الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

الفصلُ السابعُ
في الأعمالِ المشروعةِ بِمنى يَوْم النَّحْرِ
اعْلَمْ أَن حَدَّ مِنىً مَا بَيْنَ وَادِي مُحَسرٍ وَجمرةِ العَقَبةِ (2) وَمنى شِعْبٌ طُولُهُ
__________
= أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر فقرع ناقته فَخَبتْ حتى جاوز الوادي) أن عرض وادي محسر ضيق في جهة ومتسع في أخرى، وحديث علي هذا قال فيه الترمذي حسن صحيح، كما أن المصنف أثبت تصحيحه، وذكره بكامله في مجموعه.
(1) أي ندباً إن أمكن من غير إيذاء أو تأذي لما في حديث جابر أنه عليه الصلاة والسلام (ثم سلك الطريق التي تخرج إلى الجمرة الكبرى) رواه مسلم.
دعاء منى
الحمد لله الذي بلغنيها سالماً معافىً، (اللهم) هذه منى أتيتها وأنا عبدك وفي قبضتك، أسألك أن تمن علي بما مننت به على أوليائك وأهل طاعتك، (اللهم) أعوذ بك من الحرمان والمصيبة في ديني يا أرحم الراحمين، (اللهم) صلِّ على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وأمته وسلم آمين.
(2) هذا هو المعتمد وهو كما قال الشافعي رحمه الله تعالى كما في الحاشية (حَدُّ مِنَى ما بين قرني وادي محسر إلى العقبة والتي عندها) أي بلصقها الجمرة الدنيا إلى مكة هي جمرة العقبة، وليس محسر ولا العقبة من منى. اهـ. أقول: قول المحشي رحمه الله تعالى أي بلصقها إلخ، هذا باعتبار ما كان قبل إزالة العقبة بتمامها في عهد الحكومة السعودية عام 1376 ثم جَعَلَتْ موضع جميع الجمار الثلاث تحت جسر تسير فوقه السيارات طلباً لراحة الحجاج عند رميهم الجمار. نسأله تعالى أنْ يوفقها لما فيه خير العباد والبلاد آمين.

(1/309)


نحْو مِيلَيْنِ (1) وَعَرْضُهُ يَسِير (2) والجبالُ الْمُحِيطةُ بِهِ مَا أَقْبَلَ مِنْهَا عَلَيْه فَهُو مِنْ مِنى، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهَا فَلَيْسَ مِن مِنى وَمَسْجِدُ الخَيْف عَلَى أَقل مِنْ مِيلٍ ممَّا يَلِي مَكَّة وَجَمْرَةُ الْعَقَبة فِي آخِرِ مِنى (3) مما يَلِي مَكَّةَ وَلَيْسَتِ الْعَقَبةُ الَتي تُنْسَبُ إِلَيْهَا الْجَمرةُ مِنْ مِنى وهي الجَمْرَةُ الَتي بَايَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الأَنصَارَ عِنْدها قَبْلَ الهِجرَةِ (4).
__________
(1) قال الأزرقي رحمه الله كما في الحاشية قال: ذرع منى ذرع ما بين جمرة العقبة ومحسر سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع. اهـ. فظهر من هذا الذرع أن قول المصنف طوله نحو ميلين مراده بالميل فيه الميل الذي هو ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع لا الميل المذكور في صلاة المسافر. قال في التحفة -كما في التقييدات- فليقس من ذراع العقبة ويحد به ثم الظاهر من هذا أنه يعتبر ما سامت أول العقبة المذكورة يميناً إلى الجبل ويساراً إلى الجبل، وحينئذ يخرج من منى كثير يظنه كثر الناس منها. اهـ. أقول: أما الآن فلا وجود للعقبة كما تقدم، فعليه فليقس من الجمرة الكبرى من جهة منى إلى أول محسر والله أعلم.
(2) أي بالنسبة لطوله وإلا فهو عريض.
(3) ظاهر هذا أن الجمرة من منى وهو ما اعتمده المحب الطبري في قراه -رحمه الله تعالى- حيث قال: (والعقبة التي تنسب إليها الجمرة منه) أي من شعب منى، والصحيح ما تقدم لما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنىً عن يمينه ورمى بسبع، وقال: (هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة) متفق عليه.
وفي رواية للبخاري قال عبد الرحمن بن يزيد وكان مع ابن مسعود كما في الرواية الأخرى (رمى عبد الله من بطن الوادي) وقال بعضهم إن المراد بقول المصنف وجمرة العقبة في آخر منىً أي قرب آخرها وإن المراد الآخر في الظاهر لا الحقيقة فراراً من مناقضته لقوله أول الفصل: اعلم أن منى ... إلخ وسميت منى بمنى لكثرة ما يراق فيها من دماء الأضاحي. وقيل لأن الله سبحانه وتعالى مَنَّ فيها على عباده بالمغفرة والله أعلم.
(4) أول بيعة كانت عام 12 اثنى عشر للبعثة أي عام 621 م إحدى وعشرين وستمائة للميلاد. والبيعة الثانية عام 13 للبعثة أي عام 622 م اثني وعشرين وستمائة للميلاد.

(1/310)


وأَمَّا الأَعْمَالُ المشروعةُ يَوْمَ النَّحْرِ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ ذَبْحُ الهَدْيِ، ثَُم الْحَلْقُ ثُمَّ الذّهابُ إِلى مَكَّةَ لِطَوَافِ الإِفَاضَةِ وَهِيَ عَلى هَذَا التْرتيبِ مُسْتَحَبةٌ، فَلَوْ خَالَفَ فَقَدَّمَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض جَازَ وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ ويَدْخُلُ وقت الرمْي والحَلْقِ والطوافِ بنصْفِ الليل (1) مِنْ ليْلَةِ الْعِيدِ وَيَبْقَى الرَّمْيُ إلى غُروبِ الشَّمْس (2) وَقِيلَ يَبْقَى إِلى طُلُوعِ الفَجْرِ من لَيْلَة أول أيامِ
__________
(1) أي لمن وقف بعرفة قبله وإلا لم يعتد بما فعله منها وكذا المبيت بمزدلفة.
(2) قال في الحاشية وما صححه هنا كالروضة من بقاء الرمي للغروب مراده به وقت اختياره وإلا فوقت أدائه لا يفوت إلا بآخر أيام التشريق كما يأتي تحقيقهُ أخذاًً من كلامه وله وقت فضيلة سيأتي. اهـ. أقول: تبين من هذا أن لرمي جمرة العقبة أربعة أوقات.
الأول: وقت دخوله بنصف ليلة يوم النحر ويسمى الحج الأكبر لأن معظم أعمال الحج فيه كما تقدم.
الثاني: وقت فضيلة ما بين ارتفاع الشمس وزوالها.
الثالث: وقت اختيار إلى آخر يومه.
الرابع: وقت جوازه إلى آخر أيام التشريق الثلاثة، وبهذا قال أحمد إلا أنه لا يجيز الرمي ليلاً لمن تخلف عن الرمي نهاراً بلْ يرمي من الغد بعد الزوال، والشافعي يجيز الرمي ليلاً ويعده أداء، مستند الشافعي قوله - صلى الله عليه وسلم - للسائل الذي أخر الرمي إلى المساء "ارم ولا حرج" ولما أخرجه مالك عن نافع رحمهما الله تعالى أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر رضي الله عنهم نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما ابن عمر رضي الله عنهما: (أن ترميا فرمتا، ولم ير عليهما شيئاً). وبقول أحمد قال أبو حنيفة كما في المغني لابن قدامة، لكن قال الشبلي في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي كما في أضواء البيان للعلامة محمد أمين الشنقيطي رحمه الله: ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه لأن الليل تبع اليوم في مثل هذا كما في الوقوف بعرفة فإنْ أخَّره إلى الغد رماها وعليه دم، وقال مالك يرميها ليلاً قضاءً لأن مذهبه قضاء الرمي الفائت في الليل وغيره وعليه الهدي.

(1/311)


التَّشْرِيقِ. وأمَّا الحَلْقُ والطَّوَاف فَلاَ آخِرَ لِوَقْتِهِمَا بَلْ يَبْقِيان ما دَامَ حَياً وَلَوْ طَالَ سِنِينَ مُتكاثرةً. وَأمَّا وَقْتُ الاخْتِيَارِ لِهَذه الأَعْمَال فَيَبْدَأُ فِيهِ بجَمْرَةِ الْعَقَبةِ عَلَى تَرْتيبِ الأَفْضَلِ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا مَسَائِلُ:
الأوْلى: يَنْبَغِي إِذَا وَصَلَ مِنى أن لا يُعَرّجَ عَلَى شَيْء قَبْلَ جَمْرَةِ الْعَقَبة وَتُسَمَّى الْجَمْرَةَ الكُبرَى وهي تَحيةُ منى فلا يبدأ قبلها بشيء وَيَرْمِيَهَا قَبْلَ نُزُولِهِ وَحَط رَحْلِه (1) وَهِيَ عَلَى يَمِينِ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ إِذَا وَقَفَ في الجَادَّةِ وَالْمَرْمَى مُرْتَفعٌ قَلِيلاً مِنْ سَفْحِ الْجَبَلِ (2).
الثانيةُ: السُّنة أن يَرْميهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَارْتفاعِهَا قَدْرَ رُمْحٍ (3).
الثالثة: الصَّحيحُ المُختارُ في كَيفيه وقُوفه لِيرمِيها أنْ يقفَ تَحْتَهَا في بَطْنِ الوَادي فَيَجْعَلَ مكَّةَ عن يَسَارِهِ وَمِنى عَنْ يَمِينِهِ ويَسْتَقْبِلَ العَقَبَةَ ثُمَّ يَرْمِي وَقِيلَ يقف مُسْتَقْبلَ الجَمْرَةَ مُسْتَدْبر الْكَعْبَة، وَقِيلَ يَسْتَقْبلُ الْكَعْبَةَ وَتكونُ الْجَمْرَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيح (4) يَدُلُّ عَلَى الأَوَّلِ تَصْرِيحاً.
__________
(1) أي إلا لعذر كزحمة وخوف على محترم.
(2) هذا باعتبار السابق وأما الآن فقد أزيل الجبل والعقبة كما تقدم.
(3) هذا هو الوقت الثاني من الأربعة المتقدمة.
(4) هو ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة متفق عليه. قال المصنف رحمه الله تعالى في المجموع: إنما خص سورة البقرة بالذكر لأن معظم المناسك فيها والله تعالى أعلم. اهـ.
وروي عنه أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم -: (استبطن الوادي واستقبل الكعبة وجعل يرميها عن جانبها الأيمن) فجمعاً بين الحديثين حمل الأول كما في الحاشية على رمي يوم النحر والثاني على رمي غيره والله أعلم.

(1/312)


الرابعة: السُّنةُ أنْ يَرْفَعَ يده في رميها حَتَّى يُرى بَيَاضُ إبطه وَلاَ تَرْفَعُ الْمَرْأة (1).
الخامسةُ: السُّنَّةُ أَنْ يقْطَعَ التّلْبِيَةَ بأَوَّلِ حَصَاة يَرْمِيهَا (2) وَيُكَبِّر بَدَلَ التَّلْبِيَةِ (3) لأَنَهُ بالرمْيِ يَشْرَعُ في التّحَللِ من الإِحرام، والتلبية شعار الإِحرام فلا يأتي بها مع شروعه في التحلل وَلَوْ قَدمَ الحَلْقَ أوْ الطوَافُ عَلى الرَّميِ قَطَعَ التَّلْبِية بشُروعِهِ في أَوَّلِهِ لأَنَّهُما مِنْ أسْبَابِ التحَللِ، واسْتَحَبَّ بعضُ أصْحَابِنا فِي التكْبِيرِ المشروعِ مَعَ الرمْيِ أَنْ تقُولَ: الله أكْبَرُ الله أكْبَرُ الله أكبر كَبِيراً والحَمْدُ لله كَثِيراً وَسُبْحَانَ الله بُكْرَة وَأصِيلاً، لاَ إِلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، له المُلْكُ وَلَهُ الحَمْد يحْيي وَيُمِيتُ وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِير، لاَ إِلهَ إِلا الله ولاَ نَعْبُدُ إلا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ.
لا إلهَ إِلا الله وَحْدَهُ صدَقَ وَعْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ لاَ إِله إلا الله وَالله أكْبَر (4).
__________
(1) أي والخنثى، ويُسَن كون الرمي باليد اليمنى إن سهل، وإلا فباليسرى.
(2) قال في الحاشية: الباء بمعنى (مع)، ولا ينافيه خبر أنه - صلى الله عليه وسلم - (لبى حين رمى جمرة العقبة) لأنه وإن كان محفوظاً كما قاله البخاري إلا أن غيره كرواية مسلم (لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة) أصح منه فقدم عليه. اهـ. أقول: قد تقدم في باب آداب الإحرام أن أول وقت التلبية هو وقت انعقاد الإِحرام وآخر وقتها عند الشافعية والحنفية وجمهور العلماء رحم الله تعالى الجميع والمسلمين ورحمنا معهم رمى أول حصاة من جمرة العقبة كما ذكره المصنف في مجموعه. وقال أحمد يلبى حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة، وقال مالك: بقطعها قبل الوقوف بعرفات. اهـ.
(3) أي لما روى مسلم عن جابر رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى الجمرة يعني يوم النحر فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف وهي من بطن الوادي ثم انصرف).
(4) قال المصنف في مجموعه: وهذا الذي ذكره هذا القائل غريب في كتب =

(1/313)


السادسةُ: أنْ يَرْمِيَ رَاكِباً هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
السابعةُ: تَقَدَّمَ أنهُ يُسْتَحَب أنْ يَكُونَ الحَجَرُ مِثْلَ حَصَى الْخَذْف لاَ أكْبَرَ وَلاَ أصْغَر. وَذَكَرَ بَعْض أصْحَابِنَا (1) أنهُ يُسْتَحَبُّ أنْ يَكُونَ كَيفِيةُ رَمْيهِ كَرَمْيِ الْخَاذفِ وَيَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى بَطْنِ أصبُعه ويرمِيها بِرأسِ السبّابةِ وَهَذِهِ الْكَيْفِيةُ لَمْ يَذْكُرْهَا جُمْهُورُ أصْحَابِنَا وَلاَ نَرَاهَا مُخْتَارَةً وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ نَهْيُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْخَذْفِ.
الثامنة: يَجِبُ أنْ يَرْمِي سَبع مَرَّاتٍ بِمَا يُسَمَى حَجَراً بِحَيْثُ يُسمَّى رَمْياً فيرمي سَبع حَصَياتٍ وَاحِدَةً وَاحِدَةً حَتى يَسْتكْملَهُنَّ فَلَوْ وَضَعَ الحَجَرَ فِي الْمرْمَى لَمْ يُعْتَدَ بِهِ لأنَّهُ لا يُسَمَّى رَمْيَاً (2) وُيشْتَرَطُ قَصْدُ
__________
= الحديث والفقه، وإنما في الأحاديث الصحيحة وكتب الفقه يكبر مع كل حصاة، وهذا مقتضاه مطلق التكبير، والذي ذكره هذا القائل طويل لا يحسن التفريق بين الحصاتين به. اهـ.
(1) هو الوجه الأول من الوجهين المذكورين في المجموع وهو أنْ تكون كيفية الرمي كرمي الخاذف وهي أنْ يضع الرامي الحصاة على بطن إبهامه ويخذفها برأس سبابته أو يجعل الحصاة بين سبابتيه ويخذف بها. وهذا الوجه أخذ به البغوي والمتولي والرافعي رحمهم الله ورحمنا آمين. والثاني: وهو الصحيح الذي قطع به الجمهور كما في المجموع: أن يكون الرمي على غير صفة الخاذف لورود نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الخذف وقال فيه: (إنه لا يقتل الصيد ولا ينكأ العدو، وإنه يفقأ العين ويكسر السن) رواه مسلم من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.
قال المصنف في مجموعه: وهذا الحديث يتناول الخذف في رمي الجمار وغيره فلا يجوز تخصيصه إلا بدليل ولم يصح فيما قاله صاحب الوجه الأوى شيء ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبه على العلة في كراهة الخذف وهو أنه لا يأمن أن يفقأ العين أو يكسر السن، وهذه العلة موجودة في رمي الجمار والله أعلم.
(2) بل يسمى طرحاً وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل إلا الرمي، وقال: "خذوا عني مناسككم" =

(1/314)


