الخروج مما يجب عليهم، فلم يقبلوا منه فحق عَلَى إمام
المسلمين حربهم وجهادهم لأجل الحق الذي وجب عليهم، وحق الرعية تنالهم مع
إمامهم إذا استعان الإمام بهم، كما فعل أبو بكر الصديق بمن منع الزكاة،
فإنه قَالَ: «لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال» .
وتأول قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن أقاتل
الناس حَتَّى يقولوا لا إله إلا اللَّه، فمن قَالَ لا إله إلا اللَّه عصم
مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابهم عَلَى اللَّه» .
فرأى أن الزكاة من الحقوق الذي ذكره النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وفي حديث رواه الحسن، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «أمرت أن أقاتل الناس
حَتَّى يقولوا
(2/670)
لا إله إلا اللَّه، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا
الزكاة، فإن فعلوا ذَلِكَ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم
عَلَى اللَّه» .
يقال: إن أبا بكر الصديق قاتل الذين منعوا الصدقة، وقاتل قوما كفروا بعد
إسلامهم، وقد أجمع الناس عَلَى أن قتال الكفار يجب، وَلا يجوز أن يظن بعمر
أنه شك فِي قتال الكفار، إنما وقف عن قتال من منع الزكاة إِلَى أن شرح
اللَّه صدره للذي شرح لَهُ صدر أبي بكر، وَلا نعلم أحدا فِي الوقت الذي رأى
عمر مثل رأي أبي بكر من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، امتنع من قتالهم فهذا مع دلائل سنن رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كالإجماع من المهاجرين والأنصار.
(2/671)
فأما علي بن أبي طالب فقد بلغه عن القوم
الذين قاتلهم كلام قبل أن يقتلوا عبد الله بن خباب فلم يقاتلهم، فلما قتلوه
استحل قتالهم فقتلهم.
وقد روينا عن علي، أنه قَالَ: إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «أمر بقتالهم» .
(2/672)
229 - نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
خَيْثَمَةَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: إِذَا
حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةً،
وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاللَّهِ لأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ، وَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " سَيَخْرُجُ
أَقْوَامٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ
الأَحْلامِ، يَقُولُونَ: نَحْنُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ
إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ،
فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
باب ذكر قتل الخوارج إذ هم شر الخلق والخليقة
230 - نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَمْدَانَ، قَالَ: نا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ،
(2/673)
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي
أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا
يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ هُمْ شَرُّ
الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ» .
قَالَ سُلَيْمَانُ: وَأَكْثَرُ ظَنِّي، أَنَّهُ قَالَ: «سِيمَاهُمُ
الْحَلْقُ» .
قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ: فَلَقِيتُ رَافِعَ بْنَ
عَمْرٍو أَخَا الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: مَا
حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي ذَرٍّ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ، قَالَ: فَقَالَ: مَا أَعْجَبَكَ مِنْ هَذَا أَنَا سَمِعْتُهُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
باب ذكر السيرة فِي قتال أهل البغي
روينا عن علي بن أبي طالب، أنه قَالَ يوم الجمل: " لا تقتلوا مدبرا، وَلا
تذففوا عَلَى جريح، وَلا تقتلوا أحدا صبرا، وَلا تتبع مدبرا.
وروينا عن عمار بن
(2/674)
ياسر أنه قَالَ بعد مَا فرغ علي من أصحاب
الجمل: «لا تقتلوا مدبرًا، وَلا تذففوا عَلَى جريح، ومن ألقى السلاح فهو
آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن» .
وما أصاب أهل التأويل الذين نصبوا إمامًا وقاتلوا عَلَى التأويل من دم
ومال، وجرح عَلَى التأويل ثم ظهر عليهم لم يطالبوا بشيء من ذَلِكَ إذا
أصابوه عَلَى وجه التأويل، روينا عن الزُّهْرِيّ، أنه قَالَ: أدركت الفتنة
الأولى أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت
فيها دماء وأموال، فلم يقتص فيها من دم وَلا مال وَلا جرح أصيب إن شاء
اللَّه بوجه التأويل إلا أن يؤخذ مال رجل بعينه فيدفع إِلَى صاحبه.
(2/675)
وبهذا قَالَ الشَّافِعِيّ، والكوفي، وأحمد،
وإسحاق، وعامة أصحابنا.
فأما قتال أهل البغي فيجب رد مَا كَانَ فِي أيدي الناس عَلَى أربابها منهم،
لأن عليا أوقف رثة أهل النهروان فِي الرحبة، فَقَالَ: من عرف شيئا فليأخذه.
