الإيضاح
في مناسك الحج والعمرة الباب الثاني
في الإحرام (1)
فَصْلٌ
في ميقات الحج
لَهُ ميقَاتَان زَمَاني وَمَكَانيّ. أمَّا الزمَانيّ فَهُوَ شَوالُ (2)
وَذُو الْقِعْدَةِ (3) وعشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجةِ (4) آخِرُها
طُلُوعُ الْفَجْرِ يَوْمَ العيدِ (5) فَلاَ يَنْعَقِدُ
__________
(1) يطلق على الفعل المصدري فيراد به نية الدخول في النسك إذ معنى أحرم
أدخل نفسه في حالة حَرُم عليه بها ما كان حلالاً، أي نوى الدخول في ذلك وهو
حينئذ ركن سمي بذلك لاقتضائه تحريم الأنواع الآتية، ويطلق على الأثر الحاصل
بالمصدر فيراد به نفس الدخول في النسك أي الحالة الحاصلة المترتبة على
النية، وهذا مرادهم بقولهم ينعقد الإحرام بالنية، وقولهم: نويت الإحرام
وقولهم: يبطل الإحرام بالردة ويفسد بالجماع، والمراد هنا الأول فلو نوى
بقلبه الإحرام أي الدخول في النسك ولم يعين حجاً أو عمرة صح وانعقد عمرة إن
كان في غير أشهر الحج فلا يشترط له التعيين، ولا قصد الفعل ولا نية الفرضية
نعم يجب التعيين فيما لو أحرم مطلقاً في أشهر الحج.
(2) شوال: من شالت الإبل أذنابها إذا حملت فيه.
(3) القعدة: بفتح القاف على الأفْصَح سمي به لقعود العرب فيه عن القتال.
(4) الحجة: بكسر الحاء على الأفصح سمي به لوقوع الحج فيه.
(5) فوقوف المحرم بعد فجر يوم عيد الأضحى لا يجزِئه عن الحج للحديث الصحيح
الذي رواه الخمسة وصححه الترمذي رحم الله الجميع آمين. عن عروة بن =
(1/113)
الإِحْرَامُ بالْحَج في غَيْر هَذِهِ
الْمُدَّة فَإنْ أحْرَمَ به في غَيْرِها لم يَنْعَقِدُ حَجَّاً (1)
وَانْعَقَدَ عمرة (2) مجزئة عن عمرة الإِسلام على الأصح وقيل: يَنْعَقِدُ
عمرة ولا تجزئه عن عمرة الإِسلاَم وَقِيلَ: لاَ تكون عُمْرَة بلْ
يَتَحَلَّلُ بعَمَل عُمْرَةٍ وقيلَ: لا يَنْعَقِدُ الْحَج في لَيْلَة
الْعيدِ بَلْ حُكْمُهَا حُكمُ غيرِ أشْهُرِ الْحَج وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْل
أشْهُرِ الْحَج إِحْرَاماً مُطْلَقاً انْعَقَدَ عُمْرَة.
وأما الْمَكَانِيّ فالنَّاس فيه قِسْمَانِ: أحَدهمَا: مَنْ هو بِمَكَّةَ
مكّياً أوْ غَريباً فَميقَاتُهُ بالْحَج نَفْسُ مَكّةَ (3) وَقِيلَ: مَكّةُ
وسائرُ الْحَرَمِ والصَّحيحُ هُوَ الأَولُ ولهُ أنْ يُحْرِمَ مِنْ جَمِيعِ
بقاع مَكةَ.
__________
= مُضَرس رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبل طيىء كللت
راحلتي (أتعبتها) وأتعبت نفسي ووالله ما تركت من حبل (بالحاء المهملة
الكثيب المستطيل من الرمل وقيل الضخم منه) إلا وقعت عليه، فهل لي من حج؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ شهد معنا صلاتنا هذه فوقف
معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمَّ حجه وقضى
تفثه (أدى مناسكه) ".
(1) أي لوقوع الإحرام بالحج في غير أشهره وهي كما تقدم شوال وذو القعدة
وعشر ليال من ذي الحجة لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] فخص فرضه بالأشهر
المعلومات بهذه الآية الخاصة من الآية العامة وهي قوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فهذه الآية محتملة لأن يراد بها أن من الأهلة ما
هو مواقيت لغير الحج ومنها ما هو مواقيت للحج، وهذا مبهم عينته الآية
الأولى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فتعين الأخذ بها كيف وقد صح عن
ابن عباس رضي الله عنه إنه قال: (من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر
الحج)، وهذه الصيغة لها حكم المرفوع، وصَح أيضاً عن جابر رضي الله عنه:
(أهل بالحج في غير أشهره؟ فقال: لا).
(2) أي إنْ كان حلالاً، وإلا فهو لغو لأن العمرة لا تدخل على أخرى، والحج
لا يتقدم على وقته.
(3) أي لا يجوز الإِحرام من خارج مكة ولا من محازاتها ولا من أبعد منها.
هذا في حق من يحرم على نفسه ولو بقران وهو بمكة، أما الأجير والمتبرع بالحج
ولو مكياً =
(1/114)
وَفِي الأَفْضَل قَوْلان للشافعي رَحِمَهُ
الله تعالى الصَّحيحُ مِنْهُمَا أنَّهُ يُحْرمُ من باب دَاره (1) والثاني
مِنَ الْمَسْجِد قَريباً مِنَ البَيْت وَيُسْتَحَب أنْ يكُون إحْرام
المُقيم بمَكَّةَ يَوم التروية (2) وهُوَ الثامن مِنْ ذي الْحِجة وسَوَاء
أرادَ الْمُقِيمُ بمكَّةَ الإِحْرَام بالْحَج مفرِداً أم أرَاد القِران
بَيْن الحَج وَالْعُمْرَة فميقَاته ما ذَكَرْنَاهُ وقيلَ: إنْ أرادَ
القرانَ لزِمَهُ إنْشاء الإِحْرَام مَنْ أدْنَى الحِلِّ كما لو أرادَ
الْعُمْرَةَ وَحْدها والصَّحِيحُ ما قَدَّمْنَاهُ.
القسم الثاني الأفُقيُّ (3) وهُوَ غيرُ المقيمِ بمكةَ وَمَواقيتُهُمْ
خَمْسَةٌ:
أحَدهما: ذُو الحُلَيْفَةِ (4) ميقَاتُ مِنْ تَوَجهَ مِنَ الْمدينَة
الْمُنَوَّرَة وَهُوَ مِنَ
__________
= فيعتبر إحرامهم من ميقات المحجوج عنه، فإن خالفوا بالإحرام من غيره فالدم
عليهم لا على المحجوج عنه، وعند الحنفية العبرة بميقات الحاج وبه قال
الطبري وجماعة من الشافعية.
(1) المعتمد أنه يسن له أولاً: ركعتا الإحرام بالمسجد، ثم يأتي إلى باب
داره فيحرم عند أخذه في السير بنفسه أو دابته إذْ الإحرام لا يسن عقب
الركعتين بل عند الخروج إلى عرفة، ثم يدخل المسجد محرماً لطواف الوداع
المسنون له -كما يأتي إن شاء الله- لا للصلاة.
(2) يستثنى منه العادم لهدي التمتع فليلة الخامس يصوم الخامس والسادس
والسابع ليكون يوم الثامن مفطراً لأنه يوم سفر، وسُمي بالتروية لأنّ الحجاج
كانوا في الزمن السابق يتروون أي يحملون معهم الماء من مكة إلى عرفة،
واليوم والحمد لله موجود في جميع مشاعر الحج.
(3) يجوز في (أفقي) ضم الهمزة والفاء وفتحهما.
(4) الحُلَيْفَة: بضم الحاء وفتح اللام تصغير (الحلفة) بفتح أوليه، واحد
الحلفاء وهو النبات المعروف، وتسمى الآن أبيار علي نسبة إلى علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، وبها بئر يقول العوام إنه قاتل الجن بها، وهذا القول
كذب لا أصل له.
(1/115)
المدينة على نحو ستة أَمْيَال (1) وَبينَهُ
وبينَ مكةَ عَشْرُ مَرَاحلَ (2).
الثاني: الْجُحْفَة (3) مِيقَاتُ الْمُتَوَجهينَ مِنَ الشام على طَريق
تبوكَ وَالْمُتَوَجهِينَ مِنَ مصْرَ والْمَغْربِ وهيَ قَرْيةٌ على نحو
ثَلاَث مَرَاحلَ منْ مكةَ أَوْ أكْثَرَ.
الثالث: قَرن بإسْكان الراء ويُسَمَّى قَرْنَ المنازل (4) وقرن الثعالب وهو
ميقاتُ الْمُتَوَجهينَ مِنْ نَجْد الْحجازِ ومِنْ نَجْد الْيَمَن.
__________
(1) قال العلامة السمهودي -أحد مؤرخي المدينة المنورة- كما في حاشية
العلامة ابن حجر المكي -رحم الله الجميع- اعتبرتها من عتبة باب السلام إلى
عتبة مسجد الشجرة بذي الحليفة فرأيتها تسعة عشر ألف ذراع بتقدم التاء
وسبعمائة بتقديم السين واثنين وثلاثين ذراعاً ونصف ذراع بذراع اليد. انتهى.
وذو الحليفة أبعد المواقيت عن مكة المكرمة.
(2) أي بسير الإبل المحملة والمشي على الأقدام، وأما الآن بالسيارة فست
ساعات أو نحوها.
(3) الجحفة: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة: قرية كبيرة بين مكة والمدينة
وهي أوسط المواقيت، سميت بذلك لأن السيل أجحفها أي أزالها، فهي الآن خراب،
ولذلك بدلوها الآن "برابغ" وهي قبل "الجحفة" بيسير، فالإحرام من رابغ مفضول
لتقدمه على الميقات، إلا إنْ جهلت الجحفة أو تعسر بها فعل السنن للإحرام من
غسل ونحوه، أو خشي من قصدها على ماله فلا يكون الإحرام من رابغ مفضولاً،
فعليه أصبح الآن الإحرام من "رابغ" ليس بمفضول لجهل أكثر الناس بعين
"الجحفة" ولارتفاقهم في المنزل برابغ من حيث المأكل والمشرب، وغير ذلك.
(4) قرن: بفتح القاف، وسكون الراء: وادي السيل الكبير ووادي المحرم، وهما
متصلان، وكلاهما يسمى قرناً، فمن أحرم من أحدهما فقد أحرم من الميقات لكن
يجب الإحرام من نفس وادي السيل من طرفه الموالي لجهة الطائف لا من القهاوي.
(1/116)
الرابعُ: يَلَمْلَم ويقالُ: أَلمْلَم (1)
وهُوَ ميقاتُ الْمُتَوَجِّهينَ مِنْ تِهَامَةَ وَتهامَةُ بَعْض من اليمن.
فَإِن اليمن يَشْمَلُ نَجْداً وتهَامَةَ، قالَ أصْحَابُنَا: وحَيْثُ جاء في
الْحَدِيث وغَيْره أن يَلَملَم ميقَات أهْل الْيَمن فالْمُرَاد ميقَاتُ
تهامَةَ (2) لا كُل الْيَمَن فإن نَجْدَ الْيَمَنِ ميقَاتهُمْ ميقَات
نَجْدِ الْحِجَاز (3).
الخامسُ: ذَاتُ عرْقٍ (4) ميقَاتُ الْمُتَوَجهينَ مِنَ الْمَشْرق كَخُراسان
وَالعراق وهَذه الثلاَثة بينَ كلٍّ منها وبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلتَان.
__________
(1) ويقال أيضاً "يرمرم" براءين مهملتين بدل اللامين، وهو جبل من جبال
تهامة على ليلتين من مكة المكرمة.
(2) أي تهامة اليمن، وسمي "يمناً" لأنه عن يمين الكعبة، "وتهامة" بكسر
التاء وقيل بفتحها اسم لكل ما نزل من نجد، وكان غوراً من التهم وهو شدة
الحر وسكون الرياح، وقيل لتغير هوائها، ومكة منها، ونجد بفتح النون قيل
وضمها اسم لكل ما ارتفع، ثم اشتهر في موضع مخصوص بالحجاز واليمن مشتملان
على نجد وتهامة، فإذا أطلق نجد فالمراد به نجد الحجاز.
(3) وهو قرن وادي المحرم لمن يمر بطريق جبل كرا أو وادي السيل لمن يمر
بطريق الحويّة، وهما متصلان بجبل كرا وكلاهما يسمى قرناً، فمن أحرم من
أحدهما فقد أحرم من الميقات، والطريقان والحمد لله معبدان، لكن يجب على
مريد الإحرام من وادي السيل الإحرام من نفس الوادي من طرفه الموالي لجهة
الطائف لا من القهاوي -كما تقدم- فليتنبه لذلك المحرم وفقنا الله آمين.
(4) عرق: بكسر العين وسكون الراء المهملتين جبل صغير أو أرض سبخة تنبت
الطرفاء، و "ذات عرق": قرية خربة قديمة وهي بين العقيق، وقرية المضيق ووادي
العقيق قبلها، فمن أحرم منه فقد أحرم واحتاط وهذا العقيق غير عقيق الطائف،
وغير عقيق المدينة المنورة الذي ورد فيه الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما
قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: "أتاني
الليلة آت من ربي فقال: صَل في هذا الوادي =
(1/117)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= المبارك وقل عمرة في حجة" فإن هذا بينه وبين المدينة أربعة أميال
تقريباً، وهناك عقيق رابع في طريق بلاد غامد قد جئته عام 1374 هـ أو 1375
هـ أنا والأستاذ عبد الرحمن بن صالح المسفر في سيارة فُرْط موديل (74) أول
خروجها، وصاحب السيارة اسمه أحمد بن خلف الغامدي مسكنه بالصقاع ببلجرشي،
والعقيق كل ما شقه السيل فأنهره. وقد نظم بعض العلماء رحمهم الله تعالى
ورحمنا جميعاً المواقيت مع بيان مسافتها فقال:
قرن يلملم ذات عرق كلها ... في البعد مرحلتان من أم القرى
ولذي الحليفة بالمراحل عشرة ... وبها لجحفة ستة فاخبُرْ ترى
وهذه المواقيت كلها خارج الحرم المكي وعلى حدوده أعلام. قال الإمام النووي
رحمه الله في مجموعه: (واعلم أنّ الحرم عليه علامات منصوبة في جميع
جوانبه)، ذكر الأزرقي رحمه الله تعالى وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل
على نبينا وعليه الصلاة والسلام علمها ونصب العلامات فيها وكان جبريل عليه
السلام يريه مواضعها، ثم أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بتجديدها، ثم
عمر ثم عثمان ثم معاوية رضي الله عنهم، وهي إلى الآن بينة ولله الحمد.
قال الأزرقي في آخر كتاب مكة: أنصاب الحرم التي على رأس الثنية ما كان من
وجوهها في هذا الشق فهو حرم، وما كان في ظهرها فهو حل. اهـ. وقد نظم بعضهم
مسافتها بالأميال فقال:
وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه
وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جِعْرانة
ومن يمن سبع تقديم سينه ... وقد كملت فاشكر لربك إحسانه
أقول:
وقد جدد هذه الأعلام بعد معاوية عبد الملك بن مروان ثم المهدي ثم المقتدر
بالله العباسي، ثم أمر الراضي بالله العباسي بتجديد العلمين من جهة التنعيم
ثم أمر المظفر صاحب إربل بعمارة العلمين من جهة عرفة ثم الملك المظفر صاحب
اليمن، وجددها السلطان أحمد الأول العثماني سنة ألف وثلاث وعشرين هجرية وفي
زمن حكومتنا السنية زمن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود جددت الأعلام من
جهة عرفة، ومن بعض الجهات نسأله تعالى التوفيق لحكومتنا لما يحبه ويرضاه
آمين.
(1/118)
والأفْضَلُ في حقِّ أهل العرَاق والمشرق
أنْ يُحْرمُوا مِنَ العَقيق (1) وهو وَادٍ بِقُرْبِ ذات عرق أَبعَد منها
وأَعْيانُ هذه الْمَواقيت لا تُشتَرطُ بَلْ ما يُحَاذيها في مَعْنَاهَا (2)
والأفْضَلُ في كلّ ميقَات منها أنْ يُحْرمَ من طَرَفه الأَبْعَدِ من مَكَّة
(3) فلو أَحْرَمَ منَ الطَّرَف الآخر جازَ لأَنهُ أَحْرَم منه (4) وهذه
الْمَوَاقيتُ
__________
(1) نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى لأنه الأحوط كما تقدم ولأنه ورد أنه -
صلى الله عليه وسلم -:
"وقت لأهل المشرق العقيق" لكنه ضعيف وإن حسنه الترمذي رحمه الله تعالى وهذه
المواقيت كلها ثبتت بالنص لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة،
ولأهل نجد قرناً ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن
ممن يريد الحج والعمرة، ومن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون
منها) متفق عليه، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود والنسائي، وعن جابر مرفوعاً رواه
مسلم رحم الله الجميع ورحمنا معهم آمين.
وعن الإِمام أحمد رحمه الله قال: لما فتح هذان المصران -الكوفة والبصرة-
أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - حَد لأهل نجد قرناً وأنه جَوْر عن طريقنا، وإن أردنا
أن نأتي قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم قال: فحد لهم ذات
عرق. رواه البخاري رحمه الله تعالى وهذا التحديد من سيدنا عمر رضي الله عنه
هو حيث لم يبلغه النص.
(تنبيه): الاعتبار في هذه المواقيت نفس الموضع لا بما به من بناء ونحوه.
(2) لما ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل الكوفة والبصرة حين شكوا
إليه بُعد قرن عن طريقهم ولم يبلغه النص (فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم
ذات عرق).
(3) أي احتياطاً إلا ذا الحليفة فمن مسجدها الذي أحرم منه - صلى الله عليه
وسلم - ويسمى مسجد الشجرة، لوجود شجرة كانت موضعه، وقيل من البيداء.
(4) منه أي من الميقات وقد تقدم التنبيه، وهو أنه مَنْ أراد الإحرام من
وادي السيل الكبير فليحرم من نفس الوادي من طرفه الموالي لجهة الطائف لا من
القهاوي التي بعد المسيل لأنها ليست موضع الميقات الذي وقته - صلى الله
عليه وسلم - فليتنبه لذلك فقد وقع في ذلك جم غفير من الحجاج والمعتمرين،
فإنهم كانوا يقفون بسياراتهم عند هذه القهاوي ويحرمون =
(1/119)
لأَهْلهَا ولكُل منْ مَرَّ بها مِنْ غير
أَهْلهَا ممَّنْ يُريدُ حَجاً أَو عُمْرَة (1) كَالشَّامي يَمُرُّ بميقَات
أَهْل الْمَدينة ويَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ وُصُوله الميقَاتَ منْ
دُويْرَة أَهْله ومِنْ غيرها وفي الأَفْضَل قَوْلاَن الصَّحيحُ أَنْ
يُحْرِمَ مِنْ الميقَات (2) اقتدَاء برَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -
وَالثاني من دُوَيْرَة أهله أما مَنْ مسكَنُهُ بينَ الميقَات وَمكَّةَ
فَميقاتُهُ القرية التي يَسكُنها (3) والحِلة التي يَنزلُهَا البَدَوِيُّ
ويُسْتَحَب أن يُحْرمَ مِنْ طَرَفها الأبْعَدِ مِنْ مَكَّةَ وَيَجُوزُ مِنَ
الأَقْرَبِ ومن سَلَكَ الْبَحْر أو طَريقاً ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ
المَوَاقيتِ الْخَمْسَةِ أحْرَمَ إذَا حَاذَى (4) أقْرَبَ المَوَاقيتِ
إليهِ (5).
__________
= منها، فيجب على من أحرم من هذه القهاوي الرجوع إلى المسيل والإِحرام منه
وإلا فعليه ما على مجاوز الميقات. هدانا الله لما يحبه ويرضاه آمين.
(1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن
ممن يريد الحج والعمرة".
(2) يستثنى منه الأجير إذا سلك طريقاً ميقاتُها أقرب من ميقات المحجوج عنه
فإنه يسن له الإحرام قبله من محاذاة ميقات المحجوج عنه وقد يجب الإحرام قبل
الميقات كان نذره من دويرة أهله.
(3) كأهل منى وخليص فمسكنه ميقاته، والحرمي ومن بمكة يخرجان للعمرة إلى
أدنى الحل لوجوب الجمع بين الحل والحرم، ومن سكن بين ميقاتين كأهل بدر،
والصفراء، والخيف، فإنهم بعد ذي الحليفة وقبل الجُحْفَة فميقاتهم الثاني
وهو "الجحفة"، ومن كان في طريقه ميقاتان ومَر بعين أحدهما وحاذى الآخر
فالعبرة بما مَر بعينه إذ هو أقوى من المحاذاة كما إذا لم يمر على ذي
الحليفة وسلك طريق الجحفة، فميقاته الجحفة والله أعلم.
(4) أي سامته يميناً أو شمالاً لا أماماً ولا خلفاً.
(5) هذا إذا حاذى ميقاتاً واحداً، فإن حاذى ميقاتين كأن لم يمر بالجحفة،
وإنما سلك طريقاً تكون أقرب إليه عند محاذاتها من ذي الحليفة، فأقربهما
إليه، وإن كان الآخر أبعد عن مكة، فإن استويا قرباً إليه فالأبعد من مكة،
فإن استويا فمحاذاتهما، ويعمل بقول المخبر عن علم ثم يجتهد إن علم أدلة
المحاذاة، وإلا قلد مجتهداً وسن له أنْ يحرم قبله، ويجب ذلك إن تحير وخاف
فوت حج تضيق عليه والله أعلم.
(1/120)
فإنْ لم يُحَاذ شَيْئاً (1) أحْرَمَ عَلَى
مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكةَ (2) فإنْ اشْتبَهَ عَلَيْهِ الأَمْر تَحَرَّى
(3) وطَريقُ الاحْتِيَاط لا تَخْفَى (4).
(فرع): إذا انْتَهَى إنْسَان إلَى الميقَات وَهُوَ يُرِيدُ حَجاً أو
عُمْرَةً لَزمَهُ أنْ يُحْرمَ منهُ فإنْ جَاوَزَه (5) غَيْرَ مُحْرم عصَى
(6) ولزِمَهُ أنْ يعُودَ
__________
(1) كالجائي من سواكن إلى جدة بحراً من غير أنْ يمر برابغ ولا بيلملم
لأنهما حينئذ أمامه فيصل إلى جدة قبل محاذاتهما، وهي على مرحلتين من مكة
فتكون جدة ميقاته.
(2) أي لأنه لا ميقات بينه وبين مكة أقل من هذه المسافة.
(3) أي إنْ لم يجد مخبراً عن علم وإلا لزمه اتباعه.
(4) يفهم منه أن الاحتياط سنة، وهو كذلك، ويجب الاحتياط عند تحيره في
اجتهاده وخاف فوت حج تضيق عليه، كما تقدم والله أعلم.
(5) أي وإن كان حال المجاوزة في غير أشهر الحج، فإنْ جاوزه أي الميقات وهو
كل محل يلزمه الإحرام منه إلى جهة الحرم غير محرم.
(6) عصى: أي إن كان مكلفاً ولم ينوِ العود إليه أو إلى مثل مسافته قبل
التلبس بنسك، أما لو كان مريداً للنسك غير سائر إلى جهة الحرم بل يمنة أو
يسرة جازت مجاوزة الميقات وتأخير الإِحرام إلى محل مسافته إلى مكة مثل
مسافة ذلك الميقات كالجائي من اليمن بحراً فله تأخير إحرامه إلى رأس العلم
المعروف قبل مرسى جدة، ولا يجوز تأخير الإحرام إلى جدة لأنها أقرب من يلملم
بنحو الربع، وقول العلامة ابن حجر المكي ومن وافقه رحمهم الله تعالى من
جواز التأخير إلى جدة مبني على اتحاد المسافة الظاهرة من كلامهم فإذا تحقق
التفاوت وقد حققه الكثير ممن سلك الطريقين، وهم عدد كادوا أن يتواترون،
فالعلامة ابن حجر ومن وافقه قائلون بعدم جواز تأخير الإِحرام إلى جدة أخذاً
من نص تقييدهم المسافة والله أعلم، ومن مَرّ بميقات طريقه أو محل مسافة
القصر من مكة مريداً مكة أو الحرم لا للنسك بل لنحو تجارة كحطاب سن له
الإحرام منه وكره تركه، ويُسَنْ بتركه دم وإن تكرر دخوله خروجاً من خلاف
مَنْ أوجبه كابن عباس وأبي حنيفة رضي الله عنهما فإن جاوزه بغير إحرام ثم
أراد أن يحرم فمحل الإِرادة ميقاته ويسمى (الميقات العنوي) بفتح العين
المهملة والنون -أي الذي عَنّ له الإحرام منه -، أو =
(1/121)
إليه (1) وَيَحْرِم منه (2) إنْ لَم يَكُنْ
لهُ عُذْر فإنْ كَانَ لَهُ عُذْر كَخوفِ الطَّرِيقِ (3) أو الانْقِطَاع عن
الرُّفْقَة أو ضِيقِ الوَقْتِ (4) أحْرَمَ ومَضَى في نُسكِهِ (5) ولَزمَهُ
دَمٌ إذا لم
__________
= (الإِرادي) وهو مثل الميقات الشرعي في الحكم كالميقات (الشرطي) وهو ما
عين للأجير و (النذري) وهو ما عينه في نذره هذا إن كان كلٌ فوق الشرعي فإن
كان دونه لغى الشرط وفسدت الإِجارة ولم ينعقد النذر، وتعين الميقات الشرعي.
(1) لزمه أن يعود إليه أي إلى الميقات أو لمثله بقصد تدارك الواجب محرماً
قبل التلبس بنسك ولو سنة كطواف القدوم، أو ليحرم به ولو ماشياً إنْ قدر ولو
بمشقة تحتمل عادة وإن كان من حاضري الحرم ولا يكفيه دونه وإن كان ميقاتاً
[فإن قيل: يسقط الدم عن المتمتع إذا عاد إلى أي ميقات ولو أقرب] أجيب: إنما
سقط عن المتمتع الدم بعوده لميقات أقرب لأن المدار على كونه ربح ميقاتاً،
وبذلك يتحقق انتفاؤه، والمدار هنا على الإِساءة أصالة وانتفاؤها بذلك غير
محقق والله أعلم.
(فائدة): جاء في تقييدات على الإيضاح: لا يجب الإحرام من الميقات إلا إذا
كان مستجمعاً لخمس شرائط:
الأول: أن يكون قاصداً بهذا السفر دخول مكة أو الحرم ليخرج مَنْ جاوزه
مريداً نحو الطائف.
الثاني: أن يكون قاصداً النسك ولو بغير هذا السفر ليخرج أهل مكة إذا توجهوا
إليها ولم يكونوا مصممين على النسك، ولو كان من عادتهم الحج كل عام.
الثالث: أن تكون المجاوزة إلى جهة الحرم.
الرابع: أن يكون غير ناو العَوْد إليه أو إلى مثل مسافته قبل تلبسه بنسك.
الخامس: أن يكون حراً. اهـ من خط الشيخ ابن سليمان الكردي رحمه الله تعالى
والمعلق والمسلمين والمسلمات آمين.
(2) هذا مجرد مثال وإلا فلو عاد إلى الميقات أو إلى مثل مسافته قبل التلبس
بنسك محرماً كفى، كما يفهم مما مَرّ ومما يأتي في كلام المصنف رحمه الله
تعالى.
(3) أي على نفس محترمة أو بُضع أو مال وإن قَل.
(4) أو سهو عن لزوم العود أو جهل به، وإن خالط العلماء.
(5) أي جوازاً في غير ضيق الوقت ولزوماً فيه حيث غلب على ظنه أنه يفوته
الحج إذا عاد.
