الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

الفصل الرابع
في الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدهُ
إذَا فَرَغَ مِنَ السعي بَيْنَ الصَّفَا والمروةِ فإن كَانَ مُعْتَمِراً مُتَمتعاً أوْ غَيْرَ مُتَمتع حَلَقَ رَأْسَه (1) أوْ قَصَّرَ وَصَارَ حَلاَلاً، وَسَيَأتي بَيَانُ حَال الْمُعتَمِر مبسُوطاً في بَابِ العمرةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
ثم المُعْتَمِر إن كانَ مُتمَتعاً أقامَ بِمكةَ حَلاَلاً يَفعلُ مَا أرَادَ مِنَ الْجِمَاعِ وَغيره مَا كَانَ عَلَيْهِ حَرَاماً بِالإِحْرَامِ، فَإِذَا أَرَادَ أنْ يَعْتَمِرَ تَطَوُّعاً (2) كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَيُسْتَحَب الإِكثَارُ مِنَ الاعْتِمَارِ كَمَا سَيأْتي في بَابِ المُقَامِ بِمَكَّةَ إن شَاءَ الله تَعَالَى، فإِذَا كَانَ عِندَ خُروجِهِ إِلَى عَرَفَات يَوْمَ التَّرْوِيةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثامِنُ مِن ذِي
__________
= وبعض أهل الحديث أنه يصح وعن أحمد رواية ثانية يجزئه إنْ كان ناسياً كما في مغني ابن قدامة.
(الثالثة): الترتيب في السعي شرط فيبدأ بالصفا فلو عكسه لم يعتد به، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء، والمشهور عن أبي حنيفة يعتد به.
(الرابعة): إذا أقيمت الصلاة المكتوبة والشخص في السعي قطعه وصلاّها ثم بنى عليه، هذا مذهب الشافعية، وبه قال جمهور العلماء ومنهم أبو حنيفة وأحمد، وقال مالك: لا يقطعه إلا أنْ يضيق وقتها، وقد تقدمت هذه المسألة.
(الخامسة): لو سعى شخص راكباً جاز وليس بمكروه لكنه خلاف الأولى وليس عليه دم عند الشافعية، وعند أحمد مكروه، وقال أبو حنيفة: إن كان بمكة أعاده ولا دم وإن رجع إلى وطنه بلا إعادة لزمه دم.
(1) أي إن كان رأس المتمتع يسود قبل مجيء وقت حلقه في الحج. وأما عمرة غير المتمتع فَيُسَن له حَلْق رأسه مطلقاً.
(2) ليس بقيد بل ولو واجباً كنذر وقضاء لعمرة أفسدها.

(1/263)


الحِجَّةِ أحرَمَ مِنَ مَكَّةَ بِالْحجِّ (1) وَكَذَا مَنْ أراد الْحَج مِنْ أَهْلِ مَكّةَ (2) الْكَائنينَ فِيهَا ذَلِكَ الوَقْت سَوَاءٌ المقيمُونَ والغُربَاءُ وَقَدْ سَبَقَ بيان إِحْرَامِهِ.
وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَرَغَ مِنَ السَّعْي حَاجَّاً مُفْرداً أوْ قَارِناً فَإنْ وَقَعَ سَعْيُهُ بَعْدَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ فَقَدْ فَرَغَ مِنْ أرْكَانِ الْحجِّ كُلِّهَا وَبقِيَ عَلَيْهِ المبيتُ بمنى وَرَمْيُ أيَّامِ التَّشرِيقِ وإنْ وَقَعَ بَعْدَ طَوَافِ القُدُوم فَلْيَمْكُثْ بِمَكَّةَ إِلَى وَقْتِ خُرُوجِهِ مِنَ مَكَّةَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجةِ فَإذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَبْلَهُ وهُوَ الْيَوْمُ السَّابعُ خَطَبَ فيه الإِمامُ بَعْدَ صَلاَةِ الطهْرِ خُطْبةً (3) فَرْدةً عِنْدَ الْكَعْبةِ وَهِيَ أولُ خُطَبِ الْحَجّ الأَرْبَعِ.
وَاعْلَمْ أَنهُ يُسْتَحَبُّ للإمَامِ الَّذِي هُوَ الخَلِيفَةُ إذَا لم يَحْضُرْ بِنَفْسِهِ الْحَج أنْ يَنْصِبَ أمِيراً عَلَى الْحَجِيجِ وَيُطيعُونَهُ فيما ينوبُهُمْ وَسَيَأتِي إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى فِي آخرِ الْكِتَابِ بَيَانُ صِفَاتِ هَذَا الأمير وَأحْكَامِهِ وَيَنْبَغِي للإمَامِ أوْ مَنْصُوبِهِ أنْ يَخْطُبَ خُطَبَ الْحَج وَهُنَّ أرْبَعُ (4) خُطَب: إِحْدَاهُنَّ يومَ السَّابع بِمَكَّةَ وَقَدْ
__________
(1) محله كما تقدم إذا كان المتمتع واجداً للهدي، أمّا مَنْ فقده فتقدم أيضاً أنه يحرم ليلة الخامس ويصومه وتالييه ويفطر الثامن لأنه يوم السفر والتاسع لأنه يوم عرفة يسن فطره للحاج للاتباع.
(2) هو قول الأئمة في الاستحباب إلا الإمام مالكاً فإنه يستحب الإِهلال لهم من أول ذي الحجة لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل مكة: (ما لكم يقدم الناس عليكم شعثاً؟ إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج) ودليل الأئمة قول جابر رضي الله عنه: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج).
(3) الدليل عليها كما في المهذب والمجموع حديث البيهقي الذي رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم قال المصنف في المجموع: وإسناده جيد.
(4) هذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وبه قال داود رحمه الله، وقال مالك وأبو =

(1/264)


ذَكَرْنَاهَا والثانِيةُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالثالِثَةُ يَومَ النَّحْرِ بمنى (1) وَالرَّابِعَةُ يَوْمَ النَّفْرِ الأَوَّلِ بمنى (2) أيْضاً يُخْبِرُهُمْ فِي كُلّ خُطْبةٍ بما بَيْنَ أيْدِيهِم مِنَ الْمَنَاسِكِ وَأحْكَامِهَا إِلى الْخُطْبَةِ الأُخْرَى وكُلُّهُنَّ أَفْرَادٌ بَعْدَ صَلاَةِ الظهْرِ إِلا التِي بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُمَا خُطْبَتَانِ وَقَبْلَ صَلاَةِ الظُّهْرِ كَمَا سَيَأتِي (3) إِنْ شاء اللهُ تَعَالى.
ويَأْمُرُ الإِمامُ الناسَ في الخُطْبةِ التي في اليوم السابعِ بِمَكَّةَ أَنْ يَسْتَعِدُّوا للْغُدُو أو الرَّوَاحِ مِنَ الْغَدِ إِلَى مِنى. وَيَأْمُرُ المُتَمَتعين (4) أنْ يَطُوفُوا (5) قبلَ الخروجِ إِلَى مِنى وَإنْ كانَ يومُ السابعِ يوم جُمعَةٍ خطب الإِمام للجمعة وصَلاَّهَا
__________
= حنيفة رحمهما الله: خطب الحج ثلاث يوم السابع والتاسع ويوم النفر الثاني، قالا: ولا خطبة في يوم النحر. وقال الإِمام أحمد رحمه الله: ليس في السابع خطبة.
(1) صَحت فيها أحاديث كثيرة منها كما في المجموع حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما هو يخطب يوم النحر، قام إليه رجل فقال: كنت أحسب يا رسول الله كذا وكذا قبل كذا وكذا) الحديث رواه البخاري ومسلم.
(2) فيها أحاديث منها كما في المجموع حديث سُرَّاءَ بنت نبهان الصحابية رضي الله عنها -وهي بضم السين المهملة وتشديد الراء- وبالإمالة قالت: (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الرءوس فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس أوسط أيام التشريق؟) رواه أبو داود بإسناد حسن ولم يضعفه.
(3) أي في هذا الباب بعد قوله رحمه الله: فإذا زالت الشمس ذهب الإمام والناس إلى المسجد المسمى مسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ويخطب الإِمام قبل صلاة الظهر خطبتين، إلى آخره. قال: سأذكر هناك إن شاء الله دليل الخطبتين وكونهما قبل صلاة الظهر.
(4) أي والمقيمين بمكة إذا أحرموا بالحج منها كما في المجموع.
(5) أي بعد إحرامهم ومنع مالك وأحمد هذا الطواف، وأما المفردون والقارنون فلا يطوفون هذا الطواف لبقاء نسكهم فتوجههم لإتمامه، وأما المتمتعون والمقيمون سابقوا الذكر فإن توجههم لابتداء نسك فندب لهم أن يودعوا لمشابهتهم لمن قضى نسكه وأراد التوجه إلى بلده فإن لم يفعلوا لم يجب عليهم دم لأنه لا يجب في ترك مندوب والمشابهة المذكورة لا تقتضي وجوب ذلك لضعفها.

(1/265)


ثُم خَطَبَ هذِهِ الخُطْبَةَ لأَنَّ السُنَّةَ فيهَا التأَخيرُ (1) عَنِ الصلاةِ ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فِي اليَوْمِ الثامِنِ إِلَى مِنى وَيَكونُ خروجُهُم بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ بِمَكَّة (2) بِحَيثُ يُصَلونَ الظُّهْر (3) بِمِنى وَهذا هُوَ الْمَذْهبُ الصَّحِيحُ المشهُورُ مِنْ نُصِوصِ الشَّافِعِي وَالأَصْحَابِ رَحِمَهُمْ الله تَعَالَى، وَفِيْ قَوْل يُصَلونَ الظهْرَ بِمَكةَ ثمَّ يَخْرُجُونَ (4).
فَإِنْ كَانَ اليومُ الثَّامِنُ يومَ الجمعةِ خَرَجُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لأَنَّ السَّفَرَ يَوْمَ الْجُمَعَةِ (5) إِلَى حَيْثُ لاَ يُصَلِّي الْجُمعَةَ حَرَامٌ أو مكْرُوه (6) وَهُمْ لاَ يُصَلُونَ
__________
(1) أي ولأنها لا تشارك خطبة الجمعة إذْ القصد بها التعليم لا الوعظ والتخويف بخلاف خطبة الكسوف فيما لو اجتمع كسوف وجمعة وتعرض الإمام في خطبة الجمعة لخطبة الكسوف فإنه يكتفي بخطبة الجمعة عنها، لأن القصد فيهما الوعظ والتخويف والله أعلم.
(2) والأكمل أن يكون الخروج إلى منى يوم التروية (الثامن من ذي الحجة) ضحى للاتباع ولا ينافيه قول المصنف بعد الصبح. قال في كشاف القناع للعلامة منصور البهوتي الحنبلي رحمه الله: ثم يخرج إلى منى قبل الزوال. اهـ. وقال المصنف رحمه الله في مجموعه: قال أبو حنيفة: وكل هذا قريب إلا أنهم يصلون الظهر بمنى. اهـ. وقال العلامة ابن رشد في بدايته: واتفقوا على أن الإمام يصلي بالناس بمنى يوم التروية الظهر والعصر والمغرب والعشاء. اهـ.
(3) أي في أول وقتها.
(4) قال في الحاشية: وما وقع في أصل الروضة في الإحرام من أنهم يخرجون بعد صلاة الظهر ضعيف كما أفاده المصنف بقوله هنا وفي قول إلخ. اهـ.
(5) أي بعد الفجر وقبل الزوال كما في المجموع، وفي كشاف القناع للعلامة البهوتي الحنبلي: ولو صادف يوم جمعة وهو مقيم بمكة ممن تجب عليه وزالت الشمس وهو بمكة فلا يخرج قبل صلاتها -أي الجمعة- لوجوبها بالزوال، وقبل الزوال إنْ شاء خرج إلى منى، وإن شاء أقام بمكة حتى يصليها أي الجمعة. اهـ.
(6) قال في الحاشية: المذهب أنه حرام ومحله كما هو ظاهر وصرح به ابن النقيب في مقيم بمكة إقامة مؤثرة في منع الترخيص، أما غيره فله السفر بعد الفجر وقول المتولي =