قَالَ: فبقيت قدر قريبا من شهرين، ثم جَاءَ رجل فأخذها، أو قَالَ: ثم جَاءَ
صاحبها فأخذها.
وإذا اقتتل رجلان من الفئتين، فقتل أحدهما صاحبه، وهو وارثه غير عامد
لقتله، وإنما أصابه عَلَى معنى الدعاء إِلَى الحق، فأحسن مَا قيل فِي هذا
أن يرثه كما يرثه إذا أمره الإمام بإقامة حد عليه وهو وارثه، فيرثه إذا مات
من أقام الحد عليه، وإذا قتل الرجل فِي المعركة من أي الفئتين قتل صلي عليه
فِي قول الأوزاعي، وهو أحسن مَا قيل فِيهِ، لأن الصلاة سنة عَلَى جميع
المسلمين إلا من استثناه الرسول عليه السلام ممن قتله الْمُشْرِكُونَ فِي
المعركة.
(2/676)
وينفذ من قضاء قاضي أهل البغي مَا ينفذ من
قضاء قاضي أهل العدل لا فرق بينهما فيما ينفذ من قضاياهما، وَلا يرد وينفذ
من شهاداتهم مَا ينفذ من شهادات أهل العدل إلا أن يعرف أن بعضهم يستحل أن
يشهد شهادة الزور، فيرد ذَلِكَ، لأن شهادات الزور يجب ردها ممن شهد بها،
والأحكام جارية بين الفريقين فِي البيوع، والنكاح، والطلاق، والجراح،
والديات يقتص لبعضهم من بعض.
وإذا قاتلت الْمَرْأَة من أهل البغي منهم أو العبد، والغلام المراهق فهو
مثلهم، يقتلون مقبلين، ويوقف عن قتلهم إذا أدبروا.
وأمان العبد المسلم جائز لأهل البغي، ولأهل الحرب، وكذلك أمان الْمَرْأَة
بين المسلمين، وقد ذكرت ذَلِكَ فِي كتاب الجهاد.
وإذا غزا أهل البغي المشركين مع الإمام فهم كأهل العدل فِي جميع الأحكام،
إلا أن الذي يلي قسم الخمس والقيام به وتفريقه عَلَى من يجب أن يفرق عليه
إمام أهل العدل.
فأما فِي غير ذَلِكَ فلا فرق بينهم فِي شيء من أبواب الأسلاب، والأنفال،
والسهام، يساوى بين جميعهم فِيهِ، وقد كَانَ ابن عمر، وسلمة
(2/677)
بن الأكوع يريان أن مَا قبضه الخوارج من
زكاة المسلمين يجزئ عنهم، وهذا عَلَى مذهب الشَّافِعِيّ، وأبي ثور، وأحمد
بن حنبل وبه نقول.
باب ذكر الحال التي يجب عَلَى المرء القتال فِيهِ فِي أيام الفتن والحال
التي توقف عن القتال فِيهِ ويجب كف اليد واللسان فِيهِ
إذا بايع الناس إمامًا وصحت لَهُ البيعة والخلافة فخرج رجل ممن بايعه فقتله
فعلى الناس معونة إمامهم، وقتل من خرج عليه لأخبار ثبتت عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، فهذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني أن يفترق الناس فرقتين يعقد كل فريق منهما لرجل منهم
الخلافة، ويمتنع كل فريق منهما بجماعة يكثر عددهم، ويشكل أمرهم، فعلى الناس
عند ذَلِكَ الوقوف عن القتال مع أحد الطائفتين إذا أشكل أمرهما للأخبار
التي جاءت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعل ذَلِكَ
جماعة من أصحابه بعده.
وقد ذكرت ذَلِكَ فِي الكتاب الذي اختصرت عَنْهُ هذا الكتاب، وأنا ذاكر فِي
كل باب من هذين البابين بعض الأخبار المذكورة فِي ذَلِكَ.
باب ذكر الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرتهما
231 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، قَالَ: نا عَبَّاسٌ
الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: نا الأَحْوَصُ
(2/678)
بْنُ جَوَّابٍ، قَالَ: نا يُونُسُ يَعْنِي:
ابْنَ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ
رَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: إِنِّي لأَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَإِذَا شَيْخٌ
يُحَدِّثُهُمْ وَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلا إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلاةَ جَامِعَةً، فَأَتَيْتُهُ،
وَهُوَ يَقُولُ: فَذَكَرَ بَعْضَ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: «وَمَنْ أَعْطَى
إِمَامًا صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمْرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ مَا
اسْتَطَاعَ، فَإِنْ خَالَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَاجْلِدُوا رَأْسَهُ» .
فَقُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ
قَلْبِي
(2/679)
232 - نا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ
السِّمْنَانِيُّ، قَالَ: نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: نا بَقِيَّةُ
بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: نا شُعْبَةُ، قَالَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُعَاذٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، قَالَ: نا شُعْبَةُ، قَالَ: نا زِيَادُ
بْنُ عِلاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَرْفَجَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ
وَهَنَاتٌ» .
وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ «أَلا مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَأَمْرُهُمْ
جَمِيعٌ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ»
(2/680)
باب ذكر الوجه الذي يجب عَلَى الناس الوقوف
عن القتال فِيهِ وطلب السلامة والعزلة
233 - نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: نا حَجَّاجُ بْنُ
مِنْهَالٍ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: نا أَبُو عِمْرَانَ
الْجَوْنِيُّ، عَنِ الْمُشْعِثِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ» .
قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.
قَالَ: «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا رَأَيْتَ أَحْجَارَ الزَّيْتِ قَدْ غَرِقَتْ
بِالدَّمِ؟» قُلْتُ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ.
قَالَ: «عَلَيْكَ مَنْ أَنْتَ مِنْهُ» .
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلا آخُذُ سَيْفِي فَأَضَعُهُ
عَلَى عَاتِقِي؟ قَالَ: «شَارَكْتَ إِذًا» .
قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «تَلْزَمُ بَيْتَكَ» .
قَالَ: قُلْتُ: إِنْ دُخِلَ عَلَيَّ.
قَالَ: «إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ
رِدَاءَكَ عَلَى وَجْهِكَ يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ»
(2/681)
باب ذكر الحث عَلَى لزوم المنازل أيام
الفتن واعتزال الناس وما فِي ذَلِكَ من السلامة فِي كل وقت
234 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: نا عَفَّانُ، قَالَ: نا
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: نا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى يَقُولُ عَلَى
الْمِنْبَرِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ
يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي
مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ
الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ
السَّاعِي» .
قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ ، قَالَ: «كُونُوا أَحْلاسَ بُيُوتِكُمْ»
وممن اعتزل من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أيام الفتن، ورأى الاعتزال فِي الفتن سعد بن أبي وقاص، وأبو موسى
(2/682)
الأشعري، وابن عباس، ومحمد بن
(2/683)
مسلمة، وأهبان بن صيفي.
وروينا عن
(2/684)
ابن مسعود، أنه قَالَ: يَا بني، اتق ربك
وليسعك بيتك، وابك من ذكر خطيئتك، واملك عليك لسانك، والأخبار فِي هذا
الباب تكثر وهي مذكورة فِي غير هذا المكان.
باب ذكر الساحر والساحرة
إذا أقر الرجل طائعا أنه سحر بكلام يكون ذَلِكَ الكلام كفرا وجب قتله إن لم
يتب، لقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يحل دم امرئ
مسلم إلا بإحدى ثلاث: بكفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس ".
ولو أنكر وثبتت عليه بينة ووصفت البينة عَنْهُ كلاما يكون كفرا فكذلك، وإذا
أوجبنا قتله فتاب قبلت توبته، لقول اللَّه جل ذكره: {قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]
.
وإن كَانَ الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله، فإن كَانَ
أحدث فِي المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كَانَ عمد ذَلِكَ، وإن
كَانَ ذَلِكَ مما لا قصاص فِيهِ، ففيه دية ذَلِكَ.
وقد اختلف أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما
يجب عَلَى الساحر، فممن رأى منهم قتل الساحر: عمر بن الْخَطَّابِ، وابن
(2/685)
عمر، وجندب بن عبد الله، وحفصة بنت عمر،
وقيس بن سعد، وهذا
(2/686)
مذهب عثمان بن عَفَّانَ، لأنه أنكر عَلَى
حفصة قتلها الساحرة، لأنها قتلتها دون السلطان.
وممن رأى قتل الساحر والساحرة عَلَى نحو مَا ذكرناه: مالك، والشافعي،
وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقد روينا عن عائشة: أنها باعت الساحرة، ويحتمل
أن تكون الساحرة التي سحرت عائشة فباعتها لم يكن سحرها كفرا، فلا يكون
ذَلِكَ خلافا لما قاله أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وقد روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنه قَالَ: «حد الساحر ضربه بالسيف» .
وفي إسناده مقال.