الْمَرْمَى (1) فَلَوْ رَمَى فِي الهَوَاء فَوَقَعَ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلاَ يُشْتَرطُ بقَاءُ الْحَصَاةِ في الْمَرْمَى فَلا يَضُرُّ تَدَحْرُجُهَا أو خُرُوجُها بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ وَلاَ يُشْتَرَطُ وُقُوفُ الرَّامِي خَارِجَ الْمَرْمَى فَلَوْ وَقَفَ في طَرَفِ الْمَرْمَى وَرَمَى إِلَى طَرَفِهِ الآخَرِ أجْزَأهُ وَلَوْ انْصَدَمَتْ الْحَصَاةُ الْمَرْمِية بالأَرْضِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ أوْ بِمَحْمَلِ فِي الطَّرِيقِ أوْ عُنُقِ بَعِيرِ أوْ ثَوْب إِنْسَانِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى اعْتُدَّ بِهَا لِحُصُولهَا فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةِ، وَلَوْ حَرَّكَ صَاحِبُ الْمَحْمَلِ فَنَفَضَهَا أوْ صَاحِبُ الثَّوْبِ تَحَرَّكَ الْبَعِيرُ فَدَفَعَهَا فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا (2) وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَحْمَلِ أوْ عُنُقِ الْبَعِيرِ ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ إلى الْمَرْمَى فَفِي الاعْتِدَادِ بِهَا وَجْهَانِ
__________
= فإن قيل كيف أجزأ في الوضوء وضع اليد مبلولة على الرأس مع أنه لا يسمى مسحاً؟ أجيب: بأنه بوضعها مبلولة عليه حصل المقصود وهو وصول البلل إليه، والمقصود من الرمي مجاهدة الشيطان وإغاظته بالرمي الذي يغاظ به العدو، والوضع هنا لم يأت بشيء من المقصود من الرمي والله أعلم.
(1) المرمى هو مجتمع الحصى لا الشاخص. ويشترط أيضاً عدم الصارف وقد نظم بعضهم رحمه الله تعالى شروط الرمي بقوله:
شروط رمي للجمار ستة ... سبع بترتيب وكف وحجر
وقصد مرمى يا فتى وسادس ... تحقق لأنْ يصيبه الحجر
فلو قصد غير المرمى لم يكف وإن وقع فيه كرميه نحو حَيةٍ في الجمرة ورميه العلم المنصوب في الجمرة عند ابن حجر قال نعم لو رمى إليه بقصد الوقوع في المرمى وقد علمه فوقع فيه اتجه الإجزاء لأن قصدَه غير صارف حينئذ. اهـ.
قال عبد الرؤوف: والأوجه أنه لا يكفي، وكون قَصْد العَلَم حينئذ غير صارف ممنوع لأنه تشريك بين ما يجزىء وما لا يجزىء أصلاً. اهـ. وفي الإِيعاب أنه يغتفر للعامي ذلك واعتمد محمد على إجزاء رمي العلم إذا وقع في المرمى. قال لأن العامة لا يقصدون بذلك إلا فِعْل الواجب والمرمى هو المحل المبني فيه العلم ثلاثة أذرع من جميع جوانبه إلا جمرة العقبة فليس لها إلا جهة واحدة. اهـ إعانة الطالبين.
(2) أي بلا خلاف كما في المجموع لأنها لم تحصل في المرمى بمجرد فعله.

(1/315)


لأصْحَابِنَا أظْهَرُهُما لاَ يُعْتَدُ بِهَا (1) وَلَوْ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ الْمَرْمَى (2) ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ إِلى الْمَرْمَى أوْرَدَتْهَا الريحُ إِلَيْه اعْتُدَّ بِهَا (3) عَلَى الأَصَحّ ولا يجزِىء الرَّمْيُ عَنِ القَوْسِ وَلاَ الدّفْعُ بالرجْلِ (4) وَلَوْ شَك فِي وُقُوعِ الْحَصَاةِ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ وَهُوَ نَصُ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله تَعَالى فِي الْجَدِيد (5) وَيُشْتَرطُ أنْ يَرْمِيَ الْحَصَيَاتِ فِي سَبعِ مَرّات فَلَوْ رَمَى حَصَاتَيْن أوْ سَبْعاً دَفْعَة وَاحِدَة فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى مَعاً أوْ بَعْضُهُنّ بَعْدَ بَعْض لَمْ تُحْسَبْ إلاّ حَصَاة واحِدَة (6)، وَلَوْ رَمَى حَصَاة ثُمَ أتْبَعَهَا حَصَاةً أُخْرَى حُسِبت الحصَاتان رَمْيَتَيْن
__________
(1) أي لاحتمال تأثرها به مع أن الأصل شغل الذمة فلا تبرأ إلا بيقين أو ظن قوي.
(2) أي من الأرض.
(3) وجه الاعتداد بها في صورتي الأرض قوله ولو انصدمت الحصاة المرمية بالأرض إلخ. والثانية قوله ولو وقعت في غير المرمى أن الأرض لا اختيار لها ولا حركة وألحق بما ذكر في الأرض من التدحرج الريح لعدم خلو الجو منها، وتعذر الاحتراز منها خلافاً لمن فرّق بينهما فقال: يجزىء في التدحرج دون حمل الريح. قال في الحاشية: نعم لو فرض أن رميه كان عاجزاً عن إيصالها للمرمى فوصلت بحمل الريح وحده اتجه عدم الإجزاء حينئذ لأنه لا دخل لفعله في إيصالها للمرمى البتة ولا فرق فيما ذكر بين أن تقع في محل عام أو لا خلافاً لمن غلط في ذلك كما قال في البحر. اهـ.
(تنبيه): يجب على مَنْ يرمي الجمار من الطابق العلوي أن يتيقن سقوط الجمرة في المرمى. فلو بقيت ولم تسقط بسبب ما يرمى في فتحة المسقط من الأوراق والأحذية لم يجزىء. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه آمين.
(4) لأنه لا يطلق عليه اسم الرمي وكله في غير مقطوع اليدين أما هو فالإجزاء وعدم جواز الاستنابة، ومثله الرمي بالفم والمقلاع كالقوس.
(5) لأنّ الأصل عدم الوقوع في المرمى، والأصل أيضاً بقاء الرمي عليه والله أعلم.
(6) قال في الحاشية: لا فرق فيه بين الرمي بيد واحدة أو بهما، فلو رمى بهما معاً لم تحسب إلا واحدة وإنْ وقعتا مرتباً لأن الرمية واحدة، والعبرة بالرمية لا بالوقوع. اهـ. =

(1/316)


سَوَاء وَقَعَتَا مَعاً أوْ الثَّانيةُ قَبْلَ الأُولى أو عَكْسهُ، وَلَوْ رَمَى بِحَجرٍ قَدْ رَمَى بهِ غيره أو رمى به هُوَ إلى جَمْرَةٍ أخْرَى أوْ إِلى هَذه الْجَمْرَةِ في يَوْم آخرٍ أجْزَأَهُ بِلاَ خِلاَفٍ (1). وإنْ رَمَى بِهِ هُوَ إِلى تِلْكَ الْجَمْرَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَجْزَأَهُ أيْضاً عَلى الأَصحَ كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَى فَقِيرٍ مُداً فِي الْكَفَّارَةِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَدَفَعَهُ إِلى آخَرِ وَعَلَى هذَا يُمْكِنُ أَنهُ يُحَصلُ جَمِيعَ رَمْيِهِ فِي الأَيَّامِ بِحَصَاةٍ وَاحِدةَ بَلْ رَمْيُ جَمِيعِ النَّاسِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِحَصَاةٍ إِنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ.
(فرع): شَرْطُ مَا يُرْمَى به كَونُهُ حَجَراً فيجزِىء المرمَرُ والْبِرَامُ والْكَذَّانُ (2) وَسَائِرُ أنْوَاعِ الْحَجر ويُجْزِىء حَجَرُ النَّوْرَةِ قَبْلَ أنْ يُطْبَخَ وَيَصِيرَ نَوْرَةً وَيُجْزِىءُ حَجَرُ الْحَديدِ (3) عَلَى الْمَذْهَبِ الصَحِيحِ لأَنَّهُ حَجَر فِي الْحَالِ إِلا أَنَّ فِيهِ حَدِيداً كَامِناً يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلاَجِ وَفِيمَا يُتَّخذُ مِنْهُ الْفُصُوصُ كالْفيْرُوزَجِ والْيَاقوت وَالْعَقِيقِ والزُّمُردِ والْبَلَّور والزّبَرْجَدِ وَجهانِ لأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا الإِجْزَاء (4) لأَنَّهُمَا أَحْجَار
__________
= أقول: -كما في المجموع- وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة: إن وقعن متفرقات حُسِبْنَ سبعاً وإلا فواحدة.
(1) قال في الحاشية: ولا يتوهم منه عدم الكراهة لما مَرّ أنها بمعنى آخر وهو أن ما بقي لم يتقبل. اهـ.
(2) بفتح الكاف وتشديد الذال المعجمة: حجارة رخوة.
(3) مثله حجر نحو الذهب والفضة وغيرهما.
(4) أي لا الجواز فيحرم الرمي بما ذكر من الفيروزج إلخ إن ترتب عليه كسر أو إضاعة مال ومع ذلك يصح الرمي به كالمغصوب. قال في الحاشية: ومن ذلك الجزع والمرجان ولا أثر هنا لاتخاذ ذلك فصوصاً، ويفرق بينه وبين انطباع الجواهر بأن انطباعها يخرجها عن الحجرية بخلاف اتخاذ ذلك فصوصاً، وبهذا يعلم أن مرادهم بالمنطبع هنا غيره في مبحث المشمس إذ المراد به ثَمَّ ما من شأنه الانطباع فيشمل البركة التي في حجر نحو الحديد فيكره المشمس فيها لوجود علة الكراهة فيه، وهنا ما انطبع أي طُرق بالفعل لأنه لا يخرج عن الحجرية إلا بذلك. اهـ.

(1/317)


وَيُجْزِىءُ مَا لاَ يُسَمَّى حَجَراً كَاللؤلُؤِ والزرْنِيخِ والأثمِدِ والْمَدَرِ والْجِصّ وَالذَّهبِ والْفِضةِ والنُّحَاسِ (1) والْحَدِيدِ وَسَائِرِ الجَوَاهِرِ الْمُنْطَبِعَةِ (2).
__________
(1) وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة يجوز بكل ما هو من جنس الأرض كالكحل والزرنيخ والمدر، ولا يجوز بما ليس من جنسها وسيأتي هذا إن شاء الله في مذاهب العلماء عن المجموع.
(2) أي المطرقة بالفعل كما تقدم.
مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى في رمي جمرة العقبة
قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: قد ذكرنا أنه واجب ليس بركن، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وداود. قال العبدري: وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك: هو ركن، دليلنا القياس على رمي أيام التشريق.
(فرع): مذهبنا جواز رمي جمرة العقبة بعد نصف ليلة النحر والأفضل فعله بعد ارتفاع الشمس وبه قال عطاء وأحمد وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر وابن أبي مليكة، وعكرمة بن خالد، وقال مالك وأبو حنيفة وإسحق لا يجوز إلا بعد طلوع الشمس، واحتج لهم أصحابنا بحديث ابن عباس السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بضعفة أهله فأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس. وهو حديث صحيح كما سبق.
واحتج أصحابنا بحديث أم سلمة وغيره من الأحاديث الصحيحة السابقة في مسألة تعجيل دفع الضعفة من مزدلفة إلى منى. (وأما) حديث ابن عباس فمحمول على الأفضل جمعاً بين الأحاديث. قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: أجمعوا على أن مَنْ رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الشمس أجزاه.
فرع في مذاهبهم في وقت قطع التلبية يوم النحر
قال المصنف في مجموعه: قد ذكرنا أنه يقطعها عند أول شروعه في رمي جمرة العقبة وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأبو ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم. وقال أحمد وإسحاق وطائفة: يلبي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة، وأشار ابن المنذر إلى اختياره. وقال مالك يقطعها قبل الوقوف بعرفات وحكاه عن علي وابن عمر وعائشة. وقال الحسن البصري: يقطعها عقب صلاة الصبح يوم عرفة، دليلنا على ما ذكره المصنف. =

(1/318)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= أقول: هو ما رواه الفضل بن عباس رضي الله عنهما (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) ولان التلبية للإحرام، فإذا رمى فقد شرع في التحلل فلا معنى للتلبية. اهـ.
(فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يسْتَحب أخْذ الجمار من مزدلفة، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وسعيد بن جبير وإسحق. وقال عطاء ومالك وأحمد يأخذ من حيث شاء، قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافاً بينهم أنه من حيث أخذ أجزأه لكن أحب لقطه وأكره كسره لأنه قد يؤدي إلى احتسابها واحدة والله أعلم.
(فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب كون الحصى قَدْر حصى الخذف وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف منهم ابن عمر وجابر وابن عباس وابن الزبير وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وأبو حنيفة وأبو ثور. قال ابن المنذر ولا معنى لقول مالك: (أكبر من ذلك أعجب إلي) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سن الرمي بمثل حصى الخذف واتباع السنة أولى.
(فرع): قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة.
(فرع): مذهبنا أنه يستحب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً إنْ كان دخل منى راكباً، ويرمي أيام التشريق ماشياً إلا يوم النفر فراكباً وبه قال مالك، قال ابن المنذر: وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون مشاة واستحبه أحمد وإسحق وكره جابر الركوب إلى منى من الجمار إلا لضرورة. قال: وأجمعوا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رمى جمرة العقبة يوم النحر راكباً) والله أعلم.
(فرع): ذكرنا أن مذهبنا الصحيح أن الأفضل في موقف الرامي جمرة العقبة أنْ يقف في بطن الوادي، وتكون منى عن يمينه ومكة عن يساره وبهذا قال جمهور العلماء منهم ابن مسعود وجابر والقاسم بن محمد وسالم وعطاء ونافع والثوري ومالك وأحمد. قال ابن المنذر: وروينا أن عمر رضي الله عنه خاف الزحام فرماها من فوقها.
(فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا أن لو رمى بما رمى به أو غيره جاز مع الكراهة وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود. قال المزني: يجوز بما رمى به غيره ولا يجوز بما رمى هو به.
قال ابن المنذر: وكره ذلك عطاء والأسود بن يزيد وسعيد بن أبي عروبة والشافعي وأحمد. قال ورخص فيه الشعبي. وقال إسحق يجزئه. قال ابن المنذر: يكره ويجزئه.
قال: إذ لا أعلم أحداً أوجب على من فعل ذلك إعادة. =

(1/319)


(فرع): قَدْ تَقَدَّمَ أَنهُ يُسْتَحَب أَنْ تكُونَ الحصَاةُ كَحَصَاةِ الْخَذْفِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرِ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ وَيُسْتَحَب أَنْ يَكُونَ الْحَجَرُ طَاهِراً فَلَوْ رَمَى بِنَجِس كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ. وَقَدْ سَبَقَ أَنهُ يُكْرَهُ أَنْ يَرْمِيَ بِمَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَوْضِعِ النَّجِسِ أَوْ بِمَا رَمَى بِهِ غَيْرُهُ وَلَو رَمَى بِشَيْء مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَه.
(فرع): مَنْ عَجَزَ عَنِ الرّمي بِنَفْسِهِ لِمَرَض (1) أَوْ حَبْس (2) يستنيب (3) مَنْ
__________
= (فرع): قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لو رمى سبع حصيات رمية واحدة حسبت له حصاة واحدة فقط، وبه قال مالك وأبو حنيفة إن وقعن في المرمى متعاقبات أجزأه وإلا فلا.
وحكى ابن المنذر عن عطاء أنه يجزئه ويكبر لكل حصاة تكبيرة. قال الحسن إنْ كان جاهلاً أجزأه.
(فرع): ذكرنا أن مذهبنا أنه يجوز الرمي بكل ما يسمى حجراً، ولا يجوز بما لا يسمى حجراً كالرصاص والحديد والذهب والفضة والزرنيخ والكحل ونحوها، وبه قال مالك وأحمد وداود. وقال أبو حنيفة: يجوز بكل ما كان من جنس الأرض كالكحل والزرنيخ والمدر ولا يجوز بما ليس من جنسها واحتج بالأحاديث المطلقة في الرمي.
دليلنا: حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غداة جمع بمنى يوم النحر "عليكم بحصى الخذف الذي يرمي به الجمرة" رواه مسلم، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالحصى فلا يجوز العدول عنه والأحاديث المطلقة محمولة على هذا المعنى. اهـ.
(1) كإغماء.
(2) أي في غير دين يقدر على وفائه ولو بحَق كأنْ حبس في قود لصغير حتى يبلغ، فالحبس بحق في غير صورة الدين المذكور لا يمنع الاستنابة. (فإن قيل): أنّ المحصر إذا حبس بحق لا يتحلل، وهنا إذا حبس بحق له أن يستنيب في رمي الجمار.
(أجيب): بأن الرمي أسهل من التحلل فسومح فيه.
(3) أي وجوباً وقت الرمي لا قبله فلا يستنيب في رمي التشريق إلا بعد زوال يوم فيوم إلى آخر الأيام. وقوله: من يرمي عنه، قال في المجموع: (فرع): قال أصحابنا وينبغي أن يستنيب العاجز حلالاً أو مَنْ قد رمى عن نفسه. اهـ. وقال في "مفيد الأنام" =

(1/320)


