الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

الباب الخامس
في المقام بمكة وطواف الوداع وفيه مسائل
إِحْدَاهَا: مَكَّةُ أَفْضَلُ بِقَاع الأَرْضِ (1) عِنْدَنَا وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ العُلَمَاءِ وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أحمَدَ في أَصَحّ الروَايَتَيْنِ. وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ الله تَعَالَى وَجَمَاعَة الْمَدِينَةُ أَفْضَلُ (2) وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ النَّسائي وَغَيْرُهُ
__________
(1) قال الشاعر رحمه الله تعالى في مدح مكة:
أرض بها البيت المحرم قِبْلَةً ... للعالمين لها المساجد تعدل
حَرَمٌ حرامٌ، أرضها وصيودها ... والصيد في كل البلاد محلل
وبها المشاعر والمناسك كلها ... وإلى فضيلتها البرية ترحل
وبها المقام وحوض زمزم مشرعاً ... والحجر والركن الذي لا يرحل
والمسجد العالي المحرّم والصفا ... والمشعران لمن يطوف ويرمل
وبمكة الحسنات ضوعف أجرها ... وبها المسيء عنه الخطايا تغسل
أقول قول الشاعر (والصيد في كل البلاد محلل) أي ما عدا صيد حرم المدينة المنورة ووادي وج بالطائف.
(2) قال في الحاشية: وما استدل به بعض المالكية من حديث الحاكم الذي أخرجه في مستدركه: (اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك) فموضوع إجماعاً، كما قاله ابن عبد البر، وابن دحية، ونقل ابن مهدي ذلك عن مالك، على أنه لا دلالة فيه. وخبر الطبراني: (المدينة خير من مكة) ضعيف بل منكر وَاهٍ كما قاله الذهبي وخبر: (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة) لا يدل على الأفضلية، وكذا خبر: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد) وفي رواية: (وأشد) =

(1/388)


عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَدي ابْنِ الْحَمْرَاءِ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنهُ قَالَ: سُمعَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ واقفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ (1) يقُولُ لِمَكَّةَ وَالله إِنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ الله وَأحَب أَرْضِ الله إلى الله وَلَوْلاَ أني أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ (2)، رَوَاهُ التّرْمِذِيُّ أَيْضاً في كِتَابِهِ كِتَابِ الْمَنَاقِبِ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فَيَنْبَغِي لِلْحَاج أَنْ يَغْتَنِمَ بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ وَيَسْتكْثِرَ مِنَ الاعْتِمَار (3) وَمِنَ الطَّوَافِ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنهُ أَفْضَلُ مَسَاجِدِ الأَرْضِ
__________
= أما على الأولى فظاهر للشك، وأما على الثانية: فلأنه بعد وجود المانع من سكنى مكة ليكون تسلية لقلوب أصحابه لئلا ينافي قوله: (لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى الله وأكرمها على الله) الذي هو صريح في أفضلية مكة.
(1) أي بالحزورة -بحاء مهملة فزاي معجمة على وزن قَسْوَرَة كما في الحاشية-.
وفي قول بفتح الزاي مع تشديد الواو هي الرابية الصغيرة وهي عند منارة المسجد التي تلي أجياد أي فوق باب أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، وعندها سوق مكة وهو لا يزال يسمى سوق الصغير لعله مأخوذ من قولهم: (هي الرابية الصغيرة) وقد أدخل في المسجد الحرام في التوسعة الأخيرة توسعة الحكومة السعودية وفقها الله لمرضاته آمين.
(2) قال - صلى الله عليه وسلم -: هذا القول حين خرج من مكة في عمرة القضية لأنه عليه الصلاة والسلام أراد الإِقامة للبناء بزوجته السيدة ميمونة رضي الله عنها فأبت عليه قريش ذلك.
وفي رواية أنه قال ذلك عام الفتح علي الحجون، ولا تنافي لاحتمال أنه قال ذلك على الحجون مرة أخرى. والقول بأنه - صلى الله عليه وسلم - قاله حين خرج للهجرة مردود كما في الحاشية بقول الراوي: (على راحلته) وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على راحلة وإنما خرج مستخفياً كما دلت عليه الأخبار.
(3) قال العلامة ابن رشد رحمه الله تعالى في بداية المجتهد ونهاية المقتصد: واختلفوا في تكريرها -أي العمرة- في السنة الواحدة مراراً فكان مالك يستحب عمرة في كل سنة ويكره وقوع عمرتين عنده وثلاثاً في السنة الواحدة. وقال الشافعي وأبو حنيفة لا كراهة في ذلك. اهـ.
وقال الشيخ ابن جاسر الحنبلي رحمه الله تعالى في مفيد الأنام: ولا بأس أن يعتمر =

(1/389)


والصَّلاَةُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْهَا في غَيْرِهِ مِنَ الأَرْضِ جَمِيعِهَا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحينِ عَنْ أَبِي هُرِيرةَ رضي الله عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاَة في مَسْجِدِي هذَا خَيْرٌ مِنْ ألفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" (1). ويُسْتَحَبُّ التَّطَوُّعُ فيه بالطَّوَافِ لِكُلّ أحَدٍ سَوَاءٌ، الحاجُّ وَغيرُه ويستحبُّ في اللَّيلِ وَالنَّهارِ وَفِي أوقاتِ
__________
= في السنة مراراً. ثم ذكر بعد ذلك قوله: قال في الشرح الكبير: ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرة مع قرانها وعمرة مع حجها. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما" متفق عليه. اهـ.
(1) هذا الحديث لا يقطع النزاع كما في الحاشية لأن الإمام مالكاً رحمه الله تعالى يقول معناه الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - تعدل ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام فإنها تعدل الصلاة فيه بدون الألف، وأصبح منه بل قال ابن عبد البر أنه نص قاطع للنزاع ما رواه أحمد والبزار وابن خزيمة برجال الصحيح: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا" زاد ابن خزيمة: "يعني مسجد المدينة". ولفظ البزار "إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه مائة" وفي رواية: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة" قال ابن عبد البر: حديث صحيح. قال بعض المحدثين وصدق فيما قال، فإن رجاله ثقات من عَبْد بن حميد إلى ابن الزبير رضي الله عنهما. وفي أحكام المساجد للزركشي: روى أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه من حديث حماد بن زيد وغيره عن حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة ألف صلاة" وإسناده على شرط الشيخين لا جرم، صححه ابن عبد البر، وقال إنه الحجة عند التنازع وإنه نص في موضع الخلاف، قاطع عند من ألهم رشده ولم تمل به عصبيته، ثم ذكر أن بعض الناس طعن في حبيب المعلم، وبعضهم أعل الحديث ورَد ذلك بما يطول ذكره، ثم نقل عن الذهبي أنه قال: إسناده صالح، وروى ابن عبد البر هذا الحديث بإسناد آخر ثم قال: ورجال إسناده علماء أجلاء، ولم ينفرد ابن الزبير بذلك بل روى ما يوافقه أنس وجابر وأبو الدرداء، وروى بإسناد =

(1/390)


كَرَاهَةِ الصلاَةِ (1) وَلاَ يكرهُ في ساعةِ مِنَ السَّاعات وَكَذَا لاَ تكْرَهُ صَلاَةُ التطَوعِ في وَقْتِ مِنَ الأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ (2) وَلاَ بِغيْرِهَا مِنْ بِقَاعِ الحَرَمِ كُلهِ بِخِلاَفِ غَيْرِ
__________
= حسن (فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة ألف صلاة، وفي مسجدي بألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس بخمسمائة صلاة) وصح عن عمر رضي الله عنه: (صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -) وأخرج الطبراني بسند رجاله ثقات عن الأرقم -وكان بدرياً- قال جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أودعه وأردت الخروج إلى بيت المقدس فقال: "وما يخرجك إليه أفي تجارة؟ " قلت: لا ولكن أصلي فيه.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: "صلاةٌ هنا خيرٌ من ألف صلاة ثَم" وقَد مَرّ أن الصلاة ثم (بخمسمائة) والتضعيف في المساجد الثلاثة لا يختص بالصلاة بل يعم سائر الحسنات لما يدل له قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وحسنات الحرم الحسنة بمائة ألف حسنة" المذكور في حديث الحاكم المارّ في التعليق على قول المصنف في الباب الأول (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكباً).
(1) قال المصنف رحمه الله تعالى في مجموعه: قال العبدري: أجمعوا على أن الطواف في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها جائز، وأما صلاة الطواف فمذهبنا جوازها في جميع الأوقات بلا كراهة، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس والحسن والحسين ابني علي وابن الزبير رضي الله عنهم، وطاووس وعطاء والقاسم بن محمد وعروة ومجاهد وأحمد وإسحق وأبي ثور رحمهم الله، وكرههما مالك رحمه الله، وذكره في الموطأ، وذكر بإسناده الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف بعد الصبح فنظر الشمس، فلم يرها طلعت، فركب حتى أناخ بذي طوى فصلى.
أقول: استدل المجيزون بدليلين عام وخاص. فالعام هو أن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي. لأن سببها الخاص يخرجها من عموم النهي.
كركعتي الطواف فإنها لسبب خاص هو الطواف، وكتحية المسجد في وقت النهي، ونحو ذلك. والخاص هو ما ورد في خصوص البيت الحرام كحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن رحمهم الله تعالى. واستدل المكرهون بعموم الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في أوقات النهي والله أعلم.
(2) أي لما رواه مجاهد عن أبي ذر رضي الله عنهما مرفوعاً (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة).

(1/391)


مَكَّةَ. وَاخْتَلَفَ العلماءُ في الصَّلاةِ وَالطَّوَافِ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ ابنُ عَبّاسِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ وَعَطَاءٌ وَمُجاهدٌ: الصَّلاةُ لأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ.
وَأَمَّا الغُرَبَاءُ فَالطَّوَافُ لَهُمْ أَفْضَلُ وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: الطوافُ أَفْضَلُ (1).
الثانيةُ: لاَ يَرْمُلُ وَلاَ يَضْطَبعُ في الطَّوافِ خَارِجَ الْحَجّ بِلاَ خِلافٍ كَمَا سَبق بَيَانهُ.
الثالثةُ: لاَ يقَبِّلُ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ (2) وَلاَ يَسْتَلِمُهُ فَإنَّهُ بِدْعَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
__________
(1) أي لأن الله قَدم ذكر الطواف على الصلاة في قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة: 125] وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} [الحج: 26].
(2) مقام إبراهيم الخليل على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلينا معهم آمين ... هو الحجر الذي به أثر قدميه وهو موجود بداخل الموضع الزجاجي الواقع أمام الكعبة المشرفة الذي أُسس في عهد الحكومة السعودية سنة 1374 هـ بعد هدم الموضع الأول البنائي الذي كان لا يرى فيه المقام إلا الخاص، وأما الآن بعد وضعه في الموضع الزجاجي فأصبح يراه العام والخاص. وقول المصنف رحمه الله تعالى: (ولا يقبل مقام إبراهيم إلخ) قال في الحاشية رحمه الله ولا يعارض ما ورد في فضله من كونه هو والحجر الأسود: (ياقوتتين من يواقيت الجنة ولولا أن طمس نورهما) وفي رواية: (لولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب، وما مسهما من ذي عاهة ولا سقم إلا شفي) وغير ذلك لأن التقبيل والاستلام عبادتان مطلوبتان في الحجر الأسود بالنص، فلا يثبتان لغيره إلا بنص كذلك لأن العلة في مشروعيتهما فيه لم تتضح حتى يأتي القياس، وعلى تسليم إيضاحهما فلم يوجد في المقام بخلاف الركن اليماني فإنه ورد فيه بعض ما ورد في الحجر فدل أن بينهما جامعاً، فصَح قياسه عليه في بعض الأحكام التي تقدمت، ووضع ابن عمر رضي الله عنهما يديه على مقعده - صلى الله عليه وسلم - من المنبر ثم وضعهما على وجهه لا دليل فيه لمشروعية مثله هنا كما هو ظاهر على أنّ ذلك مذهب صحابي، وليس تقبيله أولى من قول الحنفية يستحب تقبيل باب الكعبة عند الوداع، لتوقفه على قولهم بالقياس أو الاستحباب في مثل ذلك. ونحن لا =

(1/392)