(2/687)
باب أحكام تارك
الصلاة
235 - نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: نا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ بَيْنَ
الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ أَوِ الشِّرْكِ إِلا تَرْكُ الصَّلاةِ»
(2/688)
روينا عن بريدة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة
فمن تركها فقد كفر» .
وروينا عَنْهُ أنه قَالَ: «من ترك صلاة العصر متعمدا أحبط اللَّه عمله» .
وقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذي تفوته صلاة
العصر، فكأنما وتر أهله وماله» .
(2/689)
وثبت أن عمر بن الْخَطَّابِ، قَالَ: «لا حظ
فِي الإسلام لمن ترك الصلاة» .
وقال ابن مسعود: «من لم يصل فلا دين لَهُ» .
وروينا عن علي بن أبي طالب، أنه قَالَ: «من لم يصل فهو كافر» .
وروينا معنى ذَلِكَ عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي الدرداء.
وقد اختلف أهل العلم فيما يجب عَلَى من ترك صلاة متعمدا حَتَّى يخرج وقتها
لغير عذر: فقالت طائفة: هو كافر هذا قول: النخعي، وأيوب السختياني، وابن
المبارك،
(2/690)
وأحمد، وإسحاق، قَالَ أحمد: لا يكفر أحد
بذنب إلا تارك الصلاة عمدا، فإن ترك صلاة إِلَى أن يدخل وقت صلاة أخرى
يستتاب ثلاثا، وبه قَالَ: سُلَيْمَان بن داود، وأبو حية، وأبو بكر بن أبي
شيبة.
وقالت طائفة: يستتاب فإن تاب وإلا قتل، هذا قول: مكحول، ومالك بن أنس،
وحماد بن زيد، ووكيع، والشافعي، وفيه قول ثالث قاله الزُّهْرِيّ: قَالَ: إن
كَانَ إنما تركها ابتدع دينا غير الإسلام قتل، وإن كَانَ إنما هو فاسق ضرب
ضربا مبرحا، وسجن، قَالَ النعمان: يضرب ويحبس حَتَّى يصلي.
(2/691)
احتجت الفرقة التي بدأنا بذكرها بالأخبار
الثابتة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ:
«ليس بين العبد والكفر أو الشرك إِلَى ترك الصلاة» .
احتج بذلك إِسْحَاق بن راهويه، واحتج غيره أو هو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا غزا قوما لم يغز عليهم حَتَّى يصبح،
فإن سمع أذانا أمسك، وبآيات من كتاب اللَّه، من ذَلِكَ قوله تعالى:
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59] ،
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31] ،
{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر: 18] ، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكتاب
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف: 170] وما أشبه ذَلِكَ.
وذكروا آيات كثيرة تركت ذكرها للاختصار.
واحتج بعض من أمر بضربه وسجنه بأن هذا أقل مَا قيل فأوجبنا ذَلِكَ، ووقفنا
عن إيجاب القتل عليه، لأن فِيهِ اختلافا، وفي قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث: بكفر بعد إيمان، أو
زنى بعد إحصان، أو قتل نفس فيقتل به "، فتارك الصلاة لم يأت بواحدة من
الثلاث فيحل به إهراق دمه، ويقال لمن خالفنا: ليت شعري من أي الثلاث تارك
الصلاة غير جاحد، فيلزم به اسم الكفر، وَلا ترك الصلاة استنكافا وَلا
معاندة، فيستوجب به القتل.
وجعلوا تكفير النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تارك الصلاة
كتكفيره بذنوب مذكورة فِي الأخبار، كقوله: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» .
وكقوله:
(2/692)
«لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب
بعض» .
وكقوله: «لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أَبِيهِ فقد كفر» .
قالوا: فإذا لم يكن بعض من ذكرنا كافرا مرتدا يجب استتابته وقتله عَلَى
الكفر إن لم يتب، وكذلك الأخبار التي جاءت فِي إكفار تارك الصلاة، وسائر
الحجج مذكورة فِي كتاب أحكام تارك الصلاة.
(2/693)
كتاب القسمة
سن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم الغنائم ببدر بين
أصحابه.
236 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنُ أَبَانٍ، قَالَ: نا زِيَادُ
بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: نا هُشَيْمٍ، قَالَ: نا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ،
عَن عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلا
فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا» .