يَرْمِي عنه ويُسْتَحَب أن يناول النائب الحصى إنْ قَدرَ وَيُكَبرُ هُو (1) وإِنَّمَا تَجُوزُ النيابة لِعَاجِزٍ بِعِلَّةٍ لاَ يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الرَّمْيِ (2) وَلاَ يُمْنع زَوَالُهَا بَعْدَهُ وَلاَ يَصحُّ رَمْيُ النَّائِبِ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ إِلا بَعْدَ رَمْيهِ عَنْ نَفْسِهِ (3) فَلَوْ خَالَفَ
__________
= للشيخ ابن جاسر الحنبلي رحمه الله: (فائدة) ذكر الأصحاب أنه لا يعتد برمي حلال ومرادهم بذلك والله أعلم مَنْ لم يحج في تلك السنة التي رمى فيها لأنه غير متلبس بتلك العبادة فلم يكن صالحاً لأدائها عن نفسه فعن غيره من باب أولى والله أعلم.
(1) أي المستنيب عند الاستنابة وإعطاء الأحجار للنائب، وهذا التكبير غير التكبير المشروع عند الرمي.
(2) أي وقت أداء الرمي بأن يغلب على ظنه بمعرفة نفسه أو إخبار طبيب بامتداد المانع إلى آخره، فمتى ظن القدرة ولو في اليوم الثالث امتنعت الاستنابة لأنّ أيام التشريق كيوم واحد إذ لا يفوت وقت الأداء إلا بانقضائها كلها.
(3) قال في الحاشية أي رمى جميع اليوم، فلو رمى الجمرة الأولى لم يصح أن يرمي عن المستنيب قبل أن يرمي الجمرتين الباقيتين عن نفسه على الأوجه عندي من احتمالين للإسنوي خلافاً للزركشي حيث رجح مقابله، قال: لأنْ الموالاة بين الجمرات لا تشترط وكماله أن يطوف عن غيره إذا كان قد طاف عن نفسه وبقي عليه أعمال الحج، انتهى.
والفرق أن الطواف ركن مستقل بنفسه لا ارتباط له بما بعده فحيث فَعَلَهُ جاز له فِعْلُه عن غيره، وأما رمي الجمرات الثلاث فواجب واحد له أجزاء كما أن الطواف كذلك فكما ليس له الطواف عن غيره ما بقي عليه من طوافه شيء وإن لم تجب الموالاة فيه، كذلك الثاني له الرمي عن غيره ما بقي عليه من رميه شيء ويدل لما ذكرته قولهم: من عليه رمي اليوم الثاني مثلاً لو رمى في اليوم الثالث لكل جمرة أربع عشرة حصاة لم يقع شيء منها عن يومه لأن رمي أمسه لم يتم ولو كان الأمر كما ذكره لزم الوقوع عن يومه لأنه رمي أمسه بالنسبة لكل جمرة تم قبل الشروع في الجمرة الثانية فدل كلامهم على أن الجمرات كالجمرة الواحدة وهو صريح فيما ذكرته. وبما تقرر يُعْلم أنه لو استناب مَنْ عليه رمي أول أيام التشريق في ثانيها مَنْ رمَى أولها عن نفسه تخير النائب بين أنْ يقدم رمي نفسه عند كل جمرة أو رمي مستنيبه لأنه قد فعل ما استنيب فيه. اهـ مختصراً.
أقول: أما عند السادة الحنفية والمالكية والحنابلة كما في مفيد الأنام قال في لباب =

(1/321)


وقَعَ عَنْ نَفْسِهِ (1) كَأصْلِ الْحَجّ وَلَوْ أُغْمِيَ (2) عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِغَيرِهِ في الرَّمْي عَنْهُ لَمْ يَجُزْ الرمْيُ عَنْهُ وَلَوْ أَذِنَ (3) أجْزَأ الرَّمْيُ عَنْهُ عَلَى الأَصَحِّ وَلَوْ رَمَى النَّائب ثُم زَالَ عُذْرُ المُسْتَنِيبِ والوقْتُ بَاقٍ فالمذهب الصّحيحُ أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الرَّمي (4).
__________
= المناسك وشرحه من كتب الحنفية: ولو رمى بحصاتين إحداهما عن نفسه والأخرى عن غيره جاز، ويكره أي لتركه السنة فإنه ينبغي أنْ يرمي السبع عن نفسه أولاً ثم يرميها عن غيره نيابة. اهـ.
وقال في توضيح المناسك من كتب المالكية: ويستحب لمن يرمي عن غيره أن يرمي أولاً عن نفسه ثم عمن ناب عنه. فإن رمى جمرة بتمامها أولاً عن نفسه ثم رماها عمن ناب عنه أو العكس أجزأه، وترك المندوب، وهو التتابع بين الجمرات الثلاث من غير فصل بشيء، ولو رمى حصاة عن نفسه وحصاة عمن ناب عنه أجزأه أيضاً وترك المندوب وهو تتابع الحصيات من غير فصل. اهـ مختصراً.
وقال في مفيد الأنام عن مذهب الحنابلة: وإذا قلنا بعدم جواز رمي النائب عن مستنيبه أو الولي عن موليه قبل رميه عن نفسه فيما إذا كان حجه فرضاً فهل إذا رمى النائب عن نفسه أو الولي عن موليه الجمرة الأولى في أيام التشريق يجوز أن يرميها عن مستنيبه أو موليه في ذلك اليوم قبل رمي الجمرة الوسطى وجمرة العقبة عن نفسه أو لا يجوز؟ لم أرَ لأصحابنا الحنابلة كلاماً في ذلك وجواز ذلك لا يبعد فيما يظهر لأنه رمى الجمرة الأولى عن مستنيبه أو موليه بعد رميها عن نفسه ولأنه ليس فيه إخلال بالترتيب المشترط فى رمي الجمار والمنع من القول بالجواز يحتاج إلى دليل والله أعلم. اهـ.
(1) أي وإن نوى مستنيبه أو لغا فيما إذا رمى للأولى أربع عشرة مثلاً سبعاً عنه ثم سبعاً عن موكله.
(2) أي العاجز عن الرمي.
(3) أي في حال عجزه عن الرمي وكالإغماء الجنون والموت فلا تبطل بها الاستنابة.
(4) فإنْ قيل المعضوب تجب عليه إعادة الحج إذا برىء وهنا لا إعادة على المستنيب إذا زال عذره والوقت باقٍ. (أجيب): -كما في الحاشية- بأن الحج أصل. =

(1/322)


الثاني مِنَ الأَعْمَالِ الْمَشْروعَة بمِنى يَوْم النحْرِ ذَبْحُ الْهَدْيِ والاضْحِيَةِ
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَة انْصَرَفَ فَنَزَلَ في مَوْضِعٍ فِي مِنىً وَحيث نَزِلَ مِنْهَا جَازَ وَلَكِنْ الأفْضَلُ أنْ يقْرُبَ مِنَ مَنْزِل رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ ذكَرَ الأَزْرَقي أْنّ مَنْزِلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى يسار مُصَلَّى الإِمَامِ فَإِذا نَزَلَ ذَبَحَ أوْ نَحَرَ الْهَدْيَ (1) إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ.
__________
= فاحتيط له والرمي تابع لا يؤثر تركه في صحة الحج فخفف في أمره ومن ثَم دخله الجبر، بخلاف أصل الحج. نعم تسن له الإِعادة كما في المجموع. اهـ. وقد أوجب الإعادة مالك رحمه الله تعالى.
(1) الهدي في الأصل ما يساق إلى الحرم تقرباً إلى الله تعالى من نَعَم وغيرها نذراً أو تطوعاً لكنه عند الإِطلاق اسم للإبل والبقر والغنم، ومحل ذبحه الحرم بمنى فقط وزمنه يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة. هذا حكم هدي الحج وأما الهدي الذي سبق ليذبح بعد الفراغ من سعي العمرة فلا يجب تأخيره إلى يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة بل يذبح بعد الفراغ من سعيها بالحرم لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح هديه في عمرة القضاء بعد إنقضاء سعيه بالمروة وكانت سنة سبع في ذي القعدة، والأضحية هي ما يذبح من الأنعام الإبل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة فقط في الحرم وغيره تقرباً إلى الله تعالى والأفضل في الهدي والأضحية إبل ثم بقر إنْ أخرج كاملاً بأن ضحى ببدنة كاملة أو بقرة كاملة ثم غنم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (مِنْ اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قَرب بدنة، ومَنْ راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومَنْ راح في الساعة الثالثة فكأنما قَرَّب كبشاً أقرن) متفق عليه. ولأن الإبل أكثر ثمناً ولحماً وأنفع للفقراء.
والتفضيل المذكور هو فيما إذا قوبل الجنس بالجنس، وإلا فسبع شياه أفضل من بدنة أو بقرة لأن الدم المراق بذبحها أكثر والقربة تزيد بحسبه، وبهذا قال الإمامان أبو حنيفة وأحمد وقال به الإمام مالك في الهدي، وقال في الأضحية: الأفضل الضأن ثم =

(1/323)


(فرع): وَسَوْقُ الْهَدْي لمنْ قَصَدَ مَكَّةَ حَاجاً أو مُعْتَمِراً (1) سُنّةٌ مُؤكَّدَةٌ أَعْرَضَ أكْثَرُ النّاسِ أوْ كُلهُمَْ عَنْهَا فِي هَذه الأَزْمَانِ والأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ هَدْيهُ مَعَه مِنَ الْمِيقَاتِ مُشْعَراً مُقَلَّداً وَلاَ يَجِبُ ذَلِكَ إِلاَّ بالنذر (2) وَإِذا سَاقَ هَدْياً تَطَوُّعاً أوْ مَنذُوراً فَإِنْ كَانَ بَدنة أوْ بقَرَةً اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَقلّدَهَا نَعْلَيْنِ (3) وَلْيَكُنْ لَهُمَا قِيمَةٌ لِيتصَدَّقَ بِهِمَا وأَنْ يُشْعِرهَا أَيْضَاً.
وَالإِشْعَارُ الإعْلاَمُ وَالْمُرَادُ به هُنَا أنْ يَضْرِبَ صَفْحَةَ سَنَامِهَا اليُمْنَى بحديدة فَيُدْمِيهَا وَيُلَطِّخَهَا بالدم لِيَعْلَمَ مَنْ رَآهَا أنَّهَا هَدْيٌ فَلاَ يَتَعرض لَهَا، وَإنْ
__________
= البقر ثم البدنة لأنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين، ولا يفعل إلا الأفضل ولو علم الله خيراً منه لفدى به الذبيح عليه السلام.
(1) وكذا يسن سوق الهدي لقاصد مكة ولو بغير نسك فيقلده ويشعره من بلده كمن لم يرد سفراً وأراد إرساله لما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قلد هديه وأشعره وبعث به إلى الحرم.
(2) أي والتعيين كهذا هدي أو جعلته هدياً أو علي أن أهديه.
(3) قال في الحاشية: كأن حكمتَها الإعلام بحقارة الدنيا وعدم الإلتفات إلى ما فيها وأنه في جنب الطاعة حقير. ويأتي ذلك في خُرَب القُرَب الآتية. اهـ.
حكم الأضحية عند الأئمة ووقتها
قال الأئمة مالك والشافعي وأحمد وصاحبا أبي حنيفة رحمهم الله جميعاً: هي سنة مؤكدة. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هي واجبة على المقيمين من أهل الأمصار. واعتبر في وجوبها النصاب. ويدخل وقتها عند الشافعي -كما سيأتي- بطلوع الشمس يوم النحر ومضي قَدْر صلاة العيد والخطبتين، صلى الإمام أو لم يصلِ، وعند الثلاثة شرط صحة الأضحية أن يصلي الإِمام ويخطب إلا أن أبا حنيفة جَوّزَ لأهل السواد التضحية إذا طلع الفجر الثاني وآخر وقتها عند الشافعي آخر أيام التشريق. وبه قال أحمد في رواية وعند مالك وأبي حنيفة إلى آخر الثاني من أيام التشريق. وبه قال أحمد في رواية أخرى والله أعلم.

(1/324)


سَاقَ غَنَماً اسْتُحِبَّ أنْ يقلدَهَا خُرَبَ الْقِرَبِ (1) وَهِيَ عُرَاهَا وآذَانَها وَلاَ يقلّدَها النَّعْلَ ولا يُشْعِرهَا لأَنها ضعيفَةٌ وَيَكُونُ تَقْلِيدُ الْجَمِيعِ والإِشْعَارُ وهي مستقبلة القبلة والبدنة باركة، وهل الأَفضل أن يقدم الإِشعار عَلَى التقْلِيد؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهمَا: يقدمُ الإِشْعَارَ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ في صَحِيح مُسْلِمِ عَنْ ابن عُمَرَ رضِيَ الله عَنْهُمَا عَنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والثانِي: وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِي رَحِمهُ الله تَعَالَى تَقْدِيمُ التَّقْلِيدِ (2) وَقَدْ صَحَّ ذلكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا مِنْ فِعْلِهِ وَالأمْرُ فِي هذا قَرِيبٌ وَإِذا قَلدَ
__________
(1) خُرَب: بضم الخاء المعجمة وفتح الراء. جمع خربة وهي عروة القربة.
(2) المعتمد كما في الحاشية الأول، ويسن أيضاً أن يجللها، ويتصدق بالجل (أقول الجُل بضم الجيم ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه) ويشقه عن الأسنمة إنْ قلت قيمته لئلا يسقط وليظهر الإِشعار اهـ.
مذاهب العلماء رحمهم الله تعالى في الإِشعار والتقليد
قال في المجموع: مذهبنا استحباب الإِشعار والتقليد في الإِبل والبقر وهو مذهب مالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وداود، وقال أبو حنيفة: الإشعار بدعة ونقل العبدري عنه أنه حرام لأنه تعذيب للحيوان ومثلة، وقد نهى الشرع عنهما.
واحتج أصحابنا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد بُدُن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم أشْعَرَهَا وقَلدها ... الحديث. وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين) ... الحديث.
وأما الجواب عن الإحتجاج بالنهي عن المثلة وعن التعذيب فهو أن ذلك عام وأحاديث الإشعار خاصة فقدمت. اهـ مختصراً.
وقال أيضاً: قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب الإِشعار في صفحة السنام اليمنى وبه قال أحمد وداود، وقال مالك وأبو يوسف يشعرها في الصفحة اليسرى. دليلنا حديث ابن =

(1/325)


النعَمَ وأشْعَرَها لَمْ تَصِرْ هَدْياً وَاجِباً عَلَى المَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ (1) كَمَا لَوْ كَتَبَ الْوَقْفَ عَلَى بَابِ دَارِهِ.
واعْلَمْ أن الأَفْضَلَ سَوْقُ الْهَدْي مِنْ بَلَدِهِ فإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمِنْ طَرِيقِهِ مِنَ الْمِيقَاتِ أو غيره أَوْ مَكَّةَ أوْ منى. وصِفَاتُ الْهَدْي الْمُطْلَق كَصِفَاتِ الأَضْحِيةِ الْمُطْلَقَةِ وَلاَ يُجْزِىء فِيهمَا جَمِيعاً إِلا الجَذَعُ مِنَ الَضأْنِ أو الثني مِنَ الْمَعْزِ أو
__________
= عباس السابق. وقال أيضاً قد ذكرنا أن مذهبنا إشعار البقر مطلقاً، فإنْ كان لها سنام أشعرت فيه، إلاّ ففي موضعه.
وقال مالك: إنْ كان لها سنام أشعرت فيه وإلا فلا إشعار. وقال أيضاً: مذهبنا تقليد الغنم -أي بعرى القرب كما تقدم- للأحاديث السابقة. أقول منها حديث عائشة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أهدى مَرة غنماً مقلدة) رواه مسلم بلفظه والبخاري بمعناه. وقال أبو حنيفة ومالك لا يستحب. اهـ مختصراً.
(1) زاد في المجموع: المشهور الجديد بل يبقى سنة كما قبل الإشعار والتقليد، وفيه قول شاذ أنه يصير واجباً كما لو نذره باللفظ. اهـ. قال في المذهب: وفي القديم إذا أشعر بدنة أو قلدها ونوى أنها هدي أو أضحية صار هدياً أو أضحية، لأنه عليه الصلاة والسلام (أشعر بدنة وقلدها) ولم ينقل عنه أنه قال هدي، فصارت هدياً. وأخرج أبو العباس وجهاً أنه يصير هدياً وأضحية بمجرد النية، ومِنْ أصحابنا مَنْ قال إذا ذبح ونوى صار هدياً وأضحية، والصحيح هو الأول لأنه إزالة ملك يصح بالقول، فلم يصح بغير القول مع القدرة عليه كالوقف والعتق ولأنه لو كتب على باب داره أنها وقف أو على فرسه أنه في سبيل الله لم يصر وقفاً فكذلك ها هنا. اهـ.
قال في مفيد الأنام على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: - ويتعين الهدي أيضاً بتقليده النعل والعرى وآذان القرب بنية كونها هدياً أو إشعاره مع نية الهدي لأن الفعل مع النية يقوم مقام اللفظ إذا كان الفعل يدل على المقصود كمن بنى مسجداً وأذِن للناس في الصلاة فيه. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله يجب الهدي بالشراء مع النية، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختارها شيخ الإسلام وهو قول الإمام مالك رحمه الله تعالى قال: إذا إشتراها بنية الأضحية وجبت كالهدي بالإشعار. اهـ.

