الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الأول
في آداب سفره وفيه مسائل
الأولى: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُشَاورَ مَنْ يثِقُ (1) بدينه وَخِبرتهِ وعِلمه في حَجّه في هَذا الْوَقْت (2) وَيجبُ عَلَى مَنْ يُشيرُهُ أنْ يَبْذُلَ لَهُ النَّصيحَةَ ويَتَخَلى عَن الْهَوَى وَحُظُوظ النّفْس وَمَا يَتَوَهَّمه نافِعاً في أمُور الدُنيا (3) فَإِنَّ المستشَارَ مُؤْتَمَن (4) والدِّين النصيحَة (5).
__________
(1) أما أخذ الفأل من المصحف فإنه مكروه، وقيل حرام.
(2) بينَ به أن الاستشارة في وقت العبادة لا في أصلها، وهذا فيمن لا يتضيق عليه النسك، أما هو فلا تستحب في حقه إذ لا فائدة لها مع التضيق.
(3) أي فقط بل الواجب إخباره بما تعود مصلحته إلى الدين وحده أو مع الدنيا.
(4) حديث رواه الإِمام أحمد وغيره رحمهم الله تعالى.
(5) جزء من الحديث الصحيح المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وذكره الإِمام النووي في الأربعين رحمه الله تعالى.

(1/45)


الثانيَة (1): إذَا عَزَمَ عَلَى الْحَج (2) فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخِيرَ اللهَ تَعَالَى (3) وَهَذِهِ الاسْتِخَارَة لا تَعُودُ إِلَى نَفْس الْحَج فَإِنهُ خَيْر لاَ شَك فِيهِ وَإنمَا تَعُودُ إلى وَقْتِهِ (4) فَمَنْ أَرَادَ الاسْتِخَارَةَ يُصَلي رَكْعَتَيْن (5) مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَة ثُم يقُولُ (6): اللَّهُمَّ إِنّي أسْتَخيرُكَ (7) بعِلمكَ (8) وَأسْتَقْدِرُكَ (9) بقُدْرَتِكَ (10) وَأَسْألكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيم فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أعْلَمُ وَأنْتَ عَلامُ الْغُيُوب، اللهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ذَهَابي إلى الحَج (11) في هَذَا العَام خَيْرٌ لي في ديني ودنياي وَمَعَاشي وَعَاقِبة
__________
(1) ظاهر هذا الترتيب أن الأولى تقديم الاستشارة على الاستخارة لأن الطمأنينة إلى قول المستشار أقوى منها إلى النفس لغلبة حظوظها، وفساد خواطرها.
(2) يلحق بالحج العزم على كل واجب ومندوب موسع بل تندب الاستخارة حتى في المباح.
(3) أي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سعادة ابن آدم استخارة الله تعالى ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله تعالى".
(4) نظير ما مَرّ في الاستشارة، والاستخارة هي طلب خير الأمرين من الفعل الآن أو الترك، ولا يتصور هذا إلا في الموسع دون المضيق لأنه لا رخصة في تأخيره.
(5) أي في غير وقت الكراهة إلا بحرم مكة فيصلي مطلقاً ومثلها كل نافلة فيجزىء عنها في إسقاط الطلب، وكذا في حصول الثواب إن نويت.
(6) أي عقب الصلاة لا فيها ويسن افتتاح الدعاء وختمه بالحمدلة والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أثناء الدعاء إن كرره.
(7) أي أطلب منك خير الأمرين.
(8) الباء للسببية أي أسألك شرح صدري لخير الأمرين بسبب علمك المحيط بكل الأشياء إذ لا يعلم خيرها حقيقة إلا من كان علمه محيطاً بكل الأشياء.
(9) وفي رواية: (وأستهديك) والمعنى متقارب.
(10) أي بسبب أنك القادر الحقيقي، ولا يمكن لأحد أن يقدر على شيء إلا إن قَدرْتَه عليه، أي خلقت فيه الاستطاعة.
(11) أشار إلى ما في حديث البخارى رحمه الله تعالى من أنه يسمي حاجته ليكون ذلك أبلغ وأوضح.

(1/46)


أمْري وعَاجله وَآجله (1) فَاقْدُره لي وَيَسرْهُ لي ثَُم بَارِكْ لي فيه، اللَّهُمَ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنهُ شَر لي (2) في ديني وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي وَعَاقِبةِ أَمْري وعَاجِله وَآجله فَاصْرِفْهُ عَني وَاصْرِفْني عَنْهُ وَاقْدرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ (3) ثُمَّ رَضنِي بِهِ (4).
ويُسْتَحَب أَنْ يقْرأَ في هَذ الصَلاَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ في الرَّكْعَةِ الأوْلَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1] (5) وَفِي الثانِيةِ: {قُل هُوَ اَللهُ أَحَد (1)} (6) بَعْدَ الاسْتِخَارَة لما يَنْشَرِحُ إِلَيْهِ صَدْرُة (7).
__________
(1) جمع المصنف رحمه الله بين الكلمتين احتياطاً لأن لفظ الحديث: (وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله) ومنه تؤخذ قاعدة حسنة وهي أن كل ذكر جاء في بعض ألفاظه شك من الراوي يسن الجمع بينها كلها ليتحقق الإِتيان بالوارد.
(2) فيه الاكتفاء بتسمية الحاجة في الأول وقيل يسميها في الثاني أيضاً.
(3) في رواية للنسائي رحمه الله تعالى: (حيث كنتُ).
(4) في رواية البخاري رحمه الله تعالى: (ثم أرضني)، وفي أخرى بعد "قدره لي": (وأعني عليه)، وفي أخرى بعد "حيث كان": (لا حول ولا قوة إلا بالله) قاله ابن حجر المكي رحمه الله تعالى وقال: فيسن الجمع بين ذلك كله.
(5) الأكمل قراءة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} إلى {تُرجَعُونَ (70)} قبل سورة "الكافرون"، وقبل سورة "الإخلاص" في الركعة الثانية {وَمَا كاَنَ لِمُؤمنِ وَلَا مُؤمَنَةً} إلى {مبينَاً (36)} لأنهما مناسبان كالسورتين إذْ القصد منهما إخلاص الاعتقاد والعمل فناسبا هنا وإنْ لم يردا، إذ القصد إظهار الرغبة وصدق التفويض، وإظهار العجز، وقياس ما قالوه في الجمعة أنه لو نسي ما يقرأ في الأولى قرأه مع ما في الثانية، ومن تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء المذكور، وظاهره عدم حصولها بمجرد الدعاء مع تيسر الصلاة، إلا أن يقال: المراد عدم حصول كمالها لظاهر خبر أبي يعلى رحمه الله تعالى: (إذا أراد أحدكم أمراً فليقل .. ) وذكر نحو الدعاء السابق، وورد في حديث ضعيف أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد الأمر قال: "اللهم خِرْ لي واختر لي" فينبغي ذكر ذلك بعد دعائه. اهـ حاشية.
(6) الأمر المستفاد من اللام للندب.
(7) فإنْ لم ينشرح صدره بشيء فيكرر الاستخارة بصلاتها ودعائها إلى انشراحه بشيء، وإنْ زاد على سبع، والتقييد بها في خبر أنس رضي الله تعالى عنه: (إذا هممتَ =

(1/47)


الثالِثَةُ: إِذا اسْتَقَرَّ عَزْمه (1) بَدَأَ بالتوْبَةِ (2) مِنْ جَمِيعِ المَعَاصِي وَالمَكْرُوهَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْ مَظَالم الخَلْقِ (3) وَيقْضِي ما أَمْكَنَهُ مِنْ دُيُونِهِ (4) وَيَرُدُّ الْوَدَائع (5)
__________
= بأمرٍ فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإن الخير فيه) جرى على الغالب. أما لو فرض عدم انشراحه مع تكرار الصلاة فإنْ أمكن تأخير أخر وإلاّ شَرَع فيما تيسر لأنه علامة الإذن والخير والله أَعلم.
(1) يدل صريح كلام المصنف رحمه الله على تأخير التوبة عن الاستخارة واستقرار العزم بعدها، وجرى ابن جماعة رحمه الله تعالى على تقديمها وأيده بأنْ كان المستخير عاصياً كعبد متمادٍ على إباقه، ويرسل إلى سيده بأن يختار له من خيار ما في خزائنه فيعدّ بذلك أحمق بين الحمق.
(2) وجوباً بالنظر للمعاصي، وندباً بالنظر إلى المكروهات. وأركان التوبة: الإقلاع عن الذنب حالاً والعزم على عدم العودة إليه رأساً، والندم على ما باشر منه خوفاً من الله تعالى ورد ظلامة إن كانت وبدلها إن تلفت وقدر عليه، فإن لم يقدر كميت بلا وارث، أو غائب انقطع خبره وأيس من حياته، سلمها أو أرسلها لقاضٍ أمين، وإلا فرقها بنفسه في المصالح إن عرف أو سلمها لعالم عارف بذلك بنية الغرم إن وجد صاحبها، والمعسر ينوي وفاء الدين كالعاجز عن تمكين القصاص من نفسه إذا قدر، وكتب في التوبة من نحو غيبة أو قذفٍ: إخبار المغتاب بعين ما قاله فإنْ تعذر عزم على فعله عند إمكانه فإن تعذر أصلاً استغفر الله لنفسه، ودعا له، والمرجو من الله حينئذ أن يرضي خصماءه عنه بكرمه، أسأله تعالى أن يعفو عني وعن المسلمين والمسلمات ويرضى عنا خصماءنا آمين.
وإن كان عليه قضاء نحو صلاة صرف سائر وقته في قضائها ما عدا الوقت الذي يحتاج لصرفه في تحصيل ما عليه من مؤنة نفسه وعياله وكذا يقال في نسيان القرآن بعد البلوغ. أسأله تعالى التوفيق لي وللمسلمين والمسلمات آمين.
(3) صرح بالخروج من مظالم الخلق مع دخولها في المعاصي اهتماماً بشأنها وتنبيهاً على المحافظة عليها لأنها مبنية على المشاحّة والمضايقة.
(4) أي الحالة وجوباً والمؤجلة ندباً.
(5) فيها تفصيل، وهو أنه إن علم رضا مالكها بأمر عمله وإلا فحيث قيل بتضمينه بترك شيء وجب عليه فعله لما فيه من ضياعها وإلا فلا.

(1/48)


وَيَسْتَحِلُّ (1) كلّ مَنْ بَيْنَهُ وَبينهُ مُعَامَلَةٌ في شَيْء أَوْ مُصَاحَبةٌ.
وَيَكْتُبُ وَصيتهُ (2) وَيُشْهِدُ عَلَيْه بِهَا (3) وَيُوَكلُ مَنْ يقْضِي عَنْهُ (4) مَا لَمْ يَتَمَكنْ مِنْ قَضَائه مِنْ دُيُونهِ وَيَتْرُكُ لأهْله وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ (5) نَفَقَتَهُم (6) إلى حين رجوعِهِ (7) فلو كَانَ عَلَيْه دَيْنٌ حَالّ وهُوَ مُوسرٌ (8) فَلصَاحب (9) الدَّيْن مَنْعُه منَ الْخُرُوج (10)
__________
(1) أي وجوباً فيما يعلم أنه عليه، وندباً فيما لا يعلمه.
(2) أي بحقوق الله وحقوق العباد.
(3) أي من تثبت به وجوباً إن لم تكن ثابتة قبل وإلا فندباً، ولا يكتفي بعلم الورثة مطلقاً لأن النفس تشح بالأموال إذا استولت عليها.
(4) أي وجوباً في الحالة وندباً في المؤجلة.
(5) معطوف على الأهل ليشمل غيرهم من رقيقه ودوابه.
(6) أي مؤنتهم من كسوة وأجرة مسكن وطبيب وثمن أدوية.
(7) محل ذلك في الواجب حالاً أما المستقبل فعند العلامة ابن حجر المكي رحمه الله: عليه ذلك أيضاً كما في الحاشية في غير نحو الزوجة والمملوك، لأن في غيبته ضياع ممونه فيترك لهم كفايتهم عند من يثق به لينفق عليهم، أما الزوجة والمملوك فعليه ذلك أيضاً، أو يطلق الزوجة أو يخرج المملوك عن ملكه ويحكم به الحاكم الشرعي دفعاً للضرر وجمعاً بين المصلحتين ويفرّق بين هذا وما يأتي في المؤجل بأن الدائن مقصر بالتأجيل فلم يكن له مطالبته بترك ما يفي بحقه إذا حَلَّ بخلاف ممونه، فإنه لا تقصير منه بوجه، وأيضاً فممونه في حبسه فلو لم نلزمه بذلك لضاع بخلاف الدائن.
أقول: وقيل عليه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى ديانةً لا حكماً، فلا يجبره عليه الحاكم لأنه لم يدخل وقت وجوب النفقة الذي هو طلوع كل يوم فأشبه الدين المؤجل.
(8) أي ولم يستنب من يوفيه من مال حاضر.
(9) أي ولو كان ذمياً.
(10) أي ويحرم عليه السفر وإن قصر بغير إذنه، واطردت العادة بالمسامحة وإنْ ضمنه موسر كما هو ظاهر لأن له مطالبته وإن ضمنه الموسر وولي المديون مثله لأنه المطالب.

(1/49)


وَحَبْسُهُ (1) وَإِنْ كَانَ مُعْسراً لَمْ يَمْلُكْ مُطَالَبَتَهُ (2) وَلَهُ السَّفَرُ بغَيْرِ رِضَاه (3) وَكَذَا إنْ كَانَ الديْنُ مُؤَجلاً فَلَهُ السفَرُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَكِنْ يُسْتَحَب أَنْ لا يَخْرُجَ حَتى يُوكلَ مَنْ يقْضِي عَنْهُ عِنْدَ حُلُولهِ (4) وَاللَّهُ أعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: يَجْتَهِدُ في إرْضَاء وَالِدَيْهِ وَمَنْ يَتَوَجهُ عَلَيْهِ بِرُّه (5) وَطَاعَتُهُ وإنْ كَانَتْ زَوْجَةَ اسْتَرْضَتْ (6) زَوْجَهَا وَأَقارِبهَا وَيُسْتَحَب للزوْجِ أنْ يَحُج بها (7) فإنْ مَنَعَهُ أحدُ الْوَالِدَيْن (8) نَظَرَ فَإنْ مَنَعَهُ مِنْ حَج الإِسْلاَمِ (9) لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَنْعِهِ (10) بَلْ لَهُ الإِحْرَامُ به وإنْ كَرِه الْوَالِدُ لأنَّهُ صَارَ عَاصياً بِمَنْعِهِ وَإِذَا أحْرَمَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَالِدِ تَحْلِيلُهُ وإن منعه من حج التطوع لم يجز له الإِحرام فإن أحرم فللوالد تحليله عَلَى الأَصَحِّ.
__________
(1) أي ما لم يكن الدائن مسافراً معه في ركبه.
(2) لوجوب إنظاره وحرمة ملازمته.
(3) أي ولو كان السفر مخوفاً.
(4) وإن عجله فهو أولى.
(5) أي من الأقارب والأشياخ.
(6) أي ندباً على تفصيله الآتي في الزوج.
(7) اتباعاً له - صلى الله عليه وسلم - حيث حج بأزواجه رضوان الله تعالى عليهن، وفيه أيضاً تحصيل عبادة للزوجة أو قيامها بما لا يطلع عليه غيرها من باطن أمر زوجها فعلى الأول كالحج في ذلك كل سفر لعبادة، وعلى الثاني لا فرق بل حيث جاز له السفر واحتاج لمن يقوم بما ذكر سن للزوج استصحاب الزوجة، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يستصحب معه بعض أزواجه رضوان الله عليهن في غزواته.
(8) أي مَنْ له عليه ولادة، ولو جداً أو جدة وإن وجد من هو أدنى منهما.
(9) أي من نسكه الواجب حج أو عمرة.
(10) وإن لم تجب حجة الإسلام على الفرع لكونه فقيراً لأنه لا طاعة لمخلوق في ترك طاعة الخالق.

(1/50)


وَأَمَّا الزوْجَةُ (1) فَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ حَج التطَوُع فَإِنْ أحْرمَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ تَحْليلُهَا وَلَهُ أيْضاً مَنْعُهَا مِنْ حَج الإسْلاَمِ عَلَى الأَظهَرِ (2) لأَنَ حَقهُ عَلَى الفَوْر وَالحَج عَلَى التَّرَاخِي وَإِنْ أحْرَمَتْ فَلَهُ تَحْلِيلُهَا عَلَى الأَظْهَرِ.
وإنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةَ حبَسَهَا للْعِدَّة (3) وَليسَ لَهُ التَّحْلِيلُ (4) إلا أنْ تكُونَ رَجْعيهَ فَيُرَاجِعُهَا ثمَ يُحَللُهَا (5) وَحَيْثُ قُلْنَا يُحَللُهَا فمعناه يأمُرُها بِذَبْح شاةٍ فَتَنْوِي هي بها التَّحَلُّلَ وتُقَصرُ مِنْ رأسها ثَلاَثَ شَعَرَات فصَاعِداً وإِنْ امَتَنْعَتْ مِنْ التَّحَلُّلِ فَلِلزوجِ وَطْؤهَا وَالإثْمُ عليها (6) لِتَقْصيرِها.
الخَامِسَة: ليحْرصْ عَلَى أنْ تكُونَ نَفَقَتُه حَلاَلاً خَالِصَةً مِنَ الشُّبْهَةِ فإنْ خَالَفَ وحَجَّ بما فيه شُبْهَة أوْ بِمَال مَغْصُوب صَحَ حَجه في ظَاهرِ الحُكْمِ لكنَّهُ لَيْس حَجاً مَبْرُوراً (7) وَيَبْعُدُ قَبُولُهُ. هذا مَذْهَبُ الشَّافِعِي وَمَالك وأبي حَنيفَةَ
__________
(1) أي ولو أمة وأذن لها سيدها.
(2) أي في غير صورة منها: إذا سافرت معه بإذنه وأحرمت بعد إحرامه وكان إحرامها يفرغ مع إحرامه لأنه لم يفت به الإستمتاع، ومنها إذا لزمها القضاء فوراً بإِنْ أفسد الزوج حجتها بالوطء، أو لزمتها حجة الإسلام بأن قال لها طبيبان عدلان إن لم تحجي في هذه السنة تُعضبي.
(3) أي رجعية كانت أو بائنة.
(4) أي لعدم ترتب ثمرته من التمتع بها.
(5) حاصل هذا أن لزوم العدة متى سبق الإحرام لم تخرج قبل انقضاء العدة وإن فات الحج كما لو أحْرمت بعد الطلاق بغير إذن مقدم فإن انقضت العدة أتمت نسكها إن بقي وقته وإلا تحللت بعمل عمرة ولزمها القضاء ودم للفوات وإنْ أحرمت بإذن أو دونه ثم فورقت بموت أو غيره فإنْ خافت الفوات خرجت وجوباً للنسك لتقدم الإحرام، وإنْ أمنته جاز لها الخروج لما في تعين الصبر من مشقة مصابرة الإحرام.
(6) أي مع الكفارة كما في الحاشية هذا في حكم الحرة، وأما التحلل في الأمة فهو التقصير مع النية.
(7) ظاهره أن الحج بما فيه شبهة مجزوم بعدم كونه مبروراً وليس كذلك كما في =

(1/51)


رَحِمَهُمُ اللهُ وَجَمَاهير الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَف وَالخَلَفِ، وَقَال أحمد بن حَنْبَل لا يُجْزيه الحَجُ بِمَالٍ حَرَامٍ (1).
السَّادِسَةُ: يُسْتَحَب أنْ يَسْتكثِرَ مِنْ الزادِ وَالنَّفَقَةِ (2) لِيُواسِيَ مِنْهُ الْمُحْتَاجِين وَلْيَكُنْ طَيباَ لِقَوْلهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا (3) الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَالمُرَادُ بالطيبِ هُنَا (4) الْجَيد (5) وِبالْخَبيثِ الرَديء ويَكُونُ طَيبَ النَّفْس بِمَا يُنفقُهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى القَبول.
السَّابعةُ: يُسْتَحَب تَرْكُهُ المُمَاحَكَة (6) فيمَا يَشْتَرِيه لأسْبَابِ حَجه وكَذَا كل
__________
= الحاشية فلعل قوله رحمه الله تعالى المذكور عائد إلى الحرام، فقط، وأما ما فيه شبهة فإنه يخشى عليه أن تكون تلك الشبهة حراماً فلا يكون حجاً مبروراً وحيث وجدت الشبهة فليجتهد في حل قوته ذهاباً وإياباً، وإلا فذهاباً فقط، وإلا فمن الإِحرام إلى التحلل، وإلا فيوم عرفة، وإلا فليلزم قلبه الخوف، لما هو مضطر إليه من تناول ما ليس بطيب فعسى الله أن ينظر إليه بعين الرحمة ويتجاوز عنه بسبب حزنه وخوفه وكراهته.
(1) لما أخرجه الطبراني من جملة حديث: (وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز (أي الركاب) فنادى لبيك لبيك ناداه منادٍ من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مبرور) وقال الشاعر رحمه الله تعالى:
إذا حججت بمال كله سُحُت ... فما حججت ولكن حَجت العِير
(2) أي بلا تكلف، وفي الحديث: "النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف".
(3) أي لا تقصدوا.
(4) أي في هذا الموضع احترز به عن الطيب في غيره فإنه كثيراً ما يستعمل بمعنى الحلال فقط.
(5) الجيد أي المستحسن عند أهل تلك الناحية فيما يظهر ومحله إن لم يعلم محبة المعطَي لشيء بخصوصه، وإلا فإعطاؤه ما يحبه أولى وإن لم يكن جيداً عند غيره.
(6) المماحكة في الأصل الخصومة وهنا معناها المشاحة فيما يعامل فيه: أي إذا =

(1/52)


شَيْء يَتَقَرّبُ به إلَى الله تَعَالَى كَذَا قَالَهُ الإِمَامُ الجَليلُ أبُو الشَّعْثَاء جَابرُ بنُ زَيد التابِعِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاء.
الثامِنَةُ: يُسْتَحَب أنْ لا يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ في الزَّادِ والرَّاحِلَة (1) وَالنفَقَةِ لأَنَّ تَرْكَ المُشَارَكَة أَسْلَمُ لَهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنعُ بِسَبَبِهَا مِنَ التصَرُفِ في وُجُوهِ الْخَيْرِ والبرّ والصَّدَقَةِ وَلَوْ أذِنَ لَهُ شَريكُهُ لم يُوثَقْ باسْتِمْرارِ رِضَاه فإنْ شارَكه جَازَ (2) وَيُسْتَحَبُّ أن يقْتصرَ على دُونِ حَقهِ (3). وأما اجْتِمَاعُ الرفقَةِ عَلَى طَعَامِ يَجْمَعُونَهُ يَوْماً يومَاً فَحَسَن (4) ولا بأسَ بأكْل بعْضهم أكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ إذا وَثق بأنّ أصْحَابه لاَ يَكْرَهُونَ ذلك (5) فإنْ لم يَثِقْ فَلاَ يَزِدْ (6) عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ وَلَيْسَ هَذا مِنْ بابِ الرِّبَا في شَيْءِ (7) فَقَدْ صَحَّتْ الأحَادِيثُ في خَلْطِ الصَّحَابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ زَادَهُم.
__________
= اشترى أو استأجر مثلاً لنفسه أما ما يفعله لغيره بولاية أو وكالة فيجب عليه الاجتهاد في الشراء أو الاستئجار بثمن المثل أو أجرته فأقل كما لا يخفى.
(1) الواو في قوله (الزاد والراحلة) بمعنى "أو".
(2) أي إن كان كل من الشريكين مكلفاً مختاراً رشيداً غير نائب عن غيره.
(3) أي ولا يلحظه بقلبه، ولا يرى لنفسه قدراً لبعد ذلك عن مكارم الأخلاق وحُسْن الصحبة.
(4) قال الجمال الطبري رحمه الله: واجتماع الرفقة كل يوم على طعام أحدهم على المناوبة أليق بالورع من المشاركة. اهـ.
أقول كما قال في الحاشية: هذا فيمن يتوهم منه شح، وكلام المصنف فيمن لا يتوقع منه ذلك، والسلف الصالح كان كل منهم يخرج بنفقته ويدفعها لمن يتولى عليهم ويأكلون جميعاً، لبعدهم عن الشح لإيثارهم على أنفسمهم، ولو أدى إلى تلفها.
(5) ولو بالظن أخذاً من قولهم يجوز الأكل من مال الغير إذا علم رضاه أو ظنه.
(6) أي وجوباً.
(7) لأن الربا إنما يكون في ضمن عقد.