فَأَمَّا الْمَشْيَخَةُ فَثَبَتُوا تَحْتَ الرَّايَاتِ، وَأَمَّا
الشَّبَابُ فَتَسَارَعُوا فِي الْقَتْلِ وَالْغَنَائِمِ، قَالَتِ
الْمَشْيَخَةُ لِلشَّبَابِ: أَشْرِكُونَا مَعَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا لَكُمْ
رِدْءًا، وَلَوْ كَانَ مِنْكُمْ شَيْئًا لَجَأْتُمْ إِلَيْنَا،
فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] وَقَسَمَ
الْغَنَائِمَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ
وقسم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غنائم خيبر الأرضين
والنخل والحصون وغير ذَلِكَ من أموالهم، وقسم هوازن يوم حنين بين أصحابه،
وقسم عبد الله
(2/694)
بن جحش مَا غنمه، وعزل الرسول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس العير، فأنزل اللَّه تعالى عَلَى رسوله:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] ، وقسم رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأعبد الستة الذين أعتقهم
المريض بالقرعة، فأخرج سهم العتق وسهم الرقة، ويحتمل أن يكون كانت قيمتهم
سواء، أو يكون قيمة الاثنين اللذين أعتقهما شيء وقيمة الأربعة مثل ذَلِكَ.
وأجمع من يحفظ عَنْهُ من علماء الأمصار من أهل المدينة وأهل الكوفة، وأصحاب
الحديث، وأصحاب الرأي عَلَى أن الرباع أو الأرض إذا كانت بين شركاء،
واحتملت القسم من غير ضرر يلحقهم فِيهِ، وأجمعوا عَلَى قسمة أن القسم فِي
ذَلِكَ يجب بينهم إذا ثبتت البينة عَلَى أصول أملاكهم.
باب ذكر مَا يجب قسمه بين الشركاء وما لا يجوز قسمه
أمر اللَّه بحفظ الأموال، وقال جل ذكره: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي
(2/695)
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:
5] ، روينا عن ابن عباس، قَالَ: يقول اللَّه سبحانه لا تعمد إِلَى مالك،
وما خولك اللَّه وجعله معيشة لك فتعطيه امرأتك أو ابنتك، ثم تضطر إِلَى مَا
فِي أيديهم، ولكن أمسك عليك، وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم فِي كسوتهم
ورزقهم ومؤنتهم.
فمن الأموال التي ملكها اللَّه عباده، العقر والعروض، والرقيق والذهب
والفضة، والمواشي أشرك بينهم فيها بأشرية ومواريث وغنائم، وأمرهم بإصلاحها،
ونهاهم أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، وثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن إضاعة المال» .
237 - نا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: نا عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي وَرَّادٌ كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ
إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سِمَعْتَهُ مِنْ
حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَنْهَى عَنْ
قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» ، وَقَدْ
نَهَى اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنِ الْمَيْسِرِ، وَهُوَ الْقِمَارُ، لأَنَّ
فِيهِ تَلَفَ الأَمْوَالِ.
وَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ
الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، وَعَنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ
الْيَتِيمِ» لأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، وَلا
أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ اللَّه حَرَّمَ
(2/696)
عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِتْلافَ
أَمْوَالِهِمْ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى حَتَّى يَبْلُغُوا
النِّكَاحَ، وَيُؤْنَسَ مِنْهُمُ الرُّشْدُ
وأجمع أهل العلم عَلَى أن لؤلؤة لو كانت بين جماعة فأراد بعضهم أخذ حظه
منها أن تقطع بينهم أو تكسر أنهم ممنوعون من ذَلِكَ، لأن فِي قطعها أو
كسرها تلفًا لأموالهم وفسادًا لَهُ، وكذلك السفينة، والسيف، والمصحف،
والدرع والنجيب من الإبل، والجفنة، والمائدة، والصحفة، والصندوق، والسرير،
والباب، والنعل، والقوس وما أشبه ذَلِكَ، لأن فِي قسمه ضررًا وتلفًا
لأموالهم ونقصا عليهم، وقد نهى اللَّه تعالى عن الضرر فَقَالَ: {وَلا
تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا
لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وليس الإضرار من أخلاق الصالحين والمتقين،
وروينا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه
قَالَ: «من ضار أضر اللَّه به» .
238 - نا نَصْرُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: نا قُتَيْبَةُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ
(2/697)
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ،
عَنْ لُؤْلُؤَةَ، عَنْ أَبِي صِرْمَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ،
وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ»
فأما قسم الرقيق والأنعام، والكراع، والسلاح وما أشبه ذَلِكَ، إذا كانت بين
جماعة واحتمل القسم فقسم ذَلِكَ يجب بينهم إذا سألوا ذَلِكَ وقامت عَلَى
أملاكهم بينة استدلالا بقسم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الغنائم بين أصحابه، والأعبد الستة الذين أعتقهم المريض لما جعل للعتق حظا،
وللرق حظ مثلي حظ العتق.