(1/266)


الْجُمُعَةَ بِمِنى وَلاَ بِعَرَفَاتٍ لأنَّ شَرْطَهَا دارُ الإِقَامَةِ قَالَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله تَعَالَى: فَإِنْ بُنِيَ بِهَا قَرْيةٌ (1) واسْتَوَطَنَهَا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ أقَامُوا الْجُمُعَة هُمْ وَالنَّاسُ مَعَهُمْ (2).
__________
= صلاة الجمعة بمكة أولى ضعيف وإن نقل الروياني عن النص ما يوافقه من جواز الخروج لمنى ولو بعد الزوال. اهـ.
(1) أقول: قد أصبحت منى بلدة وسكانها يزيدون أضعاف أضعاف العدد المشروط في الجمعة بكثير، والآن تقام بمسجد الخيف جمعة، بل وجميع الصلوات، وللمسجد المذكور إمام رسمي ومؤذن كذلك من جهة حكومتنا السنية وفقها الله وجميع حكومات المسلمين لمرضاته آمين.
(2) قال في الحاشية: والذي يظهر أنه لو أقيمت جمعة في منى أيام التشريق أو العيد لزم نحو المكي الحضور ويؤيده قولهم: إن المسافر إذا لم يحل له القصر تلزمه الجمعة وينبغي تقييده بما إذا لم يرد النفر إلى مكة للطواف وإن كان وقته موسعاً. اهـ.
حكم البناء بمنى
قال العلامة ابن حجر المكي رحمه الله في حاشيته على الإِيضاح: قال الزركشي: إن منى لا يجوز إحياؤها، وإنْ جاز البناء فيها للارتفاق فتصير مساكنهم مشتركة. اهـ.
وقوله: "وإنْ جاز" سبقه إليه الإِسنوي حيث قال: البناء بعرفة ومزدلفة ومنى ممتنع، وعللوه بالتضييق فإنْ بنيت لانتفاع الواقفين بها عامة فيحتمل الجواز لعدم الاختصاص ويكون ذلك مستثنى ويؤيده اتفاقهم على مسجد الخيف ويحتمل المنع للتضييق بموضع الجدار. اهـ.
والبلقيني حيث قال: ويخرج من كلام حكاه الحاكم والبيهقي عن الشافعي رضي الله عنه ما يدل على جواز البناء بمنى حيث قال: بنيت بمنى مضرباً يكون لأصحابنا إذا حجوا ينزلون فيه. اهـ. قال أبو زرعة: والظاهر أن الشافعي لم يحتجز ما بناه عن الناس بل جعله مسبلاً لهم ففيه زيادة إرفاق للحجيج في نزولهم في مكان يأويهم من الحر والبرد والمطر والممتنع إنما هو البناء الذي يقصد به بانيه تملكه ومنع الناس منه. اهـ. ووافقه على ذلك العلائي حيث حمل بناء الشافعي رضي الله عنه على إنه إنما كان لأجل الارتفاق به من جهة الظل، وصيانة الأمتعة ونحو ذلك لا للتحجر وأخذ الأجرة على النزول =

(1/267)


(فرع): اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى يوم التروية فإنهم يتروون مَعَهُمُ الْمَاءَ مِنْ مَكَّة (1) وَالْيَومُ التَّاسِعُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْعَاشِرُ يَوْمُ النَّحْرِ والْحَادِي عَشَرَ الْقَرُّ بفَتْح القَافِ وتَشْدِيد الرَّاءِ لأَنَّهُمْ يقرُّونَ فِيهِ بِمِنى والثاني عَشَرَ يَوْمَ النَّفْرِ الأَوَّلُ (2) والثالثَ عَشَرَ يَوْمُ النَّفرِ الثانِي (3).
__________
= فيه. اهـ. لكنه قال: وما فعله الشافعي رضي الله عنه إن صَحّ عنه فقد صح الحديث عن النهي عن البناء فيها بخلافه وقد قال: إذا صَح الحديث فهو مذهبي. اهـ. ويؤيده إطلاق الشيخين كالأصحاب حرمة البناء بمنى مطلقاً، والحديث الذي أشار إليه هو ما صححه الحاكم أنه - صلى الله عليه وسلم -: (قيل له: ألا نبني لك بمنى بيتاً يظلك؟ فقال: لا، منى مناخ مَنْ سبق) فظاهره حرمة البناء فيها كعرفة ومزدلفة وكذا المحصب على الأوجه لندب المبيت فيه كما يأتي سواء كان ذلك البناء يضيق أم لا قصد به التملك أو الارتفاق ولعل ما ذكر عن الشافعي رضي الله عنه مبني على الضعيف: (إن هذه البقاع يجوز إحياؤها) بل هذا هو الظاهر من قوله: يكون لأصحابنا إذا حجوا ينزلون فيه فإن قضيته تخصيصه بهم فاعتماد هؤلاء المتأخرين جواز البناء للارتفاق فيه نظر لما علمت، وأما إفتاء الأصفوني بأن منى كغيرها في جواز بيع دورها وإجارتها وأخذ أجرتها فمردود نقلاً وتوجيهاً، ويمكن حمل كلامه على أن جواز ما ذكره إنما هو من حيث الأبنية القائمة وَإنْ عصى بها لا الأرض لأنها لا تملك بالإحياء. اهـ.
(1) قال في الحاشية: أي لأنه لم يكن بعرفة ولا منى ماء، وظاهر كلامه كغيره عدم تقييد التروي بماء مخصوص لكن قيده ابن خليل بماء زمزم ثم ما ذكره التعليل هو المشهور وقيل: لأن جبريل أرى إبراهيم عليهما الصلاة والسلام مناسكه فيه وعليه فقياسه أنْ يسمى يوم الأراء لا التروية. وقيل: لأنه تروى فيه من الروية في ذبح ولده وقيل: لأن آدم رأى فيه حواء عندما أهبط إلى الأرض ويسمى أيضاً يوم النقلة لانتقالهم فيه إلى منى، وظاهر كلامه أن يوم السابع لا اسم له، وهو ما صرح به في المجموع لكن ذكر غيره أنه يسمى يوم الزينة لتزيينهم المحامل فيه إلى عرفة. اهـ. أقول: والآن ولله الحمد الماء ميسور بعرفة ومزدَلفة ومنى.
(2) أي ويوم الرءوس كلهم فيه رءوس الهدي.
(3) أي ويوم الخلاء لخلو منى منهم.

(1/268)


ثُمَّ إِذا خَرَجُوا يَوْمَ الترْوِيةِ إِلى مِنَى فالسُّنَّةُ أنْ يُصَلُّوا بِهَا الظهْرَ والْعَصْرَ والْمَغْرِبَ والْعِشَاءَ وَيَبِيتُوا بِهَا وَيُصَلونَ بِهَا الصُّبْحَ (1) وَكُل ذَلِكَ مَسْنُون لَيْسَ بِنُسُك وَاجِب (2) فَلَوْ لَمْ يَبِيتُوا بِهَا أصْلاً وَلَمْ يَدْخُلُوهَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ (3) لَكِنْ فَاتَتْهُمْ السُنَّة (4) فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى ثَبِير وَهُوَ جَبَل (5) مَعْرُوف
__________
(1) قال الزعفراني: ويقصد مسجد الخيف فيصلى فيه ركعتين ويصلي بها مكتوبات يومه وصبح غده عند الأحجار التي بين يدي المنارة فإنه مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله أهل العلم. اهـ. والضمير في قاله يحتمل رجوعه إلى كل ما ذكره ويحتمل عوده للأخير فقط وعلى كل فكلامه يحتج به في أن السنة صلاة المكتوبات في هذا المبيت بمسجد الخيف. اهـ حاشية.
(2) أي لتخلف السيدة عائشة رضي الله عنها ليلة التروية حتى ذهب ثلث الليل، وصلى ابن الزبير رضي الله عنهما الظهر يوم التروية بمكة كما في المجموع نقلاً عن ابن المنذر رحمه الله تعالى.
(3) هو مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة رحم الله تعالى الجميع، ومذهبم أن الحاج ينزل من منى حيث شاء كما في المجموع عن ابن المنذر رحمه الله تعالى ورحمنا والأمة رحمة عامة آمين.
(4) قال العلامة ابن حجر المكي في حاشيته: الظاهر أنهم إذا صلوا بها ما ذكر ولم يبيتوا أو باتوا بها ولم يصلوا ذلك بها حصلت لهم سنة الصلاة أو المبيت، وإنْ فاتتهم السنة الأخرى. اهـ.
(5) قال في الحاشية: قال -أي المصنف- في تهذيبه: على يمين الذاهب من منى إلى عرفات بالمزدلفة، وخالفه المحب الطبري فقال: إنه على يسار الذاهب إلى عرفة مشرف على منى من جمرة العقبة إلى تلقاء مسجد الخيف وأمامه قليلاً وكلام الأزرقي يوافقه، قيل: وأهل مكة أدرى بشعابها، ومِنْ ثَمَّ اعتمده جمع متأخرون لكن اعتمد آخرون الأول.
وقول المصنف: أنه بالمزدلفة أي يمتد من منى إليها فيوجد بهما فاندفع الاعتراض عليه بالإجماع على خلافه وبأن بمزدلفة جبلاً يسمى بذلك لكن ليس هو المراد قبل، فيستفاد منه أن بكل منهما جبلاً اسمه ذلك فلا يبعد اتصالهما في الجهة المذكورة. اهـ. =

(1/269)


هُنَاكَ سَارُوا مِنْ مِنى مُتَوَجهِينَ إِلَى عَرَفَاتٍ واسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أنْ يقُولَ في مَسِيرِهِ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ وَلَوجهِكَ الْكَرِيمِ أردْتُ فاجْعَلْ ذنْبِي مَغْفُوراً وَحَجي مَبْرُوراً، ارحَمْنِي وَلاَ تخيبني إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيُكْثِرُ مِنَ التَّلْبِيَةِ. قَالَ أقْضَى القُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ (1): يُسْتَحَب أَنْ يَسِيرُوا عَلَى طَرِيقِ
__________
= الدعاء عند التوجه إلى منى
(اللهم إياك أرجو ولك أدعو، فبلغني صالح عملي واغفر لي ذنبي، وامنن عليَّ بما مننت به على أهل طاعتك إنك على كل شيء قدير) ويكثر في طريقه من التلبية والذكر والدعاء والتلاوة.
الدعاء عند الوصول إلى منى
(الحمد لله الذي بلغني سالماً معافى، اللهم هذه منى أتيتها وأنا عبدك وفي قبضتك، أسألك أن تمن علي بما مننت به على أوليائك وأهل طاعتك، اللهم إني أعوذ بك من الحرمان والمصيبة في ديني يا أرحم الراحمين).
الدعاء عند التوجه إلى عرفات
(اللهم اجعلها خير غدوة غدوتها وأقربها من رضوانك وأبعدها من سخطك، اللهم إليك غدوت وإياك اعتمدت ووجهك أردت، فاجعلني ممن تباهي به اليوم من هو خير مني، وأفضل اللهم إِليك توجهت ووجهك الكريم أردت فاجعل ذنبي مغفوراً وحجي مبروراً وسعيي مشكوراً ولا تخيبني إنك على كل شيء قدير، لبيك اللهم لبيك إلى آخر التلبية اللهم صلي على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأمته وسلم) ..
(1) هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الإمام المعروف بالماوردي رحمه الله المتوفى سنة خمس وأربعمائة هجرية عن ست وثمانين سنة، صاحب الحاوي والإِقناع في الفقه وأدب الدين والدنيا والتفسير ودلائل النبوة والأحكام السلطانية وقانون الوزارة وسياسة الملك وغير ذلك، وهو أول من لقب بأقضى القضاة، فاعترض عليه بعض أهل عصره بأن هذا اللفظ شبه أحكم الحاكمين فيدخل فيه الباري تعالى. وكذا قاضي القضاة لأنه تعالى وصف نفسه بالقضاء في غير آية نحو {يَقْضِي بِالْحَقِّ} ويدخل فيه كل قاض =