(1/53)


التاسِعَةُ: يُسْتَحَبُّ أنْ يُحْصلَ مَرْكُوباً قَوِياً (1) وَطِيئاً (2) والرُّكُوبُ (3) في الحَج (4) أفْضَلُ مِنَ المَشْي عَلَى المَذْهب الصحِيْحِ وَقَدْ ثَبَتَ في الأَحَادِيثِ الصَّحيْحَةِ أَن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَج رَاكباً (5).
وَكَانَتْ رَاحِلَتُهُ زَامِلتهُ (6) وَيُسْتَحَب الحَجُّ عَلَى الرَّحْلِ (7) وَالقَتبِ دُوْنَ
__________
(1) ظاهره حل ركوب الضعيف حيث لا يحصل به ضرر لا يحتمل عادة.
(2) أي لأن ركوب غير الوطىء يضره ويشوش عليه خشوعه.
(3) أي ولو على الضعيف وغير الوطىء.
(4) أي والعمرة إلا ما استثني كالسعي ودخول مكة.
(5) وورد في المشي في النسك فضل عظيم منه ما أخرجه الحاكم رحمه الله تعالى وصححه من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إليها كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم وحسنات الحرم الحسنة بمائة ألف حسنة". وتضعيف البيهقي له بأن عيسى بن سوادة أحد رواته تفرد به وهو مجهول مردود بأنه لم ينفرد به لأن الحافظ ابن مسدد وغيره أخرجوه من حديث سفيان بن عيينة عن إسماعيل ابن أبي خالد الذي رواه عنه ابن سوادة. وقال ابن منده: هذا حديث حسن غريب ومن ثم رواه الحاكم من الوجه الذي رواه البيهقي وصحح إسناده كما مَر.
وممن قال بقضية هذا الحديث الحسن البصري وغيره، وارتضاه المحب الطبري وغيره، ومع ذلك فهو لا يقتضي أفضلية المشي لأن ثواب الاتباع يربو على ذلك أخذاً من كلام السبكي رحمه الله تعالى: (صلاة الظهر بمنى يوم النحر أفضل منها بالمسجد الحرام، وإن قلنا إن المضاعفة تختص به لأن في الاقتداء بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - ما يربو على المضاعفة). اهـ.
ومحل الخلاف فيما يظهر فيمن استوى خشوعه في حال مشيه وركوبه، ولم يطلب منه الركوب لظهوره لاستفتاء ونحوه. وإلا تعين الجزم بأن الركوب أفضل والعمرة كالحج فيما ذكر والله أعلم. اهـ مختصراً من الحاشية.
(6) أي لم يكن معه - صلى الله عليه وسلم - راحلة أخرى لحمل متاعه وطعامه بل كانا معه على الراحلة، فالزاملة بعير يحمل عليه المتاع من الزمل وهو الحمل، فالحج على الزاملة أفضل منه على غيره لأنه الأليق بالتواضع.
(7) الرحل: هي العدة الكبيرة التي توضع على جميع ظهر البعير، والقتب هو =

(1/54)


الْمَحَامِلِ وَالهَوَادج لِما ذَكَرْناهُ مِنْ الحَديثِ الصحيح (1)، ولأَنَّهُ أشْبَهُ بالتواضُع، ولاَ يَلِيقُ بالْحَاج غَيْرُ التواضُع في جَمِيعِ هَيْئَاتِهِ وَأحْوَالِهِ في جَمِيعِ سَفَرِهِ وَسَوَاء فيما ذَكَرْنَاهُ الْمَرْكُوبُ الذي يَشْتَرِيه (2) أوْ يَسْتأجرُهُ. وَيَنْبَغِي (3) إذا اكْتَرَى أنْ يُظْهِرَ للجَمَّالِ جَمِيعَ مَا يُرِيدُ حَمْلَهُ مِنْ قَليل أوْ كَثِير وَيَسْتَرْضِيهِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ يَشُق عَلَيْهِ الرَحْلُ لِعُذْر كَضَعْفِ أوْ عِلَّةِ في بَدَنِهِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ فلا بأسَ بالمَحْملِ بَلْ هُوَ في هَذَا الْحَال مُسْتَحَب وإنْ كَانَ يَشُق عَلَيْهِ الرَحْلُ وَالْقَتَبُ لرياسَتِهِ وارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِ أوْ نَسَبِهِ أوْ عَمَلِهِ أوْ شَرَفِهِ أوْ جَاهِهِ أوْ ثَرْوَتِهِ أوْ مُرُوءَتِهِ أوْ نَحْوَ ذلك مِنْ مَقَاصِدِ أهْلِ الدُّنْيا لَمْ يَكُنْ ذلكَ عُذْراً في تَرْكِ السُنةِ في اخْتِيَارِ الرَّحْلِ وَالْقَتَبِ فَانَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرٌ من هذا الجَاهِلِ بِمِقْدَار نَفْسِهِ (4) واللهُ أَعْلَمُ.
__________
= الإكاف الصغير على قدر سنام البعير، فركوب الإِبل أفضل من غيرها للاتباع. فإن قيل: روى الامام أحمد والطبري رحمهما الله تعالى: "إذا ركبتم الإبل فتعوذوا بالله واذكروا اسم الله فإن على سنام كل بعير شيطاناً" فكيف مع ذلك يكون ركوبها أفضل؟
أجيب كما في حاشية العلامة ابن حجر رحمه الله تعالى: ملحوظ الأفضلية الاتباع وهذا الحديث لا يقتضي كراهة ركوبها ولا أنه خلاف الأفضل، وإنما الذي يقتضيه تأكد ندب التعوذ والذكر عند ركوبها ليندفع بذلك ضرر ذلك الشيطان الذي على سنامها.
(1) وهو قوله رحمه الله: (وكانت راحلته زاملته) لأنه معطوف على خبر معمول ثبت.
(2) والشراء أفضل من الاستئجار إلا بعذر لأنه يتصرف في المركوب على حسب اختياره، فيسلم من كثرة الخصومات والتبعات الواقعة بسبب الاستئجار، والله أعلم.
(3) أي يجب حيث لم يشترط على من يكتري منه حمل أوزان معلومة من جنس معلوم ولا عبرة بالعرف في ذلك لاضطرابه وكثير يعولون عليه، وهو خطأ صريح كما في الحاشية.
(4) قد يستشكل هذا بقول الفقهاء رحمهم الله تعالى في باب صلاة الجماعة لو لم يَلِقْ به العري لنحو منصب سقطت عنه كالجمعة فلِمَ لَمْ يقولوا هنا بمثل ذلك، بل هو أولى لأنه مجرد سنة ليس فيها حق لآدمي. =

(1/55)


وَيُكْرَهُ رُكُوبُ الجَلالَة وَهِيَ النَّاقَةُ أو البَعِيرُ (1) الذِي يَأْكُلُ العَذِرَةَ (2) لِلْحَدِيْثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْجَلاَلَةِ مِنَ الإِبلِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا.
العَاشِرَةُ: إِذَا أرَادَ الحَجَّ أنْ يَتَعَلَمَ كَيفيتهُ (3) وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ (4) إذْ لاَ تَصحُّ العبادةُ ممَنْ لا يَعرفُها (5) وَيُسْتَحَب أنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ كِتَاباً (6) وَاضِحاً في المَنَاسِكِ جَامِعاً لِمَقاصِدِهَا وأنْ يُدِيمَ مُطَالَعَته وَيُكَررُها في جَميعِ طَريقِهِ لتَصِيرَ
__________
= أجيب كما في الحاشية: بأنه لا يلزم من المسامحة في ذلك لكثرة ما يترتب عليه من الضرر المسامحة في هذا لما فيه من إِظهار السنة الذي لا ضرر فيه بوجه إذ الغالب في الأسفار عدم الالتفات إلى الرياسة والمناصب بخلاف الحضر.
(1) تفسيره للجلالة باعتبار الغالب، وإلا فكل ما اعتيد عليه الركوب من المأكولات كفرس قد تغير ريحه بالنجاسة فهو جلالة يكره ركوبه سفراً وحضراً بغير حائل إن كان عرقه متغيراً بريح النجاسة ولم يعلف بطاهر أزال تغيره، وإلا لم يكره ركوبها.
(2) العذرة: هي فضلة الإنسان الغليظة (الغائط) ومثلها كل نجس.
(3) أي المشتملة على أركانه وشرائطه وواجباته ومفسداته. ومعنى كيفيته هو أن يعرف كيفية كل عمل عند الشروع فيه، لا معرفتها عند الإِحرام، قال العلامة ابن حجر المكي رحمه الله تعالى: (الواجب عند نية الحج تصور كيفيته بوجه، وكذا عند الشروع في كل من أركانه). اهـ. ولا يضر هنا إذا قصد بفرض معين النفلية إذ لو طاف مثلاً بقصد النفل انصرف للطواف الفرض عليه تبعاً لأصله إذ لو كان عليه نسك مفروض فنوى نسك تطوع انعقد المفروض دون ما نواه ولا يضر نيته فكذا أركانه ولا كذلك الصلاة.
(4) أي بعد الإِحرام.
(5) قال صاحب الزبد رحمه الله تعالى:
وكل مَنْ بغير علم يعمل ... أعماله مردودة لا تقبل
(6) أي من الكتب المعتمدة ككتاب "الإيضاح" هذا وقد مزجته ولله الحمد والمنة هو وحاشيته للعلامة ابن حجر المكي وزدت عليه ذكر آيات الحج ومنافعه وأسراره وأدعية الأماكن المقدسة التقطت معظمها من كتاب "عدة المسافر" للعلامة باسودان وجعلت الجميع في كتاب مختصر سميته "مرشد الحاج والمعتمر والزائر إلى أعمال الحج والعمرة =

(1/56)


مُحَققَةً عِنْدَهُ وَمَنْ أَخَلَّ بِهذا خِفْنَا عَلَيْهِ أنْ يَرْجِعَ بِغَيْر حَج لإخْلاَلهِ بشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ أوْ رُكْنٍ مِنْ أركَانِهِ أوْ نَحْو ذَلِكَ وَرُبَّما قَلدَ كَثير مِنَ النَاس بَعْضَ عَوَام مكة وَتَوَهَمَ أَنهُمْ يَعْرِفُونَ الْمَنَاسِكَ فَاغْتَرَّ بِهِمْ وذلكَ خَطَأ فاحشٌ.
الحادية عشرة: يَنْبَغِي أنْ يَطْلُبَ لَه رَفِيْقاً (1) مُوَافِقاً رَاغِباً في الخَيْرِ كَارِهاً للشَّرِّ إنْ نَسِيَ ذَكَّرَه (2) وإنْ ذَكَرَ أعَانَهُ (3) وإنْ تَيَسَّرَ معَ هَذَا كَوْنُهُ مِنَ العُلمَاءِ فَلْيَتَمَسَّكْ به فإنه يُعِينُهُ عَلَى مَبَار الْحَج وَمَكَارمِ الأَخْلاَقِ وَيَمْنَعُهُ بِعِلْمِهِ وعَمَله مِنْ سُوءِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْمُسَافِرِ مِنْ مَسَاوىء الأخلاَقِ والضجَرِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أنْ يَكُونَ مِنَ الأَجَانِبِ لاَ مِنَ الأَصْدِقَاءِ وَالأَقَارِب وهذَا فيهِ نَظَر بَلْ الاخْتِيارُ أن الْقَرِيبَ أوْ الصدِيقَ المَوثُوق بهِ أَوْلَى (4) فَإِنَّهُ أَعْوَنُ له على مُهِمَّاتِهِ
__________
= والزيارة" وهو مطبوع وهو جدير بالقنية، نفع الله به وبجميع كتبي، ورحمني الله وجميع مؤلفي أصولها ووالدي ومشايخي وكافة المسلمين والمسلمات، آمين.
(1) أي لقوله - صلى الله عليه وسلم - لخفَاف بن ندبة رضي الله عنه: "يا خفاف ابتغ الرفيق قبل الطريق، فإنْ عَرَضَ لك أمْر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك". رواه ابن عبد البر وغيره رحمهم الله تعالى.
(2) أي فالذكرى تنفع المؤمنين.
(3) وفي الحديث: "خير الأصحاب صاحبٌ إذا ذكرتَ الله أعانك وإذا نسيتَ ذَكَرَكَ" رواه ابن أبي الدنيا وفي مثل هذا كان عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كثيراً ما ينشد:
وإذا صاحبت فاصحب صاحباً ... ذا حَياءٍ وعفاف وكرمْ
قوله للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعمْ
(4) فإنْ قيل ورد قوله - صلى الله عليه وسلم - لأكثم بن جون رضي الله عنه: "اغز مع غير قومك يحسن خلقك" قَدْ يقال في رَده: إنما اختص الغزو بذلك لأن المطلوب فيه مزيد الشجاعة وظهور الآثار الحميدة وهي مع حضور الأجانب أقوى لأن خشية العار منهم أشد من خشيته من الأقارب.

(1/57)


وَأشْفَقُ عليهِ في أمُورِهِ (1) ثُمَّ يَنْبَغِي (2) له أنْ يَحْرِصَ على رِضَا رفيقِهِ في جَميعِ طَريقِهِ وَيَحْتَمِلُ كُل وَاحِدِ صَاحِبه وَيَرَى لصاحبه عَلَيْهِ فَضْلاً وَحُرْمَةً وَلاَ يَرَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا وَقَعَ منه فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ مِنْ جَفَاءِ وَنَحْوهِ فَإِنْ حَصَلَ بَيْنَهُمَا خِصَامٌ دَائمٌ وَتنكَّدَتْ حَالتهُمَا وَعَجَزَ عَنْ إصْلاَحِ الحَالِ اسْتُحِبّ لَهُمَا تَعْجِيلُ الْمُفَارَقَةِ (3) ليَسْتَقِرَّ أمْرُهُمَا وَيَسْلَم حَجهُمَا مِنْ مُبْعِدَاتِهِ عَنْ الْقَبُولِ وَتَنْشَرِحَ نُفُوسُهُمَا لِمَنَاسِكِهِمَا وَيَذْهَبَ عَنْهُمَا الحِقْدُ (4) وَسُوءُ الظَنِّ والكَلاَمُ في الْعِرضِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النقَائِصِ الَّتي يَتَعَرّضان لَهَا.
الثانِيةَ عشرة: يُسْتَحَبُّ أَنْ تكونَ يَدُهُ فَارغَةً مِنْ مَالِ التِّجَارَة ذاهباً وَرَاجعاً فَإن ذَلِكَ يَشْغَلُ القَلْبَ، فَإنْ اتَّجَرَ لَمْ يُوَثِّرْ ذَلِكَ في صِحَةِ حَجِّهِ (5) وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ الإِخْلاصِ في حَجهِ وَأَنْ يُريدَ به وَجْهَ اللهِ تَعَالَى. قَالَ اللهُ تَعَالَى:
__________
(1) أي محل اختيار تقديم القريب إذا وثق منه العون والشفقة وإلا استوى هو والأجنبي بل ربما يكون الأجنبي أولى إلا أن يكون للقريب مبرة تصل إليه فيقدمه لأن الصدقة عليه أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" أي العدو أو نحوه.
(2) أي يندب وربما يجب في بعض الصور وينبغي له أيضاً أن يصحب مماثله أو دونه في الإِنفاق. قال الإِمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (لا تصحب من هو أكثر شيئاً منك فإنك إنْ ساويته في النفقة أضَر بك، وإنْ تفضل في الإِنفاق عليك استذلك).
(3) وقد تجب المفارقة في بعض الصور، كما إذا غلب على ظنه وقوع محذور، إلا إنْ أدتْ المفارقة إلى خطر أعظم كضياع عديله العاجز عن المشي والركوب في غير محمل فتمتنع.
(4) الحقد: هو الانطواء على العداوة والبغضاء.
(5) أي والثواب بقدر باعث الدين، وإنْ غَلَبَ باعث الدنيا قيل لا شيء له من الأجر مطلقاً، وهذا إنْ كان قَصْد التجارة لأجل نمو المال هو الغرض، فلو قَصَدَ بالتجارة كفاية أهله والتوسعة عليهم أو على أهل الحرم، فله الثواب كاملاً لأنه ضم أخرَوِياً إلى أخْرَوِي. اهـ عمدة.

(1/58)


{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَثَبَتَ في الْحَديث المُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنيات" ويَنْبَغِي لِمَنْ حَج حَجةَ الإِسْلاَمِ وَأَرَادَ الْحَج أن يحج مُتبَرعاً مُتَمَحضاً لِلْعِبَادةِ فَلَوْ حَج مُكْرياً جِمالَهُ أوْ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ جَازَ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ.
وَلَوْ حَج عَنْ غَيْرِهِ كَانَ أعْظَمَ لأجْرِهِ (1) وَلَوْ حَج عَنْهُ بأُجْرَةِ فَقَدْ تَرَكَ الأَفْضَلَ لَكِنْ لاَ مَانع مِنْهُ وَهُوَ مِنْ أطْيَبِ الْمَكَاسِبِ فَإِنهُ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ هَذِهِ الْعِبَادَةُ العَظيمَةُ ويحصلُ لَهُ حُضُورُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الشَريفة فَيَسْألُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ.
الثالثة عشرة: يُسْتَحَب أنْ يَكُونَ سَفَرُهُ يَوْمَ الْخَمِيس فَقَدْ ثَبَتَ في الصَحيحَيْنِ عَنْ كَعْب بن مَالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: (قَلَّمَا خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَر إلا يَوْمَ الخَمِيس فَإنْ فَاتَهُ فَيَوم الاثنين (2) إذ فيه هَاجَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) من دلائله ما رواه الهروي رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من حَج عن ميت يكتب للميت حجة، وللحاج سبع حجات)، وللدارقطني رحمه الله تعالى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حج عن أبيه أو عن أمه فقد قضى عنه حجته، وكان له فضل عشر حجج).
(2) فإنْ فاته يوم الاثنين، قال في الحاشية: فالذي يظهر أن الأولى يوم السبت لما روي من أنه - صلى الله عليه وسلم -: خرج في بعض أسفاره يوم السبت. ومن قول عمرو بن أم مكتوم يرفعه: لو سافر الرجل يوم السبت: (منْ شرق إلى غرب لرده الله تعالى إلى موضعه).
قيل: ويكره السفر ليلة الجمعة لخبر: (إذا سافر الرجل ليلة الجمعة دعا عليه ملكاه).
ذكره الغزالي في الخلاصة، وفي الكراهة نظر، وقد يقال: تحتمل الكراهة إنْ قصد الفرار من الجمعة، ويحرم السفر بعد فجرها على من لزمته ما لم يخش انقطاعاً عن رفقته أو تمكنه من طريقه.
ثم نصهم على ندب السفر في هذه الأيام صريح في عدم ندبه في غيرها لكن لا من جهة تطير ونحوه، لحرمة رعاية ذلك، فقد قال ابن جماعة: (ولا يكره السفر في يوم من =

(1/59)


مِنْ مَكَّةَ) ويُسْتَحب أنْ يكُون باكراً لحديث صخْر الغَامدي رضي اللهُ عَنْهُ أن النبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اللهُمَّ بَارِكْ لأُمتي في بُكُورِهَا" وَكَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشاً أوْ سَرِية بَعَثَهُمْ مِنْ أول النهار وَكَانَ صَخْرٌ تَاجراً فَكَانَ يَبْعَثُ بتِجَارَته أول النهَارِ فَأَثْرَى وكَثُرَ مَالُهُ. رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ والترْمذِي (1) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
الرَّابِعَةِ عَشرة: يُسْتَحَبُّ إذَا أرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزلهِ أنْ يُصَليَ ركْعَتَيْن (2) يقْرأ في الأولَى بَعْدَ الْفَاتِحَة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وفي الثَّانِية {قُل هُوَ
__________
= الأيام بسبب كون القمر في العقرب أو غيره، ولَمَّا قِيْلَ لعلي كرم الله وجهه ورضي عنه: (أتلقى الخوارج والقمر في العقرب، قال: فَأَيْن قمرهم). وقال له مُنَجم: سِرْ ساعة كذا تظفر. فقال: (ما كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - مُنَجم ولا لنا مِنْ بعده)، واحتج بآيات ثم قال: (فمنْ صَدقَكَ في هذا القول لم يأمنْ أنْ يكون كمن اتخذ من دون الله نِدَّاَ، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي نهيتنا عنها)، ثم قال للناس: ألا إياكم وتَعَلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، المنجم كالكافر، ثم توعد المنجم بأنه إنْ لم يتب ليخلدنه في الحبس، وليحرمنه العطاء، ثم قاتل الخوارج في الساعة التي نهاه عنها فظفر بهم، وهي وقعة "النهروان الثانية".
ونقل ابن رُشْد رحمه الله تعالى أن الإمام مالكاً رحمه الله لم يكن يكره شيئاً في يوم من الأيام بل كان يتحرى الأربعاء والسبت رداً على مَنْ يتشاءم بهما وأراد مَلِكٌ غزواً في وقتٍ، فحذره المنجمون منه. فأنشد:
دع النجوم لطرقي يعيش بها ... وانهض بعزم صحيح أيها الملك
إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرتَ ما ملكوا
فخالفهم وظفر وغنم.
وهذا الخليفة المعتصم العباسي رحمه الله أراد غزو عامورية في وقت فنهاه المنجمون عن غزوها في هذا الوقت فلم يلتفت لقولهم بل غزاها وانتصر وفي هذا يقول البحتري رحمه الله في قصيدته التي مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحدُّ بين الجد واللعب
(1) أي والنسائي وابن ماجه.
(2) كيفية نيتهما أنْ ينوي بقلبه سنة الخروج من البيت للسفر.