ابْنِ الزبَيْرِ وَمُجَاهِد كَرَاهَتُهُ وَلاَ يَسْتَلِمُ أيْضاً الرُّكْنَيْنِ الشَّامِييْنِ (1).
الرابعةُ: يُسْتَحَب لِمَنْ جَلَسَ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أنْ يَكُونَ وَجْهُهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَيقْرُبُ مِنْهَا وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا إِيْمَاناً وَاحْتِسَاباً فَإِنّ النَّظَرَ إِلَيْهَا عِبَادَةٌ فَقَدْ جَاءَتْ آثارٌ كَثِيرة (2) فِي فَضْلِ النَّظَرِ إِلَيْهَا.
الخامسةُ: يُسْتَحَب دُخُولُ البَيْتِ (3)
__________
= نقول به، على أن تقييدهم الاستحباب بالوداع ربما يدل على منع إلحاق غير الكعبة بها.
ويؤيد ما ذكرته ما رواه الأزرقي عن قتادة: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، وقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها، قال: ولقد ذكر لنا بعض من رأى أصابعه: فما زالت هذه الأمة تمسحها حتى اخلولق، ولذلك كره أحمد تقبيله ومسه باليد.
وسمي مقام إبراهيم لأنه الذي قام عليه حين بنى الكعبة، أوحين أذن في الناس بالحج، أو حين غسلت زوجة ابنه إسماعيل رأسه حين جاء يسأل عنه. أقوال أولها لابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما. قيل: ولا مانع من وقوفه عليه في الأحوال الثلاثة. اهـ.
(1) أي لأنهما ليسا موضوعين على قاعدتي الركنين اللتين وضعهما سيدنا إبراهيم الخليل كما تقدم في التعليق على الفصل الثاني في كيفية الطواف. فراجعه لتظهر لك الحقيقة. والله أعلم.
(2) أي وأحاديث منها كما في الحاشية عنه - صلى الله عليه وسلم -: "النظر إلى البيت عبادة" أخرجه ابن الجوزي رحمه الله تعالى، وما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - كما في رسالة الحسن البصري رحمه الله تعالى (مَنْ نظر إلى البيت إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحُشِرَ يوم القيامة من الآمنين) وخَرج الأزرقي عن ابن المسيب (مَنْ نَظَرَ إلى الكعبة إيماناً وتصديقاً خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه) وابن الجوزي عن أبي السائب والجندي عن ابن المسيب (مَنْ نظر إلى الكعبة إيماناً وتصديقاً تحاتت عنه الذنوب كما يتحات الورق من الشجر).
(3) أي الكعبة المشرفة لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم. فلما فتحوا كنت أول من وَلَجَ، فلقيت بلالاً فسألته: هل صلى فيه رسول الله؟ =

(1/393)


حَافِياً (1) وَأَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ (2) وَالأَفْضَلُ أَنْ يقْصِدَ مُصَلَّى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فإذَا دَخَلَ الْبَيْتَ مَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيباً مِنْ ثَلاَثَةِ أَذْرُع فَيُصَلي، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ
__________
= قال: (نعم بين العمودين اليمانيين) وفي رواية أنّ ذلك كان يوم فتح مكة. فإنْ قيل يشكل عليه ما صَح عن عائشة رضي الله عنها من أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها مسروراً، ثم رجع حزيناً فقال: "إني دخلت الكعبة، ولو استقبلت مِنْ أمري ما استدبرت ما دَخلْتُها إني أخاف أن كون شققت على أمتي".
(أجيب): بأنه لا إشكال إذ لا دلالة فيه على الكراهة، بل دخوله - صلى الله عليه وسلم - دليل على ندب الدخول وتمنيه - صلى الله عليه وسلم - عدمه، قد عَللَه بخشية المشقة على أمته، وذلك لا يرفع حكم الاستحباب والله أعلم، ووقت استحباب دخول الكعبة للحاجِ قبل طوافه للوداع لأنه لو فَعَله بعده لاحتاج لإعادته ويفهم مِنْ إطلاق المصنف أنه لا فرْق في ندب دخول الكعبة بين الرجل والمرأة لكن بشرط عدم اختلاطها بالرجال، ونحوه من المكروهات والمحرمات والله أعلم.
(1) ألحق الإمام مالك رحمه الله تعالى به قَبْره - صلى الله عليه وسلم -.
(2) قال في المجموع: وأقل ما ينبغي أن يصلي فيه ركعتان. اهـ. دليل الصلاة في الكعبة قول ابن عمر رضي الله عنهما في حديثه السابق (فلقيت بلالاً فسألته هل صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين).
فإنْ قيل: صَح عن أسامة بن زيد؟ رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم -: (لم يصل في الكعبة) وهو أحد الداخلين معه - صلى الله عليه وسلم -، أجيب: كما في المجموع: الأخذ برواية بلال في إثبات الصلاة أولى لأنه مثبت فقدم على النافي، ولأنه شاهد بعينه ما لم يشاهده أسامة، وسببه أن بلالاً كان قريباً من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صلى، راقبه في ذلك فرآه يصلي، وكان أسامة متباعداً مشتغلاً بالدعاء، والباب مغلق فلم يرَ الصلاة. فوجب الأخذ برواية بلال لأن معه زيادة علم. اهـ.
قال في المجموع: فيجوز عندنا أن يصلي في الكعبة الفرض والنفل، وبه قال أبو حنيفة والثوري وجمهور العلماء، وقال محمد بن جرير: لا يجوز الفرض ولا النفل. وبه قال أصبغ بن الفرج المالكي، وحكى عن ابن عباس. وقال مالك وأحمد: يجوز النفل المطلق دون الفرض والوتر. اهـ.

(1/394)


الْبُخَارِي (1). وَيَدْعُو في جَوَانبِهِ (2) وَهَذَا (3) بِحَيْثُ لاَ يُؤذِي أَحَداً وَلاَ يَتَأَذَّى هُوَ، فَإِنْ آذى أوْ تأذَّى لَمْ يَدْخُلْ وَهذَا مِمَّا يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَيَتَزَاحَمُونَ زَحْمَةً شَدِيدَةً بِحَيْثُ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَرُبما انْكَشَفَتْ عَوْرَةُ بَعْضِهِمْ أوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَرُبمَا زَاحَمَ الْمَرَأةَ وَهِيَ مَكْشُوفَةُ الْوَجْهِ والْيَدِ وَهَذَا كُلهُ خَطَأٌ يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ النَّاس وَيَغْتَرُّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَكَيْفَ يَنْبَغِي لِعَاقِل أَنْ يَرْتكبَ الأَذَى الْمُحَرَّمَ لِيَحصلَ أَمْراً لَوْ سَلِمَ مِنَ الأَذَى لِكَانَ سُنَّة، وَأَمَّا مَعَ الأَذَى فَلَيْسَ بسُنَّةٍ بَلْ حَرَامٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ.
السَّادِسَةُ: إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ شَأْنُهُ الدُّعَاءَ والتَّضَرُّعَ إِلى الله بِخُضُوعٍ وَخُشُوعٍ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ. وَلْيُكْثِرْ مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمُهِمَّةِ وَلاَ يَشْتَغِلُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يُلْهِيهِ بَلْ يَلْزَمِ الأَدَبَ، وَلْيَعْلَمْ أَنهُ في أَفْضَلِ الأَرْضِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عائشةَ رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: عَجباً للمرء المسلمِ إذا دَخَلَ الكعبةَ كَيْفَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ قِبَل السَّقْف؟! لِيَدَعْ ذَلِكَ إِجْلاَلاً لله تَعَالَى وَإِعْظَاماً، دَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبةَ مَا خَلَفَ بَصرُهُ مَوضِعَ سُجُودِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْها (4).
__________
(1) قال في الحاشية: ظاهر رواية الشيخين رحمهما الله تعالى أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى مستقبلاً الجدار المقابل للباب، وهو الظاهر وإن تشكك فيه بعضهم وكان يصلي في ذلك المحل إلى الجهات الأربع. اهـ.
أقول: قد حدد المحشي مصلاه - صلى الله عليه وسلم - باعتبار ما عليه داخل الكعبة الآن فقال: يجعل (يعني المصلي) ظهره للباب ويجعل بينه وبين الجدار المقابل له نحو ثلاثة أذرع. اهـ.
وهو موافق لقول المصنف: فإذا دخل البيت مشى إلخ ...
(2) أي يأتي نواحي البيت أي الكعبة من داخلها فيكثر من الدعوات مع الخشوع على ما سيذكره المصنف في السادسة.
(3) أي ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من استحباب دخول البيت.
(4) رواه ابن المنذر والحاكم وصححه كما في الحاشية.

(1/395)


السابعةُ: لِيحذرْ كُل الحذرِ مِنَ الاغترارِ بِمَا أحدثَهُ بَعْضُ أَهْلِ الضلالَةِ في الكعبة المكرمة. قَالَ شيخُنَا الإِمَامُ أبُو عمرو بنُ الصَّلاحِ رحمهُ الله تعالَى: ابتدع مِنْ قَريبٍ بَعْضُ الْفَجَرَةِ الْمُحْتَالِينَ في الْكَعبة الْمُكَرَّمَة أمْرَيْنِ بَاطِلَيْن (1) عَظُمَ ضَرَرُهُمَا عَلَى العَامَّةِ، أَحَدُهمَا مَا يَذْكُرونَهُ مِنَ العُرْوَةِ الوُثْقَى عَمَدُوا إِلَى مَوْضِع عَالٍ مِن جِدَارِ الْبَيْتِ الْمُقَابِلِ لبابِ الْبَيْتِ فَسَمُّوهُ الْعُرْوَةَ الوُثْقَى وَأَوْقَعُوا في نُفوسِ الْعَامَّةِ أَن مَنْ نَالَهُ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى فَأَحْوَجُوهُمْ إِلَى أَنْ يُقاسُوا فِي الوُصُولِ إِلَيْهَا شِدة وَعَنَاءً وَيَرْكَبَ بَعْضُهُمْ ظَهْرَ بَعْضٍ، وَرُبمَا صَعَدَتْ الْمَرْأة عَلَى ظَهْرِ الرَّجُل وَلاَمَسَتْ الرّجَالَ وَلاَمَسُوهَا فيَلْحَقُهُمْ بِذَلِكَ أَنْوَاعٌ مِنَ الضرَرِ دِيناً وَدُنْيَا.
الثاني: مِسْمَارٌ في وَسَطِ الْبَيْتِ سَمَّوْهُ سُرَةَ الدُّنْيَا وَحَمَلُوا الْعَامَّةَ عَلَى أَنْ يَكْشِفَ أَحَدهمْ سُرَّتَهُ وَيَنْبَطِحَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ الْمِسْمَارِ لِيَكُونَ وَاضِعاً سُرَّتَهُ عَلَى سُرَّةِ الدُّنْيَا قاتَلَ الله وَاضِعَ ذَلِكَ وَمُخْتَرِعَهُ وَالله الْمُسْتَعَانُ.
الثامنةُ: يُسْتَحَبُّ صَلاَةُ النَّافلة فِي الْبَيْتِ (2)، وَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَإِن كَانَ يَرْجُو
__________
(1) قال المحشي: ما ذكره المصنف من الأمرين الباطلين قد أزيلا من الكعبة ولله الحمد. اهـ.
أقول: زماننا آخر القرن الرابع عشر لم يكن لهما وجود فقد ذهبا حيث لا رجعة نسأله تعالى إماتة الباع وإحياء السنن آمين.
(2) أي الكعبة فنفل الصلاة فيها أفضل من النفل خارجها في المسجد والحرم لا البيوت للحديث المتفق على صحته (أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ودليل استحباب الصلاة في الكعبة ونفلها فيها أفضل منه خارجها في المسجد الحرام قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث السابقة: "وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة" أقول والكعبة أفضل جزء في المسجد الحرام.