(1/326)


الإِبِلِ أو البقَرِ. وَالْجَذَعُ مِنَ الضأنِ مَا لَهُ سنةٌ عَلَى الأصح (1) وقيل سِتةُ أشْهُرٍ وَقِيلَ ثَمانِية وَالثنِي مِنَ الْمَعْزِ مَا لَهُ سَنَتَان (2) وَقِيلَ سَنة وَمِنَ الْبقَر سَنَتَان وَمِنَ الإِبِلِ خَمْسُ سِنِينَ كَامِلَةٍ وَيُجْزىءُ مَا فَوْقَ الْجَذَع وَالثَّنِي وَهُوَ أفْضَلُ وَيُجْزِىءُ الذكَرُ وَالأنْثَى وَلاَ يُجْزِىءُ فِيْهِمَا مَعِيبٌ بعَيْبٍ يُؤثّرُ فِي نَقْصِ اللَّحْمِ تَأْثِيراً بيّناً (3) وَلاَ يُجْزِىءُ مَا قُطعَ مِنْ أذنه جزءٌ بين (4) وُيجْزىءُ الخصيُّ وَذَاهِبُ الْقَرْنِ (5) وَالتي لاَ أسنَانَ لَهَا إِذَا لَمْ تكنْ هَزُلَتْ، وَتُجْزِىءُ الشَّاةُ عَنْ وَاحِدٍ، والْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَة وَالْبقَرةُ عَنْ سَبَعَةٍ سَوَاء كَانُوا أهْلَ بيتٍ وَاحِدٍ أو أَجَانِبَ، ولَوْ كَانَ
__________
(1) أو أسقط مقدم أسنانه قبلها بعد ستة أشهر من ولادته.
(2) ودخل في الثالثة. قال في الحاشية والأوجه أنه يجوز الرجوع في السن لإخبار البائع إذا كان عدلاً وهو من أهل الخبرة أو استنتجه. اهـ.
(3) كيسير جرب وإنْ رجَى زواله أو مرض بين أو عَرَج كذلك بحيث تسبقها الماشية إلى الكلأ الطيب أو عور، وهو ذهاب نور إحدى العينين أو هزال مع ذهاب مخ أو جنون قَللَ رَعْياً بخلاف عمش وكي وإعشاء. اهـ حاشية.
(4) قال في الحاشية: ليس بقيد كما في الروضة وغيرها في الأذن ومثلها كل عضو صغير يظهر فيه النقص اليسير، ومنه اللسان فيما يظهر فيضر إبانة اليسير من ذلك بخلاف ما إذا لم يبن بأن كان متدلياً، فخرج نحو الفخذ وكذا الإلية والضرع فيما يظهر فلا يضر إبانة فلقة يسيرة منه بالإضافة إليه بحيث لا يلوح النقص بها من بعد ويجزىء مخلوقة بلا ضرع أو إلية وكذا مخلوقة بلا ذنب بخلاف مخلوقة بلا أذن سواء فقد أذناها أم إحداهما لأنه عضو لازم غالباً ولا يضر صغر أذن وَرض عرق البيضتين.
(5) أي ومكسورة، وإن سال الدم ما لم يتعيب به لحمه، نعم تكره التضحية بغير أقرن لأنه صح كما في الحاشية (خير الأضحية الكبش الأقرب).
(فائدة): يجزىء الهدي والأضحية بالشرقاء وهي المشوقة الأذن والنهي عن التضحية بها محمول على كراهة التنزيه أو على ما أبين منه شيء بالشرق وإنْ قَل و (الخرقاء) وهي المثقوبه أذنها والجلحاء وهي التي لا قرن لها، والعضباء وهي التي انكسر قرنها، والعصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها. =

(1/327)


بَعْضُهُمْ يُريدُ اللحم وبعضهم يريد الأضْحِيةَ جَازَ (1) وأفْضَلُهَا أحْسَنُهَا وأسمَنُها
__________
= (تنبيه): لو أضجع الذابح الهدي أو الأضحية ليذبحه فحصل نحو عور أو عرج لم يجز كما في الحاشية.
مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى في عيوب الأضحية
قال في المجموع: أجمعوا على أن العمياء لا تُجزىء، وكذا العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها والعجفاء (أي التي ذهب مخها من شدة هزالها). واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته، فمذهبنا أنها تجزىء. قال مالك: إن كانت مكسورة القرن، وهو يدمى لم تجز، وإلا فتجزئه، وقال أحمد: إن ذهب أكثر من نصف قرن لم تجزه سواء دميت أم لا، وإن كان دون النصف أجزأته، وأما مقطوعة الأذن فمذهبنا أنها لا تجزىء سواء قطع كلها أو بعضها، وبه قال مالك، وقال أحمد: إنْ قطع أكثر من النصف لم تجزه وإلا فتجزئه، وقال أبو حنيفة: إنْ قطع أكثر من الثلث لم تجزه وقال أبو يوسف ومحمد: إنْ بقي أكثر من نصف أذنها أجزأته.
وأما مقطوعة بعض الأَلية فلا تجزىء عندنا وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة في رواية إن بقي الثلث أجزأه وفي رواية إنْ بقي أكثرها أجزأت. (وأما) إذا أضجعها ليذبحها فعالجها فاعورت حال الذبح فلا تجزىء، وقال أبو حنيفة وأحمد: تجزىء. والله أعلم. اهـ.
أقول: قال العلامة ابن رشد المالكي في كتابه بداية المجتهد: واختلفوا في الصكاء وهي التي خلقت بلا أذنين فمذهب مالك والشافعي إلا أنها لا تجوز، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقةً جاز كالأجم. اهـ. وفي مفيد الأنام: ويجزىء ما خلق بلا أذن لأن ذلك لا يخل بالمقصود. اهـ.
(1) أي لأن الجزء المجزىء لا ينقص أجره بإرادة الشريك غير القربة، وبه قال الإمام أحمد، وقال الإمام أبو حنيفة: إن كانوا كلهم متقربين جاز. وقال الإمام مالك: لا يجوز الإشراك مطلقاً. كما لا يجوز في الشاة الواحدة، واحتج المجوزون بحديث جابر رضي الله عنه قال: (نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) رواه مسلم. قال في المجموع: وأما قياسه على الشاة فعجب لأن الشاة إنما تجزىء عن واحد والله أعلم.

(1/328)


وأطْيَبُها وأكْمَلُهَا، والأبْيَضُ أَفْضَلُ (1) مِنَ الأَغْبَرِ والأَغْبَرُ (2) أفْضَلُ مِنَ الأبْلَقِ (3) والأبْلَقُ أفْضَلُ مِنَ الأسْوَدِ.
واعْلَمْ أنَّ الشَّاةَ أَفْضَلُ مِنَ المُشَارَكَةِ بِسُبع بَدَنَه (4) قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تعالى: وشاةٌ جيدةٌ سَمِينَةٌ أفضَلُ من شاتَيْنِ بقيمتِها بخلافِ العتْقِ فإنّ عِتْقَ عَبْدَيْنِ خَسِيسَيْنِ أفضَلُ مِن عتْقِ عبد نَفِيس بقيمَتِهما والْفَرْقُ ظَاهِرٌ فَإن الغَرَضَ في الأضْحِيةِ طِيبُ المأكُولِ وَفِي الْعِتْقِ التَّخْلِيصُ مِنَ الرِق.
__________
(1) لما رواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (دم الشاة البيضاء عند الله أزكى من دم السوداوين).
(2) قال في الحاشية: الأغبر الذي يعلو بياضه حمرة ودليل فضله ما رواه أحمد وغيره مرفوعاً: دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين، ومنه يفهم أن اللون كلما بعد عن السواد، وقرب من البياض كان أفضل ومن ثم ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين.
قال الرافعي وغيره تبعاً لبعض اللغويين (الأملح) الذي بياضه أغلب من سواده. وقال ابن جماعة: والمشهور في اللغة أن الملحة بياض يخالطه سواد من غير اشتراط كون البياض أغلب.
وفي البيان عن ثعلب أن الأملح الأبيض الشديد البياض. وعليه فلا إشكال في تقديمهم البيضاء لكن اختار ابن سراقة أن الأملح الذي يأكل في سواد ويبصر فيه ويمشي فيه أفضل مطلقاً أخذاً من حديث عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد ويبرك في سواد، وينظر في سواد فأتى به ليضحي به، الحديث. ومعنى يطأ ويبرك وينظر في سواد أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود، ويحمل عدوله - صلى الله عليه وسلم - عن الأبيض إلى الأملح على الأول فقد يجاب بأنه تعسر وجوده وحكمة أفضلية الأبيض تعبد عند الإمام الشافعي رضي الله عنه وقيل لحسن منظره، وقيل لطيب لحمه والله أعلم. اهـ مختصراً.
(3) أي الذي بعضه أبيض وبعضه أسود كما في شرح مسلم للنووي رحمه الله تعالى.
(4) أي أو بقرة لأن إراقة الدم مقصودة في الأضحية، والمنفرد تقرب بإراقته كله فصار أفضل من المتقرب بسبع بدنة أو سبع بقرة لأن المضحي بالسبع لم يتقرب إلا بشرك في دم والله أعلم.

(1/329)


(فرع): لو نَذَرَ شَاةً أضْحيةَ ثُمَّ حَدَثَ بها عَيْب يُنْقِصُ اللحْم لَمْ يُبَالِ بِهِ بَلْ يَذْبَحُهَا عَلى مَا هِيَ عَلَيْهِ ويُجْزِىء. هَذَا هُوَ المَذْهَبُ الصَّحيحُ عِنْدَ أصْحَابِنَا (1) وَشَذَّ أبو جَعْفَرِ الأسْتَرَابَاذِيُّ مِنْ أصْحَابِنَا فَقَالَ: عَلَيْهِ إبْدَالُها بِسَلِيمَةٍ (2)، وَهَذَا ضَعِيفٌ مَرْدُود (3) وَلَوْ وَلَدَتِ الأضْحِيةُ أو الْهَدْيُ المَنذُورَانِ لَزِمَهُ ذَبْحُ الوَلَد مَعَهَا (4) سَوَاء كَانَ حَمْلاً يَوْمَ النَّذْرِ أوْ حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَه (5) وَلَهُ أنْ يَرْكَبَهَا (6) وَيَشْرَبَ مِنْ لَبِنَهَا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا (7) وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صُوفٌ لاَ
__________
(1) وبه قال الإمامان مالك وأحمد وذلك لما رواه البيهقي رحمه الله تعالى عن ابن الزبير رضي الله عنهما أنه أتى في هداياه بناقة عوراء فقال: (إن كان أصابها بعدما اشتريتموها فامضوها، وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فابدلوها).
(2) وبه قال الإمام أبو حنيفة.
(3) قال في المجموع أي لأنه لم يلتزم في ذمته شيئاً، وإنما التزم هذا فإذا تعيب من غير تفريط لم يلزمه شيء كما لو تلف والله أعلم.
(4) أي ويحرم عليه الأكل منه.
(5) بهذا قال الإمام أحمد وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: (لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها) ولأن النذر معنى يزيل الملك فاستتبع الولد كالبيع أو العتق فيثبت له ما يثبت لأمه، وإذا لم يطق ولد الهدي المشي حمل على أمه أو غيرها إلى الحرم والله أعلم.
(6) أي أو يعيرها لمن يركبها لا إجارتها، وله أن يحمل عليها أيضاً. ويشترط في الركوب والإرتكاب والحمل الإِطاقة، وعدم التضرر به ولا يجوز الركوب والحمل عليها إلا لحاجة لحديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجِئْت إليها حتى تجد ظهراً" رواه مسلم. وبه قال الإمام مالك في رواية وقال الإمام أحمد ومالك في رواية: له ركوبها من غير حاجة بحيث لا يضرها، وقال الإمام أبو حنيفة: لا يركبها إلا إن لم يجد منه بدَّاً.
(7) أي عن كفايته بحيث لا يحصل للولد ضرر وذلك لما رواه البيهقي عن علي =

(1/330)


مَنْفَعَة لَهَا فِي جَزّهِ ولا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي تَرْكِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ جَزهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا فِي بقَائِهِ ضَرَرٌ جَازَ له جَزهُ وَيَنْتَفعُ بِهِ (1) فَلَوْ تَصَدَقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ.
(فرع): وُيسْتَحَب لِلرّجُلِ أنْ يَتَوَلَّى ذبْحَ هَدْيِهِ وأُضْحِيتِهِ بِنَفْسِهِ (2) ويُسْتَحَب للمَرأة (3) أنْ تَسْتَنِيبَ رَجُلاً يَذْبَحُ عَنْهَا وَيَنْوِي عِنْدَ ذَبْحِ الأضْحِيةِ أو الْهَدْيِ الْمَنْذُورَيْنِ أَنهُمَا ذَبِيحَةٌ عَنْ هَدْيِهِ المنْذُورِ أوْ أُضْحِيَتِهِ المنذُورَةِ وإنْ كَانَتْ تَطَوُّعاَ نَوَى التَّقَرُّبَ بِهَا إِلَى الله تَعَالَى وَلَوْ اسْتَنَابَ فِي ذَبْحِ هَدْيِهِ وَأضحِيَتِهِ جَازَ وَيُسْتَحَب أنْ يَحْضُرَ صَاحِبُهَا عِنْدَ الذبْحِ (4) والأَفْضَلُ أن يكونَ النَّائبُ مُسْلماً ذَكَراً (5) فَإِنْ اسْتَنَابَ كافراً
__________
= كرم الله وجهه ورضي عنه أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: (لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها) وبه قال الإمام أحمد، وقال الإمام أبو حنيفة: لا يجوز أي شرب لبنها بل ينضح ضرعها بالماء ليخف اللبن، فإذا حلبها تصدق به ... وفي شرح الزرقاني على الموطأ: وكرهه مالك في حال الاختيار ولو فضل عن رِيِّهِ لأنه نوع من الرجوع في الصدقة وليتصدق بما فضل. ومحل الكراهة حيث لا ضرر وإلا لزم إن أضرها أو فصيلها بشربه أرش النقص أو البدل إن حصل تلف.
(1) أي من غير نحو بيع أخذاً مما قالوه في نظيره من اللبن وبهذا قال الإمام أحمد.
(2) أي لأنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أملحين ذبحهما بيده الشريفة وسَمَّى وكبَّر، ونحر من البدن التي أهداها في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة بيده.
(3) أي والخنثى وكل من ضعف عن الذبح لنحو مرض وإن أمكنه الإِتيان به ويتأكد استحبابه للأعمى لكراهة ذكاته ولا تكره ذكاة الحائض والنفساء وإن كانت خلاف الأولى.
(4) كما رواه البيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة رضي الله عنها "قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنبك".
(5) أي ففيها بباب الضحايا وما يتعلق بها من خيار المسلمين لأنهم أولى بالقيام بالقرب.