وإذا كانت دار أو أرض بين جماعة فدعا بعضهم إِلَى القسم وفي قسمه ضرر لم
يقسم، لما ذكرت من نهي اللَّه عن الضرار، وإجماعهم فيما ذكرناه مما منعوا
من قسمه، وَلا معنى لاستحسان من سهل فِي القليل من الضرر، ونهى عن الكثير
منه، وهذا عَلَى مذهب ابن أبي ليلى، وأبي ثور فِي أن المنع من قليل الضرر
يجب الامتناع من كثيره.
وإذا أتى قوم إِلَى الحاكم وبأيديهم أرض أو دار، وسألوا قسم ذَلِكَ بينهم
واحتمل ذَلِكَ القسم، ولم يقيموا بينة عَلَى أملاكهم فعلى الحاكم قسم
ذَلِكَ بينهم، وهذا مذهب يعقوب، ومحمد، وبه قَالَ أبو ثور، وليس مع من
امتنع من قسم ذَلِكَ
(2/698)
بينهم حجة.
وإذا قسم قاسم دارا بين جماعة فادعى بعضهم بعد القسم غلطا، فإن أقام عَلَى
دعواه بينة، توجب نقض القسم، نقض ذَلِكَ، وإن لم تكن بينة لم يجب نقض
ذَلِكَ الأعلى، والأفضل للقاسم أن يقسم ذَلِكَ محتسبا بين المسلمين، فإن لم
يفعل فعلى إمام المسلمين أن يرزق القاسم من بيت مال الفيء كما يفعله بمن
يقوم بصلاح أمر الأمة، فإن لم يفعل القاسم ذَلِكَ، وَلا الإمام خلي بين
الشركاء أن يستأجروا قاسما يقسم بينهم بما شاءوا، والذي يلزم كل رجل من
الشركاء عَلَى قدر ماله فِيهِ من النصيب فِي الشيء لا عَلَى عدد الرءوس،
وَلا تقبل شهادة القاسم الواحد عَلَى مَا تولى من القسم.
فأما القاسمان يقسمان الشيء بين جماعة، وَلا يجران بشهادتهما إِلَى أنفسهما
جعلا يأخذانه إما أن يكونا محتسبين، وإما أن يكونا ممن يرزقهما السلطان من
بيت المال، وكانا عدلين، فشهادتهما عَلَى أنفسهم جائزة، وَلا نعلم مع من
منع من ذَلِكَ حجة، وإذا كانت الدار بين جماعة وهي لا تحتمل القسم فأراد
بعضهم بيع حقه، وامتنع أصحابه من البيع وكان بيع الجميع أوفر للثمن من بيع
الشقص، فالذي يجب أن يطلق لمن يريد البيع أن للبيع حصته شائعا غير مقسوم،
وَلا يجبر عَلَى البيع من امتنع من بيع حصته، وإذا قسم القوم الشيء ثم
استحق بعض مَا قسم انتقض القسم، واقتسموا مَا لم يستحق من ذي قبل.
(2/699)
كتاب الوكالة
باب ذكر الخبر الدال عَلَى سبب الوكالة وأن الوكيل يقوم مقام الموكل فيما
وكله به
239 - نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ
أُخْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ، وَكَانَتْ عِنْدَ رَجُلٍ
مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا، وَخَرَجَ إِلَى
بَعْضِ الْمَغَازِي، وَأَمَرَ وَكِيلا لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا بَعْضَ
النَّفَقَةِ فَاسْتَقَلَّتْهَا،
(2/700)
فَانْطَلَقَتْ إِلَى إِحْدَى نِسَاءِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ عِنْدَهَا، فَقَالَتْ: " يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَذِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ طَلَّقَهَا فُلانٌ فَأَرْسَلَ
إِلَيْهَا بِبَعْضِ النَّفَقَةِ فَرَدَّتْهَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ تَطَوَّلَ
بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ ".
وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ
وقد أجمع كل من نحفظ عَنْهُ من أهل العلم عَلَى أن للمريض العاجز عن الخروج
إِلَى مجلس الحكم، وللغائب عن المصر أن يوكل كل واحد منهما وكيلا يقوم بطلب
حقوقه، ويتكلم عَنْهُ.