(1/396)


جَمَاعَةً كَثِيرَةً فَهِيَ خارِجُ البَيْتِ أَفْضَلُ (1)، وإِنْ كَانَ لاَ يَرْجُوهَا (2) فَدَاخِلُ البَيْتِ أفضَلُ، وَإِذَا صَلى في الْبَيتِ (3) اسْتَقْبَلَ بَعْضَ جُدْرَانِهِ، فَلَوْ اسْتَقْبَلَ الْبَابَ وَهُوَ مَرْدُودٌ كَفَى وَلَوْ اسْتَقْبَلَهُ وَهُوَ مَفْتُوح فَإِنْ كَانَتْ عَتَبةُ الْبَابِ مُرْتَفِعَةَ عَنِ الأَرْضِ بِنَحْوِ ثُلُثَيْ ذرَاعِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ أقْصَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَصِحّ صَلاَتُهُ، وَلَو صَلوا جَمَاعَةَ في الْكَعْبةِ جَازَ وَلَهُمْ في مَوْقِفِهِمْ خَمْسَةُ أَحْوَال: (أحَدُهَا) أن يكُونَ وَجْهُ الْمَأمُومِ إلى وَجْهَ الإِْمَام و (الثَّاني) أَنْ يَكُونَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِهِ (الثالِثُ) أَنْ يَكُونَ وَجْهُ المأمُومِ إِلَى ظهْرِ الإِْمَامِ (الرَّابعُ) أَنْ يَكُونَ بِجنبه سَواءً (الخامسُ) أنْ يَكُونَ ظهرُ المأمُومِ إِلَى وَجْهِ الإِْمَامِ فَتَصِحُّ الصَّلاَةُ فِي الأحْوَالِ الأَرْبَعَةِ الأُوَلِ وَلاَ تَصِحُّ في الخَامِسَةِ عَلَى الأَصَح.
التاسعةُ: يُسْتَحَبّ الإِكْثَارُ مِنْ دُخُولِ الْحِجْرِ (4) فَإِنّهُ مِنَ الْبَيْتِ وَدُخُولُهُ سَهْلٌ وَقَدْ سَبقَ أن الدعاءَ فِيهِ تَحْتَ الميزاب مُستجابٌ.
__________
(1) أي لأن الجماعة فَضِيلَة تتعلق بنفس الصلاة والكعبة فضيلة تتعلق بموضعها والقاعدة عند الفقهاء رحمهم الله تعالى أن المحافظة على فضيلة تتعلق بنفس العبادة أولى من المحافظة على فضيلة تتعلق بمكان العبادة.
(2) أو أمكن الجماعة الحاضرين الصلاة في الكعبة. (فإن قيل): كيف جزمتم بأن الصلاة في الكعبة أفضل من خارجها مع أنه مختلف بين العلماء في صحتها، والخروج من الخلاف مستحب.
(أجيب): كما في المجموع بأنه يستحب الخروج من خلاف محترم، وهو الخلاف في مسألة اجتهادية، أما إذا كان الخلاف مخالفاً سنة صحيحة كما في هذه المسألة فلا حرمة له ولا يستحب الخروج منه لأن صاحبه لم تبلغه هذه السنة، وإن بلغته وخالفها فهو محجوج بها والله أعلم.
(3) أي الكعبة المشرفة.
(4) الحِجْر: بكسر الحاء: يطلق على الفرس، وعلى العقل وعلى حجر ثمود، وعلى المنع، وعلى الكذب وعلى حِجْر الثوب، وعلى حِجْر إسماعيل على نبينا وعليه =

(1/397)


العاشرة: يُستحبُ لَهُ أنْ يَنْوِيَ الاعتكافَ كُلَّمَا دَخَلَ المسجدَ الحرام، فإِنَّ الاعتكافَ مُسْتَحبٌّ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَسْجِداً مِنَ الْمَسَاجِدِ فَكَيْفَ الظن بالمسجد الحرامِ، فَتقْصُد بِقلبِهِ حِينَ يصيرُ في المسجدِ أَنهُ مُعْتكِفٌ لله تعالى سَوَاء كانَ صائماً أو لم يكنْ فَإِنَّ الصومَ لَيْسَ بِشَرْطٍ في الاعتكافِ عِنْدَنَا (1) ثمَّ يَسْتمر لَهُ الاْعتكَافُ مَا دَامَ في المسجِدِ فإِذَا خَرَجَ زَالَ اعتكَافه (2) فإِذا دَخَلَ مَرَّةً أُخْرَى نوَى الاعتكافَ وَهَكَذَا كُلَّمَا دَخَل، وَهَذَا مِنَ المُهماتِ الَّتي تُسْتَحَبّ المحافظةُ عَلَيْهَا والاعتناءُ بِهَا.
الحاديةَ عشرةَ: يُسْتَحَب الشُّرْبُ مِن مَاءِ زَمْزَم (3) وَالإِكْثَارُ مِنْه.
__________
= أفضل الصلاة والسلام. وهو المراد هنا، وقد نظمها بعضهم رحمه الله تعالى في قوله:
ركبتُ حِجْراً وطُفْتُ البيت خلف الحِجْر ... وحزت حجراً عظيماً ما دخلت الحجر
لله حجر منعني من دخوله الحِجْر ... ما قلتُ حجراً ولو أعطيت ملء الحجر
فقوله: (ركبت حجراً) أي فرساً و (طفت البيت خلف الحِجْر) أي حِجْر إسماعيل، و (حزت حجراً) أي عقلاً (ما دخلت الحجر) أي حجر ثمود (لله حجر) أي منع منعني من دخول الحجر حجر ثمود، فهو مكرر، (ما قلت حجراً) أي كذباً، (ولو أعطيت ملء الحِجْر) أي حجر الثوب.
(1) أي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على نفسه" رواه البيهقي والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولاعتكافه - صلى الله عليه وسلم - في عشر شوال الأول كما في الصحيحين، ومن جملته اليوم الأول وهو لا يصح صومه لأنه يوم عيد الفطر، ولقول عمر رضي الله عنه يا رسول الله إني نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية: فقال: "أوف بنذرك" كما في الصحيحين أيضاً. والليل ليس محلاً للصوم، وحمل الشافعية حديث: "لا اعتكاف إلا بصيام" وحديث: "اعتكف وصم" على الندب.
(2) قال في الحاشية: أي إن لم يكن عازماً على العود في حال خروجه ولم ينوِ مدة معينة، وخرج لنحو قضاء حاجة وإلا لم يحتج لنيته عند الدخول على تفصيل ذكروه في بابه. اهـ مختصراً.
(3) قال المصنف في كتابه تهذيب الأسماء واللغات: زمزم زادها الله شرفاً بزاءين =

(1/398)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وفتحهما وإسكان الميم بينهما، وهي بئر في المسجد الحرام - زاده الله تعالى شرفاً بينها وبين الكعبة زادها الله تعالى شرفاً ثمان وثلاثون ذراعاً. قيل سميت زمزم لكثرة مائها.
يقال ماء زمزم وزمزوم وزمزام إذا كان كثيراً، وقيل: لضم هاجر عليها السلام لمائها حين انفجرت، وزمّها إياها، وقيل لزمزمة جبريل وكلامه، وقيل غير مشتق. ولها أسماء أخر ذكرها الأزرقي وغيره رحمه الله تعالى: هزمة جبريل، والهزمة الغمرة بالعقب في الأرض وبَرَّة، وشباعة، والمضنونة. ويقال لها طعام طعم وشفاء سقمٍ وشراب الأبرار، قال الأزرقي: كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعاً كل ذلك بنيان. وما بقي فهو جبل منقور، وهي تسعة وعشرون ذراعاً، وذرع تدوير فم زمزم أحد عشر ذراعاً. وسعة فم زمزم ثلاثة أذرع وثلثا ذراع. وأول من عمل الرخام على زمزم وعلى الشباك وفرش أرضها بالرخام أبو جعفر أمير المؤمنين في خلافته رحمه الله تعالى. اهـ مختصراً.
سبب ظهور زمزم: روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحدٌ، وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟. قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم حتى بلغ: يشكرون) وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها فجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال (يتلبط) فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها. فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإِنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فذلك سَعْي الناس بينهما". =

(1/399)


ثبت في صحيحِ مسلم عَنْ أَبي ذرٍّ رضي الله عنه أَنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماءِ زمزمَ: "إنّها مُبَارَكَة وَإِنَّهَا طَعَامُ طُعْم وشِفَاءُ سُقْم". وَرَوَيْنا عَنْ جَابِر رضِي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ماءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَه" (1).
__________
= فلما أشْرَفَتْ على المروة سمعت صوتاً فقالت: (صه) تريد نفسها ثم تَسَمَّعَتْ فسمعت أيضاً فقالت قد أسمعت إن كان عندك غوث. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه -حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا أي تجمعه- وفي حديث عليّ فجعلت تحبس الماء، فقال: دعيه فإنها رواء، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرحم الله أم اسماعيل لو تركت - أو قال لم تغرف من زمزم لكانت زمزم عيناً معيناً"، قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هذا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه. وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مَرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً -وهو الذي يحوم على الماء- فقالوا: إنّ هذا الطائر ليدور على ماء لَعَهْدُنَا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جرياً أو جريين (أي رسولاً) فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال: وأم إسماعيل عند الماء: فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا: نعم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس" فنزلوا، انتهى حديث ابن عباس رضي الله عنهما من حديث زمزم. انتهى من كتاب عمارة المسجد الحرام للشيخ حسين باسلامه رحمه الله تعالى آمين.
فائدة: ورد أن زمزم عين من عيون الجنة، وذكر بعضهم أن شخصاً وقع في بئر زمزم فنزحت من أجله فوجدوها تفور من ثلاث أعين أقواها وأكثرها ماءً عين من ناحية الحجر الأسود والثانية من جهة الصفا والثالثة من جهة المروة.
(1) قال في الحاشية: قد كثر كلام المحدثين في هذا الحديث والذي استقر عليه أمر محققيهم أنه حديث حسن أو صحيح، وقول الذهبي إنه باطل، وابن الجوزي (أنه موضوع) مردود، فقد روى ابن الجوزي نفسه عن سفيان أنه سئل عنه فقال: صحيح. وقد شربه جماعة من العلماء لمطالب فنالوها. اهـ. أقول: قد أفرد هذا الحديث بتأليف =

(1/400)


وَقَدْ شَرِبَ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ مَاءَ زَمْزَمَ لِمَطَالِبٍ لَهمْ جَلِيلَةٍ فَنَالُوهَا، فيستحب لِمَنْ أرادَ الشُّرْبَ للْمَغْفِرَةِ أَوْ الشفَاءِ مِنْ مَرَض وَنَحْوِهِ أَنْ يَسْتَقْبِل القِبْلَةَ ثُمَّ يَذْكُرَ اسْمَ الله تَعَالَى ثُمَّ تقُولُ: اللَّهُمّ إنّهُ بَلَغني أَنّ رَسُولَكَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ اللَّهُمَّ وإنّي أشْرَبهُ لِتَغْفِرَ لي، اللَّهُمَّ فَاغْفِرْ لي، أَوْ اللَّهُمَّ إِنّي أشْرَبُهُ مُسْتَشْفِياً بِهِ مِنْ مرضِي اللَّهُمَّ فَاشْفِني" وَنَحْو هذَا. وَيُسْتَحَب أَنْ يَتَنَفسَ ثَلاَثَاً وَيَتَضَلَّعَ مِنْهُ أي يَمْتَلىء فَإِذَا فرَغَ حَمِدَ الله تَعَالَى (1).
__________
= العلامة السيد محمد بن إدريس الحسني رحمه الله تعالى أسماه كتاب (إزالة الدهش والوله عن المتحير في صحة حديث ماء زمزم لما شرب له) وهو مطبوع الطبعة الأولى سنة 1330 هـ طبع بالمطبعة الجمالية بمصر.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى كما في مفيد الأنام: وفي سنن ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ماء زمزم لما شرب له"، وقد ضعف هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المؤمل راويه عن محمد بن المنكدر وقد روينا عن عبد الله بن المبارك أنه لَما حَج أتى زمزم فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه عن نبيك - صلى الله عليه وسلم - بأنه قال: "ماء زمزم لما شرب له" فإني أشربه لظمأ يوم القيامة. وابن أبي الموالي ثقة فالحديث إذاً حسن. وقد صححه بعضهم وجعله بعضهم موضوعاً، وكلا القولين فيه مجازفة، وقد جَربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، وقد استشفيت به من عدة أمراض فبرئت بإذن الله، وشاهدت مَنْ يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر، ولا يجد جوعاً، ويطوف مع الناس كأحدهم. وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً وكان له قوة يجامع بها أهله، ويصوم، ويطوف مراراً انتهى كلام ابن القيم.
أقول: ويشهد لهذا قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه المروية في مسلم القائل له فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: متى كنت ها هنا. قال قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم.
قال فَمْن كان يطعمك. قال قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عُكَنُ بطني، وما أجد على كبدي سَخْفَة جوع. قال: إنها مباركة، إنها طعام طعم.
(1) لما رواه ابن ماجه رحمه الله عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنت جالساً عند ابن عباس (رضي الله عنه) فجاءه رجل فقال: من أين جئت؟ قال: من =

