الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

الفصل الثامن
فيما يفعله بمنى في أيام التشريق ولياليها
أيامُ التشرِيقِ هِي الثلاثَةُ بعدَ يومِ النحْرِ سُميَتْ بِهِ لأنَّ النَّاسَ يُشَرقُونَ فِيهَا لُحُومَ الهَدَايَا والضَّحَايَا أي يَنْشُرُونَهَا في الشَّمْسِ ويقَدِّدُونَهَا (1) وهذه الأَيامُ الثلاثةُ هِيَ الأَيَّامُ المَعْدُودَاتُ (2). وأمَّا الأَيامُ المعلُوماتُ فهي العَشْرُ الأولُ من ذي الحجَّة يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا وَهُوَ آخرها ثُمَّ يتعلَّقُ بأيَّامِ التشْرِيقِ مَسَائِلُ:
الأولى: يَنْبَغِي أن يَبِيتَ بِمنى (3) في لَيَالِيهَا وَهَلْ هَذَا الْمَبِيتُ وَاجِبٌ أمْ سُنَّةٌ؟ قَوْلاَنِ للشافعِيِّ رحمه الله تَعَالى أظْهَرُهُمَا أنَّهُ وَاجِبٌ والثاني سُنَّةٌ فإن
__________
(1) أي ييبسونها.
(2) قال في المجموع: قال صاحب البيان: اتفق العلماء على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وهي ثلاثة بعد يوم النحر، وأما (المعلومات) فمذهبنا أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر، وهو مذهب أحمد وابن عباس. وقال مالك: هي ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده فالحادي عشر والثاني عشر عنده من المعلومات.
وقال أبو حنيفة: المعلومات: ثلاثة أيام يوم عرفة والنحر والحادي عشر. وفائدة الخلاف أن عندنا يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها، وعن مالك لا يجوز في اليوم الثالث. هذا كلام صاحب البيان، وقال العبدري: فائدة وصفه بأنه معلوم جواز النحر فيه، وفائدة وصفه بأنه معدود إنقطاع الرمي فيه وبمذهبنا قال أحمد وداود. اهـ مختصراً بزيادة. أقول: كما سابقاً في التعليق على الرابعة عشرة من سنن الوقوف: قول العبدري رحمه الله (وبمذهبنا قال أحمد) لعله رواية ضعيفة فلذا لم يذكرها ابن قدامة في مغنيه عن الإمام أحمد وهو جواز النحر في ثالث أيام التشريق كالشافعية لأن المنصوص فيه عدم الجواز كالإِمامين مالك وأبي حنيفة رحم الله الجميع آمين.
(3) قد تقدم الكلام على حَدّ منى في الفصل السابع في الأعمال المشروعة بمنى يوم النحر، فراجعه إن شْئت.

(1/357)


تَركَهُ (1) جُبِرَ بِدَمٍ فَإِنْ قُلْنَا المَبِيتُ وَاجِب (2) فالدَّمُ وَاجِبٌ وَإِنْ قُلْنا سُنَّةٌ (3) فالدَّم سُنَّة وفي قَدْر الواجبِ من هذا المبيتِ قولان أصَحُّهُمَا مُعْظَمُ الليْلِ (4) والثانِي المُعْتبَرُ أن يكُونَ حَاضِراً بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ وَلَوْ تَرَكَ المَبِيتَ في اللَّيالِي الثلاَث جَبَرَهُنَّ بِدَمٍ وَاحِدٍ (5) وإنْ تَرَكَ لَيْلَةً فالأصَحّ أنَّهُ يَجْبُرهَا بِمُدْمِنْ طَعَامٍ (6) وَقِيلَ بِدِرْهَمٍ وَقِيلَ بثُلُثِ دَمٍ.
__________
(1) أي ولو ناسياً. وقياسه أن الجهل هنا كالنسيان كما في الحاشية.
(2) هو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للعباس في ترك المبيت لأجل السقاية متفق عليه على أنه لا يجوز لغيره تركه، ولأنه عليه الصلاة والسلام (بات بمنى ليالي أيام التشريق) وقد قال "خذوا عني مناسككم".
(3) هو مذهب الحنفية ورواية عن أحمد لأنه روى عن ابن عباس رضي الله عنهما (إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت).
(4) وقد مر في الفصل الخامس في الإفاضة من عرفات - عن الحاشية وإنما وجب في مبيت منى معظم الليل لأن الوارد فيه الأمر بالمبيت، وهو لا يحصل إلا بمعظم الليل بخلاف مبيت مزدلفة وأيضاً فعله - صلى الله عليه وسلم - يدل لذلك فإنهم لا يصلونها عادة إلا بعد نحو ربع الليل ومع ذلك فقد قدم الضعفة بعد نصفه فدل على عدم وجوب المعظم، ومن ثم قال في المجموع: اتفق أصحابنا على أنه لو دفع منها بعد النصف أجزاه ولا دم. اهـ. أقول: قد قلت هناك أنه قول أيضاً للإمام أحمد.
(5) هو الصحيح من مذهب أحمد، ومذهب الحنفية لا يلزمه شيء لأنهم يرون أن المبيت بمنى لأجل أن يُسَهل عَلى الحاج الرمي، وعدم المبيت عندهم مكروه، ومذهب مالك وأصحابه في الليلة الواحدة أو معظم ليلة دم. رحم الله الجميع ورحمنا والمسلمين والمسلمات آمين.
ومن أراد الوقوف على أدلتهم فعليه بمراجعة الجزء الخامس من أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للعلامة محمد أمين الشنقيطي رحمه الله تعالى آمين.
(6) هذا هو الأصح عند الشافعي من الأقوال وهو رواية عن أحمد والله أعلم.

(1/358)


وَإنْ تَرَكَ المبيتَ لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةِ وَحْدَها جَبَرهَا بِدَمٍ (1) وَإنْ تَرَكَهَا مَعَ اللَّيَالِي بِمنى لَزِمَهُ دَمَانِ عَلَى الأصَحّ (2) وَعَلَى قَوْلٍ دَمٌ وَاحِد هَذَا فِيْمَنْ لاَ عُذرَ لَهُ. وَأمَّا مَنْ تَرَكَ مَبِيتَ مُزدَلِفَة أوْ مِنى لِعُذْرِ فَلاَ شَيْء عَلَيْهِ وَالْعُذْرُ أقْسَامٌ
__________
(1) قال في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: والقول بأنه -يعني المبيت بمزدلفة- واجب يجبر بدم هو قول أكثر أهل العلم، منهم مالك وأحمد وأبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه. اهـ مختصراً.
(2) يفهم منه أنه لا يحب الدم إلا إنْ ترك مبيت جميع ليالي منى الثلاث وهو كذلك لكن يجب الدم أيضاً بالنفر في اليوم الأول أو الثاني مع ترك مبيت ليلتين لتركه جنس المبيت بمنى فيهما بخلاف من لزمه مبيت الليلة الثالثة بأن كان بمنى وقت الغروب فباتها مع تركه الليلتين قبلها فإنه لم يترك جنس مبيت منى فلا يلزمه إلا مدان فعلم أن لا يجوز النفر الأول إلا إن بات الليلتين الأولتين أو فاته بعذر وهذا أحد شروط النفر الأول التي ستأتي إن شاء الله تعالى في التعليق على المسألة الثالثة عشرة يسقط رمي اليوم الثالث عمن نفر المر الأول إلخ، فإنْ ترك إحدى الليلتين أو فُقِدَ واحد من الشروط امتنع النفر الأول.
مذاهب الأئمة في المبيت بمنى أيام التشريق
قال في أضواء البيان: مذهب أبي حنيفة هو أن عدم المبيت بمنى ليالي منى مكروه، ولو بات بغير منى لم يلزمه شيء عند أبي حنيفة وأصحابه لأنهم يرون أن المبيت بمنى لأجل أن يسهل عليه الرمي فلم يكن من الواجبات عندهم والأصح عند الشافعية أنه واجب، ولا يلزم الدم عندهم إلا في ترك المبيت في الليالي كلها لأنها عندهم نسك واحد، وإنْ ترك المبيت في ليلة من ليالي الثلاث فالأصح فيها مُد، وفي الليلتين مدان.
ومذهب أحمد أن المبيت بمنى ليالي منى واجب فلو ترك المبيت بها في الليالي الثلاث فعليه دم على الصحيح من مذهبه، وعنه لا شيء عليه، وعنه: يتصدق بشيء فإن ترك المبيت في ليلة من لياليها قيل مد وقيل درهم وقيل ثلث دم وقيل دم كمذهب مالك وأصحابه أن المبيت ليالي منى واجب ولو بات ليلة واحدة منها أو جُل ليلة وهو خارج عن منى لزمه دم لأثر ابن عباس مَنْ ترك نسكاً فعليه دم، وروى مالك في الموطأ عن نافع =