(1/122)
يَعُدْ (1) فإنْ عَادَ إلَى الميقَات (2)
قَبْلَ الإِحْرَام فَأحْرَمَ منْه أو بَعْدَ الإِحْرام وَدُخولِ مَكّةَ
قَبل أنْ يطُوفَ (3) أو يفعَلَ شيئاً من أنْواع النُّسك سقط عنه الدمُ وإنْ
عَادَ بَعْدَ فِعْل نُسُك لم يَسْقُطْ عنه الدَّم وسَوَاء في لزُوم الدَّمِ
مَنْ جاوَزَ عامِداً أو جَاهلاً أو ناسياً (4) معذوراً بغيرِ ذلكَ وإنما
يَفْتَرِقُونَ في الإِثْم فلا إثم على الناسي والجَاهلِ ويَأثَمُ العامِدُ.
__________
(1) أي وأحرم بعد المجاوزة وسواء أنوى بعدها عدم الإِحرام أم لا. وأن يكون
إحرامه في تلك السنة.
(2) أي الذي جاوزه أو لمثل مسافته فلا أثر للعود إلى أقرب منه لأنه ألزم
نفسه الإحرام منه بنية النسك عند مجاوزته.
(تنبيه): من خرج من مكة لزيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
مثلاً فزار ثم وصل ذا الحليفة، فإن كان عند الميقات قاصداً نسكاً حالاً أو
مستقبلاً لزمه الإحرام من الميقات بذلك النسك أو بنظيره، وإلا لزمه الدم
بشرطه، وإن كان عند الميقات قاصداً وطنه، أو غيره ولم يخطر له قصد مكة لنسك
لم يلزمه الإحرام من الميقات بشيء وإن كان يعلم إنه إذا جاء الحج وهو بمكة
حج أو أنه ربما حصرت له العمرة وهو بمكة فيفعلها لأنه حينئذ ليس قاصداً
الحرم بما قصد له من النسك، وإنما هو قاصده لمعنى آخر واحتمال وقوع ذلك منه
بعدُ لا نظر إليه، بخلاف ما إذا قصده عند المجاوزة لنسك حاضر أو مستقبل،
فإنه قاصده لما وضع له، فلزمه تعظيمه به أو بنظيره لوجود المعنى الذي وضع
الإحرام لأجله من الميقات فيه قاله ابن حجر في الفتاوى الكبرى. اهـ عمدة
الأبرار بزيادة.
(3) أي قبل أن يشرع في الطواف، ولو طواف القدوم كما سبق سواء أَقبل الحَجَر
بنية الطواف أم لا، لأن تقبيله حينئذ مقدمة للطواف لا منه.
(4) فإنْ قيل صورة السهو يشكل تصورها لأن الساهي عن الإِحرام يستحيل أن
يكون في تلك الحالة مريداً للنسك. أجيب: تتصور فيمن أنشأ سفره من بلده
قاصداً للإحرام وقصده مستمر فسها عنه حين المجاوزة والله أعلم. =
(1/123)
فَصْل
في آداب الإِحرام (1)
وفيه مَسَائِلُ:
أحَدهما: السُّنَّةُ أنْ يَغْتَسلَ قَبْلَ الإِحْرَام غُسلاً يَنْوي به
غُسْلَ الإِحْرَام (2)
__________
= مذاهب العلماء في مسألة إذا جاوز شخص الميقات مريداً للنسك فأحرم دونه
قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: (قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا جاوز
الميقات مريداً للنسك فأحرم دونه أثم. فإن عاد قبل التلبس بالنسك سقط عنه
الدم سواء عاد ملبياً أو غير ملب، هذا مذهبنا، وبه قال الثوري وأبو يوسف
ومحمد وأبو ثور. وقال مالك وابن المبارك وزفر وأحمد: لا يسقط عنه الدم
بالعود. وقال أبو حنيفة: إن عاد ملبياً سقط الدم، وإلا فلا، وحكى ابن
المنذر عن الحسن والنخعي: إنه لا دم على المجاوز مطلقاً، قال وهو أحد قولي
عطاء، وقال ابن الزبير: يقضي حجته ثم يعود إلى الميقات فيحرم بعمرة، وحكى
ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أنه لا حج والله أعلم). اهـ.
(1) الإِحرام لغة الدخول في التحريم يقال: (أشتى) إذا دخل في الشتاء. و
(أرْبَعَ) إذا دخل في (الربيع) و (أنْجَد) إذا دخل نجداً، و (أتْهَمَ) إذا
دخل في تهامة، و (أصبح) و (أمسى) إذا دخل في الصباح والمساء، وشرعاً نية
الدخول في النسك وسمي الدخول في النسك إحراماً لأن المحرم بإحرامه حرم على
نفسه أشياء كانت مباحة كالنكاح والطيب والصيد واللباس، وجميع محرمات
الإِحرام.
(2) وكذا سائر الأغسال المسنونة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما
الأعمال بالنيات" ولتمييز العبادة عن العادة، قال بعضهم رحمه الله تعالى:
إذا أراد الغسل للمسنونات نوى أسبابها إلا الغسل من الجنون والإِغماء فإنه
ينوي به الجنابة.
(1/124)
وَهو مُسْتَحَب لكل مَنْ يَصح منهُ
الإِحْرَام (1) حتى الحائض والنُّفساء (2) والصبي فإنْ أمكَنَ الحائض
المقامُ بالميقاتِ حتَّى تَطْهر وَتَغْتَسلَ ثم تُحْرِم فَهُوَ أَفْضَلُ
ويصحُّ مِنَ الحائضِ والنُّفَسَاء جميع أعْمَال الحج إلاَّ الطَّوافَ
ورَكْعَتَيْهِ فإنْ عَجَزَ المُحْرِمُ عن الماء تَيَمَّمَ (3) وإنْ وَجَدَ
ماءً لا يكفيه للْغُسْل تَوَضَّأ به ثُمَّ تَيَممَ، فَإنْ تَرَكَ الغُسْل
مع إمْكَانه كُرهَ ذلك (4) وصح إحرَامُهُ ويُسْتَحَبُّ للحَاج الغسلُ (5)
في عَشَرَةِ مَواضعَ: للإحْرام (6) ولدُخُول مكّة (7)
__________
(1) أي وغيره كالمجنون والصغير وليه، وينوي عنه.
(2) أي بنية الغسل.
(3) هو المعتمد لأن الغسل يراد به العبادة والنظافة، فإذا تعذر أحدهما بقي
الآخر، ولأن التيمم ينوب عن الواجب فالمندوب أولى وبه قالت الحنابلة رحمهم
الله. وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لا يستحب التيمم واختاره
الموفق رحمه الله تعالى وقال: والصحيح أن التيمم غير مسنون لأنه غسل غير
واجب فلم يستحب التيمم له عند عدم الماء كغسل الجمعة، والفرق بين الواجب
والمسنون أن الواجب شرع لإباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقامه في ذلك،
والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة والتيمم لا يحصل هذا بل يحصل شعثاً
وتغبيراً. اهـ. وقالت الحنفية رحمهم الله: التيمم لغسل الإحرام عند العجز
عن الماء ليس بمشروع لأنه ملوث إلا إذا أراد صلاة سنة الإحرام، فإنه يتيمم
لها حينئذ، وعند المالكية رحمهم الله أن من لم يجد ماء يغتسل به للإحرام أو
وجده ولكن خاف باستعماله ضرراً أو زيادته أو تأخير برء فإنه لا يتيمم
للإحرام. اهـ. مفيد الأنام ونور الظلام للشيخ ابن جاسر رحمه الله تعالى.
(4) مثله ما لو أحرم جنباً.
(5) الغسل للعبادة والنظافة كما تقدم.
(6) أي بحج أو عمرة أو بهما.
(7) ولو حلالاً من بئر ذي طوى بفتح الطاء أفصح من ضمها وكسرها، وهذه البئر
بمحلة جرول أمام مستشفى الولادة واسمها مكتوب على بابها للاتباع، ومثل دخول
مكة دخول الحرم المكي والمدني، والمدينة المنورة والكعبة وهذا الغسل وجميع
الأغسال تسن ما لم يتقدم غسل قريب مطلوب هذا حيث لم يحدث تغير كأن خرج من
مكة فأحرم بعمرة =
(1/125)
وللوقوفِ بِعَرَفَةَ (1) وللْوُقُوف
بمُزْدَلِفَةَ (2) بعدَ الصبْح يَوْمَ النَّحْرِ ولِطَوَاف الإِفَاضَةِ
وللْحلق وثَلاَثَةُ أغْسَالٍ لرَمْي جمار أيامِ التَشْرِيق (3) وِلَطَوَاف
الودَاع ويَسْتَوي في اسْتحْبَابَها الرجُلُ والمَرْأةُ والحائضُ (4) ومَنْ
لم يجدْ ماءً فحكْمُهُ ما سَبَقَ (5).
المَسْألَة الثَّانيةُ: يُسْتَحَب أنْ يَسْتكملَ التنْظيف بحَلْق العَانة
(6) وَنَتْفِ الإِبط وَقَصِّ الشَّارب وَتَقْليم الأَظفَار ونحوها ولَو
حَلَقَ الإِبطَ بَدَلَ النَّتفِ ونتف العَانةَ فَلاَ بأس.
__________
= من التنعيم واغتسل للإحرام، فلا يسن الغسل للدخول وإلا فيسن مطلقاً، ولا
يضر الفصل بين الغسل والإِحرام بزمن قليل لا يغلب فيه التغيير بخلاف التيمم
لأن المدار فيه على العبادة لا النظافة ويؤيد ذلك قول القاضي عياض رحمه
الله إنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل بالمدينة عند خروجه لذي الحليفة ثم
أحرم منها، ولو فات هذا الغسل ندب قضاؤه بعد الدخول وكذا بقية الأغسال
والله أعلم.
(1) الأفضل كون الغسل "بنمرة" بعد الزوال ويدخل وقته بالفجر كالجمعة.
(2) أي بمشعرها ويدخل وقته بنصف الليل كغسل العيد فقوله بعد الصبح ظرف
للوقوف، لا للغسل.
(3) الظاهر دخول وقته بالفجر كغسل الجمعة بجامع أن كلا يفعل لما بعد
الزوال.
(4) لا يأتي في الحائض ما ذكر من الطواف ومثلها في هذا الباب النفساء كما
أشار إليه المصنف رحمه الله فيما مر.
(5) أي من التيمم، فإن وجد من الماء بعض ما يكفيه فالذي يتجه أنه إن كان
ببدنه تغير أزاله به وإلا فإن كفى الوضوء توضأ به، وإلا غسل بعض أعضاء
الوضوء، وحينئذ إنْ نوى الوضوء تيمم عن باقيه غير تيمم الغسل وإلا كفى تيمم
الغسل، فإن فضل شيء عن أعضاء الوضوء غسل به أعالي بدنه.
(6) حلق العانة وما عطف عليه محله لغير مريد التضحية في عشر ذي الحجة ووقته
قبل الغسل، ويسن الجماع قبل الإِحرام ويتأكد لمن يشق عليه تركه.
(1/126)
الثَّالِثَةُ: يَغْسلُ رَأسَهُ بسِدر أو
خطْمِيّ أو نَحوه وُيسْتَحَبُّ أن يُلَبِّدَه (1) بصَمْغ أو خطْمي أو
غاسُول ونَحْوه.
الرابعة: يَتَجَرَّدُ (2) عَنْ الملْبُوس الذي يَحْرمُ عَلَى المحرم
لِبْسُهُ ويَلْبَسُ إزاراً ورداءً والأفْضَلُ أنْ يكونا أبْيَضَيْن (3)
جَدِيدَيْن أو نَظِيفَيْن (4) وَيُكْرَهُ المصبُوغُ (5)
__________
(1) أي بأن يعقص شعر رأسه ويضرب عليه بصمغ أو خطمي أو غاسول أي أشنان لدفع
نحو القمل وإن طال زمنه واعتاد الجنابة أو الحيض.
(2) أي الرجل لا الخنثى لأنه - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله فلو أحرم
في ثيابه المحيطة صح إحرامه وعليه الفدية كما سيأتي إن شاء الله في الباب
السابع وصريح كلام المصنف رحمه الله أن التجرد سنة لكنه مشى في المجموع
كالرافعي في العزيز أنه واجب وعند الحنفية التجرد مستحب وليس بواجب قبل
الإِحرام حتى لو أحرم وهو لابس ينعقد ويكره، وعند المالكية التجرد عن
المحيط واجب، وعند الحنابلة واجب وليس بشرط.
(3) أي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير ثيابكم البياض" الحديث رواه
الطبراني رحمه الله تعالى.
(فائدة): لا يضطبع المحرم حال الإِحرام وإنما يُسَن الاضطباع له حال الطواف
وهو أن يجعل الذكر وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر
ويترك منكبه الأيمن مكشوفاً كما سيأتي، ولا بأس أن يُبَدل المحرم الإِزار
والرداء بغيرهما، قال الإِمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه وقال
إبراهيم النخعي: لا بأس أن يبدل المحرم ثيابه. قال الحافظ ابن حجر
العسقلاني رحمه الله في الفتح أي يغير المحرم ثيابه ما شاء والله أعلم.
(4) في بعض الكتب: (جديدين وإلا فنظيفين ويجوز إحرامه في ثوب واحد بعضه على
عاتقه).
(5) أي ولو قبل النسج على المعتمد، ومحله إن وجد البياض، وإلا فما صُبغ قبل
النسج أولى مما صبغ بعده لأن هذا لم يلبسه - صلى الله عليه وسلم - بخلاف
الأول، فقد روى البيهقي رحمه الله أنه - صلى الله عليه وسلم - كان له برد
أخضر يلبسه في العيدين والجمعة، ومحله أيضاً في غير المعصفر والمزعفر لحرمة
لبسهما على كلام في المعصفر وإنما كرهوا هنا المصبوغ =
(1/127)
وَيَلْبَسُ نعلين (1) ثمّ يَتَطَيَّبُ (2).
والأَولَى أَنْ يقْتَصر على تَطْييب بَدَنه دُون ثِيابِهِ (3) وأنْ يكونَ
بالمِسْكِ (4)
__________
= بغيرهما مطلقاً بخلافه في نحو الجمعة لأن المحرم أشعث أغبر فلم يناسبه
المصبوغ مطلقاً، وهل يكره المصبوغ بعضه، وإن قل؟ قال العلامة المحقق ابن
حجر المكي رحمه الله: فيه نظر، ولا يخفى أنه خلاف الأولى.
(1) أي لما رواه أبو عوانة رحمه الله في صحيحه من قوله - صلى الله عليه
وسلم -: "ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" وصححه ابن المنذر رحمه الله
تعالى. ويشترط في النعلين أن لا يحرمان بالإِحرام نحو التاسومة والمداس
المعروف من كل ما يظهر منه رءوس الأصابع والعقب فإن فقده حسَّاً أو شرعاً
واحتاج لوقاية الرجل كأن كان الحفاء غير لائق به فليلبس ما يستر الأصابع أو
العقب كخف قطع أسفل كعبيه.
(2) أي في بدن لغير الصائم والبائن فيكره لهما، إلا إذا كانت لهما رائحة
يُتأذى بها وتوقفت إزالتها على تطييبهما ولغير المحِدة فيحرم عليها.
(3) أي اتفاقاً وهو المعتمد ويُباح الطيب في إزاره وردائه وغيرهما على
الأصح قياساً على البدن، قال في التحفة: لكن المعتمد ما في المجموع أنه لا
يندب تطيبه جزماً للخلاف القوي في حرمته، ومنه يؤخذ أنه مكروه كما هو قياس
كلامهم رحمهم الله في مسائل صَرّحوا فيها بالكراهة. اهـ. ومذهب الحنابلة
رحمهم الله كالشافعية رحمهم الله، وعند الحنفية رحمهم الله يتطيب، والأفضل
بما لا يبقى أثره، والأولى عندهم أن يطيب ثيابه، وعند المالكية رحمهم الله
يكره لمريد الإِحرام أن يتطيب، واحتجوا بحديث يعْلى بن أمية رضي الله عنه
أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف ترى في
رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -يعني
ساعة- ثم قال: "اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة، واصنع في
عمرتك ما تصنع في حجتك" متفق عليه، ولأنه يمنع من ابتدائه فمنع عندهم من
استدامته، وحجة الثلاثة قول عائشة رضي الله عنها: (كنت أطيب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) ولما
سيأتي عنها أيضاً قال العلامة الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين
جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قضية صاحب الجبة كانت عام حنين
والجعرانة سنة ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر أي فهو ناسخ. اهـ.
(4) أي لأنه الذي تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - التطييب به بخلاف غيره
بل يكره التطيب بالزباد =
(1/128)
والأَفْضَلُ أنْ يَخْلطَهُ بماء الورْد أو
نَحْوِه لِيذْهَبَ جِرْمه ويَجُوزُ بما يَبْقى جرْمَهُ (1) ولهُ
اسْتِدَامَةُ لبس ما بقي جِرْمُهُ بعدَ الإِحْرام على المذهبِ الصَحيح ولو
انْتَقَلَ الطِّيبُ بعدَ الإحْرام مِنْ مَوضع إلى مَوْضع بالْعَرَق ونحوهِ
لم يَضُرّ (2) ولا فِدْيةَ عليه على الأَصَحِّ وقيلَ عليه الفِدْيةُ إنْ
تركَهُ بعد انتقاله ولَوْ نَقَلَهُ باخْتيارِه أو نَزَعَ الثَّوْبَ
المُطَيب ثم لبسَهُ لزمه الفديةُ (3) علَى الأَصحِّ وسَوَاء فيما
ذَكَرْناهُ من الطِّيبِ الرَّجُلُ والمَرْأةُ (4) وَيُسْتَحَب للمرْأة (5)
أنْ تَخْضِبَ يَدَيْها بالحنَّاء إلى الكُوعَيْن قبْلَ الإحْرَام
وَتَمْسَحَ وجْهَها بشيء من الحناء لتَسْتُرَ الْبَشَرَةَ لأَنَّها
مأمُورَة بكَشْفها وسَوَاء في اسْتحباب الخضاب المُزَوَّجةُ وغَيْرُها
والشابَّةُ والعَجُوزُ وإذا خَضَبَتْ عَممت اليَدَين ويُكْرَهُ النَّقْش
والتَّسْويدُ وَالتطْريفُ وهو
__________
= لأن الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول بنجاسته، قيل: ولأنه طيب النساء.
اهـ حاشية.
(1) أي لقول عائشة رضي الله عنها الذي رواه البخاي ومسلم: (كأني أنظر إلى
وبيص) أي لمعان الطيب وبريقه (في مفرق) بكسر الراء وسط رأس رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - (وهو محرم).
(2) لحديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أبو داود رحمه الله: (كنا نخرج مع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند
الإِحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي - صلى الله عليه
وسلم - فلا ينهاها) وفي رواية: (ولا ينهانا).
(3) إن بقيت رائحة الطيب ولو بظهورها عند رش الماء عليه وتتكرر الفدية
بتكرر النقل والنزع كما يعلم مما يأتي، أما لو تعطر ثوبه بما على بدنه
فتبقى ريحه فيه لم يضر نزعه ثم لبسه.
(4) أي للحديث الذي رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها السابق: كنا نخرج
مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند
الإِحرام ... الحديث.
(5) أي غير المحدة فخرجت هي والخنثى والرجل فيحرم عليهم الخضاب إلا للضرورة
والبائن فلا يسن لها الخضاب.
(1/129)
خضْبُ بَعْض الأصابع (1) ويُكْرَهُ لَهَا
الخِضَابُ بَعْدَ الإِحْرام (2).
والخامسة: ثُم بَعْدَ فِعلهِ ما ذَكَرْنَاهُ يُصَلي ركْعَتَين يَنْوي بهما
سُنةَ الإِحْرام يقْرَأ فيهِمَا بَعْدَ الْفَاتِحَة {قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (3) فإنْ كان هُنَاكَ
مَسجد صَلاهُمَا فيه فإنْ أحرَمَ في وَقت فَريضَة فصلاهَا أغْنَتْهُ عن
رَكْعَتَي الإِحرام (4) ولو صَلاهُمَا مُنْفردتَيْن عن الفَريضَة كانَ
أفْضَل فإنْ كَانَ الإِحْرَامُ في وَقْت كَرَاهَة الصَّلاَة لم يُصَلهِمَا
(5) على الأصَحِّ ويُسْتَحَب أنْ يُؤَخرَ الإِحْرَام إلى خُرُوج وَقْت
الكَرَاهَةِ ليُصَليهما.
السادسة: إذا صَلى أحْرَمَ وفي الأَفْضَلِ من وَقت الإِحْرَام قَوْلان
للشَّافعِي رحمهُ اللهُ تَعالى:
أحَدُهمَا: الأفضَلُ أنْ يحرمَ عَقيبَ الصَّلاَة وَهُوَ جَالِس (6).
__________
(1) أما الخضاب بالسواد والنقش وتطريف بعض الأصابع به وتحمير الوجنة فجائز
لحليلة أذن لها حليلها، فإن كانت خليّة أو لم يأذن لها ولا علمت رضاه حرم.
اهـ حاشية.
(2) قال في الحاشية: في الكراهة نظر إنْ كان بالحناء لوجهها أو يديها وقصدت
به سترهما تداركاً لما فوتته من ندب فعل ذلك قبل الإحرام بل لو قيل بالندب
في هذه الصورة لم يبعد. اهـ.
(3) وجه مناسبتهما اشتمالهما على إخلاص التوحيد بالقصد إلى الله تعالى
المتأكد على المحرم مراعاته.
(4) مثلها كل نافلة فتجزىء عنها في إسقاط الطلب وكذا في حصول الثواب إنْ
نويت نظير ما مر من صلاة الاستخارة. اهـ حاشية.
(5) هو المعتمد لتأخر سببهما.
(6) وبه قال الأئمة أبو حنيفة وأحمد وداود رحمهم الله، قال في الحاشية ويدل
له حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم -: (أهل في دبر الصلاة) رواه
الأربعة وحسنه الترمذي وصححه =
(1/130)
والثاني: أنْ يُحْرِمَ إذا ابْتَدأ السير
راكباً كان أو ماشياً (1) وهذا هو الصَّحيحُ (2) فَقَدْ ثَبَتَ فيه
أحادِيثُ مُتَّفَقٌ على صحتهَا والحديثُ الواردُ بالأَوَّلِ فيه ضعْفٌ
ويُسْتَحَبُّ أنْ يَسْتَقْبِلَ القبلَةَ عنْدَ الإِحْرَام. وَأما المكّيُّ
فإنْ قُلْنَا الأَفْضَلُ أنْ يُحْرمَ من بَاب دَاره صَلَّى رَكْعَتَين في
بيته ثُمَّ يُحْرمُ عَلَى بابه ثُمَّ يَدْخُلُ المسجد ويَطُوفُ ثُمَّ
يَخْرُجُ، وإنْ قُلْنَا يُحْرمُ مِنَ المسْجد دَخَلَ المسجد وطَافَ ثم
صَلَّى رَكْعَتَين ثُمَّ يُحْرمُ قَريباً مِنَ الْبَيْت كما سَبقَ (3).
__________
= الحاكم على شرط مسلم لكن ضعفه البيهقي وجزم به المصنف هنا. وقال السبكي
رحمه الله: لولا كثرة الأحاديث واشتهارها بإحرامه - صلى الله عليه وسلم -
عند إنبعاث راحلته لكان في هذا زيادة علم عليها. اهـ.
(1) هذا معنى انبعاث الراحلة الوارد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المروي
في الصحيحين: (لم أرَ رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به
راحلته).
(2) وبه قال الإمام مالك والجمهور وقال الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد
وداود رحم الله الجميع إذا فرغ من الصلاة وهو القول الأوَل للشافعي رحمه
الله وقد تقدم مع دليله.
(3) المعتمد ما تقدم في التعليق على الباب الثاني في الإحرام مع أنه يُسَن
له أي المكي أولاً ركعتا الإِحرام بالمسجد ثم يأتي إلى باب داره فيحرم عند
أخذه في السير بنفسه أو دابته إذ الإِحرام لا يُسَن عقب الركعتين بل عند
الخروج إلى عرفة ثم يدخل المسجد محرماً لطواف الوداع المسنون له ولكل من
أراد الخروج من مكة لغير مسافة القصر إلى غير وطنه.
(1/131)
فَصْلٌ
في صفة الإِحرام (1) وما يكون بعده
صفَةُ الإِْحْرَام أنْ يَنْويَ بقْلبهِ الدُّخُولَ في الحَج والتلَبس به
(2) وإنْ كانَ مُعْتمراً نَوَى الدُّخُولَ في العُمْرَة وَإنْ كانَ قَارناً
نَوَى الدُّخُولَ في الْحَج وَالْعُمْرَةِ وَالْوَاجِبُ أنْ يَنْوِيَ هَذَا
بقلْبه (3) ولا يجبُ التلَفظُ به ولا التلبيةُ ولكن الأفْضلُ أنْ يتلَفّظ
به بلسَانه وأَن يُلبّي (4) لأَنَّ بَعْضَ العُلَماء قال: لاَ يصح
الإِحْرَامُ حَتى يُلبي (5) وبه قَالَ بَعْضُ (6) أصْحَاب الشَّافعي
رَحمَهُمُ الله تَعَالَى فالاحْتِيَاطُ أنْ
__________
(1) أي الصفة المحصلة للإحرام وهو إما يطلق ويراد به النية ومنه قولهم
الإحرام ركن، أو الصفة المحصلة للداخل في النسك بشرط النية وهي التي يفسدها
الجماع قبل التحلل وتبطلها الردة وليست التجرد. ومنه قولهم لا يصح الإِحرام
إلا بالنية وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في التعليق على الباب الثاني.
(2) هذا بالنسبة لمريد التعيين، أما مريد الإطلاق فصفة إحرامه أن ينوي
بقلبه الدخول في النسك من غير تعيين حج ولا عمرة كما سيذكر إن شاء الله
تعالى.
(3) لعموم حديث: (إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه من رواية سيدنا عمر بن
الخطاب رضي الله عنه.
(4) مستقبلاً القبلة لفعله - صلى الله عليه وسلم - ولنقل الخلف عن السلف
وهو مذهب الحنابلة وأبي يوسف كالشافعية.
(5) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: لا ينعقد الإحرام إلا بالنية مع
التلبية أو مع سوق الهدي واحتج بأنه - صلى الله عليه وسلم - (لَبّى) وقال:
"لتأخذوا عني مناسككم" وحمل الأولون أحاديث التلبية على الاستحباب وعند
المالكية حقيقة الإحرام نية النسك وينعقد بمجرد النية على الراجح عندهم ولو
لم يحصل قول ولا فعل يتعلقان به من تلبية وتجرد من المحيط ومقابل هذا قول
العلامة خليل رحمه الله تعالى مع قول أو فعلٍ تعلقا به، وحكى الخطابي رحمه
الله وجوب التلبية عن مالك رحمه الله تعالى.
(6) قال أبو عبد الله الزبير من الشافعية المتقدمين لا ينعقد الإِحرام إلا
بالنية والتلبية كما لا تنعقد الصلاة إلا بالنية والتكبير.
(1/132)
ينْوِيَ بقَلبه ويقُولَ بلسانه وَهُوَ
مُسْتَحضرٌ نية القلْب: نَوَيْتُ الحجّ وأَحرمت به لله تَعَالى لَبيْكَ
اللَّهُمَّ لَبيْكَ إلَى آخر التلبية، وإنْ كَانَ حَجهُ عَنْ غَيْره
فَلْيقُل: نَوَيْتُ الحَج عَنْ فُلاَن وَأحْرَمْتُ به لله تَعَالَى عَنْهُ
لبيكَ عَنْ فُلاَن إلَى آخر التَّلْبِية. قَال الشَّيْخُ أبُو مُحَمَّد
الجُويني: وَيُسْتَحَب أنْ يُسَميَ في هَذه التلبية ما أحْرَمَ به من حَج
أوْ عُمْرة فَيقُول: لَبيكَ اللَّهُمَّ بحجة لبيكَ إلَى آخرها (1) أو لبيكَ
اللَّهُمَّ بعُمرة أو بحَجَّة وعُمْرة قالَ: ولا يَجْهَرُ بهذه التلْبية
(2) بل يُسْمعُهَا نفسه بخلاف ما بَعْدها فإنّه يَجْهَرُ به وأما ما بعدَ
هذهِ التلبيةِ فهل الأَفْضَلُ أنْ يذْكُرَ ما أَحْرَمَ به في تَلْبيته (3)
أم لا؟ فيه خِلاَفٌ (4) والأَصَحُّ أنَّهُ لا يَذكُرُه وقد وَرَدَ
الأَمْرَان في الحديثِ وأَحَدُهمَا (5) مَحْمولٌ على الأَفْضَلِ والآخَر
(6) لبيَان الجَوَاز.