(1/331)


كِتَابِيَّاً (1) أو امرأةَ صَحَّ لأَنهُمَا من أَهْلِ الذكَاةِ (2) وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ والنُّفَسَاءُ (3) أولى مِنَ الْكَافِرِ وَيَنْوِي صَاحِبُ الْهَدْي أو الأضْحية عِنْدَ الدفْع إِلَى الْوَكِيلِ أوْ عِنْدَ ذَبْحِهِ فَإِنْ فَوَّض إِلَى الوَكيلِ جَازَ إِنْ كَانَ مُسْلِماً (4).
فَإِنْ كَانَ كافِراً لم يَصِحَّ لأَنهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النية فِي الْعِبادَاتِ بَلْ يَنْوِي صَاحِبها عِنْدَ دَفْعِهَا إلَيْهِ أَوْ عِنْدَ ذَبْحِهِ (5).
(فرع): ويُسْتَحَب أَنْ يُوَجهَ مَذْبَحَ الذبيحَةِ (6) إِلَى الْقِبْلَةِ وَأنْ يُسَمِّيَ (7) الله
__________
(1) أي لا مجوسياً ولا وثنياً ولا متولداً بين كتابي وغيره ولا مرتداً بشرط أن يكون ذبح الكتابي على الوجه الشرعي لعدم صحة ذبح هؤلاء.
(2) وإنْ كره توكيل الذمي عند الثلاثة، وقال الإمام مالك لا تجوز استنابة الذمي ولا تكون أضحية.
(3) أي والصبي الأعمى.
(4) أي مميزاً.
(5) أو عند تعيين الأضحية ولو قبل الوقت لجواز تقديم النية قبله كما في الصوم ولا حاجة لنية الوكيل بل لو لم يعلم أنه مضح لم يضر، وكالأضحية في ذلك سائر الدماء الواجبة ولا يكفي التعيين ابتداءً أو عما في الذمة عن النية والله أعلم.
(6) أي لا وجهها لتمكنه من الاستقبال. (فإنْ قيل): لِمَ لَمْ يكره استقبال القبلة عند الذبح كما يكره عند التبول أو التغوط بجامع إخراج النجاسة جهتها.
(أجيب): حالة الذبح حالة عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى وإنْ كان في غير أضحية، ولذا ندب ذكر اسمه تعالى بخلاف حالة التبول والتغوط والله أعلم.
(7) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إن ترك الذابح التسمية عمداً لم تؤكل ذبيحته، وإن تركها ناسياً أكلت، وقال الإمام مالك: إن تعمد تركها لم تبح، وإن تركها ناسياً ففيه روايتان وهو مذهب الإمام أحمد. وعن مالكْ رواية ثالثة تحل مطلقاً سواء تركها عمداً أو سهواً وعند أصحابه أن تارك التسمية عمداً غير متأول لا تؤكل ذبيحته ومنهم مَن يقول أنها سُنة واحتج لمن شرط التسمية بآية {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. واحتج الشافعية بآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إلى قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فأباح الله تعالى المُذَكى ولم يذكر التسمية. فإنْ قيل: لا يكون مذكى إلا بالتسمية. =

(1/332)


تَعَالَى عِنْدَ الذبْحِ ويُصَلِّيَ عَلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَيقُولُ: باسْمِ الله وَالله أَكْبَرُ (1)
وَصَلى الله عَلَى رَسُولِهِ محمد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَمَ: "اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإلَيْكَ فَتَقَبلْ مِني" (2) أوْ وَيقولُ: تَقَبل مِنْ فُلاَن صاحِبها (3) إنْ كَانَ يَذْبَحُ عَنْ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ واجبٌ وَهَدِيٌ تَطَوُّعٌ فالأفْضَلُ أنْ يَبْدَأَ بِالْوَاجِبِ لأَنَّهُ أَهَمُّ وَالثوابُ فِيهِ أَكْثَرُ.
__________
= (أجيب): الذكاة في اللغة: الشق والفتح. وقد وجدا وأيضاً بآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]. فأباح الله تعالى ذبائحهم ولم يشترط التسمية. وبحديث عائشة رضي الله عنها ... قالوا يا رسول الله إن قوماً حديثوا عهد بالجاهلية يأتون بلُحمان لا ندري أذَكَروا اسم الله عليه أم لم يذكروا فنأكل منها؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَمُّوا وكلوا" رواه البخاري في صحيحه، وبحديث الصلت الذي ذكره أبو داود والبيهقي في المراسيل (ذبيحة المسلم حلال ذكر الله أو لم يذكر).
وأجاب الشافعية عن الآية التي احتج بها مَنْ اشترط التسمية أن المراد ما ذُبِح للأصنام كما قال تعالى في الآية الأُخرى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل: 115] ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وقد أجمعت الأمة على أنَّ من أكَلَ متروك التسمية ليس بفاسق فوجب حملها على ما ذكرناه. ويجمع بينها وبين الآيات السابقات مع حديث عائشة رضي الله عنها كما في المجموع.
قال الإمامان أبو حنيفة ومالك رحمهما الله بكراهتها عند الذبح. وقال الإمام أحمد: ليست بمشروعة.
(1) لما رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - (سَمى وكَبر). هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم قال: (باسم الله والله كبر).
(2) لما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه (ليجعل أحدكم ذبيحته بينه وبين القبلة، ثم يقول: مِنَ الله، وإلى الله والله كبر، اللهم منكَ ولكَ، اللهم تقبلْ مني).
(3) لما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح كَبْشاً وقال: "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم ضَحى به. والحنابلة كالشافعية. =

(1/333)


(فرع): لَوْ ضَحى عَنْ غَيْرِهِ (1) بِغَيْرِ إِذْنِهِ أوْ عَنْ مَيتٍ (2) لا يقَعُ عَنْهُ إِلا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْصَاهُ الْمَيتُ (3) وَلاَ يقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ أيْضاً لأَنَهُ لَمْ يَنْوهَا عَنْ نَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ يكُونَ جَعَلَها مَنْذُورَةً (4).
(فرع): وَلاَ يَجُوزُ بيعُ شيء من الأضْحية ولا الهدي سواء كَانَ وَاجِباً أو
__________
= وقال الإمامان أبو حنيفة ومالك يكره أن يقول: (اللهم منك ولك فتقبل مني) والله أعلم.
(1) أي من الأحياء سواء كان المُضَحي عالماً أو جاهلاً.
(2) أي بلا وصية منه.
(3) أي لحديث علي رضي الله عنه أنه كان يضحي بكبشين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبكبشين عن نفسه. وقال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أضَحيَ عنه أبداً فأنا أضحي عنه أبداً) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي رحمهم الله تعالى. وأطلق أبو الحسن العبادي -من الشافعية- جواز التضحية عنْ الميت لأنها ضرب من الصدقة، والصدقة تصح عن الميت وتنفعه وتصل إليه بالإجماع.
قال القنوجي في شرح المنتهى كما في مفيد الأنام للشيخ عبد الله بن جاسر الحنبلي: والتضحية عن ميت أفضل منها عن حَي لعجزه واحتياجه لثواب. اهـ.
أقول: ظاهره أن الحنابلة لا يشترطون أنْ يوصي الميت بها فمذهبهم موافق لمذهب العبادي من الشافعية.
وزدت في التحقيق فسألت شيخنا العلامة عبد الله بن محمد بن حميد الحنبلي، فأجاب بقوله: الحنابلة لا يشترطون وصية الميت بها. واستدل بحديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح كبشاً وقال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى به) رواه مسلم. أقول -كما في المجموع-: الشافعية يحملون هذا الحديث على مَنْ ذبح عن نفسه أضحية، واشترط غيره في ثوابها.
(4) نذراً مطلقاً فتقع عن المضحي، أما لو قيده بالذبح عن فلان، فإنه باطل فتصير كغير المنذورة. ولو ذبح عن نفسه واشترط غيره في ثوابها جاز. وأيضاً له الذبح عنه، وعن أهل بيته لحديث عائشة رضي الله عنها المشهور (أنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح كبشاً وقال بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد ثم ضحى به) رواه مسلم.

(1/334)


تَطَوعاً فَيَحْرُمُ بيعُ شيء مِنْ لَحْمِهَا وجلْدِهَا وشحمهَا وغيرِ ذَلِكَ مِنْ أجْزائَها فإنْ كانَت وَاجبةَ وَجَب التصدُّقُ بجلدِهَا وَغَيْرِهِ مِنْ أجْزَائِهَا (1) وَإنْ كَانَتْ تَطَوّعاً جَازَ الانتفَاعُ بِجِلْدِهَا (2) وادّخَارُ شَحْمِهَا وَبَعْضِ لَحْمِهَا لِلأكلِ والْهَدِيةِ (3).
__________
(1) لحديث علي رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم بلفظه قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه فأقسم جلالها (بكسر الجيم وتخفيف اللام: هو ما يُطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه) وجلودها وأمرني أن لا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: (نحن نعطيه من عندنا).
(2) أي دون نحو بيعه وإعطائه أجرة للجزار، بل هي على المضحِّي والمهدي كمؤنة الحصاد، ولا يجوز أيضاً بيع جلد الأضحية والهدي ولا غيره من أجزائها لا بما ينتفع به في البيت ولا بغيره. هذا مذهب الشافعية. وبه قال مالك وأحمد، ورواية أخرى عن أحمد أنه لا بأس في بيع الجلد والتصدق بثمنه، وحكي عن أبي حنيفة أنه يُجَوز بيع الأضحية قبل ذبحها، وبيع ما شاء منها بعد ذبحها ويتصدق بثمنه، وإن باع جلدها بآلة البيت جاز الانتفاع بها دليل الشافعية حديث علي رضي الله عنه. اهـ من المجموع مختصراً.
(3) قال في الحاشية: إنما عَبر به لأنه يجب التصدُّق في المتطوع بها بجزء يُطْلق عليه الاسم من لحمها ولحم ولدها المذبوح معها ويجب كونه غير تافه أي عرفاً فيما يظهر ونيئاً وصدقة على مسلم فلا يكفي نحو قديد، كما بحثه البلقيني وحمله غيره على ما إذا قصرَ بتأخيره ولا غير لحم من نحو كرش وكبد، ولو أكل الكل ضمن القدْر الواجب. قيل شقصاً من أضحية يتصدق به، وقيل يكفي شراء اللحم والتصدُّقُ به، وله تأخير تفرقته عن أيام التشريق. ويجوز الادّخار من لحوم الأضاحي حال الجدْب والسعة لخبر مسلم: (ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضحيته ثم قال لثوبان: أصلح لحم هذه. فلم أزل أُطْعِمُه حتى دخل المدينة). والنهي عنه منسوخ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة ليتسع ذو الطوْل على من لا طوْلَ له، فكلوا ما بدا لكم، وأطعموا وادخروا" رواه مسلم وغيره. ومَنْ أراد أن يضحي بعدد فالأفضل أنْ يذبح الكل يوم النحر للاتباع.
وتُسَن الأضحية ولو لمن معه هَدْي، ولو مات المضحي وعنده شيء من لحم الأضحية فللوارث أكله وإهداؤه، ولا يورث عنه وله ولاية التفرقة كمورثه. وإذا لم يطق =

(1/335)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= ولد الهدي المشي حمل على أمه أو غيرها إلى الحرم كما تقدم. ولا يجوز نقل الأضحية كالزكاة لتشوف المستحقين لهما بخلاف النذر والكفارة إذ لا شعور للفقراء بهما حتى تمتد أطماعهم إليهما. اهـ بتصرف.
أقول هذا القول الذي عَللَ وفَرق به المحَشي رحمه الله تعالى عدم جواز نقل الأضحية كالزكاة، هو ما عَللَ وفَرق به العلامة ابن العماد رحمه الله تعالى -كما في إعانة الطالبين- وإليك ما جاء فيها:
(تنبيه): جَزَمَ في النهاية بحُرْمة نقل الأضحية. وعبارتها: ويمتنع نقلها عن بلد الأضحية كالزكاة. اهـ. وكتب العلامة علي السبراملسي قوله: ويمتنع نقلها -أي الأضحية- مطلقاً سواء المندوبة والواجبة، والمراد من المندوبة حرمة نَقْل ما يجب التصَدق به منها وقضية قوله كالزكاة أنه يحرم النقل من داخل السور إلى خارجه وعكسه. اهـ. وذكر في الأسنى خلافاً في جواز النقل وعبارته من الأصل: ونقلها من بلد -أي من بلد الأضحية- إلى آخر كنقل الزكاة قال في المهمات: وهذا يُشْعِرُ بترجيح منع نقلها. لكن الصحيح الجواز، فقد صححا في قسم الصدقات جواز نقل المنذورة والأضحية فرد من أفرادها. وضعفه ابن العماد. وفَرق بأن الأضحية تمتد إليها أطماع الفقراء لأنها مؤقتة بوقت كالزكاة بخلاف المنذورة. والكفارات لا شعور للفقراء بها حتى تمتد أطماعهم إليها. اهـ. ثم إنه عُلِمَ مما تقرر أن الممنوع نقله هو ما عين للأضحية بنذر أو جعل أو القدر الذي يجب التصدق به من اللحم في الأضحية المندوبة.
وأما نقل دراهم من بلد إلى بلد أخرى ليشتري بها أضحية، فهو جائز، وقد وقفت على سؤال وجواب يؤيد ما ذكرناه لمفتي السادة الشافعية بمكة المحمية (وصورة السؤال: ما قولكم -دام فضلكم- هل يجوز نقل الأضحية من بلد إلى بلد آخر أم لا؟، وإذا قلتم بالجواز فهل هو متفق عليه عند ابن حجر والرملي أم لا؟ ... وهل منْ نَقْل الأضحية إرسال دراهم من بلد إلى آخر ليشتري أضحية وتذبح في البلد الآخر أم لا؟. وهل العقيقة كالأضحية أم لا؟. بينوا لنا ذلك بالنص والنقل فإن المسألة واقعٌ فيها اختلاف كثير، ولكم الأجر والثواب.
(وصورة الجواب: الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم هداية للصواب. في فتاوى العلامة الشيخ محمد بن سليمان الكردي محشي شرح ابن حجر على المختصر ما نصه: سئل رحمه الله تعالى: جرت عادة أهل بلد جاوى =

(1/336)


(فرع): في وَقْت ذَبْحِ الأضْحيةِ وَالْهَدْي (1) الْمُتَطَوع بِهِمَا وَالمُنْذُورَيْن فَيَدْخُلُ وَقْتُهُمَا إِذَا مَضَى قَدر صَلاَةِ الْعِيدِ وَخُطْبَتيْنِ مُعْتَدِلتيْنِ بَعْدَ طُلُوعِ الشّمس يَوْمَ النَّحْرِ سَوَاء صَلَّى الإِمَامُ أمْ لم يُصَل وَسَوَاء صَلى الْمُضَحّي أمْ لَمْ يُصَلِّ وَيَبْقَى إِلَى غُرُوبِ الشَمْسِ مِنْ آخِرِ أيامِ التشْرِيقِ (2) وَيَجُوزُ فِي الليْلِ لَكِنَّهُ
__________
= على توكيل من يشتري لهم النعم في مكة للعقيقة أو الأضحية ويذبحه في مكة. والحال أن مَنْ يعُق أو يضحى عنه في بلد جاوى فهل يصح ذلك أو لا؟. أفتونا).
الجواب: نعم يصح ذلك ويجوز التوكيل في شراء الأضحية والعقيقة وفي ذبحها ولو في بلد غير بلد المضحي والعاق كما أطلقوه. فقد صَرح أئمتنا بجواز توكيل مَنْ تحل ذبيحته في ذبح الأضحية. وصَرحَوا بجواز التوكيل أو الوصية في شراء النعم وذبحها. وأنه يُسْتحب حضور المضحي أضحيته ولا يجب. وألحقوا العقيقة في الأحكام بالأضحية إلا ما استثنى وليس هذا مما استثنوه فيكون حكمه حكم الأضحية في ذلك، وبينوا تفاريع هذه المسألة في كل مِنْ باب الوكالة والإجارة فراجعه. وقد كان عليه الصلاة والسلام يبعث الهَدي من المدينة يذبح له بمكة. ففي الصحيحين قالت عائشة رضي الله عنها: أنا فتلْت قلائدَ هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم قلدها النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ثم بعث بها مع أبي بكر رضي الله عنه. وبالجملة فكلام أئمتنا يفيد صحة ما ذكر تصريحاً وتلويحاً متوناً وشروحاً. والله أعلم. اهـ ما في فتاوى العلامة الكردي المذكور. ومنه يتضح المقصود والمراد والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ ...
(1) أي لا هدي من ساقه في عمرته ليذبحه عقب تحلله، فلا يجب تأخيره ليوم النحر وما بعده لأنه - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ هَدْيه في عمرة القضاء عند إنقضاء سعيه وكانت في ذي القعدة سنة سبع من الهجرة.
(2) أي الثلاثة. وقال الأئمة الثلاثة يختص بيوم النحر ويومين بعده، ورواية عن أحمد كالشافعي كما تقدم. واشترط الأئمة الثلاثة لصحة الأضحية أن يصلي الإمام ويخطب إلا أن أبا حنيفة قال: يجوز لأهل القرى والبوادي أن يضحوا إذا طلع الفجر الثاني كما تقدم. واحتج الأئمة الثلاثة بحديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم النحر فقال: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر. فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا. ومن ذبح قبل أنْ نصلي فإنما هو لحم عجله لأهل بيته، ليس من النسك في شيء" رواه البخاري ومسلم. وفي روايات (قبل الصلاة). =

(1/337)


مَكْرُوه (1) وَالأَفْضَلُ أَنْ يَذْبَحَ عقِيبَ رَمْي جَمْرَةِ الْعَقَبةِ قَبْلَ الْحَلْقِ فَإِنْ فَاتَ الْوَقْت الْمَذْكُورِ فَإِنْ كَانَتْ الأضْحِيةُ أَوِ الْهَدْي مَنْذُورَيْنِ (2) لَزِمَهُ ذَبْحُهُمَا (3) وَإنْ كَانَ تَطَوُّعاً فَقَدْ فَاتَ الْهَدْيُ وَالأضْحِيَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَأَمَّا الدماءُ الْوَاجِبةُ فِي الْحَج بِسَبَبِ التمَتع أَوْ الْقِرَانِ أَوِ اللبسِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلٍ مَحْظُورٍ أو تَرْكِ مأمُورِ فَوْقتُها مِنْ حِين وُجُوبِهَا بِوُجُودِ سَبَبهَا (4) وَلاَ تَخْتص بيوْمِ النَّحْرِ وَلاَ غَيْرِهِ لَكن الأَفْضَلُ فِيما يَجِبُ مِنْها فِي الْحَجّ أَنْ يَذْبَحَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمنىً في وَقْتِ الأضْحِيَةِ.
(فرع): السُّنَّةُ في البقَرِ والْغَنَم (5) الذبْحُ مُضَّجِعَة عَلَى جَنْبِهَا الأَيْسَرِ (6) مُسْتَقْبِلَةً (7) وَفِي الإِبِلِ النَّحْرُ وَهُوَ أنْ يَطْعَنَهَا بِسِكين أوْ حَربة أوْ نَحْوهِمَا فِي
__________
= واحتج الشافعية بهذه الأحاديث المذكورة. قالوا: والمراد بها التقدير بالزمان لا بفعل الصلاة، لأن التقدير بالزمان أشبه بمواقيت الصلاة وغيرها، ولأنه أضبط للناس في الأمصار والقرى والبوادي.
(1) وبه قال أبو حنيفة. وهو الأصح عن أحمد وقال مالك: لا يجزئه الذبح ليلاً بل تكون شاة لحم، وهي رواية عن أحمد.
(2) مثلهما كما في المجموع والحاشية ما لو قال: جعلت هذه أضحية أو نحوه.
(3) أي قضاء. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا تقضى وتسقط.
(4) قد يجوز تقديم بعضها على أحد سببيه كدم التمتع فإنه وجب بسببين: فراغ العمرة، والإِحرام بالحج. فيجوز إراقته بعد فراغها خلافاً للأئمة الثلاثة رحمنا الله وإياهم والمسلمين آمين فعندهم: لا يجوز إراقته إلا بعد صلاة عيد النحر بمنى وهو الأفضل عند الشافعية.
(5) أي ونحوها كالخيل والحمر الوحشية.
(6) يسن أيضاً كما في الحاشية أن يشد قوائمها إلا الرجل اليمنى لتستريح بتحريكها.
(7) أي القبلة لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ضَحُّوا وطيبوا =