(1/401)


الثانيةَ عشرة: يُسْتَحَب لِمَنْ دخلَ مكَّةَ حاجاً أو مُعْتَمِراً أن يختمَ القُرْآنَ فيهَا قَبْلَ رُجُوعِهِ.
الثالثةَ عشرة: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في المجاورةِ بمكةَ فقالَ أبو حنيفةَ وَمَنْ وَافَقَهُ: تكْرَهُ المجاوَرَةُ، وقال أحمدُ بنُ حَنْبَل وآخَرُونَ (1) لا تكْرَهُ بَلْ تُسْتَحَبُّ، وإِنَّمَا كَرِهَهَا مِن كَرِهَهَا لأُمُورِ منها خوفُ المَلَلِ وَقِلَّةُ الحرمةِ للإنسِ وخوفُ ملابسةِ الذنوبِ (2)، فإِن الذنبَ فيها أقبح منهُ في غيرِها، كما أنّ الحَسَنَةَ فيها
__________
= زمزم، قال: فشربت منها كما ينبغي؟ قال: فكيف. قال: إذا شربت منها فاستقبل القبلة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثاً من ماء زمزم وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم، وروى الأزرقي رحمه الله بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق، وسنده إلى الضحاك بن مزاحم قال: بلغني أن التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق وأن ماءها يذهب الصداع.
(لطيفة): سأل الحافظ ابن حجر العسقلاني الشيخ ابن عرفة رحمهما الله حين اجتماعه به في مصر عن ماء زمزم لِمَ لمْ يكن عذباً. فقال ابن عرفة: إنما لم يكن عذباً ليكون شربه تعبداً لا تلذذاً. فاستحسن الحافظ جوابه وطرب له.
(1) وهم أكثر العلماء منهم الشافعي وصاحبا أبي حنيفة رحمهم الله تعالى.
(2) أي لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الآتي. (لخطيئة أُصِيبُها بمكة أعز على من سبعين خطيئة بغيرها) بل قال مجاهد وجماعة من العلماء رحمهم الله تعالى كما سيذكره المصنف في الخامسة والثلاثين (إن السيئة تضاعف بها كما تضاعف الحسنة) وسئل أحمد رحمه الله تعالى هل تكتب السيئة أكثر من واحدة، فقال: (لا، إلا بمكة لتعظيم البلد). وظاهر كلام مجاهد أن السيئة تبلغ في التضعيف مبلغ الحسنة، وهو مائة ألف، ويؤيده قول ابن عباس رضي الله عنهما: (ما لي وبلد تتضاعف فيه السيئات كما تتضاعف الحسنات) قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر في مفيد الأنام: قال في الإِقناع: وتعظيم السيئات به. قال منصور في شرحه: ظاهر كلامه أن المضاعفة في الكيفية لا الكم، وهو كلام الشيخ تقي الدين. وظاهر كلامه في المنتهى تبعاً للقاضي وغيره أن =

(1/402)


أعظمُ منها في غيرها. وأمّا من استحبَّها فلِما يحصلُ فيها من الطَّاعَاتِ الَّتي لا تَحْصُلُ بغِيرِها مِنَ الطَّوَافِ وَتَضْعِيفِ الصَّلَوَاتِ والْحَسَنَاتِ وغيرِ ذلكَ.
والمختارُ أن المُجَاوَرَةَ بِهَا مُسْتَحَبةٌ إِلا أَن يَغْلِبَ على ظَنِّه الوُقُوعُ في الأُمُورِ الْمَحْذُورَةِ وغَيْرِهَا، وقد جَاوَرَ فيها خَلاَئِقُ لا يُحْصَوْن (1) من سَلَفِ الأُمَّةِ وَخَلَفِهَا مِمَّنْ يقتَدى بِهِم، وَيَنْبَغِي للمُجَاوِرِ بِهَا أَن يُذَكِّرَ نَفْسَهُ بِمَا جَاءَ عن عُمَرَ بن الخطَابِ رضي الله عنهُ أَنهُ قَالَ: لَخطيئَة أُصِيبُهَا بِمَكَّة أَعَز عَلَيّ (2) مِنْ سَبْعِينَ خطيئَة بِغَيْرِهَا (3).
__________
= المضاعف الكم كما هو ظاهر نص الإمام، وكلام ابن عباس (ما لي وبلد تتضاعف فيه السيئات كما تتضاعف الحسنات) خاص فلا يعارضه عموم الآيات بل تخصص به لأن مثله لا يقال مِنْ قِبَل الرأي فهو بمنزلة المرفوع. انتهى كلام منصور.
قلت: الأظهر ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله لأنه صريح نَص القرآن. قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} ومراد ابن عباس مضاعفة السيئات بالكيف لا بالكم كما قرره شيخ الإسلام والله أعلم.
(1) عَد الطبري رحمه الله كما في الحاشية من الصحابة رضوان الله عليهم الذين جاوروا بمكة أربعة وخمسين، ومن الذين ماتوا بها ستة عشر، قال: وجاور بها من كبراء التابعين جَمٌ غفير والله أعلم.
(2) أي وأشد وأصعب. وقوله من سبعين ذكرها مريداً بها التكثير لا خصوص هذا العدد لأنه يكنى بها عند العرب عن الكثرة كقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}.
(3) وفي مفيد الأنام: (الخطيئة أصيبها بمكة أعز عليّ من سبعين خطيئة بركبه) قال: وركبة هي الصحراء الواسعة المعروفة بطريق نجد. وروى الأزرقي بسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: يا أهل مكة لا تحتكروا الطعام بمكة فإن احتكار الطعام بمكة للبيع إلحاد، وبسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ليس أحد من خلق الله تعالى يَهُمُّ بسيئة فيؤخذ بها، ولا تكتب عليه حتى يعملها غير شيء واحد. قال ففزعنا لذلك، فقلنا: ما هو يا أبا عبد الرحمن. قال عبد الله مَنْ هََم أو حَدثَ نفسه بأن يلحد بالبيت أذاقه الله عز وجل من عذاب أليم ثم قرأ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} [الحج: 25]. =

(1/403)


الرابعةَ عشرة: يُسْتَحب زيَارَةُ المَوَاضِعِ المَشْهُورة بالفَضْلِ في مكة والحَرَمِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا ثمانيةَ عشرَ مَوْضِعَاً منها البيتُ الذي وُلِدَ فيه رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ اليومَ مسجد (1) في زُقَاق يقالُ لَهُ زُقَاقُ المولدِ.
وذكَرَ الأزْرَقِيُّ أَنَّهُ لا خِلاَفَ فيه، ومنها بَيْتُ خَديجةَ رضي الله عنها الذي كَانَ يَسْكُنُهُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَخَدِيجَةُ رَضِيَ الله عَنْهَا وفيهِ وَلَدَتْ أَولادَهَا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه تُوفِّيَتْ خَدِيجةُ رضوان الله عَلَيْهَا ولم يزَلْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُقيماً بِهِ حتى هاجرَ قالَهُ الأَزْرَقِي، قَالَ ثُمَّ اشْتَراهُ مُعَاوِيةُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ من عَقِيلِ بْنِ أبِي طَالِب فَجَعَلَهُ مَسْجِداً (2) وَمِنْهَا مَسْجِدٌ في دَارٍ الأَرْقَمِ وهي التي يقالُ لها دارُ الْخَيْزَرَانِ (3) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَتِراً فِيهِ في أْولِ الإِْسْلاَمِ، قال
__________
= قال شيخ الإسلام: المجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان.
قلت: هذا هو الصواب الذي لا شك فيه وإلا فما ينفع المقيم في مكة أو المدينة مع فسقه وفجوره أو نفاقه، وماذا يضر غيره ممن أقام في بلد من بلدان المسلمين سوى مكة والمدينة مع صلاحه وكمال إيمانه وتقواه والله المستعان. اهـ مختصراً.
(1) هذا بحسب زمان المصنف، وأما الآن فهو مكتبة مكة المكرمة وهو على الشارع العام بمحلة سوق الليل فيها كتب قيمة يرتادها طلبة العلم، قام ببنائها بعد هدم المسجد الشيخ عباس يوسف قطان رحمهما الله تعالى، وجمعت فيها مكتبة الشيخ ماجد كردي، ومكتبة العلامة المتفنن شيخنا وشيخ مشايخنا على حسين المالكي، ومكتبة الشيخ محفوظ الترمسي الجاوي ومكاتب غيرهم من العلماء رحم الله الجميع ورحمنا معهم آمين.
(2) أما الآن فهو مدرسة لحفاظ القرآن الكريم بناها وشَيدها بعد هدم المسجد الشيخ عباس يوسف قطان المتوفى بمكة في 16/ 7/ 1370 هـ الذي كان في عصر الملك عبد العزيز آل سعود أميناً للعاصمة رحمهما الله تعالى وهي بزقاق الحجر الذي سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الآن يسمى شارع الصوغ أمام باب السلام بمكة المكرمة.
(3) الخيزران هذه هي سرية الرشيد وهي أمّ هارون الرشيد ونسبت الدار إليها =

(1/404)


الأَزْرَقِي: هُوَ عِنْدَ الصَّفَا قَالَ وَفِيهِ أَسْلَمَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عَنه ومنها الغَارُ الذي بِجَبَل حرَاء كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَبدُ فِيهِ، والغارِ الذي بجَبل ثَورٍ وهو المذكورُ في القرآن قال الله عزَّ وجلَّ: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}.
الخامسةَ عشرةَ: مَنْ فَرَغَ مِنْ مَناسِكِهِ وأرادَ المُقَامَ بِمَكّةَ فليسَ عَلَيْهِ طوافُ وداع، وإنْ أرادَ الخروجَ طافَ للوداع وَلاَ رَمَلَ فِيهِ ولاَ اضْطِبَاعَ كَمَا سَبقَ، وَهَذَا الطَّوافُ وَاجِب عَلَى أصَحّ الْقَوْلَيْنِ (1) وَيَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ، وَالقولُ الثاني أنه مُستحبُّ يستحب بتركه دَم وَلَوْ أرادَ الحاجّ الرجوعَ إلى بلده مِنْ مِنى لَزِمهُ دخولُ مكّةَ لِطوافِ الوداعِ (2) وَلاَ يَجِبُ طَوَافُ الْوَدَاعِ عَلَى الحَائِضِ
__________
= لقيامها بتشييدها بعد هدم بنائها الأول والآن لا أثر لها لدخولها في توسعة الشارع الذي خلف الصفا وموضعها أمام الباب الذي بالمسعى بقرب الصفا المسمى بباب الأرقم.
(1) قال المصنف رحمه الله في مجموعه: الأصح في مذهبنا أن طواف الوداع واجب يجب بتركه دم، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: هو سُنة لا شيء في تركه. دليل مَنْ أوجبه حديث مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده البيت".
(2) أي بعد نفره، وإن كان قد طاف قبل عوده من مكة إلى منى. ولو أخَّر الإِفاضة لنفره من منى ففعله وأراد السفر عقبه والإكتفاء عن الوداع لم يكف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد كما في المغني لأنهما عبادتان واجبتان فلم تُجْزِ إحداهما عن الأخرى، ولا تدرج كالصلاتين الواجبتين. والرواية الثانية: يجزئه عن طواف الوداع لأنه أمِرَ أن يكون آخر عهده بالبيت، وقد فعل. ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأه عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزىء عنهما المكتوبة. اهـ. ولا يجب طواف الوداع إلا على مَنْ فارق مكة غير محرم مريداً السفر إلى مسافة القصر مطلقاً أو دونها إن خرج لمنزل أو محل يقيم به ولو أربعة أيام صحاح مكياً أو آفاقياً حلالاً أو حاجاً أو معتمراً قد فرغت مناسك كل ورميه لعموم حديث "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد. هذا ما عليه الشافعية. وأما عند غيرهم فكما جاء في المغني لابن قدامة الحنبلي رحمه الله. ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع =

(1/405)