(فرع): لو نوى الحج ولبى بعمرة أو نوى العمرة ولبّى بالحج أو نَواهُمَا
وَلَبّى بأحَدِهما أو عكْسُهُ فالاعْتِبَار ما نَوَاهُ دُونَ ما لَبى به.
__________
(1) صوبه المصنف رحمه الله في الأذكار وأقره في المجموع وقال: لأنه الموافق
للأحاديث.
(2) أي التلبية الأولى.
(3) أي التي بعد الأولى.
(4) قال الإِمام أبو محمد الجويني رحمه الله تعالى كما في المجموع: هذا
الخلاف فيما سوى التلبية الأولى، فأما الأولى التي عند ابتداء الإِحرام
فيستحب أن يسمى فيها ما أحرم به من حج أو عمرة وجهاً واحداً، قال: ولا يجهر
بهذه التلبية بل يسمعها نفسه بخلاف ما بعدها، فإنه يجهر.
(5) هو ما رواه البيهقي عن نافع بإسناد صحيح قال: سئل ابن عمر رضي الله
تعالى عنه: أيسمي أحدنا حَجاً أو عمرة؟ فقال: أتنبئون الله بما في قلوبكم؟
إنما هي نية أحدكم.
(6) هو ما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يقول: "لبيك بحجة وعمرة".
(1/133)
(فرع): لو نَوَى حَجتَيْن أو عُمْرَتين
انْعَقَدَت إحْدَاهُما ولم تَلْزَمْهُ الأخرى.
(فرع): لهُ فيما يُحْرِمُ به أربعة أوجهٍ (1): الإِفْرَاد والتَّمتعُ
وَالقِرَانُ والإِطْلاَقُ. فأَمَّا الإِفْرَادُ فهُوَ أنْ يُحْرمَ بالْحَج
في أشْهُرِهِ مِنْ ميقَات طَريقهِ ثُمَّ إِذا فَرَغَ منْهُ خَرَجَ مِنْ
مَكَّة زَادَها الله شَرَفاً فأحْرَمَ بالْعُمْرَة مِنْ أَدْنَى الْحِل
وَيَفْرُغُ فهذ صُورَته المُتفَق عليها ولَهُ صُوَرٌ مُخْتَلَفٌ فيها
سَيَأتي بيانها إنْ شَاءَ الله تعالى.
وأَمّا المُتَمَتعُ فهو الذي يُحْرِمُ بالعُمْرَةِ مِنْ ميقَاتِ بَلَدِهِ
(2) ويَفْرُغ منها ثم يُنْشىءُ الْحَج مِنْ مَكَةَ (3) يُسمَّى متمَتِّعاً
لاسْتمتاعه بمَحْظُورات الإِحْرام بينَ الحج والعُمرَةِ فإنَّهُ يَحِل له
جميعُ المحظُورات إذا فَرَغ مَنْ العُمْرَة سَوَاءٌ كان ساقَ هَدْياً أم لم
يَسُقْه (4). وأَمَّا القِرَانُ فهو أن يُحْرِمَ بالحجِّ والْعُمْرَة
جَميعاً فَتَنْدَرجُ أفعالُ العُمْرَة في أفعال الحج ويَتَّحَدُ الميقَاتُ
والفعلُ فَيُجْزِي عنهما طَوافٌ واحدٌ وسَعيٌ واحدٌ وَحَلْقٌ واحد ولا
يزيدُ على ما يفْعَلُهُ مُفْرِدُ الحَج
__________
(1) قال في الحاشية: زاد ابن جماعة رحمه الله خامساً وهو الإِحرام بما أحرم
به الغير ولا زيادة لأن ما أحرم به الغير لا يخلو عن هذه الأربعة. اهـ.
(2) مثله ما إذا جاوز ميقات بلده مريداً للنسك ثم أحرم وقد بقي بينه وبين
مكة أو الحرم مرحلتان.
(3) شرط في وجوب الدم لا في تسميته متمتعاً إذ لو عاد وأحرم بالحج من
الميقات كان متمتعاً ولا دم عليه.
(4) فُهم من هذا الكلام إن هذا وجه تسميته متمتعاً لا لإلزامه بالدم لأن
سبب لزوم الدم له كونه ربح ميقاتاً كما يأتي وقوله لاستمتاعه أي لتمكنه من
ذلك وإن لم يفعله.
(1/134)
أصْلاً (1) ولو أحْرَمَ بالْعُمْرَة
وَحْدَها في أشْهُر الحَج (2) ثُم أحْرَمَ بالحَجِّ قَبْلَ الشُرُوع في
طَوَافها (3) صَحَ إحْرَامُهُ به أيضاً وصارَ قارِناً (4) ولا يَحْتَاجُ
إلى نيةٍ للقِران ولو أحْرَمَ بالْحَجّ أوّلاً ثم أحْرَمَ بالعُمْرَةِ قبل
شُرُوعِهِ في أفعال الحج لم يصحّ إحْرامُه بها على القوْل الصَّحيح (5) ولو
أحرَمَ بالعُمرةِ قبلَ أشْهُر الْحجِّ ثمَّ أحْرَمَ بالحَجِّ في أشْهُره
قبل شُرُوعه في طَوَاف العُمْرة صَحّ إحْرَامُهُ به وصَارَ قارناً على
الأصَحِّ.
وأمّا الإِطْلاَقُ فَهُوَ أنْ يَنْوِيَ نَفْسَ الإِحْرَام ولا يقصدُ
الحَجَّ ولا الْعُمْرَة ولا القِرَانَ فَهُوَ جائزٌ بِلاَ خِلاف (6) ثُم
يُنْظرُ فإنْ كان إحْرَامُهُ في أشْهُر الحَج فَلَهُ صَرْفُهُ إلى مَا شَاء
مِنْ حَج أو عُمْرَة أو قِرَانٍ (7) وَيكُونُ الصَّرْفُ والتَّعْيينُ
بالنيَّة
__________
(1) وكذا عند الحنابلة والمالكية لقول عائشة رضي الله عنها: (وأما الذين
جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً) متفق عليه، وعند الحنفية
طوافان وسعيان، وإذا فعل القارن محظوراً فعليه فديتان والله أعلم.
(2) مثله الإِحرام بالعمرة قبل أشهر الحج ثم إدخاله عليها في أشهره كما
سيصرح به.
(3) أي ولو بخطوة بخلاف مقدمته كاستلام الحجر وكذا النية لا تضر.
(4) هو المعتمد وشمل كلام المصنف رحمه الله ما لو أفسد العمرة ثم أدخل
عليها الحج فينعقد إحرامه به فاسداً ويلزمه المضي وقضاء النسكين وعليه بدنة
ودم للقِران، وبحث العلامة عبد الرؤوف حرمة إدخاله عليها حينئذ لأنه تلبس
بعبادة فاسدة.
(5) لأنه لا يستفيد بالإدخال شيئاً بخلاف الأول فإنه يستفيد به الوقوف
والرمي إلى آخره.
(6) لحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه المتفق عليه قال: قدمت على النبي
- صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيف أهللت؟ " قال قلت: لبيك بإهلال كإهلال
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أحسنت".
(7) أي إنْ صلح الوقت للحج والعمرة فإن لم يصلح الوقت لهما بأن فات وقت =
(1/135)
بالْقَلْب لا باللفظ ولاَ يُجْزيه
الْعَمَلُ قبلَ النية (1) وإنْ كَانَ إحْرَامُهُ قَبْلَ أَشْهُر الحج
انعقَدَ إحْرَامُهُ عُمْرَة.
واعلم أَنْ هَذ الأَوْجُهَ الأَرْبَعَةَ جَائِزَة باتفاق الْعُلمَاء رحمهم
الله (2) وأَمَا الأَفْضَلُ مِنْ هذه الأَوْجُه فَهُوَ الإِفْرَاد (3) ثَُم
التَّمَتُّعُ ثُمَّ القِرْانُ والتعيْينُ عند
__________
= الحج صرفه للعمرة وجوباً عند العلامة الرملي رحمه الله، وعند العلامة ابن
حجر يجوز
صرفه للحج فيتحلل بعمل عمرة ولا تجزئه عن عمرة الإسلام أو ضاق الوقت بأن
كانوا لا
يصلون لعرفة قبل طلوع فجر يوم النحر كان كمن أحرم بالحج حينئذ فمقضي ما
مَرّ انصرافه للعمرة عند الرملي وصرفه لما شاء عند ابن حجر .. ولو أفسد
الإِحرام قبل الصرف فأيما صرف إحرامه إليه كان فاسداً حيئذ.
(1) أي الصارفة حتى لو طاف ثم صرف الإِحرام للحج لم يقع الطواف عن القدوم
إلا من جهة أنه تحية البيت لعدم توقفها على إحرام فلا يجزئه السعي بعد هذا
الطواف وليس له إعادته ليسعى بعده لسقوط طلبه بفعله الأول فتعين تأخير
السعي إلى بعد طواف الإفاضة والله أعلم.
(2) لحديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقال: "مَنْ أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد
أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل" الحديث، ولحديث أبي موسى
رضي الله عنه المتفق عليه قال: قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقال: "كيف أهللت؟ " قال قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه
وسلم -. فقال: "أحسنت".
(3) أي عند الشافعية والمالكية وعند الحنفية القران أفضل وعند الحنابلة
التمتع أفضل وسبب اختلافهم: اختلافهم فيما فعل به عليه الصلاة والسلام.
فالشافعية والمالكية اعتمدوا حديث عائشة: (وأهل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بالحج) وحديث جابر رضي الله عنه المتفق عليه قال: (أهللنا -أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم- بالحج خالصاً وحده) الحديث، واعتمد الحنفية من
الأحاديث حديث أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -
يلبي بالحج والعمرة جميعاً وغيره من الأحاديث، واعتمد الحنابلة حديث
الصحيحين: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم).
(1/136)
الإِحْرَام أفضَلُ مِنَ الإِطْلاَق (1).
واعلم أن القِرَانَ أفْضَلُ مِنْ إفْرَاد الحجِّ مِنْ غَيْر أنْ يَعْتمرَ
بَعْدَهُ في سنَته (2) فإن تأخيرَ الْعُمْرَة عن سنةِ الْحَجِّ مَكْرُوه.
ويَجِبُ عَلَى الْقَارن والمتمتِّع دَمُ شاة (3) فَصَاعداً (4) صفَتُهَا
صفةُ الأُضحية ويُجْزيه سُبْعُ بَدنَة أو سُبْع بقَرَة فإنْ لم يَجِد
الْهَدْيَ في مَوضعه أو وَجَدَهُ بأكْثَر من ثمن المثل (5) لَزِمَهُ صَوْمُ
ثَلاَثَةِ أيَّام في الحَجِّ وسَبْعَة إذا رَجَعَ إلى أهله
__________
(1) أي لأنه إذا عين عرف ما دخل فيه، وقيل: الإطلاق لأنه أحوط فإنه ربما
عرض مرض أو إحصار فيصرفه إلى ما هو أسهل عليه.
(2) أي ما بقي من شهر ذي الحجة الذي هو شهر حجه.
(3) أما وجوب الدم على المتمتع لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:
196] وأما وجوبه على القارن فلأن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم أوجباه
ولأنه إذا وجب على المتمتع لأنه جمع بين النسكين في وقت أحدهما فلأن يجب
على القارن وقد جمع بينهما في الإحرام أولى.
(تنبيه): الدم الواجب حيث أطلق فهو شاة فإنْ كان من الضأن فجذع ذو سنة، فإن
أجذع قبلها بعد ستة أشهر كفى، وإن كان من المعز فذو سنتين، أو سُبع بدنة أو
بقرة ملكه حياً وسن الأولى خمس سنين والثانية كالمعز، والسبع يقوم مقام
الشاة في سائر الدماء إلا في جزاء المثل من صيد وشجر بل لا تجزىء البدنة عن
شاته لاعتبار المثل فلو نحر بدنة أو بقرة عن سبع شياه لزمته بأسباب مختلفة
جاز والله أعلم.
(فائدة): قد يجب الدم على غير محرم كالدم اللازم للمستأجر بسبب تمتع الأجير
وقرانه عنه بإذنه، وكالدم اللازم للولي بسبب تمتع الصبي وقِرانه وإحصاره،
وارتكاب المميز لسائر المحظورات.
(4) أي فبقرة فواحدة من الإبل وليس مراده فشاتين فأكثر لأن الزائد على
الواحدة لا يقع واجباً.
(5) مثله ما لو احتاج إليه أو إلى ثمن مثله كما سيأتي في باب الدماء آخر
الكتاب.
(1/137)
وإِنَّمَا يَجِبُ الدَّمُ على المُتَمَتع
بأرْبَعة شُرُوط: أن لا يَعُودَ إلى ميقَات بَلَده لإحْرَام الحَج (1) وأنْ
يكُونَ إِحْرَامهُ بالعُمْرَة في أشْهُر الْحَج (2) وأنْ يَحُجَّ من عامِهِ
وأنْ لا يكون مِنْ حاضري المسْجِد الْحَرَام (3) وهم أهْلُ الْحَرَم ومَنْ
كانَ منه عَلَى أقَل مِنْ مَرْحَلَتَيْن (4).
__________
(1) أي إن كان إحرامه بالعمرة، وإلا بأن جاوز ميقات بلده غير مريد للنسك ثم
أحرم من حيث عَن له لم يحتج للعود إلا لمحل إحرامه أو مثل مسافته لأنه
ميقاته فلا يكلف أبعد منه، وكعوده لميقات بلده -عوده لمثل مسافته أو لميقات
آخر- ولو أقرب منه أو إلى مرحلتين من الحرم قبل تلبسه بنسك ولو بعض طواف
القدوم بأن أحرم بالحج خارج مكة مثلاً ثم دخل إليها ثم طاف بعض طواف القدوم
ثم خرج إلى الميقات بعد طواف القدوم سواء أعاد إليه، وأحرم منه أم عاد إليه
محرماً إذ القصد قطع تلك المسافة محرماً.
فإن قيل: كما تقدم يسقط الدم عن المتمتع إذا عاد أي إلى ميقات ولو أقرب،
ولا يكفي المجاوز العود إلى الأقرب.
أجيب كما تقدم: إنما سقط الدم عن المتمتع بعوده لميقات أقرب لأن المدار على
كونه ربح ميقاتاً ورجوعه إلى الأقرب محقق انتفاؤه والمدار في المجاوز
للميقات على الإِساءة أصالة وانتفاؤها بالرجوع إلى الأقرب لا يتحقق فوجب
الرجوع إلى ميقاته أو إلى مثله والله أعلم.
(فرع): أحرم آفاقي بالعمرة في أشهر الحجٍ وأتمها ثم قرن من عامه لزمه دمان
كما قاله البغوي رحمه الله دم للتمتع ودم للقران خلافاً للسبكي والإِسنوي
وغيرهما رحمهما الله المصوبين لزوم دم واحد للتمتع فقط لأن من وصل مكلة
فقرن فهو حاضر، وعلى تقدير عدم لحوقه بالحاضر فدم التمتع والقران متجانس
فيتداخلان.
(2) يفهم منه أنه لو أحرم آخر جزء من رمضان لم يلزمه دم، وهو كذلك بل له
ثواب عمرة في رمضان لكن دون ثواب من أتى بجميع أفعالها فيه.
(3) أي حين إحرامه بالعمرة بأن لا يكون حال تلبسه متوطناً بالحرم أو قريباً
منه.
(4) هو المعتمد عند الشافعية رحمهم الله تعالى. وقال مالك رحمه الله تعالى:
=
(1/138)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= حاضروا المسجد الحرام هم أهل مكة وذي طوى وما كان مثل ذلك من مكة. وقال
الإمام أبو حنيفة رحمه الله: هم أهل المواقيت فمنْ دونهم إلى مكة، وعنده لا
يقع منهم التمتع وكره مالك ذلك والحنابلة كالشافعية رحم الله الجميع ورحمنا
معهم آمين.
قال في الحاشية: والعبرة بالوطن فلو توطن غريب محلاً بينه وبين الحرم دون
مرحلتين فلا دم أو مكي محلاً بينه وبين الحرم مرحلتان فالدم ولا أثر لمجرد
نية الاستيطان ومَنْ له مسكنان أحدهما قريب من الحرم اعتبر ما إقامته به
أكثر ثم ما به أهله وماله دائماً أو غالباً، فإن كان كل بمحل اعتبر الأهل
كما ذكره المحب الطبري رحمه الله وحصر المراد بهم الزوجة والأولاد
والمحاجير ثم ما عزم على الرجوع إليه للإقامة فيه ثم ما خرج منه، فإن
استويا في كل شيء اعتبر محل إحرامه، ويؤخذ من اعتبارهم رحمهم الله فيمن له
مسكنان ما إقامته به أكثر أن من لمسكنه طريقان إلى الحرم، إحداهما على دون
مرحلتين، والأخرى على مرحلتين اعتبر ما يكون سلوكه له أكثر ويحتمل أنه حاضر
مطلقاً لأن منزله يصدق عليه أنه على دون مرحلتين، ولا نظر لكونه يصدق عليه
أنه على أكثر من ذلك لأن الأصل براءة الذمة من الدم. اهـ.
مذاهب العلماء في مسائل مأخوذة من مجموع المصنف رحمه الله تعالى
(منها): إذا أحرم شخص بالعمرة في غير أشهر الحج، وفعل أفعالها في أشهره
فالأصح عند الشافعية أنه ليس عليه دم التمتع، وهو قول جابر بن عبد الله رضي
الله عنه وقتادة وأحمد وإسحق وداود والجمهور رحمهم الله. وقال الحسن
والحاكم وابن شُبرمة: يلزمه.
(ومنها): إذا عاد المتمتع لإحرام الحج إلى الميقات سقط عنه دم التمتع عند
الشافعية وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا يسقط.
(ومنها): قال ابن المنذر رحمه الله: أجمع العلماء على أن من دخل مكة بعمرة
في أشهر الحج مريداً للمقام بها ثم حج من مكة أنه متمتع يعني وعليه الدم.
(ومنها): إذا خرج المكي إلى بعض الآفاق لحاجة ثم عاد وأحرم بالعمرة منه أو
من ميقاته وحج من عامه فلا دم عليه عندنا، وقال طاووس: يجب. اهـ. قال ابن
قدامة =
(1/139)
فَإنْ فُقدَ أحَدُ هذه الشُّرُوطِ فَلا
دَمَ عَلَيه وهُوَ مُتَمَتعٌ على الأَصَح وقيل. يَكُونُ مفْرداً وإنمَا
يَجِبُ الدَّمُ على الْقَارنِ بَشْرَطَين أنْ لا يَعُودَ إلى الميقَات (1)
بعد دُخُول مَكَّةَ (2) وقيل: يَوْم عَرَفَةَ (3) وأنْ لا يكُونَ مِنْ
حاضرِي الْمَسْجِد الْحَرَام.
__________
= رحمه الله في مغنيه: وإن أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام
بمكة فاعتمر من التنعيم في أشهر الحج وحج من عامه فهو متمتع عليه دم، نص
عليه أحمد.
(1) أي الذي أحرم منه أو إلى مثل مسافته أو ميقات آخر من المواقيت الخمسة
أو مرحلتين من الحرم نظير ما مر في المتمتع الملحق به القارن.
(2) يفهم أنه لو عاد قبل دخول مكة لم يسقط الدم وهو على الأوجه لوجوب قطع
كل المسافة بين مكة والميقات لكل من النسكين، وأنه لو أحرم بالعمرة من
الميقات ودخل مكة ثم رجع إليه قبل الطواف فأحرم بالحج لم يلزمه دم وإن كان
قارناً.
(3) أي وقبل الوقوف بعرفة فلو كاد بعده استقر الدم. قال في الحاشية رحمه
الله: ومقتضى كلامه أنه لو عاد قبل يوم عرفة فلا دم، وإنْ طاف للقدوم. قال
بعضهم: وهو المذهب، ونوزع بما لا يجدي، وقياسه أن العود ينفعه وإن سعى بعد
طواف القدوم، فإنْ قلت: مر في المتمتع أن عوده إنما يفيد إذا كان قبل
التلبس بنسك وقد ألحقوا القارن به في أكثر أحكامه فما المعنى الذي أوجب عدم
لحوقه به هنا. قلت: القياس واضح على مقابله الذي مَرّ، فيجاب: بأنه قد مَرّ
لك أن من جاوز الميقات ثم عاد بعد الشروع في الطواف لم ينفعه العود، أي
لأنه أخذ في أسباب التحلل حقيقة إنْ كان متمتعاً، وإلا ففيما يشبهها فلم
يشرع له لئلا يتأدى النسك بإحرام ناقص، إذا علمته فطواف المتمتع بقسميه
السابقين وقع بعد تحلله من أحد نسكيه، وقد مر أن كلاً منهما له دخل في
إيجاب الدم فكأنه وقع بعد فعل بعض التحلل فلم ينفعه العود. وذلك بخلاف
القارن فإن طوافه وقع قبل دخول شيء من أسباب تحلل نسكيه فينفعه العود لزوال
النقص به حينئذ مع عدم تقصيره، ومن ثم لم ينظروا في حقيقته لوجود ما يشبهها
منه بخلاف مجاوز الميقات، وأما السعي بعده فقد وقع بطريق التبع مع أنه لا
دخل له حينئذ في التحلل بخلاف وقوفه بعرفة لأنه شروع في أسباب التحلل فلم
ينفع العود بعده ونفع قبله انتهى.
(1/140)
(فرع): لَوْ أحْرَمَ عَمْرو بما أحْرَمَ به
زَيْدٌ جاز (1) للأَحاديثِ الصَّحيحَة في ذلك (2) ثُم إنْ كانَ زَيْدٌ
مُحْرِماً انْعَقَدَ لَعَمْرو مثْلُ إحْرَامه (3) إنْ كانَ حَجاً فَحَج
وإنْ كَانَ عُمْرَةً فَعُمْرَةٌ وإنْ كَانَ قِراناً فَقِرانٌ وإنْ كَانَ
مُطلَقاً انْعَقَدَ إحْرَام عَمْرو أيضاً مُطْلَقاً ويَتَخَيرُ في صَرْفِهِ
إلى ما شَاءَ كما يَتَخَيرُ زَيْدٌ وَلاَ يَلْزَمُهُ صَرْفُهُ إلى ما
يَصْرِفُ إليهِ زَيْدٌ إلا إذا أرَادَ كإِحْرَامِ زَيْدٍ بَعْدَ تَعْيينه.
ولو كانَ زَيْدٌ أحرَمَ مُطلَقاً ثُم بينَهُ قَبْلَ إِحْرَامِ عَمروٍ
فَالأَصَحُّ أنَّهُ يَنْعَقِدُ إِحْرَامُ عَمرو مُطلَقاً (4).
والثاني يَنْعَقِدُ معيناً، ولَو كَانَ إحرَامُ زَيدٍ فَاسداً انعَقَدَ
لعَمروٍ إحرامٌ مُطلَقٌ عَلَى الأَصَحِّ (5) وَلَو كانَ زَيْدٌ غَيْرَ
مُحْرِم انْعَقَدَ لعَمْرو إحْرَام مُطْلَقٌ ويَصْرِفُهُ إلى ما شَاءَ
سَوَاءٌ كانَ يَظُنُّ أَن زيداً مُحْرم أمْ يَعْلَمُ أنَّهُ غيرُ مُحْرِم
بأنْ يَعْلَمَ أنهُ مَيتٌ والله أعْلَمُ.
__________
(1) قال المصنف رحمه الله في المجموع: جاز بلا خلاف.
(2) (منها): حديث أبي موسى الأشعري السابق المتفق عليه قال: قدمت على النبي
- صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيف أهللت؟ " قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنت.
(ومنها): حديث مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه: أن علياً قدم من اليمن
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بم أهللت؟ " فقال: بِمَ أهل به
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاهدِ وامكث حراماً".
(3) محله كما يعلم من آخر كلام المصنف إن صح إحرامه بخلاف ما إذا أحرم
بفاسد أو كان غير محرم أو كافراً أو أتى بصورة الإحرام ولو مفصلاً، فإنه
ينعقد لعمرو مطلقاً في كل ذلك لأنه قصده بصفة فإذا بطلت بقي أصله. انتهى
حاشية.
(4) أي ما لم يقصد أنه مثله حالاً.
(5) ومقابل الأصح لا ينعقد لأن الفاسد لاغ.
(1/141)
فَصْلٌ
في التلبية (1)
الْمُسْتَحَب فيها أَنْ يقْتَصرَ على تَلْبِيَةِ رَسُول اللهِ - صلى الله
عليه وسلم - وَهِيَ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبيْكَ لَبيك لا شَرِيكَ لَكَ
لَبَّيكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنعْمَةَ لَكَ والْمُلكَ لا شَرِيكَ لَكَ"
بِكَسْرِ الهمزةِ (2) مِنْ قَوْلِهِ: إنَّ الحمدَ.
ولو فُتِحَتْ جاز (3) فإنْ زَادَ عليها (4) فَقَدْ تَرَكَ الْمُسْتَحَب
ولكن لا يُكْرَهُ
__________
(1) أي في صيغتها وقوله: (لبيك) أصله (لبين لك) حذفت النون للإضافة واللام
للتخفيف، وهو مفعول مطلق لفعل محذوف. والتقدير (ألبي لبين لك) فحذف الفعل
وهو (ألبي) وجوباً، وأقيم المصدر مقامه، وهو مأخوذ من (لب بالمكان) يقال:
(لب بالمكان) و (ألب به إلباباً) إذا أقام به والمقصود به التكثير، وإن كان
اللفظ مثنى على حد قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}
[الملك: 4] فإن المقصود به التكثير لا خصوص المرتين بدليل {يَنْقَلِبْ
إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}، من الكثرة لا من مرتين
فقط، وقوله: اللهم أصله يا الله حذفت ياء النداء وعوض عنها الميم وشذ الجمع
بينهما كما قال العلامة ابن مالك رحمه الله: (والأكثر اللهم بالتعويض وشذ
يا اللهم في قريض) وقوله: لبيك تأكيد للأول.
(2) أي على الاستئناف.
(3) هو المعتمد لكن الكسر أصح وأشهر عند الجمهور لأن الفتح يوهم التعليل
والتخصيص بحال شهود الإنعام، والله سبحانه وتعالى يستحقها مطلقاً لذاته لا
بواسطة شهود شيء آخر وقوله: والنعمة: المشهور فيها النصب عطفاً على الحمد،
ويجوز فيه الرفع على الابتداء ويكون الخبر محذوفاً والتقدير (والنعمة كذلك)
وقوله: (لك) خبر إن وقوله: (والملك) المشهور فيه النصب عطفاً على ما قبله
ويجوز فيه الرفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره (كذلك). وتسن وقفة يسيرة
على (الملك) ليظهر أن ما بعده ذكر للتأكيد وحكمة نفي الشريك بجميع أنواعه
الرد على الجاهلية في قولهم بعده: (إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك) وليحذر
الملبي في حال تلبيته من أمور يفعلها بعض الغافلين من الضحك واللعب وليكن
مقبلاً على ما هو بصدده بسكينة ووقار وليشعر نفسه أنه يجب الباري سبحانه
وتعالى فإنْ أقبل على الله بقلبه أقبل الله عليه وإنْ أعرض أعرض الله عنه.
(4) أي أو نقص.
(1/142)
على الأَصَحِّ (1).
ويُسْتَحَب أَنْ يُصَلِّي (2) على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ
التَّلْبِية ويسْأَل (3) الله رِضْوَانَهُ والجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُ به
مِنَ النَّارِ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا أحَب لِنَفْسِهِ ولمَنْ أحَب.