(1/338)


ثَغْرَةِ نَحْرِهَا وَهِيَ الْوَهْدَةُ الَّتي في أصْل الْعُنُقِ وَالأوْلَى أَنْ تكُونَ قَائِمة
__________
= أنفسكم فإنه ما من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات في ميزانه يوم القيامة" رواه البيهقي رحمه الله تعالى.
(فروع): أجمع الأئمة رحمهم الله تعالى ورحمنا معهم وجميع الأمة على أن الذكاة تصح بكل ما ينهر الدم ويحصل به القطع من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب له حد يقطع كما يقطع السلاح المحدد، واختلفوا في الذكاة بالسن والظفر. فقال الثلاثة: لا تصح الذكاة بهما. وقال أبو حنيفة: تصح إذا كانا منفصلين. والمجزىء في الزكاة قطع الحلقوم، (هو مجرى النَّفس) والمريء (هو مجرى الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم)، ولا يجب قطع الودجين (هما عرقان في صفحتي العنق) بل يستحب عند الشافعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة يجزىء قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين وقال مالك: يجب قطع جميع الأربعة: الحلقوم والمريء والودجان، ولا تحْرم إبانة الرأس بالاتفاق بل تكره قبل مفارقة الروح كما يكره أيضاً سلخها، ونقلها، وإمساكها عن الاضطراب، ومثل ذلك كسر فقارها وقطْع عضو منها، وتحريكها، ويسن أن تُسْقَى وتُسَاقَ وتضجع برفق وألا تحد الشفرة ولا تذبح غيرها قبالتها.
ويشترط في الذبح قطع الحلقوم والمريء قطعاً خالصاً والحياة مستقرة. وتعرف بالحركة الشديدة بعد الذبح مع خروج الدم بتدفق الرأس فلو اختطف الرأس بنحو بندقية، أو بقيَ يسير من الحلقوم أو المريء أو قطع بعد رفع السكين ما بقي بعد إنتهائه إلى حركة المذبوح لم يحل.
ويعصي بالذبح من القفا وصفحة العنق وبإدخال السكين في الأذن. فإن وصل المذبح في كل والحياة مستقرة فقطعهما حَلَّ عند الشافعي وأبي حنيفة، وإنْ لم يقطع جلدتهما، وقال مالك وأحمد: لا يحل ولا يضر عدم استقرارها بعد الشروع في القطع بأن انتهى بعد الشروع فيه إلى حركة المذبوح لما ناله بسبب قطع القفا والصفحة وإدخال السكين في الأذن بخلاف ما لو تأنى في الذبح فلم يتمه حتى ذهب استقرارها لأنه مقصر، ولو ذبح وأخرج آخر أمعاءها مثلاً معاً لم تحل، ولو جز اثنان الرقبة معاً بسكينين من القفا والحلقوم حتى التقيا فهي ميتة، وكذا المذبوحة بسكين مسمومة بسم موح ولو جرح حيوان أو سقط عليه سقف مثلاً. فإنْ بقيت فيه حياة مستقرة وذبحه حَل، وإن عَلِمَ هَلاكه بعد زمن يسير وإلا فلا، ولو شك في استقرارها حرم ولو لم يصبه شيء مما ذكر بل =

(1/339)


مَعْقُولة (1) فَلَوْ خَالَفَ فنَحَر البقَرَ والغَنَمَ وَذَبَحَ الإِبِلَ بَارِكَةً أوْ مُضْجَعَة جَازَ وَكَانَ تَارِكاً لِلأَفْضَلِ.
(فرع): لا يَجُوزُ أنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَنْذُورِ (2) شَيْئاً أصْلاً وَيَجِبُ تَفْرِيقُ جَميع لَحْمِهِ (3) وَأجْزَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا التطَوُّعُ فَلَهُ أنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَيُهْدِي (4) كَمَا سَبقَ وَالسُّنة أَنْ يَأْكُلَ مِنْ كَبِدِ ذَبِيحَتِهِ أوْ لَحْمِهَا شَيْئاً قَبْلَ الإفَاضَةِ إِلَى مَكَّةَ (5).
(فرع): قَالَ الشافِعِي رَحِمهُ الله تَعَالَى: الحرمُ كُلّهُ مَنْحَرٌ حَيْثُ نَحَرَ مِنْهُ
__________
= مرض ولو بأكله نباتاً مضراً أو جاع فذبح وقد صار إلى آخر رَمَق حَل لأنه لم يوجد سبب يحال الهلاك عليه. اهـ حاشية بزيادة واختصار.
(1) أي اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها للاتباع.
(2) أي اتفاقاً بين الأئمة الأربعة.
(3) نيئاً كما تقدم.
(4) يجوز أن يهدي لغني من غير الواجبة ليأكله ويهديه لا ليتصرف فيه ببيع ونحوه فإنه يحرم على الغني ذلك كالمضحي بخلاف الفقير. فإذا ملك من الواجبة وغيرها شيئاً جاز له التصرف فيه بالبيع ونحوه.
(تنبيه): قال في المجموع: الأكل من أضحية التطوع وهديه سُنَّة ليس بواجب. هذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور. وأوجبه بعض السلف. وهو وجه لنا. وممن استحب أنْ يأكل ثلثاً ويتصدق بثلث ويهدي ثلثاً ابن مسعود وعطاء وأحمد وإسحاق. اهـ.
أقول: استحباب أكل ثلث والتصدق بثلث وإهداء ثلث هو القول الجديد للشافعي في القدْر الذي يتصدق به، والقديم أكل النصف والتصدق بالنصف.
والمرجح التصدق بجميعها إلا لقماً يتبرك بأكلها لما في حديث جابر رضي الله عنه: (وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلها في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها) قال في المجموع وإنما أخذ بضعة من كل بدنة وشرب من مرقها ليكون قد تناول من كل واحدة شيئاً. اهـ.
(5) محله كما أفادته الإضافة إن ذبح عن نفسه وإلا امتنع الأكل بغير إذن المنوب عنه إنْ كان حياً بخلاف الميت الموصي بها لتعذر إذنه والله أعلم.

(1/340)


أجزَأَهُ فِي الْحَج والعُمْرة (1) لكن السُّنة في الحج (2) أنْ يَنْحَرَ بمنىً لأَنَّهَا مَوْضِعُ تَحَلُّلِهِ وَفِي الْعُمْرة بِمَكَّةَ وأَفْضَلُها عِنْدَ الْمَرْوَةِ لأَنَهَا مَوْضِعُ تحللِهِ.
(فرع): لَوْ عَطَبَ الهَدْيُ في الطَّريقِ فَإِنْ كَانَ تَطَوعاً فَعَلَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيع وَأكْلٍ وَغَيْرِهما (3) وَإنْ كَانَ وَاجباً لَزمَهُ ذَبْحُهُ فَإِنْ تَرَكَهُ فَمَاتَ ضَمِنَهُ (4) وَإِذَا.
ذَبَحُهُ غَمَسَ النَّعْل (5) التي قَلدَهُ بِهَا فِي دَمِهِ وَضَرَبَ بِهَا سَنَامَهُ وَتَرَكَه (6) ليَعْلَمَ مَنْ مَرّ بِهِ أنهُ هَدْي فَيَأْكُلَ مِنْهُ وَلاَ يَتَوَقفُ إِبَاحَةُ الأَكْل منهُ عَلَى قَوْلهِ أَبحْتُه عَلَى الأصَح وَلاَ يَجُوزُ لِلْمَهْدِي ولا لأحد مِنْ رِفْقَتِهِ الأغنياء وَلاَ الفقراء الأكْلُ مِنْه (7).
__________
(1) الدم الواجب للإحرام كالتمتع والقران والطيب واللبس وجزاء الصيد يجب ذبحه بالحرم وصرفه إلى مساكينه لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وهو مذهب أحمد إلا أنه استثنى فدية الأذى فتجوز في الموضع الذي حلق فيه المحرم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية ولم يأمره ببعثها إلى الحرم. وقال الشافعي: لا يجوز إلا في الحرم لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وقال مالك كما في كتاب (رحمة الأمة): الدم الواجب للإحرام لا يختص بمكان. اهـ. وقال ابن قدامة في مغنيه: وقال مالك وأبو حنيفة: إذا ذبحها -أي الفدية- في الحَرَمِ جاز تفرقة لحمها في الحل. اهـ.
(2) أي ولو للمتمتع.
(3) أي لأنه ملكه ولا شيء عليه في كل ذلك كما في المجموع.
(4) أي كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت.
(5) أي إن قلده وبقي ما قلده به وإلا يسن تلويث سنامه بشيء من دمه بأي طريق أمكن. وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى جرى على الغالب كما في الحاشية.
(6) أي في موضعه.
(7) أي لحديث مسلم بسنده عن أبي قبيصة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: "إنْ عطب منها شيء فخشيتَ عليه موتاً فانْحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمه أنت ولا أحد من أهل رفقتك". =

(1/341)


الثالِثُ مِنَ الأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ يَوْم النحْرِ بِمنى الْحَلْقُ
فَإذَا فَرَغَ مِنَ النَّحْرِ حَلَقَ رَأسَهُ كُلهُ أَوْ قَصَّرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ أَيهما فَعَلَ أَجْزَأَه (1) وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ (2).
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ قَوْلَين لِلشَّافِعِيّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَحدهُمَا أَنهُ استبَاحَةُ مَحْظُور مَعْنَاهُ أَنهُ لَيْسَ بِنُسُك وَإِنما هُوَ شَيْء أبِيحَ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحرماً كَاللبَاسِ وَتَقْلِيم الأظْفَارِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِهَا (3)، وَالْقَوْلُ الثانِي وَهُوَ
__________
= والمراد بالرفقة هنا على الصحيح جميع القافلة لا الرفقة الذين يخالطونه في الأكل وغيره، لأن السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه.
(فإن قيل): إذا لم يجز لأهل القافلة أكل ما عطب وتركه في البرية للسباع فيه إضاعة للمال.
(أجيب): كما في المجموع: ليس فيه إضاعة بل العادة الغالبة أن سكان البوادي يتبعون منازل الحجيج لالتقاط ساقطة ونحوه وقد تأتي قافلة في إثر قافلة والله تعالى أعلم.
(1) أي إجماعاً لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27].
(2) أي في حق الرجل لحديث رواه مسلم والبخاري (اللهم ارحم المحلقين) قال في الرابعة (والمقصرين)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - حلق في حجته. ويستثنى منه كما في الحاشية المعتمر قرب وقت الحج كيوم عرفة بحيث لو حلق لم يسود رأسه قبل يوم النحر فالأفضل له التقصير. والله أعلم.
(3) وعلى هذا لا ثواب فيه ولا تعلق له بالتحلل قال أصحاب هذا القول في الجواب عن حديث "اللهم ارحم المحلقين" كما في المجموع إنما دعا لهم لتنظفهم وإزالة التفث عنهم وهو قول مالك وأبي ثور وأبي يوسف كما في المجموع حكاية عن القاضي عياض رحم الله الجميع وفي المغني للعلامة ابن قدامة رحمه الله تعالى روايتان عن أحمد أنه نسك كالشافعي وأبي حنيفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا =

(1/342)


الصَّحيحُ أنهُ نُسُك مَأمُور بِهِ (1) وَهُوَ رُكْن لاَ يَصِحُّ الْحَجُّ إِلا بِهِ وَلاَ يُجبر بِدَمٍ وَلاَ غَيْرِهِ وَلاَ يَفُوتُ وَقْتُهُ مَا دَامَ حَيَّاً كَمَا سَبقَ لَكَ لَكِنْ أفْضَلُ أوْقَاتِهِ أَنْ يكُون عَقِيبَ النَّحْرِ (2) كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلاَ يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ لَكِنَّ الأَفْضَلَ أنْ يكُونَ بِمنى (3) فَلَوْ فَعَلَهُ في بَلَدٍ آخَر إِمَّا فِي وَطنهِ وَإِما فِي غَيْرِهِ (4) جَازَ ولَكِنْ لاَ يَزَالُ حُكمُ الإِحْرَامِ جَارِياً عَلَيْهِ حَتَّى يحْلِقَ.
ثُم أَقل وَاجِبِ هَذَا الْحَلْقِ ثَلاَثُ شَعَرَاتٍ (5) حَلْقاً أوْ تَقْصِيراً مِنْ شَعْرِ
__________
= النساء" والثانية إذا رمى الجمرة فقد حل لقوله في حديث أم سلمة: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) وبهذا قال عطاء ومالك وأبو ثور فالمغني ذكر مالكاً ولم يذكر أبا يوسف والمجموع ذكر أبا يوسف ولم يذكر مالكاً.
(1) أي فيثاب عليه ويتحلل به التحلل الأول وبه قال الأئمة الثلاثة وجمهور العلماء رحمهم الله كما في المجموع لقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] فوصفهم وامتن عليهم بذلك فدل على أنه من العبادة لا أنه استباحة محظور، وفي المفاضلة فدعائه - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة دلالة على أنه نسك إذ لا مفاضلة في المباح والله أعلم.
(2) تقدم أنه يدخل وقت الرمي والحلق والطواف بنصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبله. هذا على القول الصحيح القائل بأن الحلق نسك مأمور به كما تقدم، وإلا فلا يدخل وقته إلا بفعل الرمي أو الطواف كما في المجموع. أما وقت الحلق في المعتمر فيدخل بفراغه من السعي. فلو جامع بعد السعي، وقبل الحلق فعلى أن الحلق نسك فسدتْ عمرته لوقوع جماعه قبل التحلل. وعلى أنه ليس بنسك لم تفسد. والله أعلم.
(3) للاتباع حكم تأخير الحلق كتأخير طواف الإِفاضة في كراهته عن يوم النحر وعن أيام التشريق أشد وعن خروجه من مكة أشد.
(4) أي سواء طال زمن تأخيره أم لا. وبه قال عطاء وأبو ثور وأبو يوسف وأحمد في رواية لأن الله تعالى بيق أول وقته بقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ولم يبين آخره. فمتى أتى به أجزأه كطواف الزيارة والسعي. وعند أبي حنيفة إذا خرجت أيام التشريق لزمه الحلق، ودم، وهي رواية عن أحمد رحم الله الجميع آمين.
(5) قال في المجموع: واحتج أصحابنا بقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} والمراد =

(1/343)