والنُّفَسَاءِ وَلاَ دَمَ عَلَيْهِمَا لتَرْكِهِ لأَنّها لَيْسَتْ مُخَاطَبة به (1)، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ
__________
= عليه، ومَنْ كان منزله خارج الحرم قريباً منه فظاهر كلام الخرقي: أنه لا يخرج حتى يودع البيت وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك، ذكره ابن القاسم، وقال أصحاب الرأي في بستان ابن عامر: وأهل المواقيت أنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام، بدليل سقوط دم المتعة عنهم. اهـ.
أقول: قولهم بستان ابن عامر أي عبد الله بن عامر بن كريز ابن خال عثمان بن عفان رضي الله عنه. وهذا البستان واقع بوادي عرنة -بالنون- قريب عرفة -بالفاء- من جهة مسجد نمرة، وقد تقدم الكلام عليه في الفصل الرابع في الوقوف بعرفة بلفظ بساتين ابن عامر، ولعل المراد بقولهم أيضاً وأهل المواقيت -أي القريبة- والله أعلم.
(1) أي لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض) وألحقوا بالحائض النفساء والمستحاضة المسافرة في نوبة حيضها وإلا وجب إن أمنت التلويث، ومَنْ به سلس بول، ونحوه، ولا يكلف الحشو والعصب، ومن به جرح سائل لا يمكنه معه دخول المسجد، والمكره والخائف من ظالم أو فوت رفقة أو غريم، وهو معسر على ما قاله الطبري فهذه الأعذار تُسقط الدم والإثم، وقد يُسْقِط العذرُ الإِثْمَ لا الدم فيما إذا لزمه وخرج عامداً عالماً عازماً على العود قبل وصوله لما يستقر به وجوب الدم ثم تعذر، العود وترك طواف الوداع بلا عذر ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: لا دم ولا إثم وذلك في ترك المسنون منه وفيمن عليه شيء من أركان النسك، وفيمن خرج من عمران مكة ثم طرأ له السفر.
ثانيها: عليه الإثم ولا دم وذلك فيما إذا تركه عامداً عالماً، وقد لزمه بغير عزم على العود، ثم عاد قبل وصوله لما يستقر عليه الدم. فالعود مسقط للدم لا للإثم.
ثالثها: ما يلزم بتركه الإِثم والدم وذلك في غير ما ذكر من الصور، فعلم أن طواف الوداع لا يسقط بالجهل والنسيان.
(تنبيهان) الأول: يجب طواف الوداع على المتحيرة فلا دم لتركه، إذا لم يتبين أنها تركته في مردّها المحكوم بأنه طهر ولها أنْ تطوف إنْ أمِنَت التلويث لعدم تحقق الحيض.
الثاني: إنْ زال العذر بأنْ طهرت نحو الحائض أو شَفى ذرّ الجرح قبل أن يصل المحرم لمكان يجوز فيه قصر الصلاة من مكة وجب الطواف بخلاف خارج بنيان مكة، ولو في الحرم لكن لو رجعت الحائض بعد طهرها لوجب الطواف.

(1/406)


تَقِفَ عَلَى بَابِ المَسْجدِ الْحَرَامِ وَتَدْعُو بما سَنَذكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تَعَالَى، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْودَاعِ فَخَرَجَ بِلاَ ودَاعٍ عَصَى وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ لِلطَّوَافِ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَسَافَة الْقَصْرِ مِنْ مَكَّةَ فَإِذَا بَلَغَهَا (1) لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْعَوْدُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَتَى لَمْ يَعُدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ (2)، وَمَنْ عَادَ قَبْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ (3)، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ بُلُوغِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ (4)، وَلَوْ طَهُرَتْ النُّفَسَاءُ والْحَائِضُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بِنَاءِ مَكَّةَ لَزِمَهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ لِزَوَالِ عُذْرها، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبِنَاءِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ.
السادسة عشرة: يَنْبَغِي أنْ يقَعَ طَوَافُ الْوَدَاعِ بَعْدَ الْفَرَاغ مِنْ جَمِيعِ أشْغَالِهِ وَيَعْقُبُه الخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ مُكْث، فَإِنْ مَكَثَ بَعْدَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ أوْ لِشُغْلٍ غَيْرِ أسْبَابِ الْخُرُوجِ كَشِرَاء مَتَاعٍ أَوْ قَضَاء دَيْنٍ أَوْ زِيَارَةِ صَدِيقٍ أوْ عِيَادَةِ مَرِيض وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إعادَةُ الطَّوَافِ، وإنْ اشْتَغَلَ بِأسْبَابِ الخُرُوجِ كَشِراء الزَّادِ بِلاَ مُكْث (5)
__________
(1) أي مسافة القصر أو بلوغ منزله أو محل إقامته، ولو كانا دون مسافة القصر كما تقدم قريباً.
(2) أي يجب بترك طواف الوداع أو بترك بعضه، ولو خطوة عمداً أو سهواً دم ترتيب وتقدير فإنْ عجز عن الدم صام عشرة أيام يصومها بعد قطع مسافة القصر أو بعد بلوغ المنزل أو محل إقامته.
(3) أي بالعود لا الإثم.
(4) أي ولا الإِثم.
(تنبيه): يلزم الأجير فعل طواف الوداع ويحط عند تركه من الأجرة ما يقابله لأنه وإنْ لم يكن من المناسك فهو من توابعها المقصودة، ومن ثََم لم يندرج في غيره كما تقدم قريباً، وقال العلامة الرملي لا يلزم الأَجير فعله والله أعلم.
(5) أي قبل شرائه أو بعده قال في الحاشية: أما لو احتاج إلى زاد واحتاج في شرائه لمكث أو تعريج عن طريقه فلا يضر وإنْ طال على الأوجه ومن الحاجة فيما يظهر رخص سعره وجودته ونحوهما فالتقييد بما إذا كان يشتري الزاد في طريقه ضعيف أو محمود على ما إذا خرج إليه بلا غرض. اهـ.

(1/407)


وشَد الرَّحْل (1) وَنَحْوِهِمَا لَمْ يُعِدْ الطَّوَافَ وَكَنَا لَوْ أُقيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلاَّهَا مَعَهُم لَمْ يُعِد الطَّوَافَ (2).
السابعةَ عشرة: اخْتَلَفَ أصْحَابُنَا في أنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ مِنْ جُمْلَةِ مَنَاسِكِ الحَجّ (3) أمْ عِبَادَة مُسْتَقِلَّة؟ فَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِ الْحَاجّ طَوَافُ الْوَداع إِذا خَرَجَ مِنْ مَكّةَ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَأبُو سَعيد المتولّي وغيرُهُمَا: لَيْسَ هُوَ مِنَ المَنَاسِكِ (4) بَلْ يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ أَرَادَ مُفَارَقَةَ مَكّة إِلى مَسَافَةِ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلاَةُ (5) سَوَاء كَانَ مَكّياً أوْ غَيْرَ مَكّي.
قَالَ الإِمَامُ أَبُو القاسِمِ الرَّافِعِيّ: هَذَا الثانِي هُوَ الأَصَحُ تَعظيماً للحرم وتشبيهاً لاقْتِضَاء خرُوجِهِ للْوَدَاعِ بِاقْتِضَاءِ دُخُوليِ للإْحْرَامِ وَلأنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
__________
(1) ظاهره كما في الحاشية أنه لا يضر الاشتغال به، وإنْ طال مكثه كما لو كثرت أحماله وطال مكثه لأجل شدها، قال المحشي وهو ظاهر للحاجة فقول الأذرعي لو كان له أثقال كثيرة واحتاج في شدّها لنصف يوم ضَرّ واحتاج لوداع ثانٍ فيه نظر إلا أنْ يُحْمَلَ على ما إذا كان يسهلُ عليه الطواف بعد شدها، ولا ضرورة إلى تقديمه عليه مع فحش زمنه. اهـ.
(2) قال المصنف في مجموعه وافقنا مالك وأحمد وداود وقال أبو حنيفة: إذا طاف المودّع بعد أن دخل وقت النفر لم تضره الإقامة بعده ولو بلغت شهراً أو أكثر وطوافه ماضٍ على صحته. دليلنا الحديث السابق فليكن آخر عهده بالبيت. اهـ.
(3) تعبير المصنف رحمه الله بالحج يشمل العمرة تجوّزاً إذ هي مثله فيما ذكره.
(4) قال في مفيد الأنام: قال شيخ الإسلام (يعني الإمام ابن تيمية رحم الله الجميع): وطواف الوداع ليس من الحج وإنما هو لكل مَنْ أراد الخروج من مكة. انتهى.
(5) قال في الحاشية: أفهم قوله إلى مسافة تقصر فيها الصلاة أنه لا يجب على مَنْ فارق لدونها لكن صرَح في المجموع بوجوبه على مَنْ فارق مكة ولدونها وهو محمول كما قاله السبكي وغيره على مَنْ أراد الخروج لمنزله أو محل يقيم فيه أي المستوطن. اهـ مختصراً.

(1/408)


مَنْ حَج وَأَرَادَ الإِْقَامَة بِمَكَّةَ لاَ وَدَلَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مِنَ المَنَاسِكِ لَعَمَّ الْجَمِيعَ، قُلْتُ: وَمِمَّا يُسْتَدل بِهِ مِنَ السُّنَّةِ لِكَوْنهِ لَيْسَ مِنَ المَنَاسِكِ مَا ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِم وَغَيْرِهِ أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: يقيمُ الْمُهاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلاَثاً، وَجْهُ الدّلاَلَةِ أنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ يَكُونُ عِنْدَ الْخُرُوجِ، وَسَمَّاهُ قَبْلهُ قَاضياً لِلْمَنَاسِكِ وَحَقيقَتُه أنْ يكُونَ قَضَاهَا كُلَّهَا وَالله أعْلَمُ.
الثامنةَ عشرةَ: إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الوَدَاع صَلى رَكْعَتَي الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ ثُمَّ أَتى الْمُلْتَزَمَ (1) فالْتَزَمَهُ كَمَا سبقَ بيانُهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ والعبدُ عبدُكَ وابْنُ أَمَتِكَ حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخرْتَ لي مِنْ خَلقِكَ حَتَّى صَيرْتَنِي في بِلاَدِكَ وَبَلَّغْتَني بِنِعْمَتِكَ حَتَّى أَعَنْتَنِي عَلَى قَضَاءِ مَنَاسِكِكَ، فَإنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَني فازْدَدْ عَنّي رِضاً وإلا فَمُنَّ الآن (2) قبلَ أنْ تَنْأى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي وَيَبْعُدَ عَنْهُ
__________
(1) لما روى أبو داود رحمه الله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أي عبد الله بن عمرو بن العاص) رضي الله عنهم قال: طفت مع عبد الله فلماء جاء دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطها بسطاً وقال هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله.
قال المصنف في المجموع: الملتزم هو بضم الميم وفتح الزاي سمي بذلك لأنهم يلتزمونه للدعاء، ويقال له المدعى. والمتعوَّذ -بفتح الواو- وهو ما بين الركن الذي فيه الحجر الأسود وباب الكعبة، وهو من المواضع التي يستجاب الدعاء هناك. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يلتزم ما بين الركن والباب وكان يقول: ما بين الركن والباب يدعى الملتزم، لا يلزم ما بينهما أحد يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أعطاه رواه البيهقي موقوفاً على ابن عباس بإسناد ضعيف والله أعلم.
وقد سبق مرات أن العلماء متفقون على التسامح في الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال ونحوها مما ليس من الأحكام والله أعلم. اهـ.
(2) يجوز في (فَمُنَّ) ثلاثة أوجه كما في المجموع (أجودها) ضم الميم وتشديد =

(1/409)