وَيُسْتَحَب الإِكْثَار مِنَ التلبِيَة وَيُسْتَحَب قَائِماً أو قاعِداً أو
رَاكباً وماشياً ومُضْطَجعاً وجُنُباً وحائضاً وَيَتَأكَدُ استحبابُهَا
عِنْدَ تَغَايُرِ الأَحْوَال والأَماكن والأَزْمان. وَيُسْتَحَبُّ في كُلِّ
صُعُود وهُبُوط وحُدُوث أمر مِنْ ركُوب أو نزول أو اجْتِماعٍ رِفاق أو
قِيَام أو قعود وعندَ السَّحَر وإقْبَال الليْل والنَّهار وَالْفَرَاغ من
الصَّلاَةِ (4).
ويُسْتَحَب في المَسْجد الْحَرَام ومَسْجد الخَيْف بمنى وَمَسجد إبراهيم -
صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَات لأَنَّهَا مواضع نُسُك ويُسْتَحَب أيضاً
في سَائر الْمَساجِدِ على الأَصح (5).
ويَرْفَع بِهَا صَوْتَهُ في الْمَسَاجد على الأَصَحِّ (6) كما يَرْفَعُ في
غير الْمَسَاجد
__________
(1) لأن عمر وابنه رضي الله عنهما يزيدان: (لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك،
لبيك والرغباء إليك والعمل). وحكم التلبية عند الشافعية والحنابلة: سنة،
وعند الحنفية: أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة، وعند
المالكية: واجبة، ويجب بتركها دم والله أعلم.
(2) أي لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فيشرع فيه ذكر (رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -) كالصلاة والأذان قال تعالى: {وَرَفعنَا لَكَ ذكرَكَ (4)}
أي لا أذكر إلا وتذكر معي لطلبي. والأكمل صلاة التشهد وليضم إليها السلام
لكراهة إفراد أحدهما عن الآخر، ويأتي بالصلاة والسلام بصوت أخفض من صوت
التلبية ولا يرفعه لعدم وروده وليتميز عنه.
(3) أي ثم يسأل.
(4) لما روي جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يلبي إذا رأى ركباً أو صعد أكمة أو هبط وادياً وفي أدبار المكتوبات وآخر
الليل.
(5) أي في الجديد، والقديم لا يلبي لئلا يشوش على المصلين والمتعبدين.
(6) محله إن لم يشوش الرجل على نحو قارىء أو ذاكر أو مصل أو طائف أو نائم
فإن شوش على واحد من هؤلاء برفع صوته أو بفوق ما يسمع نفسه حرم عليه إن =
(1/143)
وقيل: لاَ يَرْفَعُ في المَسَاجد وقيلَ:
يَرْفَعُ في المساجد الثلاَثَةِ دُونَ غَيْرها.
ولا يُلَبي في حَال طَوَاف القُدُوم (1) والسَّعْي على الأصَح لأَنَّ لهما
أذْكاراً مَخْصُوصَةً وأمَّا طَوافُ الإفاضَة فلا يُلَبي فيه بلا خِلاَف
لخُروج وقْت التَّلبية ويُسْتَحَب للرَّجُل رَفَعُ صَوْته بالتلْبية (2)
بحيثُ لا يُضِرُّ (3) بِنَفْسه ويكُونُ صَوْتُهُ دُونَ ذلك في صَلاَتِهِ
على رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَقِبها وَأما المَرْأةُ فلا
تَرْفَعُ صَوتها بها بَلْ تَقْتَصِرُ على إسْمَاعهَا نَفْسَهَا فإنْ
رَفَعَتْهُ كره (4) ولم يَحْرم (5).
ويُستَحَب تكْرَارُ التلْبية في كُل مَرة ثَلاَثَ مَرَّات (6) وَيَأتي بها
مُتَوَاليةً لاَ يقْطَعها بِكَلاَمٍ وَلاَ غَيْرِهِ (7).
__________
= كثر التشويش وإلا كره، والدليل على رفع الصوت بالتلبية ما رواه الترمذي
رحمه الله عن جلاد بن السائب عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم
بالإهلال والتلبية". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(1) وكذا لا يلبي في طواف الوداع يوم خروجه لعرفة وتكره التلبية في مواضع
النجاسات كغيرها من الأذكار.
(2) أي إلا المقترنة بالإحرام كما مر في قول المصنف: (ولا يجهر بها) وينبغي
أن يكون صوته بالدعاء عقب التلبية والصلاة والسلام دون صوته بهما.
(3) بضم أوله وكسر ثانيه؛ من أضر بخلاف يضره من ضر فإنه بفتح أوله وضم
ثانيه.
(4) أي إن كانت وحدها أو بحضرة نحو محرم ومثلها الخنثى.
(5) وإنما حرم رفع صوت المرأة بالأذان لأنه يندب الإصغاء إليه. وهنا في
التلبية لم يحرم كما نص عليه المصنف رحمه الله تعالى لأن كل أحد مشتغل
بتلبية نفسه.
(6) أي ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو ثم يلبي ثلاث
مرات ثم يصلي ثم يدعو وهذا هو الأكمل، فلو أتى بالتلبية مرات عديدة، أو دون
ثلاث ثم صلى ثم دعا كان آتياً بأصل السنة.
(7) يستثنى منه كما تقدم سكتة لطيفة عند قوله: (والملك) وحكمة هذه السكتة =
(1/144)
فإنْ سَلمَ عليه رَدَّ عليه السَلاَمَ
باللفْظِ (1) نَصَّ عليه الشَّافعي وأصْحَابُهُ رَحَمهُمُ اللهُ تَعالى
وَيُكْرَهُ أنْ يُسَلمَ عليه في هذه الحالة وإذا رَأى (2) شيئاً
فَأعْجَبَهُ (3) فَالسُنةُ أَنْ تقُولَ: لبيكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ
الآخِرَة ومَنْ لا يُحْسنُ التَّلْبيةَ بالْعَرَبِيّة يُلَبِّي بلسَانه،
وَيَدْخُلُ وَقْتُ التلْبية مِنْ حِيْن يُحْرِمُ ويَبْقى إلى أنْ يَشْرَعَ
(4) في التَّحلل وَسَيَأتي بيانُ هذا وَاضحاً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالى.
__________
= كما قال في الحاشية: والله أعلم: الإشعار بأن لا شريك لك بعدها، إنما أتى
به للتتميم والتأكيد للاستغناء عنه بما سبقه. اهـ.
(1) أي يسن له ذلك وإن كره السلام عليه كما سيأتي، وتأخير الرد إلى فراغ
التلبية أحب كما في المؤذن، ويفرق بين عدم وجوب الرد عليهما، وبين وجوبه
على القارىء لتفويته لشعارهما. والله أعلم.
(2) أي أدرك، ليشمل الإدراك بحواسه الخمس.
(3) قال في الحاشية: أو أَساءه للاتباع فيهما، لكن الوارد فيه عند الإعجاب
بأمته - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة: (لبيك إن العيش عيش الآخرة)، وعند
الإساءة في حفر الخندق لما رآهم وقد نهكت أبدانهم واصفرت ألوانهم: (اللهم
إن العيش عيش الآخرة) وحينئذ فيؤخذ أن مَنْ كان في نسك يأتي بالتلبية في
الحالتين، ومَنْ ليس في نسك يأتي بـ (اللهم إن العيش عيش الآخرة) فيهما وهو
ظاهر، وإنْ لم أرَ مَنْ صرح بذلك. وحكمته أنها تحمل في الإعجاب على الشكر،
وفي الإساءة على الصبر إذْ معناه: إن الحياة المطلوبة الهنية الدائمة هي
حياة دار الآخرة، وقيل معناه العمل بالطاعة.
(4) أي إلى رمي أول حصاة من جمرة العقبة.
(فرع): قال في المجموع: مذهبنا استحباب التلبية في كل مكان وفي الأمصار
والبراري. قال العبدري: إظهار التلبية في الأمصار ومساجدها لا يكره وليس
لها موضع تختص به. قال: وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وقال أحمد: هو مسنون في
الصحارى، قال: ولا يعجبني أنْ يلبي في المصر، والله أعلم.
(1/145)
فَصْل
في محرمات الإِحرام
فَيَحْرُمُ عليه بالإِحْرَام بالْحَج أوْ الْعُمْرَة (1) سبعةُ أنْواع (2):
الأَوَّل: اللُّبْسُ:
وَالْمُحْرم ضَرْبان رَجُل وَامْرَأة، فَأَمّا الرَّجُل فَيَحْرُمُ عليه
سَتْرُ جَميع رَأسه أو بَعْضه (3) بكُل ما يُعَدُ سَاتراً (4) سَوَاء كانَ
مَخِيطاً أو غَيْرَهُ مُعْتَاداً أو غَيْرَهُ فَلاَ يَجُوزُ أنْ يَضَعَ
عَلَى رَأسه عمَامَة ولاَ خِرْقةً ولاَ قَلَنْسُوَةً مُقَورَةً ولا
يَعْصبُهُ بِعصَابة (5) ونَحْوها حَتى يَحْرُمَ أنْ يَسْتُرَ منْهُ قَدْراً
يقْصِدُ سَتْرَهُ لشَجةٍ.
وَنَحْوهَا إذَا لم يكُنْ به شَجة (6).
__________
(1) أي أو بالقران أو بالإحرام المطلق قبل صرفه إليهما أو إلى أحدهما.
(2) قال في الحاشية: عدها بعضهم عشرين وبعضهم عشرة ولا تخالف لأن ما عدا
السبعة المذكورة مما زيد داخل فيها. قيل: حكمة تحريمها الخروج عن العادة
ليتذكر به ما هو فيه من العبادة. اهـ. وأقول: حكمته أيضاً - ما أشير إليه
في الحديث من مصيره أشعث أغبر ليتذكر بذلك الذهاب إلى الموقف الأعظم فيجازى
بأعماله فيحمله ذلك على غاية من إتقان تلك العبادة المهمة والإخلاص فيها.
(3) دخل فيه البياض الذي وراء الأذن مما حاذى أعاليها وهو المعتمد كما في
الحاشية.
(4) أي عُرْفاً ولو شفافاً.
(5) أي عريضة بحيث لا تقارب الخيط.
(6) قال في الحاشية: مفهومه بالنسبة لعدم لزوم الفدية لا بالنسبة لعدم
الحرمة غير مراد، لقول المجموع قال أصحابنا: لو كان على المحرم جراحة فشد
عليها خرقة، فإنْ كانت في غير الرأس فلا فدية، وإنْ كانت في الرأس لزمته
الفدية لأنه يمنع في الرأس المحيط وغيره. اهـ. قال بعضهم: والمراد بالشد
هنا هو مجرد اللف لا العقد، وإن كان =
(1/146)
أمَّا مَا لاَ يُعَدُّ سَاتراً فَلاَ بأسَ
به مثْلُ أنْ يَتَوَسَّدَ عمَامَةً أوْ وِسَادةً أوْ يَنْغمسَ في ماءِ (1)
أوْ يَسْتَظَل بِمِحْمَلٍ (2) أو نَحْوه فَلاَ بَأْس به سَوَاء مس
المِحْمَلُ رَأسَهُ أم لاَ وَقِيل: إنْ مَسَّ المِحْمَلُ رَأسَهِ لزمَهُ
الفِدْيةُ ولَيْسَ بشيءٍ (3)
__________
= هو المراد من الشد الواقع في نحو شد الهميان والخيط على الإزار. اهـ. وهو
متجه إن لم يحتج للعقد للاستمساك على الجراحة، وإلا فالوجه جواز العقد
أيضاً لكن مع الفدية. ثم المراد بالعقد عقد الخرقة نفسها أما لو شد عليها
في غير الرأس خيطاً وربطه، فإن ذلك لا يسمى عقداً ولا يحرم ولا فدية به.
اهـ.
(1) أي ولو كدراً.
(2) بمحمل بكسر الميم الأولى وفتح الثانية أو بالعكس، وأما فتحهما معاً فمن
لحن العوام.
(3) في المجموع إنه ضعيف أو باطل.
مذاهب العلماء في الاستظلال بغير ملاصق للرأس كالمحمل والسيارة غير
المكشوفة ونحوهما
قال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يجوز للمحرم أن يستظل في المحمل
بما شاء، راكباً ونازلاً، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك وأحمد: لا يجوز،
فإن فعل فعليه الفدية، وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا فدية. وأجمعوا على أنه
لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز، ووافقونا على أنه إذا كان الزمان يسيراً في
المحمل فلا فدية، وكذا لو استظل بيده، ووافقونا أنه لا فدية. وقد يحتج
بحديث عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال: (صحبت عمر بن الخطاب رضي الله
عنه فما رأيته ضرب فسطاطاً حتى رجع) رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن، وعن
ابن عمر: (أنه أبصر رجلاً على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس
فقال: اضحَ لمن أحرمت له) رواه البيهقي بإسناد صحيح وعن جابر عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من محرم يضحي للشمس حتى تغرب إلا غربت
بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه" رواه البيهقي وضعفه، ودليلنا حديث أم
الحصين رضي الله عنها قالت: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة
الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه
وسلم -، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة. رواه مسلم في
صحيحه، ولأنه لا يسمى لابساً. =
(1/147)
ولو وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأسهِ وأطَالَ أو
شَدَّ عَلَيْه خَيْطاً لصُداع أو غَيْره فَلاَ بأس (1).
ولَوْ وَضَعَ عَلَى رَأسه حِمْلاً أو زِنْبِيلاً (2) ونَحْوَه كُرِه (3)
وَلاَ يَحْرُمُ على الأَصَحِّ ولَوْ طَلَى على رَأسه بحناء أوْ طين أوْ
مَرْهَم فَإنْ كَانَ رَفيقاَ فَلاَ شيء عليه وإنْ كانَ ثخيناً يَسْتُرُ
وَجَبَت الْفِدْيةُ على الصَحيح (4) وأمَّا غَير الرَّأسِ مِنَ الْوَجه
وباقي الْبَدَن فَلاَ يَحْرُمُ سَتْرُهُ بالإِزَار والرِّداء ونَحْوهما (5)
وإنَمَا يَحْرُمُ فيه الْمَلْبُوسُ والمَعْمُولُ على قَدْر الْبَدَنِ أو
قَمْر عُضْو منْهُ (6) بحَيْثُ يحيطُ به إما
__________
= و (أما) حديث جابر المذكور فقد ذكرنا أنه ضعيف مع أنه ليس فيه نهي وكذا
فعل عمر، وقول ابن عمر ليس فيه نهي ولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه
والله أعلم.
(1) وإن قصد بهما الستر.
(2) الزنبيل: بكسر الزاي ويجوز فتحها مع حذف النون كوزن رغيف وهو القُفة.
(3) محله إذا لم يقصد به الستر وإلا حرم هذا إذا لم يسترخ فإنْ استرخى على
رأسه حتى صار كالقلنسوة ولم يكن فيه شيء يحمل أو كفاه على رأسه حرم، ولزمت
الفدية، وإن لم يقصد به الستر حينئذ لأنه في هذه الحالة يسمى ساتراً عرفاً.
(4) الدليل على تحريم تغطية رأس المحرم قوله - صلى الله عليه وسلم - في
المحرم الذي خر عن بعيره ميتاً: "لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة
ملبياً" رواه الشيخان رحمهما الله.
(5) أي لإجماع الصحابة ولا يعارضه خبر مسلم الذي أخذ به الإمامان أبو حنيفة
ومالك رحمهما الله: (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه)، فقد قال البيهقي رحمه الله
تعالى: ذكر الوجه وهمٌ من بعض الرواة. وحمله في كتاب الشامل على ما لا بد
منه من كشفه من الوجه ليتحقق به كشف جميع الرأس على أنه نقل عنهما أنهما لا
يقولان بمنع ستر رأس الميت ووجهه. اهـ حاشية.
(6) منه أي من البدن قال في الحاشية: يشمل ما يعمل على قدر الوجه بحيث
يستمسك عليه كما يتخذ من الحديد للمقاتل وكيس اللحية إذ ليس المراد بالعضو
حقيقته المباينة للشعر، وهي كما في القاموس كل لحم وافر بعظمه، ومن ثم عبر
بعضهم بنحو =
(1/148)
بخَياطة وإمَّا بغَيْرِ خيَاطَة (1) وذلك
كالقَمِيص والسَّرَاويل والتبهان (2) والجُبة والقَبَاء والْخُفِّ
وكَجُبَّة اللِّبْد والْقَميص الْمَنسُوج غير المُحِيط ودرْع الزرَد
والجَوْشن (3) والجَوْرَبِ والمُلْزَق بَعْضُهُ ببَعْض سَوَاء كانَ مِنَ
الْجُلُود والقُطْن أو غيرِهما وسَوَاء أخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ كُم
الْقَبَاء أمْ لا (4) والأصَح تَحْريمُ المَدَاس (5) وشبْهِهِ بخِلاَفِ
النعْل فإنْ لَبِسَ شيئاً مِنْ هذه لَزِمَهُ الْفِدْيةُ طَالَ الزمان أم
قَصُرَ.
__________
= العضو، فاستشكال وجوب الفدية في ذلك بأنها (أي اللحية) من الوجه وهو لا
يحرم ستره غفلة عن الحيثية التي قالها المصنف.
(1) أي كنسج ولزق وضفر وتلبيد وعقد وغيرهما.
(2) التبان: سراويل من الجلد قصيرة فوق الركبة غالباً.
(3) الجوشن: هو الدرع فهو من باب عطف الرديف أو أن بينهما نوع مغايرة،
وقوله: (والجورب) هو المسمى الآن بالشراب.
(4) هو كالعباءة والمشلح قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في مجموعه:
فإنْ لبسه لزمه الفدية، وبه قال مالك وحكاه ابن المنذر بمعناه عن الأوزاعي.
وقال إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأبو ثور والخِرقي من أصحاب أحمد: يجوز
لبسه إذا لم يدخل يده في كميه، ودليلنا على تحريمه حديث ابن عمر أن رجلاً
أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من
الثياب؟، قال: "لا يلبس القميص ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا
القباء، ولا ثوباً يمسه وَرْس أو زعفران". رواه البيهقي بإسناد صحيح على
شرط الصحيح، قال البيهقي: وهذه الزيادة وهي ذكر القباء صحيحة محفوظة، وعن
ابن عمر أيضاً قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القمُص
والأقبية والسراويلات والخفين إلا أن لا يجد نعلين) رواه البيهقي بإسناد
صحيح، ولأنه محيط فكان محرماً موجباً للفدية كالجبة. (أما) تشبيههم إياه
بمن التحف بقميص فلا يصح، لأن ذلك لا يسمى لبساً في القميص ويسمى لبسا في
القباء، ولأنه غير معتاد في القميص، ومعتاد في القباء والله أعلم. اهـ.
(5) أي المحيط بجوانب الرجل كالكنترة ونحوها المغطية للأصابع كالتليك
ونحوه، والحاصل: ما ظهر منه العقب ورؤوس الأصابع يحل مطلقاً وما ستر
الأصابع فقط أو العقب فقط لا يحل إلا مع فقد النعلين.
(1/149)
وأمَّا ما لَمْ يُوجَدْ فيه الإِحاطَةُ
المَذْكُورَةُ فَلاَ بأسَ به وإنْ وُجدَتْ فيه خِيَاطَةٌ فَيَجُوزُ أنْ
يَرْتَدي القَمِيص والجُبةِ وَيَلْتَحِفَ به في حال النَّوم وأنْ يَتَّزِرَ
بِسَرَاويِلَ أو بإِزَارِ مُلَفق مِنْ رِقَاع مَخيطَة ولَهُ أَن يَشْتَمِلَ
بِالعَبَاءةِ وبِالإِزَارِ والرِّداء طاقين وثلاثةً وأَكْثَرَ وَلَهُ أنْ
يَتَقَلدَ السَّيْفَ (1) وَيَشُدَّ عَلَى وَسَطِهِ الهِمْيَانِ (2)
وَالمِنْطَقَة (3) وَيلْبَس الْخَاتَم (4) وَلَوْ ألْقَى عَلَى نَفْسِهِ
قَباء (5) أو فَرَجيةَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ فَإنْ كَانَ بِحَيثُ لَوْ قَامَ
يُعَدُّ لاَبسَه (6) لزَمهُ الفِدْيةُ وَإنْ كَانَ بحَيْثُ لَوْ
__________
(1) قال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يجوز أن يتقلد السيف، وبه قال
الأكثرون. ونقل القاضي أبو الطيب عن الحسن البصري: كراهته. وعن مالك: أنه
لا يجوز. اهـ. أقول: وعند الإِمام أحمد: إن احتاج إليه فله ذلك كما في
المغني للإمام ابن قدامة رحم الله الجميع، ورحمنا ورحم المسلمين آمين.
(2) الهميان: هو المسمى الآن بالكمَر، والمنطقة: حزام من جلد على هيئة
الكمر إلا أنها ليس فيها موضع للنقود.
(3) أي ولو بلا حاجة، والمراد بشدهما ما يشمل العقد وغيره سواء كان فوق ثوب
الإِحرام أو تحته ولا يضر الاحتباء بحبوة وغيرها وله أن يلف على وسطه عمامة
ولا يعقدها.
(4) صرح به المصنف في المجموع أيضاً ومثل الخاتم الآن الساعة اليدوية
فإنهما ليسا محيطين بالعضو؛ فالأول محيط بجزء من الإِصبع والثانية محيطة
بالمعصم الذي هو جزء من الساعد، وقد قال المصنف رحمه الله تعالى: وإنما
يحرم فيه -أي البدن- الملبوس والمعمول على قدر البدن أو قدر عضو منه إلخ.
وقد ألف شيخنا زكريا بيلا رسالة في جواز لبس المحرم للساعة اليدوية أسماها
آخر ساعة في حكم لبس المحرم للساعة.
(5) القباء بالمد، والقصر: هو ما يكون مفتوحاً من قدام كالشاية والجبة
والبالطو والكوت، والمشلح والفرجية والعباءة كما تقدم.
(6) أي بأن استمسك القباء ونحوه على عاتقه بنفسه من جهة طوقه سواء أدخل يده
في كمي القباء ونحوه أم لا.
(1/150)
قَامَ أوْ قَعَدَ لَمْ يَسْتَمْسك (1)
عَلَيْهِ إلا بإصْلاَحِ فَلاَ فِدْية وَلَهُ أنْ يَعْقِد الإِزَارَ (2)
وَيَشُدَّ خَيْطاً وَيَجْعَلَ لَهُ مثْلَ الْحُجْزةِ (3) وَيُدخل فيها
التكَّةَ (4).
ولَهُ أنْ يَغْرزَ طَرَفَيْ ردَائه في إزَارِهِ ولا يَجُوزُ عَقْد
الرِّدَاء (5) وَلاَ أنْ يَزُرَّهُ ولا يَخُلّهُ بخِلال أوْ مِسلّة (6) ولا
يَرْبطُ خَيْطاً في طَرفه ثُمَّ يَرْبطهُ في طَرَفه الآخَر فَافْهَمْ هَذَا
فإنَّهُ ممَّا يَتَسَاهَلُ فيه عَوَامّ الحُجَّاج ولاَ تَغتَر بقَوْلِ إمام
الحَرَمَيْنَ يَجُوزُ عَقْدُ الرِّدَاءِ كالإِزار فَإنَّهُ شاذ مَرْدُود
وَمُخَالفٌ لنَصَ الشَّافعيّ وأصْحَابِهِ.
وَقَدْ رَوَى الشافِعِيُّ تَحْريمَ عَقْد الرِّدَاءِ عن ابن عُمَر رَضِيَ
الله عَنْهُما ولَوْ شَقَّ الإِزارَ نصْفَيْن ولفّ على كلِّ ساقٍ نصْفاً
فهو حَرَام (7) على الأصَحِّ وتجبُ به الفْدَية.
وأمَّا المرأةُ فَالْوَجْهُ في حَقِّهَا كَرَأسِ الرَّجُل فَتَسْتُرُ
رَأسَها وسائرَ بَدَنها سِوَى الْوَجْه بالمحيط وجميعِ ما كانَ لها
السَّتْرُ به قبلَ الإِحرام كالْقَميصِ والسَّراويلِ والخُفِّ وتَسْتُرُ من
وجهها الْقَدْرَ اليسيرَ الذي يلي الرَّأسَ إذْ لا
__________
(1) أي بأن وضع القباء ونحوه منكساً بأنْ جعل طوقه مما يلي رجليه وأسفله
فوق.
(2) أي لا بأزارير في عرفاته فإنه ممتنع ففيه الفدية. لكن قيد الغزالي
ومجلي رحمهما الله تعالى بما إذا تقاربت الأزارير بحيث تشبه الخياطة.
(3) الحُجْزة: بضم الحاء على وزن حجرة.
(4) التكة: بكسر التاء.
(5) فيه وما بعده الفدية.
(6) ولا يلصقه بنحو صمغ لأنه يكون في معنى المخيط من حيث أنه يستمسك بنفسه.
(7) أي إن عقده بخلاف ما لو شده بخيط مثلاً فإنه لا يحرم، وفرق بين الشد
والعقد بأن العقد يصير المعقود مستمسكاً بنفسه، فوجدت فيه الإحاطة
الممتنعة، ولا كذلك الشد عليه بخيط لأنه غير مستمسك بنفسه فلا يسمى مخيطاً
والله أعلم.
(1/151)
يُمكن سَتْرُ جميع الرأس إلا به (1)
والرَّأْسُ عَوْرَةٌ تجب الْمُحافَظَةُ على سَتْرِهِ ولها (2) أنْ تَسْدِلَ
على وجههَا ثَوْباً مُتَجافياً (3) عنْهُ بخَشَبة ونَحْوها سَوَاء
فَعَلَتْهُ لحَاجَة مِنْ حَرّ أوْ بَرْد أو خَوْف فتْنة ونَحْوها أو لغَيْر
حاجَة فإنْ وَقَعَتْ الْخَشَبَةُ فأصابَ الثوْبُ وَجْههَا بغير اخْتيارها
ورَفَعَتْهُ في الحال فلا فِدْيةَ وإنْ كانَ عَمْداً أو وَقَعَتْ بغَيْرِ
اخْتيارِها فاسْتَدامَتْ لزمَتْهَا الْفِدْيةُ وإنْ سَتَرَ الْخُنْثَى
الْمشْكلُ وجْهَهُ فقط (4) أو رَأسَهُ فَقَطْ (5)
__________
(1) ولم يعكس لأن الستر أحوط.
(2) أي بل يجب ذلك عليها عند خشية الفتنة، فلو تحققتها مع وجود السدل
المذكور فينبغي وجوب الستر عليها بالملاصق مع الفدية. وعند الحنابلة جواز
سدل المرأة الثوب من فوق رأسها لا رفعه من أسفل ولو مس وجهها، ولا فدية
للحاجة كمرور الرجال قريباً منها لقول عائشة رضي الله عنها: (كان الركبان
يمرون بنا، ونحن محرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حاذونا
سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه) رواه أبو داود وابن
ماجة وغيرهما رحمهم الله تعالى، ذكر هذا في المجموع. ولم يأخذ الشافعي بهذا
الحديث لأن إسناده ضعيف كما أفاده المصنف في مجموعه، قال شيخنا زكريا بيلا
-متع الله بحياته آمين- في كتابه آخر ساعة: والآن لا يسع المرأة الشافعية
إلا أن تقلد هذا المذهب المعتبر لتستتر عن الرجال ولتتخلص من الإثم
والفدية. فقد عَم وطم اليوم ركوب المرأة مع الرجال الأجانب في الباخرة
والطائرة والسيارة، واجتماعها بهم في السكن والخيمة زمن موسم الحج، ويمرون
بها في المطاف والمسعى وعند رمي جمرة العقبة إلى آخر كلامه.
(3) اشترط القاضي أبو يعلى من الحنابلة هذا الشرط كالشافعية في المسدل على
وجه المرأة ورده الموفق في مغنيه بقوله: ولم أرَ هذا الشرط عن أحمد، ولا هو
في الخبر إلى آخر كلامه.
(4) أي بغير مخيط أما به فتلزمه الفدية مطلقاً بناء على حرمة ستر وجه الذكر
بمخيط لأن المرأة يحرم عليها ستره مطلقاً، والرجل يحرم عليه ستره بمخيط.