(1/270)


ضَب (1) وَيَعُودُوا عَلَى طَرِيقِ المأْزمَيْنِ (2) اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَليَكُنْ عَائِداً فِي طَريق غَيْر التي صَدَرَ مِنْهَا كَالْعِيدِ. وذكر الأزرَقي نَحْوَ هَذَا، قَالَ الأَزْرَقِي: وَطَرِيقُ ضَب مُخْتَصَر مِن المُزْدَلِفَةِ إِلَى عَرَفَةَ وَهو فِي أصْلِ المأزمَيْن عَنْ يَمِينَكَ وَأنْتَ ذَاهِب إِلَى عَرَفَاتِ (3) وَاللهُ تَعَالَى أعْلَمُ.
فَإِذَا وَصَلُوا نَمِرة (4) ضُرِبَتْ فِيهَا قُبةُ الإِمامِ وَمَنْ كَانَ لَهُ قُبَّة ضَرَبَهَا اقتداءَ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولاَ يَدْخُلُ عَرَفَاتِ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوالِ وَبَعْدَ صَلاَةِ الظهْرِ وَالْعَصْرِ مَجمُوعَتَيْنِ كما سَنَذْكُرُه إنْ شَاءَ الله تَعَالَى.
__________
= تقدم من الأنبياء وغيرهم فلم يلتفت لإنكاره بل استمر على التلقيب به. وأجاب هو والمحققون من أهل زمانه بأن هذا اللفظ إذا أطلق إنما ينصرف عرفاً إلى أهل عالمه وزمانه فقط.
وأما أول من لقب بقاضي القضاة فهو أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى.
(1) ضب: اسم الجبل الذي بأصل مسجد الخيف، وهذه الطريق إذا سلكها الصاعد إلى عرفات يكون مسجد مزدلفة والمأزمان أي الأخشبان وعلما الحرم على يساره. والآن في وقت الحج تسلكها السيارات في صعودها إلى عرفات.
(2) يُعْرَفان الآن بالأخشبين وهما الجبلان الواقعان فيما بين عرفة ومزدلفة، وهذه الطريق إذا سلكها الصاعد إلى عرفات صار مسجد مزدلفة على يمينه. ثم يسير بين المأزمين، ثم يأتي على عَلَمَيْ الحرم وعلى عَلَمَيْ وادي عرنة بالنون.
(3) نقل الأزرقي رحمه الله تعالى عن بعض المكيين كما في الحاشية أنه - صلى الله عليه وسلم -: (سلك هذه الطريق حين غدا من منى إلى عرفة).
(4) نمرة: بفتح النون وكسر الميم. ويجوز إسكانها مع فتح النون وكسرها. قال العلامة ابن القيم رحمه الله كما في مفيد الأنام: نمرة قرية غربي عرفات وهي خراب اليوم. وقال الأزرقي رحمه الله: ونمرة هو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمَيْ عرفة تريد الموقف. اهـ. أقول: يجمع بين القولين بأن القرية سميت =

(1/271)


وَأَمَّا مَا يفْعَلُهُ النَّاسُ فِي هذه الأَزْمَانِ مِنْ دُخُولهِمْ أرْضَ عَرَفَات في الْيَوْمِ الثامِنِ فَخَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُنَّةِ وتَفُوتُهُمْ بِسَبَبِهِ سُنَنٌ كَثِيرَة مِنْهَا الصَّلاةُ بِمِنى والْمَبيتُ بِهَا والتَّوجهُ مِنْهَا إِلَى نَمِرَةَ والنُّزُولُ بِهَا والْخُطْبةُ والصَّلاةُ قَبْلَ دُخُولِ عَرَفَات وغيرُ ذَلِكَ فالسُّنَّةُ أنْ يَمْكُثُوا بِنَمِرَةَ حتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ويغْتَسِلُوا (1) بِهَا للوقوفِ فإذَا زالت الشَّمْسُ ذهَبَ الإِمامُ والنَّاسُ إلى المسجِدِ المسمى مسجد إبْراهِيمَ (2) عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ وَيَخْطُبُ الإِمَامُ قبلَ صلاةِ الظُّهْرِ خُطْبَتَيْن (3) يبين لَهُمْ في الأولَى الوقوفَ وشرطَهُ ومتى الدَّفْعُ من عَرَفَةَ إلى المُزْدَلِفة وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَ أيْدِيهِمْ ويُحَرّضُهُمْ عَلَى إكْثَارِ الدُّعَاءِ والتهليلِ بالْموقِفِ ويُخَفّفُ هذه الْخُطْبةَ لَكِنْ لاَ يَبْلُغُ تَخْفِيفُهَا تَخْفِيفَ الثَّانِيةِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا جَلَسَ قَدْرَ
__________
= باسم جبلها والله أعلم، وأنصاب الحرم الآن مُقَامة على وجه الأرض وليس شيء منها مُقَاماً على الجبل المذكور.
(1) أي ندباً قبل الزوال لما أخرجه مالك عن ابن عمر رضي الله عنهم: (أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أنْ يُحْرم، ولدخول مكة، ولوقوفه عشية عرفة) وكذا روى الغسل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود رضي الله عنه كما في القرى للطبري رحمه الله تعالى.
(2) بنى هذا المسجد في أول دولة بني العباس رضي الله عنه وكانت له مئذنة واحدة والآن جدد، وبنيت له ست مآذن كما هو مشاهد في عام 1398 هجرية في عهد الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود وفقهم الله لمرضاته آمين.
(3) أي عند الشافعية خلافاً للأئمة الثلاثة فعندهم خطبة واحدة. قال المصنف رحمه الله في المجموع.
(فرع): مذهبنا أن في خطبة عرفات يخطب الأولى قبل الأذان ثم يشرع الإمام في الخطبة الثانية مع شروع المؤذن في الأذان. وقال أبو حنيفة: يؤذن قبل الخطبة كالجمعة.
واحتج أصحابنا بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم عرفة وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم .. إلى آخر خطبته" قال: ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم =

(1/272)


قَرَاءَةِ سُورَةِ الإِخْلاَصِ ثُمّ يقوم إلى الخُطْبَةِ الثانية ويأخُذُ المؤَذنُ في الأذانِ (1) وَيُخَففُ الْخُطْبةَ بحيثُ يفرُغُ منها مع فراغ المؤذنِ مِنَ الأذانِ وقيل معَ فراغِهِ من الإِقَامَةِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلَي بالنَّاسِ الظهْرَ ثُم الْعَصْر جَامعاً بينهما وقد تَقَدَّم بيانُ الجمعِ وأحْكَامُهُ في أوّلِ الكتابِ، ويكُونُ جمعُهُ بأذَانٍ (2) وإقامتيْن ويُسِرُّ بِالقِرَاءَة (3)، ثُمَ قيل إِنَّهُ يَسْتَوِي في هذَا الْجَمْعِ المقيمُ والمُسَافِرُ وأنَّهُ يَجْمَعُ بسببِ النُّسُكِ (4) والأَصَحُّ أَنهُ بِسَبَبِ
__________
= أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً. ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف رواه مسلم بهذه الحروف. اهـ.
وعند ابن رشد في بدايته رحمه الله روايتان عن الإِمام مالك في وقت الأذان يوم عرفة رواية كأبي حنيفة قبل الخطبة، وهي محكية عن ابن نافع عن مالك والثانية قال مالك: يخطب الإِمام حتى يمضي صدرٌ من خطبته أو بعضها ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب. اهـ. وفي المغني لابن قدامة رحمه الله: وقيل يؤذن في آخر خطبة الإِمام، وحديث جابر رضي الله عنه يدل على أنه أذن بعد فراغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من خطبته وكيفما فعل حَسَن. اهـ يظهر من هذا أن الكيفيات التي صَحَّت عن الأئمة رحمهم الله رواية عنه الحنابلة والله أعلم.
(1) فإنْ قيل: الأذان يمنع سماع الخطبة أو أكثرها فيفوت مقصودها.
أجيب كما في مغني المحتاج للعلامة محمد الشربيني الخطيب رحمه الله تعالى: بأن المقصود بالخطبة من التعليم إنما هو في الأولى. وأما في الثانية فهي ذكر ودعاء، وشرعت مع الأذان قصد المبادرة بالصلاة والله أعلم.
(2) عند الإِمام مالك رحمه الله بأذانين وإقامتين لكل صلاة أذان وإقامة.
(3) قال في المجموع: نقل ابن المنذر رحمه الله تعالى الإجماع عليه. ونقل أصحابنا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى الجهر كالجمعة. دليلنا أَنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - الجهر. اهـ.
(4) هو مذهب المالكية والحنابلة قال في المجموع: به قطع الصيمري والماوردي في الحاوي من الشافعية. قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى في شرح السنة: وهذا الجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء بالمزدلفة بعد الدفع من عرفة متفق عليه بين العلماء =

(1/273)


السَّفَرِ (1) فَيَخْتَص بالمسَافِر سَفَراً طويلاً وهو مرحَلَتانِ (2) وَلاَ يقْصرُ إِلاَّ مَنْ كانَ مُسَافراً سفراً طَويلاً بِلاَ خِلاَفِ (3).
__________
= مع إمام الحاج لمن جاء من مسافات القصر، ولو ترك رجل الجمع وصلى كل صلاة في وقتها المعهود جاز عند أكثر الفقهاء، واتباع السنة أفضل.
(1) هو مذهب الشافعي وأبو حنيفة لا يجيز الجمع إلا لمن صلى مع إمام الحج لأنه لا يقول بالجمع إلا جمع مزدلفة فقط فلا يجمع المنفرد عنده ويجمع عند الأئمة الثلاثة.
(2) أي عند الأئمة الثلاثة وثلاثة أيام عند أبي حنيفة.
(3) أي عند الشافعية كما في المجموع، وقول الشافعية هو قول أبي حنيفة وأحمد والجمهور كما في المجموع، فعند هؤلاء الأئمة والجمهور لا يجوز القصر لأهل مكة ولا لمن جاء من أقل من مسافة القصر. وقال مالك والأوزاعي وسفيان بن عُيَيْنة والقاسم بن محمد وسالم يقصرون.
فعند الإمام مالك يجمع ويقصر الحجاج مطلقاً سواء كان سفرهم طويلاً أو قصيراً، وكذا أهل مكة ومَنْ في معناهم لروايته في موطئه بإسناده الصحيح عن عمر رضي الله عنه أن لَما قَدِمَ مكةَ صلى بهم ركعتين ثم انصرف. فقال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سَفْرٌ، ثم صلى ركعتين بمنى ولم يبلغني أنه قال لهم شيئاً، وعند الإمام أحمد يجوز الجمع لكل مَنْ بعرفة من مكي وغيره، ولا يقصر أهل مكة ومَنْ في معناهم، وعند الإمام الشافعي: لا يجوز الجمع ولا القصر لأهل مكة ومَنْ في معناهم لقوله: الجمع والقصر للسفر الطويل، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى الظهر والعصر وقصر وجمع بأهل مكة، ومَنْ في معناهم، فوجب عليهم الإتمام قياساً على قوله - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة بمكة في غزوة الفتح:
"أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر" وعند أبي حنيفة كالشافعي غير أنه يوجب الجمع في مزدلفة لجميع الحجاج مكيين وغيرهم، ولا يقول بالقصر إلا للمسافر سفراً طويلاً، ويجيز الجمع بعرفة لمن صلّى مع الإمام كما تقدم، فلو صلى الحاج المغرب قبل أن يأتي المزدلفة فعليه الإعادة عند أبي حنيفة، وأجاز أن يصلي الحاج الظهر والعصر كل صلاة في وقتها مع الكراهة ولم يوجب الإِعادة والله أعلم.