مَزَارِي، هَذَا أوَانُ (1) انْصرافي إِنْ أذِنْتَ لي (2) غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلاَ بيتِكَ، وَلاَ رَاغب عَنْكَ وَلاَ عَنْ بيتِكَ، اللهُمّ فأصْحِبْني العافيةَ فِي بدنيِ والعصمةَ في ديني وَأحْسِنْ مُنْقَلَبي وَارْزُقني طَاعَتَكَ مَا أَبْقَيْتني واجْمَعْ لي خَيْري الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
__________
= النون، وثانيها: كسر الميم وتخفيف النون. وثالثها: كذلك لكن النون مكسورة. قال أهل العربية: إذا جاء بعد مِنْ الجازة اسم موصول، فإنْ كان فيه ألف ولام كان الأجود فيه فتح النون، ويجوز كسرها، وإن لم يكن كان الأجود كسرها، ويجوز الفتح. (مثال الأول) من الله من الرجل، من الناس. (مثال الثاني) من ابنك، من اسمك، من اثنين. اهـ.
(1) أي وقت، وجمع (أوان) آونة كزمان وأزمنة.
(2) أي بقضاء حاجتي. قال في الحاشية رحمه الله: ويصح أنْ تكون (إنْ) بمعنى (إذ) أي لإذنك لي فيه بعد فراغ نسكي، وقوله: (غير) منصوب على الحال، وقوله: العصمة: أي الحفظ، ثم هذا الدعاء لم يرد مرفوعاً، لكن روى الطبراني عن عبد الرزاق نحوه. اهـ.
وفي المغني للعلامة ابن قدامة عن طاووس قال: رأيت أعرابياً أتى الملتزم فتعلق بأستار الكعبة فقال: (بك أعوذ، وبك ألوذ، اللهم اجعل لي في اللهف إلى جودك، والرضا بضمانك مندوحاً عن منع الباخلين، وغنى عما في أيدي المستأثرين، اللهم بفَرَجِكَ القريب، ومعروفِكَ القديم وعادتك الحسنة) قال: ثم أضلني في الناس فلقيته بعرفات قائماً، وهو يقول: اللهم إنْ كنت لم تقبل حجتي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته فلا أعلم أعظم مصيبة ممن ورد حوضك وانصرف محروماً من وجه رغبتك. وقال آخر: يا خير موفود إليه قد ضعفت قوتي، وذهبتْ مُنتي (أي قوتي) وأتيت إليك بذنوب لا تغسلها البحار. أستجير برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، رَب ارحم من شملته الخطايا، وغمرته الذنوب، وظهرت منه العيوب، ارحم أسير ضر وطريد فقر. أسألك أن تهب لي عظيم جرمي يا مستزاداً من نعمة ومستعاذاً من نقمة، ارحم صوت حزين دعاك، بزفير وشهيق، اللهم إنْ كنتُ بسطت إليك يدي داعياً فطالما كفيتني ساهياً فبنعمتك التي تظاهرت عليّ عند الغفلة لا أيأس منها عند التوبة فلا تقطع رجائي منك لما قدمتُ من اقتراف، وهب لي الصلاح في الولد، والأمن في البلد، والعافية في =

(1/410)


وَيَأتي بآداب الدُّعاء التي سبقَ ذكرُها في دُعاء عرفات وَيَتَعَلَّقُ بأستار الكعبة في تضرُّعِهِ، فإِذَا فَرَغَ مِنَ الدُّعاءِ أتى زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهَا مُتَزَوِّداً ثُمّ عَادَ إلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ واسْتَلَمهُ وَقَبلهُ وَمَضَى، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأة (1) حَائِضاً اسْتُحِبَّ لَهَا أنْ تأتِي بِهَذا الدُّعَاءِ عَلَى بَابِ المسجدِ وَتَمْضِي.
التاسعةَ عَشْرةَ: إذَا فَارَقَ الْبَيْتَ مُوَدّعاً فَقَدْ قَالَ أبُو عَبْدِ الله الزُّبيرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أصحابِنَا: يخرُجُ وبصرُهُ إلَى الْبَيْتِ لِيَكُونَ آخِر عهْدِهِ بِالْبَيْتِ، وَقِيلَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ في انصِرَافِه كالمتحَزِّنِ عَلَى مُفَارَقَتِهِ، والمذهبُ الصَّحِيحُ الَّذِي جَزَمَ بِهِ جماعةٌ مِنْ أصحابِنا منهم أبو عبدِ الله الحَليمي وأبو الحسنِ الماوَرْدِيُّ وآخرونَ: إنْه يخْرُجُ ويولي ظهرهُ إلى الكعبةِ ولا يَمْشِي قَهْقَرَى (2) كَمَا يفعله كثير من الناس قَالُوا: بَلْ المشْيُ قَهْقَرى مَكْرُوهُ فإنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ مَرويّةُ ولا أثَرٌ محكِيّ وَمَا لاَ أصْلَ لَهُ لا يَعْرُجُ عَلَيْهِ.
__________
= الجسد، إنك سميع مجيب، اللهم إن لك عليّ حقوقاً، فتصدق بها عليّ، وللناس قبلي تبعات فتحملها عني، وقد أوجبت لكل ضيف قرى وأنا ضيفك الليلة، فاجعل قراي الجنة، اللهم إن سائلك عند بابك من ذهبت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته وبقيت تبعته فارض عنه، وإنْ لم ترضَ عنه فاعف عنه، فقد يعفو السيد عن عبده وهو عنه غير راضي. اهـ.
(1) أي إنْ كانت طاهرة فَعَلَتْ ذلك ليلاً في خلوة الطواف وإلا فعليها البعد عن الرجال ومحاولة التستر بحسب الإمكان وإن كانت حائضاً فقد ذكرها بقوله: (استحب لها ... إلخ).
(2) قال الثعالبي في فقه اللغة: القهقرى مشية الراجع إلى خلف. قال الشيخ عبد الله بن جاسر في مفيد الأنام: قال مجاهد رحمه الله: (إذا كنت تخرج من المسجد فالتفت ثم انظر إلى الكعبة فقل: اللهم لا تجعله آخر العهد). انتهى. قال أبو عبد الله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كره ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإذا ولى لا يقف ولا يلتفت ولا يمشي القهقرى. اهـ.

(1/411)


وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابنِ عَبَّاس وَمُجَاهِد رضي الله عنهم كراهيةُ قِيَامِ الرّجلِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ناظِراً إِلَى الْكَعْبَةِ إِذَا أرَادَ الانصرافَ إِلَى وَطَنِهِ بَلْ يَكونُ آخرَ عَهْدِهِ الطَّوَافُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ والله أعلمُ.
العشرون: لاَ يَجُوزُ أنْ يَأخُذَ شيئاً مِن تُرابِ الْحَرَمِ وأحْجارِهِ مَعَهُ إلى بِلاَدهٍ وَلاَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحِل (1)، وَسَوَاءٌ في ذَلِكَ تُرَاب نَفْسِ مكّةَ وتُرابُ ما حَوَالَيْهَا من جَمِيعِ الْحَرَمِ وأَحْجَارِهِ إِلَى الْحَرَمِ (2)، وَيَجُوزُ إِخْرَاجُ مَاءِ زَمْزَمَ (3) وَغَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ مِيَاه الْحَرَمِ وَنَقْلِهِ إِلَى جَمِيعِ البُلْدَانِ لأَنَّ الْمَاءَ يُسْتَخْلَفُ بِخِلاَفِ التُّرَاب وَالْحَجَرِ، وَيَحْرُمُ إِتْلاَفُ صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى الْحَلاَلِ وَالْمُحْرِمِ وَتَمَلكُهُ وأَكْلُهُ (4) وَحُكْمُهُ فِي حَقّ جَمِيعِ النَّاسِ حكمُ الصَّيْدِ فِي حَق الْمُحْرِمِ
__________
(1) أي لما روى الشافعي والبيهقي رحمهما الله تعالى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كرها أن تخرج من تراب الحرم وحجارته إلى الحل شيء ولأن بقعة الحرم تخالف سائر البقاع، ولها شرف على غيرها بدليل اختصاص النسكين بها ووجوب الجزاء في صيدها فلا تفوت هذه الحرمة لترابها، وبهذا علل الشافعي رحمه الله هذه المسألة. قال الماوردي وغيره رحمهم الله تعالى: وإذا أخرجه فعليه رده إلى الحرم. قال المحاملي وغيره رحمهم الله تعالى: فإن أخرجه فلا ضمان. اهـ مجموع.
(2) قال المصنف رحمه الله في مجموعه: اتفقوا على أن الأولى أنْ لا يدخل تراب الحل وأحجاره الحرم، لئلا يحدث لها حرمة -أي عند الجاهل يخالها أنها من الحرم- ولا يقال أنه مكروه لأنه لم يرد فيه نهي صحيح صريح. اهـ بزيادة.
(3) قال في الحاشية: بل يندب نقله تبركاً للاتباع لأنه - صلى الله عليه وسلم - استهداه من سهيل بن عمرو وكان يَصُبه على المرضى ويسقيهم منه، وحنك به الحسن والحسين رضي الله عنهما. اهـ.
(4) أي لأنه حينئذ ميتة. نعم الجراد بالحرم يجوز لمن لم يقتله أكله لأنّ غايته أن يصير ميتة، وأكل ميتة الجراد جائزة، وحرم على الفاعل معاملة له بنقيض قصده والله أعلم.

(1/412)


وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَاضِحاً، وَلَوْ اصْطَادَ الْحَلاَلُ صَيْداً مِنَ الحِل وَدَخَلَ بِهِ الْحَرَمَ جَازَ وَلَهُ ذَبْحُهُ وَأكْلُهُ وَبَيْعُهُ لِلْحَلاَلِ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ (1).
الحاديةُ والعشرون: لاَ يَجُوزُ أخْذُ شَيْء، مِنْ طِيبِ الْكَعْبِة لا للتَّبَرُّكِ وَلاَ لِغَيْرِهِ، وَمَنْ أَخَذ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَيْهَا، فَإِنْ أَرَادَ التبَرُّكَ أتى بِطِيبِ مِنْ عِنْدَهِ فَمَسحهَا بِهِ ثُمَّ أخَذَهُ.
الثانية والعشرون: قَالَ الإِمَامُ أبو الْفَضْلُ بنِ عَبدانَ مِنْ أصْحَابِنَا: لاَ يَجُوزُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ سُتْرَةِ الْكَعْبةِ وَلاَ نَقْلُهُ وَلاَ بَيْعُه ولا شراؤُهُ وَلاَ وَضْعُه بينَ أوْرَاقِ المُصْحَفِ، وَمَنْ حَمَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً لَزِمَهُ رَدُّهُ خلافَ ما يتوهَّمهُ العامّةُ يَشْتَرونَهُ مِنْ بنِي شَيْبةَ (2)، هَذَا كَلاَمُ ابْنِ عَبْدَانَ، وَحَكَاهُ الإِمامُ أبو القاسمِ الرافعيُّ عَنْهُ وَلَمْ يَعْتَرضْ عَلَيْهِ فَكَأنّهُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَال الإِمامُ أبو عبد الله الحَلِيميُّ: لاَ يَنْبَغِي أنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ شَيْء، وَقَالَ أبو العباس بن القاصّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لاَ يَجُوزُ بَيع كُسْوَةِ الْكَعْبة.
__________
(1) أي لأنه ملكه باصطياده في الحل والحرم لا يخرج عنه ملكه بخلاف الإحرام.
وبه قال مالك ومجاهد وأبو ثور وابن المنذر وداود. وقال أبو حنيفة وأحمد لا يجوز ذبحه بل يجب إرساله، قالا فإن أدخله مذبوحاً جاز أكله وقاسوه على المحرم.
قال المصنف في مجموعه: واستدل أصحابنا أنس أنه كان له أخ صغير يقال له أبو عمير وكان له نغر يلعب به فمات النغر، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا أبا عمير ما فعل النُّغَيْر" رواه البخاري ومسلم. وموضع الدلالة أنّ النغير من جملة الصيد، وكان مع أبي عمير في حرم المدينة، ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأيضاً فإن الذي نهى الشرع عنه صيد الحرم، وهذا ليس بصيد حرم وقياساً على من أدخل شجرة من الحل أو حشيشاً والله أعلم. اهـ.
(2) هذا كان سابقاً وفي عام 1381 هـ رأت حكومتنا السنية حفظ كسوة الكعبة في دائرة الأوقاف بعد كسوتها بالجديد وعينت لآل شيبة مبلغاً من المال يدفع إليهم كل سنة مقابل ذلك، وما زالوا يستلمونه.