(5) هذا بالنسبة للحرمة أما الوجوب فسيأتي.
(1/152)
فلا فِدْيَةَ عليه وإنْ سَتَرَهمَا معاً
(1) لَزِمَتْه الْفِدْيةُ (2).
(فرع): يَحْرُمُ على الرَّجُل لبْسُ القُفازَيْن (3) في يَده (4)
وَيَحْرُمُ على الْمَرْأة أَيضاً على الأَصَحِّ (5).
ويَلْزَمُهُما بلبْسِهِ الْفِدْيةُ ولَوْ اخْتَضَبَتْ ولفت على يَدِهَا
خِرْقَةَ أو لفّتها بلا خِضَابِ فَالصَحيحُ أنَّهُ لا فِدْيةَ (6).
__________
(1) أي في إحرام واحد، وإن ستر أحدهما في إحرام والآخر في إحرام ثان فلا
يضر.
(2) ولا تلزم الخنثى الفدية فيما لو ستر رأسه ثم اتضح بالذكورة أو وجهه ثم
اتضح بالأنوثة والله أعلم.
(3) أي وتجب به الفدية لأنه ملبوس على قدر العضو فأشبه الخف، ولا يحرم على
الرجل ستر وجهه لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي خرّ من بعيره: "ولا
تخمروا رأسه" فخص الرأس بالنهي، والقفازان تثنية قفاز، وهو شراب اليد يعمل
لها، ليقيها من نحو البرد، ولبس القفاز الواحد كلبس القفازين.
(4) أي ولو كانت زائدة.
(5) قال في المجموع رحمه الله: وبه قال عمر، وعلي، وعائشة رضي الله عنهم.
اهـ. أقول: وهو مذهب أحمد ومالك كما في المغني لابن قدامة لما رواه أبو
داود بإسناد حسن. كما في المجموع عن ابن عمر رضي الله عنهم أنه - صلى الله
عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس
والزعفران من الثياب من مُعَصفر أو خز أو حرير أو حلي أو سراويل أو قميص أو
خف. وقال الثوري وأبو حنيفة: يجوز، وحكى ذلك عن سعد بن أبي وقاص. اهـ.
أقول: واحتجوا كما في مغني ابن قدامة بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -:
"إحرام المرأة في وجهها".
(6) هو المعتمد ومثل اللف الشد، وإنما حرم على المرأة لبس القفاز لأنه
ملبوس عضو ليس بعورة فأشبه خف الرجل، وهو الأصح كما في الحاشية فإن قيل:
يلزم عليه =
(1/153)
(فرع): هذا الَّذي ذَكَرْنَاهُ مِنْ
تَحْريم اللبس والستْر هو فيما إذا لم يَكُنْ عُذْر فإذا لَبِسَ أو سَتَر
شَيْئاً ممَّا قُلْنَا إنَّهُ حَرَامٌ أَثِم (1) ولَزِمَتْهُ الْفِدْيةُ
الّتي يَأتي بَيَانُها في آخر الكِتابِ إنْ شَاء اللهُ تَعَالى.
وأَمَّا الْمَعْذُورُ ففيه صُوَر:
أَحدهمُا: لو احْتَاج (2) الرَّجُل إلى سَتْرِ رَأسه أو لبْس الْمَخيطِ
لِحَر أو بَرْد أو مُدَاوَاة أو نَحْوها أو احْتَاجَتْ الْمَرأةُ إلَى
سَتْر وَجْهها (3) جازَ وَوَجَبَتْ الْفِدْية.
الثَّانِيَة: لو لَمْ يَجِدْ ردَاء ووَجَدَ قَميصاً لم يَجُزْ لُبْسُهُ بل
يَرْتَدِي به ولو لم يجد إزَاراً وَوَجَدَ سَرَاويلَ جازَ له لُبسهُ (4)
__________
= حرمة لبسها للخف لأنه أيضاً ملبوس عضو ليس بعورة. أجيب: بأن الخف ملبوس
عضو هو عورة على الإِطلاق بخلاف الكفين فإنهما ليسا عورة بالنسبة للصلاة
والله أعلم.
(1) أي إن كان مكلفاً، أما غيره فالإِثم على وليه إنْ علم وأقره.
(2) المراد بالحاجة هنا وفي سائر محظورات الإِحرام حصول مشقة لا يحتمل
مثلها غالباً، وإن لم تبح التيمم، ويجب إذا زال العذر النزع فوراً، وإن ظن
عود العذر، ولو على قرب وله نزع القميص من رأسه فإن استدام ففدية واحدة.
(3) أي كما لو خافت من نظرٍ إليها يجرّ لفتنة.
(4) قال في الحاشية: فارق هذان ما يأتي من وجوب قطع الخف أسفل من الكعبين
بالأمر بقطعه، وكأن وجهه أنه يلزمه من الفتق هنا ظهور عورته وهو ما يستحى
منه، ولو في الخلوة بخلاف قطع الخف، والفرق بخلاف هذا فيه نظر لا يخفى على
الفطن. ثم رأيت المصنف في المجموع صوّب أنه لو قدر على أن يستبدل بالسراويل
إزاراً واستوت قيمتهما وجب إن لم يمض زمن تبدو فيه عورته وإلا فلا، وهو
يؤيد ما فرقت به، ولو لم يجد إزاراً ووجد سراويل يتأتى الاتزار به على
هيئته اتزر به ولم يجز له لبسه، فكلامه هنا في سراويل لا يتأتى الاتزار به
على هيئته، ومثله قميص كذلك، واعلم إنه لا يجب في السراويل قطع ما زاد على
العورة، قال في المجموع: لإضاعة المال. اهـ. =
(1/154)
ولا فِدْية (1) سواء كَانَ بِحَيْثُ لو
فَتَقَهُ جاءَ مِنْهُ إزار أو لم يكن، وَقِيلَ: إنْ أمْكَنَ فَتْقُهُ
واتخاذُ إزار منهُ لزِمَ فَتْقُهُ ولم يَجُزْ لُبْسُهُ سَرَاويلَ
والصَّحيحُ أنهُ لا فَرْقَ وإذا لَبِسَهُ ثُمَّ وَجَدَ إزاراً وَجب
نَزْعُهُ فَإِنْ أَخرَ عَصَى وَوَجَبَتِ الفِدْيةُ.
الثالثةُ: لو لم يَجدْ نعْلَينِ جاز لُبْسُ المُكَعَّب وإنْ شَاءَ قَطَعَ
الخُفَّينِ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْن ولَبِسَهُمَا وَلاَ فِدْيةَ (2) وإنْ
لَبسَ المكَعّبَ أَو المقطُوعَ لفقْدِ النعْلين
__________
= وحينئذ فالفرق بينه وبين وجوب قطع الخف الآتي غامض، إلا أن يفرق أن ما
يلي العورة قد يستحى من ظهوره أيضاً بخلاف ما يظهر من القدم. اهـ.
(1) قال في المجموع: وبه قال أحمد وداود وجمهور العلماء. وقال مالك وأبو
حنيفة: لا يجوز له لبسه، وإن عدم الإزار فإن لبسه لزمته الفدية، وقال
الرازي من الحنفية: يجوز لبسه وعليه الفدية، ودليلنا حديث ابن عمر وابن
عباس، أقول: يعني قول ابن عباس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يخطب بعرفات يقول: "السراويل لمن لم يجد الإزار والخفات لمن لم يجد النعلين
يعني المحرم" رواه البخاري ومسلم.
(2) ظاهره له جواز قطع الخفين مع وجود المكعب، وبعضهم بحث حرمة القطع
لإضاعة المال بلا حاجة.
(تتمة): كل محظور جاز لحاجة فيه الفدية إلا نحو السراويل، والخفين
المقطوعين وما يأتي في دم الحلق والصيد ويعلم مما مر وما يأتي أنه لا تجب
الفدية في اللبس إلا على عامد عالم بالحرمة مختار لم يتحلل.
مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى فيمن لم يجد نعلين
قال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يجوز له لبس خفين بشرط قطعهما أسفل
من الكعبين، ولا يجوز من غير قطعهما وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود
والجمهور، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعروة والنخعي، وقال
أحمد: يجوز لبسهما من غير قطع، وروى ذلك عن عطاء وسعيد بن سالم القداح.
واحتج أحمد بحديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يخطب بعرفات يقول: =
(1/155)
ثُم وَجَدَهُما وجبَ النَّزْعُ فإنْ أخرَ
عَصَى وَوَجَبَتِ الْفِدْيةُ. والمرادُ بفقدِ الإِزار والنَّعْلَينِ أنْ لا
تقْدِرَ على تَحْصيله إما لفقدِه وإمّا لَعَدَمِ بذل مالكهِ وإما لِعَجْز
عن ثَمَنِهِ أو أجْرَتهِ، ولو بيعَ بِغبْن أو نسيئة أو وُهبَ لَهُ لم
يلزمهُ قَبُولهُ وإنْ أعيرَ وَجَبَ قَبُولهُ.
النوع الثاني: من محرمات الإحرام الطيب:
فَإذَا أَحْرَمَ حَرُم عليه (1) أنْ يَتَطَيَّبَ في بدنه أَوْ ثَوْبه أو
فِرَاشه بِمَا يُعَدُّ طِيباً (2) وهُوَ ما يَظْهَرُ فيه قَصدُ التطَيبِ
وإنْ كانَ فيه مَقْصُودٌ آخَرَ.
__________
= "السراويل لمن لم يجد الإِزار والخفاف لمن لم يجد نعلين يعني المحرم"
رواه البخاري ومسلم وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل" رواه
مسلم.
واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما
يلبس المحرم من الثياب؟ فذكر الحديث السابق في أول الفصل إلى قوله - صلى
الله عليه وسلم -: "إلا أحداً لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل
من الكعبين" رواه البخاري ومسلم.
وأجاب الشافعي والأصحاب عن حديثي ابن عباس وجابر بأن حديث ابن عمر فيه
زيادة، فالأخذ به أولى ولأنه مفسر وخبر ابن عباس مجمل فوجب ترجيح حديث ابن
عمر. قال الشافعي: وابن عمر وابن عباس حافظان عدلان لا مخالفة بينهما. لكن
زاد أحدهما زيادة فوجب قبولها. والله أعلم. اهـ.
أقول: وللإمام أحمد رواية بقطع الخفين ونحوهما حتى يكونا أسفل من الكعبين
قال الموفق رحمه الله: والأولى قطعهما عملاً بالحديث الصحيح حديث ابن عمر
وخروجاً من الخلاف وأخذاً بالاحتياط.
(1) أي على المحرم ولو أخشم.
(2) قال في الحاشية: أي على العموم والقول بأنه يعتبر عرف كل ناحية فيما
يتطيبون به غلط كما في الروضة وأصلها. اهـ.
(1/156)
وذلك كالمسكِ والكافُور (1) والعود
والعَنْبَرِ والصَّنْدَل والزعَّفرَان والوَرْس والْوَرْدِ وَالْيَاسمين
واللَّينوْفَر (2) والْبَنَفْسَج والنَّرْجسِ (3) والخِيْريِّ والرَّيحانِ
(4) والنَّسْرين والمَرْزَنْجُوش (5) والرَّيحان الْفَارسي وهُوَ
الضيْمُرَان (6) وما أشْبَهَها ولا يَحْرُمُ ما لاَ يَظْهَر فيه قصد
الرَّائحة وإنْ كانَ لهُ رائحةٌ طَيبةٌ كالفَوَاكه الطَّيبةِ الرَّائحة
كالسَّفَرْجلِ والتفّاح وَالأُتْرُج (7) والنارنْجِ وكذا الأدْويةُ
كالدَّارصيني وَالْقَرَنْفُل والْسنْبُل وسَائر الأَبازير الطيبة وكذا
الشِّيح والْقَيْصُوم والشَّقَائق وسائر أزْهَارِ الْبَراري الطيبة التي لا
تُسْتَنْبَتُ قَصْداً وكَذَا نَوْرُ (8) التفاح والْكُمَّثْرَى وغَيْرهمَا
وَكَذَا العُصْفُرُ والحِنّاء فَلاَ يَحْرُمُ شيء من هذه ولا فِدْيةَ فيه.
وأما الأدهان فضربان: دُهْنٌ هُوَ طيبٌ ودُهْنٌ لَيْسَ بطيب. فأمَّا ما
لَيْسَ بطيب كالزّيت والشيْرَجِ والسمْن والزبد وشبْهها فلا يَحْرُمُ
الإدّهان به في غَيْر الرأس وَاللحْية وسَيَأتي إن شَاء الله تَعَالى بيانُ
حُكْم الرأس واللِّحْيَةِ. وأما ما
__________
(1) يشمل الكافور الحي والميت.
(2) هو بنون مفتوحة ويسمى أيضاً (النينوفر) بنونين بينهما ياء.
(3) هو بنون مفتوحة فراء فجيم مكسورة فمهملة، وقوله: (والخيري) هو بخاء
مكسورة فياء ساكنة فراء مهملة فياء مشددة: شجر، وفي قول: ريحان طيب الريح
يوضع في الدهن، وهو ضربان: أصفر وأحمر والأصفر أطيب ريحاً.
(4) أي العربي.
(5) طيب تجعله المرأة في مشطها يضرب إلى الحمرة وقوله: والريحان هو بفتح
الراء والعامة تكسرها.
(6) قال في الحاشية والأفصح (الضومران) وهو نبت بري. وفي المجموع عن النص
أن الكاذي بالمعجمة ولو يابساً طيب. وينبغي تقييده في اليابس، بما إذا كان
بحيث لو رش عليه الماء ظهر ريحه، ومثله في ذلك فيما يظهر الفاغية وهي ثمر
الحناء.
(7) أي بهمزة مضمومة وتاء ساكنة أو مضمومة.
(8) أي زهر.
(1/157)
هُوَ طيب كَدُهن الورْد والبنفْسَجِ
فَيَحْرُمُ اسْتِعمالُهُ في جميعِ البدَن والثيَاب.
وأمّا دهْنُ البان المَنْشُوش (1) وَهُوَ المَخْلُوطُ بالطيب فَهُوَ طيب
وغَيْرُ المخْلوط لَيْسَ بطيبٍ.
ويَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْكُحْلِ الَّذِي فيهِ طيب وَدَوَاء العَرَق
الَّذِي فيه طيبٌ ويَحْرُمُ أكْلُ طَعَام فيهِ طيبٌ ظَاهِرُ الطَّعْم أوْ
الرَّائحةِ (2) فإنْ كَانَ مُسْتهلكاً فَلاَ بأسَ به وَإنْ بقِيَ اللَّونُ
دُونَ الرَّائحَةِ والطَّعْم لم يَحْرُمْ عَلَى الأَصَحِّ ولَوْ خَفيَتْ
رَائحَةُ الطِّيبِ أو الثوب المُطَيَّب بمُرُور الزَّمان وَالغُبار ونَحوه
فإنْ كَانَ بِحَيثُ لو أصَابَهُ المَاءُ فَاحَتْ رَائحتُهُ حرُمَ
استعمالُهُ فإنْ بقِي اللَّونُ فَقَطْ (3) لم يَحْرُمْ عَلَى الأَصَحِّ
ولَوْ انْغَمَرَ طيبٌ في غيره كَماء ورْدٍ قَليلٍ انْمَحَقَ في مَاء لَمْ
يَحرُم استْعمالُهُ عَلَى الأصَحِّ وإنْ بقي طَعْمُهُ أوْ ريحُهُ حَرُمَ
وإنْ بقِيَ اللَّوْن لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الأصَحِّ.
واعلم أَنَّ الاسْتِعْمالَ الْمُحَرَّمَ في الطِّيبِ هُوَ أنْ يلْصَقَ
الطِّيبُ ببَدَنهِ أو ثَوْبهِ عَلَى الْوَجْهِ المُعْتَاد في ذَلِكَ الطيب
(4) فَلَوْ طَيَّب جُزءاً منْ بدَنَهِ بِغَالتة أو
__________
(1) المنشوش: كما في الحاشية هو بفتح الميم وإسكان النون وبمعجمتين بينهما
واو منْ (النشيش) وهو صوت نحو الماء عند غليانه، وألْحَق في الأم بالبان
المنشوش في الحرمة الزنْبقِ وهو بفتح الزاي وإسكان النون وفتح الموحدة
بعدها قاف دهن الياسمين الأبيض، وألحق بعضهم بدهن الأترج دهن زهر النارنج
لاعتبار الطيب به وإن كان النارنج أو زهره ليس بطيب، وكدهن الأترج دهن زهره
كما هو ظاهر. اهـ.
(2) إنما يحرم في المسائل الثلاث التي ذكرها إذا ظهر طعم الطيب أو ريحه فلا
يشترط اجتماعهما. اهـ حاشية.
(3) أي ولم تظهر الرائحة عند رش الماء عليه.
(4) فلو وضع الورد والرياحين ببدنه أو ثوبه مِنْ غير شمٍّ لم يحرم لأن
الوجه المعتاد في التطيب بها الشم بوضع الأنف عليها أو أخذها باليد وشمها.
(1/158)
مسْك مَسْحُوق وَنَحْوهما لَزمَهُ
الفِدْيةَ سواءٌ ألصقَهُ بظَاهر البَدَنِ أو بَاطنه بأَنْ أَكَله (1) أوْ
احْتَقَنَ به أوْ اسَتَعطَ ولَوْ رَبَطَ مسْكاً أو كَافُوراً أو عَنْبَراً
في طَرَفِ إزَاره (2) لَزمتْهُ الفدْيةُ ولَوْ رَبَطَ العُودَ فَلاَ بَأسَ
لأَنَّهُ لا يُعَدُّ تطْييباً ولاَ يَحرُمُ أنْ يجْلسَ في حَانُوتِ
عَطَّارٍ أو في مَوْضع يُبَخَّرُ أو عِنْدَ الكَعْبة وهيَ تُبَخرُ أو في
بَيْت يتبَخَّرُ ساكنوه وإذَا عبقت (3) به الرَّائحَةُ في هَذَا دُونَ
العَيْن (4) لَمْ يحْرُمْ وَلاَ فِدْيةَ ثُم إنْ لَمْ يقصدْ الموضع
لاشتمَامِ الرَّائحَة لم يكْرَه وإنْ قَصَدَهُ لاشتمامها كره (5) عَلَى
الأصحِّ وفي قَوْلٍ لاَ يُكْرَهُ ولو احْتَوَى عَلَى مَجْمَرَة فتبخرَ
بالْعُودِ بَدَنُهُ أو ثوبُهُ عَصَى ولَزِمَتْهُ الفْدِيةُ ولو اسْتَرْوَحَ
إلى رَائِحَة طيب مَوْضُوع بين يَدَيْهِ (6) كُرِهَ ولم يَحْرُمْ لأَنَّهُ
لاَ يُعَدُّ تَطَيبَاً ولو مَسَّ طيباً فَلَمْ يَعْلقْ به شيء مِنْ عَيْنهِ
لكن عَبِقَتْ به الرَائحَةُ فلا فِدْيةَ على الأصَحِّ وفي قَوْلٍ (7)
يَحْرُمُ وتجب به الفدْية.
ولو شَمَّ الوَرْدَ فقد تَطَيَّب ولو شَمَّ ماء الوَرْد (8) فليسَ
مُتَطَيباً وإنما استِعْمَالُهُ أَنْ يَصبهُ على بَدنهِ أو ثَوبِهِ فلو
حَمَلَ مِسْكاً أو طيباً (9) صرد في كيس
__________
(1) محله في غير العود فلو أكله فلا فدية عليه لأنه لا يعد تطيباً إلا
بالتبخير به.
(2) أي في نفس الإِزار أما لو ربطه في خِرقة ثم ربطها في الإزار فلا بأس
كما سيأتي قريباً.
(3) عبقت: بكسر الباء.
(4) أي عين البخور وذلك دخانه إذ هو عين جزئه.
(5) أي للخلاف في وجوب الفدية.
(6) يعتاد التطيب لإلصاقه بالبدن.
(7) قال في الحاشية: هو ضعيف وإنْ صححه جماعة، ونص عليه في الأم والإملاء.
(8) أي من غير إلصاق بالبدن أو الثوب وكلامه يشمل ما فيه مسك أو غيره.
(9) عطف عام على خاص.
(1/159)
أو خرْقَةٍ مَشْدُودَة أو قارُورَة
مُصَمَّمَة الرَّأس (1) أو حَمَلَ الورْدَ في ظَرْف (2) فلا إثْمَ عليه ولا
فِدْيةَ وإن كان يَجِد رَائحَتَهُ، ولو حملَ مسْكاً في فَأرَة (3) غيْرِ
مَشْقُوقَةِ الرَّأس فلا فِدْيةَ على الأصَح وإنْ كانت مَشْقُوقَةَ الرَّأس
(4) لزمَتْهُ الفِدْيةُ (5) ولوْ جَلَسَ على فِراشٍ مُطَيَّبٍ أو أرضٍ
مُطَيَّبة أو نامَ عليهما مُفْضياً ببدنهِ أو مَلْبوسه إليهما أثِمَ
ولزمتْهُ الفِدْيةُ، فلو فَرَشَ فَوْقَهُ ثَوْباً ثُم جَلَسَ عليهِ أو نامَ
فلا فدْيةَ لكن إن كان الثوْبُ رَقيقاً (6) كُرِهَ ولو دَاسَ بنَعْلهِ
طِيباً لَزِمَتْهُ الفدْيه (7).
(فرع): إنمَا يَحْرُمُ الطِّيبُ وتَجبُ فيه الْفِدْيةُ إذا كان
اسْتِعْمالُهُ عن قَصْدٍ (8) فإنْ كانَ تَطَيَّبَ نَاسياً (9) لإحْرَامه أو
جَاهلاً بتَحْريم الطيب أو مُكْرَها (10)
فَلاَ إثْمَ ولا فِدْيةَ ولو عَلِمَ تَحْريمَ الطيب وجَهِلَ كَوْنَ
الْمُسْتَعْمل طِيباً فلا إثْمَ
__________
(1) أي مسدودته.
(2) الورد من الرياحين وقد تقدم أن التطيب بها إنما يكون بأخذها بيده وشمها
أو وضع أنفه عليها.
(3) الفأرة الجلدة التي فيها المسك.
(4) ولو يسيراً.
(5) أي إنْ علق به شيء من عين الطيب وإلا فلا إثم ولا فدية، كما يفهم من
كلام المصنف رحمه الله الآتي في قوله: ولو مس طيباً بنعله إلخ.
(6) أي ومنع الثوب الرقيق الطيب من أن يعلق به شيء منه وإلا فهو كالعدم.
وقوله: كره أي لأنه لا يقطع عنه رائحة الطيب بالكلية.
(7) أي إن علق به شيء.
(8) أي واختيار ومثله في هذا النوع الأول من اللبس ونحوه كما مر.
(9) أي وإن كثر الطيب.
(10) فلو طيب المحرم غيرهُ فالفدية على الفاعل حيث لا اختيار للمفعول به
نظير ما يأتي في المحلوق.
(1/160)
ولا فدْية على الصَّحيح ولو مَسَّ طيباً
يَظُنُّهُ يابساً لا يَعْلَقُ منهُ شيء فكان رَطباً ففي وُجُوب الفدْية
قَوْلان للشَّافعيِّ رحمَهُ الله تعالى رَجَّحَتْ كل طَائِفَةٍ مِنْ
أصْحَابِه قَوْلاً والأَظْهَرُ تَرْجيحُ عَدَم الْوُجُوب (1) ومتى ألْصَقَ
طيباً بِبَدَنِهِ أو ثَوْبه على وجْهٍ يقْتَضِي التَّحْريمَ عَصَى ولَزمَهُ
الفِدْيةُ ووَجَبَتْ عليه المبادرةُ إلى إزَالته (2) فَإنْ أخرَ عَصَى
بالتأخير عصْيَاناً آخَر ولا تكَرَّرُ به الفِدْيةُ، ومتى لَصِقَ به على
وجْهٍ لا يَحْرُمُ ولاَ يُوجبُ الفِدْيةَ بأنْ كَانَ نَاسياً أو جَاهلاً أو
مُكرهاً أو ألْقَتْهُ الريحُ عَلَيْهِ لزمَتهُ المُبَادرَةُ إلى إزَالَته
فَإنْ أخَّر معَ الإِمْكَانَ عَصَى ولَزمَتْهُ الفِدْيةُ وإزَالتهُ تكُونُ
بنَفْضِه إنْ كان يابساً فَإنْ كانَ رَطْباً فَيَغْسلُهُ أو يُعَالجُهُ بما
يقْطَعُ ريحَهُ والأَوْلَى أنْ يَأمُرَ غيرَهُ بإزَالَته (3).
فإنْ بَاشَر إزَالَته بِنَفْسهِ لَمْ يضر (4).
__________
(1) هو المعتمد.
(2) أي لو بغير ماء ولا فرق فيما ذكر بين تطيب عصى به وغيره.
(3) أي حيث لا تراخي فيه وإلا حرم.
(4) أي وإن طال زمن الإزالة لأنها ترك ولو توقفت إزالته على أجرة مثل فاضلة
عما ذكر الفقهاء في الفطرة لزمته، فإن قيل: ينبغي أن لا يتولى المحرم إزالة
الطيب الرطب الذي علق به بنفسه إذا قدر على إزالته بغيره فوراً على وجه لا
ضرر عليه فيه لأنه مباشر للطيب مع إمكان الاحتراز عنه. أجيب: بأن المؤثر
مباشرة فيها نوع ترفه ولو بوجه، وهذا لا ترفه فيه ألبتة لأن إزالتة ترك له.
ولو أراد إزالته بنفسه وأمكنته بمس وبغيره كانت بغيره أولى أيضاً لا واجبة.
اهـ حاشية بتصرف.
مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى في الطيب مأخوذة من المجموع
قال في المجموع: قد ذكرنا أن الطيب حرام على المحرم، وهذا مجمع عليه،
ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر أو يجعله في بدنه أو ثوبه، وسواء كان
الثوب مما يخفض الطيب أم لم يكن. قال العبدري: وبه قال أكثر العلماء، وقال
أبو حنيفة: يجوز للمحرم =
(1/161)
فَإِنْ كَانَ أقْطَعَ أوْ زَمِناً لاَ
يقْدرُ عَلَى الإِزَالَةِ فَلاَ إثْم وَلاَ فِدْيةَ كَمَنْ أكْره عَلَى
التَّطَيب فَإِنَّهُ مَعْذُور.
__________
= أن يتبخر بالعود والنَّد ولا يجوز أن يجعل شيئاً من الطيب في بدنه، ويجوز
أن يجعله على ظاهر ثوبه، فإن جعله في باطنه وكان الثوب لا ينفض فلا شيء
عليه، وإن كان ينفض لزمه الفدية - دليلنا حديث ابن عمر رضي الله عنه أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يلبس ثوباً مسه ورس أو زعفران"
رواه البخاري ومسلم وهو عام يتناول ما ينفض وغيره.
(فرع): الحناء ليس بطيب عندنا كما سبق ولا فدية، وبه قال مالك وأحمد وداود
وقال أبو حنيفة: طيب يوجب الفدية - دليلنا حديث رواه البيهقي عن عائشة رضي
الله عنها سئلت عن الحناء والخضاب فقالت: (كان خليلي - صلى الله عليه وسلم
- لا يحب ريحه) قال البيهقي: فيه الدلالة على أن الحناء ليس بطيب.
(فرع): إذا لبس ثوباً معصفراً فلا فدية، والعُصْفر ليس بطيب، هذا مذهبنا
وبه قال أحمد وداود وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وجابر وعبد الله بن جعفر
وعقيل بن أبي طالب وعائشة وأسماء وعطاء قال: وكرهه عمر بن الخطاب وممن تبعه
الثوري ومالك ومحمد بن الحسن وأبو ثور وقال أبو حنيفة: إن نفض على البدن
وجبت الفدية، وإلا وجبت صدقة. دليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"وليلبسن ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حرير". من بعض حديث
رواه أبو داود بإسناد حسن.
(فرع): إذا حصل الطيب في مطبوخ أو مشروب: فإنْ لم يبق له طعم ولا لون ولا
رائحة فلا فدية في أكله، وإن بقيت رائحته وجبت الفدية بأكله عندنا كما سبق.