(1/60)


اللَّهُ أَحَد}. فَفِي الحَدِيث عَن النَبِي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا خَلَّف أحَد عِنْدَ أَهْلِهِ أفْضَلَ مِنْ رِكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حينَ يُرِيدُ السَّفَرَ". ويُسْتَحَب أنْ يقْرَأ بَعْدَ سَلاَمه آيةَ الكُرْسي ولإيلاَف قُرَيْش فَقَدْ جَاءَ فيهِمَا آثَارٌ للسلَف مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ في كُل شَيْء وكُل وَقْت. ومِنَ الآثَارَ: (أَنَّ مَنْ قَرَأَ آيةَ الْكُرْسي (1) عِنْدَ خُرُوجه مِنْ مَنْزلهِ لَمْ يُصبْهُ شَيْء يكْرَهُهُ حَتى يَرْجعَ مِنْ مَنْسَكه) عَنْ جَمَاعَةٍ، ثُمَّ يَدْعُو بِحُضُور قَلْب وإخْلاَص بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ أُمُور الدُنْيَا والآخِرَة وَيَسْألُ اللَّهَ الإِعَانَةَ والتَّوْفِيقَ في سَفَره وغَيْرِهِ مِنْ أمُوره فَإذَا نَهَض (2) مِنْ جُلُوسه قَالَ مَا رَوَيْنَا مِنْ حديث أنس رضي اللهُ عَنْهُ: "اللَهم إلَيْكَ تَوَجهْتُ وبكَ اعْتَصَمْتُ اللَّهُم اكْفني مَا أَهَمَني وَمَا لَمْ أَهْتَمَّ به اللَّهُمَّ زَودْني التقْوَى وَاغْفِرْ لي ذَنْبي (3)
__________
(1) وجه المناسبة في آية الكرسي افتتاحها بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنَةٌ ولا نوم، وذلك هو المتكفل بحفظ من يخلفه وعدم ضياعه إذْ لا يستحفظ في الحقيقة إلاّ مَنْ اتصَفَ بما ذكر، وهو الله سبحانه دون غيره، ومن الآثار في لإيلاف قريش: (مَنْ أراد سفراً ففزع من عدوٍ أو وحشٍ فليقرأ لإيلاف قريش فإنها أمان من كل سوء). وجه المناسبة في لإيلاف قريش ما فيها من نعمتي الإطعام من الجوع والأمن من الخوف المناسبين لذلك أيَّ مناسبة.
(2) أي للخروج. ولم يشرع فيه لأن المصنف رحمه الله تعالى سيذكر في السادسة عشرة دعاء آخر وهو قوله: (اللهم إني أعوذ بك من أنْ أضل ... ) إلى آخره. فيقوله عند شروعه في الخروج ويحتمل أن يجمع بين ما ذكره هنا وما سيأتي في السادسة عشرة عند إرادته الخروج فيقدم ما في الرابعة عشرة لأنه نص في المقصود لخصوصه بخلاف ما سيأتي في السادسة عشرة فإنه يعم كل خروج ولهذا جمعت بينهما مقدماً: (اللهم بك انتشرت) وملحقاً به: (اللهم إني أعوذ بك أنْ أضل ... ) إلخ في كتابي "مرشد الحاج والمعتمر والزائر" نفع الله به وبجميع كتبي آمين.
(3) وأكمله كما ورد في بعض الروايات بزيادات: (اللهم بك انتشرت وبك اعتصمت، أنت ثقتي، ورجائي، اللهم إليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم اكفني ما أهمني، وما لم أهتم به، وما أنت أعلم به مني، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي، =

(1/61)


اللهم إني أعوذ بِك مِنْ أنْ أضلّ أو أُضَل، أو أزِل أو أزَلّ، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أجهل أو يُجْهَلَ عَلَيّ، توكلتُ على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
الخَامسة عشرة: يُسْتَحَب أَنْ يُوَدع (1) أهْلَهُ وجيرَانَهُ وأصْدقَاءَهُ وأَنْ يُودِّعُوهُ وَيقُولُ كُل واحد مِنْهُمْ لصَاحبِهِ: أَسْتَوْدع اللَّهَ دِينكَ وَأَمَانتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ زَوَّدَكَ اللَّهُ التقْوَى وَغَفَرَ ذَنْبَكَ وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُ كُنْتَ (2).
__________
= ووجهني إلى الخير حيثما توجهت). ويضم إليه: (اللهم بك أستعين، وعليك أتوكل، اللهم ذلل لي صعوبة أمري، وسَهل علي مشقة سفري، وارزقني من الخير أكثر مما أطلب، واصرف عني كل شر، رب اشرح لي صدري ونَوَر قلبي ويَسر أمري، اللهم إني أستحفظك وأستودعك نفسي وديني وأهلي وأقاربي وكل ما أنعمت به علي وعليهم من آخرةٍ ودنيا واحفظنا أجمعين من كل سوءِ، يا كريم، اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلِم أو أظلَم أو أجهل أو يجهل عليّ توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله).
(1) أي أنْ يذهب إلى مَنْ يودعهم لما وَرَدَ أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أتى أصحابه فَسَلَّم عليهم، وإذا قَدِمَ من سفر أتوا إليه فسلموا عليه، وإنما كان هو المودع لأنه المُفارق، والتوديع منه والقادم يُؤتى إليه ليُهَنأَ بالسلامة.
(2) هذا الدعاء الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى مجموعٌ من حديثين صحيحين، زاد النسائي عليه آخره: واقرأ عليك السلام، وينبغي للمقيم أنْ يزيد عليه إذا ولَّى المسافر: (اللهم اطوِ له البُعْدَ، وهَوَن عليه السفر) لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لمريد سفر، قال: يا رسول الله إني أريد أنْ أسافر، فأوصني. قال: "عليك بتقوى الله والتكبير على كل شَرَف (أي مرتفع) ". فلما وَلَى، قال: اللهم اطو له البُعْد. رواه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه رحمهم الله تعالى. وأنْ يطلب من المسافر الدعاء، لما صَحَّ أنه - صلى الله عليه وسلم - طلبه من عمر رضي الله عنه لَمَّا أراد العمرة بقوله: (يا أخي لا تنسنا من دعائك)، وفي رواية: (يا أخي أشركنا في دعائك)، وأنْ يُشَيِّعَه بالمشي معه كما قاله جمع للاتباع، رواه أبو داود رحمه الله وكذا الحاكم وصححه، وأنْ يصافحه عند مفارقته فيما يظهر للاتباع =

(1/62)


السادسة عشرة: السُّنةُ إذَا أرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ بيتِهِ أنْ تقُولَ مَا صَحَّ أن رَسُولَ اللَّهَ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقُولُ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: "اللَهُمَّ إنَّي أعُوذُ بِكَ مِنْ أضِلَّ أوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَ أَوْ أُزلَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليّ"، وعن أنس أنَ النَبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذَا خَرَجَ الرَجلُ مِنْ بيته فَقَالَ: بِسْم الله تَوَكَلْتُ عَلَى الله لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله يقالُ لَهُ: هُدِيتَ وكفيتَ ووُقيت" ويُسْتَحَب هَذَا الدُّعَاءُ لكُلِّ خَارج مِنْ بَيْتِهِ ويُسْتَحَب له أنْ يَتَصدَّقَ بِشَيْء عِنْدَ خُرُوجه، وَكَذاَ بَيْنَ يَدَيْ كُل حَاجَة يُريدُهَا.
السابعة عشرة: إذَا خَرَجَ وَأَرَادَ الرُّكُوبَ (1) اسْتُحِبَّ أَنْ يقُولَ: بِسْمِ الله، وَإذَا اسْتَوَى على دَابته قال: الحَمْدُ لله سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لنا هَذَا وما كُنَّا لَهُ مُقْرنينَ (2) وإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (3) ثُمَ يقُولُ: الحَمْدُ لله ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلاَثَ مَرَّات ثُمَّ يقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَ إنِّي ظَلَمْتُ نفْسِي فاغْفِرْ لي فَإِنّه لا يَغْفِرُ الذُنُوبَ إِلاَ أنْتَ. لِلْحَدِيث الصَّحيح في ذَلِكَ. وَيُسْتَحَب أن يَضُمَّ إليه: اللَّهُمَّ إنَّا نَسألُكَ في سَفَرِنَا هذا البرَّ والتقْوَى ومِنَ الْعَمَلِ مَا تُحِب وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرِنَا واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصاحِبُ في
__________
= أيضاً، رواه أبو داود والنسائي، وأنْ يواسيه بشيء إنْ كان مُحتاجاً أخْذاً من اعتذار ابن عمر رضي الله عنهما لمن وَدَعه، بقوله: (ليس لي ما أعطيكه). ويُسَن للخارج طلب وصاية المقيم له بالخير للحديث السابق ودعاؤه له لما رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا خرجت إلى سفر فقل لمن خلفته: أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه" ويقاس به الدعاء المتقدم فيقول لهم: "أستودع الله دينكم ... " إلى آخره كما صَرح به المصنف بقوله: ويقول كل واحد ... إلى آخره.
(1) ويُسَنُّ أنْ يبدأ برجله اليمنى.
(2) أي مُطيقين.
(3) أي لمبعوثون.

(1/63)


السفَر والخَلِيفَةُ في الأَهْلِ وَالمَالِ، اللَّهُم إنَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَر وَكَآبةِ المُنْقَلَبِ (1) وَسُوء المَنْظَرِ في الأَهْلِ وَالمَالِ والْوَلَدِ، لِلْحدِيثِ الصَّحيح في ذلك.
الثامنة عشرة: يُسْتَحَب إِكْثَارُ السَّيْرِ في اللَّيْلِ لِحَدِيثِ أَنسٍ (2) أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "عَلَيْكُم بالدُّلْجَة (3) فَإِن الأَرْضَ تُطْوَى باللَيْلِ" (4).
وَيُسْتَحَبُّ أنْ يرِيحَ دَابتَهُ بالنُّزُولِ عَنْهَا غُدْوَةً (5) وَعَشِيةً وَعِنْدَ كُلِّ عَقَبة
__________
(1) قال في الحاشية: ويزيد بعد قوله: (وكآبة المُنْقَلَب): (والحَوْر بعد الكور، ودعوة المظلوم) ثم قال: (ووعثاء السفر بالمد شدته، والكآبة بالمد أيضاً تغير النفس مِن حزن ونحوه، والحور بمهملتين: النقص والتأخر، والكور بالراء من تكوير العمامة أي لفها وجمعها. ورواه مسلم وغيره بالنون مصدر "كان" إذا وجد واستقر، وهو الأكثر: الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص. كذا نقل تفسير هذه الثلاثة عن العلماء، وفيه وقفة إذْ يصير المعنى عليه: وأعوذ بك من النقص بعد الرجوع إلى النقص، فالوجه أنْ يقال: المراد بالكور هنا نفس الاستقامة أو الزيادة، لا الرجوع منها، ليلتئم المعنى.
ثم رأيت ابن خليل ذكر نحو ذلك فقال: والكور التقدم والزيادة والكون من قولهم كان فلان على حالة جميلة فحار عنها أي رجع، وقولهم حار بعدما كان. اهـ.
أقول: فيكون معنى (الحور بعد الكور) بالراء، النقص بعد الزيادة، ومعنى (الحور بعد الكون) بالنون الرجوع من الحالة الجميلة إلى الحالة القبيحة. والله أعلم.
(2) رواه أبو داود والحاكم وصححه.
(3) الدُلْجة: بضم الدال فسكون أو بفتحتين، قال في الصحاح: السيْر في أول الليل وآخره.
(4) أي طَيَّاً حقيقياً يكرم الله به مَنْ أتى بهذا الأدب امتثالاً لذلك، إذ في رواية: "عليك بالدلجة، فإن لله ملائكة موكلين يطوون الأرض للمسافر كما تطوى القراطيس".
(5) دليله حديث البيهقي رحمه الله تعالى: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر مضى وناقته تُقاد.

(1/64)


وَيَتَجَنَّبَ النَّوْمَ (1) على ظَهْرِها وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيها فَوْقَ طَاقَتِها (2) وَأَنْ يُجيعَهَا (3) من غَيْرِ ضَرُورَةِ فَإنْ حَمَّلَهَا الجَمَّالُ فَوْقَ طَاقَتِهَا لَزِمَ المُسْتَأْجرَ الامتنَاعُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ بَأسَ بالإِرْتِدافِ عَلَى الدابةِ إذَا أَطَاقَتْهُ (4) فقَدْ صَحَّتْ الأَحَاديثُ المَشْهُورَةُ في ذلك ولا يَمْكُثُ على ظَهْرِ الدابة إِذَا كَانَ واقفاً لشُغْل يَطُولُ زَمَنُهُ بَلْ يَنْبَغِي أنْ يَنْزِلَ إلى الأَرْضِ فإِذا أَرادَ السَّيْرَ رَكِبَ إِلاّ أنْ يَكُون لَهُ عُذْرٌ مَقْصُودٌ في تَرْكِ النزُولِ (5) والحديثُ مَشْهُورٌ في النَّهْيِ عن اتخاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِ مَنَابِرَ. وَفِي الصحيحيْنِ أَنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ على راحِلته وَهَذَا للحَاجَة كما ذَكَرْنَاهُ.
__________
(1) أي كثرته عرفاً لغير عُذْر فقد صَحَّ أنه - صلى الله عليه وسلم - نام على راحلته، وإذا نام في غير وقته فللمؤجر منعه منه لأن النائم يثقل كذا قيل والله أعلم، والمراد بوقت النوم الوقت المعتاد لغالب الناس ولا يضر النعاس لبقاء نوع من الشعور معه. قال الجمال الطبري رحمه الله تعالى: ويسن أن لا ينزل حتى يحمى النهار وأنْ ينام فيه نومة يستعين بها على دفع الوسن، وقال غيره رحمه الله تعالى: يسن الإسراع في المشي عند الإعياء للحديث الصحيح: "أنهم شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - المشي، فدعاهم فقال: عليكم بالتّسلان" أي الإسراع في العَدْو، فتسلوا فوجدوه أخف عليهم، والرفق بالإبل، أي إنْ سافر في الخصب مثلاً لتنال منه حظها، والإسراع بها عند الجدب لتصل إلى المقصد وفيها فضل قوتها لحديث بذاك.
(2) الذي يظهر في ضبطه أن يقال هو ما يقتضي أهل الخبرة أنْ مثل هذه الدابة سِناً ونوعاً تعجز عن حمل مثله أو يترتب ضرر يلحقها منه في المستقبل كقلة مشيها عن عادتها.
(3) أي إجاعة يترتب عليها الضرر السابق في تحميل الدابة فوق طاقتها.
(4) أي إنْ مَلَكَ الدابة أو ظَن رضا مالكها، ومالك منفعتها أحق بمقدمها إلا أنْ يقدمه، ويجوز التعاقب عليها ويُسَن أنْ يركب غلامه.
(5) كأنْ كان ممن يطلب ركوبه ليستَفْتَى.

(1/65)


التَّاسِعَةَ عَشرة: أنْ يَتَجَنَّبَ الشَّبَعَ المُفْرِط (1) وَالزينَةَ والتَّرَفُّه (2) والتَّبَسُّطَ في ألْوَانِ الأَطْعِمَةِ (3) فَإِنَ الحَاجَ أشْعَثُ أغْبَرُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ الرِّفْقَ وَحُسْنَ الْخُلقِ مع الْغُلاَم والجَمّالِ والرَفِيقِ وَالسَّائِلِ وَغَيْرهم وَيَتَجَنَّب الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُخَاشَنَةَ وَمُزَاحَمَةَ النَاسِ فِي الطَّرِيقِ وَمَوارِدِ المَاءِ إِذا أمْكَنَهُ ذَلِكَ وَيَصُونُ لِسَانَهُ مِنَ الشَّتْمِ وَالْغَيْبَةِ وَلَعْنَة الدَوَاب (4) وَجَمِيعِ الأَلْفَاظِ الْقَبيحَةِ. وَلْيُلاَحِظْ قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَج فَلَمْ يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُه" وَيَرْفُقُ بالسَّائِلِ وَالضعِيفِ ولا يَنْهَرُ أحَداً مِنْهُمْ وَلاَ يُوَبخُهُ عَلَى خُرُوجهِ بلا زَادَ ولاَ رَاحِلَة بَلْ يُوَاسِيهِ بشَيء مِمَّا تَيَسَّرَ فَإنْ لم يَفْعَلْ رَدَّهُ رَدَّا جَمِيلاً وَدَعَا لَهُ بالمَعُونَةِ (5).
العِشْرُون: كَرِهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الوحْدَةَ في السَّفَرِ، وَقَالَ: "الرَّاكِبُ (6)
__________
(1) ضابط الشبع أن يصير بحيث لا يشتهي لا أنْ لا يجد له مساغاً وقوله: المفرط: قيد به لتأكد تجنبه حينئذ وإلا فأصْل الشبع مطلوب تجنبه للوارد: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع" أو كما ورد.
(2) الترفه والتنعم هنا الزينة والتبسط: ألفاظ مَعَانيها متقاربة أخذاً من القاموس وغيره.
(3) محله إذا كان يفعل التبسط لنفسه أما لنحو ضيف فلا بأس به.
(4) لما رواه مسلم رحمه الله تعالى: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتضايق بهم الجبل، فقالت: حل اللهم إلعنها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصحبنا ناقة عليها لعنة".
(5) قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]، وأما قول بعضهم في قوله تعالى وهو: {وَأَما اَلسائلَ فَلا تنْهَرْ (10)} محله ما لم يزد على ثلاث وإلا نهره ينبغي حمله على ما إذا ألح ولم يمكن دفعه إلا بذلك فحينئذ لا منع من أن ينهره لكن بما لا شتم فيه ولا إثم بل بنحو لا تجوز لك كثرة الإلحاح وخف الله في إلحاحك وما شابه ذلك مما لا يخفى على الموفق.
(6) ومثل الراكب الماشي وآثر الراكب جرياً على الأغلب وظاهر الحديث: أن =

(1/66)


الوَاحِدُ شَيْطَانٌ، وَالاثْنَان شَيْطَانَان، وَالثَّلاَثَةُ رَكْبٌ" فَيَنْبَغِي أنْ يَسيرَ مَعَ النَّاسِ وَلاَ يَنْفَرِدُ بَطِريق ولا يَرْكَبُ بنياتَ (1) الطَّريقِ فإنَّهُ يخافُ عليه الآفاتُ بسبَبِ ذَلِكَ وإِذَا تَرَافَقَ ثَلاَثَةٌ أوْ أكْثَرُ فَيَنْبَغِي أنْ يُؤَمِّرُوا على أَنْفُسِهِمْ أَفْضَلَهُمْ وَأَجْوَدهمْ (2) رَأياً ثُمَّ ليُطيعوهُ، لحَدِيثِ أبي هُرَيْرَة رضي الله عَنْهُ أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانُوا ثَلاَثَةً فَلْيُؤَمِّرُوا أحَدهمْ" رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَن.
الْحَادِيَةُ والعِشْرُون: يُكْرَهُ أنْ يَسْتَصْحِبَ كَلْباً أو جَرَساً لحديث أمِّ الْمُؤْمِنين أم حَبيبةَ رضي الله عنها أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ العِيرَ التي فيها الجَرَسُ لا تَصْحَبُهَا الْمَلاَئِكَةُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بإسْنَادٍ حَسَنٍ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله تعالى عنه أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَصْحَبُ الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْب أو جَرَسٌ". حَدِيثٍ صَحيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي الحديث في سُنن أبي دَاوُدَ وَغَيْرُهُ أنْ النَبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الْجَرَسُ مِزمَارُ الشَّيْطَانِ" قَالَ الشَّيْخُ أبُو عَمْرو بن الصَّلاَح رَحِمَهُ الله تعالى: فَإنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِك مِنْ جِهَةِ غيْرِه ولم يَستْطعْ إزَالتهُ فَلْيقُلْ: اللَهُمَّ إِنَي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا فَعَلَهُ هَؤُلاَءِ فَلاَ تَحْرِمَني ثَمَرَةَ صُحْبةِ ملائِكَتِكَ (3) وَبَرَكَتَهُم.
__________
= الكراهة لا تزول إلا بثلاثة وهو كذلك ومحله فيمن أنس بالناس، وأما مَنْ استوحش منهم واستأنس بالله في كثير من أوقاته فلا كراهة، ومحله أيضاً كما هو ظاهر إذا تيسر استصحاب أحد له، وإلا كانْ احتاج للسفر ولم يخشَ بتفرده على نفسه ضرراً فلا كراهة أيضاً والله أعلم.
(1) بنيات الطريق: يمناها ويسراها، بل يمشي وسطها لئلا يغتال فيبعد عليه الغوث، وينبغي ألا ينام بعيداً عن الطريق والركب سائر.
(2) وإذا تعارض الأفضل والأجود رأياً قدم الأجود رأياً لأن حفظ مضار السفر هو المقصود بالذات لأن التأمير إنما طلب لذلك.
(3) أي ملائكة الرحمة والبركة، قال في الحاشية: والظاهر أن من قال ما ذكره =

(1/67)


الثَّانِيَةُ والعِشْرُون: السُّنةُ إِذا عَلاَ شَرَفاً مِنَ الأَرْض كَبَّرَ وإذا هَبَطَ وادياً وَنَحْوه سَبَّحَ (1) وَتكْرَهُ المُبَالغَة بِرَفْعِ الصَّوْت في هذَا التكْبيرِ وَالتَّسْبيح (2) لِلْحَدِيثِ الصَحِيحِ فِي النَّهْي عَنْهُ (3).
الثالِثَةُ والعِشْرُون: يُسْتَحَبُّ إذا أشْرَفَ عَلَى قَرْية أو مَنْزلٍ يقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسْألُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ أهْلهَا وَخَيْرَ ما فيها وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وَشَر أهْلِهَا وَشَر مَا فِيهَا (4).
الرابِعَةُ والعِشْرُون: السُّنَّة إذَا نَزَلَ مَنْزلاً أنْ يقُولَ ما رَوَاهُ مُسْلم في صَحِيحهِ عَنْ خَولَةَ بِنْت حَكِيمٍ رَضِيَ الله عنها قالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "مَنْ نزل مَنْزلاً ثُمَّ قال: أعُوذُ بكلمات الله التاماتِ مِنْ شَرَ ما خَلَقَ لم
__________
= العلامة ابن الصلاح وغيره رحمهم الله تعالى: لا تنقطع عنه ثمرة صحبة الملائكة بل ينبغي أنه لو أنكره بما قدر عليه مِنْ قلبه أو لسانه أو يده أنْ لا ينقطع عنه ذلك أيضاً وإن لم يقل ما ذكر لعذره، وصَح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أرسل رسولاً يقول: "لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر -أو قال قلادة- إلا قطعت". قال الإمام مالك رحمه الله: أرى ذلك من العين فيكره أنْ تقلد الدابة وتراً أو نحوه لذلك. اهـ.
(1) لما رواه البخاري رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله عنه قال: "إذا صَعدنَا كَبرْنَا وإذا نزلنا سَبحْنَا".
(2) ومثلهما كل ذكر ندب فيه الجهر.
(3) أي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْبِعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً، ولا غائباً إنه معكم إنه سميع قريب" ومعنى ارْبعوا: ارفقوا بأنفسكم.
(4) ويزيد: "رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً".

(1/68)


يَضُرهُ شَيْءٌ حتى يَرْتحل مِنْ مَنْزلهِ ذلك"، وَيُسْتَحَبُّ أنْ يُسَبحَ في حال حَطِّه الرَّحْلَ (1) لَما رَوَيْنَاهُ عَنْ أنَس رَضِيَ الله عنهُ قالَ: كُنا إذَا نَزلْنَا سَبحْنَا حتى نَحُط الرحَالَ (2) وَيُكْرَهُ النُّزُولُ في قارِعَة الطَرِيقِ (3) لحديث أبي هُرَيْرَةَ: "لاَ تُعَرسُوا عَلَى الطَّريق فَإنَّهَا مَأوَى الْهَوَام باللَّيْل".
الخَامسَةُ والعِشرون: السُّنة إذا جَنَّ (4) عليه اللَّيلُ أنْ يقُولَ ما رَوَيْنَاهُ في سُنَن أبي دَاوُدَ وَغَيْرِه عن ابن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال: كان رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَافَرَ فَأقْبَلَ الليْلُ قَالَ: "يَا أرْضُ ربي وَرَبكِ اللهُ أعُوذُ بالله مِنْ شَرّكِ (5) وَشَرِّ ما فيكِ (6) وَشَرِّ ما خُلِقَ فيك (7) وَشَرِّ ما يَدِب عَلَيْكِ (8)، أعُوذُ بالله مِنْ أَسَدٍ
__________
(1) كلامه رحمه الله تعالى شامل للمحرم والذي يتجه حينئذ استثناؤه، فإن شعاره التلبية، ويحتمل غيره، قال في الحاشية: والأول أقرب. اهـ.
(2) لا ينافي هذا الحديث رواية أبي داود وغيره رحمهما الله تعالى عن أنس رضي الله عنه: "كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحل الرحال" لأن معنى لا نسبح: لا نصلي الضحى، وبه يعلم أن الأولى في غير مزدلفة لما يأتي فيها تقديم حل الرحل على الصلاة حيث اتسع وقتها لأنه من الإحسان للدابة.
(3) قارعة الطريق: أعلاه وليس هي المراد بل المراد الطريق، ويؤيده لفظ حديث مسلم رحمه الله تعالى الذي ساقه المصنف إذ فيه الطريق فقط وظاهر كلامه أنه لا فرق في الكراهة بين النزول ليلاً أو نهاراً، لكن قضية الحديث الذي ذكره اختصاص ذلك بالليل إلا أنْ يقال إنما ذكر الليل لأن الكراهة فيه أشد لأن الضرورة فيه أقرب.
(4) إذا جَنَّ الليل: أي أظلم، والتعبير بأقبل الليل كما في الحديث أعَم وأوضح لأنه صادق بجميع أجزاء الليل ولو عقب الغروب وبالليالي المقمرة.
(5) أي شر نفس الأرض بأنْ لا يقع في وَهْدَة، أو يتعثر بشيء منها.
(6) بأن لا يَتَعَثر بشجرة أو نحوها.
(7) أي مِن شر ما خلق فيك ولم يغلب عليه عنصرك كالجن.
(8) ما يدب عليها أي من جميع المخلوقات.