(1/413)


قَالَ الشَّيخُ أبو عمروِ بنِ الصلاحِ رَحمهُ الله تَعَالَى: الأَمرُ فِيها إِلى الإِْمَامِ يَصْرِفُهَا في بَعْضِ مَصَارِف بَيْتِ المَالِ بَيْعاً وَعَطَاءً، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ الأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ أن عُمَر بْنَ الخطَابِ رَضِيَ الله عَنْهُ كَانَ يَنْزِعُ كُسْوَةَ الْبَيْتِ كُل سَنَةٍ فَيُقَسمُها عَلَى الحاج وَهذَا الّذي قَالَهُ الشَّيْخُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَى الأَزْرَقِي عَنْ ابنِ عَباس وَعائشةَ رضي الله عَنْهُمَا أنهُمَا قَالاَ: لاَ تُبَاعُ كُسْوَتُها وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا في سَبِيلِ الله للفقرَاءِ والْمَساكِينِ وابن السَّبِيلِ، قالَ ابنُ عَباسٍ وَعَائِشَةُ وأم سَلَمَةَ رضي الله عَنْهُمْ وَلاَ بَأسَ (1) أنْ يَلْبَسَ كُسْوَتَهَا مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ مِنْ حَائِضٍ وَجُنُبٍ وَغَيْرِهِمَا.
الثالثةُ والعشرون: في حَدودِ الحَرَمِ.
اعْلَم أنَّ الحَرَمَ الْكَريمَ هُوَ مَا طَافَ بِمَكَّةَ وَأحَاطَ بِهَا مِنْ جَوانبِهَا جَعَلَ الله عزَّ وَجَل لَهُ حُكْمَهَا في الحُرْمَةِ تَشْرِيفاً لَهَا.
وَاعْلَمْ أنَّ مَعْرِفَةَ حُدُودِ الْحَرَمِ مِنْ أهَمِّ ما يَنْبَغِي أنْ يُعتَنى بِبَيَانِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلّقُ بِهِ أحْكَامٌ كَثِيرة كَمَا سَبَقَ وَقَدْ اجَتَهَدْتُ واعْتَنَيْتُ بإتْقَانِهِ عَلَى أكْمَلِ وُجُوهِهِ بِحَمْدِ الله تَعَالَى.
فَحَدُّ الحَرِمِ مِنْ طَرَيقِ الْمَدِينة دُونَ التَّنْعِيمِ عِنْدَ بُيُوتِ بَنِي نِفَار عَلَى ثَلاَثَةِ أمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ اليَمَنِ طَرَفُ أضَاةِ لبن في ثَنيةِ لِبْنٍ عَلَى سَبْعَةِ أمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ عَلَى ثَنِيّةِ جَبَلِ الْمُقَطَّع عَلَى سَبْعَةِ أمْيَالِ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الْجعِرَّانَةِ في شِعْبِ آلِ عَبْدِ الله بنِ خَالِد عَلَى تِسْعَة أمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى عَرفاتٍ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ على سبعةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّة، وَمِنْ طَريقِ جدَّة مُنْقَطعُ الأعْشَاشِ عَلَى عَشَرَةِ أمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، فَهَذَا حَدُّ مَا جَعَلَهُ الله
__________
(1) أي لا حرمة في ذلك، وإلا فعليها الآن آيات قرآنية. فلذا يكره لبسها مطلقاً.

(1/414)


عَز وجَل حَرَماً لِمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ التحْرِيمِ وَبَايَنَ (1) بِحُكْمِه سَائِرَ الْبِلاَدِ، هكَذَا ذَكَرَ حدُودَهُ أبُو الْوَليدِ الأَزْرَقِي في كِتَابِ مَكَّةَ، وَأصْحَابُنَا في كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْمَاوَرْدِيُّ في الأَحْكَامٍ السُّلْطَانِيةِ وَآخَرُونَ، إِلا أن الأَزْرَقِي قَالَ في حَدِّهِ مِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ أحَدَ عَشرَ مِيلاً والجُمْهُورُ قَالُوا سبعة فَقَطْ بِتَقْدِيم السّين عَلَى البَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَاوَرْدِيُّ حَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ وَذَكَرَ الأزْرَقي وَالْجُمْهُورُ كَمَا ذكَرتُهُ.
وَفِي هذ الْحُدودِ ألْفَاظ غَرِيبة يَنْبَغِي أنْ تُضْبَطَ، قَوْلُهُمْ بُيُوتُ نِفَارٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِالْفَاءِ وَفِي قَوْلِهِ أضَاةِ لِبْنٍ الأَضَاةُ بفتح الهمزة وبالضاد المعجمة على وزن الفَتَاةِ وَهِيَ مُسْتَنْقَعُ الماء وَلِبْن بكسر اللام وإسكان الباء الموحدة كذا ضبطه الحافظُ أبُو بكْرٍ الْحَازِميُّ في كِتَابِهِ المؤَلَّف في أسْمَاءِ الأَمَاكِنِ. وَقَوْلُهُمْ الأعْشَاشُ بفتح الهمزة وَبالشينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ جَمْعُ عُش قَوْلُهُمْ في حَدهِ مِنْ جِهَةِ الجِعِرانَةِ تِسْعَة هُوَ بِالتَّاءِ ثُمَّ بالسينِ والْحُدُودُ الثلاَثَةُ الْبَاقِيةُ بِتَقْدِيم السّينِ وَالله أعْلَمُ، فاعْتَمِدْ مَا ضَبَطْتُهُ لَكَ مِنْ حُدُودِ الْحَرَمِ فَمَا أَظُنُّكَ تَجِدُهُ أوْضحَ وَلاَ أتْقَنَ مِنْ هذَا.
واعْلَمْ أنَّ الْحَرَمَ عَلَيْهِ عَلاَمَاتٌ مِنْ جَوَانبِهِ كُلّهَا وَمَنْصُوب عَلَيْهِ أَنْصَاب ذَكْرَ الأَزْرَقي وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدهِم أنَّ إبْرَاهِيم - صلى الله عليه وسلم - عَمِلَهَا وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يُرِيهِ مَوَاضِعَهَا ثُمَّ أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَجْدِيدِهَا (2) ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمانُ ثُم مُعَاوِية (3)
__________
(1) أي خالف.
(2) أي عام فتح مكة عام ثمان من هجرته - صلى الله عليه وسلم -.
(3) ثم عبد الملك بن مروان وفي عام 159 هـ لَما رجع المهدي من الحج أمر بتجديدها وكذلك جَدَّدها المقتدر بالله العباسي، وفي سنة 325 هـ أمر الراضي بالله العباسي بعمارة العلمين من جهة التنعيم بالأرض لا بالجبال، وفي سنة 616 هـ أمر =

(1/415)


رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَهِيَ الآنَ بينَةٌ وَلله الْحَمْدُ (1).
الرابعةُ والعِشْرُونَ: حَكَى المَاوَرْدِيُّ خِلاَفاً لِلعُلماءِ في أَن مَكَّةَ زَادَهَا الله شرفاً مع حرمتها هل صارت حرماً آمناً (2) بسؤال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ذلك أم كَانَتْ قَبْلَه كَذَلِكَ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمْ تَزَلْ حَرَماً وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَانَتْ مكّة حلالاً قبل دعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كسائر البلاد وإنما صارت حرماً بدعوته كما صارت المدينة حَرَماً بِتَحْرِيمِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ أنْ كَانَتْ حَلاَلاً، وَاحْتَجَّ هَؤُلاَء بِحَدِيث عَبْدِ الله بن زَيد رَضِيَ الله عَنْهُ فِي الصّحِيحَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إنّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وإنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ.
وَالصَّحيحُ مِنَ القَوْلَيْنِ هُوَ الأَوَّلُ لِلحديثِ الصَّحِيح في صَحِيحَيْ البُخَارِيّ وَمُسْلِمِ عَنِ ابنْ عَباسِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يوم فَتَحَ مَكَّةَ: "فَإِنَّ هذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ الله تعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وَهُوَ حَرَامٌ بحُرْمَةِ الله تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" وَالْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الأَوّلِ أنّ إبْرَاهِيم - صلى الله عليه وسلم - أظْهَرَ تَحْرِيمَها بَعْدَ أنْ كَانَ مَهْجُوراً لا أنَّهُ ابتَدأهُ وَالله تَعَالَى أعْلَمُ.
__________
= المظفر صاحب إربل بعمارة العلمين من جهة عرفة، ثم الملك المظفر صاحب اليمن سنة 683 هـ. وجددها السلطان أحمد الأول العثماني سنة 1023 هـ وفي عهد حكومة الملك عبد العزيز آل سعود وفي عهد حكومة أبنائه ما زالوا قائمين بعمارة ما تخرب منها رحم الله الجميع آمين.
(1) نظم بعضهم رحمه الله تعالى حدود الحرم في قوله:
وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رُمْتَ إتقانه
وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدّة عشر ثم تسع جعرانه
ومن يمن سبع بتقديم سينها ... وقد كملت فاشكر لربك إحسانه
(2) أي من الجبابرة والخسف والزلازل ونحوها.

(1/416)


الخامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: في الأَحْكَامِ الَّتِي يُخَالِفُ الْحَرَم فِيهَا غَيْرَهُ مِنَ الْبِلاَدِ.
أحَدهمُا: أنْ لاَ يَدْخُلَ إِلَيْهَا أحَد إِلا بِإِحْرَامٍ، وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِب أَمْ مُسْتَحب فِيهِ خِلاَف قَدَّمْنَاه (1).
الثاني: يَحْرُمُ صَيْدُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ حَتَّى أَهْلِ الحَرَمِ والمُحلّينَ.
الثَّالِثُ: يَحْرُمُ شَجَرُهُ وَحَشِيشهُ.
الرَّابعُ: أنَّهُ يُمْنَعُ جَمِيعُ مَنْ خَالَفَ دِينَ الإِسْلاَمِ مِنْ دُخُولهِ مُقِيماً كانَ أَوْ مَارَّاً، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَجَوَّزَهُ أَبو حَنِيفَة (2) ما لَمْ يَسْتَوْطِنُوهُ.
__________
(1) أي في المسألة الثامنة من الفصل الأول من الباب الثالث في آداب دخول مكة زادها الله تعظيماً.
أقول: وقد ذكرت هناك أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى، فالصحيح عند الشافعية كما تقدم يكره ترك الإِحرام ويسن له دم خروجاً من خلاف مَنْ أوجبه. وقال الإِمامان مالك وأحمد: يلزمه، وقال الإمام أبو حنيفة إن كانت داره في الميقات أو أقرب إلى مكة جاز دخوله بلا إحرام وإلا فلا واحتجوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يدخل أحدكم مكة إلا محرماً) ورخص للحطابين، واستدل الشافعية بحديث الحج كل عام. (قال لا بل حجة). اهـ مجموع كما تقدم.
(2) قال في الحاشية: أي للذمي لا للحربي. اهـ. قال العلامة الصاوي رحمه الله تعالى في حاشيته على الجلالين: قال العلماء: جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام:
أحدها: الحرم فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال وجَوَّز أبو حنيفة دخول المعاهد.
الثاني: الحجاز فلا يجوز للكافر دخوله إلا بإذن ولا يقيم فيه أكثر من ثلاثة أيام لما في الحديث "لا يبقين دينان في جزيرة العرب" وحَدُّها طولاً من أقصى عدن إلى ريف العراق وعرضاً من جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام. =

(1/417)


الخامس: لاَ تَحِل لُقطَتُهُ (1) لِلتمَلكِ فَلاَ تَحِلُّ إِلا لِمُنْشِدِ.
السادس: تَغْلِيظُ الدِّيةِ بِالْقَتْلِ فيهِ (2).
السابع: تَحْرِيمُ دَفْنِ الْمُشْرِكِ فِيهِ (3) وَلَوْ دُفِنَ فِيهِ نُبِشَ مَا لَمْ يَتَقَطعْ.
الثامن: يَحْرُمُ إِخْرَاجُ أَحْجَارِهِ وَتُرَابِهِ إلَى الْحِلّ وَيُكْرَهُ إِدْخَالُ ذَلِكَ مِنْ الحل إليه.
التاسع: يَخْتَصُّ ذَبْحُ دِمَاءِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْهَدَايَا بِهِ.
العاشر: لا دَمَ عَلَى المُتَمَتعِ وَالْقَارِنِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ (4).
الحادي عشَر: لا تكرهُ صَلاَةُ النَّافِلَةِ التي لاَ سَبَبَ لَهَا في وَقْتٍ مِنَ
__________
= الثالث: سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة أو أمان لكن لا يدخل المساجد إلا لغرض شرعي. اهـ.
(1) أي سواء الحقيرة وغيرها، فمن أخذ لقطة الحرم لزمه الإقامة لتعريفها أو دفعها لحاكم أمين، فإن لم يجده فإلى ثقة مقيم هناك.
(2) أي خطأ، ومعنى تغليظها صيرورتها مثلثة بعد أن كانت مخمسة. ولا فَرْق بين
أن يكون القاتل والمقتول في الحرم أو أحدهما.
(فرع): قال في الحاشية: إن بغى أهل الحرم على أهل العدل جاز قتالهم على الأصح إذا لم يمكن ردّهم عن البغي إلا به، وكذا يقاتل كفار تحصنوا بالحرم. وأجاب المصنف عما ورد من الأحاديث الصحيحة في تحريم القتال بمكة بأن معناه تحريم نصب القتال عليهم بمكة بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما إذا تحصن كفار بغير الحرم فإنه يجوز قتالهم على كل حال بكل شيء. قال وقد نَصّ الشافعي رضي الله عنه على هذا التأويل. اهـ.
(3) أي وتمريضه بل ينقل وإن خيف موته بالنقل كما في الحاشية بخلاف بقية أرض الحجاز لعظم حرمة الحرم.
(4) أي من أهل الحرم بأنْ أستوطنه أو محلاً قريباً منه.