وقال أبو حنيفة: لا فدية، ودليلنا أن مقصود الطيب وهو الترفه باقٍ.
(فرع): ذكرنا أن مذهبنا أن في تحريم الريحان قولين (الأصح) تحريمه ووجوب
الفدية. وبه قال ابن عمر وجابر والثوري ومالك أبو ثور وأبو حنيفة. إلا أن
مالكاً وأبا حنيفة يقولان يحرم ولا فدية. قال ابن المنذر: واختلف في الفدية
عن عطاء وأحمد، وممن جوّزه وقال هو حلال لا فدية فيه: عثمان وابن عباس
والحسن البصري ومجاهد وإسحق. قال العبدري: وهو قول أكثر الفقهاء.
(فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا جواز جلوس المحرم عند العطار ولا فدية فيه. وبه
قال ابن المنذر، قال: وأوجب عطاء فيه الفدية، وكره ذلك مالك.
(1/162)
النوع الثالث (1): دهن شعر الرأس
واللِّحْية (2):
فَيَحْرُمُ عَلَيْه دهنُهما بِكُل دُهْن سَوَاء كَانَ مُطيِّباً أوْ غَيْرَ
مُطَيِّبِ كَالزيْتِ وَالسَّمْنِ ودُهْن الجَوْز وَاللَّوْز ولَوْ دَهَن
الأَقْرَعُ رَأسَهُ وهُوَ الَّذِي لاَ يَنْبُتُ بِرَأْسِهِ شَعْر بهذَا
الدُهْنِ فَلاَ بَأْسَ وَكَذَا لو دَهَنَ الأَمْرَدُ ذَقْنَهُ فَلاَ بَأْسَ
ولَوْ دَهَنَ مَحْلُوقُ الشَّعْر رَأْسَهُ عَصَى عَلَى الأَصَحِّ ولَزمهُ
الْفِدْيةُ، ويَجُوزُ اسْتعمالُ هذا الدهن في جَميعِ الْبَدن سِوَى
الرَّأْس وَاللّحْية ولَوْ كانَ في رَأْسه شَجة فَجَعَلَ الدُّهنَ في
باطنها فَلاَ فِدْيةَ.
__________
(1) دليل هذا النوع ما فيه من التزيين المنافي لحديث: (المحرم أشعث أغبر)
أي شأنه المأمور به ذلك.
(2) أي ولو من امرأة، والواو هنا بمعنى (أو)، وقوله: (دَهْن) بفتح الدال
بمعنى التدهين، ومثل شعر اللحية سائر شعور الوجه ما عدا شعر الخد والجبهة
والأنف فيحرم على المحرم ولو قصر الزمن دهن شعر رأسه ووجهه ما عدا شعر الخد
والوجه والأنف، وإن كان الشعر محلوقاً لا رأس الأقرع والأصلع في محله وذقن
الأمرد قبل زمن إنباته، وليحترز المحرم عند كل الدسم كسمن ولحم وشحم من
تلويث العنفقة أو الشارب فإنه مع العلم والتعمد حرام تجب فيه الفدية، ولو
لشعرة واحدة أو بعضها.
مسائل في مذاهب العلماء في ادهان المحرم بدهن غير مطيب مأخوذة من المجموع
(فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا أن الزيت والشيرج والسمن والزبد ونحوها من
الأدهان غير المطيبة لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه، ويحرم عليه في
شعر رأسه ولحيته.
وقال الحسن بن صالح: يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته، وقال
مالك: لا يجوز أنْ يدهن بها أعضاءه الظاهرة كالوجه واليدين والرجلين ويجوز
دهن الباطنه، وهي ما يوارى باللباس، وقال أبو حنيفة كقولنا في السمن
والزبد، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال: يحرم استعماله في الرأس والبدن ..
وقال أحمد: إذا دهن بزيت أو شيرج =
(1/163)
النوع الرابع: الحلق
وقلم الظفر:
فَيَحْرُمُ إِزَالَة الشَعْر بِحَلْقٍ أوْ تَقْصيرٍ أوْ نتف أو إحرَاقٍ أو
غير ذلك (1) سَوَاء فيه شَعْرُ الرَّأس والإِبط والْعَانَة والشَارب
وغَيْرهَا مِنْ شُعُور الْبَدَن حتى يحرُم بَعْضُ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ
أي مَوْضع كان من بَدنه وإزَالَةُ الظِّفْر كإزَالَة الشَّعْر فَيَحْرُمُ
قَلْمُهُ وكَسْرهُ وقَطْعُ جُزُءٍ منهُ فإِن فَعَلَ شَيْئاً من ذَلِكَ
عَصَى وَلَزِمَتْهُ الفِدْية (2)
__________
= فلا فدية في أصح الروايتين سواء يداه ورأسه، وقال داود: يجوز دهن رأسه
ولحيته وبدنه بدهن غير مطيب.
واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد رحمه الله عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ادهن بزيت غير
مقنت وهو محرم) رواه البيهقي وهو ضعيف، وفرقد غير قوي عند المحدثين. قال
الترمذي: (وهو ضعيف غريب لا يعرف إلا من حديث فرقد، وقد تكلم فيه يحيى بن
سعيد). وقوله: (غير مقنت أي غير مطيب).
وإذا لم يثبت الحديث تعين المصير إلى حديث آخر وهو أن الذي جاء الشرع به
استعمال الطيب، وهذا ليس منه، فلا يثبت تحريمه. هذا دليل على من حرمه في
جميع البدن .. أما من أباحه في الرأس واللحية فالدليل عليه ما ذكره المصنف.
أقول: يعني أبا إسحق الشيرازي صاحب المهذب رحمه الله وما ذكره هو قوله:
(لأنه يرجل الشعر ويزينه).
(فرع): قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يكل الزيت والشحم
والشيرج والسمن. قال: وأجمع عوام أهل العلم على أنه له دهن بدنه بالزيت
والشحم والشيرج والسمن .. قال: وأجمعوا على أنه ممنوع من حيث استعماله
الطيب في جميع بدنه والله أعلم.
(1) أي من سائر وجوه الإِزالة فيشمل الزائل بواسطة حَك رجل الراكب في نحو
قتب فتجب فيه الفدية وإن احتاج لذلك غالباً لإمكان الاحتراز عنه كما في
الحاشية وفي التحفة حتى بشُرْب دواء مزيل مع العلم والتعمد فيما يظهر.
(2) وذلك لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196]، أي
شيئاً من شعرها وألحق به سائر =
(1/164)
ويَحْرُمُ عليه مَشْطُ لحيته وَرَأسه إنْ
أدَّى إلى نَتْف شيء مِنَ الشَّعْر (1) فإنَّ لَمْ يُؤَد إليه لم يَحْرمْ
لكن يُكْرَهُ فإنْ مَشَطَ فَنَتَفَ لزِمَهُ الفِدْيةُ فإنْ سَقَطَ شَعَر
فَشَكَّ هَلْ انْتَتَفَ بالمَشْط أم كَان مُنْتَسلاً فلا فِدْيةَ عليه على
الأَصَحِّ ولو كَشَطَ جلدَ رأسهِ أو قَطَع يَدَهُ أو بعضَ أصابعه وعليه
شعْرٌ أو ظفْرٌ فلا فدية عليه لأَنَّهُما تابعان (2) غيْر مقصودَيْن (3)
ويجوز للمحرم أن يحلق شعر الحلال (4) ويحرُمُ على الحلاَل حَلْقُ شَعْر
المُحْرم فإِن حلقَ حلالٌ أو مُحْرمٌ شَعْر مُحْرم آخر أثم (5).
فإِنْ كان حَلَقَ بإِذْنه فالفدْيةُ على المَحلُوقِ (6) وإنْ حَلَقَ
بِغَيْرِ إِذْنه بأن كَانَ نائماً أو مُكْرَهاً أو مُغْمى عليه (7) أو
سَكَت (8) فَالأَصحُّ أَنَّ الفديةَ على الْحَالق وقيل على المَحْلُوق.
__________
= شعور البدن وإزالة الظفر بجامع أن في كل ترفهاً ينافي كون المحرم أشعث
أغبر أي شأنه المأمور به ذلك أي ليكن كذلك.
(1) أي باعتبار عادته الغالبة فيما يظهر فإن لم يعرف له عادة كذلك، فإن ظن
الانتتاف حرم، وإلا فلا فيما يظهر. اهـ حاشية.
(2) أي للجلد واليد والإصبع.
(3) أي سواء كان فعل ذلك لعذر أم لا.
(4) أي بإذنه وإلا أثم وعزر وعلم الرضا كالإذن بالنسبة لعدم الإِثم مطلقاً
ولعدم التعزير إن صدقه عليه وإلا فالقول قوله بيمينه. اهـ تعليق عن ابن
الجمال رحمه الله.
(5) أي لارتكابه محرماً.
(6) أي لإضافة الفعل إليه مع انفراده بالترفه وإنْ اشتركا في الإِثم، فإنْ
قيل: المباشرة مقدمة على الأمر فلم قدم عليها؟ أجيب: بأن محل ذلك ما إذا لم
يعد نفعه على الآمر بخلاف ما إذا عاد كما لو غصب شاة فأمر قصاباً بذبحها لم
يضمنها إلا الغاصب.
(7) أي أو مجنوناً أو صبياً لا يميز.
(8) أي بأن كان غير قادر على منعه.
(1/165)
فَعَلى الأَصَح لو امْتَنَعَ الحَالقُ مِنْ
إخْراجِها فَللْمَحْلْوق مُطالبتهُ (1) بإخْراجَها على الأَصَح ولو
أخْرَجَهَا المحْلُوق (2) عن الْحَالق بإذْنه جازَ وبِغَيْرِ إذْنهِ لا
يجُوزُ على الأَصح ولو أمَرَ حَلاَلٌ حَلاَلاً بحَلْق شَعْر مُحْرِم نَائِم
فالفِدْيةُ على الآمرِ إنْ لم يعرف الحالِقُ الحَال فمانْ عَرَفَ
فَعَلَيْهِ على الأَصَح (3).
(فرع): هَذَا الَّذي ذَكَرْنَاه في الحَلْق والْقَلْم بغيرِ عُذْرِ فأمّا
إذا كان بِعُذْر فَلاَ إثْمَ.
وأمّا الفِدْيةُ ففيها صورٌ: منها النَّاسي والجاهلُ فعَلَيْهِمَا الفدية
على الأصَح (4) لأَنَّ هذا إتْلاَفٌ فلا يَسْقُطُ ضَمانُه لعذر كإتلاَفِ
المالِ ومنها ما لو كَثَرَ الْقَملُ في رَأسِهِ أو كانَ به جِرَاحَة
أَحْوَجَهُ أذاها إلَى الْحَلْق أو تأذى بالْحَرِّ لكثْرةِ شَعْرهِ فَله
الحَلق وعليه الفِدْيةُ ومنها لو نَبَتَت شَعْرَةٌ أو شَعَرَاتٌ داخل
__________
(1) هو المعتمد كما في الحاشية لأنها وجبت بسببه ونسكه.
(2) ومثله غيره.
(3) هو المعتمد.
مذاهب العلماء فيما لو حلق محرم رأس حلال
قال المصنف رحمه الله تعالى في المجموع: جاز ولا فدية، وبه قال مالك وأحمد
وداود، وقال أبو حنيفة: لا يجوز فإنْ فعل فعلى الحالق صدقة كما لو حلق رأس
محرم.
دليلنا أنه حلق شعراً لا حرمة له بخلاف شعر المحرم ولو حلق حلال شعر محرم
نائم أو مكره فقد ذكرنا أن الأصح عندنا وجوب الفدية على الحالق. وبه قال
مالك وأحمد وأبو ثور وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: تجب على المحلوق ولا
يرجع بها على الحالق، وقال عطاء: من أخذ من شارب المحرم فعليهما الفدية.
اهـ.
(4) الأصح في المجموع كما في الحاشية إن المغمى عليه والمجنون والصبي إذا
لم يكن لهم تمييز لا فدية عليهم ولا على وليهم وإن خالف قاعدة الإِتلاف
لنسبة نحو الناسي لتقصيره لشعوره بفعله، بخلاف نحو المجنون، وأيضاً فكل من
الحلق والقلم ليس =
(1/166)
جَفْنهِ وتأذَّى بهَا قَلَعها ولا فديْةَ
(1) وكَذَا لو طَال شَعْر حاجبه أو رَأسه وَغَطَّى عينهُ قَطَعَ المُغَطي
ولا فِدْيةَ وكذا لو انكسَرَ بعضُ ظُفْرِهِ وَتأذَّى به قَطَعَ المُنكسِرَ
ولاَ يقْطَعُ معه من الصَّحيح شيئاً.
النوع الخامس: عَقْدُ النكاحِ:
فَيَحْرُمُ على الْمحْرِم (2) أنْ يُزَوجَ أو يَتَزَوجَ وكل نِكَاحٍ كَانَ
الوَلي فيه مُحْرِماً أَو الزوْجُ أَو الزوْجةُ بَاطلٌ وَتَجُوزُ الخطبة في
الإِحْرامِ على الأصَح لكن تكْرَه ويجُوزُ أن يكونَ المُحْرِم شاهداً في
نكاح الحَلاَلَيْن على الأصَحِّ وتكْرَهُ خِطْبةُ المَرْأَةِ في الإِحْرامِ
ولا تَحْرمُ.
__________
= إتلافاً مَحْضاً بل يتردد بينه وبين الاستمتاع فغلب في نحو الناسي شبه
الإتلاف، وفي نحو المجنون شبه الاستمتاع لما ذكر، والفرق بأن نسك نحو
المجنون ناقص فلا يحتاج للجبر فلا تأثير له، وكالمغمى عليه النائم بخلاف من
أثم بتعاطي ما يزيل عقله بمسكر أو غيره لأنه كالصاحي.
وعلم مما تقرر هنا وفيما يأتي في آخر الكتاب على الكلام على الفدية القاعدة
المشهورة وهي أن ما كان إِتلافاً محضاً كقتل الصيد لا يؤثر فيه الجهل
والنسيان، وما كان استمتاعاً وترفهاً يؤثر فيها. وما أخذ شبهاً من الجانبين
تارة يغَلب فيه الأول، وتارة يغَلب فيه الثاني والله أعلم.
(1) يفرق بين عدم وجوب الفدية هنا وبين وجوبها فيما لو كثر القمل برأسه بأن
الضرر هنا أشد والله أعلم.
(2) كالمحرم وكيله، وإن كان الإِحرام فاسداً ويستثنى نواب الإِمام والقاضي
فلكل منهم إذا كان حلالاً أن يعقد مع إحرام مستنيبه لعموم ولايتهم وبه
فارقوا الوكلاء.
وكنكاحه إذنه لعبده أو مولته في النكاح فلا يصح على الأوجه كما في الحاشية.
(فروع): كما في الحاشية قال رحمه الله: لا تنتقل الولاية بسبب الإحرام إلى
الأبعد بل يزوج السلطان أو القاضي ولو وكل حلال حلالاً في التزويج ثم أَحرم
أحدهما أو المرأة زوج بعد التحلّلين بالولاية السابقة، ولو وكل حلال محرماً
ليوكل حلالاً عن نفسه =
(1/167)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
__________
= أو محرم حلالاً ليزوجه إذا حل جاز، ولو اختلف الزوجان في وقوع العقد حال
الإحرام، ولا بيّنة، فإنْ ادّعت وقوعه فيه صدق بيمينه، وفي عكسه تصدق
بيمينها بالنسبة لوجوب المسمى وسائر مؤن النكاح ويحكم بانفساخه، ولو ادعى
أنه فيه وقالت: لا أدري حكم ببطلانه، ولا مهر لها لأنها لم تدعه والإحرام
الفاسد كالصحيح في جميع ما ذكر كما علم مما مَرّ، ويجوز أن تزف المحرمة إلى
الحلال وعكسه نعم لا يبعد كراهة ذلك كالخطبة الآتية بل أولى. اهـ.
مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى [في] نكاح المحرم
قال المصنف في مجموعه: قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يصح تزوج المحرم ولا
تزويجه، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهو مذهب
عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وسعيد بن
المسيب وسليمان بن بشار والزهري ومالك وأحمد وإسحق وداود وغيره رضوان الله
عليهم.
وقال الحكم والثوري وأبو حنيفة: يجوز أن يتزوج ويزوج، واحتجوا بحديث ابن
عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تزوج ميمونة وهو محرم) رواه
البخاري ومسلم. واحتج أصحابنا بحديث عثمان رضي الله عنه أن رسول الله قال:
"لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح" رواه مسلم.
(فإن قيل): المراد بالنكاح الوطء. فالجواب: أن اللفظ إذا اجتمع فيه عُرْف
اللغة وعُرْفُ الشرع قُدم عرف الشرع لأنه طارئ، وعُرف الشرع أن النكاح:
"العقد" لقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء:
25]، {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ} [البقرة: 232]، {فَانْكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. وفي الحديث الصحيح: (ولا
تُنكح المرأة على عمتها). وفي الصحيح: (انكحي أسامة).
والمراد بالنكاح في هذه المواضع وشبهها العقد دون الوطء.
وأما قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وقوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا
زَانِيَةً} [النور: 3] فإنما حملناه على الوطء بدليل قوله - صلى الله عليه
وسلم -: "حتى تذوقي عسيلته".
الجواب الثاني: إن في الحديث: (لا يَنكح ولا يُنكح ولا يخطب) والخطبة تراد
للعقد وكذلك النكاح. قالوا: يحمل (ولا يخطب) على أنه لا يخطب الوطء بالطلب
والاستدعاء. (والجواب): أن الخطبة المقرونة بالعقد لا يفهم منها إلا الخطبة
المشهورة وهي طلب التزويج. =
(1/168)
النوع السادس: الجمَاعُ ومُقَدّماته:
فَيَحْرمُ على المحرم الوطْء (1) في القُبل والدُّبر مِنْ كل حَيَوان
وَتَحْرُمُ المُبَاشَرَة (2) فيمَا دُونَ الفَرْجِ بِشَهْوَة (3)
__________
= وأما الجواب عن حديث ابن عباس في نكاح ميمونة: فإن الروايات اختلفت في
نكاحها. فروى يزيد بن الأصم عنها وهو ابن أختها أن النبي - صلى الله عليه
وسلم -: (تزوجها وهو حلال) رواه مسلم. وعن أبي رافع أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: (تزوج ميمونة حلالاً وبنى بها حلالاً، وكنت الرسول
بينهما) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. قال أصحابنا: وإذا تعارضت الروايات
تعين الترجيح فرجحنا رواية الأكثرين أنه تزوجها حلالاً والترجيح الآخر وهو
أن رواية تزوجها حلالاً من جهة ميمونة رضي الله تعالى عنها وهي صاحبة
القصة، وأبي رافع، وكان السفير بينهما فهما أعرف، فاعتماد روايتهما أولى.
(فرع): إذا تزوج المحرم فنكاحه باطل عندنا وعند الجمهور، ويفرق بينهما
تفرقة الأبدان بغير طلاق. وقال مالك وأحمد: يجب تطليقها لتحل لغيره بيقين
لشبهة الخلاف في صحة النكاح. ودليلنا أن العقد الفاسد غير منعقد، فلا يحتاج
في إزالته إلى فسخ كالبيع الفاسد وغيره، وفي هذا جواب عن دليلهم.
(فرع): قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا صحة رجعة المحرم، وبه قال مالك
والعلماء إلا أحمد في أشهر الروايتين عنه. دليلنا أنها ليست بنكاح وإنما
نهى الشرع عن النكاح والله أعلم. اهـ مختصراً.
أقول: قال العلامة منصور البهوتي الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه كشاف
القناع: وتباح الرجعة للمحرم وتصح لأنها إمساك. اهـ. فلعل المذهب اختيار
الرواية الأخرى.
(1) والدليل على تحريم الجماع ومقدماته على المحرم. قوله تعالى: {فَلَا
رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] والرفث
الجماع. ومعنى (فلا رفث): لا ترفثوا. لفظه خبر ومعناه النهي.
(2) أي ولو لغلام. والمباشرة هي إلصاق البشرة -وهي ظاهر الجلد- بالبشرة.
(3) الشهوة: اشتياق النفس إلى شيء، وينبغي أن يتنبه لذلك من يحج بحليلته،
لا سيما عند إركابها وتنزيلها فمتى وصلت بشرته لبشرتها بشهوة أثم ولزمته
الفدية، وإن لم ينزل. اهـ كردي. اهـ إعانة الطالبين.
(1/169)
كالمفَاخَذَة (1) والْقُبْلَة واللّمس
بالْيد بَشَهْوَةٍ وَلاَ يَحْرُمُ اللمس والْقُبْلَةُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ
وَهَذَا التحْرِيم في التحِريم في الجِمَاع يَسْتَمِرُّ حَتَّى يَتَحَلَّل
التَّحَلُلَيْن وكَذَا المُبَاشَرَةُ بغَيْر الجمَاع يَسْتَمر تَحْريمُهَا
عَلَى الْقَوْل الأصَح وَعَلى قَوْلٍ يحل بالتَّحَلل الأَوَّل وحَيْثُ
حَرَّمْنَا المُبَاشَرَةَ فيما دُونَ الفَرْج فَبَاشَرَ عَامداً عَالماً
لَزِمه الْفِدْيةُ (2) ولاَ يَفْسُدُ نُسُكهُ وإنْ بَاشَرَ نَاسياً فَلاَ
شَيْءَ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَف سَوَاءٌ أَنزَلَ أمْ لاَ.
والاسْتِمنَاء (3) بالْيَد يُوجبُ الْفِدْيةَ وَلَوْ كَرَّرَ النَظَرَ إلَى
امْرأَةٍ فَأَنْزَلَ مِنْ غَيْر مُبَاشَرَةٍ وَلاَ اسْتِمْنَاء فَلاَ
فِدْيةَ عَلَيه عندَنَا ولاَ عِنْدَ أبي حَنيفَةَ ومَالك رَحمهما اللهُ
وَقَالَ أحْمَدُ في روايةٍ تَجِبُ بدَنةٌ وفي رواية شاةٌ وَأمَّا الوطء في
قُبُل المرأة أوْ دُبُرها أوْ دُبُر الرَّجُل وَالْبهيمةِ فَيَفْسُدُ به
الحج إنْ كَانَ قَبْلَ التَّحَلل الأول (4) سوَاء قَبْل الْوُقُوف
بعَرَفَةَ أَو بعده وإنْ كَانَ بين التَحْللَيْن لَمْ يفْسد الْحَج (5) وإن
__________
(1) أي والمعانقة.
(تنبيه): يحرم على الحلال مباشرة المحرمة حيث لا يجوز له تحليلها، ويحرم
على المحرمة تمكين الحلال من مباشرتها والله أعلم.
(2) محله ما لم يجامع بعدها، وإلاّ دخل واجبها وهو الشاة في واجب الجماع من
بدنة إذا كان قبل التحللين أو شاة إذا كان بين التحللين.
(3) الاستمناء هو طلب خروج المني بيده أو بيد غيره. وقوله: يوجب الفدية أي
إن أنزل، ومثله التقبيل والمباشرة ولو لذكر بشهوة بدون حائل أنزل أم لا
فيهما الفدية.
(4) يشمل من فاته الحج وهو المعتمد، كما في الحاشية فحيث جامع قبل التحلل
منه بنحو الطواف المتبوع بالسعي والحلق فسد بشرط العلم والعمد والاختيار
والتمييز وكذا تلزمه الفدية لو فعل شيئاً من محرمات الإحرام قبل ذلك، ولا
فرق في الإِفساد والإِثم بالوطء بين الفاعل والمفعول المكلف وكذا تلزم كلاً
منهما الفدية لو فعل شيئاً من محرمات الإحرام قبل ذلك.
(5) أي ولكن تجب به شاة أو سُبْع بَدَنة أو سُبْع بقَرة أو صوم ثلاثة أيام
أو التصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع. وتتكرر الفدية
بتكرار الوطء.
(1/170)
جامَعَ في الْعُمْرَةَ قَبْل فَرَاغها
فَسَدَت (1) وإذا فَسَدَ الْحَجُّ أو الْعُمْرَةُ (2) وجَبَ
__________
(1) أي إن كانت مفردة أما القارن فعمرته تابعة لحجه صحةً وفساداً كما يحل
له معظم المحظورات بعد التحلل وإن لم يأت بأفعالها. فإن جامع قبل التحلل
الأول، فسد نسكاه، وإنْ كان قد أتى بصورة أعمال العمرة بتمامها كأن طاف
وسعى وحلق قبل الوقوف تعدياً أو لعذر أو حلق بعده ولم يحصل التحلل الأول
وإن جامع بعده لم يفسد وإن لم يأت بجميع أفعال العمرة كان رمى وحلق فقط.
(2) أي بالوطء بشرط العلم والعمد والاختيار والتمييز. وكون الوطء قبل
التحللين في الحج وفي العمرة قبل تمامها. هذا إذا كانت مفردة وإلا فهي
تابعة للحج كما تقدم، ولا فرق في إفساد ما ذكر وفي الإثم بالوطء بين الفاعل
والمفعول المكلف، وأما الفدية فلا تلزم إلا الرجل المواقع لأنه لم يؤمر
بالكفارة في الحديث في إفساد الصوم إلا هو ولأن الكفارة غرم مالي يتعلق
بالجماع فيختص بالرجل الواطىء كالمهر فلا يجب على الموطوءة.
وعند العلامة المحقق ابن حجر المكي رحمه الله تعالى في فدية الجماع تفصيل
وهو لزوم الكفارة للرجل إنْ كان زوجاً محرماً مكلفاً وإلا فعليها حيث لم
يكرهها وكذا لو زنت أو مكنت غير مكلف.
وفي الكردي ما نصه: والذي يتلخص مما اعتمده الشارح -يعني ابن حجر المكي في
كتبه- أن الجماع في الإحرام ينقسم على ستة أقسام:
(أحدها): ما لا يلزم به شيء لا على الواطىء ولا على الموطوءة ولا على
غيرها، وذلك إنْ كانا جاهلين معذورين بجهلهما أو مكرهين أو ناسيين للإحرام
أو غير مميزين.
(ثانيها): ما تجب به البدنة على الرجل الواطىء فقط، وذلك فيما إذا استجمع
الشروط من كونه عاقلاً بالغاً عالماً متعمداً مختاراً وكان الوطء قبل
التحلل الأول والموطوءة حليلته سواء كانت محرمة مستجمعة للشروط أم لا.
(ثالثها): ما تجب به البدنة على المرأة فقط وذلك فيما إذا كانت هي المحرمة
فقط وكانت مستجمعة للشروط السابقة أو كان الزوج غير مستجمع للشروط وإن كان
محرماً.
(رابعها): ما تجب به البدنة على غير الواطىء والموطوءة وذلك في الصبي
المميز إذا كان مستجمعاً للشروط فالبدنة على وليه.
(خامسها): ما تجب به البدنة على كل من الواطىء والموطوءة وذلك فيما إذا زنى
=
(1/171)
عليه المُضِيُّ في فاسده (1) وَيَجبُ
قَضَاؤُه (2) وتَلْزَمه (3) بَدَنَةٌ فإنْ لم يَجِدْ فَبقرَةٌ.
وسَيَأتي إِيضَاحُ الْبَدنَة (4) في باب الدماء في آخر الكتَاب إن شاء الله
__________
= المحرم بمحرمة أو وطئها بشبهة مع استجماعهما شروط الكفارة.
(سادسها): ما تجب فيه فدية مخيرة بين شاة أو إطعام ثلاثة آصع لستة مساكين
أو صوم ثلاثة أيام وذلك فيما إذا جامع مستجمعاً لشروط الكفارة السابقة بعد
الجماع المفسد أو جامع بين التحللين. هذا ملخص ما جرى عليه الشارح تبعاً
لشيخ الإسلام زكريا واعتمد الشمس الرملي والخطيب الشربيني تبعاً لشيخهما
الشهاب الرملي أنه لا فدية على المرأة مطلقاً. اهـ إعانة الطالبين.