(1/359)


أحدُهَا أهلُ سِقَاية (1) العباسِ يجُوزُ لَهُمْ تَرْكُ المبيتِ بِمنى ويَسيرونَ إلى مكّة لاشتغَالِهِمْ بالسِّقايةِ سواء تولّى بنُو العباسِ أَوْ غَيْرُهُمْ وَلَوْ حَدَثَتْ سقايةٌ للحُجاجِ فَلِلْقَيِّم بِشَأْنِهَا تَرْكُ المبيتِ كسقَايةِ العباسِ.
__________
= أنه قال: زعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يبعث رجالاً يدخلون الناس من وراء العقبة. وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى وراء العقبة. اهـ مع تصرف وزيادة.
(1) سِقَايَة العباس رضي الله عنه بكسر السين كانت في الجاهلية حياضاً من أدم يوضع في بعضها الماء العذب، وفي بعضها نبيذ الزبيب وفي بعضها ماء زمزم وتسبل للشاربين، وأخيراً اختصر على ماء زمزم في الأسبلة المتخذة من الأبنية وكانت السقاية في يد قصي بن حكيم الملقب بكلاب، ثم ورثها منه ابنه عبد مناف، ثم ابنه هاشم ثم منه ابنه عبد المطلب ثم منه العباس رضي الله عنه، ثم منه ابنه عبد الله، ثم منه ابنه علي ثم واحداً بعد واحد إلى أن آلت الخلافة إلى بني العباس فوضعوا السقاية عند الزبيريين ثم وصلت السقاية إلى بيت الريس من جهة جدهم لأمهم سالم بن ياقوت المؤذن. وبيت الريس بيت علم من مشاهير بيوتات مكة وآخر من وصلت إليه في زماننا منهم الشيخ صالح ريس الذي تزوج ابنه (محمد) بنت شيخنا العلامة السيد علوي عباس المالكي الحسني غفر الله لهم ولي ولكافة المسلمين والمسلمات آمين، وكان يجلس في غرفة بئر زمزم، وكان له الدلو اليماني فيأمر خادمه برفع ماء زمزم بواسطة هذا الدلو من البئر ويصبه في قناة سماوية تذهب به إلى حياض مبنية بجانب غرفة الأغوات التي كانت بجانب غرفة بئر زمزم تسمى الأسبلة ليشرب منها مريدوا الشرب، وفي عهد جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالى وسع المسجد الحرام وأزيل جميع ما كان في وسطه من أسبلة وغرف وغير ذلك وأصبح رفع ماء زمزم بواسطة الكهرباء وعهد أمر المسجد الحرام في عهد الملك خالد بن عبد العزيز إلى إدارة شئون الحرمين الشريفين المكي والمدني، فجعلت في جميع نواحي المسجد الحرام حياضاً مختمة لها صنابير يوضع فيها ماء زمزم وعلى سطح الحياض أكواب الشرب، فيأخذ الكوب مريد الشرب ويملؤه من الحوض بواسطة الصنبور أسأله تعالى أن يوفق حكومتنا السنية والقائمين بشئون الرعية لما يحبه ويرضاه.

(1/360)


الثاني: رعاءُ الإِبلِ (1) يَجُوزُ لهم تَرْكُ المبيتِ بِعُذْر الرَّعْي فإِذا رَمَى الرِّعاء وَأهلُ السّقَاية يَوْمَ النَّحْرِ جَمرةَ العقبة فَلَهُم الْخُرُوجُ إلَى الرَّعْي وَالسِّقَايةِ وتَركُ المبيتِ في لَيَالِي مِنى (2) جمِيعِهَا وَلَهُمْ تَرْكُ الرَّمْي في الْيَوْمِ الأوَّلِ مِنْ أيَّامِ التشْرِيقِ وَعَلَيْهِمْ أنْ يَأْتُوا فِي الْيَوْمِ الثاني مِنْ أيَّامِ التَّشريقِ فَيَرْمُوا عَنِ الْيَوْمِ الأوَّل ثم عن الثَّانِي ثمّ يَنفِروا وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ رَمْيُ الثالِث كَمَا يَسْقُطُ عَنْ غَيْرِهِمْ ممن يَنْفِرُ (3) وَمَتى أقَامَ الرعَاءُ بمنى حتّى غَرَبَتْ الشمس لزمهم المَبِيْتِ بها تلك الليلة وَلَوْ أَقامَ أهْلُ السّقَايةِ حَتى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَلَهُمْ الذهَابُ إِلَى السّقَاية بَعْدَ الغروبِ لأَنَّ شُغْلَهُم يَكُونُ لَيْلاً وَنَهَاراً.
__________
(1) رعاء بكسر الراء وبالمد جمع (راع) ويجوز (رُعاة) بضم الراء وهاء بعد الألف. وقوله: (إبل) أي إبل الحجاج، وكذا إبل غيرهم، وذكر الإِبل فقط لأنها مورد النص وإلا فراعي كل حيوان محترم كذلك، سواء عادت منفعته على الحجاج أم لا، وسواء كان الراعي مالكاً أو أجيراً أو متبرعاً وشرط الراعي مطلقاً أن يتعسر عليه الإِتيان بها أو يخشى من فراقه لها ضياعاً إما بنحو سرقة أو جوع يضرها أو لا تصبر عنه عادة. أقول انتهى في زماننا دور الإبل وأتى دور السيارات نسأل الله أن يقرب إلينا خيرها ويبعد عنا شرها آمين.
(2) قال في الحاشية أي ومزدلفة لاستوائهما في جواز ترك مبيتهما في سائر الأعذار ولعل اقتصاره على منى بعد ذكرهما أولاً لكونها محل النص، وتلك (يعني ليلة المزدلفة) مقيسة عليها.
(3) قال في الحاشية ظاهره ككلام الروضة وأصلها أنه يمتنع عليهم ترك رمي يومين متواليين، وهو بالنسبة لوقت الاختيار أو مبني على خلاف ما صححاه من بقاء وقت الرمي أداء آخر التشريق -وهو مذهب أحمد- فعليه يجوز لهما كغيرهما ممن لا عذر له تركْ رمي يومين متواليين وكلامهما هنا تبعاً فيه البغوي القائل بأن المتدارك قضاءٌ (هو مذهب مالك) وقول الزركشي الكلام هنا في ترك المبيت مع الرمي، وثمَّ في ترك الرمي المجرد، أي ولا يرخص للمعذور ترك رمي يومين مع ترك المبيت لئلا يترك شعار النسك بخلاف غير المعذور فإنه لما امتنع عليه ترك المبيت جاز له تأخير يومين يُرَدُّ بأن جواز تأخير =