(1/69)


وَأَسْودَ، والْحَية والعَقْرب ومِنْ سَاكنِ الْبَلَدِ ومِنْ وَالدٍ وَمَا وَلَدَ". قُلْتُ: الْمُرَادُ بالأَسْوَدِ الشَخْصُ. قَال أَهْلُ اللُّغَة: كل شَخْص يقالُ له أَسْوَدُ قال الإِمَامُ أبو سُلَيْمان الخَطَابي: سَاكِن الْبَلَد هُم الْجنُ، وَالْبَلَدُ الأَرْضُ التي هي مأوَى الْحَيَوَان وإنْ لم يكن فيها بناء قالَ: ويُحْتَمَلُ أنَ الْمُرَادَ بالْوَالِدِ إِبْلِيسُ وَمَا وَلَد الشَّيَاطِين (1).
السَّادسة والعشرون: إذَا خَافَ قَوْماً أَو شَخْصاً آدمِيَّاً أَوْ غَيْرَهُ قال مَا رَوَيْنَاه بالإِسناد الصَحيح في سنن أَبي داوُدَ والنَّسائي وَغَيْرِهما عن أَبي مُوسَى الأَشْعَرِي رضيَ اللهُ عنه أن النَبِي - صلى الله عليه وسلم - كَان إذا خافَ قَوْماً قَالَ: "اللَهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ في نُحُورِهم ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهم" (2) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ دُعاء الْكَرْبِ هُنَا وفي كُلِّ مَوْطِن وَهُوَ مَا ثَبَتَ في صَحِيحَيْ البُخَارِي وَمُسْلِم عن ابنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقُولُ عند الْكَرْبِ: لاَ إِلهَ إِلاَ اللهُ العَظِيمُ الحليمُ، لا إِلَهَ إلا الله رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم، لا إِلهَ إلاَ الله رَبُّ السَمَوَات وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ". وفي كتاب التِّرْمذيِّ عَنْ أَنس بن مَالكٍ رضي اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كَرَبَهُ أَمْر قَال: "يا حَي يَا قَيُّوم بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ" قال الْحَاكِمُ: إِسْنَادُهُ صحيح.
السابعة والعشرون: في أُمُور يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُسَافِرُ جاءت فيها أحاديثٌ وآثَار قَدْ جَمَعْتُهَا في كِتَابِ الأَذْكَار بِشَوَاهِدَ واضحة أذْكُرُ منها هُنَا أطْرَافاً
__________
(1) أخذ هذا من قوله تعالى: {أَفَتَتخِذُونَه وَذُريتهُ} الآية فإنها تدل على أنّ إبليس يلد.
(2) زاد غيره: "اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم كن لي جاراً مِنْ شر هؤلاء، وشر الجن، والإِنس، وأعوانهم، وأتباعهم، عَزّ جارك وجَل ثناؤك، ولا إله
غيرك".

(1/70)


مُخْتَصَرَةً منها: إذَا اسْتَصْعَبَتْ دَابتُهُ قيلَ: يقْرَأ في أذُنَيْهَا {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ [يُرْجَعُونَ]} (1).
وَإِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ نَادَى يا عبادَ اللهِ احْبِسُوا مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاَثاً (2) وَيُسْتَحَبُّ الْحُدَاءُ (3) للسُّرْعَةِ في السَّيْر وَتَنْشِيط الدَّوابِّ والنُفُوس وَتَرْوِيحِها وَتَسْهِيلِ السَّيْرِ وفيه أحاديثُ صحيحةٌ كثيرةٌ فإِذا رَكِبَ سَفِينَةً قَال: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} [هود: 41] (4) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآيةَ (5).
الثامنة والعشرون: يُسْتَحَب الإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاء في جَميع سَفَرِهِ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْه وَأَحبَّائه وَوُلاَة الْمُسْلِمين وَسَائر الْمُسلمين بِمُهمَّات أَمُور الآخرة
__________
(1) أخرجه الثعلبي رحمه الله تعالى في تفسيره من ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) لأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك وسنده ضعيف، وأخرج الطبراني رحمه الله بسند منقطع: "إذا أضَل أحدكم شيئاً أو أراد عوناً، وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله أعينوني، يا عباد الله أعينوني، فإن لله عباداً لا يراهم أحد"، وهو مجرب كما قال الراوي رحمه الله، وقال بعضهم: إذا ضاع منك شيء فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد اجمع بَيْني وبين كذا، فإنه مجرب، قال المصنف رحمه الله تعالى: (قد جربته فوجدته نافعاً سبباً لوجود الضالة عن قرب غالباً). أقول: لا يستغرب هذا فإنه من كتاب الله قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
(3) الحداء: بضم الحاء وكسرها ويقال له "الحدو" تحسين الصوت الشجي بنحو الرجز المباح.
(4) ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أن قراءة ذلك أمان من الغرق، ووجه المناسبة في الآية ظاهر.
(5) كأن وجه مناسبة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} [الزمر: 67] ما في رواية، أن قائل ذلك يتذكر به عتو قوم نوح عليه السلام على الله الموجب لغرقهم فكان في ذكر ذلك الحمل على الرجوع إلى الله المتكفل بالخلاص من الشدائد وإن كانت لو وقعت اقتضت الشهادة ألا ترى أنه يقنت لنازلة الطاعون على المعتمد، وإن كان مَنْ مات به يموت شهيداً كما يقنت لنازلة هجوم الكفار على بلادنا -نسأل الله السلامة- وإنْ كان من قتلوه يموت شهيداً-. اهـ حاشية.

(1/71)


وَالدُّنْيَا للْحَديث (1) الصَّحيح في سُنَن أبي دَاوُدَ وَالتِّرمذي وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَبى - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ثَلاَثُ دَعَوَات مُسْتَجَابَات لاَ شَك (2) فيهِن: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ (3) وَدَعْوَةُ الْمُسَافر وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ (4) على وَلَدِهِ" وَلَيْسَ في روَايه أبي دَاوُدَ عَلَى وَلَده.
التاسعة والعشرون: يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُداوَمَةُ عَلَى الطَّهَارَةِ (5) والنَّوْمُ عَلَى
__________
(1) هو استدلال لطلب الدعاء للمسافر من حيث هو، وأما الدليل على طلب خصوص الدعاء للمؤمنين فهو ما رواه المستغفري رحمه الله تعالى مرفوعاً: (ما من دعاء أحب إلى الله عز وجل مِنْ قول العبد اللهم اغفر لأمة محمد رحمة عامة). اهـ حاشية.
(2) لا شك: تأكيد للحكم المستفاد من قوله: "ثلاث دعوات مستجابات".
(3) أي بالنوع الذي ظلم به فقط إذ لا يجوز له الدعاء على ظالمه بغير ذلك.
واستشكل بما في مسلم رحمه الله تعالى عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن امرأة خاصمته فقال: (اللهم إنْ كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرْضها). فكان كذلك، ويُجاب عن ذلك بأنه مذهب صحابي واستجابته كرامة له مع اعتقاد جوازه، وأُجيب بغير ذلك، وبَحَثَ العلامة الزركشي رحمه الله تعالى جواز الدعاء على الظالم بالفتنة في دينه، وسوء الخاتمة -نسأله تعالى السلامة- كقول "سعد" في الدعاء على مَنْ ظلمه، وعرضه للفتن فاستجيب له، وورد نظير ذلك عن الأنبياء والرسل والصحابة وأعلام الأمة سلفاً وخلفاً.
وقيل يمتنع، وحمل الجواز على المتمرد لعموم ظلمه، أو كثرته أو تكرره أو فحشه أو إماتته لحق أو سنة أو إعانته على باطل أو بدعة، والمنع على من لم يظلم، أو ظلم في عمره مرة، وفي الحديث: إن الدعاء على الظالم يذهب أجر المظلوم، وأخرج الترمذي: (مَنْ دعا على ظالمه فقد انتصر). قال بعضهم: والدعاء على مَنْ ظلم المسلمين لا يذهب أجر الداعي لأنه لم يدع لحظ نفسه.
(4) محله إنْ كانت دعوة الوالد بحق كأن كان الولد عاقاً بأنْ فعل مع والده ما يتأذى به تأذياً ليس بالهين وحينئذ فالوالد مظلوم، فيكون داخلاً في دعوة المظلوم، لكن صَرح به للاعتناء بشأنه.
(5) لأنه ربما يفجؤه الموت فيكون على كمال حاله.

(1/72)


الطهَارَةِ (1) وَمِمَا يَتَأكَّدُ الأمْرُ به الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَلاة في أَوْقَاتِها (2) الْمَشْرُوعَة وَلَهُ أنْ يقْصُرَ وَيَجْمَعَ (3) وَلَهُ تَرْكُ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ (4) وَلَهُ فِعلُ أحَدِهِمَا وَتَرْكُ الآخرِ (5) لَكن الأَفضَلُ أنْ تقْصُرَ وَأنْ لاَ يَجْمَعَ للخروج مِنْ خِلاَف الْعُلَمَاء في ذَلِكَ فانَ أبَا حَنيفَةَ وَغَيْرَه رَحِمَهُم الله تَعَالَى قَالُوا: الْقَصْرُ وَاجب (6) وَالْجَمْعُ حَرَامٌ إِلا في عَرَفَاتِ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وإذا أراد القصر فلا بد من نية القصر (7) عند الإِحرام بالصلاة.
وإنما يجوز الْقَصْرُ في الطهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشاء كُل وَاحِدَة رَكْعَتَانِ وَلَوْ فَاتَتْهُ مَقْصُورَة فَقَضَاهَا في السَّفَر (8) فَالأَوْلَى أنْ يقْضِيَها تَامَّة فَإنْ قَصرَهَا جَازَ عَلَى الأَصَحِّ وَإذَا أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا يَجُوزُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (9) في وقْت
__________
(1) ليكون النوم على الطهارة سبباً لاستغفار الملائكة، وحفظ الروح من الشياطين، وينبغي أيضاً لمريد النوم آخر الليل نصب ذراعه وحمل رأسه على كتفه للاتباع، ولئلا يستثقل في النوم فيفوته الصبح، أو أول وقته.
(2) من الأوقات وقت العذر في المجموعتين.
(3) أي إذا كان السفر طويلاً مباحاً، وله مقصد معلوم.
(4) بأن يؤدي كل صلاة في وقتها تامة.
(5) بأن يقصر بلا جمع وبالعكس.
(6) أي إذا كان السفر ثلاث مراحل فأكثر.
(7) هذا واحد من شروط القصر، الثاني: كون السفر طويلاً، الثالث: كونه جائزاً، الرابع: كونه لغرض صحيح، الخامس: كونه لمقصد معلوم، السادس: مجاوزة السور إنْ وُجد، وإلا فمجاوزة العمران، وخراب لم يهجر، السابع: أن لا يقتدي بمتم في جزء من صلاته، الثامن: دوام السفر حتى تنقضي الصلاة، التاسع: العلم بجواز القصر.
(8) أي ولو في سفر آخر.
(9) قال في الحاشية: المعتمد كما قاله جمع متأخرون أنه يجوز جمع الجمعة، والعصر تقديماً، لا تأخيراً، سواء قلنا إنها ظُهْر مقصورة، أو صلاة على حيالها. وهو الأصح، والمعتمد أيضاً أنه لو سافر أثناء الظهر مثلاً، ثم نوى الجَمْع جمع كما قاله جَمْعٌ =

(1/73)


أحَدِهِمَا وَبينَ الْمَغْرب والْعِشَاء في وَقْتِ أحَدهما فَإن شَاءَ قَدَّمَ الثَّانِيةَ إِلَى الأوْلَى وَإِنْ شَاءَ أخرَ الأولَى إِلى وَقْتِ الثانِيَةِ لَكِن الأَفْضَلُ إِنْ كان نَازِلاً في وَقْتِ الأُولَى أنْ يقَدِّمَ الثَّانِيةَ وإنْ كان سَائراً في وَقْتِ الأوْلَى أَخرَهَا (1) فَإِنْ أرَادَ الْجَمْع في وَقْت الأُوْلَى فَلَهُ ثَلاَثَةُ شُرُوط: أَنْ يَبْدَأ بالأُوْلَى وأَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهَا (2) والأَفْضَلُ أنْ تكونَ النيةُ عِنْدَ الإِحرَامِ بها وأَنْ لا يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَلاَتين بِصَلاَة سُنَة ولا غيْرها فَإِنْ فُقد أحَدُ هَذِهِ الشُّرُوط بَطَلَ الْجَمعُ وَوَجَبَ أن يُصَلِّي الثانِيةَ في وَقْتِهَا وَلَوْ فَرَقَ بينَ الصَلاَتَين بِنَحْو الكَلِمَتَيْن أو الثلاَث لم يَضُر وإنْ فَرقَ بالتَّيَمُّم (3) بأن تَيَمَّمَ للأولَى ثُم سَلمَ مِنْهَا ثُمَّ تَيَمَّمَ للثانِيةِ وَشَرعَ فيهَا مِنْ غَيْر تأخير جَازَ على المَذْهب الصَّحيح وإنْ أرَادَ الجَمْع في وَقْت الثانِية وَجَبَ عَلَيْه أنْ يَنْوِيَ تأخيرَ الأُوْلَى إِلَى الثَّانِيةِ للْجَمْع وَتكونُ هَذه النية بَعْدَ دُخُول وَقْت الأولَى وَلَهُ تأخيرُ هذِهِ النية ما دام مِنْ وَقْتِ الأُولَى ما يَسَعُهَا فإنْ لم يَنْو تأخيرَهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ أثم (4) وصَارَتْ قَضَاءً وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهَا في الْقَصْر وَيُسْتَحَب أنْ يَبْدَأ بالأولَى وأن لاَ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإنْ خَالَفَ وَبَدأ بالثانِية أوْ فَرقَ جَازَ على الأَصَحِّ بِخَلاف مَا سَبَقَ مِنَ الجَمْع في وَقْت الأُوْلَى.
__________
= متقدمون، ونقله في المجموع، وأقره واعتمده الأذرعي وغيره، وقول ابن الرفعة بخلافه
بحث مخالف للمنقول وذلك لوجود السفر وقت النية.
(1) بقي أن لو كان المسافر سائراً وقتهما أو نازلاً وقتهما استوى جمع التقديم والتأخير حيث لم يوجد مُرَجح حينئذ إلا أنْ يقال: إن المبادرة لبراءة الذمة الموجودة في جمع التقديم ترجحه.
(2) أي ولو مع السلام أو بعد نية الترك.
(3) أي والطلب الخفيف.
(4) أي إنْ تَعمد التأخير، فإنْ أخرها لنوم أو شُغْل سها بسببه عنها، وقد عُذر به فلا إثم، وإنْ كانت قضاء.

(1/74)


فصل
إِذَا جَمَعَ في وَقْت الأُولَى أَذَّنَ لَهَا (1) ثُمَّ أقَامَ لكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا وَعلى قَوْلٍ لاَ يُؤَذنُ، وإنْ جَمَعَ في وَقْت الثانِية فَكَذَلِكَ على الأَصَح وَعَلَى قَوْلٍ لاَ يُؤَذّنُ وعلى قَوْلٍ إنْ رجا حُضُورَ جَمَاعَة أذَّنَ وَإِلاَ فَلاَ.
فصل
وَيُسْتَحَب صَلاَةُ الْجَمَاعَة في السَّفَر وَلَكِنْ لاَ تَتأكَّدُ كَتَأكُدِهَا في الْحَضَر (2).
فصل
وَتُسَنُّ السُنَنُ الرَاتِبةُ مَعَ الْفَرَائِضِ في السفَرِ كما تُسَنُ في الْحَضَرِ فَمَنْ جَمَعَ بينَ الظهْرِ وَالْعَصْرِ صلى أوَلاً سُنةَ الظهْرِ التي قَبْلَهَا ثُمَّ صَلَّى الظهْرَ ثم العصر ثُم سُنةَ الظهر التي بَعْدَهَا ثُمَّ سُنةَ الْعَصْر (3).
__________
(1) هو المعتمد.
(2) أي لوجوبها كفاية عند الشافعي وأبي حنيفة، وعيناً عند أحمد، وليست الجماعة شرطاً في صحة الصلاة عنده، وسُنة عند مالك وندبها في السفر.
(3) هذا هو الأوْلى وكذا يقال في المغرب والعشاء، وكذا يجوز غير ذلك ما لم يقدم سنة بعدية على فرضها، أو يخلل بسنة بين الفرضين في جمع التقديم أو يقدم قَبْلية للثانية على الأولى فيه أيضاً، فيما يظهر لأن وقت الثانية براتبتها القبلية إنما يدخل بعد فعل الأولى.

(1/75)


فصل
لِلْمُسَافر إلى مَسَافَة تَبْلُغُ مَرْحَلَتَيْن فَصَاعِداً (1) أن يَمْسَحَ عَلى خُفَّيْه ثَلاَثَةَ أيام وَلَيَالِيهِنَّ (2) ابْتدَاؤهَا مِنْ حينِ يُحْدثُ (3) بَعْدَ لُبْسه ولا يَجُوزُ المَسْحُ إلاَّ على خُف سَاتر لمحَل الفرض مِنْ رِجْلَيْه ويُشْتَرَطُ سَتْرُهُمَا مِنْ أسْفَل (4) ومِنَ الْجَوَانِبِ الأَرْبَع وَلاَ يُشْتَرَطُ سَتْرُهُمَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ وَلاَ يَضُرُ إذا حَصَلَ السَتْرُ الْمَشْرُوطُ لَوْ كَانَ يُرَى كَعْبَاهُ من فَوْقه.
ولا يَجُوزُ الْمَسْحُ إِلاَّ أنْ يَلْبَسَهُ على طَهَارَة كاملَة وَلَهُ أنْ يُصَلِّي بالمَسْحِ الوَاحد ما شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ والنَّوافل (5) مَا لم تَنْقَضِ الْمُدَّةُ ولا يَجُوزُ الْمَسْحُ في غُسْل الجَنَابةِ ولا غَيْره مِنَ الأَغْسَالِ الْوَاجِبَةِ والمَسْنُونَة فَإنْ أَجْنَبَ (6) أو
__________
(1) أي سفراً تقصر فيه الصلاة، وقد مَرت شروطه قريباً فراجعها.
(2) أي المتصلة بهن سواء أسبق اليوم الأول ليلته أم لا. فلو أحدث في أثناء ليله اعتبر قدر ماضيها من الرابعة وعلى هذا القياس يقال في اليوم، وفي مدة المقيم ولو أقام بعد يوم وليلة، وقبل الثلاث انتهى مسحه فلا يستوفيها، ومتى مسح في الحضر ولو أحد خفيه فهو كالمقيم عند الأئمة الثلاثة، وكالمسافر عند الإِمام أبي حنيفة.
(3) أي من انتهاء حدثه اتفاقاً، ورواية عن أحمد من وقت اللبس.
(4) فارق ستر العورة، فإن الواجب فيه الستر من الأعلى والجوانب دون الأسفل.
(5) محله في غير دائم الحدث كالمستحاضة، والسلس، أما دائم البول فإنْ أحْدَثَ غير حدثه الدائم جاز له المسح ثم إنْ أحدث قبل أنْ يصلي فرضاً بوضوء اللبس مَسَحَ، واستباح فرضاً ونوافل، وإنْ أحدث بعد ذلك مسح لنفل فقط لأن مسحه مرتب على طهره، وطهره لا يفيد أكثر من ذلك، فلو أراد فرضاً آخر وجب النزع والطهر الكامل لأنه محدث بالنسبة لما زاد عن فرض ونوافل، أما حدثه فلا يحتاج معه إلى استئناف طهر إلا إذا أخر الصلاة بعد الطهر لغير مصلحتها، وحدثه مستمر، فهو حينئذ كغير حدثه.
(6) خرج به ما لو تنجست رجْلُهُ في الخف، وأمْكَنَ غَسْلَهَا فيه فإن له إتمام المدة لعدم الأمر بالنزع للنجاسة بخلاف نحو الجنابة.

(1/76)


حَاضَت الْمَرأةُ في أثْنَاء الْمُدة وَجَبَ نَزْعُهُ واسْتئنَافُ اللبْس على طَهَارَة فَلَوْ غَسَلَ رجْلَيْه. في الْخُف ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ وصَحَتْ صَلاَتُهُ لَكِنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ حَتَّى يَسْتَأنف اللبْس عَلَى طَهَارَة.
وَصِفَةُ الْمَسْح الْمُخْتَار أن يَمْسَحَ أعْلاَهُ وأسْفَلَه (1) خُطُوطاً فإن اقْتَصَرَ على جزْءٍ يَسير مِنْ أعْلاهُ أجْزأهُ (2) وإنْ اقْتَصَرَ على أسْفَله أوْ حَرْفه (3) لَمْ يُجْزه على الأصَح وَسَوَاءٌ مَسَحَهُ بيَده أو بعُود أوْ بخرْقَة (4) أو غَيْر ذلكَ فَكُلهُ جائزٌ ولو قَطَّر الْمَاء عليه أو وضَعَ يَدَهُ عليه ولم يُمرَّها أوْ غَسَله أجْزَأه عَلَى الأَصَح لكن يُكْرَهُ الغُسْلُ وإذا انْقَضَتْ الْمُدَةُ أو ظَهَرَ شَيْءٌ مِن رجْلِهِ (5) في مَحَل الْفَرْضِ خَلَعَ الْخُفَّيْنِ ثُمَّ يَنْظُرُ فإن كان مُحْدثاً اسْتَأنَفَ الْوُضوءَ وإنْ كان على طَهَارَةِ الْغُسْلِ فلا شيءَ عليه فَيَسْتأنِفَ اللبْسَ على تلكَ الطهَارَةِ إن شَاءَ وإن كانَ عَلَى طَهَارَة مَسْح فَيَنْبَغِي (6) أنْ يَسْتأنف الْوُضوء فَإن اقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِ
__________
(1) أي عند الأئمة الثلاثة، وعند الإمام أحمد أعلاه فقط.
(2) أي بشرط أن لا يكون على ظاهر الجزء شعر، فإنْ كان ومسحه لم يجز جَزْماً.
قال في الحاشية كذا قيل، وفيه نظر ولا يبعد تخريجه على مسح شعر الرأس في الوضوء. اهـ.
(3) أي أو عقبه.
(4) الظاهر اشتراط فعله وهو ظاهر إنْ كان غافلاً عن النية، وإلا لم يشترط، فتعريض الخف لنحو مطر يجزىء مطلقاً، وانغساله، وانمساحه لا يُجزىء إلا إنْ كان مستحضراً للنية أخْذاً مما قاله الفقهاء في نظير ذلك من الوضوء.
(5) أي ولو بالقوة كأنْ انحلت شرجه، وإنْ لم يظهر من الرجل شيء. هذا وبقي للمسح على الخفين شروط منها: كونه طاهراً، ومنها: كونه قوياً، ومنها: أنْ يمنع نفوذ الماء لو صب عليه.
(6) أي يندب خروجاً من خلاف مَنْ اعتبر في الوضوء الموالاة.

(1/77)


الْقَدَمَيْن أجْزَأهُ عَلَى الأصَح والأَفْضَلُ أنْ يَسْتَأنِفَ الْوُضوءَ (1) وإنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الفصل في مَسْح الْخُف لأنهُ ممَا يَحْتَاجُ إليه الْمُسَافِر لتَوْفِير ماءِ الطهَارَةِ وَتَخْفيف أمْرها وَمَسَائلُ الباب كَثِيرَة لكن قد أشَرْتُ إلى مقاصِدها والله أعْلَمُ.