(1/274)


وإذا كان الإِمَامُ مُسَافِراً (1) قَصَرَ وإذا سَلَّمَ قَالَ: يا أهل مَكَّةَ وَمَنْ سَفَرهُ قَصيرٌ أتمُّوا فإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَيُصَلي السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ كَمَا يُصَليها غيرُه مِمَّنْ يَجْمَعُ بين الصَّلاَتَين كما سَبَقَ بيانُهُ في أوَّلِ الكِتَابِ فَيُصلي أولاً سُنَّة الظهرِ التي قَبْلَهَا ثُم يُصَلي الظهْرَ ثُم العَصْرَ ثُمّ سُنَّةَ الظهْرِ التي بعدها ثم سنة العَصرِ ولا يَتَنَفلونَ بعدَ الصَّلاَتَيْنِ بِغَيْرِ السُّنَّةِ الرَّاتبةِ بل يبادُرونَ إلى تَعْجيلِ الوُقُوفِ، نصَ عليه الشَّافعي رَحِمهُ الله تعالى وهُوَ ظاهرٌ، ولو انفردَ بَعْضُهم بالجمع بعرَفَةَ أو المزدلفَةِ أو صلَّى إحْدى الصَّلاَتَيْنِ مع الإِمامِ والأُخْرَى وَحْدَهُ أو صَلى كُل واحِدَة في وَقْتِهَا جاز (2) لكن السُّنَّة ما سَبَقَ.
ولو وافَقَ يَومُ عَرَفَةَ يومَ جمعة لم يصل الجمعة لأنّ مِنْ شروطِ الجمعةِ أنْ تكُونَ في دار الإِقامةِ وأنْ يصليهَا جَماعةٌ يسْتوطنُون ذلكَ الموضِعَ (3) فَإذا فَرغُوا مِنَ الصَّلاَةِ سَارُوا إلَى المَوْقِف وعرفَاتٌ كُلُّها موقفٌ فَفِي أي موضع وقف منهَا أجْزأهُ لكن أفضلُها موقفُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ عِنْدَ الصَّخراتِ الكِبَارِ الْمفترشَةِ في أسْفَلِ جبلِ الرحمةِ وهُوَ الجبلُ الَّذي بوسطِ عرفاتٍ ويقال له
__________
(1) أي سفر قصر، وإلا فينبغي له أن يستنيب لئلا يشق على المسافرين بتفويتهم السنة في حقهم من القصر والجمع.
(2) قد تقدم الكلام على هذا واختلاف العلماء فيه قريباً.
(3) هذا مذهب الشافعي رحمه الله. قال العلامة ابن رشد المالكي رحمه الله في بدايته: اختلف العلماء في وجوب الجمعة بعرفة ومنى، فقال مالك رحمه الله: لا تجب الجمعة بعرفة ولا بمنى أيام الحج لا لأهل مكة ولا لغيرهم إلا أن يكون الإمام من أهل عرفة، وقال الشافعي مثل ذلك إلا أنه اشترط في وجوب الجمعة أن يكون هناك من أهل عرفة أربعون رجلاً على مذهبه في اشتراط هذا العدد في الجمعة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان أمير الحج ممن لا يقصر الصلاة بمنى ولا بعرفة صلى بهم فيها الجمعة إذا صادفها. وقال أحمد رحمه الله: إذا كان والي مكة يجمع بهم وبه قال أبو ثور. اهـ.

(1/275)


إِلآل (1) وزنُ هِلاَل وذكرهُ الجوهريُّ في صِحَاحِهِ بفتح الهمزةِ والمعروف كَسْرُهَا.
وأمَّا حدُّ عرفاتٍ فقالَ الشَّافعيُّ رحمهُ الله تعالَى: هُوَ ما جاوزَ واديَ عُرَنَةَ بضَمّ العينِ وفَتْحِ الرَّاءِ وبعدهَا نُونٌ إلى الجِبَالِ مِمّا يلي بساتِين بني عامرٍ (2). وَنَقَل الأَزْرقيُّ عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قَالَ: حَدُّ عَرَفَاتٍ مِنَ
__________
(1) بعض العامة يسميه القرين بضم القاف مصغراً.
(2) كانت هذه البساتين عند عرنة بالنون وبقربها مسجد إبراهيم المسمى مسجد عرنة بالنون تارة لأنه بني بها وبالفاء أخرى للمجاورة وكان بها نخل وعين تنسب إلى عبد الله بن عامر بن كريز ابن خال عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي افتتح فارس وخراسان.
قال المحب الطبري رحمه الله، وهي الآن خراب. قال الفاسي رحمه الله: وحَد عرفة من هذه الجهة الآن بينٌ، وهو علمان بعد العلمين اللذين هما حد الحرم إلى جهة عرفة، وكان ثم ثلاثة أعلام فسقط واحد وبقي أثره مكتوباً عليه: إن الآمر بإنشائها بين منتهى أرض عرفة ووادي عرنة مظفر الدين صاحب إربل سنة خمس وستمائة. اهـ. أقول ذكر الشيخ عبد الله بن جاسر في مفيد الأنام أنه اكتشف بساتين عبد الله بن عامر وإليك قوله رحمه الله تعالى: (وقد اكتشفتها في خامس عشر صفر سنة ألف وثلثمائة وثمان وثمانين هجرية فوجدت الساقي الذي يجري معه ماء العين مستطيلاً، ومشيت معه جنوباً شرقاً حتى أتيت على موضع بركة العين فوجدتها مبنية هي وساقيها بالحجارة والنورة القوية الصلبة وقد عجزت عن فصل النورة وهذا أول اكتشاف لبساتين ابن عامر وعينها، وجدت موضعها على طبق ما حدده الشافعي).
أقول: فأخذ الشيخ بعد ذلك يذكر حدود عرفة إلى أنْ قال: (وبمشاهدة عَلَمَيْ عرفة القديمين يتضح أنّ جميع المسجد يعني مسجد نمرة ليس من عرفة، ويقال: إن صدر هذا المسجد كانت بنايته في المحل الذي خطب فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخطبة البليغة وصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة صلاة الظهر والعصر جمع تقديم وذلك في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة النبوية والعلمان القديمان المذكوران يقعان شرقاً شمالاً عن المسجد المذكور =

(1/276)


الجبلِ (1) الْمُشْرِفِ على بَطْنِ عُرَنَةَ (2) إلى جبالِ عَرَفَة إِلى وَصيقٍ (3) إلى مُلْتَقَى وصيق وَوَادِي عَرَفَةَ قَالَ بعضُ أصْحَابِنَا لَعَرَفَات أرْبَعَةُ حُدُود:
أحدها: يَنْتَهِي إلى جَادَّةِ طَرِيقِ الْمَشرِقِ.
والثاني: إلَى حَافَاتِ الْجَبَلِ الذي وَرَاءَ أرْضِ عَرَفَاتٍ.
والثالث: إلى الْبَسَاتينِ التي تَلِي قَرْيةَ عرفاتٍ وهذه الْقَرْيةُ عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبِل الكعبَةِ إذَا وَقَفَ بِأرْضِ عرفاتِ.
والرابع: يَنْتَهِي إلى وادي عُرَنَةَ. قَالَ إمامُ الْحَرَمَيْنِ: ويطيف بمُنفَرجَاتِ عَرَفاتٍ جِبَالٌ وجوهها المقبلة من عرفات.
واعلمْ أنهُ ليسَ مِنْ عرفَاتٍ وادي عُرَنَةَ (4) ولا نمرةُ ولا المسجدُ الذي
__________
= وهما فاصلان بين عرفة ووادي عرنة من جهة الغرب عن عرفة، فما كان شرقاً عن العلمين المذكورين فهو من عرفة بالفاء وما كان غرباً عنهما فهو من عرنة -بالنون- وقد وجدت مكتوباً على العلم الجنوبي منهما في حجر ملزق بالعلم ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين أمر بعمارة علمي عرفات المفروض القيام بها على كافة الأنام في حجة الإسلام سيدنا ومولانا الإمام الأعظم مفترض الطاعة على كافة الأمم أبو جعفر المنصور عبد الله أمير المؤمنين أمتع الله بطول بقائه" وله بقية لم نتمكن من قراءتها لصعوبة معرفتها. وتاريخ اكتشافي لما هو مكتوب في العلم المذكور في جمادى الأولى سنة سبعين وثلثمائة وألف فليعتمد ذلك. اهـ.
(1) أسماه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجاسر رحمه الله في مفيد الأنام (بسعد) فقال هي يعني عرفة - من الشرق الجبل المشرف المسمى "سعداً" إلى آخر كلامه.
(2) عرنة: بالنون إلى جبال (عرفة) بالفاء.
(3) وَصِيق بواو مفتوحة فصاد مهملة مكسورة فتحتية مثناة فقاف.
(4) قال في المجموع: لو وقف ببطن عرنة -بالنون- لم يصح وقوفه عندنا، وبه قال جماهير العلماء وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن مالك أنه يصح ويلزمه دم، وقال =

(1/277)


يُصلِّي فيه الإِمامُ المُسمَّى مسجد إبراهيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ويقالُ لَهُْ أيضاً مَسجدُ عُرَنَةَ (1) بلْ هذه المواضعُ خارجُ عَرَفات على طَرَفِهَا الغربِي مما يلِي مُزدلفةَ ومنى ومكَّةَ وهَنَا الَّذِي ذَكَرناهُ مِنْ كَونِ المسجدِ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ هُوَ نَصُّ الشافِعِي رحمه الله تَعَالى.
وقال الشَّيخُ أبُو محمَّدٍ الجوينيُّ: مُقَدَّمُ هذَا المسجدِ في طَرَفِ وادِي عُرَنة لاَ في عرفاتِ قَالَ: وآخره في عَرَفَاتٍ، قالَ: فمنْ وَقَفَ في مُقدَّمِ الْمَسْجِدِ لم يصحَّ وقُوفُهُ وَمَنْ وقفَ في آخره صحَّ وقُوفُهُ قالَ: وَيَتَمَيَّزُ ذلك بصَخراتٍ كِبَارٍ فُرِشَتْ في ذلِكَ الموضع هذَا قولُ الشيْخِ أبي محمدٍ الجويني وتَابعَهُ عليه جمَاعةٌ (و) بِهِ جَزَمَ الإِمامُ أبُو القَاسِم الرافعي مَعَ شدَّة تَحقيقِهِ واطِّلاَعِهِ فلعَلَّه زِيدَ فِيهِ بعد الشَافِعِيّ رحمةُ الله تَعَالَى (2) مِنْ أرْضِ عَرَفَاتٍ هذَا القَدرُ المذْكُورُ فِي آخرِهِ وَبَيْنَ هذَا المسْجِدِ وَالْجَبَلِ الذي بِوَسَطِ عَرَفَات المُسَمَّى بجَبَلِ الرَّحْمَةِ قَدْرُ مِيلٍ وجميعُ تِلْكَ الأَرضِ يصحُّ الوُقُوفُ فِيهَا وَكَذَا غَيْرُهَا مما هُوَ دَاخِلٌ فِي الحَدِّ المذْكُور والله تَعَالَى أعْلَمُ.
__________
= العبدري هذا الذي حكاه أصحابنا عن مالك لم أره له بل مذهبه في هذه المسألة كمذهب الفقهاء أنه لا يجزئه. قال وقد نص أصحابه أنه لا يجوز أنْ يقف بعرنة. اهـ.
(1) مسجد عرنة -بالنون- تارة لأنه مقام بها وبالفاء أخرى لمجاورته لعرفة كما تقدم.
(2) هذا هو الذي جمع به العلامة ابن الصلاح بين مقالة الشافعي ومقالة الشيخ أبي محمد الجويني رحمهم الله جميعاً. كما في المجموع أقول الأحوط - وهو الذي ينبغي الوقوف بعرفة بعد آخر المسجد لا سيما بعد اختيار الفاسي رحمه الله ذرعه فوجد مطابقاً لذرع الأزرقي المعاصر للشافعي رحمهما الله. وليس هناك إلا تفاوت يسير في الذرع لا اعتبار به كما أفاده في الحاشية لأنه لا يقتضي أنه زيد فيه لتفاوت ما قيس به، أو لغير ذلك والله أعلم.