الرَّأْسِ وَالأَصَحُّ أنهُ يُجزىء التقْصِيرُ مِنْ أَطْرَافِ مَا نَزَلَ مِنْ شَعرِ الرَّأس (1) عَنْ حَد الرَّأس وَيقُومُ مُقَامَ الْحَلْقِ والتقْصِيرِ في ذَلِكَ النَّتْفُ والإِحْرَاقُ والأخذُ بالنُّورَةِ أوْ بِالقَص والْقَطْعِ بِالأَسْنَانِ وَغَيْرِهَا وَالأَفْضَلُ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يقصرَ الْجميع (2) دُفْعَة وَاحِدَة فَلَوْ حَلَقَ أوْ قَصَّرَ ثَلاَثَ شَعَرَات فِي ثَلاَثَةِ أوْقَات أجْزَأَهُ وَفَاتَتْهُ الفَضِيلةُ (3) وَمَنْ لاَ شَعْر عَلَى رَأسِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ حَلْق وَلاَ فِدْيةٌ لَكِنْ
__________
= شعور رؤوسكم. والشعر أقله ثلاث شعرات، ولأنه يسمى حالقاً، يقال حلق رأسه وربْعه وثلاث شعرات منه. فجاز الاقتصار على ما يسمى حلق شعر، وأما حلْق النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع رأسه فقد أجمعنا على أنه للاستحباب، وأنه لا يجب الاستيعاب.
وأما قولهم (أي الأئمة كما سيأتي) لا يسمى حلقاً بدون أكثره فباطل لأنه إنكار للحس واللغة والعرف والله أعلم.
أقول: قول المصنف فيما تقدم: (فقد أجمعنا إلخ) علق عليه في الحاشية بقوله واستدلال المصنف في المجموع ومن تبعه أن الإِجماع قام على عدم وجوب التعميم غير صحيح لأن أحمد رضي الله عنه وغيره يقولون أنه واجب على أنه يمكن تأويل عبارة المجموع بأن قوله أجمعنا المراد به إجماع الخصمين وهو لا يقتضي إجماع الكل خلافاً لمن فهم منه ذلك. اهـ.
وقال مالك وأحمد: يجب أكثر الرأس، وقال أبو حنيفة: رُبْعُه، وقال أبو يوسف نصفه: احتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق جميع رأسه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لتأخذوا عني مناسككم"، حديث صحيح سبق مراراً. قالوا ولأنه لا يسمى حالقاً بدون أكثره. اهـ.
(1) أي سواء ما خرج بالمد من جهة نزوله وغيره، وإنما لم يجز المسح على الأول في الوضوء لأن المدار هنا على شعر الرأس. وهذا منه مطلقاً، وثمَّ على بشرته أو الشعر المنسوب إليها والخارج المذكور انقطعت نسبته عنها. اهـ حاشية.
(2) أي ويثاب على ثلاث شعرات ثواب الواجب، وعلى البقية ثواب المندوب على المعتمد.
(3) هو المعتمد المصرّح به في المجموع ولا فرق بين إزالة كل شعرة من الثلاث دفعة أو دفعات واحتراز بقوله ثلاث شعرات عن شعرة واحدة أزالها ثلاث مرات ولو في وقت واحد فإنه لا يجزىء كما في الحاشية. =

(1/344)


يُسْتَحَب إِمْرَار المُوسَى على رأسِهِ (1)، قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أخذَ من شارِبهِ أو شعر لحيتهِ شيئاً كان أحب إليّ ليكونَ قد وضع من شعرهِ شيئاً لله تعالى (2) ولو كان له شَعر وبرأسه علَّة لا يمكنهُ بسببها التعرض للشعرِ صبرَ إلى
__________
= (تنبيه): من الرأس الصدغ ومحل التحذيف كما في الحاشية.
(1) وبه قال مالك وأحمد. قال في المجموع: واحتج أصحابنا بأنه فرض تعلق بجزء من الآدمي فسقط بفوات الجزء كغسل اليد في الوضوء فإنه يسقط بقطعها.
(فإن قيل): الفرض هناك متعلق باليد وقد سقطت وهنا متعلق بالرأس وهو باقٍ.
(قلنا): بل الفرض متعلق بالشعر فقط ولهذا لو كان على بعض رأسه شعر دون بعض لزمه الحلق في الشعر ولا يكفيه الاقتصار على إمرار الموسى على ما لا شعر عليه، ولو تعلق الفرض عليه لأجزأه.
وقال أبو حنيفة: هذا الإمرار واجب واحتج له بحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "المحرم إذا لم يكن على رأسه شعر يمر الموسى على رأسه" قال: ولأنه حكم تعلق بالرأس فإذا فقد الشعر انتقل الوجوب إلى نفس الرأس كالمسح في الوضوء ولأنها عبادة تجب الكفارة بإفسادها فوجب التشبيه في أفعالها كالصوم فيما إذا قامت بينة في أثناء يوم الشك برؤية الهلال وأجاب الأولون عن حديث ابن عمر بأمه ضعيف ظاهر الضعف.
قال الدارقطني وغيره: لا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو مروي موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنهما.
قلت: وهو موقوف ضعيف أيضاً، ولو صح لحُملَ على الندب. والجواب عن القياس على المسح في الوضوء من وجهين:
أحدهما: أن الفرض هناك تعلق بالرأس قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وهنا تعلق بالشعر كما قدمناه.
والثاني: أنه إذا مسح بشعر الرأس سمي ماسحاً فلزمه، وإذا أمر الموسى لا يسمى حالقاً. و (أما) عن القياس على الصوم فهو أنه المأمور بإمساك جميع النهار فبقيته بعض ما تناوله الأمر، وهنا مأمور بإزالة الشعر ولم يبقَ شيء منه والله أعلم. اهـ بتصرف.
(2) يستأنس لقول الشافعي رضي الله تعالى عنه بما صح عنْ ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه، وألحق المتولي رحمه الله =

(1/345)


الإِمكانِ ولا يفتدي ولا يَسْقُطُ عنهُ الحلق بخلافِ من لا شعرَ عَلى رأسهِ فإِنه لا يُؤمر بحلقِهِ بعدَ نباتهِ لأنَّ النُّسُكَ حلقُ شعرٍ يشتملُ الإِحْرَامُ عليهِ وهذا الذي ذكَرنَاه كلّهُ فيمن لم ينْذِر الحلقَ.
وأَمَّا مَنْ نَذَرَ الْحَلْق في وقته فَيَلْزَمُهُ حلقُ الجميع (1) وَلاَ يُجْزئُه (2) التَّقْصِيرُ وَلا النتْف وَلاَ الإِحْرَاقُ وَلاَ النُّورَةُ وَلاَ القَصُّ، وَلاَ بُدَّ فِي حَلْقِهِ مِن استِئصالِ جَمِيعِ الشَّعْرِ، وَلَوْ لَبدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الإِحْرَامِ لم يكن مُلْتَزِماً للحَلْقِ على المذهب الصَّحيحِ (3)، وللشافعي رَحِمَهُ الله تَعَالى قَوْلٌ قديم أَنَّ التَّلبيدَ كَنَذْرِ
__________
= تعالى كما في الحاشية بالشارب واللحية كل ما يؤمر بإزالته للفطرة ومنه تقليم الأظافر ويدل له قول ابن المنذر رحمه الله تعالى ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لما حلق رأسه (قلم أظافره) قال في الحاشية: ومن لا شعر برأسه أولى بذلك. اهـ.
(1) قال في الحاشية رحمه الله تعالى: محله أن يقول في نذره لله تعالى على حلق كل رأسي أو حلق رأسي كما لو نذر مسح رأسه في الوضوء، فإن قال لله على الحلق أو أن أحلق، كفاه ثلاث شعرات.
(فإن قلت): فما الفرق بين حلق رأسي والحلق مع أن كلاً للعموم إذ الأول مفرد مضاف والثاني مفرد محلى بأل.
(قلت): يفرق بأن قرينة العموم في الأول لم تعارض فأثرت بخلافها في الثاني فإن أل كما تحتمل الاستغراق والجنس تحتمل الحقيقة والماهية ولا مرجح فعملنا بأصل براءة الذمة بل العموم فيه بعيد فإنه لم يربط المحلوق فكفى مسماه شعراً. اهـ.
(2) أي لا يجزيه عن نذره وإنما لم يجزئه لأنه لا يسمى حلقاً إذ هو استئصال الشعر بالموسى بحيث لا يرى فيه شعراً وإن لم يمعن في الاستئصال. والتعبير بالموسى جرى على الغالب وأنه يكتفي في إزالته بكل محدد يزيله، وأما عن النسك فيجزئه ويتحلل به إذ النسك إنما هو إزالة شعر يشتمل عليه الإحرام فلا يجب عليه إعادته لكن يلزمه -لفوات الوصف وهو حلق الرأس- دم، كما لو نذر الحج أو العمرة مفردين فقرن أو تمتع ومنه يؤخذ أن هذا الدم كدم التمتع.
(3) أي بل يجزئه التقصير كما لو لم يلبد وبه قال أبو حنيفة، وخبر (من لبد رأسه =

(1/346)


الحلق (1) والسُّنَّة في صِفَةِ الْحَلْقِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ المحْلُوقُ الْقبْلةَ ويبتدىء الحَالقُ بمقدمِ رَأْسِهِ فَيَحْلِقُ مِنْهُ الشق الأَيمَن (2) ثُمَّ الأَيْسَرَ (3) ثُم يَحْلِقُ الْبَاقي (4) وَيَبْلُغُ بِالْحَلْقِ العَظْمَيْنِ اللذيْنِ عِنْدَ مُنْتَهَى الصُّدْغَيْنِ (5) ويُسْتَحَب أَنْ يَدْفِنَ
__________
= للإحرام فقد وجب عليه الحلق) ضعيف والصحيح وقفه على ابن عمر رضي الله عنهما. والتلبيد هو جعل نحو صمغ على الرأس يمنعه من التشعث أي تفرق شعره.
(1) أي فيجب الحلق لأنه لا يفعله غالباً إلا من يريد الحلق فهو كتقليد الهدي عند القائل بوجوبه بالتقليد وبه قال مالك وأحمد ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء رحم الله تعالى الجميع آمين.
(2) أي جميعه من أوله إلى آخره لحديث أنس رضي الله عنه: (لما فرغ من نسكه - صلى الله عليه وسلم - ناوله الحالق شقه الأيمن فحلقه) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
(3) أي كذلك يحلقه كله من أوله إلى آخره لقول أنس في تمام الحديث (ثم أعطاه شقه الأيسر فحلقه) وقال أبو حنيفة يبدأ بالشق الأيسر على يمين الحالق. (قال في المجموع): وهذا منابذ لحديث أنس الذي ذكر والله أعلم.
الدعاء عند الحلق
(4) (الله) أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله على ما هدانا والحمد لله على ما أنعم به علينا. (اللهم) هذه ناصيتي فتقبل مني واغفر ذنوبي، (اللهم) اغفر للمحلقين والمقصرين يا واسع المغفرة، (اللهم) أثبت لي بكل شعرة حسنة، وامح عني بها سيئة وارفع لي بها عندك درجة.
الدعاء بعد الحلق
الحمد لله الذي قضى عني مناسكي، اللهم زدني إيماناً ويقيناً وتوفيقاً وعوناً واغفر لي ولوالدي ولسائر المسلمين والمسلمات.
(5) قال في المجموع عن النص لأنهما منتهى منابت شعر الرأس فيكون مستوعباً شعر رأسه. اهـ.

(1/347)


شَعْرَهُ (1) هذا كُلهُ حُكْمُ الرَّجُلِ.
وأمَّا الْمَرْأة (2) فَلاَ تَحْلِقُ بَلْ تُقَصرُ ويُسْتَحَبُّ أنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهَا بِقَدْرِ أَنْمُلَةٍ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ رأْسهِا (3).

الرَّابعُ مِنْ الأَعْمَالِ الْمَشْرُوعة يَوْم النَّحْرِ طَوَافُ الإِفَاضَةِ (4)
وَلِهذا الطَّوَافِ أسْمَاءٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ طَوَافِ القُدُوم وَهُوَ رُكْنٌ لاَ يَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ فإِذَا رَمَى وَنَحَر وَحَلَقَ أَفاضَ مِنْ مِنىً إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الإِفَاضَةِ وَقَد سَبَقَ كَيْفِيَّةُ الطَّوَافِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ التفْصِيل وَالْخِلاَفُ في أنَّهُ يَرْمُل في هَذا الطَّوَافِ ويَضْطبعُ أَمْ لاَ وَوَقْتُ هَذا الطَّوَافِ يَدْخُلُ بِنِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ (5) كَمَا سَبَقَ وَيَبْقَى إِلَى آخِر الْعُمُر (6) وَالأَفْضَلُ فِي وَقْتِهِ أنْ يَكُونَ في يَوْمِ
__________
(1) قال في الحاشية أيْ ودفن الشعر الحسن آكد لئلا يتخذ للوصل ويسن ما ذكر لكل محلوق ولو حلالاً ما عدا التكبير ونحوه مما يختص بالنسك. اهـ.
(2) أي ولو صغيرة ومثلها الخنثى فلو حلقت المرأة أجزأها وكانت مسيئة لحديث: "نهى النساء عن التشبه بالرجال".
(3) قال الماوردي رحمه الله تعالى كما في المجموع: ولا تقطع من ذوائبها لأن ذلك يشينها لكن ترفع الذوائب وتأخذ من الموضع الذي تحتها. اهـ.
(4) طواف الإفاضة ركن بالاتفاق لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
(5) أي لمن وقف بعرفة كما مر ودليله أنه - صلى الله عليه وسلم - (أرسل بأم سلمة رضي الله عنها ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت) الحديث أخرجه أبو داود رحمه الله تعالى وقال أبو حنيفة أول وقته من طلوع الفجر.
(6) قال أبو حنيفة آخره ثاني أيام التشريق. اهـ كتاب رحمة الأمة.

(1/348)


النحْر (1) ويُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَى أَيامِ التشْريق مِنَ غَيْرِ عُذْر وَتَأخِيرُهُ إلَى مَا بَعْدَ أيامِ التشْرِيق أشَدُّ كَرَاهَةَ وَخُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ بِلاَ طَوَاف أشَدُّ كَرَاهَة (2) وَلَوْ طَاف لِلوِدَاعِ وَلَمْ يَكُنْ طَافَ للإفَاضَةِ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ وَلَوْ لَمْ يَطُفْ أَصْلاً لَمْ تَحل لَهُ النساءُ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَمَضَتْ عَلَيْهِ سِنُونَ والأفْضَلُ أنْ يفْعَل هذَا الطوَافَ يَوْمَ النحْرِ قَبْل زَوَالِ الشَّمْسِ وَيكُونُ ضَحْوةً (3) بَعْد فَرَاغِهِ مِنْ الأَعْمَالِ الثلاَثَة (4). وَفي صَحِيح مُسْلمِ عَنِ ابن عُمرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: "أَنْ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أفَاضَ يَوْمَ النحْرِ ثُم رَجَعَ فَصَلَّى الظهْرَ بِمِنى" (5) وَالله أعْلَمُ.
__________
(1) أي ضحوة كما سيأتي للاتباع.
(2) أي ولا يلزم بتأخيره دم وبه قال صاحبا أبي حنيفة محمد وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة: إن رجع إلى وطنه قبل الطواف لزمه العود للطواف فيطوف وعليه دم للتأخير.
وهو الرواية المشهورة عن مالك ورواية عن أحمد دليل الشافعية أن الأصل عدم الدم حتى يرد الشرع به.
(3) أي للاتباع كما تقدم.
(4) التي هي جمرة العقبة ثم ذبح الهدي ثم الحلق.
(5) قال في الحاشية: قد تعارضه رواية ابن واقد عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنه - صلى الله عليه وسلم - (أخره إلى الليل) وحسنه الترمذي لكن أوَّلَه ابن حبان وغيره بأن ذلك وقع مرتين: مرة بالنهار ومرة بالليل، وتؤيده رواية البيهقي عن عائشة أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - زار مع نسائه. على أن ما رواه مسلم أصح. وقوله فيه فرجع فصلى الظهر بمنى يعارضه ما فيه أيضاً عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - (صلى الظهر بمكة) وأجاب في المجموع رحمه الله بأن الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - أفاض قبل الزوال، وطاف وصلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى وصلى بها الظهر مرة أخرى إماماً بأصحابه كما صلى بهم في بطن نخل مرتين: مرة بطائفة، ومرة بطائفة أخرى. فروى جابر صلاته بمكة وابن عمر صلاته بمنى وهما صادقان. انتهى.
وذكر ابن المنذر نحو ذلك، وعليه فقولهم يعود إلى منى قبل صلاة الظهر ليصلي بها =

(1/349)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= مشكل. إذ كان القياس أن يقولوا تسن الصلاة في مكة ومنى أو في مكة فقط لأنها أفضل وفي أول الوقت. اهـ.
(تنبيه): قال في الحاشية عُلِمَ مما مَرّ أن الأعمال المشروعة يوم النحر بعد وصوله بمنى أربعة وهي الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الطواف، وأنه يسن ترتيبها هكذا فإنْ خالف جاز بلا خلاف، إلا إذا قدم الحلق على الرمي والطواف.
فعلى الأصح أنه نسك ودليل ذلك ما في مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة فقال! يا رسول الله: إني حلقتُ قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، وآتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج. فما رأيته سئل عن شيء يومئذ إلا قال: افعلوا ولا حرج). هذا لفظ رواية مسلم وهو صريح في أنه لا فرق في ذلك بين الناسي والمتعمد. فترتب الجواز على عدم الشعور في روايات أخر كقول راوٍ آخر: فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى أو يجهل إلخ من باب ذكر أفراد العام، وهو لا يخصص.
فعلم الجواب عن قول ابن دقيق العيد إن مذهب أحمد من الجواز الجاهل والناسي فقط قوي من جهة الدليل.
(فإنْ قلت): روى الشيخان عن عبد الله المذكور أنه قال: فقال له رجل لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح: فقال: اذبح ولا حرج. فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أنْ أرمي فقال: ارم ولا حرج، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج. وهذا مقيد لما أطلقه في الراوية السابقة.
(قلت) تلك فيها زيادة وليس فيها تقييد فعملنا بها إذ لا قائل بالفرق على أن القياس يعضد ما قلناه لأن الترتيب لو كان واجباً كما هو مذهب أحمد لما سقط بنحو السهو كالترتيب بين السعي والطواف. اهـ.
(أقول): قوله في هذا التنبيه (فعلى الأصح) أي جاز تقديم الحلق على الرمي تقديم الذبح على الحلق، ولا دم عليه. وقال أبو حنيفة إذا قَدم الحلق على الذبح لزمه دم، إن كان قارناً أو متمتعاً، ولا شيء على المفرد. وقال مالك: إذا قدمه على الذبح فلا دم عليه وإنْ قَدّمه على الرمي لزمه الدم. وقال أحمد إنْ قَدّمه على الذبح والرمي جاهلاً أو ناسياً =

(1/350)


وَإِذا طَافَ فإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُوم وَجَبَ أنْ يَسْعَى بعد طَواف الإِْفَاضَة فَإِنّ السعي ركن وإن كَانَ سَعَى لَمْ يُعِدْهُ بَلْ تكْرَهُ إعادَتُه كما سَبقَ فِي فَصْلِ السَّعْي والله أعْلَمُ.