فَصْل
يجوزُ التنفلُ في السَفَر طَويلاً كان أوْ قَصيراً (2) على الرَّاحلة (3) ومَاشياً إلى أي جِهة تَوَجَّهَ. وَيَسْتَقْبِلُ الْمَاشي القِبْلَةَ عِنْدَ الإِْحْرام وَالرُكُوع والسُّجُود (4) وَلاَ يَشْتَرِطُ اسْتِقبالها في غَيْر هذه الْمَواضِعِ لكن يُشْتَرَطُ أن لاَ يَسْتَقْبل غيرَ جهةِ مَقْصِدِهِ إلا إلى الْقِبْلَة ويُشْتَرَطُ أنْ يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ على الأَرْضِ وَالرَّاكِبُ الْمُتَمَكِّنُ (5) مِنْ تَوجيهِ الدابةِ إلى الْقِبْلَة يَلْزَمُهُ الاسْتِقْبال عندَ الإِحْرَام بالصَلاَة لا غير فإنْ لم يَتَمَكَّنْ (6) بأنْ كانت دابتُهُ مَقْطُورَةً أو صَعْبةً (7) لم يُشْتَرَطْ الاسْتِقْبال في شيءٍ إلاَّ أنْ يَكُونَ في هَوْدج يَتَمَكَنُ فيه من اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَيُشْتَرَطَ
__________
(1) هو تكرار لقوله، فينبغي أنْ يستأنف الوضوء تأكيداً.
(2) المتجه ضبط القصر بميل ونحوه، أو يخرج لمحل لو كان به لم تلزمه الجمعة لعدم سماع النداء، وهو محمول على الأول، وشرط السفر أنْ يكون مباحاً، والمقصد معيناً، فلو خرج في معاطف الطريق، أو عدل ولو لغير زحمة، أو توجه لمقصده في غير الطريق يضر إذ الشرط سلوك صوب المقصد لا طريقه.
(3) بخلاف مَنْ بهودج أو سفينة لا يحتاج إليه في مسيرها فعليه إتمام الأركان مُستَقْبِلاً، أما مسيرها فيصلي لجهة مقصده لصعوبة ذلك عليه.
(4) أي والجلوس بين السجدتين بخلاف الاعتدال فإنه مُلْحَق بالقيام.
(5) أي المتيسر له ذلك.
(6) بأنْ تعسر عليه بحيث إنه تحصل له مشقة وإن قلت.
(7) أو لا يسهل انحرافه عليها لعجزه.

(1/78)


اسْتِقْبَالُها (1) هَذَا حُكْمُ النَّوافِلِ. أمَّا الْفَرَائِض فَلاَ تَجُوزُ إلى غيرِ الْقِبْلَةِ بحال ولا يَجُوزُ أنْ يُصَلِّيهَا مَاشياً وإنْ كَان مُسْتَقْبلاً، ولا تَصِحُّ مِنَ الراكب المُخِل بِالْقِيَامِ أو الرُّكُوع أو السُّجُودِ أو غيرها فإنْ أتَى بهذه الأَرْكَان واسْتَقْبلَ القِبْلَةَ فإن كان في هَوْدَجٍ أو سَرير أو نحوهما على دَابة فصَلَّى وَهِيَ وَاقِفَة غَيْر سائَرة صَحَّتْ صَلاَتُهُ على الْمَذْهبِ الصَّحيح الذي ذَهَبَ إليه كَثير مِنْ أصْحابنَا. ومنهُمْ مَنْ قَال لاَ يَصِحُّ (2) وبه قَطَعَ إمامُ الْحَرَمَيْن، فإنْ كانتِ الدَّابة سائرَةً لم تَصح (3) الْفَرِيضَةُ على الْمَذْهَبِ الصحيح الذي نَصَّ عليهِ الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ وَالجَمَاهِيرُ رَحِمَهُمُ الله وَقِيلَ: تَصِح الْفَرِيضةُ في السَّفِينَةِ الْجَارِية (4) وفي الزوْرَقِ الْمَشْدُودِ على السَّاحل بِلاَ خلاف والأصَحُ أنها تصحُ أيضاً على السَّرِيرِ الذي يَحْملُهُ الرِّجَالُ وفي الأَرْجُوحَة الْمَشْدُودة والزورق الْجَاري للمقيم بمثل بَغْدَادَ ونَحْوها، هذا كُلُّهُ إذا لم يكنْ ضَرُورَة (5) قال أصحابُنا: فَإِنْ خَافَ الانْقطاعَ عن رُفقَته (6) لَوْ نَزَلَ لَهَا أو خَاف عَلَى نَفْسِهِ أو ماله فَلَهُ أن يُصلِّيَ الْفَرِيضَة على
__________
(1) وتمام الأركان مستقبلاً كما مَر.
(2) أي لأنه في قوة الماشي.
(3) قال في الحاشية: محله كما قاله العلامة المتولي رحمه الله تعالى ما إذا لم يكن لها مَنْ يلزم لجامها بحيث لا تختل الجهة، وإلا جاز، وهو ظاهر، ويؤيده فرقهم بين الصلاة على الدابة السائرة، والسرير الذي يحمله رجال بأنها لا تثبت على حالة فلا تراعى الجهة بخلافهم، فإنْ قلت: سير الدابة منسوب إليه بخلاف سير حَمَلةِ السير قلت: ممنوع بدليل صحة طوافه محمولاً بشرطه الآتي.
(4) وإنْ حولته الريح عن القبلة بتحول السفينة، لكنْ يجب عليه أن ينحرف فوراً للقبلة، ويبني.
(5) من الضرورة صلاة شدة الخوف، وعَجْز نحو مصلوب عمن يوجهه.
(6) أي وإن لم يتضرر به قياساً على التيمم لما فيه من الوحشة، والمراد بالرفقة هنا المنسوبون إليه لا كل الركب لحصول الوحشة بفراقهم فقط.

(1/79)


الرَّاحِلَة (1) وَتَجِبُ الإِعادَة (2) وَحُكْمُ الْمَنْذُورة والجَنازَة (3) حُكْمُ المكتوبةِ.
(فرع): إذا صلَّى النَافِلَة على دَابة عَلَيْهَا سرج أو نَحوهُ لم يلْزَمْهُ وضْعُ الجَبْهة على عُرْف الدَّابة ولا على السَّرْج والْقَتَبِ في الرُّكُوع وَالسجُود بل يكْفيه أن يَنْحَني للركوع وَالسُّجُود إلى طَريقه ويكون سُجُودُهُ أَخْفَضَ من ركُوعه ويجبُ التمْييزُ بَيْنَهُما إذا تَمَكَن وَلاَ يَجبُ أن يبلُغَ غَايةَ وُسْعه في الانْحناء، وَيُشْتَرَطُ أن يَكونَ مَا يُلاَقي بَدَنَ الْمُصَلي رَاكباً وثِيابه مِنَ السِّرج وغيره طَاهِراً ولَوْ بالت الدَّابةُ أو وَطَئَتْ نَجَاسَةً أو كان عَلَى السِّرج نَجَاسَةٌ فَسَتَرَهَا وَصَلَّى عليه لم يَضُر (4) وكَذَا لَوْ أوْطَأَها الرَّاكب نَجَاسَةَ لم يَضُر على الأصَح ولو وَطىءَ المُصَلي نَجَاسَةً (5) عَمْداً بَطَلَتْ صَلاَتُهُ ولا يُكَلَّفُ التَّحَفُّظَ وَالاحْتياط في المَشْي ويُشْتَرَطُ الاحْتراز عن الأَفْعَال التي لا يَحْتَاجُ إليها، فلو رَكَضَ الدَّابةَ للحاجة جازَ ولو أجْرَاها بلا عُذْر أوْ كان ماشياً فَعَدا (6) بلا عُذْر بَطَلَتْ على الأصَحِّ.
__________
(1) أي والماشي الخائف مثل الراكب، فيصليها حينئذ ماشياً كالنافلة.
(2) هذا هو المذهب، لكن اختار في المجموع من جهة الدليل أن كل صلاة وجب فعلها في الوقت مع خلل لا يجب قضاؤها.
(3) أي وإن أمكنه إتمام القيام على الدابة.
(4) أي لأنه لم يلاق النجاسة بخلاف ما لو دمي فمها أو تنجس عضو منها أو ما عليها ولجامها بيده.
(5) أي ولو يابسة عمداً ولو قلت ولم يجد معدلاً عنها أو كانت معفوّاً عنها، أخذاً مما يأتي في نجاسة المطاف ومثله لو وطئها سهواً، وهي رطبة غير معفو عنها أخذاً من أن ذرق الطير في المساجد لا يضر إذا عَمَّتْ به البلوى كطين الشارع الرطب.
(6) المراد بالعَدْو: زيادته على عادته في مشيه وإن كان دون العدو.

(1/80)


وَيُشْتَرَطُ في التنفل راكباً وماشياً دَوَامُ السَّفَر والسيْر (1) فلو بلَغ المنزلَ (2) في خلال الصَّلاة اشْتُرط إتمامُها إلى القبلة مُتَمَكِّناً وينزلُ إن كان راكباً، ولو مرَّ بقَرية مُجْتازَاً (3) فَلهُ إتمامُ الصَّلاة راكباً وحيثُ قُلْنَا يجبُ النُّزولُ فأمكَنَهُ الاسْتِقْبَالُ وإتمَامُ الأركان عليها وهي وَاقِفَةٌ جازَ ولو انْحَرَفَ المُصَلِّي ماشياً عن جهة مَقْصده أوْ حَرَف دَابَّتَهُ عَنْهَا (4) فإن كَانَ إلَى جهَة القبلة لم يَضُرُّهُ وإنْ كَانَ غَيْرها عَمْداً (5) لَمْ تَصح صَلاَتُه وإنْ كَانَ نَاسياً (6) أوْ غَالطاً يَظُنُّ أنَّها طَرِيقُهُ، فَإنْ عَادَ إلَى الْجِهَةِ على قُرْب لَمْ تَبطل وإن عَادَ بَعْدَ طُولٍ بَطَلَتْ عَلَى الأصَحّ وَإن انحَرَفَ بجماح الدَّابَّة فَالأَصحُّ أَنه إنْ عَادَ عَلَى قُرْب لَمْ تَبْطُلْ وَإنْ طَالَ بَطَلَتْ.
(فرع): إذَا لَمْ يقْدِر عَلَى يقين الْقبلةِ فإِنْ وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ علم (7)
__________
(1) فلو انقطع سيره كان نزل في أثناء صلاته وجب عليه إتمامها للقبلة قبل ركوبه.
(2) أي الذي يريد النزول فيه وإن لم يكن مقصده.
(3) أي ماراً وليست القرية وطنه.
(4) أي أو انحرف عليها ولو بركوبه مقلوباً.
(5) أي وإنْ كان مكرهاً لندوره.
(6) في هذه الصورة لا يسجد للسهو وهي مستثناة من قاعدة ما أبطل عمده يسجد لسهوه، وإنْ كانت أكثرية.
(7) مثله محاريب جادة أي طريق المسلمين وقراهم القديمة إن نشأ أو مَر بها قرون، أي جماعات من المسلمين، وسلمت من الطعن، وإن صغرت وخربت بخلاف خربة أمكن بناء كفار لها، وطريق استوى نشوء أو مرور الفريقين به، ويمتنع على قادر على اليقين كأعمى ومن في ظلمة إذا قدر على مس الكعبة، أو المحراب المعتمد الأخذ بقول مخبر عن علم ما لم يصل لحد التواتر أو يكون نشأ بمكة أو بذلك المسجد، وارتسم في ذهنه من الأمارات ما يحصل به اليقين من غير مس فحينئذ لا يجب عليه المس فيما يظهر بل له اعتماد تلك الأمارات فإنها تفيد ما يفيده المس، فالمحراب لا يصير معتمداً =

(1/81)


اعْتَمَدَه (1) وَلَمْ يَجْتَهِدْ بِشَرْطِ عَدَالةِ الْمُخْبِرِ سَوَاء فيه الرَجُلُ والمَرْأة وَالْعَبْدُ وَلاَ يَعْتَمد الْكَافر (2) ولا الفَاسِقَ وَلاَ الصبي وإنْ كان مُرَاهقاً، وَسَوَاءْ في وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ الإِخبار مِمَّن هُوَ مِنْ أهْلِ الاجْتِهاد وَغَيْرِهِ (3) فَإنْ لم يَجِدْ مَنْ يُخْبرهُ فَإنْ كَانَ يقْدِرُ عَلَى الاجْتِهَادِ لَزمَه وَاسْتَقْبَلَ مَا ظَنهُ قِبْلَةً وَلاَ يَصِحُّ الاجْتِهَاد إلاَ بأدلة الْقبلَةِ (4) وَهِيَ كَثِيرَة أقْواها الْقُطْبُ (5) وَأضْعَفُهَا الريحُ وَلاَ يَجُوزُ لهَذا الْقَادر التقليد (6) فَإنْ فَعَلَ لَزمَهُ الْقَضَاءُ وَإنْ أصَابَ القبلة لأنهُ عَاصٍ
__________
= للأعمى حتى يمتنع عليه بالخبر والتقليد بحضرته إلا إن كان رأى المحراب قبل العمى أو أخبره عدد التواتر ولو فساقاً أو كفاراً.
(1) ويلزمه سؤاله إذْ لا مشقة فيه، ثم لو فرض أن في السؤال مشقة لبعد المكان مثلاً لم يجب على الأوجه.
(2) أي إلا في تعلم الأدلة منه حتى تحصل له مكانة علمية يستقل بها باستخراج القبلة من غير اعتماد على ما أخبره به الكافر فله حينئذ العمل بعلمه.
(3) أي لأنه لم يقلد مجتهداً بل صدق مخبراً.
(4) ويجب تعلمها حيث لم يكن هناك عارف سفراً وحضراً.
(5) أي الشمالي، ويختلف باختلاف الأقاليم. ففي مصر يجعله المصلي خلف أذنه اليسرى، وفي العراق وما وراء النهر خلف اليمنى وباليمن قبالته مما يلي جانبه الأيسر، وبالشام وراءه ولبعضهم:
قطب السماء اجعله خلف أذن يسرى ... بمصر والعراق خلف الأخرى
بالشام خلفاً وأماماً باليمن ... مواجهاً به تكن مستقبلن
والقطب نجم صغير في بنات نعش الصغرى كما قال أهل اللغة، وقول أهل الهيئة أنه نقطة صغيرة تدور عليها الكواكب، وهي وسطها مخالف لما ذكر في التسمية لا في الحقيقة، والمرجح في التسمية لأهل اللغة.
(6) إذ المجتهد لا يقلد مجتهداً ولو تغير اجتهاده عمل بالراجح عنده من الأول والثاني، ولو في الصلاة، فإنْ استويا تخير، إلا إذا كان التغير في الصلاة فلا يتخير بل يعمل بالأول لأنه التزم جهة فلا يتحول إلا بالأرجح، وفي المجموع وجوب العمل بالثاني ولو مع التساوي ويجب إعادة الاجتهاد لكل فرض عيني إن نسي الدليل الأول.

(1/82)


مُفرِّطٌ فإنْ ضَاقَ الوقْتُ صلَّى كَيْفَ كَانَ وَتَلْزَمُهُ الإِعَادَةُ، وَلَوْ خَفِيَتْ الدَّلاَئِل على المُجْتَهد لغَيْم أو ظُلْمَةٍ أو لتعارضِ الأدلةِ فَالأصح أنهُ لا يقلد بَلْ يُصَلّي كيف كان ويعيدُ، وأمَا إنْ لَمْ يقْدِرْ على الاجتهادِ لعَجْزِهِ عن تعلم أدلةِ القبْلةِ كالأَعْمَى والْبصيرِ الذي لاَ يَعْرِفُ الأدلَّة فَيَجِبُ تَقْلِيدُ مُكلَّفٍ مُسْلم عَارفٍ بأدلَّة القبْلةِ سَوَاءٌ فيه الرَّجُلُ والمرأةُ والحرُّ وَالعبدُ وَالتَّقليدُ هو قَبُولُ قَوْل المستَند إلى الاجتهَاد ولو اختلفَ عَلِيه اجتهَاد رجُلَين قَلدَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا (1) والأولى تقليدُ الأوثقِ الأَعْلَم (2) وأمَّا القَادرُ على تَعَلُّم الأَدلَّة فَهُوَ كالعَالِمِ بِها فَلاَ يَجُوزُ لَهُ التقليد، فإنْ قَلدَ قَضَى لتَقْصِيرِهِ (3) ولو صَلَى ثم تَيقّنَ الخَطَأ في القبلة لزمَهُ الإِعادةُ على الأَصَحّ ولو ظنَّ الخطأ لم تلزمه الإِعَادَة حتى لو صلى أرْبَع صلَوات (4) إلى أرْبَع جهَات فَلاَ إعادَةَ عليه.
__________
(1) أي قبل الصلاة، فإن دخل فيها مقلداً فقال له آخر: أخطأ بك الأول، فإنْ كان عنده أعرف من الأول أو قال له: أنت مخطىء قطعاً وإنْ لم يكن أعرف وجب عليه التحول إنْ بان له الصواب مقارناً للقول بأنْ أخبره به وبالخطأ معاً، فإن لم يبين مقارناً بطلت ويجب إعادة التقليد لكل فرض عيني إن نسي، كما تقدم في الاجتهاد.
(2) قد يفهم منه أنه لو كان أحدهما أوثق والآخر أعلم استويا لأن كلاً منهما فيه معنى ليس في الآخر فهو كإمامة الأعمى والبصير.
(3) محل حرمة التقليد ووجوب القضاء فيمن وجب عليه تعلم أدلتها عيناً بأن أراد سفراً ليس فيه عارف بها، أما إذا وجب تعلمها على الكفاية كالمقيم في محل فيه محراب معتمد أو عارف، وكالمسافر في نحو ركب الحجيج أو أقل منه وعلم أن فيه عارفين بالأدلة، ثلاثة فأكثر، وكالمسافرين قرى يمكنه معرفة القبلة بمحاريبها فله التقليد، ولا يقضي إذا لا تقصير منه.
(4) أي أو صلاة واحدة كل ركعة لجهة بشرط أن يبين له الصواب في ظنه مقارناً لظهور الخطأ، وإلا بطلت لمضي بعضها إلى غير قبلة محسوبة.

(1/83)


فَصْل
إذَا عَدِمَ الماء طَلَبَهُ (1) فَإنْ لَمْ يَجِدْهُ تَيممَ وَلو وَجَدَهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إليه لعَطَشه (2) أو عَطَشِ رَفيقِهِ أو دابته أو حَيَوَانٍ مُحْتَرمِ (3) تَيَمَّمَ ولم يَتَوَضأ سَوَاءٌ في ذلك الْعَطَشُ في يَوْمِهِ أو فِيمَا بَعْدَهُ وقبل وُصُوله إلى ماء آخَرَ. قال أصْحَابُنَا: ويَحْرُمُ عليه الْوضُوء في هذا الْحَال لأَن حُرْمَةَ النَّفْس آكَدُ ولا بَدَلَ
__________
(1) أي وجوباً بنفسه أو بمأذونه الثقة ويكفي واحد من جمع وإنما يعتد به في الوقت ومحل وجوب الطلب إنْ توهم وجود الماء، فإن تيقن فقده فلا طلب لأنه عبث، ثم إن كان بمستوٍ كفى النظر حواليه لجهاته الأربع مع تأمل محل خضرة وطير، وإنْ لم يكن بمستوٍ صعد أو هبط ثم نظر حواليه إلى حد الغوث وهو ما تسمع فيه رفقته استغاثته مع ما هم عليه من الاشتغال والتفاوض، هذا إنْ أمن على محترم من نفس ومال واختصاص ولم يخش انقطاعاً ولم يضق وقت وإلا لم يجب التردد هذا كله إنْ توهم الماء، فإنْ تيقنه بمحل فإنْ كان على نحو نصف فرسخ وأمن ما مر واتسع الوقت وجب طلبه وإلا فلا، لكن لو كان المال الذي يخاف عليه هنا قدراً يجب بذله في تحصيل الماء ثمناً أو أجرة لم يمنع الوجوب، ومثله الاختصاص وإن كثر على الأوجه، وفارق ما مَر بأن الماء ثم متوهم فلا يضيع لأجله محقق بخلافه هنا، أما إذا تيقنه فوق نصف فرسخ فلا يلزمه طلباً مطلقاً ولو تيقنه آخر الوقت، ولو في منزله الذي هو فيه أول الوقت فالصبر أفضل، وإلا فالتعجل، ويجب تجديد الطلب لكل صلاة إن توهم حدوث الماء وإلا فلا.
ولو وجد الماء ببئر ولا دلو معه لزمه إدلاء ثوبه غير ساتر العورة ليبتل فيعصر ماءه ليتوضأ به إن لم ينقص ببله أزيد من ثمن مثل الماء، فإن لم يصل إلا بمشقة لزمه إن لم ينقص أكثر من الأزيد من أجرة الآلة وثمن الماء والله أعلم.
(2) المراد بحاجة العطش الخوف منه أو من نحو مرض أو بطء بُرْء مما يأتي، ولا يجوز تيمم عطشان عاصٍ بسفر، وشربه للماء حتى يتوب وإلا وجب تقديم الطهارة بالماء.
(3) المراد بالحيوان المحترم: ما حرم قتله، وغيره ما جاز قتله كتارك الصلاة بشروطه المعروفة والزاني المحصن والمرتد والكلب العقور.

(1/84)


للشرْب وللْوضُوء بَدَلٌ، وهذه المسَأَلة مما يَنبَغِي حفظُها وإشَاعَتُهَا فإنَّ كَثيرينَ مِنَ الحُجَّاج وَغَيْرِهم يُخطِئونَ فيها ويَتَوضَّأ أحَدهمْ مع علْمِهِ بِحَاجَةِ الناسِ إلى الشُّرْبِ وهذَا الوُضُوء حَرَامٌ لاَ شَكَ فِيه وَالْغُسْلُ عَنِ الْجَنَابةِ وعن الحَيْضِ وغيرِهما كالْوُضُوء فيما ذَكَرْنَاهُ.
ومن خَيلَتْ لهُ نَفْسُهُ أَن الْوُضُوءَ في هذا الْحَالِ فَضِيلَةٌ فَهُوَ شَدِيدُ الخَطَأ وإنَّمَا فَضيلَةُ الْوُضُوء إذا لم يَكُنْ هُناكَ مُحْتَاجٌ للشُّرْبِ وَسَواءٌ كَانَ المُحْتَاجُ للْعَطَشِ رَفِيقَه الْمُخالطَ له أوْ الرَّكْبَ أوْ أحَداً مِنَ القَافِلَة أوْ الرَّكْب، فلَوْ امْتَنَعَ صَاحِبُ الماءِ مِنْ بَذْلِهِ وهُوَ غَيْرُ مُحْتاج إليه للعَطَشِ وهناك مُضْطَر إليهِ للْعَطَشِ كان للمُضْطَرِّ أَخْذُهُ قَهْراً ولهُ أنْ يقاتِلَ عليه فإنْ قَتَلَ أحدهُمَا صَاحِبَهُ كان صَاحِبُ المَاءِ مُهْدرَ الدَم لا قَصَاص فيه وَلاَ ديةَ ولا كَفارةَ وكان الْمُضْطَرُّ مَضْمُوناً بالقِصَاص أوْ الدِّية وَالكَفارة. ولو احتاج صاحِبُ الماء إليهِ لعَطَشِ نَفْسِهِ كان مُقَدَّماً على غَيْره ولو احْتَاجَ إليه الأجْنَبِي للْوضُوء وكانَ المالكُ مُسْتَغْنِياً عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذلُهُ له وَلاَ يَجُوزُ للأجْنَبِيِّ أَخْذُهُ قَهْراً لأنهُ يمكِنُهُ التَّيَممُ.
وَاعْلَمْ أنهُ مهْمَا احْتَاجَ إليه لعَطَش نَفْسَه أوْ رَفِيقِه أوْ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ في ثاني الحال قَبْلَ وُصُولهمْ إلى مَاء آخَرَ فَلَهُ التيمم ويُصَلي وَلاَ يُعيدُ ولو لم يَجد الماءَ وَوجَدَهُ يُبَاعُ بثَمَن المثْل وهُوَ وَاجدٌ للثمَن فاضلاً عَما يَحْتَاجُ إلَيْه (1) في سَفَره ذَاهباً ورَاجعاً لَزِمَهُ شرَاؤهُ، وإن كان يُبَاعُ بأكْثَرَ من ثمنِ الْمثْل لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ سَوَاء قَلَّتْ الزيادَة (2) أمْ كَثُرَتْ لكنْ يُستحَب شِرَاؤهُ وَثَمَنُ الْمِثْل هُوَ قِيمَتُهُ في ذلكَ في تِلْكَ الْحَالة.
__________
(1) أي لنفسه أو لمحترم تلزمه مؤنته، ولا يجب استقراض ثمن الماء، وإن كان له مال غائب ولا اتهابه ولا قبول ذلك بخلاف الماء لقلة المنة فيه.
(2) أي في شراء الماء وآلة الاستقاء لأن في التكليف بالشراء بكثر من المثل مشقة على النفوس لا تحتملها في العادة.