(1/361)


الثالثُ: مَنْ لَهُ عُذْرٌ بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَنْ لَهُ مَال يَخافُ ضَيَاعَهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْمَبيتِ أوْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أو مَالٍ مَعَهُ أوْ لَهُ مَرِيض يَحْتَاجُ إلَى تَعَهُّدِهِ أوْ يَطْلُبُ عَبْداً آبقاً أوْ يَكُونُ بِهِ مَرضٌ يَشُق مَعَهُ الْمَبِيتُ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَالصَّحِيحُ أنَّهُ يَجوزُ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتَ وَلَهُمْ أنْ يَنْفِروا بَعْدَ الغروبِ وَلاَ شَيْء عَلَيْهِمْ.
الرابعُ: لَوْ انْتَهَى لَيْلَةَ الْعِيد إِلَى عَرَفَاتٍ فَاشْتَغَلَ بِالْوُقُوفِ عَنْ مَبِيتِ مُزْدَلِفَةَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَإنّمَا يُؤْمَرُ بِالْمَبِيتِ الْمُتَفَرِّغُونَ والله أعْلَمُ.
__________
= يومين إنما هو لكون الأيام الثلاثة كاليوم الواحد بالنسبة للوقت (هو مذهب أحمد كما تقدم).
فلا فرق في جواز التأخير بين المعذور وغيره، وأما ترك المبيت فيختص بالمعذور فجوازه له للعذر لا يقتضي خروج وقت أداء الرمي في حقه ولا يلزم من ذلك ترك شعار النسك، لأن الشعار الأعظم هنا وهو المبيت ساقط عنه، وأما الرمي فالتوسعة في وقته للمعذور وغيره يدل على أنه شعاره يحصل بأي وقت فعل فيه، وظاهر كلامهم أنه يجوز للمعذورين وغيرهم التدارك ليلاً ونهاراً (هو مذهب الحنفية وبعض المالكية) والبعض الآخر يقول: الرمي ليلاً قضاء وهو المشهور عندهم وعند الحنابلة لا يرمي ليلاً بل يرمي بعد الزوال من الغد قبل الزوال وبعده، وهو ظاهر وإن أفهمت عبارة البغوي خلافه لأنها مبنية على ما ذهب إليه مما مَرّ عنه (أي من أن التدارك قضاء وهو مذهب مالك كما تقدم). اهـ. بزيادة ما بين الأقواس.
(فرع): قال في المجموع لو ترك المبيت ناسياً كان كتركه عامداً صرح به الدارمي وغيره. اهـ.
وقال فيه أيضاً (فرع) ذكر الروياني وغيره أنه لا يرخص للرعاء في ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر ولا في تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر، فإن أخروه عنه كان مكروهاً كما لو أخره غيرهم لأن الرخصة إنما وردت لهم في غير هذا. اهـ.
أقول: قال في مغني المحتاج شرح المنهاج فقول المجموع: قال الروياني وغيره: لا يرخص للرعاء في ترك رمي يوم النحر: أي في تأخيره محمول على أنه لا يرخص لهم في الخروج عن وقت الاختيار. اهـ.

(1/362)


المسئلة الثانية: يَجِبُ أنْ يَرْمِيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيّامِ التَّشْرِيقِ الجَمَرَاتِ الثَّلاَثَ كُل جَمرة بِسَبع حَصَياتِ فَيَأخُذُ إحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً فَيَأتِي الجمَرَةَ الأولَى وَهِي تَلِي مَسْجِدَ الخيفِ وَهِيَ أوّلهُن مِنْ جِهَةِ عَرَفَاتٍ وَهِيَ في نَفْسِ الطرِيق الجَادَّةِ فَيَأتيهَا مِنْ أَسْفَلِ مِنى ويَصْعَدُ إلَيْهَا وَيَعْلوهَا حَتَّى يَكُونَ مَا عَنْ يَسَارِهِ أَقل مِمَّا عَنْ يَمِينِهِ (1) وَيَسْتَقْبِلَ القبلَةَ ثُمَّ يَرْميهَا بِسَبعِ حَصَياتٍ واحدةً واحِدَةً ويكَثرُ عَقِبَ كُلّ حَصاةٍ (2) كَمَا سَبقَ فِي رَمْي جَمْرَةِ الْعَقَبةِ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَتَقَدمُ عَنْهَا وَينحرفُ قَلِيلاً وَيَجْعَلُهَا في قَفَاهُ وَيقِفُ في مَوْضِعِ لاَ يُصِيبهُ الْمُتَطَايرُ مِنَ الحَصَى الَّذِي يُرْمَى بِهِ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَحْمَدُ الله تَعَالَى ويُكَبّرُ وَيُهَلّلُ وَيُسَبِّحُ وَيَدْعُو (3) مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وخُشُوعِ الْجَوارِحِ وَيَمْكُثُ كَذَلِكَ
__________
(1) هذا باعتبار ما كان، أما الآن فقد سُويَت الأرض وليس هناك صعود ولا طلوع والحمد لله وقد جعل فوق الجمار الثلاث جسر (كوبري) عظيم يظلل الرامين للجمار من حر الشمس وتسير السيارات فوقه كما تقدم بعد إزالة جميع العقبة وإزالة أطراف الجبال التي حولها وفق الله حكومتنا السنية لما فيه خير الأمة وسعادتها آمين.
(2) أي لما في حديث البخاري الذي رواه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يكبر إثر كل حصاة".
(3) (الدعاء عند الجمرات).
الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، اللهم اهدني بالهدى، وقني بالتقوى، واغفر لي في الآخرة والأولى، سبحانك لا إله إلا أنت، (اللهم) لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم إليك رغبت، ومنك رهبت، ومن عذابك أشفقت، فاقبل نسكي، وأصلحه وأتممه واجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً، (اللهم) أعظم أجري وارحم تضرعي، واقبل توبتي، وأقل عثرتي، واستجب دعوتي، وأعطني سؤلي، (اللهم) ربي تقبل مني ولا تجعلني من المحرومين وأدخلني في عبادك الصالحين يا أرحم الراحمين، (اللهم) صلِ على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(1/363)


قَدَرَ سُورَةِ الْبقَرَةِ (1) ثُمّ يَأتِي الجَمرةَ الثانِيةِ وَهِيَ الْوُسْطَى ويَصْنَعُ فِيهَا كَمَا صَنَعَ في الأُولَى وَيقِفُ لِلدُّعَاءِ كَمَا وَقَفَ في الأُوْلَى إِلاَّ أنّهُ لاَ يَتَقَدّم عَن يَسَارِهِ كَمَا فَعَلَ فِي الأُولَى لأَنهُ لا يُمْكنُه ذَلِكَ فِيْهَا بَلْ يَتْركُهَا بِيَمِينٍ وَيقِفُ في بَطْنِ الْمَسِيل مُنْقَطِعَاً عَنْ أنْ يُصِيبَهُ الْحَصَى ثُم يَأتِي الْجَمْرَةَ الثالِثَةَ وَهِيَ جَمْرَةُ العَقَبة التي رَمَاهَا يَوْمَ النَحْرِ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلاَ تقِفُ عِنْدَهَا للدُّعَاءِ (2).
وَالْوَاجِبُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أصْلُ الرَّمْي بِصِفَتِهِ السابِقَةِ في رَمْي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ بِمَا يُسَمَّى حَجَراً وَيُسَمَّى رَمْياً.
وَأمّا الدُّعَاءُ وَغَيْرُهُ مِمَّا زَادَ عَلَى أصْل الرَّمْي فَسُنة لاَ شَيْء عَلَيْهِ في تَرْكِهِ لكن فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة وَيَرْمِي في الْيَومِ الثانِي مِنْ أيامِ التَّشْرِيقِ كَمَا رَمَى في الْيَوْمِ الأَوّلِ وَيَرْمِي في الثالث كَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَنْفِرْ في الْيَومِ الثانِي.
الثالِثَةُ: يُسْتَحَب أَنْ يَغْتَسِلَ كُلَّ يَوْم للرَّمْي (3).
__________
(1) قال في المجموع: رواه البيهقي من فعل ابن عمر والله تعالى أعلم.
(2) الترتيب على هذا النحو الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى هو الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بأخذ المناسك عنه ففي صحيح البخاري رحمه الله تعالى من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم، حتى يسهل فيقول مستقبل القبلة فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، هذا الحديث نص صريح، في الترتيب المذكور وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم عن جابر رضي الله عنه: (خذوا عني مناسككم) وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وقال أبو حنيفة الترتيب المذكور سنة فإن نكس الرمي أعاد وإن لم يعده أجزأه ولا دم عليه.
(3) قال بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى: الغسل لرمي الجمار وللطواف =