فَصْلٌ
لِلحج تَحَلُّلانِ (1) أوَّل وَثَانٍ يَتَعَلَّقَانِ بِثَلاَثَةٍ مِنْ هَذِهِ الأَعْمَالِ الأَربعة وَهِيَ: رَمْيُ جَمْرة الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقُ والطَّوَافُ مَعَ السَّعْي إنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى (2) وَأَمَّا النَّحْرُ فَلاَ مَدْخَلَ لَهُ في التَّحَلُّلِ فَيَحْصُلُ التَّحَللُ الأوَّلُ باثْنَيْنِ مِنْ ثَلاَثَة فأي اثنين مِنْهَا أتَى بِهِمَا حَصَلَ التَّحَلل الأَوَّل سَوَاء كَانَ رَمْياً (3) وَحَلْقاً أوْ رمياً
__________
= فلا دم، وإنْ تعمد ففي وجوب الدم روايتان عنه. وعن مالك روايتان فيمن قَدم طواف الإِفاضة على الرمي.
إحداهما: يجزئه الطواف وعليه دم.
الثانية: لا يجزئه. دليل الشافعي الأحاديث المتقدمة في التنبيه السابق ولم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين عالم وجاهل وناسي كما تقدم في التنبيه والله أعلم.
(1) فإن قيل: ضابط لا يحل شيء من المحرمات بغير عذر قبل التحلل الأول إلا حلق شعر بقية البدن، فإنه يحل بعد حلق الركن أو سقوطه لمن لا شعر برأسه وعلى هذا صار للحج ثلاث تحللات، أي أول، وهو الحلق فقط أو ما في معناه فيحل حلق شعر بقية البدن فقط، وثانٍ وبه يحل ما عدا نحو الجماع، وثالث وبه يحل الجميع.
(أجيب) كما في الحاشية: وقد يجاب عن اقتصارهم على تحللين فقط بأن شعر غير الرأس تابع، له لأنه من جنسه فلا معنى لحل أحدهما دون الآخر، فلا يحسن عده مستقلاً. اهـ.
(2) أي بعد طواف القدوم فيعد الطواف والسعي سَبَباً واحداً من أسباب التحلل فلو لم يرم ولكن طاف وحلق ولم يسع لم يحصل التحلل الأول لأن السعي كالجزء فكأنه ترك بعض المرات من الطواف وهذا لا خلاف فيه والله تعالى أعلم. اهـ مجموع.
(3) وكالرمي فيما ذكر بدله إذا فات وقته بأن خرجت أيام التشريق قبله فيتوقف =

(1/351)


وَطَوافاً أو طَوَافاً وَحَلْقاً، ويَحْصُلُ التَّحَلُلُ الثَّاني بِالْعَمَلِ الْبَاقِي مِنْ الثلاَثَةِ (1) هَذَا عَلَى الْمَذهَبِ الصَّحْيح الْمُخْتَارِ إنْ قُلْنَا إنْ الْحَلْقَ نُسُكٌ وَأمَّا إذَا قُلْنَا إِنَهُ اسْتباحَةُ مَحْظُور فَلاَ يَتَعَلَّق بِهِ التَّحَللُ بَلْ يَحْصُلُ التحَلُّلانِ بالرمي والطَّوافِ وأَيُّهُمَا بَدأَ بِهِ حَصَلَ التحلل الأَوَّلُ ويَحلُّ بالتحَلُّلِ الأَوّلِ جميعُ الْمُحرَّمَاتِ بالإِْحْرَامِ إِلا الاْسْتِمْتَاعَ بِالنسَاءِ فَإِنَّهُ يَسْتَمِرُّ تَحْريمُ الْجِمَاعِ حَتَّى يَتَحَلَّل التَّحللَيْن وَكَذَا يَسْتَمِرُ تَحْرِيمُ المُبَاشَرَة بِغَيْرِ الْجِمَاعِ (2) عَلَى الأَصَحّ إِذَا تَحَللَ التَّحَللَيْن
__________
= التحلل على الإتيان به، سواء كان دماً أو صوماً. قال في الحاشية: وإنما لم يتوقف تحلل المحصر العادم للهدي على بدله، وهو الصوم لأنه ليس له إلا تحلل واحد فيشق عليه بقاء الإِحرام إلى الإتيان به، ومَنْ فاته الرمي يمكنه التحلل الأول فلا مشقة عليه. اهـ.
(تنبيه): من لا شعر برأسه يكون تحلله الأول متوقفاً على الرمي أو الطواف (أي مع السعي كما تقدم) وتحلله الثاني متوقفاً عليهما لسقوط الحلق به. اهـ حاشية.
(1) قد نظم هذا بعضهم رحمه الله تعالى بقوله:
رمي وحلق مع طواف تُبعا ... بالسعي ذي ثلاثة فاستمعا
باثنين منها يحصل التحلل ... إلا النسا وبالثلاث يحصل
(2) أي وتحريم عقد النكاح كما في المنهاج وغيره لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء) رواه أبو داود. وعنها أيضاً: (كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أنْ يطوف بالبيت بطيب فيه مسك) متفق عليه. وللنسائي: (طيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه حين أحرم ولحله بعدما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت) قال في مفيد الأنام: وعن الإمام أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج لأنه أغلظ المحرمات، ويفسد النسك بخلاف غيره. وقال مالك لا يحل له النساء ولا الطيب ولا قتل الصيد لقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وهذا إحرام، ومذهب الجمهور يرد هذا القول ويمنع أنه محرم وإنما بقي عليه بعض أحكام الإحرام، ثم ذكر الشيخ في آخر كلامه قول بعض أصحاب الإمام أحمد فقال ومشى في الإقناع وشرح المنتهى وغيرهما من كتب متأخري الأصحاب (أي أصحاب مذهب الإمام أَحمد رحم الله الجميع) على المنع من عقد النكاح بعد التحلل الأول وقبل الثاني إلحاقاً بالوطء والمباشرة والقبلة واللمس بشهوة والله أعلم. اهـ.

(1/352)


فَقَدْ حَلَّ لَهُ جَمِيعُ المحرّمَاتِ وَصَارَ حَلاَلاً وَلَكِنْ بقِيَ عَلَيْهِ مِنَ المَنَاسِكِ المَبِيتُ بِمنىً والرَّمْيُ في أَيامِ التَّشْرِيقِ وَطَوَافُ الوداع (1) أَمَّا العُمْرَةُ فَلَيْسَ لَهَا إلاَّ تَحَللٌ وَاحِدٌ وَهُوَ بالطَّوَافِ والسَّعْيِ والحلْق إن قُلْنَا بالْمَذْهَبِ إنَّهُ نُسُك فَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ الطَّوَافِ والسَّعْي وَقَبْلَ الْحَلْقِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ والله أعْلَمُ.

فَصْل
في أمورٍ تُشْرَعُ يوم النحرِ ويتعلقُ بِهِ غيرُ مَا ذكرناهُ
أحدها: أنهُ يُسْتَحَبُّ للحُجَّاج بمنى أن يُكَبِّرُوا (2) عقبَ صلاةِ الظُّهْرِ (3) يومَ النَّحْرِ وما بعدَها من الصَّلَواتِ التي يُصَلونَها بمنى وآخرُها الصُّبْحُ مِنَ اليوم الثالثِ من أَيامِ التَّشْريق (4) وأَمَّا غيرُ الحجَّاج فَفِيهِمْ أقوالٌ مختلفةٌ للعلماءِ أشهَرُها عندَنا أَنهُمْ كالحُجاجِ والأَقْوى أنهُمْ يكبرونَ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ يومَ عرفةَ
__________
(1) قال المحشي رحمه الله: ظاهره أنه من المناسك والمعتمد عنده كالرافعي خلافه كما يأتي. اهـ.
(2) أي التكبير المقيد بالصلوات.
(3) أي لأنه قبلها مشغول بالتلبية ولا يقطعها إلا عند رمي أول حصاة من جمرة العقبة. وهذا لمن لم يكن قد دفع من مزدلفة بعد نصف الليل، ورمى جمرة العقبة قبل الفجر. أما هو فيقطع التلبية من رمي أول حصاة من جمرة العقبة ويكبر من بعد صلاة الصبح يوم النحر.
(4) هو مذهب مالك ومذهب أحمد وصاحبي أبي حنيفة من صبح يوم عرفة إلى العصر من آخر التشريق. ومذهب أبي حنيفة من صبح يوم عرفة إلى عصر يوم النحر.
دليل التحديد بالظهر والصبح: ما أخرجه الطبراني رحمه الله تعالى أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر حتى خرج من منى. قال في الحاشية: فيه ضعف لكن وثقة ابن حبان رحم الله الجميع آمين.

(1/353)


إلَى أنْ يُصَلُّوا العصرَ من آخرِ أيام التشريقِ (1) ويكبّرُ الحجاجُ وَغيرُهُمْ خَلْفَ الفرائِضِ (2) المؤداةِ والمَقْضِيةِ وخلفَ النَّوافِلِ وَخَلْفَ صَلاَةِ الجنازةِ عَلَى الأصح وسواء في اسْتِحْبَابِ التكبير المسافِرُ والحاضِرُ والمُصلِّي في جَمَاعَة
__________
(1) هذا صريح في أن ابتداء التكبير لا يدخل بالفجر بل بالفراغ من صلاة الصبح وفي أن انتهَاءه لا يستمر للغروب من آخر أيام التشريق بل للفراغ من صلاة العصر وحينئذ فيختلف وقت الإبتداء والانتهاء باختلاف أحوال المصلين. وهذا هو المذهب كما بينه المحشي في شرح الإرشاد.
(2) من الفرائض: المنذورة.
مذاهب الأئمة في التكبير خلق النوافل في هذه الأيام
قال في المجموع: مذهبنا استحبابه. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد لا يكبر لأنه تابع. فلم يشرع كالأذان. ودليلنا أن الكبير شعار الصلاة والفرض والنفل في الشعار سواء. اهـ مختصراً.
مذاهب الأئمة في تكبير مَنْ صلّى منفرداً
قال في المجموع: مذهبنا يسن التكبير، وهو مذهب مالك وأبي يوسف ومحمد وجمهور العلماء وحكاه العبدري عن العلماء كافة إلا أبا حنيفة. وحكى ابن المنذر وغيره عن أبي حنيفة وأحمد أن المنفرد لا يكبر. اهـ مختصراً.
مذاهب الأئمة في تكبير النساء في هذه الأيام خلف الصلوات
قال في المجموع: مذهبنا استحبابه لهن، وحكاه ابن المنذر عن مالك وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور، وعن أبي حنيفة لا يكبرن. واستحسنه أحمد. اهـ مختصراً.
مذاهب الأئمة في تكبير المسافر
قال في المجموع. إنه يكبر، وحكاه ابن المنذر عن مالك وأبي يوسف ومحمد وأحمد وأبي ثور وقال أبو حنيفة لا يكبر. اهـ. =

(1/354)


وَمُنْفَردٌ والصحيحُ والمريضُ والتكْبِير أن يقولَ: الله أكْبَرُ الله أكْبَرُ الله أكْبَرُ وَيُكَرر هَذَا مَا تَيَسرُ له هَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَجمهورُ أصحابِهِ قَالُوا: وإنْ زَادَ زِيادةَ عَلَى هَذَا فحسَنٌ أنْ يقُولُ: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحانَ الله بكْرَة وأصِيلاً، لا إلَه إلا الله ولا نَعْبُدُ إلا إيَّاهُ، مُخْلصينَ لَهُ الدينَ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ، لاَ إِلهَ إلاّ الله وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وحدَهُ، لا إلَه إلاَّ الله والله أكْبر (1).
وقالَ جماعة من أصْحابِنَا: لا بأسَ أنْ يقولَ ما اعْتَادَهُ الناسُ الله أكْبَرُ الله أكبرُ الله أكبرُ لا إلَه إلا الله، والله أكبرُ الله أكْبَرُ، ولله الحَمْدُ.
الثاني: يُسْتَحَب أن تكُونَ صَلاَةُ الظهْرِ بمنى بعدَ طَوافِهِ للإفَاضَةِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كَمَا سَبَقَ فِي الحديثِ الصَّحيحِ (2) ولْيَحْضُرْ خُطْبَة الإِمَامِ والله أعلم.
__________
مذاهب الأئمة في صفة التكبير
قال في المجموع: مذهبنا يستحب أنْ يكبر ثلاثاً نسقاً الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وبه قال مالك، وعن أبي حنيفة وأحمد: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. اهـ مختصراً.
(1) يكرر الحاج هذا التكبير ما تيسر ويكثر من قراءة القرآن.
(2) أي الذي رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) وقد تقدم الجمع بينه وبين حديث جابر رضي الله عنه القائل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمكة في الرابع من الأعمال المشروعة يوم النحر طواف الإِفاضة فراجعه إن شئت، وباستحباب صلاة الظهر يوم النحر بمنى قال الإمام أحمد، وقال بعض العلماء رحمهم الله بل هي أفضل منها بالمسجد الحرام للاتباع والله أعلم.

(1/355)


الثالث: يُسَنُّ للإْمَامِ أن يخطبَ هذا اليومَ بعدَ صلاةِ الظهرِ (1) بِمنى خُطْبة مُفْرَدةً يُعلّمُ الناسَ بِهَا المبيتَ والرمْيَ في أيَّامِ التَّشريقِ والنَّفْر وَغَيْرِ ذَلِكَ مما يحتاجُونَ إِلَيْهِ مما بينَ أيْدِيهِمْ وَمَا مضَى لَهُم في يَوْمِهِمْ ليأتي بِهِ مَنْ لَمْ يفعلهُ أو يعيدهُ مَن فَعَلَهُ عَلَى غَيْر وَجْهِه وَهَذ الخطبةُ هيَ الثَّالِثَةُ مِنْ خُطَبِ الحجِّ الأَرْبَعِ وقد سَبقَ بَيانُهُنَّ ويُسْتَحَب لكُل واحد مِمَّنْ هُنَاك حُضُورُ الخطْبَةِ ويغتسلُ لحضُورِهَا وَيَتَطَيَّبُ إِنْ كَانَ قد تَحَلَّلَ التحَللَيْن أو الأَوَّلَ مِنْهُمَا.
الرابع: اختلفَ العُلَمَاءُ في يومِ الحج الأكْبَر فالصَّحيحُ أنَّهُ يومُ النَّحْرِ (2) لأن مُعْظَمَ أعمالِ المَنَاسِكِ فِيهِ وقيلَ هو يومُ عرفة (3) والصَّوَابُ الأوَّلُ وإنما قِيلَ له الحجُّ الأكْبَرُ مِنْ أجْلِ قَوْلِ النَّاسِ العمرَةُ الحجُّ الأصْغَرُ.
__________
(1) قال المصنف في مجموعه: هكذا قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى واتفقوا عليه وهو مشكل لأن الأحاديث مصرحة بأنها كانت ضحوة يوم النحر لا بعد الظهر. اهـ. قال المحشي منها رواية أبي داود بسند رجاله ثقات: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بمنى حتى ارتفع الضحى على بغلة شهباء، وأجاب عنه المصنف بأن رواية ابن عباس في الصحيح تدل على أن ذلك كان بعد الزوال، إذْ فيها أن بعض السائلين قال: رميت بعدما أمسيت، والمساء يطلق على ما بعد الزوال، أي فقدمت هذه لأنها أصح وأشهر. والسبكي بأنه ورد في طبقات ابن سعد عن عمرو بن يَثْربِي بتحتية مفتوحة فمثلثة ساكنة فراء مكسورة فموحدة فياء النسب أنه حفظ خطبته - صلى الله عليه وسلم - الغد يوم النحر بعد الظهر وهو على ناقته القصواء، وكان يحكيها بطولها، وكأن بعضهم جمع بين الحديثين حيث قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبتين يوم النحر في وقتين.
قال ابن جماعة بعد أن أورد أحاديث وهو مقتضى هذه الأحاديث. اهـ.
(2) أي لما في شرح السنة للإمام البغوي رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حجها، وقال: أتدرون أي يوم هذا بمثل معناه. وقال: (هذا يوم الحج الأكبر) فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم اشهد" وودع الناس فقالوا هذه حجة الوداع.
(3) أي لقوله - صلى الله عليه وسلم - "الحج عرفة" وقد تقدم الكلام عليه في الوقوف بعرفة.

(1/356)