(1/85)


فَصْلٌ
وَإِذَا لَمْ يَجِدْ المَاءَ وَجَبَ عَلَيْه طَلَبُهُ مِمَّنْ يَعْلَمُهُ (1) عِنْدَهُ بهبة أوْ ثَمَن (2) فإنْ وُهِبَ لهُ (3) لَزمَهُ قَبُوله وإنْ بَعَثَ مِنْ يَطْلُبُهُ له كَفَاه عَن الطلَب بنفْسه (4) وَلَوْ وَجَدَ بَعْضَ مَاءٍ لاَ يكْفيه لزمَهُ استعمالُهُ على الأصَحّ ثُمَّ تَيَمَّمَ للْباقي.
فَصْلٌ
ولا يَجُوزُ التَيَمُّمُ إِلا بتُرَابٍ (5) طَاهر مُطْلَقٍ (6) له غُبار يَعْلَقُ بالْعُضْو فَإنْ تَيَمَّمَ بتُرَابٍ مَخْلُوطٍ برَمْل (7) جازَ وإنْ تَيَمَّمَ برَمْلٍ مَحْضٍ (8) أوْ بِتُرَاب مَخْلوطٍ أوْ نحوه لم يَصحَّ (9) ويُسْتَحَب للْمُسَافر أنْ يَسْتَصْحِبَ معه تُرَاباً في خِرقَةٍ ونحوها ليَتَيمَّم به إذَا لَمْ يجِد في أرْضه تُرَاباً.
__________
(1) أو يتوهمه أو يظنه.
(2) كأن يقول: مَنْ عنده ماء يبيعه.
(3) ولو باتهابه.
(4) أي لحصول الطلب المتوقف عليه التيمم عند فقد الماء.
(5) دخل في اسم التراب ما يؤكل تداوياً كالأرمني أو سفهاً كالأبيض لا نحو طين مشوي، وصح وأثم بتراب المسجد والأراضي الموقوفة والمملوكة التي علم من مالكها عدم الرضا، وقوله "طاهر": أي لا ما اختلط بنجاسة، أو تنجس بها.
(6) مطلق أي طهور فلا يكفي مستعمل وهو ما بقي بعضوه أو تناثر منه بعد إمساسه البشرة لا ما بقي بعدما تيمم منه، من خرقه، ولا ما تغير طعمه، أو لونه أو ريحه بنحو خل أو ماء وردٍ جَفا وبقي غباره.
(7) أي لا يلصق بالعضو.
(8) أي لا غبار له مطلقاً أو له لكن لم يتحقق وصول التراب المعتبر تحققه إلى العضو فيما بعد.
(9) كذا مذهب أحمد وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز التيمم بالأرض وأجزائها ولو بحجر لا تراب عليه، ورمل لا غبار فيه، وزاد مالك ويجوز بما اتصل بالأرض كالنبات.

(1/86)


فَصْل
وَالتيمُّمُ مَسْحُ الْوَجْه (1) والْيَدَيْن إلى الْمِرْفَقَيْنِ (2) بضَرْبَتَيْن (3) أوْ أكْثَر، والسُّنَّةُ أنْ لاَ يزيد على ضَرْبَتَيْن، وسَوَاء تَيَمَّمَ عن الجنابة أوْ عن الحَدَث الأصْغَر وصفَتُهُ ما ذَكَرْنَاهُ.
فَصْل
لاَ يصحُّ التَّيَمُّمُ لفَريضَة (4) إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا (5) وَكَذَا النَّافِلة الرَّاتبة (6)
__________
(1) أي دون منابت شعره وإن خف ومما يغفل عنه ما يقبل من الأنف على الشفة فليتنبه له، وقوله واليدين أي وثم اليدين.
(2) به قال أبو حنيفة وعند مالك وأحمد إلى الكوعين واجب وإلى المرفقين مستحب.
(3) هو مذهب أبي حنيفة ضربة للوجه وضربة لليدين، وقال مالك في أشهر الروايتين وأحمد: تجزىء ضربة واحدة للوجه والكفين بأن يكون بطون الأصابع للوجه، وبطون الراحتين للكفين، والمراد بضربتين النقل ولو بالعضو الممسوح كأن يمعك وجهه في التراب، ومِنْ يد إلى يد، ولو وقف بمهب ريح بقصد حصول الغبار فلما حصل بوجهه ردده لم يكف لعدم النقل، فلو أخذه من جهة وردّه إليه أو من الريح ومسح به أجزأه.
ويشترط مقارنة النية لأول الضرب والمسح أي نية استباحة الصلاة ونحوها مما يفتقر إلى طهارة كطواف وسجود تلاوة وحمل مصحف، ويصح أن ينوي النية العامة، كأن يقول: نويت استباحة مفتقر إلى طهر، ولا تكفي نية التيمم ولا نية فرض التيمم لأنه طهارة ضرورة، لا يصلح كونه مقصوداً ولهذا لا يسن تجديده ولا نية رفع الحدث لأنه لا يرفعه.
(4) أي ولو منذورة معينة بوقت، ولا يصح أخذ التراب أيضاً قبل الوقت وكذا عند مالك وأحمد لا يجوز التيمم قبل دخول الوقت، وقال أبو حنيفة: يجوز.
(5) أي ولو تبعاً فيتيمم للثانية في جمع التقديم عقب فعل الأولى، ويصليها به، قبل دخول وقتها.
(6) أي لا النفل المطلق فيتيمم له كل وقت إلا أوقات الكراهة فلا يصح التيمم له فيها.

(1/87)


على الأَصَح ولاَ يُصَلِّي بِتيَممِ وَاحِدِ أكْثَرَ مِنْ فَريضَة (1) واحِدَةٍ وَلَهُ أنْ يُصَلِّي معها مَا شاءَ مِنَ النَّوَافل قَبْلَ الْفَريضَة وَبَعدها في الْوَقْت وخارج الْوقْت (2).

فَصْل
إذا صَلَّى بالتيَمم لِعَدَم الْمَاءِ الَّذِي يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ لَمْ تَلْزَمْهُ إِعَادةُ الصَّلاَة سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ قَصيراً أوْ طَوِيلاً (3)، وَلَوْ وَجَدَ الْمَاءِ بَعْدَ الصَّلاَة في الْوَقْتِ (4)
__________
(1) كالصلاة في ذلك الطواف.
(2) هذا بيان لما يستبيحه المتيمم بتيممه، والحاصل أن المراتب ثلاث:
المرتبة الأولى: فرض الصلاة ولو منذورة، وفرض الطواف كذلك، وخطبة الجمعة لأنها مُنَزلة مَنْزلة ركعتين فهي كصلاتها عند العلامة الرملي رحمه الله ويحتاط فيها عند العلامة ابن حجر كشيخ الإسلام رحمهما الله فلا يصلي بالتيمم لها فرضاً، ولا يجمع معها فرضاً آخر، ولو مثلها، فلا يخطب ثانياً بعد أن خطب أولاً بتيمم واحد، ولو كان في المرة الأولى زائداً على الأربعين خلافاً لابن قاسم رحمه الله، وله جمع الخطبتين على المنبر الواحد بتيمم واحد لأنهما فرض واحد.
المرتبة الثانية: نفل الصلاة، ونفل الطواف، وصلاة الجنازة لأنها وإن كانت فرض كفاية فالأصح أنها كالنفل.
المرتبة الثالثة: ما عدا ذلك كسجدة التلاوة والشكر وقراءة القرآن من الجنب ونحوه، ولو منذورة ومس المصحف وتمكين الحليل، فإذا نوى واحداً من المرتبة الأولى استباح واحداً منها، ولو غير ما نواه واستباح معه جميع الثانية والثالثة، وإذا نوى واحداً من الثانية استباح جميعها وجميع الثالثة دون شيء من الأولى، وإذا نوى شيئاً من الثالثة استباحها كلها وامتنعت عليه الأولى والثانية.
(3) الضابط أنه إذا صلى بمحل من شأنه عدم ندرة فقد الماء فيه سواء أغلب فيه الفقد أم استوى هو والوجود لم يقض، وإلا قضى، فقولهم: المقيم يقضي والمسافر لا يقضي، جرى على الغالب.
(4) يستثنى منه الميت إذا وجد الماء قبل دفنه، ولو بعد الصلاة عليه فإنه يجب =

(1/88)


أَوْ في أثنَاءِ الصلاَة (1) صَحَتْ صَلاَتُهُ ولا إعَادةَ عَلَيْهِ.

فَصْلٌ
إذا لَمْ يَجِدْ ماءَ ولا تُرَاباَ صَلَّى على حَسَبِ حَالِهِ الْفَرِيضَةِ وَحدها (2) ولَزمَه إعَادَةُ الصَّلاَة بالماءِ أو الترَاب (3) وإذا خاف من اسْتِعْمال الماءِ (4) تَلَفَ النَفْسِ بِمَرَضِ أو جِرَاحَة أو نَحْوهمَا أو تَلَفَ عُضْو أو فَوَاتَ مَنفْعَةِ عُضْو أو زِيَادَةَ المَرَضِ أو كَثْرَةَ الأَلَم أو حُصُول شَيْنٍ فَاحِشٍ عَلَى عُضْو ظَاهرٍ (5) تَيمَّمَ وَصَلى ولا إعادَةَ عَلَيْهِ.
__________
= غسله وإعادة الصلاة عليه احتياطاً لخاتمة أمره. واحترز بقوله {وَجَدَ} عما لو علم بعد الصلاة بوجود الماء عند الصلاة أو وجود ثمنه في رحله وقد نسيه فإنه تلزمه الإعادة.
(1) أي التي تسقط بالتيمم وهي التي صليت بمحل يغلب فيه فقد الماء أو يستوي فيه الأمران الفقد والوجود.
(2) احترز به عن النافلة فلا يفعلها فاقد الطهورين لأن صلاته للضرورة ولا ضرورة في النفل.
(3) محله إذا وجد التراب بمحل يسقط الفرض فيه بالتيمم إذ لا فائدة في الإعادة به في محل لا يسقط فيه الفرض بالتيمم. نعم إن وجده في الوقت أعاده به ليفعل الصلاة بأحد الطهورين في الوقت، وإن وجبت الإِعادة ثانياً كان كل المحل يغلب فيه الوجود.
(4) أي بقول طبيب عدل رواية أو بمعرفة نفسه، ولو بالتجربة خصوصاً مع فقد الطبيب فإنْ لم يجد الطبيب، ولا عرف وخاف نحو مرض فللعلماء قولان: الأول: لا يتيمم، والثاني: يتيمم، وهو اللائق بمحاسن الشريعة الغراء، أماتنا الله، وأحيانا عليها آمين.
(5) العضو الظاهر: ما يبدو عند المهنة غالباً كالوجه واليدين.
(تتمة): لا يصح التيمم وعلى بدن المتيمم نجاسة حيث كان بمحل يسقط فيه الاعادة ومعه ماء يكفيها أو بعضها وإلا تيمم وأعاد، ولو تيمم عن نحو جنابة ثم أحدث استباح القراءة واللبث في المسجد.

(1/89)


فَصْل
مما تَعُمُّ به الْبَلْوَى وَيَحْتَاجُ إلى مَعْرِفَتِهِ سَالِكُ طَرِيْقِ الْحَجِّ حُكْمُ مَنْ يَمُوتُ مَعَهُمْ. وهذا باب واسع جداً وقَدْ جَمَعْتُ فيه مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ بحَمْدِ اللهِ مَا يقارِبُ مُجَلَّداً فأشيرُ هُنَا إلى نُبْذة مِنْهُ لا بُدَّ للْحَاج مِنْ مَعْرِفَتها فَإِذَا مَاتَ وَاحِدٌ في الرَّكْبِ أوْ القَافِلَةِ وَجَبَ عَلَى الَّذِين عَلِمُوا مَوْته غُسْلُهُ وَتكْفينُهُ والصَّلاَةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ، فَإنْ تَرَكُوا وَاحداَ مِنْ هذهِ الأُمورِ معَ الْقُدرَةِ أثمُوا كُلهُمْ (1) وإنْ فَعَلَهَا بَعْضُهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عن الْبَاقينَ.
ولا إِثْمَ عَلَى مَنْ لم يَعْلَمْ بِحَالِ، وإذا لم يَجِدُوا الماءَ يَمَّمُوهُ في وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ ثم كفنوه ثُمَّ تَيَمَّمُوا وَصلوا عليه، ولاَ يَصحُّ تَيَمُّمُهُمْ حتَّى يُيَمِّموه لأنهُ لاَ يصحُّ التَّيَمم إلا بَعْدَ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَة ولا يَدْخُلُ وَقْتُ الصَّلاَةِ على الْمَيِّتِ إلاَّ بَعْدَ غُسْله أو تَيَمُّمه وأقلّ الكفَنِ ثَوْبٌ ساترٌ لِجَمِيعِ البَدَنِ على المَذْهَب الصحِيح وَقِيلَ يَكْفِي سَاتِرُ الْعَوْرَة (2) وَأكْمَلُهُ ثَلاَثَةُ أثْوَاب للرّجُل وخَمْسَةٌ للْمَرْأة (3).
__________
(1) بخلاف ما لو خافوا نحو عدو أو ظالم لو اشتغلوا بتجهيزه فلا يأثمون بتركه للضرورة ويختار لهم حينئذ مواراته بالممكن.
(2) المعتمد أنه من حيث حق الله تعالى يكفي ساتر العورة فلو كفنه الورثة فيه سقط الفرض وإن أثموا من حيث إن للميت حقاً في ستر جميع بدنه وعلى ذلك يحمل اختلاف التصحيح الذي وقع للشيخين الرافعي والنووي وغيرهما رحمهم الله في هذه المسألة، فمنْ عبر بساتر العورة اقتصر على حق الله تعالى وَمَنْ عَبر بساتر البدن ضم إليه حق الميت ومؤنة تجهيز الميت غير الزوجة في تركته إن خلف تركة وإلا فعلى من تلزمه نفقته في حياته، أما الزوجة الواجبة نفقتها فمؤنة تجهيزها على زوجها، وإن خلفت تركة ما لم يكن معسراً.
(3) محله حيث لا دَيْن مستغرق للتركة على الميت ولم يوص بثوب واحد فإن كان =

(1/90)


وَيجُوزُ التكْفينُ في جَميعِ أنْوَاع الثياب إلا الحرير (1) فلا يَجُوزُ تكفِين الرَّجُل فيه ويجُوزُ تكفِين الْمَرأَة فيه لكنْ يُكرَه (2). فإن كان الْمَيّتُ رَجُلاً مُحرِماً لمْ يُكَفّنْ في المخيطِ ولاَ يُغَطَى رَأْسُه ولا يقَرَّبُ الطِّيب وإنْ كَانَتْ امْرَأَة لم يغَطَّ وجْهُها بشَيء وَيَجُوزُ كَفْنها في المخيط وَيَجبُ سَتْرُ رأْسها وجميعِ بدنها سِوَى الْوَجْهِ، وَأَما الصَّلاَة عليه فيَسْقُطُ فَرْضُهَا بصلاَة واحد عَلَى المَذْهَبِ المختارِ وَهُوَ الأَظهرُ من نصُوص الشافعيِّ رَضِيَ الله عَنه وقيلَ يُشْتَرَطُ اثْنان وَقِيلَ ثَلاَثَةٌ وَقِيلَ أَرْبَعَةٌ وَيجُوزُ جَمَاعة وَفُرَادَى ولا يَسْقُطُ فَرْضها بفعل النساء ولا الصِّبيان (3) معَ وُجُودِ الرجالِ على المَذْهب المُخْتار وأَمَّا الدَفْنُ فَأقَلهُ حُفْرَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ السِّبَاع ومن ظُهُور رَائحَتِهِ فإن تعذَّرَ بَعْضُ هذهِ الأمورِ فعَلُوا الْمُمْكن منها والله أعلم.

فَصْل
وممَّا يَتأكدُ الوَصيةُ به أنَّهُ يَنْبَغي أَن يحْرصَ على فعل الْمَعْرُوف في طَريقه فيَسْقِي الْمَاءَ عِنْدَ الْحَاجة إليه إذَا أَمْكَنَهُ ويَحْمِلُ المُنْقَطع إذَا تَيَسَّرَ له لأَن
__________
= دَيْن مستغرق، وامتنع الغرماء من الزيادة على ثوب أو أوصى بثوب لم يزد عليه فإنْ انتفى ذلك لم يكن للورثة المنع من الثلاثة بخلاف ما زاد عليها ولو خمسة في حق المرأة لأنها ليست متأكدة في حقها تأكيد الثلاثة في حق الرجل.
(1) أي والمزعفر والمعصفر.
(2) كذا عند أحمد، وقال أبو حنيفة: لا يكره للمرأة الحرير والمعصفر والمزعفر، ومثل المرأة الصبي لجواز لبسه للحرير حياً.
(3) المعتمد الذي صححه المصنف رحمه الله تعالى في غير هذا الكتاب سقوط الفرض بفعل المميز ولو بحضرة الرجال لأنه من جنسهم مع كون المقصود من الصلاة على الميت الدعاء وهو أقرب إلى الإجابة وبهذا فارق عدم سقوط الفرض بالمميز في رد =

(1/91)


أَفضَلَ الصَّدَقَةَ ما وَافَق ضَرُورة أَو حَاجَة وَيَتَرَجَّحُ فعْلُ الصَّدَقَةِ وَالمَعْرُوف في طَرِيق مَكّة بأرْبَعَة أُمُور: أَحَدُها: أَنَّ الْحَاجَةَ أَمسُّ. الثَّاني: أنهُ لا بَدَلَ يَلْجأ إليه. والثَّالث: مُجَاهَدَةُ النَّفس لشُحها (1) بالشَّيء مخافةَ الحاجَةِ. الرَّابع: أنَّهُ إِعانَة لقَاصِدي بَيْت الله تعالى.

فَصْل
مُخْتَصَرٌ جدَّاً فيما يَتَعَلَّقُ بوجُوب الْحَجُّ
لا يجب الْحَجُّ (2)
__________
= السلام، فإن المقصود منه الأمان لكل من المسلم والمجيب، وأن كلاً منهما سالم من الآخر، وأمان الصبي لا يصح، ولا يسقط الفرض بصلاة النساء مع وجود ذكر ولو صبياً لأنه أكمل منهن، فإن لم يصل أمرنه بها، فإن امتنع بعد ذلك توجه الفرض إليهن.
(1) الشح: البخل.
(2) أي: والعمرة، وقد يشملها اسم الحج وهما واجبان لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ولحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟
قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة"، رواه الإمام أحمد وابن ماجه رحمهما الله بإسناد صحيح، وإذا ثبت ذلك في النساء، فالرجال أولى، وأما خبر الترمذي رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله تعالى عنه: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العمرة أواجبة هي؟
قال: "لا .. وإن تعتمر خير" فقد اتفق الحفاظ على ضعفه، ولا تجب العمرة إلا مرة كالحج، ووجوب الحج والعمرة عند الإمام الشافعي رحمه الله على التراخي لأنه عليه الصلاة والسلام فرض عليه الحج في السنة السادسة على المختار كما سيأتي، ولم يحج إلا في السنة العاشرة الهجرية، وعند الإِمامين مالك وأحمد رحمهما الله تعالى: الحج على الفور وليس للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى نص في المسألة، وقد اختلف صاحباه رحمهما الله تعالى فقال محمد: (على التراخي). وقال أبو يوسف: (على الفور).
ودليل من قال بوجوب الحج على الفور إطلاق الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس =

(1/92)


في العُمْر إلاَّ مرة واحدة (1)
__________
= قد فرض عليكم الحج فحجوا" الحديث ... رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وإطلاقه يقتضي الفورية عند الأصوليين، ويؤيده خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له) رواه أحمد. فإن قيل: لو كان واجباً على الفور لم يؤخره - صلى الله عليه وسلم -.
أجيب: باحتمال أنّ الله تعالى أطلع نبيه على أنه لا يموت حتى يحج، فيكون على يقين من الإدراك، قاله أبو زيد الحنفي، أو لاحتمال عدم الاستطاعة، أو حاجة خوف في حقه منعه من الخروج، ومنع أكثر أصحابه خوفاً عليه.
وأجاب بعضهم بأن الحج لم يفرض إلا في السنة التاسعة وأن آية فرضه هي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وهي نزلت عام الوفود آخر سنة تسع، وهذا هو اللائق بهديه وحاله - صلى الله عليه وسلم -.
واختلف الأئمة رحمهم الله تعالى في وجوب العمرة، فقالت الحنفية والمالكية ورواية عن الحنابلة بعدم وجوبها وعلى هذه الرواية يجب إتمامها إذا شرع فيها، والمذهب وجوبها كالشافعية مطلقاً على المكي وغيره كما تقدم من الآية والحديث لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد".
وفي رواية للإمام أحمد: على أن العمرة لا تجب على المكي بخلاف غيره. قال الإِمام أحمد: كان ابن عباس رضي الله عنهما يرى العمرة واجبة ويقول: (يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت) وهو من رواية إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. اهـ (مفيد الأنام ونور الظلام) للشيخ عبد الله بن جاسر رحمه الله تعالى.
(1) أي لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد فرض الحج إلا مرة واحدة، وهي حجة الوداع ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حج حجة فقد أدى فرضه، ومن حج ثانية فقد داين ربه، ومن حج ثلاث حجج حرم الله شعره وبشره على النار".
فلو ارتد شخص والعياذ بالله بعد الإِتيان بالحج والعمرة ثم أسلم لم يجبا عليه ثانياً، لأن الردة لا تحبط عمل مَنْ مات مسلماً وإن أحبطت ثواب عمله لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} فهذه الآية مقيدة لآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وقد يستغني عن هذا القيد بعجز آية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} =

(1/93)