(1/364)


الرَّابِعَةُ: لاَ يَصِحُّ الرَّمْيُ (1) في هذِهِ الأَيامِ إِلا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَيَبْقَى وَقْتُه (2) إلَى غُرُوبِها وَقِيلَ يَبْقَى إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ.
الخَامِسَةُ: يُسْتَحب إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أنْ يقدمَ الرمْيَ عَلَى صَلاَةِ الظهرِ (3) ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلّيها نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله تَعَالَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا في صَحِيحِ الْبُخَارِيّ قَالَ: كُنَّا نتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا.
السَّادِسَةُ: الْعَدَدُ شَرْطٌ فِي الرَّمْي فَيَرْمِي كُل يَوْم إحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً إِلَى كُلِّ جَمْرَة سَبع حَصَيَات كُلّ حَصاة بِرمْيَة كَمَا تَقَدَّمَ (4).
__________
= وللمبيت بمزدلفة لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ولا استحسنه جمهور الأئمة لا مالك ولا أبو حنيفة ولا أحمد وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه، بل الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أغسال غسل الإحرام وغسل دخول مكة وغسل يوم عرفة. اهـ.
(1) أي الذي هو أداء ولما يأتي.
(2) أي الاختياري وإلا فوقت أدائه ممتد إلى آخر أيام التشريق على المعتمد كما في الحاشية ودليل الرمي بعد الزوال ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنهما قال: (رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس) وبهذا قال الأئمة الثلاثة وصاحبا أبي حنيفة رحمهم الله تعالى ورخص أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الرمي يوم النفر قيل الزوال قال في أضواء البيان: وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال خلاف التحقيق لأنه مخالف لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه المعتضد بقوله: "لتأخذوا عني مناسككم" ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد وأبو يوسف، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق لا مستند له البتة مع مخالفته للسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينبغي لأحد يفعله، والعلم عنه الله تعالى. اهـ مختصراً.
(3) أي إن اتسع الوقت بحيث يبقى منه بعد الرمي ما يسع للصلاة جميعها لا قدر ركعة فقط.
(4) أي في رمي جمرة العقبة والشروط التي اشترطت هناك تشترط هنا فلا تغفل.

(1/365)


السَّابِعَةُ: التَّرْتيبُ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ شَرْط (1) فَيَبْدَأ بِالْجَمْرَةِ الأُولَى ثُمَّ يَرْمِي الوسْطَى ثُمَّ جَمْرَةَ الْعَقَبةِ وَلاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَوْ تَرَكَ حَصَاة لَمْ يَدْرِ مِنْ أَيْنَ تَرَكَهَا جَعَلَهَا مِنَ الأوْلَى فَيَلْزَمُهُ أنْ يَرْمِيَ إِلَيْها حَصَاة ثُم يَرْمِيَ الجمرتين الأَخِيرَتَيْن.
الثامنَةُ: المُوَالاَةُ بَيْنَ رَمْي الجَمَرَاتِ وَرَمَيَاتِ الْجَمْرَةِ الواحدةِ سُنَّةٌ على الأصَحّ وَقِيلَ وَاجِبةٌ.
التاسِعَةُ: إذَا تَرَكَ شَيْئاً مِنَ الرَّمْي نَهَاراً فَالأَصَحُّ أَنهُ يَتَدَارَكُهُ فَيَرْمِيهِ لَيْلاً (2) أوْ فِيما بقِيَ مِنْ أيامِ التَّشْرِيقِ (3) سَوَاءٌ، تَرَكَهُ عَمْداً أوْ سَهْواً، وإذَا تَدَارَكَهُ فِيهَا فَالأَصَحُّ أَنهُ أداءٌ (4) لاَ قضاء وَإذَا لَمْ يَتَدَارَكْهُ حتى زَالَتِ الشمْسُ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي
__________
(1) كذا عند الإمامين مالك وأحمد والجمهور كما تقدم وقال أبو حنيفة الترتيب المذكور سنة فإن نكس الرمي أعاد وإن لم يعده أجزأه ولا دم عليه.
(2) قد تقدم في الفصل السابع في التعليق على قول المصنف: ويبقى الرمي إلى غروب الشمس، أن الشافعية والمالكية والحنفية كلهم يقولون يرمي ليلاً وبعض المالكية يرون الرمي ليلاً قضاء، والحنابلة: يمنعون الرمي ليلاً ويقولون يرمي من الغد بعد الزوال.
(3) قال في الحاشية: ولو قبل الزوال لأن جملة أيام منى بلياليها كوقت واحد بالنسبة للتأخير لا للتقديم إذ لا يجوز تقديم يوم واحد على زواله قولاً واحداً وبه قطع الجمهور وقول ابن عمر رضي الله عنهما "كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا" محمول بقرينة سياقه على غير المتدارك. اهـ مختصراً.
(4) وكذا الحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها كالحكم في رمي أيام التشريق فترمي من الغد ولا شيء عليه كما هو مذهب أحمد ومشهور مذهب الشافعي وعند أبي حنيفة إن ترك حصاة أو حصاتين أو ثلاثاً إلى الغد رماها وعليه لكل حصاة نصف صاع، وإن ترك أربعاً رماها وعليه دم لأنها أكثر من نصف حصى رمي يوم النحر لجمرة العقبة والله أعلم.

(1/366)