(1/278)


واعلَمْ أنَّ عَرَفَاتٍ لَيْسَتْ مِنَ الحرَمِ ومُنْتَهَى الْحَرَمِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ عِنْدَ الْعَلَمَيْنِ (1) المْنصُوبينِ عِنْدَ مُنْتَهَى الْمأْزَمَيْنِ (2) وَهُمَا ظاهران وَسَيَأتي في بابِ المقَامِ بمكةَ وفَضْلِهَا وبيانِ حُدُودِ الحرمِ إِنْ شاء الله تَعَالَى.
(فَرْع): وَاجِبُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ شَيْئَانِ:
أحَدُهُمَا: كَوْنُهُ في وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ وَهُوَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلى طُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ العِيدِ (3) فمن حَصَلَ بِعَرَفَةَ (4) فِي لَحْظَة لَطِيفَةٍ مِنْ هذَا الوَقْتِ صَحَّ وُقُوفُهُ وَأدرَكَ الحَج ومن فاته ذلك فقد فاته الحج.
__________
(1) أقول قد جدد غالب الأعلام وكتب عليها حدود كل من عرفة ومزدلفة ومنى في زماننا عهد حكومتنا السعودية السنية متع الله بها وأرشدها إلى مرضاته آمين.
(2) أي الجبلين اللذين بين مزدلفة وعرفة ويقال لهما الأخشبان والآن قد أزيلا توسعة.
(3) هو مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة والجمهور وبه قال شيخ الإِسلام ابن تيمية. وقال الإمام أحمد: وقت الوقوف ما بين طلوع الفجر يوم عرفة وطلوعه يوم النحر. دليل الجمهور أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف بعد الزوال وكذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم إلى اليوم. وحملوا حديث عروة بن مضرس الطائي الذي احتج به الإِمام أحمد على ما بعد الزوال قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبليْ طيىء قد أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي منْ حج؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقل قبل ذلك، ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه"، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح وأبو داود والنسائي، وزاد النسائي: (ومَنْ لم يدرك مع الإِمام والناس فلم يدرك).
(4) أي وهو محرم.
(تنبيه): قال في المجموع: إذا وقف في النهار ودفع قبل غروب الشمس ولم يعد في نهاره إلى عرفات، هل يلزمه الدم؟ فيه قولان الأصح أنه لا يلزمه، وقال أبو حنفية وأحمد: يلزمه. فإن قلنا يلزمه، فعاد في الليل سقط عندنا وعند مالك، وقال أبو حنيفة =

(1/279)


والثانِي: كَوْنُهُ أهْلاً لِلْعِبَادَةِ (1) وسَوَاءٌ فِيهِ الصَّبي وَالنَّائِمُ وَغَيْرُهُمَا، وأمَّا المُغْمَى عَلَيْهِ (2) وَالسَّكْرَانُ (3) فَلاَ يَصِحُّ وُقُوفُهُمَا لأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ العِبَادَةِ (4) فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ العِبَادَةِ وَحَصَلَ فِي جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْ أجْزَاءِ عَرَفَاتٍ في لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ مِنْ وَقْتِ الْوُقُوفِ الْمَذْكُورِ صَحَّ وُقُوفُهُ حَضَرَهَا عَمْداً أوْ وَقَفَ مَعَ الْغَفْلَةِ أوْ مَعَ الْبَيع والشِّرَاءِ أوْ التحدُّثِ واللَّهْوِ أوْ في حالَةِ النومِ أو اجْتَازَ بِعَرفاتٍ في
__________
= وأبو ثور: لا يسقط، وإذا دفع بالنهار ولم يعد أجزأه وقوفه وحجه صحيح سواء أوجبنا الدم أم لا. وبه قال عطاء والثوري وأبو حنيفة، وأبو ثور وهو الصحيح من مذهب أحمد.
قال ابن المنذر: وبه قال جميع العلماء إلا مالكاً. وقال مالك: المعتمد في الوقوف بعرفة هو الليل، فإنْ لم يدرك شيئاً من الليل فقد فاته الحج، وهو رواية عن أحمد. واحتج مالك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف حتى غربت الشمس، وقال لتأخذوا عني مناسككم. واحتج أصحابنا بحديث عروة بن مضرس السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شهد صلاتنا هذه -يعني الصبح- وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه" وهو حديث صحيح، (والجواب) عن حديثهم أنه محمول على الاستحباب أو أنّ الجمع بين الليل والنهار يجب لكن يجبر بدم، ولا بد من الجمع بين الحديثين، وهذا الذي ذكرناه طريق الجمع والله أعلم. إنما كان الخلاف في هذا - أي فيمن وقف نهاراً ثم انصرف قبل الغروب لأنه مقصر بالإِعراض وقطع الوقوف والله أعلم. أما مَنْ لم يحضر عرفات إلا في ليلة النحر فلا دم عليه بلا خلاف.
(1) أي في هذا الباب.
(2) قال في المجموع الأصح عندنا لا يصح وقوف المغمى عليه، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي وأحمد وقال مالك وأبو حنيفة يصح. اهـ. أقول: المراد بالمغمى المغمى عليه جميع وقت الوقوف كما في الصوم والله أعلم.
(3) أي جميع وقت الوقوف.
(4) ومثلهما المجنون جميع وقت الوقوف. فيبني الولي بقية الأعمال على إحرام المجنون وكذا المغمى عليه والسكران إن أيس من إفاقتهما وإلا يبقيان لإفاقتهما ويقع لهم نفلاً وإنْ تعدوا كما في التحفة. وقال في النهاية يقع للسكران والمجنون نفلاً وإنْ تعديا بخلاف المغمى عليه. اهـ عمدة الأبرار.

(1/280)


وَقْتِ الوقوفِ وهُوَ لاَ يَعْلَمُ أنَّها عَرَفَاتٌ ولم يَلْبثْ أصْلاً بَلِ اجْتَازَ مُسْرِعاً في طَرَفٍ من أرْضِهَا الْمحدُودَةِ أوْ كانَ نائماً عَلَى بَعيرِهِ فَانْتَهَى بِهِ البَعِيرُ إلى عَرَفَاتٍ فَمَرّ بِهَا البَعيرُ ولَمْ يَسْتيقظْ راكِبُهُ حتَى فَارَقَهَا أو اجْتازَهَا في طَلَبِ غَرِيم هاربٍ بينَ يَدَيْهِ أو بَهيمَةٍ شَارِدَة أو غَير ذَلِكَ ممَّا هُوَ في معنَاهُ صَحَّ وقوفهُ فِي جميعِ ذَلِكَ (1) ولَكِنْ يَفُوتُهُ كمالُ الْفَضيلَةِ.
أَمَّا سُنَنُ الوُقُوفِ وآدَابُهُ فَكَثيرٌة:
إحداها: أن يغتسل بنمرة للوقوف (2).
الثانية: أن لا يَدْخلَ عَرَفَاتٍ إِلا بَعْدَ الزوَالِ والصَّلاَتَيْنِ.
الثالثة: أنْ يَخْطُبَ الإِمامُ خُطْبَتين ويَجْمَعَ الصَّلاَتَيْنِ كما سبقَ.
الرابعة: تَعْجِيلُ الوُقُوفِ عَقِبَ الصَّلاَتَيْنِ.
الخامسة: أنْ يَحْرِصَ على الوُقُوفِ بمَوْقفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ الصَّخَرَاتِ كما سبقَ بيانُهُ. وأمَّا ما اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَوَامِّ مِنَ الاعتنَاء بالوقوفِ على جَبَلِ الرَّحْمَةِ الذي بِوَسَطِ عرفاتٍ كما سبقَ بَيَانُهُ وترْجيحُهُمْ لَهُ عَلَى غيرِهِ من أرض عَرَفَاتٍ حتى ربما تَوَهَّمَ كثيرٌ مِنْ جَهَلَتِهِم أنَّهُ لا يصحُّ الوقوفُ إلاَّ بِهِ فخطأ مُخَالِف للسُّنَّةِ، ولم يَذْكُرْ أحدٌ مِمَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي صُعُودِ هَذَا الْجَبَلِ فضيلةً
__________
(1) هو مذهب الأئمة رحمهم الله تعالى لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه: (وقد أتى قبل ذلك ليلاً أو نهاراً). وقال أبو ثور لا يجزئه لأنه لا يكون واقفاً إلا بإرادة.
(2) أي قبل الزوال وقد تقدم دليله عند قول المصنف وأما ما يفعله الناس في هذه الأزمان من دخولهم أرض عرفات في اليوم الثامن فخطأ مخالف للسنة.

(1/281)


إِلاَّ أبُو جَعْفَر محمدُ بن جريرِ الطبريُّ فإنه قال: يستحب الوقوفُ عليه وكذا قال أقضى القضاةِ أبو الحسن الماورديُّ البصري صاحبُ الحاوِي من أصْحَابِنَا: يُسْتَحبُّ أنْ يقْصدَ هذا الْجَبَلَ الذي يقالُ له جَبَلُ الدُّعاء. قال: وهو موقفُ الأنْبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيْهِمْ أجمعينَ.
وهذا الَّذِي قالاهُ لا أصْلَ لَهُ وَلَمْ يَرِدْ فيه حديثٌ صحيحٌ ولا ضعيفٌ والصوابُ الاعتِنَاءُ بمَوْقِفِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي خَصَّه الْعُلَمَاءُ بالذِّكْر والتَّفْضيلِ وحَديثُهُ في صحيح مُسْلم وغيرِهِ. وقد قال إمامُ الْحَرَمينِ في وَسَطِ عَرفَاتِ جَبَلٌ يُسَمَى جَبَلَ الرَّحْمَةِ لا نُسُكَ في صَعُودِهِ وإِن كَانَ يَعْتَادُهُ النَّاسُ.
فإذَا عَرَفْتَ ما ذَكَرَنَاهُ فمن كانَ راكباً فَلْيُخَالِطْ بدابته الصَّخَراتِ المذكورَةَ ولْيداخلها كما فعل رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (1) ومَنْ كانَ راجلاً قامَ على الصَّخَرَاتِ أو عِنْدهَا على حَسَبِ الإِمْكَانِ بحيثُ لا يُؤذِي أحداً وإذا لم يُمْكِنْهُ ذلكَ الْمَوْقِف فَيقْرُبُ ممَّا يقْرُبُ مِنْهُ وَيَتَجَنَّبُ كلَّ موضعٍ يُؤْذِي فيه أو يَتأذى.
السادسة: إذَا كانَ يَشُق عَلَيْهِ الوُقُوفُ مَاشياً أو كان يَضْعُفُ بهِ عَنْ الدُّعَاءِ أو كانَ مِمَّنْ يقتَدَى بِهِ وَيُسْتَفْتَى فَالسُّنَّةُ أنْ يقِفَ رَاكِباً وَهُوَ أفْضَلُ مِنَ الْمَاشِي فإنْ كَانَ لا يَضْعُفُ بالوُقُوفِ ماشياً ولا يَشُق عَلَيْهِ وَلاَ هُوَ ممنْ يُسْتَفْتَى فَفِي الأَفْضَلِ أقْوالِ للشَّافعِيّ رَحِمه الله تعالى: أصَحُّهَا رَاكِباً أَفْضَلُ (2) اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولأَنَّهُ أعونُ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ الْمُهِم في هذا الموضعِ.
__________
(1) جاء في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات).
(2) به قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى، قال ابن الحاج رحمه الله تعالى كما في مفيد الأنام: وهذا مستثنى من النهي عن اتخاذ ظهور الدواب مجلساً يجلس عليها. اهـ.