إِلا أن ينذِره (1) والناس أرْبَعَة (2) أقْسَامٍ: قِسْمٌ يَصحُ لَهُ الْحَج (3)، وقِسْمٌ يَصح منه بالمُبَاشَرَة (4)، وقِسْم يقَع له عَن حَجَّةِ الإِسْلاَمِ، وَقَسْم يجِبُ عليه. فَأَمَّا القِسْمُ الأَوَّلُ وَهُوَ الصحة الْمُطَلَقَة (5) فَشَرطُهَا الإِسْلاَم (6) فَقَطْ فَلا يَصحُ حَجُّ كافر ولاَ يُشْتَرَط التكليفُ (7) بَلْ يَصِحُّ إِحْرَامُ الوَلي عَنْ الصبي الَّذي لا يُميز (8) وَعَنْ الْمَجْنُون (9) وأما صحة المُبَاشَرَة فَشَرْطُها الإسْلاَمُ
__________
= وهو قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} إذ لا يكون الخسران مع الموت على الإسلام. أسأله تعالى لي وللمسلمين الموت على الإسلام آمين. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله بوجوب الإعادة.
(1) أي الحج أو ينذر العمرة أو ينذرهما أو يفسد تطوع أحدهما أو تطوعهما فإنه يجب عليه الاستمرار فيه وقضاؤه وسيأتي آخر الكتاب كلام في الفرض إن شاء الله تعالى.
(2) بقي قسم خاص وهو من يصح منه النسك ويجب عليه ولا يجزيه عن حجة الإسلام وعمرته أو عنهما وشرطه الإسلام والبلوغ والعقل والوقت ومعرفة الكيفية بأن يأتي بأعمال النسك عالماً بأنه يفعلها عنه، وإن لم يكن حراً فيصح نذر الرقيق المكلف بالنسك ويقع عن نذره.
(3) أي والعمرة كما تقدم لاتحاد شرطهما.
(4) بالمباشرة لأعمال النسك.
(5) أي عن مباشرة ووقوع عن نذر أو عن نسك الإِسلام ووجوبه.
(6) أي والوقت.
(7) وهو ضعيف.
(8) أي والمميز أيضاً كما يأتي.
(9) أي وعن المغمى عليه إنْ لم يرج زوال إغمائه قبل فوات الوقوف، فلا يصح الإحرام عنه وصفة إحرام الولي عمن ذكر أن ينوي جعله محرماً بأن يقول: جعلته محرماً أو يقول: أحرمت عنه ثم يلبي ندباً وحيث صار المولى محرماً أحضره وليه سائر المواقف وجوباً في الواجب وندباً في المندوب، ويفعل عنه ما لا يمكن منه كالرمي بعد رمي نفسه ويصلي عنه سنتي الطواف والإِحرام ويشترط في الصلاة طهرهما عن الحدث والخبث ولا يطوف ولا يسعى الولي به إلا بعد سعيه عن نفسه كما تقدم في الرمي هذا كله في غير المميز، أما المميز فيطوف ويصلي ركعتي الطواف ويسعى ويرمي الأحجار بنفسه، ثم إن =

(1/94)


والتمييز (1) فَلاَ تَصحُّ مُبَاشَرَة (2) الْمَجْنُون والصبِي الذي لا يُمَيز وتَصح (3) مِنَ المُمَيِّزِ (4) وَالْعَبْدِ (5) وأما وُقُوعُهُ (6) عن حَجةِ الإِسْلاَمِ فَشُرُوطُه أرْبَعَةٌ (7):
الإِسْلاَمُ والْعَقْلُ والْحُرَيّه وَالْبُلُوغُ (8) فلو تكَلَّفَ الفَقيرُ الحَجَّ وَقَعَ عن حَجة الإِسلاَم (9) وأما وُجُوبُ حَجَّة الإسْلاَم فلها خَمْسَةُ شُرُوط: الإِسْلاَم (10) والبُلُوغُ والْعَقْلُ والْحُرِّيةُ والاسْتِطَاعَةُ (11).
(فرع): الاسْتِطَاعَةُ نَوْعان: اسْتِطَاعَة مُباشَرَةٍ بنفْسه واسْتِطَاعَةُ تحصِيلِهِ
__________
= الولي يغرم واجباً بإحرام كدم تمتع وقران وفوات وكفدية شيء عن المحظورات إنْ ارتكبها المميز، أما غير المميز فلا فدية في ارتكابه محظوراً على أحد.
(1) أي والوقت ومعرفة الكيفية بأن يأتي بالأعمال عالماً أنه يفعلها عن النسك كما تقدم فللمميز ولو صغيراً أو رقيقاً أن يحرم بإذن وليه ويباشر الأعمال بنفسه.
(2) مباشرة أي إحرام.
(3) أي المباشرة والمراد بها هنا الإِحرام كما تقدم.
(4) أي بإذن الولي.
(5) أي وإنْ لم يأذن له سيده.
(6) أي النسك عن حجة الإِسلام أو عمرته أو عنهما.
(7) أي ولو في نائب عن ميت ومعضوب وسيأتي كما لو كمل الناقص قبل الوقوف.
(8) والوقت ومعرفة الكيفية وإن لم يكن مستطيعاً.
(9) أي وإن حرم السفر على الفقير للنسك إذا حصل له ضرر منه لكمال حاله لا من صغير ورقيق وإن كَمُلا بعده لخبر: "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى" فإن كملا قبل الوقوف أو في أثنائه أجزأهما وأعادا السعي إن كانا سعيا بعد طواف القدوم.
(10) أما المرتد فيخاطب بالحج والعمرة في ردته حتى لو استطاع ثم أسلم لزماه، وإن افتقر فإن أخره حتى مات فُعلا عنه من تركته، هذا إذا أسلم، فإن لم يسلم ومات على ردته لا يقضيان عنه.
(11) لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].

(1/95)


بغَيره، فَالأُوْلَى تتعَلَقُ بخَمْسَة أُمُور: الرَّاحِلَةُ إن كان بَيْنَهُ وبينَ مكَّة مرْحَلَتَان فَصاعداً والزادُ وأَمْن الطريق وصحةُ الْبَدن وإمْكَانُ السيْر (1).
وَتُشْتَرَطُ الرَّاحِلَةُ (2) وإنْ كان قَادراً على المشي لكن الأَفْضَلُ لِلْقَادر أن يحُج ماشياً وتُشْتَرطُ راحلةٌ لاَ يَجِدُ مَعَها مَشَقَّة (3) شديدة فإنْ احتَاجَ إلى محْمِل (4) أوْ كنِيسة (5) عَلَى البَعير اشْتُرِطَ القُدْرَة عليه.
وسَوَاء قَدَرَ على الراحِلَةِ بثَمَن أوْ أجْرةِ الْمِثْل (6) فاضلاً عما يَحْتاج إليه ويُشْتَرَطُ في الزاد ما يكفيه لِذهابه ورُجُوعه (7) فَاضلاً عما يحْتَاجُ إليه لنَفَقَة (8)
__________
(1) أي بقاء زمن يمكن فيه الحج.
(2) المراد بالراحلة هنا ما اعتيد الركوب عليها لغالب أمثاله، وفي قول: كل ما يصلح للركوب عليه بالنسبة لطريقه الذي يسلكه، وإن لم يلِقْ به ركوبه.
(3) المشقة الشديدة هنا وفي المعضوب وغيره ما يخشى منها محذور تيمم أو لا يطاق الصبر عليها عادة.
(4) محمل: بفتح الميم الأولى وكسر الثانية وقيل بالعكس، وهو الخشب الذي يركب عليه مع عديل يركب معه في الجانب الآخر فوق ظهر الراحلة وهو المسمى بالشقدف.
(5) الكنيسة: أعواد مرتفعة من جوانب المحمل يوضع عليها ستر يدمع الحر والبرد.
(6) أي فلا أثر لوجود الراحلة بإعارة ونحوها.
(7) أي وإن لم يكن له ببلده أهل وعشيرة لوحشة الغربة ولنزع النفوس إلى الأوطان وتشترط أيضاً قدرته على أوعية الزاد.
(8) المراد بالنفقة المؤنة ليشمل أجرة الطبيب، وشراء الأدوية وإعفاف الأب إنْ احتاج إلى ذلك.

(1/96)


مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتهُمْ (1) وَكِسْوتُهُمْ مُدةَ ذِهَابه ورُجُوعه (2) وفَاضلاً عَنْ مَسْكَن (3) وَخَادَم (4) يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا (5).
وعَنْ قَضاء دَين يكُونُ عليه حَالاً كان أوْ مُؤَجلاً (6) وأمَا الطريق فَيُشترطُ أمْنُهُ (7) في ثَلاَثة أشْياء: في النَّفس (8) والمال (9) والبُضْعِ (10).
فَلاَ يَجِبُ (11) عَلَى المَرْأةِ حتَّى تَأْمَن على نَفْسها بِزَوْجٍ أوْ
__________
(1) كزوجته وفرعه وأصله.
(2) أي ومدة إقامته بمكة.
(3) أي لائق به ما لم يستغن عنه بسكنى الربُط ونحوها وإلا بيع مسكنه وصرف ثمنه في أداء النسك.
(4) أي لائق به.
(5) أي لزمانته أو منصبه.
(6) أي ولو لله تعالى كالنذر والكفارة.
(7) أي أمناً لائقاً بالسفر، وهو دون أمن الحضر، ولو كان أمنه ظناً أي فلا يشترط الأمن التام كما يكون في بيته، وخرج بالأمن الخوف من نحو سبع أو غيره فلا يجب النسك حينئذ لعدم الاستطاعة.
(8) في النفس أي المحترمة له أو لغيره من أهله وأولاده الذين معه والعضو كالنفس ومنفعته كذلك.
(9) أي المال الذي معه المحتاج إليه لنفقته ونحوها لا مال تجارة فلا يشترط الأمن عليه حيث كان يأمن عليه لو أبقاه في بلده وإلا فلا بد من الأمن عليه، ومثل ماله الوديعة.
(10) أي بضعه أو بضع غيره كحريمه.
(11) أي النسك على المرأة شابة أو عجوزاً ومثل المرأة الخنثى، ويلحق بهما الأمرد الجميل فيجب في حقه استصحاب محرم أو سيد ولا يكتفي فيه بمثله وإن تعدد لحرمة نظر كل للآخر والخلوة به.

(1/97)


مَحرم (1) أوْ ثِقاتٍ (2).
وَأمَّا رُكُوبُ البَحْر فَإنْ كان الْغَالِبُ مِنْهُ السَلاَمَة وَجَبَ (3) وإلاَّ فَلاَ (4).
ويشترطُ وجودُ الماء (5) والزادِ في المواضعِ التي جرت العادةُ (6) بِحَملِه منها ووجودُ العَلَفِ عَلى حَسَبِ العادةِ (7) وَأمَّا البَدَنُ فَيُشْتَرط فيه قوة يَسْتَمسكُ
__________
(1) أي بنسب أو رضاع أو مصاهرة.
(2) أي بأن بلغن وجمعن صفات العدالة وفي قول: يكتفي بالمراهقات اللاتي جمعن صفات العدالة، واشترط في نسك المرأة ما ذكر لقوله - صلى الله عليه وسلم - في خبر الصحيحين: "لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو محرم". وفي رواية: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم". وفي رواية: "مسافة بريد إلا ومعها محرم" فالمراد كل ما يسمى سفراً طويلاً أو قصيراً لرواية ابن عباس رضي الله عنهما المطلقة: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم".
(3) أي إن تعين البحر طريقاً كأن حدث بطريق البر نحو خوف أو عطش فلا ينتظر زوال مانعه.
(4) أي ويحرم ركوب البحر سواء أغلب الهلاك أم استوى الأمران والعبرة بوقت الركوب ولا فرق حينئذ بين سفر الحج وغيره، ولو وجب فوراً كالهجرة.
(5) أي بثمن المثل وهو القدر اللائق في ذلك الزمان والمكان فلا يلزمه الزيادة على ذلك وإن قلت وحكم الزاد حكم الماء.
(6) أي عادة أهل طريقه التي يتوجه منها لأن ذلك يختلف باختلاف النواحي بحسب بعد المياه وقربها.
(7) هو المعتمد أي فلا يشترط وجوده في كل مرحلة، ومثله الآن وجود البنزين على حسب العادة، فالحاصل أنه يشترط أنْ يكون في الحجيج من يحمل الثلاثة الزاد والماء والعلف أو ما هو الآن بدله من البنزين، وأدوات السيارات ونحوها في المفازات التي يعتاد حملها فيها، وأنْ توجد الثلاثة في المواضع التي يعتاد حملها منها.

(1/98)


بها على الرَّاحِلَةِ بغَيْرِ مَشَقة شَدِيدة (1) والمَحْجُورُ عليه كَغَيْرِهِ (2) وكَذَا الأَعْمَى الذي يَجدُ قائِداً (3)، وأمَّا إمْكَان السَّيرِ فأَنْ يجد هذه الأُمُور (4) وتَبقَّى زَمَن يمكنهُ الذِّهاب فيه إلَى الحَجَ على السَّيْرِ المُعتَاد.
__________
(1) المشقة الشديدة هي كما تقدم: ما يخشى منها محذور تيمم أو لا يطاق الصبر عليها.
(2) أي في الوجوب لكن يشترط قدرة المحجور عليه بسفه على أجرة مثلٍ حافظٍ نفقته إن طلبها من الولي لأنه يحرم عليه إعطاؤها له من ماله بخلافها من مال الولي وإنما جاز للولي في الحضر دفع النفقة إلى المحجور عليه بسفه أسبوعاً فأسبوعاً إذا لم يتلفها لأنه فيه مراتب له بخلافها في السفر وإنْ قصر، وأفهم قول المصنف رحمه الله تعالى أن ولي المحجور عليه بسفه ليس له تحليله في نسك الإسلاك وكذا تطوع أحرم به قبل الحجر أو منذور قبله، وإن أحرم به بعده أو أحرم بهما بعده وكفته نفقته الحضر أو أتمها من كسبه في طريقه وإلا فله تحليله كما له منعه ابتداء، وإنما صح إحرامه بغير إذن وليه بخلاف المميز لأنه مكلف.
(3) أي وقدر على أجرة مثله إن طلبها ومثله مقطوع اليدين والرجلين إذا وجد معيناً.
(4) أي التي ذكرت في استطاعة المباشرة بالنفس، ويقال لها: استطاعة البدن والمال، والأمور هي أحد عشر أمراً يؤخذ غالبها من كلام المصنف رحمه الله: وجود مؤن السفر، وجود الراحلة مع وجود شق محمل لمن لا يقدر على الراحلة، وجود الماء والزاد في المواضع التي يعتاد حملهما منها بثمن مثله، خروج زوج أو محرم مع المرأة، ثبوته على الراحلة بلا مشقة، وجود ما مَر من الزاد وغيره وقت خروج الناس من بلده، وجود رفقة حيث لم يأمن وجود ما مر بمالٍ حاصل عنده أو بدين حال على مليء، وجود الأعمى قائداً يقوده ويهديه عند ركوبه ونزوله ولو بأجرة مثل قدر عليها، بقاء زمن يمكنه الوصول فيه إلى عَرَفة بالسير المعتاد بعد وجود ما ذكر، وهذا الشرط لأصل الوجوب كما يقتضيه صنيع المصنف رحمه الله فلو لم يمكنه سقط الوجوب.

(1/99)


وأمّا اسْتِطَاعَةُ التحْصيلِ بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ الْحَج بِنَفْسِهِ بِمَوْت (1) أوْ كِبَير أوْ زَمانة (2) أوْ مَرَض لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ (3) أوْ هَرَم بِحَيْثُ لا يَسْتَطِيعُ الثبُوتَ على الرَّاحِلَة إِلا بِمَشَقة شديدَة (4) وهَذَا العَاجِزُ الْحَي يُسَمَّى مَعْضُوباً (5) بالْعَيْن المُهْمَلَةِ والضادِ المُعْجمَةِ ثم تَجِبُ الاسْتِنَابةُ (6) عن المَيّت (7) إذَا كَانَ قَدْ اسْتَطَاعَ في حَيَاتِهِ وَلَمْ يَحِج هَذا إذَا كَانَ لَهُ تَركةٌ وإلا فَلاَ يَجِبُ على الْوَارِثِ، وَيَجُوزُ (8) لِلْوَارِثِ والأَجْنَبِي (9) الحَجُّ عنهُ سَواءٌ أوْصَى به أم لا وأمَّا
__________
(1) خرج بالموت نحو الجنون والمرض المرجو زواله، فلا تجوز الإنابة بسببهما ومقطوع الأطراف لأنه يمكنه الثبوت على الراحلة فلا تجوز له الإنابة.
(2) الزمانة: هي الابتلاء والعاهة وضعف الحركة من تتابع المرض وهي العضب.
(3) أي بقول عَدْلَيْ طب أو معرفة نفسه إن كان عارفاً، وبه قالت الحنابلة وقالت الحنفية: من يرجى برؤه ينيب، فإن قدر على الحج بنفسه لزمه وإلا أجزأه ذلك والله أعلم.
(4) المشقة الشديدة هي كما تقدم ما يخشى منها محذور تيمم أو لا يطاق الصبر عليها.
(5) أي من العضب وهو الضعف أو القطع لانقطاع حركته هذا هو الأشهر ويجوز بالصاد المهملة كأنه قطع عصبه أو ضرب.
(6) أي فوراً وذلك لخبر الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دَيْن كنت قاضيته عنها". قالت: نعم، قال: "اقضوا حق الله فالله أحق بالوفاء". شبه الحج بالدين وأمر بقضائه فدل على وجوبه.
(7) أي غير المرتد، أما هو فلا تصح الإِنابة عنه، وهو معلوم من تعبيره بقوله: له تركة، إذ المرتد والعياذ بالله لا تركة له، بل ماله فيء للمسلمين بخلاف ما لو ارتد المستطيع فأسلم ومات مسلماً قضي من تركته.
(8) أي بل يسن فعل النسك عن الميت للوارث وغيره، وللأجنبي أيضاً لكن القريب آكد لا سيما الوارث.
(9) أي ولو بغير إذن القريب ويفرق بينه وبين توقف الصوم عنه على إذن القريب =

(1/100)


المَعْضُوبُ (1) فَلاَ يَصح الحَج عنهُ بِغَيْر إذْنه (2) وَتَلْزَمُهُ الاسْتنَابة (3) إنْ وجدَ مالاً يسْتأجرُ به من يحُج عنْهُ فَاضِلاً عَنْ حَاجَته (4) يَوْم الاستئجَار (5) خَاصَّة سَوَاءٌ
__________
= بأن هذا أشبه بالديْن فأعطي حكمه بخلاف الصوم فإنه بدني والأصل امتناعه عن الغير كالصلاة لكن صحت السنة به في القريب فتوقف فعل غيره على إذنه على أن له بدلاً وهو الإطعام.
(1) أي الذي بينه وبين مكة مرحلتان فأكثر، فلو كان بينه وبين مكة دون مرحلتين لزمه النسك بنفسه لأنه لا يتعذر عليه الركوب فيما مرّ من محمل فمِحَفة فسرير، والآن سخر الله السيارات ونحوها فلله الحمد والمنة على نعمه جعلنا الله من الشاكرين آمين، ولا نظر للمشقة عليه لاحتمالها في حد القرب، وإن كانت تبيح التيمم فإنْ عجز عن ذلك حج عنه بعد موته من تركته.
(2) أي لأن النسك يحتاج للنية والمعضوب أهل لها وللأذن لأنه لو تكلف النسك وفعله صح عنه.
(3) أي فوراً عند السادة الحنفية والسادة الحنابلة وعند السادة الشافعية رحم الله تعالى الجميع إن عضب بعد الوجوب والتمكن وعلى التراخي إن عضب قبل الوجوب أو معه أو بعده ولم يمكنه الأداء وذلك لأنه مستطيع بالمال وهي كالاستطاعة بالنفس ولخبر الصحيحين: إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله أن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفاحج عنه؟ قال: "نعم". وعند السادة المالكية رحمهم الله تعالى: العاجز لا حج عليه إلا أنْ يستطيع بنفسه لقوله تعالى: {مَنِ استطاع إليه سبيلا} وهذا غير مستطيع، ولأن هذه عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة، فلا تدخلها مع العجز كالصلاة والصوم.
قال المصنف في شرح مسلم رحمهما الله تعالى: مذهبنا ومذهب الجمهور جواز الحج عن العاجز بموت أو عضب وهو الزمانة والهرم ونحوهما، وقال مالك والليث والحسن بن صالح رحمهم الله تعالى: لا يحج أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وحكي عن النخعي وبعض السلف: لا يصح الحج عن الميت ولا غيره وهي رواية عن مالك وإن أوصى به. اهـ.
(4) منها حاجة عياله.
(5) أي وليلته وقوله: (خاصة) احترز به عن نفقة نفسه، ونفقة عياله بعد يوم الاستئجار وليلته. =

(1/101)


وَجَدَ أجْرَة راكب أوْ ماش بشَرْط أَنْ يَرْضَى بأجرَة الْمثْل (1) فإنْ لم يجد المال ووجد من يتبرع بالْحَجِّ عنْه من أَوْلاَده وَأَوْلاد أَولاَده الذُّكور وَالإناث لزمَهُ اسْتنابَتُهُ بشَرْط أَنْ يكُونَ الْوَلد (2) حَج عنْ نفْسه وَيُوثَقُ به (3) وهو غَيْر مَعْضُوب (4) ولَوْ بَذَلَ الأخُ أوْ الأَجْنَبِي الطّاعَة فهُمَا كالْوَلَد (5) على الأَصَحِّ، ولَوْ بَذَلَ الْوَلَدُ أوْ غَيْرُهُ المالَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ على الأَصَح (6) وتَجوزُ الاستْنابة في
__________
= (الخلاصة): يشترط في المال الذي يستأجر به المعضوب مَنْ يحج عنه أن يكون فاضلاً عن جميع ما يحتاجه من نفقة وكسوة وخادم لنفسه أو لعياله بالنسبة ليوم الاستئجار وليلته ويشترط أن يكون فاضلاً عن جميع ما يحتاجه أيضاً بالنسبة لما بعد يوم الاستئجار ما عدا النفقة سواء كانت لنفسه أو لعياله فلا يشترط أن يكون المال فاضلاً عنها بعد يوم الاستئجار وذلك لأن لو لم يفارق البلد أمكنه تحصيله ولو بالقرض.
(1) أو دونها لا بأكثر وإن قل.
(2) المراد بالولد هنا الفرع وإن سَفَلَ ومثله فيما ذكر الأصل وإن علا، وكذا الأجنبي كما يأتي.
(3) أي بأن يكون عدلاً، وإلا لم تصح الاستنابة ولو مع المشاهدة لأن نيته لا يطلع عليها وبه يعلم أن هذا شرط في كل من يحج عن غيره بإجارة أو جعالة.
(4) فلا يجب الإذن له وإنْ صح حجه عنه لو تكلفه ويشترط أيضاً ألا يكون الفرع أو الأصل ماشياً ولا مُعَولاً على السؤال أو الكسب إلا أن يكتسب في يوم كفاية أيام وكان السفر قصيراً.
(5) إلا في عدم المشي في السفر الطويل فإنه شرط في القريب دون الأجنبي لأن المعضوب يشق عليه مشى قريبه.
(6) أي لعظم المنة في المال. ألا ترى أن الإنسان يستنكف عن الاستعانة بمال الغير ولا يستنكف عن الاستعانة ببدنه في الأشغال ولو تبرع أصله أو فرعه باستئجار من يحج عنه أو قال له أحدهما: استأجر وأنا أدفع عنك المال يلزمه الإذن أو الاستئجار لأن المنة منهما أخف من غيرهما.

(1/102)


حَجِّ التَّطَوُّعِ لِلْمَيِّت (1) وَالمَعْضُوب (2) على الأَصَحّ، ولو اسْتناب المعْضُوب من يَحجُّ عنه وحَج عنهُ ثُمَّ زَالَ الْعَضْبُ وشُفِي لم يُجْزِه (3) على الأَصحِّ بَلْ عَلَيْهِ أنْ يَحُجَّ.
__________
(1) أي إن أوصى الميت بنسك التطوع وإلا امتنع فعله عنه مطلقاً، ولو من الوارث على المعتمد خلافاً للحنفية المجبرين لنسك التطوع عن الميت بغير وصية والمانعين له في الفرض إلا بوصية عكس ما عليه الشافعية.
(2) إذا أدى شخص حجة الإسلام عن نفسه وهو قادر على الحج بنفسه فهل له أن يستنيب في حج التطوع. فيه روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله إحداهما: الجواز، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب.
والثانية: لا يجوز كالشافعي رحمه الله لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض، والإمام مالك لا يقول بالاستنابة إلا عن الميت كما تقدم والله أعلم.
(3) أي ولا ثواب له لوقوع الحج نفلاً للأجير والثواب له، فلا أجرة له، ولو حضر المعضوب مكة أو عرفة في سنة حج الأجير لم يقع حج الأجير عنه لتعين مباشرته بنفسه ويلزمه للأجير الأجرة، وفرق بين المسئلتين بأن المعضوب لا تقصير منه في حق الأجير بالشفاء بخلاف الحضور فإنه بعد أنْ ورطَ الأجير مقصر به فلزمته أجرته، وبعدم الإِجزاء.
قال أصحاب أبي حنيفة: لأن هذا بدل إياس فإذا برأ تبينا أنه لم يكن ميئوساً منه، فلزمه الأصل، وعند الحنابلة أجزأه لأنه أتى بما أمر به فخرج من عهدته، والمعتبر لجواز استنابة النائب اليأس ظاهراً، وسواء عوفي قبل فراغ نائبه من النسك أو بعده، ولا يجزىء إنْ عوفي قبل إحرام نائبه لقدرته على المبدل قبل الشروع في البدل.