يَلِيهِ فَالأصَحُّ أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّرْتيبُ فَيرْمِي (1) أوّلاً عَنْ الْيَوْمِ الْفَائِتِ ثُمَّ عَنْ الْحَاضِرِ وَهَكَذَا لَوْ تَرَكَ يَوْمَ الْعِيدِ رَمْى جَمْرَة الْعَقَبَةِ فَالأَصَحُّ أَنهُ يَتَدَارَكُهُ في الليْلِ (2) وَفِي أيامِ التَشْرِيقِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّرْتيبُ فَيُقَدمُهُ عَلَى رَمْي التشْرِيقِ وَيَكُونُ أَدَاءً عَلَى الأَصَح وَإِذا قُلْنَا بِالأَصَحِّ أن الْمُتَدَارَك أدَاء لاَ قَضَاءٌ كَانَ تَعْيِينُ كُلّ يَوْمٍ للمِقْدَارِ المأمُورِ بِهِ وَقْتُ اخْتِيَارٍ وَفَضيلةٍ كأوْقاتِ الاخْتِيار للصّلاَة (3).
واعْلَمْ بِأَنَّهُ يَفُوتُ كُلُّ الرَّمْي بِأَنْوَاعِهِ (4) بِخُرُوجِ أيَّامِ التشْرِيقِ من غَيْرِ رَمْي وَلاَ يُؤَدَّى شَيْء مِنْهُ بَعْدَها لاَ أَداءً وَلاَ قضاءً، وَمَتَى تَدَارَكَ فَرَمَى في أَيَّامِ التشْرِيقِ فائِتَها أَوْ فَائِتَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ وَلَوْ نَفَرَ مِنْ مِنى يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ يَوْمَ الْقر (5) أوْ يَوْمَ النَّفْرِ الأَوَّلِ (6) ولَمْ يَرْمِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي (7) فرَمى أجْزَأهُ وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ (8) وَمَتَى فَاتَ الرَّمْيُ وَلَمْ يَتَدَارَكْهُ حَتَّى
__________
(1) أي جميع الجمرات الثلاث فلو رمى كل جمرة أربع عشرة حصاة سبعاً عن أمسه وسبعاً عن يومه لغا ما عن يومه لأنه لم يكمل رمي أمسه كما مَرَّ (في رمي النائب في تعليق رمي جمرة العقبة).
(2) مر الجمع بينه وبين قوله إن رمى جمرة العقبة لا يمتد تلك الليلة بأن المراد لا يمتد وقته الاختياري.
(3) قد تقدم الكلام على هذا في تعليق رمي جمرة العقبة مع أقوال الأئمة رحمنا الله وإياهم والمسلمين والمسلمات آمين.
(4) أي رمي يوم النحر ورمي كل يوم من أيام التشريق الثلاثة.
(5) يوم القر هو اليوم الذي يلي يوم النحر وسمي بذلك لأن الحجاج يقرون فيه بمنىً.
(6) هو اليوم الذي يلي يوم القر سمي بذلك لأن بعض الحجاج ينفرون من مِنى فيه بعد الزوال.
(7) أي من أيام التشريق وهو يوم النفر الأول.
(8) أي من جهة الرمي وإن كان عليه فدية من جهة المبيت. أقول: هذا حكم مَنْ =

(1/367)


خَرَجَتْ أيَّامُ التَّشْرِيقِ وَجَبَ عَلَيْهِ جَبْرُهُ بِالدَّمِ فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ ثَلاَثَ حَصَيَاتٍ أوْ أكْثَرَ أوْ جَمِيعَ رَمْي أيامِ التَّشْرِيقِ وَيَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ عَلَى الأَصَحّ (1)
__________
= نفر قبل وقت النفر الأول ولم يرم ثم عاد قبل غروب يوم النفر الأول، وتدارك ما عليه أجزأه سواء عاد يوم نفره أو ثانيه أو ثالثه بأن كان نفر يوم النحر فلا شيء عليه حينئذ من جهة الرمي، وإنْ كان عليه فدية من جهة المبيت كما قدمناه أما حكم من تعجل في اليوم الثاني وفارق منى قبل غروبه ثم تيقن أنه لم يرم فقال في المجموع: وجمع إمام الحرمين هذه المسألة وفضلها أحسن تفصيل. وحاصله كما في الحاشية أنه تارة ينفر بعد الزوال وقبل الرمي ولو لحصاة وحينئذ فإنْ غربت الشمس قبل عوده لمنى فاته الرمي فلا يتداركه وتلزمه الفدية ولا حكم لمبيته لو عاد بعد الغروب وبات حتى لو رمى في يوم النفر الثاني لم يعتد برميه لأنه بنفره مع عدم عوده قبل الغروب أعرض عن منى والمناسك، وإنْ لم تغرب الشمس فأقوال:
أحدها: ينقطع الرمي ولا ينفعه العود.
ثانيها: يتعين عليه العود والرمي ما لم تغرب، فإن غربت تعين الدم وهو الذي يظهر عندي ترجيحه وعليه فإذا غربت وهو بمنى لزمه المبيت ورمي الغد.
ثالثها: يتخير بين الرجوع والرمي وإراقة دم.
رابعها: إنْ عاد في النفر الأول قبل الغروب فرمى لم يقع موقعه بخلاف الثاني فإنه يقع موقعه وتارة ينفر قبل الزوال وحينئذ فإن عاد قبله أيضاً فلا أثر لنفره وبعد الغروب فقد انقطعت العلائق وإن كان خروجه قبل وقت الرمي أو عاد بينهما رمى واعتد برميه، وله النفر قبل الغروب. اهـ. وتارة ينفر بعد الغروب، وحينئذ فلا يسقط عنه المبيت ولا رمي الغد بل يجب عليه العود ما لم تغرب شمس آخر أيام التشريق فيما يظهر، والفرق بينه وبين ما يأتي غير خفي على المتأمل، فعلم مما تقرر أن شرط نفره الجائز الذي لا تبعة عليه بعده أن ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال والرمي وقبل الغروب، وإنه حيث لم يعتد بنفره قبل الغروب لا يسقط عنه مبيت الليلة الثالثة ولا رمي يومها، ثم إنْ عاد قبل الغروب ورمى ونفر قبله سقطا، أو بعده فلا، بل يستقر الدم وإن عاد كما علم مما مَرّ واقتضاه كلام الروضة. اهـ.
(1) قال في الحاشية: ما ذكره فيه هو المعتمد، وفارق ترك مبيت مزدلفة مع منى =

(1/368)


وَإنْ تَرَكَ حَصَاةً وَاحِدَةً مِنَ الْجَمْرَةِ الأَخِيرة (1) فِي الْيَومِ الأَخِيرِ لَزِمَهُ مُد مِنْ طَعَامٍ عَلَى الأظْهَرِ (2) وَفِي حَصَاتَيْنِ مُدَّان.
العَاشِرةُ: قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: الجَمْرَةُ مُجْتَمَعُ الحَصَى (3) لاَ مَا
__________
= بأن ذلك فيه ترك زمانين ومكانين وهذا فيه ترك زمانين فقط مع جواز تدارك يوم النحر في أيام التشريق.
(1) احترز به عما لو تركها من إحدى الجمرتين الأولتين في أي يوم كان أو من الأخيرة في رمي يوم النحر على المنقول المعتمد لأن حكمه في التدارك حكم ما بعده أو من النفر الأول لمن لم ينفره فإنه يلزمه بتركها في إحدى هذه الصور دم لوجوب الترتيب بين الجمرات كما مَرّ فيبطل ما بعده حتى يأتي به. اهـ حاشية ..
(2) ذهب مالك وأصحابه إلى أن من أخر رمي حصاة واحدة من الجمار سواء من العقبة أو من غيرها إلى ليل ذلك اليوم يلزمه دم، وما فوق الحصاة أحرى بذلك، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الدم يلزم بترك رمي الجمرات كلها، أو رمي يوم واحد من أيام التشريق، وكذلك عندهم رمي جمرة العقبة فرمي جمرة العقبة ورمي يوم من أيام التشريق ورمي الجميع سواء عندهم يلزم في ترك كل واحد منها دم واحد، وما هو أكثر من نصف رمي يوم عندهم كرمي اليوم يلزم فيه الدم فإذا ترك أربع حصيات من العقبة يوم النحر فعليه دم كما تقدم لأنها كثر من نصف حصى رمي يوم النحر لجمرة العقبة وكذا إذا ترك رمي جمرة أو وأربع حصيات من جمرة أخرى فعليه دم لأنه ترك أكثر من النصف لرمي يوم من أيام التشريق، فإنْ ترك أقل من نصف رمي يوم كأن ترك جمرة واحدة فلا دم عليه ولكن عليه صدقة عندهم فيلزم بكل حصاة نصف صاع من بُر أو تمر أو شعير.
وقد قدمنا أن الدم يلزم عند أبي حنيفة بفوات الرمي في يومه وليلته التي بعده ولو رماها من الغد في أيام التشريق وخالفه في ذلك صاحباه، وذهب أحمد إلى أن من أخر الرمي كله عن أيام التشريق لزمه دم وعنه في ترك الجمرة الواحدة دم ولا شيء عنده في الحصاة والحصاتين وعنه يتصدق بشيء، وعنه أن في الحصاة الواحدة دماً كقول مالك، وعنه في ثلاث حصيات دم، وفي الواحدة مد وفي الحصاتين مدان كالشافعي وقد تقدم والله أعلم.
(3) حَدَّه الجمال الطبري رحمه الله تعالى كما في الحاشية بأنه ما كان بينه وبين =