(1) أي فيعمل ما كان يعمله قبل الإفساد، ويجتنب ما كان يجتنبه قبله وإلا
لزمته الفدية، فعلم أنه يحرم الجماع ثانياً قبل التحلل منه ويجب به شاة كما
تقدم.
(2) أي إن كان ما أفسده غير قضاء، وإلا فالواجب قضاء واحد بخلاف البدنة
فتتكرر بحسب تكرر الإفساد.
(3) أي المحرم سواء كان ذكراً أو أنثى إذ هو المحدث عنه في جميع هذا النوع
بدليل قول المصنف في آخر المحرمات والمرأة كالرجل في جميعها. والله أعلم.
(4) حاصله كما في الحاشية مع زيادة واختصار. أنه يجب به (أي بالجماع المفسد
للنسك) بدنة فبقرة فسبع شياه، ومثلها سُبع من سَبع بدنات كما هو ظاهر فطعام
مجزىء في الفطرة بقيمة البدنة بالنقد الغالب بسعر مكة في غالب الأحوال كما
في الكفاية عن النص وغيره لكن خالفه جمع متأخرون فقالوا: يعتبر سعرها حال
الوجوب.
قال في التحفة: وأوجه منهما اعتبار حالة الأداء لما يأتي في الكفارات ومصرف
ذلك مساكين الحرم، والمستوطن أولى فإن عجز صام عن كل مد يوماً ويكمل
المنكسر وواجب الطعام غير مقدر فلا يتعين لكل مسكين مد لكن الأفضل أن لا
يزاد كل على مدين ولا ينقص عن مد فإنْ عجز صام عن كل مد يوماً ويكمل
المنكسر، واحتج لوجوب البدنة بأن عمر وابنه عبد الله أفتيا بذلك وكذا ابن
عباس وأبو هريرة رضي الله تعالى عن الجميع.
وأما الرجوع إلى البقرة والسبع من الغنم فلأنهما في الأضحية كالبدنة وأما
الرجوع إلى الإطعام فلأن الشرع عدل في جزاء الصيد من الحيوان إلى الإطعام
فرجع إليه هنا عند العذر، فلو تصدق بالدراهم لم يجزه، ويجزىء في الإِبل
والغنم الذكر والأنثى.
(1/172)
تَعَالَى وَيَجبُ القَضَاء على الْفَوْر
(1) هذا إذا جَامَعَ عامداً عالماً بالتَّحْريم فَإن كانَ نَاسياً (2) أو
جَاهلاً بالتحْريمِ أَو جُومِعَت المَرْأَةُ مُكْرَهَةً (3) لم يَفْسد
الحجُّ على الأَصَح (4) ولا فدْيةَ أيضاً على الأَصَح.
__________
(1) أي ولو في سنة الإفساد إن أمكن كما لو أفسد المحرم نسكه ثم أحصر وتحلل
والوقت باقٍ لزمه قضاؤه من سنته فوراً أو شرط التحلل بمرض فتحلل ثم شفي
والوقت باقٍ فله قضاؤها من سنته وتسمية ما ذكر قضاء إنما هو بالمعنى اللغوي
المجوز لإطلاق الأداء على القضاء وعكسه ومثل الحج في وجوب قضائه فوراً كل
عبادة تعدى بإخراجها عن وقتها وكل كفارة تعدى بسببها فيجب أداؤهما فوراً.
(تتمة): قال في الحاشية (فرع) للمفرد المفسد لأحد النسكين أن يقضيه مع
الآخر قراناً أو تمتعاً، وللمتمتع والقارن القضاء إفراداً، ولا يسقط بذلك
الدم وعلى القارن المفسد بدنة، ودم للقران وعليه دم آخر في القضاء وإن كان
مفرداً كما في الروضة.
وبحث البلقيني أنه في المتمتع يلزمه دمان آخران، دم للقران الذي التزمه
بالإفساد ودم للتمتع الذي فعله، وهو متجه، لكن صرح الشيخان بأنه لا قرق بين
المتمتع والقارن، ولو فات القارن الحج فأتت العمرة وعليه دمان للفوات
والقران وقضاء كقضاء المفسد فيما مَرّ. اهـ.
(2) في معنى الناسي كما في الحاشية من أحرم عاقلاً ثم جن أو أغمى عليه. وفي
معنى الجاهل من رمى جمرة العقبة قبل نصف الليل ظاناً أنه بعده وحلق ثم جامع
فلا فدية عليه كما في المجموع. (فإن قيل): يجب القضاء على من ظن دخول الليل
أو بقاءه فافطر وتسحر ثم ظهر أنه أكل نهاراً ولم يجب القضاء هنا.
أجيب: كما في الحاشية بأن علامة الليل أو النهار من شأنها أن تكون ظاهرة
لكل أحد فخطؤه مع ذلك يشعر بمزيد تقصير بخلاف دخول نصف الليل الثاني فإنه
لا يعرفه إلا الفذ النادر فلا تقصير هنا، وأيضاً فقضاء الحج صعب فسقط بأدنى
عذر والله أعلم.
(3) مثلها الرجل إذا جامع مكرهاً لأن الأصح تصور إكراهه عليه كما في
المجموع.
(4) مقابله الفساد ووجوب الفدية فيسن في الصور الثلاث إخراج البدنة والقضاء
=
(1/173)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= خروجاً من الخلاف، ويقال بنظيره في كل مسألة فيها خلاف لم يخالف سنة
صحيحة أو يضعف مدركه جداً كأن يخالف قياساً جلياً.
(تتمة): جاء ما يأتي في الحاشية: إذا جامع زوجته أو أمته فسد حجها بأن كانت
طائعة عالمة بالتحريم ذاكرة للإحرام ولزمه الأذن لها في القضاء وعليه لها
ما زاد من النفقة بسبب السفر، وإن لم يسافر معها، وإذا عضبت أو ماتت لزمه
أن يستأجر من ماله من يحج عنها فوراً، وإذا خرجا معاً سُن، وقيل: وجب أن
يفترقا من حين الإحرام إلى التحلل الثاني، ومكان الجماع آكد.
والمراد بالافتراق أن لا يخلو بها بحيث يتمكن من وقاعها أو مقدماته بل وأن
لا ينظر إليها إن خشي أنه يؤدي إلى ذلك. ولو أحرم مجامعاً لم ينعقد أو حال
النزع انعقد صحيحاً لأن النزع ليس بجماع، ولو ارتد في نسكه بطل من أصله ولا
مضي ولا قضاء وإن أسلم فوراً. اهـ.
مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى في مسائل من مباشرة المحرم المرأة ونحوها
قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه:
(أحداها): إذا وطئها في القبل عامداً عالماً بتحريمه قبل الوقوف بعرفات،
فسد حجه بإجماع العلماء، وفيما يجب عليه خلاف لهم، فمذهبنا أن واجبه بدنة
كما سبق، وبه قال مالك وأحمد وهو مذهب جماعات من الصحابة رضي الله عنهم.
وقال أبو حنيفة: عليه شاة لا بدنة، وقال داود: هو مخير بين بدنة وبقرة
وشاة.
(الثانية): إذا وطئها بعد الوقوف بعرفات قبل التحللين فسد حجه وعليه المضي
في فاسده وبدنة والقضاء هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا
يفسد، ولكن عليه بدنة، وعن مالك رواية: أنه لا يفسد، دليلنا أنه وطىء في
إحرام كامل فأشبه الوطء قبل الوقوف. احتجوا بالحديث: "الحج عرفة فمن أدرك
عرفة فقد تم حجه". قال أصحابنا: هذا متروك الظاهر بالإِجماع فيجب تأويله
وهو محمول على أن معناه فقد أمن الفوات.
(الثالثة): إذا وطىء بعد التحلل الأول وقبل الثاني لم يفسد حجه عندنا، ولكن
عليه =
(1/174)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= الفدية، ووافقنا أبو حنيفة في أنه لا يفسد. وقال مالك: إذا وطئ بعد جمرة
العقبة وقبل الطواف لزمه أعمال عمرة ولا يجزئه حجه لأن الباقي عليه أعمال
عمرة، وهي الطواف والسعي والحلق، وقالا: فيلزمه الخروج إلى الحل ويحرم
بعمرة ويلزمه الفدية، وعن أحمد روايتان: الفدية هل هي شاة أو بدنة؟
(الرابعة): إذا وطئ في الحج وطئاً مفسداً لم يزل بذلك عقد الإِحرام بل عليه
المضي في فاسده والقضاء، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور، وقال
الماوردي والعبدري: هو قول عامة الفقهاء. وقال داود: يزول الإحرام بالفساد
ويخرج منه بمجرد الإفساد وحكاه الماوردي عن ربيعة أيضاً قال وعن عطاء نحوه
قال: واستدلوا بحديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد" رواه مسلم. قالوا: والفاسد ليس مما عليه
أمره. وقياساً على الصلاة والصوم، واستدل أصحابنا بإجماع الصحابة ولأنه سبب
يجب به قضاء الحج فوجب أن لا يخرج به من الحج كالفوات، والجواب عن الحديث
أن الذي عليه ليس أمر صاحب الشرع إنما هو الوطء، وهو مردود، وأما الحج
فعليه أمر صاحب الشرع "وأما" قياسهم على الصوم والصلاة فجوابه أنه يخرج
منهما بالقول فكذا بالإفساد بخلاف الحج، ولأن محظورات الصلاة والصوم
تنافيهما بخلاف الحج.
(الرابعة): إذا وطئ امرأته وهما محرمان فسد حجهما وقضيا وفرق بينهما في
الموضع الذي جامعها فيه فلا يجتمعان بعد التحلل. وهل التفريق واجب أو
مستحب؟ فيه قولان أوجهان عندنا (أصحهما) مستحب.
قال مالك وأحمد واجب، وزاد مالك فقال: يفترقان من حيث يحرمان ولا ينتظر
موضع الجماع، وقال عطاء وأبو حنيفة: لا يفرق بينهما ولا يفترقان، ومما قال
بالتفريق عمر وعثمان وابن عباس وسعيد بن المسيب والثوري وإسحق وابن المنذر،
واحتج أبو حنيفة بالقياس على الوطء في نهار رمضان، فإنهما إذا قضيا لا
يفترقان واحتج أصحابنا بأن ما قلناه قول الصحابة، ولأنه لا يؤمن إذا اجتمعا
أن يتذكرا ما جرى فيتوقا إليه فيفعلاه، والجواب عن قياسه على الصوم أنه
زمنه قصير، فإذا تاق أمكنه الجماع بالليل بخلاف الحج.
(الخامسة): إذا أحرم بالحج أو بالعمرة من موضع قبل الميقات ثم أفسده لزمه
في =
(1/175)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= القضاء الإحرام من ذلك الموضع، وبه قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وأحمد
وإسحق
وابن المنذر رضي الله عنهم. وحكى ابن المنذر عن النخعي أنه يحرم من المكان
الذي جامع فيه.
وقال مالك وأبو حنيفة: إن كان حاجاً كفاه الإحرام من الميقات، وإن كان
معتمراً فمن أدنى الحل، واحتجا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
لعائشة: "ارفضي عمرتك ثم أمرها أن تحرم من التنعيم بالعمرة" رواه البخاري
ومسلم. واحتج أصحابنا بأنها مسافة وجب قطعها في أداء الحج فوجب في القضاء
كالميقات، وأما حديث عائشة فإنها صارت قارنة فأدخلت الحج على العمرة.
ومعنى (ارفضي عمرتك) أي دعي إتمام العمل فيها واقتصري على أعمال الحج فإنها
تكفيك عن حجك وعن عمرتك، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لها في صحيح
مسلم وغيره: "طوافك وسعيك يجزئك لحجك وعمرتك" فهذا تصريح بأنها لم تبطلها
من أصلها، بل أعرضت عن أعمالها منفردة لدخولها في أعمال الحج، وقد بسطت هذا
التأويل بأدلته الصحيحة الصريحة في شرح صحيح مسلم رحمه الله تعالى والله
أعلم.
(السادسة): قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يلزم من فسد حجه بدنة. وبه قال ابن عباس
وعطاء وطاووس ومجاهد ومالك وأبو ثور والثوري وإسحق إلا أن الثوري وإسحاق
قالا: إن لم يجد بدنة كفاه شاة، وعندنا وعند آخرين إن لم يجد بدنة فبقرة
فإن فقدها فسبع من الغنم فإن فقدها أخرج بقيمة البدنة طعاماً، فإن فقد صام
عن كل مدٍ يوماً، وعن أحمد رواية أنه مخير بين هذه الخامسة، وسبق بيان مذهب
أبي حنيفة في المسألة الأولى والثانية. ودليلنا آثار الصحابة.
(السابعة): إذا وطىء القارن فسد حجه وعمرته ولزمه المضي في فاسدهما وتلزمه
بدنة للوطء، وشاة بسبب القرآن. فإذا قضى لزمه أيضاً شاة أخرى سواء قضى
قارناً أم مفرداً؛ لأنه توجب عليه القضاء قارناً، فإذا قضى مفرداً لا يسقط
عنه دم القران.
قال العبدري: وبهذا كله قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن وطىء قبل طواف
العمرة فسد حجه وعمرته وعليه المضي في فاسدهما، والقضاء وعليه شاتان شاة
لإفساد الحج وشاة لإفساد العمرة ويسقط عنه دم القران، فإن وطىء بعد طواف
العمرة فسد حجه، وعليه القضاء وذبح شاة ولا تفسد عمرته فيلزمه بدنة بسببها،
ويسقط عنه دم =
(1/176)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= القران. قال ابن المنذر: وممن قال يلزمه هدي واحد عطاء وابن جريج ومالك،
والشافعي وإسحق وأبو ثور وقال الحاكم: يلزمه هديان.
(الثامنة): إذا أفسد المحرم والمحرمة حجهما بالوطء فقد ذكرنا الخلاف في
مذهبنا أنه هل يلزمهما بدنة أو بدنتان، قال ابن المنذر: وأوجب ابن عباس
وابن المسيب والضحاك والحاكم وحماد والثوري وأبو ثور على كل واحد منهما
هدياً، وقال النخعي ومالك: على كل واحد منهما بدنة، وقال أصحاب الرأي إن
كان قبل عرفة فعلى كل واحد منهما شاة، وعن أحمد روايتان: (إحداهما) يجزئهما
هدي و (الثانية) على كل واحد منهما هدي. وقال عطاء وإسحق لزمهما هدي واحد.
(التاسعة): إذا جامع مراراً فقد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه يجب في المرة
الأولى بدنة وفي كل مرة بعدها شاة، قال ابن المنذر: وقال عطاء ومالك وإسحق:
عليه كفارة واحدة، وقال أبو ثور: لكل وطء بدنة، وقال أبو حنيفة: إن كان في
مجلس واحد فدم وإلا فدمان، وقال محمد: إن لم يكن كفر عن الأول كفاه لهما
كفارة وإلا فعليه للثاني كفارة أخرى. دليلنا أن الثاني مباشرة محرمة مستقلة
لم تفسد نسكاً فوجبت فيها شاة كالمباشرة بغير الوطء.
(العاشرة): لو وطىء امرأة في دبرها أو لاط بِرَجُل أو أتى بهيمة، فقد ذكرنا
أن الصحيح عندنا أنه يفسد حجه وعمرته بكل واحد من هذا، وقال أبو حنيفة:
البهيمة لا تفسد، ولا فدية، وفي الدبر روايتان، وقّال داود: لا تفسد
البهيمة واللواط.
(الحادية عشرة): لو وطئها فيما دون الفرج لم يفسد حجه عندنا، وعليه شاة في
أصح القولين وبدنة في الآخر، سواء أنزل أم لا. وكذا قال جمهور العلماء: لا
يفسد، وممن قاله الثوري وأبو حنيفة وأبو ثور، قال سعيد بن جبير والثوري
وأحمد وأبو ثور وعليه بدنة، وقال أبو حنيفة: دم. وقال ابن المنذر: عندي
عليه شاة. وقال عطاء والقاسم بن محمد والحسن ومالك وإسحق رحمهم الله: إن
أنزل فسد حجه ولزمه قضاؤه. وعن أحمد في فساده روايتان، وأما إذا قبلها
بشهوة فهو عندنا كالوطء فيما دون الفرج فلا يفسد الحج وتجب شاة في الأصح
وبه قال ابن المسيب وعطاء وابن سيرين والزهري وقتادة ومالك والثوري وأحمد
وإسحق وأبو حنيفة وأبو ثور، وقال ابن المنذر رحمه الله: روينا ذلك عن ابن
عباس، وروينا عنه أنه يفسد حجه، وعن عطاء رواية أنه يستغفر الله تعالى ولا
شيء عليه، وعن سعيد بن جبير أربع روايات: (إحداها) كقول ابن =
(1/177)
النوع السابع: إتلاف (1): الصيد:
فيحرم بالإِحرام إتلاف كل حيوان بري وحشي أو في أصله وحشي (2) مأكول (3)
وسواء المستأنس (4) وغيره والمملوك وغيره فإن أتلفه (5) لزمه الجزاء
__________
= المسيب رحمه الله و (الثانية) عليه بقرة و (الثالثة) يفسد حجه و
(الرابعة) لا شيء عليه بل يستغفر الله تعالى.
(الثانية عشرة): لو ردَّد النظر إلى زوجته حتى أمنى لم يفسد حجه ولا فدية
عليه وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور. وقال الحسن البصري ومالك: يفسد حجه وعليه
الهدي.
وقال عطاء: عليه الحج من قابل، وعن ابن عباس روايتان: (إحداهما) عليه بدنة
و (الثانية) دم، وقال سعيد بن جبير وأحمد وإسحق: عليه دم.
(الثالثة عشرة): إذا وطىء المعتمر بعد الطواف وقبل السعي فسدت عمرته وعليه
المضيّ في فاسدها والقضاء والبدنة وبه قال أحمد وأبو ثور لكنهما قالا: عليه
القضاء والهدي، وقال عطاء: عليه شاة ولم يذكر القضاء وقال الثوري وإسحاق:
يريق دماً وقد تمت عمرته، وقال ابن عباس رضي الله عنه: العمرة والطواف،
واحتج إسحاق بهذا، وقال أبو حنيفة: إن جامع بعد أن طاف بالبيت أربعة أشواط
لم تفسد عمرته وعليه دم، وإن كان طاف ثلاثة أشواط فسدت وعليه إتمامها
والقضاء ودم. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لو وطىء قبل الطواف فسدت
عمرته، أما إذا جامع بعد الطواف والسعي وقبل الحلق فقد ذكرنا مذهبنا فساد
العمرة إن قلنا إن الحلق نسك وهو الأصح، قال ابن المنذر: ولا أحفظ هذا عنْ
غير الشافعي، وقال ابن عباس والثوري وأبو حنيفة: عليه دم وقال مالك عليه
الهدي، وعن عطاء أنه يستغفر الله تعالى ولا شيء عليه. قال ابن المنذر: قول
ابن عباس أعلى.
(1) المراد بالإتلاف هنا التعرض ليشمل التطيير.
(2) أي وإنْ بَعُد.
(3) أي لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ
حُرُمًا} [المائدة: 96].
(4) منه الدجاج الحبشي وإن ألف البيوت. قال ابن جماعة رحمه الله تعالى: لأن
أصله وحشي.
(5) أي أو أزمنه وإن كان مكرهاً لكن له الرجوع على المكره بكسر الراء،
فالمكره بفتح الراء طريق في الضمان.
(1/178)
فإن كان مملوكاً لزمه الجزاء لحق الله
تعالى والقيمة للمالك (1) وَلَوْ تَوَحّشَ إنسيّ لم يَحْرُمْ نَظَرَاً
لأَصْله ولَوْ تَوَلّدَ مِنْ مَأكُولٍ وَغَيْره أو من إنْسي وغَيْره
كالْمُتولد بَيْنَ الظَّبي والشَّاة حَرُمَ إتْلاَفُهُ ويَجبُ به الجَزاء
احْتَياطاً ويَحْرُم الجَرَادُ ولا يَحْرُمُ السَّمَك وصَيْدُ البَحْر (2)
وهوَ ما لا يَعيشُ إلاّ في البَحْر فأَمَّا ما يَعيشُ في البر والبحر
فَحَرَام (3) وأمَّا الطُّيُور المائية التي تَغُوصُ في الماء وتَخْرجُ
فَحَرام ولا يَحْرُم ما ليس مَأكُولاً ولا ما هو مُتَوَلِّدٌ من مأكُولٍ
وغيره.
(فرع): بيضُ الصَّيْد المأكُول ولَبنُهُ حَرَام ويَضمنهُ بقيمته (4) فإن
كانت
__________
(1) قد ألغز ابن الوردي رحمه الله تعالى في هذا فقال:
عندي سؤال حسنٌ مستطرف ... فرع على أصلين قد تفرعا
قابض شيء برضا مالكه ... ويضمن القيمة والمثل معا
ومراده بالأصلين أن المثل يضمن بمثله والمتقوم بقيمته. وقد أجاب بعضهم
بقوله:
جواب هذا أن شخصاً محرماً ... أعاره الحلال صيداً فاقنعا
أقبضه إياه ثم بعد ذا ... قد أتلف المحرم هذا فاسمعا
فيضمن القيمة حقاً للذي ... أعاره والمثل لله معاً
(2) أي ولو كان البحر أو نحو البئر في الحرم وبه قال الجمهور، وعن أحمد:
روايتان الجواز والمنع. وبالمنع قال صاحب مفيد الأنام: لأنه حرمي أشبه صيد
الحرم ولأن حرمة الصيد للمكان فلا فرق. اهـ.
(3) أي كالبري الوحشي المأكول تغليباً لجهة التحريم والمراد بالبحري ما لا
يعيش إلا في الماء ولو نحو بئر كما تقدم أو نهر وإنما لم يحرم لأن اصطياده
يدل غالباً على الاضطرار والمسكنة بخلاف صيد البر فيحرم لأن اصطياده يدل
غالباً على الترفه وهو مناف للإحرام.
(4) قال في الحاشية: ما ذكره في اللبن هو المعتمد حيث حلب له فإن حلبه هو
حرم قطعاً، ولو نقص المحلوب بالحلب ضمن نقصه أيضاً فيقوم قبل النقص وبعده
ويؤخذ التفاوت بينهما مع قيمة اللبن وتقييد البيض بكونه بيض مأكول يقتضي أن
بيض ما =
(1/179)
البيضَةُ مَذِرَةَ (1) فأَتْلَفَهَا فلا
شَيْء عليه إِلا أن تكُون بيضةَ نَعَامة فَيضمَنُهَا بقيمتها لأن قِشْرهَا
يُنْتَفعُ به ولو نَفرَ صَيْداً عن بيضتهِ (2) التي حَضَنَهَا فَفَسَدَتْ
لزِمهُ قيمتها ولو كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فيها فَرْخ له روح فَطَارَ وسَلِم
فَلاَ ضَمَانَ وإن ماتَ فعليه مثلُه مِنَ النَّعَمَ إنْ كان له مثْل وإِلا
فَعَلَيْه قيمَتُهُ.
(فرع): كما يَحْرُمُ عليه إتْلاَفُ الصَيْدِ فَيَحرمُ عليه إتلافُ أَجزَائه
(3) ويَحْرُمُ عليه الاصْطيادُ وَالاستيلاَءُ والأصَحُّ أَنهُ لا يملكُه
بالشِّراء والهبةِ والْوَصيةِ ونَحوها (4).
__________
= لا يؤكل ولو بأن كان أحد أصوله غير مأكول لا ضمان ولا حرمة فيه، والأوجه
خلاف فيحرم ويضمن كأصله لا سيما إن قلنا بجواز أكله وهو المعتمد. اهـ
مختصراً.
(1) أي بأن صارت دماً. وقال أهل الخبرة: إنها فسدت فلا يتأتى فرخ لنجاستها
حينئذ أما إذا لم تكن كذلك فهي طاهرة على المعتمد ففيها الضمان.
(2) أي أو نقلها من موضع إلى موضع آخر. نعم لو باض في فراشه ولم يمكنه دفعه
إلا بالتعرض للبيض فتعرض له ففسد لم يضمنه - كما في الحاشية.
(3) أي ويضمنها أي ولو نحر شعرة (فإن قيل): لِمَ لَمْ يضمن ورق الشجرة
الحَرَمية كَما يأتي.
أجيب بأن قطْع الورقة لا يضر الشجرة بخلاف نحو الشعر لأن إزالته تضر الصيد،
ولأن يقيه من نحو الحر والبرد.
(4) أي من كل سبب اختياري بخلاف الإرث، ورده عليه بعيب فإنه يملكه ولا يزول
ملكه إلا بإرساله فوراً فإن أخره عصى بالتأخير لوجوب الفورية (فإن قيل):
مَنْ أحرم وبملكه صيد يزول ملكه عنه بمجرد إحرامه فَلِمَ هنا لا يزول إلا
بإرساله.
(أجيب) -كما في الحاشية- بأن اختيار المحرم للإرسال مع منافاته لبقاء الصيد
في ملكه رضاء بزواله أي من شأنه ذلك وإنْ جهل زوال الملك بالإِحرام وعذر
بجهله فيما يظهر من كلام الفقهاء رحمهم الله تعالى بخلاف الوارث ونحوه فإنه
لا اختيار له، ويصح بيعه قبل إرساله، ولا يسقط عنه الجزاء إلا بإرسال
المشتري وإلا فلا وإن مات بيد المشتري والله أعلم.
(1/180)
فإن قَبَضهُ بَعْقِد الشِّراء (1) دَخَلَ
في ضَمَانه فإنْ هَلَكَ في يده لَزِمَهُ الجَزَاءُ لِحَق الله تعالى
والقيمَة لمالكه فإنْ رَدّهُ عليه سقطت القِيمة ولم يَسْقُطْ الْجَزَاءُ
إلا بالإِرْسال وإنْ قَبَضَهُ بعقْد الهبة أو الْوَصِيةِ فهو كَقَبْضه
بعَقْد الشرَاءِ إلاَّ أنه إذا هَلَكَ في يَدِه لم تَلْزَمْهُ قيمتُه
للآدمي على الأَصَح لأنَّ ما لا يُضْمَنُ في الْعَقْد الصحيح لا يُضْمَنُ
في الفاسِدِ كالإِجَارة ولو كان يَمْلُكُ صَيْداً فَأَحْرمَ زَالَ ملْكَهُ
عَنْهُ (2) على الأصَح وَلَزِمَهُ إرْسَالُهُ (3) ولا يَجب تَقْدِيمُ
الإِرسال على الإِحْرَام بِلاَ خِلاَفٍ.
(فرع): ويَحْرُمُ على المُحْرم (4) الإِعانة (5) على قتْل الصَّيْد
بدلاَلةٍ أو
__________
(1) أي أو العارية أو الوديعة. نعم لو تلف بيد الوديع بلا تفريط ضمنه
بالجزاء فقط كما يأتي.
(2) قال في الحاشية: قد يشكل عليه دخول الحلال به للحرم فإنه لا يزول به
(أي عند الشافعية بخلاف غيرهم فإنه يزول كما سيأتي) مع منافاة الحرم
للاصطياد كالإحرام.
ويجاب بأن الإحرام مانع قائم بذات المحرم فنافى بقاءه في ملكه، لأن فيه
ترفُّهاً لا يليق بالمحرم بخلاف الدخول به للحرم، إنه لم يقم بسببه بذات
الداخل مانع ينافي بقاءه في ملكه إذ المنافي لحرمة الحرم إيجاد الاصطياد
فيه لإبقاء الملك عند الدخول. اهـ. بزيادة ما بين القوسين.
(3) أي وإن تحلل، وحيث لزمه الإرسال ملكه آخذه، ولو قبل إرساله لأنه صار
مباحاً، ويضمنه إن مات قبل الإرسال، وإنْ عجز عنه كما في الحاشية لأنه ينسب
لنوع تقصير حيث لم يقدمه على إحرامه مع إمكان تقديمه والله أعلم.
(4) وكذا الحلال في الحرم إنْ لم يكن الصيد مملوكاً بأنْ صاده حلال في الحل
ودخل به الحرم فلا يحرم التعرض له إلا من حيث كونه ملكاً للغير.