حكم ما إذا مات الحاج عن نفسه في أثناء حجه هل تجوز النيابة على حجه؟
قال المصنف رحمه الله في مجموعه: فيه قولان مشهوران (الأصح) الجديد: لا يجوز كالصلاة والصوم (والقديم) يجوز لدخول النيابة، فعلى الجديد يبطل المأتى به، إلا في الثواب ويجب الإِحجاج عنه من تركته، إنْ كان قد استقر الحج في ذمته، وإنْ كان تطوعاً أو لم يستطع إلا هذه السنة لم يجب، وعلى القديم قد يموت وقد بقي وقت الإحرام، وقد يموت بعد خروج وقته، فإنْ بقي أحرم النائب بالحج ويقف بعرفة إن لم =

(1/103)


(فرع): إذا وُجدَت شرائط وُجوب الْحَج وَجَب على التراخي (1) فَلَهُ تأخيرهُ ما لَمْ يَخْش الْعَضْبَ (2) فَإنْ خَشِيَه (3) حَرُمَ عَلَيه التأخيرُ على الأَصَحِّ (4) هَذَا مَذْهَبُنَا (5).
__________
= يكن الميت وقف، ولا يقف إن كان وقف، ويأتي بباقي الأعمال، فلا بأس بوقوع إحرام النائب داخل الميقات لأنه يبني على إحرام أنشىء منه، وإن لم يبق وقت الإحرام فبمَ يحرم به النائب؟ وجهان: (أحدهما) وبه قال أبو إسحق: يحرم بعمرة ثم يطوف ويسعى فيجزئانه عن طواف الحج وسعيه، ولا يبيت ولا يرمي، لأنهما لبسا من العمرة لكن يجبران بالدم، (وأصحهما) وبه قطع الأكثرون تفريعاً على القديم أنه يحرم بالحج ويأتي ببقية الأعمال، وإنما يمنع إنشاء الإحرام بعد أشهر الحج إذا ابتدأه، وهذا ليس مبتدأ، بل مبني على إحرام قد وقع في أشهر الحج وعلى هذا إذا مات بين التحللين أحرم إحراماً لا يحرم فيه اللبس والقلم، وإنما يحرم النساء كما لو بقي الميت، هذا كله إذا مات قبل التحللين، فإن مات بعدهما لم تجز النيابة بلا خلاف لأنه يمكن جبر الباقي بالدم. اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة رحمه الله في مغنيه: فإن خرج للحج فمات في الطريق حُج عنه من حيث مات لأنه أسقط بعض ما وجب عليه، فلم يجب ثانياً، وكذلك إنْ مات نائبه استنيب من حيث مات لذلك. ولو أحرم بالحج ثم مات صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك سواء كان إحرامه لنفسه أو لغيره، نص عليه، لأنها عبادة تدخلها النيابة. فاذا مات بعد فعل بعضها قضى عنه باقيها كالزكاة. انتهى.
(1) أي عند الإمام الشافعي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهم الله تعالى كما تقدم وعند جمهور الأئمة على الفور، وقد تقدم الكلام على هذا في التعليق على فصل مختصر جداً فيما يتعلق بوجوب الحج، فراجعه تجد فيه أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى بأدلتها.
(2) أي أو الموت أو هلاك ماله.
(3) أي بقرينة ولو ضعيفة لأنه لا يجوز تأخير الواجب الموسع إلا إنْ غلب على الظن تمكن الشخص منه وهذا مفقود في مسألتنا.
(4) ووجه مقابل الأصح أن أصل الحج على التراخي فلا يتغير بأمر محتمل.
(5) أي معشر الشافعية رحمهم الله وجميع المسلمين آمين.

(1/104)


وقال مالك (1) وأبو حنيفة (2) وأحمد والمزني رحمهم الله تعالى يجب على الفور. ثمَّ عنْدَنا إذَا أخَّرَ فَمَاتَ (3) تَبيَّنَ أنَّهُ ماتَ عَاصِياً على الأَصَح لتَفْريطه، ومن فَوَائد مَوْته عَاصياً أَنهُ لَوْ شَهِدَ بشهَادَة ولم يُحْكَمْ بها حتَّى ماتَ (4) لَمْ يُحْكَمْ بها كما لَوْ بَانَ فِسْقه وَيُحْكَمُ بعصيانه مِنَ السنة الأَخيرَة من سنِي الإمْكَان (5) عَلَى الأَصَح.
(فرع): مَنْ وَجَبَ عليه حَجَّةُ الإِسْلاَم لاَ يصح مِنْهُ غَيْرُها قَبلهَا فَلَوْ
__________
(1) أي في رواية ذكرها القاضي عياض وجمع من المغاربة رحمهم الله تعالى.
(2) فيه نظر لما قيل، وقد تقدم أنه لا نص للإمام أبي حنيفة في وجوب الحج على الفور، وإنما هو قول جمهور أصحابه رحمهم الله منهم أبو يوسف، ويجاب عن المصنف بأن المأخوذ من قواعد الإمام يصح نسبته إليه على خلاف فيه ذكروه في أن المخرج هل ينسب للشافعي رحمه الله تعالى أو لا؟ ويسن تعجيل الحج خروجاً من الخلاف، ولخبر: "حجوا قبل أن لا تحجوا" رواه الجماعة وورد من طريق ضعيفة بل صَح عن عمر رضي الله عنه كما في الحاشية: (من لم يمنعه من الحج حاجة أو مرض حابس أو سلطان جائر فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً) وهذا محمول عند العلماء على الزجر والتغليظ أو على المستحِلّ والله أعلم.
(3) أي أو عضب فيتبين بعد عضبه فسقه في السنة الأخيرة من سني الإمكان وفيما بعدها إلى أن يحج عنه فتجب عليه الاستنابة فوراً كما مَر، وكذا يجب الفور على وارث الميت ونحوه كما مَر.
(4) قال العلامة ابن حجر رحمه الله في حاشيته: (قضيته إنه لو حكم بها لا ينقض الحكم وليس على إطلاقه بل الذي دَل عليه كلام الروضة هنا وكلامهم في الشهادات أنْ الحكم بشهادته قبل آخر سني الإمكان لا ينقض وبعده ينقض لأنه تبين به فسقه). اهـ.
(5) أي من وقت خروج قافلة بلده من تلك السنة الأخيرة من سني الإمكان لتبين أن هذا الوقت هو الذي كان يلزمه فيه المضي معهم.

(1/105)


اجْتَمَعَ عليه حَجةُ الإِسْلاَم وقَضَاءٌ ونذْر (1) قُدمَتْ حَجةُ الإِسْلاَم ثُم الْقَضَاءُ ثُم النَّذْرُ.
ولَوْ أحْرَمَ بغَيْرِهَا (2) وَقَعَ عَنْهَا لا عَما نَوَى، وَمن عليه قضَاءٌ أوْ نَذْرٌ لاَ يَحجُّ عَنْ غيره (3) فَلو أحْرَمَ عن غيرِه وَقَعَ عَنْ نَفْسه عمَّا عليه (4) ولو اسْتَأجَرَ المعْضُوبُ من يَحُجُّ عنه عن النَّذْرِ وعَلَيْهِ حَجةُ الإِسْلاَم وَقَعَ عَنْ حَجة الإِسْلاَم ولَوْ اسْتأجَرَ شَخْصَيْن فَحَجَّا عَنْهُ الْحَجتَين (5) في سنهَ وَاحِدَة أجْزَأه (6) على الأصح.
وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثيرَةٌ وَفيمَا أشَرْتُ إلَيْهِ تنبيهٌ عَلَى مَا بقِي وَاللهُ تَعَالَى أعْلَمُ.
__________
(1) صورة اجتماع الثلاثة أن يفسد صبي حجه، ثم يبلغ فينذر الحج.
مذاهب العلماء فيمن عليه حجة الإِسلام وحجة نذر
قال المصنف رحمه الله في مجموعه: قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب تقديم حجة الإِسلام، وبه قال ابن عمر وعطاء وأحمد وإسحق وأبو عبيد. وقال ابن عباس وعكرمة والأوزاعي: يجزيه حجة واحدة عنهما، وقال مالك: إذا أراد بذلك وفاء نذره فهي عن النذر، وعليه حجة الإِسلام من قابل، والله أعلم.
(2) أي بغير حجة الإِسلام ومثلها حجة القضاء فلو أحرم بالنذر وقع عن حجة الإِسلام، فإنْ لم تكن عليه حجة الإسلام وقع عن حجة القضاء لا عن النذر.
(3) يستثنى منه ما لو استأجره الغير في الذمة، فإنه يجوز وطريقه أن يحج عن نفسه ثم عن غيره.
(4) هذا فيمن نذر حجاً تلك السنة وقع حجه فيها عن حجة الإِسلام والنذر.
(5) أي حجة الإِسلام وحجة النذر.
(6) أي سواء ترتب إحرام الرجلين أو لا، لكن إنْ ترتب إحرامهما وقع الأول لحجة الإِسلام، وإلا وقع إحرام كلٍ عما استؤجر له. =

(1/106)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= مذاهب العلماء في حكم الاستئجار للحج
قال المصنف رحمه الله في مجموعه: قد ذكرنا أن مذهبنا صحة الإِجارة للحج بشرطه السابق وبه قال مالك وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يصح عقد الإجارة عليه، بل يعطى رزقاً عليه، قال أبو حنيفة: يعطيه نفقة الطريق فإنْ فضل منها شيء رده، ويكون الحج للفاعل وللمستأجر ثواب نفقته لأنه عبادة بدنية، فلا يجوز الاستئجار عليها كالصلاة والصوم لأن الحج يقع طاعة فلا يجوز أخْذ العوض عليه، ودليلنا أنه عمل تدخله النيابة فجاز أخذ العوض عليه كتفرقة الصدقة وغيرها.
(فإنْ قيل): لا نسلم دخول النيابة بل يقع الحج عن الفاعل.
(قلنا): هذا منابذ للأحاديث الصحيحة السابقة في إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج عن العاجز، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَدَيْن الله أحق بالقضاء" و"حج عن أبيك" وغير ذلك. ودليل آخر وهو أن الحج يجوز أخذ الرزق عليه بالإجماع، فجاز أخذ الأجرة عليه كبناء المساجد والقناطر، وأما الجواب عن قياسهم على الصلاة والصوم، فهو أنه لا تدخلهما النيابة بخلاف الحج وعن قولهم: الحج يقع طاعة، فينتقض بأخذ الرزق والله أعلم. اهـ ملخصاً.
(مسألتان): قال العلامة ابن قدامة في مغنيه: أما إذا أعطي ألف درهم أو كذا أو كذا فقيل له: حج بهذه فله أن يتوسع فيها، وإن فضل شيء فهو له، وإذا قال الميت: حجوا عني حجة بألف درهم، فدفعوها إلى رجل، فله أنْ يتوسع فيها وما فضل فهو له. اهـ.
أقسام الاستئجار للنسك
قسمان: استئجار عين واستئجار ذمة:
(فالأول): كاستأجرتك لتحج عني أو عن مَيتي أو عن فلان هذه السنة بكذا، فإن عين غير السنة الأولى لم يصح العقد وَإنْ أطلق صح وحُمل على السنة الحاضرة، فإن كان لا يصل مكة إلا لسنتين فأكثر فالأولى من سني إمكان الوصول ويشترط لصحته قدرة الأجير على الشروع في العمل واتساع المدة له والمكي ونحو ممن يدرك الحج في سنته إذا خرج في أشهر يستأجره في أشهر الحج. =

(1/107)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= و (الثاني): كألزمت ذمتك حجة لي أو لمورثي أو لفلان بكذا.
ولاستئجار العين شروط ملخصها كما في إرشاد الأنام للعلامة السيد البطاح المكي رحمه الله تعالى نقلاً عن كتاب فتح القدير باختصار متعلقات نسك الأجير للعلامة محمد بن سليمان الكردي رحمه الله تعالى أربعة عشر شرطاً:
(أحدها): أن يباشر الأجير عمل النسك الذي استؤجر له بنفسه فليس له فعله بغيره فإن فعله فلا شيء للأوّل مطلقاً ولا للثاني إن علم الفساد وإلا فله أجرة المثل على الإذن له.
(ثانيها): أن يعين السنة الأولى من سني إمكان الحج من بلد الإِجارة أو يطلق وينزل الإطلاق عليها.
(ثالثها): أن يقع العقد في زمن خروج الناس من ذلك البلد بحيث يشتغل عقب العقد بالخروج أو بأسبابه كشراء الزاد ونحوه ولا يضير انتظار خروج القافلة الخارجة بعد العقد حيث يخشى من خروجه وحده نحو وحشة ولو جدّ في السير فوصل الميقات قبل أشهر الحج بطلت الإجارة، والعمرة يستأجر لها سائر السنة إلا من عليه بقية نسك فلا يستأجر عنه.
(رابعها): أن لا يشترط المستأجر على الأجير تأخير العمل.
(خامسها): قدرة الأجير على الشروع في العمل عقب الإجارة بأن لا يقوم به نحو مرض أو خوف.
(سادسها): اتساع المدة لإدراك الحج بعد العقد.
(سابعها): أن يكون الأجير قد حج عن نفسه، وقال أبو حنيفة ومالك بجواز حج الضرورة عن غيره مع الكراهة.
(ثامنها): أن لا يخالف الأجير في كيفية أداء ما استؤجر له، فإن أبدل الأجير بقران أو تمتع بإفراداً أو بإفراد تمتعاً انفسخت الإجارة.
(تاسعها): أن لا يفسد الأجير نسكه وإلا انفسخت الإجارة وانقلب النسك له ويلزمه ما يلزم المفسد لنسكه.
(عاشرها): أن لا يؤخر الأجير الإحرام عن أول سني الإمكان فإن أخره انفسخت الإجارة فإن حج عنه في الثانية وقع الحج للمستأجر واستحق الأجير أجرة المثل. =

(1/108)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= (حادي عشرها): حياة الأجير إلى تمام أركان النسك، فلو مات قبل الإحرام فلا شيء له من الأجرة أو بعد الإحرام وقبل تمام الأركان أثيب المحجوج عنه على ذلك واستحق الأجير قسطه من المسمى أو من أجرة المثل كالعامل في المجاعلة، ويعتبر ذلك من ابتداء السير وتنفسخ الإِجارة فإن مات بعد تمام الأركان دون باقي الأعمال الواجبة والمسنونة لم يؤثر ذلك على صحة الإجارة لكن يلزم الأجير قسط ما بقي من الواجبات والسنن وتجبر الواجبات بدماء وهي على المستأجر لوقوع النسك له مع عدم إساءة الأجير.
(ثاني عشرها): أن لا يقع على الأجير حصر يتحلل بسببه وإلا كان كموت الأجير في التفصيل السابق آنفاً.
(ثالث عشرها): أن لا يفوت الحج على الأجير وإلا انقلب له ولزمه ما يلزم في الفوات إذا كان النسك له وانفسخت الإجارة.
(رابع عشرها): أن لا ينذر الأجير النسك الذي استؤجر له قبل الوقوف بعرفات في الحج وقبل الطواف في العمرة وإلا انصرف له كما لو أحرم بتطوع ثم نذره فإنه ينصرف لفرضه وانفسخت الإجارة.
وأما شروط الإجارة الذمية فهي تخالف الإجارة العينية في الشروط السابقة فيها، فلا يشترط هنا أن يباشر الأجير عمل النسك الذي استؤجر له بنفسه ولا قدرته على الشروع في العمل ولا أن يكون قد حج عن نفسه ولا يقدح في ذلك خوف الأجير أو مرضه إذ له الإنابة فيها ولا بلا عذر ولو بشيء قليل دون ما استؤجر به، ويجوز له حينئذ كل الزائد، نعم يلزمه أن لا يستأجر إلا عدلاً، وأما وكلاء الأوصياء في الاستئجار فيجب عليهم أن يستأجروا بالمال المدفوع إليهم جميعه ولا يحل لهم أخذ شيء من ذلك المال وإلاّ فسقوا وعزروا، وكذلك الوصي حيث علم بأحوالهم ووكلهم، وكذلك الفقيه العاقد بينهما إذا علم.
ويصح تعيين غير السنة الأولى من سني الإمكان فإن قدم الأجير النسك على السنة المعينة فقد زاد خيراً وعند الإطلاق ينصرف إلى الأولى كإجارة العين ولا تنفسخ الإجارة بإفساد الأجير لنسك ولا بتحلله بالإحصار ولا بفوات الحج ولا نذر الأجير النسك قبل الوقوف أو الطواف في العمرة لكن حيث لزم من ذلك تأخير النسك يخير المستأجر بين الفسخ وعدمه ويكون خياره على التراخي، قال: والذي تلخص للفقير من ذلك شرطان: =

(1/109)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= (أحدهما): حلول الإجارة فيمتنع فيها تأجيلها سواء تأخر العمل عن العقد أم اتصل به بخلاف إجارة العين.
(ثانيهما): تسليمها في مجلس العقد كرأس مال المسلم فيمتنع الاستبدال عنها والحوالة بها وعليها والإبراء منها ويثبت فيها خيار المجلس بخلاف العينية فإن الأصح عدم ثبوته فيها، وتحصل إجارة الذمة بنحو ألزمت ذمتك حجة لي أو لمورثي أو لفلان بكذا.
وقال: ويشترط في كل من إجارة العين والذمة شروط فإن انتفى شرط منها فسدت سواء كانت عينية أو ذمية:
(أحدها): علم المتعاقدين أعمال النسك عند العقد أركانه وواجباته وسننه وتردد ابن حجر في حاشية الإيضاح في المراد بالسنن هل هي المجمع عليها أو الشهيرة من مذهب الأجير وهي ما لا يخفى على من له إلمام بالمناسك. قال: وفي كل من هذين الاحتمالين مشقة لا تخفى ولهذا رأينا المتورعين يعدلون إلى الجعالة لأنه يغتفر فيها الجهل بالعمل.
وتردد أيضاً في الحاشية في المراد بالأركان والواجبات والسنن هل هي على مذهب الأجير أو المستأجر له وعلى كل فلو استأجر من يظنه موافقاً في مذهبه فبان مخالفاً فهل يتخير في الفسخ ويجب في صورة الميت أو لا يتخير؟ قال: ولعل الثاني أقرب أي بناء على أنه يلزمه تقليد إمام المستأجر له فيأتي بالأعمال على مذهبه.
(ثانيها): أن ينوي النسك عمن استؤجر له ولا بد من نوع تعيين له عند العقد كمن أوصاني أو أتبرع عنه وعند الإحرام كمن استؤجرت له ولا يشترط معرفته.
(ثالثها): كون الأجرة معلومة، فإن كانت في الذمة اشترط العلم بها جنساً وقدراً وصفة، وإن كانت معينة اشترط معاينتها.
(رابعها): استجماع ما اشترطوه في البائع والمشتري من الرشد وعدم الإكراه والجنون وغير ذلك.
(خامسها): يشترط في الأجير لحج الفرض خاصة، ولو قضاء أو نذراً، الحرية والبلوغ، وأما الذكورة والأنوثة فلا تشترط فتصح إنابة الرجل عن المرأة وعكسه.
(سادسها): كون المحجوج عنه ميتاً أو معضوباً أذن في الحج عنه.
(سابعها): بيان أنه إفراد أو تمتع أو قران إن كان الاستئجار للحج والعمرة أو للنسك، فإن أبهم بطل لكنه يقع للمستأجر بأجرة المثل. =

(1/110)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= (ثامنها): أن لا يشترط المستأجر على الأجير مجاوزة الميقات بلا إحرام وإلا فسدت الإجارة ومن ذلك أن يشترط المستأجر عن الآفاقي على الأجير المكي ونحوه أن يحرم من مكة أو من دون مسافة ميقات المحجوج عنه وإن لم يشترط ذلك المستأجر على الأجير وفعله الأجير بنفسه لزمه دم مجاوزة الميقات وحط القسط من الأجرة ولا يشترط تعيين الميقات بل يحمل على ميقات المحجوج عنه وله العدول عنه إلى مثل مسافته وكذا إلى ميقات آفاقي أقرب من ميقات المحجوج عنه على نزاع فيه.
(تاسعها): أن يكون الأجير عدلاً في غير معين الموصي العالم بفسقه وإلا لم تصح إنابته ولو مع المشاهدة، والمراد العدالة الظاهرة دون الباطنة.
(عاشرها): أن يكون النسك المستأجر له مما يطلب فعله من المجوج عنه وإلا بطلت الإجارة.
(حادي عشرها): أن يكون بين المعضوب وبين مكة مسافة القصر فأكثر وإلا لم يجز له الإنابة حتى يموت فيحج عنه بعد موته.
(ثاني عشرها): أن يوصي الميت بأداء النسك عنه إن كان النسك تطوعاً وإلا فلا يصح.
(ثالث عشرها): أن لا يتكلف المعضوب الحج ويحضر مع أجيره بعرفة وإلا انفسخت الإجارة ووقع الحج للأجير مع استحقاقه الأجرة.
(رابع عشرها): أن لا يشفى المعضوب من عضبه وإلا وقع الحج للأجير ولا أجرة له هذا آخر شروط الإجارتين فتكون شروط العينية ثمانية وعشرين شرطاً، وشروط الذمية ستة عشر شرطاً. ثم قال: الباب الرابع في الجعالة وهي تجامع الإجارة في كثر الأحكام وتفارقها في أمور:
في جوازها على عمل مجهول وصحتها من غير معين وكونها جائزة من الطرفين، وتنقسم كالإجارة إلى قسمين: عينية كجاعلتك لتحج، سواء قال بنفسك أم لم يقل، وذمية كألزمت ذمتك تحصيل كذا، ففي الأولى لا بد أن يعين أوّل سني الإمكان أو يطلق وإلا فلا يصح وهكذا إلى آخر ما ذكرناه في الإجارة العينية يجري نظيره هنا وما سبق في الذمية يجري نظيره في الجعالة الذمية ثم قال: =

(1/111)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= اعلم أنه لا تصح الإجارة على زيارته - صلى الله عليه وسلم - وبحث في التحفة الصحة فيما لو انضبطت كأن كتبت له بورقة وتصح على تبليغ السلام عليه - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الجعالة فلا تصح على الوقوف عند القبر وتصح على الدعاء ثمة ولا يضر الجهل بنفس الدعاء ولو استُجعل شخص من جماعة على الدعاء صح، فإن دعا لكل منهم استحق جُعل الجميع وإن اتحد السير ويجري هنا ما سبق في الإجارة، ففي الجعالة العينية لا بد أن يعين أول سني الإمكان أو يطلق إلى آخر ما ذكر من الشروط، وفي الجعالة الذمية يصح تعيين غير السنة الأولى إلخ.
ويجب على من استأجر أو جاعل بمال ميت أن يعمل في الفسخ وعدمه بما فيه المصلحة للميت. اهـ الملخص من فتح القدير. ثم قال:
خاتمة: الحج عنه - صلى الله عليه وسلم - لا يصح وجعل ثواب الحج له أو لغيره بعد الحج على جهة الدعاء صحيح ولا يصح بيع ثواب حج التطوع ولا غيره من العبادات. اهـ.

(1/112)