(1/369)


سَالَ مِنَ الحَصَى فَمَنْ أصَابَ مُجْتَمَعَ الحَصَى بِالرَّمْي أجْزَأَهُ وَمَنْ أَصابَ سَائِلَ الحَصَى الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِمُجْتَمَعِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَالْمُرَادُ مُجْتَمَعُ الحَصَى فِي مَوْضِعِهِ المَعْروفِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي زمنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فَلَوْ حُوّلَ وَرَمَى النَّاسُ في غَيْرِهِ وَاجْتَمَعَ فِيهِ الحصَى لَمْ يُجْزِهِ.
الحادية عشرة: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْمِيَ في اليَوْمَيْنِ الأَوَّلَيْنِ مِنْ أَيامِ التَّشْرِيقِ مَاشِياً (1) وَفِي الْيَوْمِ الثالِثِ رَاكِباً لأَنَّهُ يَنْفِرُ فِي الثالِثِ عقبَ رَمْيِهِ فَيَستَمِرُّ عَلَى رُكُوبِهِ.
الثانية عشرة: يُسْتَحَب لَهُ الإكْثَارُ مِنَ الصَّلاَةِ في مَسْجِدِ الْخَيْفِ (2) وَأَنَّ يُصَلِّيَ أَمَامَ الْمَنَارَةِ (3) عِنْدَ الأَحْجَارِ الَّتِي أمَامَهَا، فَقَدْ رَوَى الأَزْرَقِيُّ أنهُ مُصَلَّى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَيُسْتَحَب أنْ يُحَافِظَ عَلَى صَلاَةِ الجَمَاعَةِ فيهِ مَعَ الإِمَامِ في الفَرَائِضِ (4). وَقَد رَوَى الأَزْرَقِي فِي فَضْلِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ وَالصَّلاَةِ فيهِ آثاراً.
__________
= أصل الجمرة ثلاثة أذرع فقط وهذا التحديد من تفقهه وكأنه قرر به مجتمع الحصى غير السائل، والمشاهدة تؤيده، فإن مجتمعه غالباً لا ينقص عن ذلك.
(1) لما روى البيهقي وصححه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان يرمي في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشياً ذاهباً وراجعاً).
(2) الخيف ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع من مسيل الماء. ومنه سمي مسجد الخيف بمنى. اهـ مختار الصحاح. وقد جُدد هذا المسجد ووُسعَ فيه زمن حكومتنا السعودية في عهد الملك فيصل وخالد ابني عبد العزيز متع الله بحياة الأحياء ورحم الأموات آمين.
(3) المراد بالمنارة: المنارة المتصلة بالقبة التي بوسط المسجد لا المنارة التي على بابه، ومحراب هذه القبة هو محل الأحجار التي ذكرها المصنف رحمه الله تعالى استحدثت هذه القبة بالمسجد كما في الحاشية سنة أربع وسبعين وثمانمائة هجرية.
(4) لخبر الترمذي وابن حبان رحمهما الله تعالى في غير صحيحه كما في الحاشية =

(1/370)


الثالثة عشرة: يَسْقُطُ رَمْيُ الْيَومِ الثَّالِثِ عَمَّنْ نَفَرَ النَّفْرَ الأَوّلَ وَهُوَ الْيَوْمُ الثانِي مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَهَذَا النفْرُ وَإِنْ كَانَ جَائِزاً (1) فَالتّأخِيرُ إِلَى الْيَوْمِ الثالِثِ أَفْضَل (2) وَمَنْ أَرَادَ النفْرَ الأَوَّلَ نَفَرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشمْسِ (3) وَلاَ يَرْمِي في الْيَوْمِ الثانِي عَنِ الثالِثِ وَمَا بقِيَ مَعَهُ مِنْ حَصَى الْيَوْمِ الثالِثِ أوْ غَيْرِهِ إِنْ شَاءَ طَرَحَهُ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ إِلَى مَنْ لَمْ يَرْمِ، وَأَمَّا مَا يفعلُهُ النَّاسُ مِنْ دَفْنِهِ فَقَالَ أصْحَابُنَا: لاَ
__________
عن يزيد: (شهدت الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فصليت معه الصبح بمسجد الخيف) الحديث.
(1) أي لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
(2) أي إلا لعذر والتأخر في حق الإمام آكد لأنه متبوع فيقيم الناس أو أكثرهم بإقامته فإن تعجل جاز ولا فدية عليه كغيره من الناس والله أعلم.
(3) هذا أحد شروط النفر الأول.
ثانيها: أن يكون نفره بعد زوال اليوم الثاني من أيام التشريق.
ثالثها: أن يكون بعد الرمي جميعه.
رابعها: أنْ يكون قد بات الليلتين أو فاته بعذر كما تقدم.
خامسها: أن ينوي النفر قبل خروجه.
سادسها: أنْ تكون نية النفر مقارنة للنفر.
سابعها: أن لا يعزم على العود للمبيت ومعنى نفره قبل الغروب سيره من منى بالفعل قبله وإن لم ينفصل من منى إلا بعده.
(فرع): اعلم أن جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى على أن مَنْ غربت عليه شمس يوم النفر الأول وهو بمنى لزمه المقام بها حتى يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في اليوم الثالث، ولا ينفر ليلاً. وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: ثبت عن عمر رضي الله عنه: (مَنْ أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس). وقال الإمام أبو حنيفة: له أنْ ينفر ليلة الثالث عشر من الشهر حتى يطلع الفجر من اليوم الثالث فإنْ طلع الفجر لزمه البقاء حتى يرمي.

(1/371)


يُعْرَفُ فيهِ أثَر (1) وَلَوْ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَرَبَت الشَّمْسُ وَهُوَ بَعْدُ في مِنى لَزمَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالرَّمْيُ في الْيَوْمِ الثالِثِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُم يَنْفِرُ وَلَوْ رَحَلَ فَغَرَبتْ الشَّمْسُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ مِن مِنَى فَلَهُ الاسْتِمْرَارُ فِي السَّيْرِ وَلاَ يَلْزَمُهُ الْمَبيتُ بِهَا وَلاَ الرَّمْي (2) وَلَوْ غَرَبَتْ وَهُوَ فِي شُغْل الاْرْتِحَالِ جَازَ النَّفْرُ عَلَى الأَصَح وَلَوْ نَفَر قَبْلَ الْغُروبِ وَعَادَ إِلَى مِنى لحاجَة قَبْلَ الغُرُوبِ أوْ بَعْدَهُ جَازَ النَّفْرُ عَلَى الأَصَحّ.
__________
(1) قال في الحاشية بل هو بدعة كما قاله ابن جماعة، وإن قال به بعض المالكية والحنابلة اهـ. قال في مفيد الأنام للشيخ ابن جاسر الحنبلي رحمه الله تعالى: قال في الإقناع وشرحه (ويدفن بقية الحصى وهو حصى اليوم الثالث). قال في الفروع في الأشهر زاد بعضهم في المرمى انتهى. قلت: وله طرحه بالأرض لعدم الدليل على دفنه هذا إنْ كان قد جمعه. اهـ.
(2) قال في المجموع بعده: هذا هو المذهب وبه قطع الجماهير. اهـ.
أقول: وقال الشيخ عبد الله بن جاسر الحنبلي في مفيد الأنام: قلت لكن لو نوى التعجل، وقام بطرح خيامه وحملها مع أثاثه ثم عرض له ما يمنعه من الخروج من منى كمثل توقف سير السيارات، وما أشبه ذلك وغربت الشمس وهو بمنى فالظاهر أنه لا يلزمه المبيت والرمي عن الغد لما فيه من الضرر والحرج لا سيما بعد حمل خيامه وأثاثه على السيارات والله أعلم. ثم رأيت النووي صرح بذلك حيث قال: ولو ارتحل فغربت الشمس قبل انفصاله من منى فله النفر ولو غربت وهو في شغل الارتحال. انتهى.
أقول: فظهر من هذا أن الشيخ ابن جاسر رحمه الله تعالى مؤيد لما جاء في الإيضاح في المسألتين، وخالفهما صاحب أضواء البيان رحمه الله تعالى حيث قال فيه: والأظهر عندي أنه لو ارتحل من منى فغَربت عليه الشمس وهو سائر في منى لم يخرج منها أنه يلزمه المبيت والرمي لأنه يصدق عليه أنه غربت عليه الشمس في منى فلم يتعجل منها في يومين خلافاً للمشهور من مذهب الشافعي القائل بأن له أن يستمر في نفره ولا يلزمه المبيت والرمي. والأظهر عندي أيضاً أنه لو غربت عليه الشمس وهو في شغل الإرتحال أنه يبيت ويرمي خلافاً لمن قال يجوز له الخروج منها بعد الغروب لأنها غربت وهو مشتغل بالرحيل وهما وجهان مشهوران عند الشافعية والعلم عند الله تعالى. اهـ. =