(5) أي والتنفير لغير ضرورة، فإن باض على فراشه فلا يضمن ما تولد من نفاره
كما تقدم فيما لو باض بفراشه وأخذاً مما يأتي في صياله.
(1/181)
إعارَة آلة أو بصيَاح ونحو ذلك (1) فلو
نَفر (2) صيداً (3) فَعَثَر وَهَلَكَ به أو أَخَذَهُ سَبع أو انْصَدَمَ
بِجَبَل أو شجرة ونحْوها لزمَهُ الضمان سَواء قَصَدَ تَنْفيرَهُ أم لا
ويكونُ في عهدة التنْفيرِ حتى يَعُودَ الصَّيْدُ إلَى عَادَتِهِ في
السُّكُون (4) فَإنْ هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ ضَمَانَ وَلَوْ هَلَكَ فِي
حَالِ نفَارِهِ بآفة سمَاوية فلا ضَمَانَ عَلَى الأَصح.
(فرع): النَّاسي والْجَاهل (5) كَالْعَامد (6) في وُجُوب الْجَزَاء وَلاَ
إثْمَ عَلَيْهِمَا بخلاَف الْعَامد وَلَوْ صالَ عَلَى المُحْرم صَيْد في
الْحل أو في الْحَرَم
__________
(1) أي ولو لحلال اتفاقاً وإنما الخلاف في الجزاء وقوله ونحو ذلك كالإشارة
وهي أخف الدلالات.
(2) أي إنسان حلال بالحرم أو محرم مطلقاً أي سواء كان بالحرم أو بالحل.
(3) أي صيداً حرمياً أو كان المنفر محرماً، وإن كان ساهياً أو دخل الحل
فقتله حلال لا محرم تقديماً للمباشرة وقياس ما مَرّ أن المنفر يكون طريقاً.
(تنبيه): يحرم على الحلال أنْ يدل المحرم على الصيد، وإن اختص المحرم
بالجزاء، وكذا يختص المحرم بالجزاء أيضاً فيما لو أمسك الصيد فقتله الحلال،
أو أمسكه الحلال فقتله المحرم والله أعلم.
(4) أي بأنْ يرجع سالماً إلى موضعه أو يسكن غيره ويألفه.
(5) أي المميز فلا ضمان على غير المميز وهذا خارج عن قاعدة الإتلاف لأن هذا
حق الله تعالى فسومح فيه غير المميز كالمجنون والصبي والمغمى عليه والنائم
بخلاف الناسي والجاهل فإنهما يعقلان فينسبان إلى التقصير، ويستثنى من
الجاهل كما في الحاشية لو باض الصيد أو فرخ في فراشه جاهلاً به فانقلب عليه
حال نومه، فأتلفه. نعم إن علم به قبل النوم ثم انقلب عليه بعده ضمنه إنْ
سهلت عليه تنحيته.
(6) أي خلافاً للإمام مجاهد رحمه الله فإنه أخذ بمفهوم الآية وهي قوله
تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] الآية. وحجة الجمهور قضاء عمر رضي
الله عنه بالجزاء على المخطىء ولم ينكر أحد عليه وحملوا التعمّد على أنه
خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
(1/182)
فَقَتَلَهُ للدَّفْع عَنْ نَفْسه (1) فَلاَ
ضَمَانَ وَلَوْ رَكِبَ إنسانٌ صيداً وصال على محرم ولم يمكن دفعه إلاّ بقتل
الصيد فقتله وجب الجزاء على الأصح لأن الأذى ليس من الصيد، ولو وطئ المحرم
الجراد عامداً أو جاهلاً فأتلفه فعليه الضمان ويأثم العامد دون الجاهل ولو
عم الجراد المسالك ولم يجد بُدّاً من وطئه فلا ضمان عليه على الأصح ولَو
اضطُر إلَى ذَبح صَيْد لشدَّة الجُوع جَاز أَكلُه وعَليه الجَزاء لأنَّه
أتلَفَهُ لمنفعة نفْسِهِ مِنْ غير إيذاءٍ مِنَ الصَّيد.
ولو خَلصهُ الْمُحرم مِنْ فَم سَبُع أوْ هرَّة ونَحْوِهما أو أخذه
لِيُدَاويه ويَتعَهَّدَهُ فَهَلَكَ في يَده فَلا ضَمَانَ على الأَصَح.
(فرع): يَحْرُمُ على الْمُحْرِم أَنْ يَستَوْدعَ الصَّيْدَ وأنْ
يَسْتَعِيره فإن خالَفَ وقَبَضَهُ كان مَضْمُوناً عليه بالْجَزَاء والقِيمة
للمالك فإن رَدَّهُ للمالك سَقَطَتْ القيمةُ ولم يَسْقُط ضَمَانُ الْجَزَاء
حَتَّى يُرسِله المالك.
(فرع): ولو كان المحرم راكبَ دابةِ فتلف صَيْد بِرَفْسها أو عَضّها أو بالت
في الطريق فزلق صَيْدٌ فَهَلَكَ لزمه ضَمَانه، ولو انْفَلتتْ الدابةُ
فأتلفت صيْدَاً فلا شيءَ عليه (2).
(فرع): يَحْرُمُ على المُحْرِم أكْلُ صَيْد ذبَحهُ هو (3) أو صادَهُ غَيرهُ
له بإذنِهِ أو بغير إذْنِهِ أو أَعان عليهِ أو كان لَهُ تَسبب فيه (4)
فَإنْ أكل منهُ عَصَى ولا جَزَاء
__________
(1) أي أو عضوه أو ماله.
(2) أي وإن فرط. والفرق بينه وبين انحلال الكلب بتقصيره أن ربطه يقصد به
غالباً دفع الأذى، فإذا انحل بتقصيره فوت الغرض بخلاف ما هنا والله أعلم.
(3) أي لغير الاضطرار.
(4) أي في اصطياده ولو بدلالة خفية فتنبه الصائد له.
(1/183)
عليه بسَبَب الأَكْل (1) ولو صادَهُ حَلالٌ
لا للمحرم (2) ولا تَسَببَ فيه جازَ له الأَكْلُ منه ولا جَزَاء عليه ولو
ذَبَحَ المُحْرِم (3) صَيْداً صَارَ مَيْتَة على الأَصَحِّ فَيَحْرُم على
كُل أحد أكْلُه (4) وإذا تَحَللَ هو من إحْرامِهِ لم يَحل لهُ ذلك
الصَّيْدُ.
(فرع): هذا الَّذي ذَكَرْتُهُ نُبَذٌ لا يَسْتَغْني الْحاجُّ (5) عن
مَعْرِفَتها وَسَيأتي تَمَامُ ما يَتَعَلَّقُ بصيَدْ الْحَرَمِ وأَشْجارِهِ
ونَبَاتِه وَبَيانُ الجَزَاءِ والْفِدْيةِ في آخر الكتَاب إن شاءَ الله
تعالى.
__________
(1) مما ذبحه أو صِيدَ له ولو بإذنه أو بسبب دلالته أو إعانته.
(2) محترز قوله: (له).
(3) أو الحلال في الحرم.
(4) بخلاف كسر المحرم أو الحلال في الحرم بيض الصيد وحلب لبنه، وقتله
للجراد فإنه لا يحرم على الغير فإنْ حِلَّها لا يتوقف على تذكية بخلاف
الحيوان فإنه لا يباح إلا بها وهو ليس من أهلها لقيام معنى به، وهو الإحرام
أو حلول الحلال في الحرم والله أعلم.
(5) أي والمعتمر والقارن: وإنما عبر بالحاج لأنه الغالب أو أنه أراد به ما
يشمل الكل إذْ القارن يسمى حاجاً أيضاً وإن زاد بالعمرة والمعتمر يسمى
حَاجاً إذ العمرة تسمى حجاً أصغر.
مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى في مسائل تتعلق بالصيد في حق المحرم مأخوذة
من المجموع
(إحداها): إذا قتل المحرم الصيد عمداً أو خطأ أو نسياناً لإحرامه لزمه
الجزاء عندنا - وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد والجمهور.
(الثانية): إذا قتل المحرم صيداً لزمه جزاؤه ثم قتل صيداً آخر لزمه للثاني
جزاء آخر، هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وعن أحمد روايتان.
(المسألة الثالثة): ما صاده المحرم أو صاده له حلال بأمره أو بغير أمره أو
كان من =
(1/184)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= المحرم فيه إشارة أو دلالة أو إعانة بإعارة آلة أو غيرها. فلحمه حرام على
هذا المحرم، فإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم ثم أهدى منه للمحرم أو
باعه أو وهبه فهو حلال للمحرم أيضاً هذا مذهبنا. وبه قال مالك وأحمد وداود
وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه.
(المسألة الرابعة): إذا ذبح المحرم صيداً في الحل لم يحل له أكله بالإجماع.
وفي تحريمه على غيره عندنا قولان الأَصح التحريم، وبه قال مالك وأبو حنيفة
وأحمد ويكون ميتة.
(المسألة الخامسة): إذا ذبح المحرم صيداً وكل منه لزمه الجزاء بالذبح ولا
يلزمه بالأكل منه شيء. هذا مذهبنا. وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو
حنيفة: عليه الجزاء بالذبح، وعليه قيمة ما أكل، ووافقنا في صيد الحرم أنه
إذا قتله المحرم وكله لا يلزمه إلا جزاء واحد، دليلنا القياس على صيد الحرم
ولأنه أكل ميتة فأشبه سائر الميتات.
(المسألة السادسة): إذا دل المحرم حلالاً على صيد فقتله أثم الدال ولا جزاء
على واحد منهما ولو دل محرم محرماً على صيد فقتله فالجزاء على القاتل دون
الدال هذا مذهبنا وبه قال مالك وقال أبو حنيفة على كل منهما جزاء دليلنا
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة:
95] فأوجب الجزاء على القاتل فلا يجب على غيره ولا يلحق به غيره لأنه ليس
في معناه.
(المسألة السابعة): إذا قتل صيداً مملوكاً فعليه الجزاء لله تعالى وقيمته
للمالك هذا مذهبنا كما تقدم وبه قال أبو حنيفة وأحمد ومالك رحمه الله.
(المسألة الثامنة): إذا قتل القارن صيداً لزمه جزاء واحد كما لو تطيب أو
لبس تلزمه فدية واحدة هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه،
وقال أبو حنيفة: عليه جزاءان لأنه أدخل النقص على الحج والعمرة بقتل الصيد
فوجب جزاءان كما لو قتل المفرد في حجه وفي عمرته. دليلنا أن المقتول واحد
فوجب جزاء كما لو قتل المحرم صيداً في الحرم، فإنه وافقنا أنه يجب عليها
جزاء واحد مع أنه اجتمع فيه حرمتان و (أما) ما قاس عليه فالمقتول هناك
اثنان.
(المسألة التاسعة): يجب الجزاء -أي القيمة- على المحرم بإتلاف الجراد عندنا
وعند أحمد. قال العبدري: وهو قول أهل العلم كافة إلا الإِصطخري فقال: لا
جزاء فيه =
(1/185)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= لأنه من صيد البحر واحتج له بحديث أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه:
(أصبنا سرباً من جراد فكان رجل يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له: إن هذا لا
يصلح فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما هو من صيد البحر)
رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، واتفقوا على تضعيفه لضعف أبي المهزم واحتج
لمن أوجب فيه الجزاء بقصة كعب الأحبار في قتله الجرادتين وهو محرم نسياناً
فلما قدم المدينة قص القصة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال عمر: ما
جعلت على نفسك يا كعب؟ قال: درهمين، قال: بخ، درهمان خير من مائة جرادة
اجعل ما جعلت في نفسك. رواه الشافعي بإسناده الصحيح والحسن والبيهقي عن عبد
الله بن أبي عمارة وبإسنادهما الصحيح عن القاسم بن محمد قال: كنت جالساً
عند ابن عباس رضي الله عنهما فسأله رجل عن جرادة قتلها وهو محرم فقال ابن
عباس: فيها قبضة من طعام، ولتأخذن بقبضة من جرادات، ولكن ولو.
قال الشافعي -رحمه الله والأئمة والمسلمين والمسلمات- قوله: (ولتأخذن بقبضة
من جرادات) أي إنما فيها القيمة. وقوله: (ولو) يقول: تحتاط فتخرج أكثر مما
عليك بعد أنْ أعلمتك أنه أكثر مما عليك. (الجواب) عن حديث أبي هريرة في
الجراد أنه من صيد البحر أنه حديث ضعيف كما سبق، ودعوى أنه بحري لا تقبل
بغير دليل، وقد دلت الأحاديث الصحيحة والإِجماع أنه مأكول فوجب جزاؤه كغيره
والله أعلم.
(المسألة العاشرة): كل طائر وصيد حرم على المحرم يحرم عليه بيضه، فإن أتلفه
ضمنه بقيمته. هذا مذهبنا وبه قال أحمد. وقال المزني: لا جزاء في البيض،
وقال مالك: يضمنه بعشر ثمن أصله. قال ابن المنذر: اختلفوا في بيض الحمام،
فقال الشافعي: فيه قيمته وقال مالك: يجب فيه عشر ما يجب في أمه. قال:
واختلفوا في بيض النعام فقال الشافعي وأحمد: فيه القيمة. وقال مالك: فيه
عُشْر ثمن البدنة. دليلنا أنه جزء من الصيد لا مثل له من النعم فوجبت فيه
القيمة كسائر المتلفات التي لا مثل لها وذكر البيهقي رحمه الله تعالى فيه
باباً فيه أحاديث وآثار، وليس فيها ثبات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(المسألة الحادية عشرة): إذا أحرم الشخص وفي ملكه صيد فقد ذكرنا أن الأصح
عندنا أنه يلزمه إرساله ويزول ملكه عنه، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد لا
يزول ملكه ولكن يجب إزالة يده الظاهرة عنه، فلا يكون ممسكاً له في يده،
ويجوز أن يتركه في بيته وقفصه، وقال مالك وأحمد وأصحاب الرأي: ليس عليه
إرسال ما كان في منزله، وقال =
(1/186)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= مالك وأحمد وأصحاب الرأي: إن كان في يده صيد لزمه إرساله، وقال أبو ثور:
ليس له إرسال ما في يده. قال ابن المنذر: وهذا صحيح.
(الثانية عشرة): قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمع أهل العلم على أن
صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وكله وبيعه وشراؤه قال: واختلفوا في قوله
تعالى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] فقال
ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: هو ما لفظه البحر، وقال ابن المسيب: صيده
ما اصطدت وطعامه ما تزودت مملوحاً. (قلت): وأما طير الماء فقال الأوزاعي
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعوام أهل العلم: هو من صيد البر، فإذا
قتله المحرم لزمه الجزاء والله أعلم. اهـ.
(الثالثة عشرة): قال العبدري رحمه الله تعالى: الحيوان ضربان: أهلي ووحشي.
فالأهلي يجوز للمحرم قتله إجماعاً، والوحشي يحرم عليه إتلافه إن كان
مأكولاً أو متولداً من مأكول وغيره وإن كان مما لا يؤكل وليس متولداً من
مأكول وغيره. هذا مذهبنا وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: عليه الجزاء إلا في
الذئب. قال ابن المنذر: ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس لا جناح
على مَنْ قتلهن في الإِحرام: الغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور
والحدأة" قال: فأخذ بظاهر هذا الحديث الثوري والشافعي وأحمد وإسحق غير أن
الإمام أحمد لم يذكر الفأرة. قال: وكان مالك يقول: الكلب العقور ما عقر
الناس وعدا عليهم كالأسد والنمر والفهد والذئب. قال: فأما ما لا يعدو من
السباع ففيه الفدية. قال: وأجمعوا على أن السبع إن ابتدر المحرم فقتله فلا
شيء عليه، واختلفوا فيمن بدأ السبع فقال مجاهد والنخعي والشعبي والثوري
وأحمد وإسحق: لا يقتله، وقال عطاء وعمرو بن دينار والشافعي وأبو ثور: لا
بأس بقتله في الإحرام عدا عليه أو لم يعد، قال ابن المنذر: وبه أقول.
وقال أصحاب الرأي: عليه قيمته إلا أن تكون قيمته كثر من الدم فعليه دم إلا
الكلب والذئب فلا شيء عليه، وإن ابتدأهما. قال: وأجمعوا على أنه لا شيء
عليه في قتل الحية. قال: وأباح أكثرهم قتل الغراب في الإحرام، منهم مالك
والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقال بعض أصحاب الحديث: إنما يباح الغراب الأبقع دون سائر الغربان. (وأما)
الفأرة فأباح الجمهور قتلها ولا جزاء فيها، ولا خلاف فيها بين العلماء إلا
ما حكاه ابن =
(1/187)
فَصْلٌ
هذه مُحَرَّماتُ الإِحرام السَّبْعَة وما يَتَعَلَّقُ بها والمرأة كالرَّجل
في جَميعها إلا ما استثنيناه (1) من أنَّهُ يَجُوزُ لها لبس المخيط وسَتْرُ
رَأسها ويَحْرمُ عليها ستر وجههَا ويجبُ على المحرِم التحَفظ مِنْ هذه
المحرَّمَات إلا في مَواضع العُذْر الذي نبَّهْنَا عليه ورُبمَا ارْتكَبَ
بعضُ العَامةِ شيئاً من هذه المُحرَّمات وقال: أنَا أفْتدِي مُتوهِّماَ
أنهُ بالْتزِام الْفِدْية يَتَخَلَّصُ مِنْ وَبَال المعصية وذلك خَطَأ
صَريحٌ وجَهْلٌ قَبيح فإنَّهُ يحْرُمُ عليه الفعلُ وإذَا خَالَفَ أَثمَ
وَوَجَبَت الفِدْيةُ وليست الْفِدْيةُ مُبيحَةَ للإقْدَام على فعل
المُحرَّم (2) وجَهَالَةُ هذا الفاعل كَجَهالَة
__________
= المنذر عن النخعي أنه منع المحرم من قتلها. قال: وهذا لا معنى فيه لأنه
خلاف السنة وقول العلماء.
قال ابن المنذر: قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: لا شيء على المحرم في
قتل البعوض والبراغيث والبق وكذا قال عطاء في البعوض والذباب. وقال مالك في
الذباب والقمل والذر إذا قتلهن أرى أن يتصدق بشيء من الطعام، وكان الشافعي
يكره قتل النملة ولا يرى في قتلها شيئاً، قال: فأما الزنبور فقد ثبت عن عمر
بن الخطاب أنه كان يأمر بقتله، وقال عطاء وأحمد: لا جزاء فيه، وقال مالك:
يطعم شيئاً. قال ابن المنذر: وأما القملة إذا قتلها المحرم فقال ابن عمر:
يتصدق بحفنة من طعام وبه قال مالك. وفي رواية عنه أنه قال: أهون مقتول أي
لا شيء فيها، وقال أحمد: يطعم شيئاً، وقال أصحاب الرأي: ما تصدق به فهو خير
منها، وقال الشافعي: إن قتلها من رأسه افتدى بلقمة وإن كانت ظاهرة في جسده
فقتلها فلا فدية.
(المسألة الرابعة عشرة): عند الشافعية: يستجب قتل القراد في الإِحرام
وغيرها. قال العبدري رحمه الله: يجوز عندنا للمحرم أن يقرد بعيره وهو مذهب
الشافعي وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي وكرهه مالك.
(1) يضم إليه اختصاص الرجل بفدية الجماع ومقدماته على ما مر. وكراهة
الاكتحال للزينة في حق المرأة أشد كما في المجموع لأن زينتها به أكثر.
(2) أي ولا رافعة لإثمه من أصله كسائر الكفارات.
(1/188)
مَنْ يقُولُ: أنَا أشربُ الخمر وأزني
والْحدُّ يُطَهرني ومَنْ فَعَلَ شيئاً مما يُحْكَمُ بتَحْريمه فقد أخْرَجَ
حَجهُ عن أنْ يكونَ مَبْروراً.
فَصْل
وما سِوَى هذه المحرمات السَّبْعة لا تحرُمُ على المُحْرم (1) فمنْ ذلك
غَسْلُ الرَّأس بما يُنَظِّفُهُ من الوَسَخِ كَالسدْر والخطْمي (2) وغيرهما
من غَير نَتْفِ شيءٍ من شَعْرهِ لكن الأَوْلَى أن لا يَفْعَل (3) لأنَّ ذلك
ضَرْبٌ من الترفُّه والْحَاجُّ أشعَثُ أغْبرُ.
وقالَ الشَّافعي رحمهُ الله تعالَى: فإذَا غَسَلَهُ بالسدْر وَالخِطمي
أحْبَبْتُ أنْ يَفْتدِيَ ولا تَجبُ الفدية وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
وإذا غَسَلَهُ من جَنَابةِ أحْبَبْتُ أنْ يَغسلَهُ ببطُون أناملِه ويُزَايل
شَعْرَهُ مُزَايَلَةً رقَيقَةً ويُشْرب الماء أصُول شَعْره ولا يَحُكّه
بأظْفَاره.
ومِنْ ذلكَ غَسْلُ الْبَدَن وهُوَ جَائزٌ للْمُحرم (4) في الحمّام وغيره
ولا يكْرَهُ
__________
(1) ولا يحرم أيضاً خضاب الرأس واللحية، ولا فدية إلا إن ثخُن نحو الحناء
وستر شيئاً من الرأس.
(2) بكسر الخاء، قال في الصحاح: قلت: ذكر في الديوان أن في الخطمي لغتين
فتح الخاء وكسرها. اهـ. وقوله: وغيرهما أي من كل منظف كالصابون غير المطيب.
(3) وقال الإِمامان أبو حنيفة ومالك: إن غسل رأسه بخطمي لزمته الفدية. وقال
مالك رحمه الله: تجب صدقة بإزالة الوسخ ولم يذكر الجمهور كراهته بل اقتصروا
على أنه خلاف الأولى. اهـ مجموع.
(4) دليل الجواز حديث ابن عباس رضي الله عنهما في المحرم الذي خَرّ عن
بعيره وحديث أبي أيوب رضي الله عنه: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يغتسل وهو محرم) رواهما البخاري وهو مذهب الجمهور. وقال الإِمامان مالك
وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: تلزمه =
(1/189)
وقيلَ: يُكْرَهُ الحمامُ ولَهُ الاكْتحال
(1) بما لا طيبَ فيه ويكرَهُ بالإِثْمدِ دونَ التُّوتْيَاء إلا للْحَاجَة
فلا يكْرَهُ ولا بَأْسَ بالْفَصْد وَالْحجَامَة إذا لم يقْطَعْ شَعْراً (2)
ولهُ حَكُّ رأسِه بأَظفَاره على وجه لا يَنْتفُ شعراً والمُسْتَحَبُّ أن لا
يَفْعَل (3) فلو حَكَّ رأسَهُ أو لحيتَه فَسَقَطَ بحَكَه شَعَرَاتٌ أو
شَعْرَةٌ لزَمَتْه الفدَيةُ ولو سقط شَعْر وشَك هل كانَ زائِلاً أم انتتفَ
بحَكهِ فلا فديةَ على الأَصَح (3) ولَهُ أنْ يُنَحيَ القَمْلَ من بَدَنِهِ
وَثيابه.
__________
= الفدية كما تقدم. وقال الصاحبان رحمهما الله: عليه صدقة وهي رواية عن
الإِمام مالك أيضاً، وما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل حماماً
وهو بالجحفة وهو محرم وقال: (ما يعبأ الله بأوساخنا شيئاً) فهو ضعيف لأنه
من رواية ابن أبي يحيى وهو ضعيف عند المحدثين. اهـ مجموع.
(1) (قول العلماء في الاكتحال بما ليس فيه طيب) قال المصنف رحمه الله تعالى
في مجموعه.
(فرع): اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على جواز تضميد العين وغيرها للمحرم
بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك وأجمعوا على أنه إذا احتاج إلى
ما فيه طيب جاز فعله، وعليه الفدية وأجمعوا على أن له أن يكتحل بما لا طيب
فيه إذا احتاج إليه ولا فدية، وأما الاكتحال للزينة فمكروه عندنا على
الصحيح كما سبق، وبه قال جماعة من العلماء.
قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر رضي الله عنه قال: (يكتحل المحرم بكل كحل
لا طيب فيه). قال: ورخص في الكحل له الثوري وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي غير
أن إسحق وأحمد قالا: لا يعجبنا ذلك للزينة، وكرهه مجاهد وكره الإِثمد
للمحرم الثوري وأحمد وإسحق، قال ابن المنذر: لا يكره. اهـ.
(2) أي ولا فدية عليه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم. رواه البخاري ومسلم، وبه قال الجمهور
ومنهم الإِمام أحمد، وقال الإِمام مالك: ليس له الحجامة إلا من ضرورة.
(3) الحك: أي في محل فيه شعر لأنه يخشى منه انتتافه. قال العلامة ابن قدامة
رحمه الله في المغني: فإنْ حَك فرأى في يده شعراً أحببنا أن يفديه
احتياطاً، ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قلعه. اهـ. =
(1/190)
ولا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ وَلَهُ قَتْلُهُ
وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ للْمُحْرِمِ قَتْلُهُ كَمَا
يُسْتَحَب لِغَيْره ويكْرَهُ للْمُحْرِمِ أنْ يُفَلِّيَ رأسَهُ وَلِحيَتَهُ
فَإنْ فَعَلَ فَأخْرَجَ مِنْهُمَا قملَة وَقَتَلها تَصدقَ وَلَوْ
بِلُقْمَةٍ (1) نَصَّ عليه الشَّافِعي رَحمه الله تَعَالَى. قَالَ جُمْهُور
أَصحْابِنَا: هذا التَّصدُّقُ مُسْتَحب وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاجبٌ لِمَا
فيهِ مِنْ إِزَالَةِ الأذَى عَنِ الرَّأسِ ولِلْمُحْرِمِ أَنْ يُنْشد
الشعْرَ الَّذِي لاَ يَأَثَمُ فيه (2) وَلاَ يُكْرَهُ لِلْمُحْرمِ
وَالْمُحْرِمَةِ النَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ (3) وَفِي قَوْلٍ يُكْرَهُ
لَهُمَا.
(فرع): لاَ يَفْسُدُ الحج وَلاَ العُمْرَةُ بِشَيْء مِنْ مُحَرَّماتِ
الإِحْرَامِ إِلاَّ بِالْجِمَاعِ وَحْدَه (1) وَسَوَاءٌ فِي إفْسَادِهما
بِالْجِماع الرَّجُلُ وَالْمَرْأَة حَتى لَوْ اسْتَدْخَلَتْ المَرْأة
ذَكَرَ نَائِمٍ فَسَدَ حَجُّها وَعُمْرَتُهَا وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ.
__________
= (تتمة): قال العلامة ابن حجر المكي رحمه الله في حاشيته على الإيضاح:
جَوز الأئمة لذي الحكة والجرب أن يحك بدنه في صلاته وإن جاوزت ثلاث مرات،
وجعلوا هذا مستثنى من بطلان الصلاة بالفعل الكثير ولو سهواً وعللوه بأنه لا
يصبر وقياسه جوازه له هنا، وإنْ علم أنه يحصل به انتتاف الشعر، ويؤيده ما
مَرّ من جواز الحلق لشدة القمل لأن هذا إن لم يكن مثل ذلك فهو أشد منه.
اهـ.
(1) الكراهة والتصَدُّق خاصان بقمل الرأس واللحية بخلاف قمل البدن فلا فدية
فيه قطعاً، وكالقمل فيما ذكر: الصئبان، وهو بَيْض القمل، وكذا الحكم في
البراغيث.
(2) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ من الشِّعْرِ لحكمة" رواه البخاري.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشِعْر كلام حَسَنُهُ كَحَسَن الكلام،
وقبيحه كقبيحه" رواه الشافعي والبيهقي هكذا مرسلاً عن عروة، وروى الشافعي
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (غنّى وهو مُحْرم) والله أعلم. اهـ مجموع.
(3) هو القول الأصح كما في المجموع وبه قال الإِمام أحمد وقال الإِمام
مالك: لا يفعل إلا عن ضرورة.
(1) أي الذي قبل التحلل الأول في الحج وفي العمرة قبل الفراغ منها كما تقدم
والله أعلم.
(1/191)
|