وللحاضر من الرجال والنساء أن يوكل كل واحد منهما فِي العذر وغير العذر،
بلغنا: أن عليا رضي اللَّه عَنْهُ، وكل عبد الله بن جعفر، عند عثمان، وعلي
حاضر فقبل ذَلِكَ عثمان، وكان علي يقول: إن للخصومة قحمًا،
(2/701)
وإن الشيطان يحضرها.
وهذا مذهب أكثر أهل العلم.
وإذا كانوا كالمجمعين، فإن للحاضر أن يوكل ببيع عبد لَهُ أو شراء سلعة وغير
ذَلِكَ، وإذا جاز أن يوكل بالبيع والشراء من شاء جاز أن يوكل بالخصومة
وبقبض الديون، لا فرق بين شيء من ذَلِكَ، والذي خالف هذا رجل من أهل
الكوفة، وخالف أصحابه قوله واتبعوا قول سائر أهل العلم.
وإذا وكل الرجل الرجل، ثم مات الموكل أو زال عقله بطلت الوكالة، وقد أجمعوا
عَلَى أن موت الموكل يبطل الوكالة، وأجمعوا عَلَى أن ندمه لا يبطل الوكالة،
وأجمع من نحفظ عَنْهُ من أهل العلم عَلَى أن الرجل إذا وكل رجلا، وجعل إليه
أن يقر عليه بمال معلوم فأقر به لرجل بعينه أن إقراره جائز، وإذا وكله
وكالة جامعة ولم
(2/702)
يجعل فِي الوكالة أن يقر عليه فإقراره
باطل.
وإذا وكل الرجل الرجل يطلب حقوقه وغاب الموكل فثبتت للوكيل البينة عَلَى
رجل بمال، فسأل الذي ثبت عليه المال أن ينظره إِلَى قدوم الموكل ليستحلفه،
فعلى الحاكم أن يقضي بالمال عليه، وَلا يؤخره لأن ذَلِكَ لو وجب لم يشأ من
ثبت عليه المال أن يفعل هذا، فلا يوجد السبيل إِلَى قبض الأموال، ولكن
الحكم عَلَى استحلاف صاحبه إذا حضر، فإذا حضر فحلف برئ، وإن لم يحلف، ففيها
قولان: أحدهما: أن يحلف الذي قبض منه المال، ويقبض المال، وهذا عَلَى مذهب
مالك، والشافعي وبه أقول.
والقول الثاني: قول الثَّوْرِيّ، والكوفي أن يرد المال إذا نكل عن اليمين،
ويقبل البينة الحاكم عَلَى تثبيت الوكالة بغير حضرة خصم، وليس مع من منع من
ذَلِكَ حجة.
وإذا وكل الرجل الوكيل، فاعتل الوكيل، أو أراد سفرا فليس لَهُ أن يوكل بما
وكله به غيره، لأن الموكل رضي بوكالته، ولم يرض بوكالة غيره، إلا أن يجعل
ذَلِكَ الموكل إليه فِي كتاب الوكالة فيكون ذَلِكَ لَهُ، وَلا يجوز أن يوكل
الرجل بكل قليل وكثير، لأن ذَلِكَ لا يوجب شيئا، وهي كلمة تحتمل معاني وَلا
يجوز حَتَّى يتبين فِي الوكالة مَا يفعله الوكيل من بيع أو شراء أو قبض أو
خصومة أو مَا يذكر، فيثبت إذا ذكره.
وإذا وكل الرجل الرجل ببيع سلعة لَهُ فليس لَهُ أن يبيعها من نفسه، وكذلك
قالوا: إذا وكله أن يشتري لَهُ سلعة فاشتراها لَهُ من نفسه بطل، كذلك يبطل
إذا وكله ببيعها فباعها من نفسه، وقد روينا عن ابن مسعود، أنه قَالَ فِي
الرجل أوصى لرجل بتركته، وترك فرسا، فَقَالَ الوصي لابن مسعود: أشتريه؟
قَالَ: لا.
وإذا وكل الرجل ببيع داره أو إجازة عبيده رجلين، فباع أحدهما دون الآخر
فالبيع باطل، والأصل فِي ذَلِكَ قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ
بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] ، وإذا بعث الإمام
(2/703)
حكمين ففرق بينهما أحدهما لم يجز وهذا
كالإجماع، وإذا وكل رجل رجلين ببيع شيء فباعاه بما لا يتغابن الناس بمثله
فالبيع باطل، والجواب فِي أمر الرجل الرجلين بالشراء فاشتريا بما لا يتغابن
الناس بمثله، فالجواب فِيهِ كالجواب فِي الأول.