(1/282)


والثاني: مَاشِياً أفْضَلُ.
والثالث: هُمَا سَوَاء (1) هَذَا حُكم الرَّجُلِ.
وأمَّا الْمَرْأةُ فالأَفْضَلُ أن تكونَ قاعِدَة (2) لأَنَّهُ أستر لَهَا ومِمَّنْ صَرَّحَ لمسأَلةِ المَاوَرْدِيُّ قَالَ: وَيُسْتَحَب لَهَا أن تكُونَ فِي حَاشِية الْمَوْقِفِ (3) لاَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ والزحْمَةِ.
السابعة: الأَفضلُ أن يكونَ مُسْتَقْبلاً لِلْقِبْلَةِ (4) مُتَطهِراً سَاتِراً عَوْرَتَهُ فَلَوْ وَقَفَ مُحْدثاً أو جُنُباً أو حَائِضاً أوْ عَلَيْهِ نَجَاسَة أوْ مكشُوفَ الْعَوْرَةِ صَحَّ وقُوفُهُ وفَاتَتْهُ الفَضيلةُ.
الثامنة: أن يكُونَ مُفْطِراً فَلاَ يصُومُ سَوَاء كانَ يَضْعُفُ بِهِ أمْ لا لأنَّ الفِطْرَ أعْوَنُ لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ وقد ثَبَتَ في الصَّحيحِ أن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وقَفَ مُفْطراً واللهُ تعالى أعلمُ.
التاسعة: أن يكُونَ حاضِر القلبِ فارغاً من الأمُورِ الشَّاغِلَةِ عَنْ الدُّعَاءِ وينبغي أن يقدمَ قَضَاءَ أشْغَالِهِ قَبْلَ الزوَالِ ويتفَرع بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَنْ جَمِيعِ العلائِقِ وينبغي أنْ لاَ يقِفَ فِي طُرُقِ القَوَافِلِ وَغَيْرِهِمْ لِئلاَّ يَنْزَعِجَ بِهِمْ.
العاشر: أنْ يُكثِر من الدُّعَاءِ والتَّهليلِ وقراءةِ القُرآنِ فهذه وظيفةُ هذَا
__________
(1) به قال الإِمامان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى.
(2) هذا إن لم يكن لها هودج أو سيارة وإلا فالأفضل أن تكون فيه وفيها لأنهما أسترُ لها.
(3) محله عند أمنها من فراق أهلها.
(4) لقول جابر رضي الله عنه في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واستقبل القبلة.

(1/283)


المَوْضِعِ المُبَارَكِ ولا يقصِّرُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُعْظَمُ الْحَجّ ومُخُّهُ (1) ومَطْلُوبُهُ.
وفي الحديث الصَّحيحِ: الحج عَرَفَةُ (2) فالْمَحْرُومُ مَنْ قَصَر فِي الاهتمامِ بِذَلِكَ واستفراغِ الْوُسْعِ فيهِ ويكثر من هذَا الذِكْر والدُّعاءِ قَائماً وقاعداً وَيَرْفَعُ يَديهِ فِي الدُّعاءِ ولا يُجَاوزُ بهما رأسَهُ (3) ولا يتكَلَّفُ السَّجْعَ في الدعاءِ ولا بَأسَ بالدعاءِ المَسْجُوعِ إذا كانَ مَحْفُوظاً أو قالَهُ بلا تَكلفٍ ولا فِكْرٍ فيهِ بل
__________
(1) أي لبه وخالصه.
(2) قال في المجموع: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون بأسانيد صحيحة. وهذا لفظ الترمذي عن عبد الرحمن بن يعمر أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة فسألوه فأمر منادياً ينادي: الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج. اهـ. وقال الطبري في القرى وأبو داود أي وأخرجه أبو داود وقال: جاء ناس أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلاً فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف الحج؟
فأمر رجلاً فنادى الحج يوم عرفة، من جاء ليلة جمع فتم حجه أيام منى إلى آخره. اهـ.
أقول: معنى الحديث والله أعلم كما هو ظاهر أن الركن الذي يدرك به الحج ويفوت بفوات زمانه هو الوقوف بعرفة ووقته من زوال يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، وبه قال عامة العلماء مالك وأبو حنيفة والجمهور. وقال أحمد: وقته من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوعه يوم النحر.
وقد تقدم الكلام على وقت الوقوف في الفصل الرابع في الوقوف بعرفات مع أدلة الفريقين ولله الحمد والمنة، وليس معنى (الحج عرفة) هو ما يفهمه بعض أهل زماننا -أصلحنا الله جميعاً- من أنه يقوم بالوقوف بعرفة ويقصر في باقي الأركان والواجبات والسنن ويقول (الحج عرفة) ويحمل الحديث على غير معناه ولا يبحث عن سبب وروده عنه - صلى الله عليه وسلم - ليعرف معناه الصحيح وفقنا الله والمسلمين لمرضاته آمين.
(3) أي للاتباع أخرجه أحمد وغيره. وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين ولا ينافيه ما في رواية من أنه رفع يديه إلى السماء وباطنهما إلى الأرض وظاهرهما إلى السماء لاحتمال أن ذلك كان بعض أحواله لما هو معلوم من أن هذه الكيفية إنما تندب عند الدعاء برفع البلاء. اهـ حاشية.

(1/284)


يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غير تكلُّف لِتَْرتيبِهِ وإعْرَابِهِ (1) وغيرِ ذَلِكَ مِمَّا يشْغلُ قلبه، وَيُسْتَحَب أنْ يَخْفِضَ صَوتَه بالدُّعَاءِ وَيكْرَهُ الإِفْرَاط في رَفْعِ الصَّوْتِ.
وَينبغي أنْ يُكْثرَ مِنَ التَّضَرُّع فِيهِ والخُشُوعِ وإظْهَارِ الضَّعْفِ والافْتِقَارِ والذِّلةِ ويُلحُّ في الدُّعَاءِ ولا يَسْتَبْطِىءُ الإِجَابةَ بَلْ يكونُ قويَّ الرَّجاء للإجَابةِ ويُكَرِّرُ كلَّ دُعاء ثَلاَثاً ويَفْتَتحُ دُعاءَهُ بِالتَّحْمِيدِ والتمجيدِ للهِ تَعَالى والتَّسْبِيحِ والصَّلاَةِ والسَّلامِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَخْتِمُهُ بمثلِ ذلكَ وَلْيَكُنْ مُتَطَهراً مُتبَاعِداً عَنِ الْحَرام والشُّبْهَةِ فِي طَعَامِهِ وشَرَابِهِ ولِبَاسِهِ وَمَركُوبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِما مَعَهُ فَإنَّ هذه مِنْ آدَابِ جَميعِ الدَّعَوَاتِ، ولْيَختِمْ دُعاءَه بآمين وَلْيُكْثر من التَّسبِيحِ والتحْميد والتكْبيرِ والتهليلِ، وأفْضَلُ ذَلِكَ ما رَوَاهُ الترْمِذِي وغَيْرهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الدعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ وأفْضَلُ ما قُلْتُ أنا والنَّبِيونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، لهُ المُلكُ وَلَهُ الْحَمْدُ (2) وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ". وَفِي كِتَابِ التِّرمذِي عَنْ عَلِيّ رضي الله عَنُهُ قَالَ: أكْثَرُ ما دَعَا بِهِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ في الْمَوْقِفِ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَالذِي تقُولُ وَخَيراً ممّا نَقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلاَتِي وَنُسُكِي (3) وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي وإلَيْكَ مَآبي وَلَكَ رَبي تُرَاثِي (4)، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَوَسْوَسَة الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الأَمْرِ، اللَهُمَ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَر مَا تجيءُ به الريحُ" (5).
__________
(1) ظاهره أن تحري إتيان الدعاء من غير لحن مكروه كالسجع وهو ظاهر. وإلا ففيه تفصيل محصله أن تجنب اللحن مِن القادر شرط في الدعاء وعليه يحمل حديث: "لا يقبل الله دعاءً ملحوناً" وأما غير القادر فلا يقدح اللحن في الدعاء ويعذر فيه.
(2) زاد أحمد بعده في رواية: (بيده الخير).
(3) أي عبادتي.
(4) أي إرثي إذْ لا ملك لأحد.
(5) أي من العذاب.

(1/285)


وَيُسْتَحَب أنْ يُكْثِرَ مِن التلْبِيَةِ رَافِعاً بهَا صَوْتَهُ وَمِنْ الصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَنْبَغِي أنْ يَأْتي بِهَذِهِ الأَنْوَاعِ كُلهَا فَتَارَةً يَدْعُو وَتَارَةً يُهَلّلُ وتَارَةً يُكبر وتَارَة يُلَبي وتَارَة يُصَلِّي عَلَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتارة يَسْتَغْفِرُ ويَدعو منفرِداً وَمَعَ جَمَاعَة وَلْيَدْعُ لِنَفْسِهِ وَوَالِدَيْهِ وَأقارِبِهِ وَشُيُوخِهِ وأصْحَابِهِ وأحْبَابِهِ وَأصدقَائِهِ وَسَائِرِ مَنْ أحْسَنَ إِلَيْهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلْيَحْذَرْ كلَّ الحذَرِ مِنَ التقصير فِي ذَلِكَ فَإنَّ هذَا الْيَوْمَ لاَ يُمكنُ تَدَارُكُهُ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ وَيُسْتَحَب الإِكْثَارُ مِنَ الاسْتِغْفَارِ والتَّلفظِ بالتّوبَةِ مِنْ جَميعِ الْمخَالَفَاتِ مَعَ الاعتقَادِ بالقلبِ وَأنْ يُكْثِرَ مِنَ البكَاءِ مع الَذكْرِ والدُّعَاءِ فهُناكَ تُسْكَب العبرَاتُ (1) وتُستقَالُ العثَراتُ وتُرْتَجى الطلَبَاتُ وَإنّهُ لمجْمعٌ عَظِيم (2) وَمَوْقِفٌ جَسِيم يَجْتمع فيهِ خِيَارُ عِبَادِ الله الْمُخْلِصِينَ وَخَواصّهُ المقَربينَ وَهُوَ أعْظَم مجَامعِ الدُّنْيَا وَقِيَل: إذا وافَقَ يومُ عَرَفَة يَوْمَ جُمُعة غُفِرَ لِكُل أهْل الْمَوقِفِ (3) وَثَبَت فِي صَحِيحِ مُسْلِم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "ما مِنْ يَوْم أكْثَرُ من أن يُعتِقَ الله تَعَالَى فِيهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يوم عَرَفَةَ وإنَّهُ يُبَاهِي بهم الملائِكَةَ يقُولُ مَا أرَادَ هَؤلاءِ".
__________
(1) أي من الأعين لما استحضره مما فرط من الذنوب. وقوله: "وتستقال العثرات" أي تغفر الذنوب.
(2) أي عدداً وقَدْراً. جاء أنه لا ينقص عن ستمائة ألف إنسان فإن نقص كمل بالملائكة.
(3) قال المحشي رحمه الله تعالى: هذا الذي حكاه بـ "قيل" حديث رواه العز بن جماعة رحمه الله بلفظ (إذا كان يوم عرفة يوم جمعة غفر الله لكل أهل الموقف) واستشكل بأنّ الله تعالى يغفر لأهل الموقف فما وجه تخصيص يوم الجمعة؟ وأجاب البدر بن جماعة رحمه الله بأنه يحتمل أن الله تعالى يغفر للجميع يوم الجمعة بغير واسطة وفي غيره يهب قوماً لقوم. =

(1/286)