(1/372)


الرابعة عشرة: يُسْتَحَبُّ للإمَامِ أَنْ يَخْطُبَ في الْيَوْمِ الثانِي مِنْ أَيامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَهِيَ آخِرِ خُطَبِ الْحَجّ الأَرْبَعِ وَيُعَلِّمُهُمْ جَوَازَ النَّفْرِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ طَوَافِ الْوَداع وَغَيْرِهِ ويُوَدّعُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى طَاعَةِ الله تَعَالَى وَعَلَى أنْ يَخْتِمُوا حَجهُمْ بالاْسْتِقَامَةِ والثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ الله تَعَالَى وَأَنْ يَكُونُوا بَعْدَ الْحجِّ خَيْراً مِنْهُمْ قَبْلَهُ وَأَنْ لاَ يَنْسَوا ما عَاهَدُوا الله تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ خَيْر وَالله أعْلَمُ.
الخامسة عشرة: في حكْمَةِ الرَّمْي اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْعِبَادةِ الطَّاعَةُ، والعِبَادَاتُ كُلهَا لَهَا مَعَان قَطْعاً فإِنَّ الشَّرْعَ لاَ يأْمُرُ بِالْعَبَثِ، ثُمَّ مَعْنَى الْعِبَادَاتِ قَدْ يَفْهَمُهُ المُكَلَّفُ وَقَدْ لاَ يَفْهَمُهُ فَالْحِكْمَةُ في الصَلاَةِ التَّواضُعُ وَالخُضُوعُ والخُشُوعُ وإِظْهَارُ الافْتِقَارِ إِلَى الله تَعَالَى والحِكْمَةُ في الصَّوْمِ كَسْرُ النَّفْسِ وَفِي الزكَاةِ مُوَاساةُ المُحْتَاج وَفِي الحَجِّ إِقْبَالُ الْعَبْد أشْعَثَ أغْبَرَ مِنْ مَسَافَة بَعِيدة إِلَى بَيْت فَضَّلَهُ الله تَعَالَى وَشَرَفَهُ كَإِقْبَالِ الْعَبْدِ إِلى مَوْلاَهُ ذَلِيلاً، وَمِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتي لاَ تُفْهَمُ مَعَانِيهَا السَّعْيُ وَالرَّمْيُ فَكُلّفَ الْعَبْدُ بِهَا لِيَتِمَّ انْقِيادُهُ فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ لاَ حَظَّ للنَّفْسِ فِيهِ وَلاَ أُنسَ لِلْعَقْلِ بِهِ فَلاَ يَحْمِلُ عَلَيْهِ إِلا مُجَرّدُ امتِثَالِ الأَمْر وَكَالِ
__________
= أقول: من باب ذكر الشيء بالشيء لا من باب التطاول على من لست أساوي وسخ أنعلهم: أحفظ قصة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أطال مرة في صلاة الصبح فقيل له كادت الشمس أن تطلع فقال: (لو طلعت لوجدتنا في صلاة) أو كما قال. فهنا في المسألة الأولى اجتهد النافر ورمى الجمار بعد الزوال وحمل خيامه بعد طرحها وأثاثه على سيارته وأخذ في المسير ناوياً النفر وعرض له ما يمنعه من السير، ولا يستطيع أن يتحرك يمنة ولا يسرة ولا القهقرى وجندي المرور يقول له: سِرْ أمامك لا تقف وإلا أوجعتك ضرباً ألا يجوز للنافر أن يقول على نحو قولة الصديق (لو غربت لوجدتنا في نفر) أي غير غافلين، اقتداءً بإمام الصديقين رضوان الله على الصحب وعلينا معهم والمسلمين والمسلمات أجمعين آمين.

(1/373)


الاْنْقِيَادِ فَهَذِهِ إِشَارَة مُخْتَصَرَة تُعْرَفُ بها الحِكْمَةُ في جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالله أَعْلَمُ (1).
السادسة عشرة: إِذَا نَفَرَ مِنْ مِنىً فِي الْيَوْمِ الثانِي أو الثالِثِ (2) انْصَرَفَ مِنْ جَمْرَةِ العَقَبةِ رَاكِباً كَمَا هُوَ وَهُوَ يُكَبِّرُ وَيُهَللُ وَلاَ يُصَلي الظهْرَ بِمَنى بَلْ يُصَليهَا بِالْمَنْزِلِ الْمُحَصَّبِ (3) أوْ غَيْرِهِ وَلَوْ صَلاَّهَا بِمنىً جَازَ وَكَانَ تَارِكاً للأَفْضَلِ وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِ بَعْدَ نَفْرِهِ مِنْ مِنىً عَلَى الْوَجْهِ المَذْكُورِ إِلا طَوَافُ الْوَدَاع.
السابعة عشرة: صَحَّ أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أتَى المُحَصَّبَ (4) حِينَ نَفَرَ مِنْ مِنىً.
وعن ابن عُمر رضي الله عنهما أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أتى الْمُحَصَّبَ فَصَلَّى بِهِ الظهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَهجَعَ هَجْعَةً (5) ثُمَّ دَخَلَ مَكّةَ وَطَافَ وَهَذَا التحْصيبُ مُسْتَحَب (6) اقتداء بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ هُوَ مِنْ سُنَنِ الْحج وَمَنَاسِكِهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا صَحَّ عَنْ ابن عَباس رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ: لَيْسَ التحْصِيبُ بسُنةِ إِنَّمَا هُوَ مَنْزِل نَزَلَ فِيهِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهذا الْمحصبُ بالأَبْطَح
__________
(1) قد تقدم الكلام في التعليق أول الكتاب على أسرار الحج وذكرياته، ومنافعه دينية ودنيوية فراجعها تستفد.
(2) أي من أيام التشريق.
(3) سيأتي الكلام على المحصب وعلى موضعه في المسألة السابع عشرة إن شاء الله تعالى.
(4) قال المصنف في شرح مسلم رحمهما الله تعالى: والمحصب بفتح الحاء والصاد المهملتين، والحَصبْة بفتح الحاء وإسكان الصاد، والأبطح والبطحاء، وخيف بني كنانة اسم لشيء واحد. وأصل الخيف كل ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل.
(5) أي نام نومة خفيفة بالليل.
(6) وهو مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة ويحكى عن أبي حنيفة أنه نسك.