وإذا وكل الرجل الرجل ببيع سلعة فباعها بالأغلب من نقد البلد دنانير أو
دراهم، فالبيع جائز، وإن باعها بغير ذَلِكَ كَانَ باطلا.
وإذا وكله ببيع سلعة فباعها بالنسيئة لم يجز، وإذا وكل الرجل الرجل
بالخصومة فِي شيء ثم عزله عنها بغير علم منه، وَلا محضر، غير أنه قد أشهد
عَلَى ذَلِكَ شاهدين ففيها قولان، أصحهما: أن الوكالة قد انفسخت.
باب ذكر شراء الوكيل مَا يجوز وما لا يجوز ورد السلعة بالعيب
وإذا باع الوكيل عبدا أو سلعة من السلع فطعن المشتري فيها بعيب وأقام
البينة أن الوكيل باعها وبها ذَلِكَ العيب ولم يتبر إليه منه، فرد القاضي
البيع، وألزم الوكيل رد الثمن لزم الأمر ذَلِكَ ورجعت السلعة إليه، وإن
أبرأ الوكيل المشتري من الثمن أو من بعضه أو وهبه لَهُ، أو أنظره بالثمن،
أو أخذ بالثمن وهو درهم أو دنانير فذلك كله باطل، لا يجوز من فعله لأنه لا
يملكه، وإذا وكله أن يشتري لَهُ عبدا موصوفا بمائة دينار فزاد فِي الثمن
دينارا واحدا لم يلزم ذَلِكَ الأمر، لأنه اشتراه بما لم يأذن لَهُ فِيهِ.
وإذا وكل المسلم الذمي أو الذمي المسلم ببيع خمر أو خنزير فالوكالة فاسدة،
والخمر والخنزير لا يجوز بيعهما وَلا شراؤهما، وَلا تنعقد الوكالة فِي
ذَلِكَ، لأن اللَّه حرم ذَلِكَ عَلَى المسلمين.
وإذا وكل الرجل صبيا لم يبلغ أو محجورا عليه ببيع أو شراء، فباع أحدهما
فالبيع فاسد، وإذا وكل عبده أو عبد غيره ببيع أو شراء وقد أذن سيد العبد
لعبده فِي التجارة فالبيع والشراء جائزان.
وإذا وكل الرجل الرجل ببيع أو شراء فالوكيل مؤتمن، فإن هلكت السلعة فِي يده
(2/704)
أو غصبه غاصب السلعة فلا شيء عليه، وإذا
وكله بيع سلعة فليس لَهُ قبض الثمن إلا أن يجعل الموكل ذَلِكَ إليه، فإن لم
يكن أمره بقبض الثمن فدفعه المشتري إليه لم يبرأ، وكان لرب السلعة أن يقبض
الثمن من المشتري.
وإذا اختلف الوكيل والموكل، فَقَالَ الموكل: أمرتك أن تبيعه بألف، وقال
الوكيل: أمرتني أن أبيعه بخمس مائة.
فالقول قول الموكل مع يمينه، والبيع فاسد لأنه غبن، ولم يؤمر بالغبن.
وإذا باع الوكيل العبد الذي أمر ببيعه من أبي العبد أو أمه، فالبيع جائز،
وَلا يضره أن يعتق عَلَى الأب المشتري أو عَلَى أمه، وإذا أمره أن يبيع
برهن أو بكفيل فباعه بغير رهن وَلا كفيل، فالبيع باطل، وإذا اختلفا فِي
ذَلِكَ فالقول قول الموكل مع يمينه، وإذا أمره أن يبيع العبد من زيد فباعه
من عمرو، فالبيع باطل، وإذا أمره ببيع عبد لَهُ فباعه من ابن الآمر أو
أَبِيهِ، أو من ابن الوكيل أو أَبِيهِ فالبيع جائز، وإذا أمره ببيع عبد
لَهُ فباعه، ثم رد المشتري العبد بالعيب فقبله ليس لَهُ أن يبيعه من غيره
حَتَّى يجدد الوكالة.
وإذا وكله ببيع عبد لَهُ فباع السيد العبد قبل بيع الوكيل بيعا فاسدا، أو
باعه الوكيل بعد ذَلِكَ بيعا صحيحا، والبيع الثاني جائز، وصنع الأول فاسد،
وكذلك لو باعه الوكيل أولا بيعا فاسدا، ثم باعه رب العبد بعد ذَلِكَ بيعا
صحيحا، فالبيع الثاني جائز والبيع الأول فاسد، والوكالة فِي الصرف جائزة
كما تجوز فِي سائر أبواب البيوع.
(2/705)
|