وروينا عَنْ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله أحَد العَشَرَةِ رضي الله عنهم قال: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما رُئيَ الشَّيْطَانُ أصْغَر (1) ولا أحْقَرَ ولا أدْحَرَ ولا أغْيظَ منهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وما ذَاكَ إلا أنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ فِيهِ فَيَتَجَاوزُ عن الذُّنُوبِ العِظَامِ" (2).
وعن الْفَضيل بن عَيَّاض رضي الله عنه أَنهُ نَظَرَ إلى بُكاء النَّاسِ بعرفة فقالَ: أرأيْتُمْ لَوْ أنَّ هَؤُلاءِ صَارُوا إلى رجل واحد فَسَألُوهُ دَانِقاً (3) أكانَ يَرُدُّهم؟ قِيلَ: لاَ، قالَ: والله للْمَغْفِرَةُ عند اللهِ عزَّ وجَل أهْونُ مِنْ إجَابةِ رَجُل بِدَانِق.
__________
= (فإنْ قلت) المغفرة حاصلة على كل تقدير، فأي فائدة تعود على المغفور له؟ (قلت) كفى بما في هذا القرب المقضي لعدم الاحتياج لواسطة من مزيد المزية بشرفه وكمال المغفرة له. قال: (ومن مزاياه) أيضاً شرف الأعمال بشرف الأزمنة كالأمكنة وهو أفضل الأسبوع. (ومنها) أن فيه ساعة يستجاب فيها الدعاء بخلاف غيره (ومنها) موافقته - صلى الله عليه وسلم - فإنه في حجة الوداع وقف فيه وإنما يختار الله له الأفضل.
(ومن مزاياه) أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأيام يوم عرفة فإن وافق الوقوف يوم جمعة فهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة. اهـ. قال في مفيد الأنام: وقفة الجمعة في آخر يومها ساعة الإجابة للجبر: فإذا اجتمع فضل يوم الجمعة ويوم عرفة كان لهما مزية على سائر الأيام.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما ما استفاض على ألسنة العوام بأنها تعدل اثنتين وسبعين فباطل لا أصل له انتهى والله أعلم.
(1) أصغر من الصغار أي الذل أو من صغر الجثة وأدحر بمهملات من الدحر وهو الدفع بعنف وشدة والطرد إهانة وإبعاداً. ومنه: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)}.
(2) تتمة الحديث: إلا ما رئي يوم بدر. قيل: وما رئي يوم بدر؟ قيل أما إنه رأى جبريل يزع (يقود الملائكة) أي للجهاد ونصر المؤمنين.
(3) أي سدس درهم وأنشد الفضيل رحمه الله تعالى بعد قوله:
وإني لأدعو الله أسأل عفوه ... وأعلم أن الله يعفو ويغفر
لأن أعظم الناس الذنوب فإنها ... وإنْ عظمت في رحمة الله تصغر

(1/287)


وعَنْ سالِم (1) بن عَبْدِ الله بن عُمَرَ بَنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهم أَنهُ رأى سَائِلاً يَسْألُ النَّاس يَومَ عرَفَة فَقال: يَا عَاجِزُ أفِي هذا اليومِ تَسْألُ غيرَ اللهِ تَعَالَى؟!
(فرع): وَمِنَ الأَدْعِية المُخْتَارَةِ: اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخرة حَسَنَةً وقِنَا عَذَابِ النَّارِ، اللَّهُمَّ إني ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلماً كثيراً (2) وإنَّهُ لا يغفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ فاغْفِر لِي مغفرةً مِنْ عِنْدِكَ وَارحمني إنَّكَ أنتَ الغفُورُ الرَّحِيمُ، اللَّهُمَّ اغفر لِي مغفرةً مِنْ عِندكَ تُصْلحُ بها شأنِي في الدَّاريْنِ، وارحمْني رحمةً منكَ أسعد بِهَا في الدَّارِيْنِ، وتُبْ عليَّ توبة نصوحاً لا أنكثُهَا أبَداً، وألزمْنِي سبيلَ الاسْتقامةِ لا أزيعُ عَنْهَا أبَداً، اللَّهُمَّ انْقُلْنِي من ذُلِّ المعصية إلى عِزّ الطَّاعة وأغْنني بحلالِكَ عَنْ حرامِكَ وبطاعتِكَ عن معصيتَك وبفضْلِكَ عمَّن سواكَ، وَنَوّر قَلْبِي وَقَبْرِي وأعِذْنِي مِنَ الشَّر كُلهِ واجْمعْ لي الخيرَ كُلَّهُ أستودِعُكَ دِيني وأمانتِي وقلبِي وبدَني وَخَواتِيمَ عَمَلِي وجميعَ ما أَنعمتَ به عليَّ وعلَى جميعِ أحبائي والمسلمينَ أجمعينَ. وهذا البابُ واسعٌ جِداً لَكِنْ نبهتُ عَلى أصُولهِ ومقاصِدهِ والله تَعَالَى أعلمُ.
__________
(1) أحد الفقهاء السبعة الذين تدور عليهم رحى الفُتيا في زمانهم وكان أحب أولاد أبيه إليه، ولذا كان يقول فيه:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجِلْدة بين العين والأنف سالم
والفقهاء السبعة هم المنظومة أسماؤهم في قول بعضهم رحمه الله تعالى:
ألا كل مَنْ لي لا يَقْتَدي بأئمة ... فقسْمته ضيزى عن الحق خارجة
فخذهم عبيد الله عُروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجة
وفي بعض الكتب (عن الحق عارية) والله أعلم، وسيأتي شرح أسمائهم إن شاء الله.
(2) روى بالمثلثة وبالموحدة التحتية كما في الحاشية، ولذا قال المصنف رحمه الله تعالى فينبغي الجمع بينهما في الدعاء ليتيقن ما نطق به - صلى الله عليه وسلم -.

(1/288)


الحادية عشرةَ: الأَفْضلُ للواقفِ أنْ لا يَسْتَظِل (1) بل يبرزُ للشَّمسِ إلا لعذر بأنْ يتضرَّر أوْ أنْ ينقُصَ دُعاؤُهُ واجْتهادُهُ.
الثانية عشرة: يَنْبَغِي أنْ يبقَى في المَوْقِفِ حتَّى تَغْرُبَ الشَّمسُ فيجمعُ في وقُوفِهِ بَيْنَ الليلِ والنَّهارِ (2) فإنْ أفاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (3) فعادَ إلى عَرَفَاتٍ قبلَ طُلوعِ الفَجْرِ فَلاَ شَيءَ عليه (4) وَإنْ لم يَعُدْ أراقَ دماً (5) وَهَلْ هُوَ وَاجِب أَوْ مُستحب؟ فيه قولانِ للشَّافعي رحمهُ الله تعالى: أصَحُّهُمَا أنهُ مُسْتَحَب (6) والثاني واجِب (7) وهذا فيمَنْ حَضَرَ نَهاراً (8) أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْضُر فَلاَ شَيءَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ فَاتَتْهُ الفَضيلَةُ.
__________
(1) قد تقدم الكلام على استظلال المحرم بغير ملاصق للرأس كالسيارة غير المكشوفة في فصل محرمات الإِحرام. فقال أبو حنيفة والشافعي بجوازه وقال مالك وأحمد بعدم جوازه، فإن استظل فعليه الفدية عند مالك وهو الأصح من مذهب أحمد.
(2) الجمع بين الليل والنهار هو الذي صح عنه - صلى الله عليه وسلم - وهل هو مستحب أو واجب؟ فقال مالك بوجوبه كما تقدم، وقال الثلاثة باستحبابه لحديث عروة بن مُضرس (وقد أتى عرفة ليلاً أو نهاراً).
(3) أي بعد الزوال.
(4) كذا في الواضح وشرح المنتهى من كتب الحنابلة وفي المغني للعلامة ابن قدامة الحنبلي أن يعود قبل الغروب ويقع الغروب وهو بعرفة كما في مفيد الأنام.
(5) أي لعدم جَمْعه بين الليل والنهار، وقد تقدم الكلام عليه أول الفصل.
(6) أي لأنه وقف في أحد زماني الوقوف فلا يلزمه دم الزمان الآخر كما لو وقف في الليل دون النهار.
(7) أي لأن الجمع بين الليل والنهار نسك يختص بمكان فجاز أن يجب بتركه دم كالإِحرام من الميقات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ ترك نسكاً فعليه دم" رواه ابن عباس رضي الله عنهما كما في المجموع.
(8) أي بعد الزوال عند الأئمة الثلاثة والجمهور وعند الإمام أحمد مطلقاً قبله أو بعده، لأن وقت الوقوف عنده من الفجر كما تقدم.

(1/289)


الثالثة عشرةَ: ليحْذر كل الحذر مِنَ المخاصَمَة والمُشَاتَمَةِ والمنافرةِ والكلاَمِ القَبيحِ بَلْ يَنْبَغِي أنْ يَحْتَرِزَ عَنْ الكَلاَمِ المُبَاحِ ما أمْكَنَهُ فإِنَّهُ تَضييعٌ للوقْتِ المهِمّ فيمَا لاَ يُغْنِي مَعَ أنهُ يخاف انْجِرَارُهُ إلى كلامٍ حَرَامٍ مِنْ غيبةِ ونحْوِهَا، ويَنْبَغِي أنْ يحترزَ غَايةَ الاحْتَرَازِ عَنْ احْتِقَارِ من يراهُ رَثَّ الْهَيْئَةِ (1) أو مُقْتَصِرَاً في شَيْءٍ ويحتَرِزَ عَنِ انْتِهَارِ السَّائِلِ ونَحْوِهِ وإِنْ خَاطَبَ ضَعيفاً فَلْيتلَطَّفْ فِي مُخَاطَبتهِ فإنْ رأى مُنكراً مُحَقَّقاً (2) تَوَجب عَلَيْهِ إنكارُهُ وَيتلطفْ فِي ذَلِكَ وبالله التَّوْفِيقُ.
الرابعة عشرةَ: لِيَسْتكثِرْ مِنْ أعْمَالِ الْخَيْرِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وسَائِرِ أيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَارِي عن ابنِ عَبَّاسِ رضي الله عَنْهُمَا عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ّ قَالَ: "ما العَمَلُ فِي أيَّامِ (3) أفضلُ مِنْهُ فِي هذ الأيَّامِ يَعْني أيامَ العَشْرِ" قالُوا: وَلاَ الجِهَادُ (4)؟ قال: "ولا الجهاد إلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بمالِهِ وَنَفْسِهِ فَلَمْ يرجِعْ بشَيْءٍ. وأيَّامُ الْعَشْرِ (5) هِيَ الأَيَّامُ المعلُومَاتُ (6) وأَيامُ التشرِيقِ
__________
(1) رث الهيئة أي ضعيفها.
(2) محققاً أي بأنْ كان مجمعاً عليه واعتقد الفاعل تحريمه.
(3) أي غير عشر رمضان الأواخر لما اشتملت عليه هذه من ليلة القدر ويومها ولتميزه - صلى الله عليه وسلم - لها بتميزات واجتهادات في العبادات لا يفعلها في غيرها ولما يشترك سائر الناس في فعله من العبادات الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - وفضل عشر ذي الحجة لأمور يختص غالبها بالحجاج.
(4) أي الخالي عن القتل في سبيل الله تعالى بدليل ما بعده.
(5) أي عشر ذي الحجة.
(6) أي عند الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى وعند مالك رحمه الله المعلومات ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: يوم عرفة ويوم النحر والأول من أيام التشريق.
قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: وفائدة الاختلاف أنّ عندنا يجوز ذبح =

(1/290)