(1/374)


وَهُوَ ما بينَ الجبلِ الَّذي عندَهُ مقابِرِ مكّة (1) والجَبَل الذي يُقابِله (2) مُصْعِداً في الشَّق الأيْسَرِ وَأَنْتَ ذَاهِب إِلَى مِنى مُرْتَفعاً عَلَى بَطْنِ الْوَادِي وَالَواديِ المَقْبَرَةُ (3) مِنْهُ وَاللهُ أَعْلَمُ.

فَصْل (4)
أَعْمَالُ الْحَجِ ثَلاثَةُ أَقْسَام أَرْكان وَوَاجِباتٌ وَسُنَن
أَما الأَرْكانُ: فَخَمْسَةٌ: الإِحْرَامُ والوُقُوفُ وَطَوَافُ الإِْفَاضَةِ والسَّعْي والْحَلْقُ إِذَا قُلْنَا بِالأَصَح إِنَّهُ نُسُك.
وَأَمَّا الواجِبَاتُ: فَاثْنَانِ مُتفَقٌ عَلَيْهِمَا وَأَرْبَعَة مُخْتَلَف فِيهَا فَإِنْشَاءُ الإِحْرَامِ
__________
(1) العليا التي بجانب الجعفرية والجبل المطل عليها، وعلى محلة الفخرانية، ومحلة أكلب بالمعابدة هو الذي يقصده المصنف رحمه الله تعالى.
(2) أي الذي تحته مسجد الإِجابة بالمعابدة، وقد جُددَ هذا المسجد في عهد الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود، كما جدد أمامه مسجد الأبطح الذي بقرب جبل زرود الواقع أمام السقافية الذي يقال له مسجد الملك عبد العزيز.
(3) أي مقبرة المعلاة فظهر من كلام المصنف أن موضع المحصب أوله الشعب الواقع فيه مسجد الإِجابة، وآخره أول مقبرة المعلاة والله أعلم.
وأما من يقول إن المحصب داخل في حدود منى محتجاً بقول الشافعي رحمه الله تعالى الذي هو أدرى بمكة وشعابها:
يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاطن خيفها والناهض
فهو متوهم إذ جعل الجار والمجرور (من منى) في محل الصفة للمحصب وليس كذلك بل الجار والمجرور متعلق براكباً، ويحتمل أن قوله (قف بالمحصب من منى) أي قف عند الجمرات التي تحصب أي ترمي بالجمار. قال في القاموس: المحصب: موضع رمي الجمار بمنى. اهـ. وهذا أظهر في معنى البيت كذا جاء في مفيد الأنام والله أعلم.
(4) ذكر فيه أعمال الحج مجملة بعد ذكرها مفصلة كما هي عادة المتقدمين رحمهم الله ورحمنا معهم آمين.

(1/375)


مِنَ الْمِيْقَاتِ وَالرَّمْيُ وَاجِبَانِ مُتفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا الأَرْبَعَةُ فَأَحَدُها الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَار في الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالثَّاني الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ والثَّالِثُ مَبِيتُ لَيَالِي مِنى لِلرَّمْي وَالرَّابعُ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَالأَصَحُّ وجُوبُ الأَرْبَعَةِ (1).
وَأَمَّا السُّنَنُ: فَجَمِيعُ مَا سَبَقَ مِما يُؤَمَرُ بِهِ الْحَاجُّ سِوَى الأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ وَذَلِكَ كَطَوَافِ الْقُدُومِ وَالأَذْكَارِ والأَدْعِيةِ وَاسْتِلاَمِ الْحَجَرِ وَالرَّمَلِ والاْضْطِبَاعِ وَسَائِرِ مَا نُدِبَ مِنَ الْهَيْئَاتِ السَّابِقَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيْضَاحُ هَذَا كُله (2).
وَأَمَّا أحْكَامُ هَذ الأَقْسَامِ: فَالأَرْكَانُ لا يَتُمُّ الحج وَلا يُجْزِىءُ حَتَّى يَأْتِي بِجَمِيعِهَا وَلاَ يَحِل مِنْ إِحْرَامِهِ مَهْمَا بقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى لَوْ أتى بِالأَرْكَانِ كُلِّها إِلاَّ أَنهُ تَرَكَ طَوْفَةً مِنَ السَّبع أَوْ مَرَّةً مِنَ السَّعْيِ لَمْ يَصِحّ الْحَج وَلَمْ يَحْصُلِ التحَلل الثاني.
وَكَذَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ لَمْ يَتِم حَجّهُ وَلاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحْلِق أو يقصِّرَ شَعْرَةً ثَالِثَةً وَلاَ يُجْبَرُ شَيْءٌ مِنَ الأَرْكَانِ بِدَمٍ وَلاَ غَيْرِهِ بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا، وَثَلاَثةٌ مِنْهَا وَهِيَ: الطَّوَافُ والسَّعْيُ وَالْحَلْقُ لاَ آخِرَ لِوَقْتِهَا بَلْ لاَ تَفُوتُ مَا دامع حَيَّاً وَلاَ يَخْتَصُّ الْحَلْقُ بِمنى والحرَم بَلْ يجوزُ فِي الْوَطَنِ وَغَيْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرْتيبَ وَاجِبٌ فِي هذِهِ الأَرْكَانِ وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الإِْحْرَامِ عَلَى جَمِيعِهَا وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الْوُقُوفِ عَلَى طَوَافِ الإِْفَاضَةِ وَالْحَلْقِ وَيُشْتَرطُ كَوْنُ
__________
(1) يستثنى منه الجمع في وقوفه بين الليل والنهار فإنه سنة كما مَرّ للمصنف في عَدهِ من سنن الوقوف بعرفة، وقد قدمنا كلام الأئمة عليه هناك. فراجعه إنْ شئت.
(2) أي مفصلاً وذكرنا في التعليق عليه بيان أقوال الأئمة رحمة الله علينا وعليهم وعلى المسلمين والمسلمات آمين.

(1/376)


السَّعْي بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيح (1) فَإِنَّهُ يَصِحُّ سَعْيُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَلاَ يَجبُ تَرْتيبٌ بَيْنَ الطَوَافِ وَالْحَلقِ وَهذَا كُلهُ سَبقَ بيانُهُ إِنَّمَا نبَّهْتُ عَلَيْهِ هُنَا مُلَخَّصاً ليُحْفَظَ وَالله أَعْلَمُ.
وَأَما الْوَاجِبَاتُ: فَمَنْ تَرَكَ مِنْهَا شَيْئاً لَزِمَهُ دَمٌ وَيَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْداً أوْ سَهْواً لكِنَّ الْعَامِدَ يأثَمُ إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا وَاجِبةٌ.
وَأَمَّا السُّنَنُ: فَمَنْ تَرَكَهَا لاَ شَيْء عَلَيْهِ لاَ إِثْمَ وَلاَ دَم وَلاَ غَيْرَهُ لكِن فَاتَهُ الْكَمَالُ وَالْفَضِيلَةُ وَعَظِيمُ ثَوَابِهَا وَالله اعْلَمُ.
__________
(1) يتناول النفل مطلقاً مع أنه مَرّ أن الشافعية والمالكية والحنابلة يشترطون وقوع السعي بعد طواف الركن، أو طواف القدوم فقط، لكن قول المصنف رحمه الله تعالى بعده فإنه يصح سعيه بعد طواف القدوم يرشد للمراد، وأبو حنيفة يجيز السعي بعد طواف صحيح ولو نفلاً فدوماً أو غيره وقد قدمنا ذلك في التعليق.

(1/377)