هِيَ الأَيَّامُ المَعْدُودَاتُ" (1).
(فرعِ): إذا غلطَ الحُجاجُ (2) فوقفوا في غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ نُظِرَ، إن غلطُوا بالتأخير فوقَفُوا (3) العَاشِر مِنْ ذِي الحجَّةِ أجْزأهُمْ (4) وَتَمَ حَجُّهُمْ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَسَوَاءٌ بانَ الغلط بعد الوقوف أو في حال الوقوف (5)، ولو غلطوا
__________
= الهدي والضحايا في أيام التشريق كلها، وعند مالك لا يجوز في اليوم الثالث. هذا كلام صاحب البيان. وقال العبدري: فائدة وصفه بأنه (معلوم) جواز النحر فيه، وفائدة وصفه بأنه معدود إنقطاع الرمي فيه. قال وبمذهبنا قال أحمد وداود. اهـ مختصراً.
أقول: المعلومات هي المذكورة في سورة الحج في آية {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الآية 28. وأقول أيضاً: قول العبدري رحمه الله تعالى ورحمنا والمسلمين آمين: وبمذهبنا قال أحمد: لعله رواية ضعيفة فلذا لم يذكرها العلامة ابن قدامة رحمه الله في مغنيه عن الإمام أحمد وهي جواز النحر في ثالث أيام التشريق كالشافعية لأن المنصوص فيه عنه عدم الجواز كالإمامين مالك وأبي حنيفة رحم الله الجميع آمين.
(1) قال صاحب البيان كما في المجموع: اتفق العلماء على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر. اهـ.
أقول: المعدودات هي المذكورة في سورة البقرة في آية {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} الآية 203.
(2) أي بأنْ غُم عليهم هلال ذي الحجة وكملوا ذا القعدة ثلاثين ثم ثبتت رؤية الهلال ليلة الثلاثين. قال الرافعي رحمه الله: وليس من الغلط المراد ولهم -أي الأصحاب- ما إذا وقع ذلك بسبب الحساب فإنه لا يجزيهم ذلك بلا شك فتعبير المصنف رحمه الله تعالى كسائر الأصحاب بالغلط الشامل لذلك فيه تجوّز. اهـ حاشية.
(3) أي كلهم أو فرقة منهم، وهم كثيرون على العادة المطردة.
(4) أجزأهم إجماعاً إن كثروا كما تقدم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه" أخرجه أبو داود في مراسيله، قال البيهقي: وهو مرسل جيد، ولأنّ تأخير العبادة عن وقتها أقرب إلى الاحتساب من تقديمها عليه والله أعلم.
(5) بقي ما إذا كان الغلط قبل وقت الوقوف بأن بان قبل زوال العاشر ولو في ليلته =

(1/291)


فوقفوا في الحادي عشر أوْ غَلَطُوا في التقديم فوقَفُوا في الثامن (1) أوْ غلطُوا فِي المكانِ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ أرْضِ عَرفاتٍ فلا يصحُ حَجهُمْ بِحَالٍ (2) وَلَوْ وَقَعَ الْغَلَطُ بالْوُقُوفِ فِي الْعَاشِرِ لطَائِفَةٍ يَسِيرَةِ لاَ للحَجِيجِ العامِ لم يُجْزِهِمْ على الأَصَحّ (3) وَلَوْ شَهِدَ واحِدٌ أوْ عَدَدٌ برؤيةِ هِلاَلِ ذِي الْحِجةِ فَرُدَّتْ شهادَتُهُمْ لَزِمَ الشُّهُودَ الوُقُوفُ فِي التاسِع عندهم (4) وإنْ كانَ النّاسُ يقِفُونَ بَعْدَهُ.
__________
= ولم يتمكنوا فيها من الذهاب لعرفة لبعد المسافة وقفوا بعد زوال العاشر، وإليه حينئذ تنتقل أحكام التاسع كلها. فلا يُعْتَد بوقوفهم قبل الزوال ولا يصح رمي جمرة العقبة إلا بعد نصف ليلة الحادي عشر والوقوف، وهكذا جميع الأحكام والله أعلم.
(1) قال في المجموع: وإنْ وقفوا في الثامن فالأصح عندنا لا يجزئهم، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والأصح من مذهب مالك وأحمد أنه لا يجزئهم. اهـ.
(2) وعليهم القضاء.
(3) أي لأنم مفرطون ويجب عليهم ما أوجبه الخليفة عمر بن الخطاب على هبّار بن الأسود ومَنْ معه، رضي الله عن الجميع وقد حج من الشام - كما في رواية.
وإليك ما أوجبه عليهم في حديث مالك رواه في الموطأ بإسناده عن سليمان بن يسار: أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة، كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر رضي الله عنه: اذهب إلى مكة فطف بالبيت أنت ومَنْ معك، واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هدياً إن كان معكم ثم احلقوا أو قصروا، ثم ارجعوا فإن كان عام قابل فحجوا واهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع.
وهبار هذا هو هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي أسلم بالجعرانة بعد فتح مكة، صحابي شهير. كذا في الزرقاني رحمه الله تعالى.
(4) قال المصنف رحمه الله في مجموعه: فلو اقتصروا على الوقوف مع الناس فى اليوم الذي بعده لم يصح وقوف الشهود بلا خلاف عندنا، وحكى أصحابنا عن محمد بنّ الحسن أنه قال: يلزمهم الوقوف مع الناس أي وإن كانوا يعتقدونه العاشر. قال: ولا يجزئهم التاسع عندهم. دليلنا أنهم يعتقدون هذا اليوم الذي يقف الناس فيه العاشر فلم يجز وقوفهم فيه كما لو قبلت شهادته. اهـ. =

(1/292)


(فرع): لَوْ أَنَّ مُحْرماً بالحجِّ سَعَى إِلَى عَرَفَةَ فَقَرُبَ مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ النحْرِ بِحَيْثُ بقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قَدْرٌ يَسَعُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ ولم يكُنْ بَعْدُ صَلى الْعِشَاءَ فَقَدْ تَعَارَضَ فِي حَقهِ أمْرُ الوُقُوفِ وَصَلاَةُ الْعِشَاءِ فَأَيُّهُما اشتغل بِهِ فَاتَهُ الآخَرُ فَكَيْفَ يفْعَلُ؟ فيه ثَلاَثَةُ أوْجُه لأَصْحَابِنَا: أصَحُّها أَنهُ يَذْهَبُ لإدْرَاكِ الْوُقُوفِ (1) فَإِنَّهُ يَتَرَتبُ عَلَى فَوَاتِهِ مَشاقٌ كثيرةٌ مِنْ وُجُوبِ القضاءِ ووجوب الدَّم للقضاءِ ورُبمَا تعذرَ القضاءُ وَفيه تغْرير عَظِيمٌ بالحجِّ فينبغي أنْ يُحَافِظَ عَلَيْهِ وَيُؤَخرَ الصَلاَةَ فإِنَّهُ يجُوزُ تَأخيرها بِعُذْرِ الجمعِ وهذا أشدُّ حَاجَة مِنْهُ. والثانِي: أنهُ يُصَلّي فِي موضعه فَيُحَافِظ عَلَى الصَّلاَةِ لأَنَّهَا عَلَى الفَوْرِ بِخِلاَفِ الْحجّ فَإِنهُ على التراخِي وَلأنَّ الصَّلاَةَ آكَدُ. والثالثُ: أنهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيُصَلّي صَلاَةَ شِدَّةِ
__________
= أقول: جاء في مفيد الأنام للشيخ ابن جاسر الحنبلي عن سليمان بن علي في منسكه قوله رحمه الله: ولو رأى الهلال طائفة قليلة لم ينفردوا بالوقوف بل الوقوف مع الجمهور، واختار في الفروع يعني ابن مفلح - أنه يقف من رآه في التاسع ومع الجمهور وهو حَسَنٌ، أقول -القائل هو الشيخ ابن جاسر-: الوقوف بعرفة مرتين بدعة لم يفعله السلف. اهـ مختصراً.
أقول قد سبقه إلى هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث جاء عنه كما في مفيد الأنام: قال شيخ الإسلام الوقوف مرتين بدعة لم يفعله السلف. وقال فلو رآه طائفة قليلة لم ينفردوا بالوقوف بل الوقوف مع الجمهور. اهـ.
مذاهب العلماء في الغلط في الوقوف
قال المصنف رحمه الله في مجموعه: اتفقوا على أنهم إذا غلطوا فوقفوا في العاشر وهم جمع كثير على العادة أجزأهم وإنْ وقفوا في الثامن فالأصح عندنا لا يجزئهم، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والأصح من مذهب مالك وأحمد أنه لا يجزئهم. اهـ.
(1) أي وجوباً. ولا يصل صلاة شدة الخوف ومحل الخلاف كما يشير إليه قوله بحيث بقي إلخ حيث لم يكن يدرك ركعة مع إدراك الحج، وإلا وجب تقديمه قطعاً. اهـ
حاشية.

(1/293)


الْخَوْفِ (1) فَيُحْرِمُ بالصَّلاَةِ وَيَشْرَعُ فيها ويَعدو (2) ذاهباً إلى الموقف وهذا عذرٌ من أعْذَار صَلاَةِ شدَّه الخوفِ والله تعالى أعلَمُ.
(فرع): فِي التَّعْرِيفِ بغيرِ عَرَفَات وهذا هُوَ الاجتماعُ المعرُوفُ فِي البلدان اختلف العلماءُ فيه فجاءَ عن جَمَاعَةٍ اسْتحبَابُهُ وَفِعْلُهُ. فَقَد رُوِي عن الحسنِ البصريِّ أنهُ قَال: أوَّلُ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عَباس رضي الله عنهما. وَقَالَ الأَثْرَمُ: سَألْتُ أحْمَدَ بن حَنْبَلٍ رحمهُ اللهُ تَعَالى عَنِ التَّعْرِيف فِي الأمْصَارِ فقالَ: أرْجُو أنْ لا يكونَ به بأسٌ وقد فعلهُ غيرُ واحدٍ الْحَسَنُ وبكرٌ وثابِتٌ ومحمدُ بنُ واسع كانوا يشْهَدُونَ المسجدَ يومَ عرفةَ وَكَرِهَهُ جماعَةٌ منهم نَافع مَوْلَى ابنِ عُمَرَ وإبراهيمُ النَّخعيُّ والحكَمُ وحَمَّادٌ ومالكُ بنُ أنسٍ وغيرُهم.
وصنَّفَ الإِمام أبو بكر الطَّرطوشي المالكيُّ الزاهدُ كِتَاباً في البدعِ المنكراتِ وَجَعَلَ منها هذا التعريفَ وبالغَ في إنكارِهِ ونقلَ أقوالَ العلماءِ فيها ولا شك أنّ مَنْ جَعَلَهَا بدْعَةً لا يُلْحِقُهَا بِفاحِشاتِ البدعِ بل يُخففُ أمْرَهَا بالنسبة إلى غيرها.
__________
(1) جاء في مفيد الأنام للشيخ ابن جاسر الحنبلي رحمه الله تعالى: إذا خاف فوت الوقوف بعرفة إن صلى صلاة أمن: صلى صلاة خائف إن رجا إدراك الوقوف لما في فوت الحج من الضرر العظيم. قال في شرح المختصر: وإذا اشتد الخوف صلوا رجالاً وركباناً للقبلة وغيرها ويومئون طاقتهم، وكذا حالة هرب مباح من عدو أو سيل ونحوه. أو خوف فوت عدو يطلبه أو وقت وقوف بعرفة انتهى. فعلى هذا إذا خاف فوت الوقوف بعرفة صلى الفريضة راجلاً أو راكباً في سيارة أو على دابة أو غيرها للقبلة أو غيرهما ويومىء بقدر طاقته والله أعلم. اهـ.
(2) أي راجلاً أو راكباً في سيارة أو على دابة أو غيرهما للقبلة ولغيرها ويومىء بقدر طاقته والله أعلم.

(1/294)


(فرع): ومن البِدَعِ الْقَبيحَةِ ما اعتاده الْعَوَامُّ فِي هذِهِ الأزْمَانِ مِنْ إيقادِ الشَّمْعِ بِجَبَلِ عَرَفَاتٍ ليلةَ التَّاسع (1) وَهذِهِ ضلاَلَةٌ فاحشَةٌ جَمَعُوا فيها أنْواعاً مِنَ الْقَبَائح: مِنْهَا إضَاعَةُ المالِ في غيرِ وجهِهِ، ومنها إظْهَارُ شِعَارِ المجُوسِ في النَّارِ، وَمِنْهَا اخْتلاطُ النسَاءِ بالرجَالِ والشُّمُوعُ بَيْنَهُمْ وَوُجُوهُهُنَّ بارِزَة، ومنها تقديم دُخُولِ عَرَفَاتٍ على وقْتِهِ المَشْرُوعِ ويَجبُ عَلَى وَلِي الأمرِ وَكُل مَنْ يَتمكنُ مِنْ إزَالَةِ هذه البدع إنكارُهَا وإزالتهَا والله تعالى أعلمُ.