(1/418)


الأوْقَاتِ في الْحَرَمِ سَوَاء فِيهِ مَكةُ وَسَائِرُ الْحَرَمِ (1).
الثاني عشرَ: إِذَا نَذَرَ قَصْدَهُ لَزِمَهُ الذهابُ إِلَيْهِ بِحَج أَوْ عُمْرَةٍ (2) بِخِلاَفِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ فَإنَّهُ لاَ يَجِبُ الذهَابُ إِلَيْهِ إذَا نَذَرَهُ إلا مَسْجِدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالْمَسْجِدَ الأَقْصَى عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ (3) فِيهِمَا.
الثالث عشرَ: يَحْرُمُ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبةِ (4) وَاسْتِدْبَارُهَا بالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ في الصحْرَاءِ (5).
__________
(1) قال في الحاشية أي لما صَحّ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أيَّة ساعة شاء من ليل أو نهار" وليس هذا خاصاً بصلاة الطواف لأن الدارقطني وابن حبان أخرجاه بدون ذكر (طاف) وليس ذلك من باب المطلق والمقيد لأنّ شرطه أن لا يكون القيد خرج مخرج الغالب وهذا كذلك، إذ الغالب في الصلاة عند البيت أنْ تكون صلاة سنة الطواف، وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنّ الحرم في ذلك كغيره. اهـ.
(2) المعتمد: كما في الحاشية أنه لو نذر إتيان البيت الحرام أو الحرم أو بقعة منه أو بيت الله ونوى البيت الحرام لزمه الإتيان بحج أو عمرة أو بهما. أقول: وبه قال الإمامان: مالك وأحمد رحمهما الله وكذا لو نذر المشي إلى بيت الله الحرام، وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: لا يلزمه شيء إلا إذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام فأما نذر القصد والذهاب إلية فلا. ويلزمه المشي من دويرة أهله.
وإنْ نذر المشي إلى مسجد المدينة أو الأقصى فللشافعي رحمه الله قولان أحدهما هو قوله في الأم: لا ينعقد نذره وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، والثاني: ينعقد ويلزمه وهو الراجح، وهو قول مالك وأحمد رحمهما الله.
(3) سيأتيان إن شاء الله في المسألة الرابعة والعشرين من الباب السادس عند قول المصنف (لو نذر الذهاب إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إلخ.
(4) أي عينها لا جهتها كما في الحاشية.
(5) المراد بالصحراء هنا غير الأخلية المعدة لقضاء الحاجة أي فيحرم على من يقضي حاجته في غير الأخلية المعدة لها استقبال القبلة واستدبارها ما لم يستتر بسائر قرب =

(1/419)


الرَّابِع عشرَ: تَضْعِيفُ الأَجْرِ في الصلَوَاتِ بِمَكَّةَ وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. الخامسَ عشرَ: يُسْتَحَب لأَهْلِ مكَّةَ أنْ يُصَلوا الْعِيدَ في الْمَسْجِدِ اِلْحَرَامِ (1) لاَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الْبُلْدَانِ فَهَلْ صَلاَتُهَا فِي الْمُصلَّى (2) أفْضَلُ أمْ في الصَّحْرَاءِ (3) فِيهِ خِلاَفٌ (4).
السادسَ عشرَ: إِذَا نَذَرَ النَّحْرَ وَحْدَهُ بِمَكَّةَ لَزِمَهُ النَّحْرُ بِهَا وَتَفْرِقَةُ اللَّحْمِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ في بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ في أصَحّ الْوَجْهَيْنِ (5).
__________
= منه ثلاثة أذرع فأقل وطوله ثلثا ذراع فأكثر. قال في الحاشية: وإن لم يكن له عرض كعود وكذا يده فيما يظهر بخلاف الساتر عن العيون يشترط أن يكون له عرض يستر لأن القصد ثَم الستر، وهنا إظهار تعظيم الكعبة، وحرمة الاستقبال بالفرج حال البول لا بالوجه فلو استقبل الكعبة بوجهه وحوّل فرجه حتى خرج عن سمت القبلة ثم بال لم يحرم، وفي عكسه يحرم، وقال فيها أيضاً: ولو اشتبهت عليه القبلة وجب عليه الاجتهاد، ويأتي جميع ما مَرّ في الاجتهاد في القبلة للصلاة فيما يظهر حتى يحرم على القادر التقليد ويجب على غيره تعلم الأدلة إنْ أمكنه ذلك قبل قضاء الحاجة، وإذ أمكنه علم القبلة حرم عليه التقليد والاجتهاد وغير ذلك، وإنما ذكرت ذلك هنا لأن كثره لا يوجد في شيء من كتب الفقه فيما أحسب. اهـ.
(1) أي لأن الأئمة لم يزالوا يصلون صلاة العيد بالمسجد الحرام، ولفضل البقعة مع اتساعها ومشاهدة الكعبة.
(2) أي مصلى المسجد أفضل أي لشرفه ونظافته.
(3) هو ما عليه عمل الناس في جميع الأمصار لأنه - صلى الله عليه وسلم - (كان يخرج إلى المصلى في العيدين) رواه البخاري ومسلم.
(4) أي عند الشافعية كما قدمته والأرجح كما في الحاشية أن الصحراء أفضل أي إن ضاق المسجد ولا مطر ونحوه فالصلاة في الصحراء مع اتساع المسجد خلاف الأوْلى، ومع نحو مطر مكروهة كالصلاة في المسجد عند ضيقه والله أعلم.
(5) أي لأنه لم يلتزم إلا النحر، والنحر والذبح في غير الحرم لا قربة فيهما.

(1/420)


السابع عشرَ: لاَ يَجُوزُ إحْرَامُ الْمُقِيمِ في الْحَرَمِ بالْحَجّ (1) خَارِجَهُ وَالله أعلم.
المسْألَةُ السَّادسَةُ والْعِشْرُونَ: مَذْهَبُنَا أَنهُ يَجوزُ بَيع دُورِ مَكَّةَ وَشِرَاؤهَا وَإِجَارَتُهَا كَمَا يَجُوزُ في غَيْرِهَا (2) وَدَلاَئِلُ الْمَسْأَلةِ في كُتُبِ الْفِقْهِ وَالخِلاَفُ مَشْهُورٌ.
__________
(1) أي بخلاف العمرة فلا بد للمقيم من الخروج إلى أدنى الحل، ويحرم منه كما تقدم، وهو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم رحم الله الجميع، وحكى غير واحد عليه الإجماع.
(2) قال في المجموع: وبه قال عمر بن الخطاب وجماعات من الصحابة ومَنْ بعدهم، وهو مذهب أبي يوسف (أقول: هو ما عليه العمل قديماً وحديثاً حتى الآن)، وقال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة: لا يجوز شيء من ذلك والخلاف في المسألة مبني على أن مكة فتحت صلحاً أو عنوة، فمذهب الشافعية أنها فتحت صلحاً، فتبقى على ملك أصحابها فتورث وتباع وتكرى وترهن، ومذهب الثلاثة والأوزاعي والثوري أنها فتحت عنوة فلا يجوز شيء من ذلك. اهـ بزيادة ما بين القوسين.
قال في أضواء البيان: وتوسط الإمام أحمد فقال: تملك وتورث ولا تؤجر ولا تباع على إحدى الروايتين جمعاً بين الأدلة، والرواية الثانية كالشافعي. اهـ. قال في الحاشية: صرائح السنة مصرحة بأنها فتحت من أسفلها عنوة وكأن الشافعي رضي الله عنه لم يلتفت لذلك لأنّ القتال فيها وقع من شرذمة قليلة انفردت عنه - صلى الله عليه وسلم - فعول على ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه الذين معه. اهـ.
أقول: وأدلة الإمام الشافعي رحمه الله تظهر مما ساقه المصنف رحمه الله في مجموعه بقوله: روى البيهقي بإسناده عن إبراهيم بن محمد الكوفي قال: رأيت الشافعي بمكة يفتي الناس ورأيت إسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل حاضرين فقال أحمد لإسحق: تعالى معي أريك رجلاً لم ترَ عيناك مثله، فقال إسحاق: لم تر عيناي مثله؟ فقال: نعم، فجاء به فوقفه على الشافعي فذكر القصة إلى أنْ قال: ثم تقدم إسحق إلى مجلس الشافعي فسأله عن كراء بيوت مكة. فقال الشافعي: هو عندنا جائز قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهل ترك عقيل لنا من دار. فقال إسحاق حدثنا زيد بن هرون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى =

(1/421)


السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: مَذهْبُنَا أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فَتَحَ مَكَّةَ صُلْحاً (1) لاَ عَنْوَة لَكِنْ دَخَلَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَأهباً للقِتالِ خَوْفاً مِنْ غَدْرِ أهْلِهَا.
الثامنَةُ والْعِشْرُونَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في إقَامَةِ الْحُدودِ وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ
__________
= ذلك وعطاء وطاوس لم يكونا يريان ذلك. فقال الشافعي لبعض مَنْ عرفه: من هذا؟ قال: هذا إسحق بن راهويه الحنظلي الخراساني. فقال الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟ قال إسحق: هكذا يزعمون، قال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك فكنت آمر بعرك أذنيه. أنا أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت تقول قال طاوس والحسن وإبراهيم هؤلاء لا يرون ذلك، وهل لأحد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة؟! وذكر كلاماً طويلاً.
ثم قال الشافعي: قال الله تعالى: للفقراء المهاجرين: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} أفنسب الديار إلى مالكين أو غير مالكين؟. فقال إسحق: إلى مالكين.
قال الشافعي قول الله أصدق الأقاويل. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دار الحجامين. وذكر الشافعي له جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال له إسحق: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} فقال الشافعي: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] والمراد المسجد خاصة وهو الذي حول الكعبة، ولو كان كما تزعم لكان لا يجوز لأحد أن ينشد في دور مكة وفجاجها ضالة، ولا ينحر فيها البدن ولا يلقي فيها الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصة. فسكت إسحق ولم يتكلم. فسكت عنه الشافعي. اهـ.
(1) أي لعدم حصول قتال من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين كانوا معه وتأمينه - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان، ومَنْ أغلق عليه بابه ومَنْ أغمد سلاحه، ومن دخل المسجد الحرام وقد تقدم كما في الحاشية أن صرائح السنة مصرحة بأنّ مكة فتحت من أسفلها عنوة، وكأن الشافعي رحمه الله لم يلتفت لذلك لأن القتال وقع شرذمة قليلة انفردت عنه - صلى الله عليه وسلم - فعوّل الشافعي على ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه الذين معه رضي الله عنهم أجمعين.
وأدلة من قال إن مكة فتحت عنوة قولهم لم يَنْقُلْ أحدٌ أنه - صلى الله عليه وسلم - صالح أهلها زمن الفتح ولا جاءه أحد منهم فصالحه على البلد وإنما جاءه أبو سفيان فأعطاه الأمان لمن دخل داره، أو أغلق بابه أو دخل المسجد أو ألقى سلاحه ولو كانت فُتحت صلحاً لم =

(1/422)


في الْحَرَمِ. فَقَالَ الشَّافِعِي وآخَرونَ (1): حُكْمُ الْحَرَمِ في هَذَا حُكْمُ غَيْرِهِ، فَتُقَام فِيهِ الْحُدودُ وَيُسْتَوْفَى فِيهِ الْقِصَاصُ سَوَاء كَانَتْ الْجِنَايةُ في الْحَرَمِ أوْ كَانَتْ في الْحِل ثُمَّ الْتَجَأ إِلَى الْحَرَمِ، وَقَالَ أبُو حَنِيفَة وآخَرُونَ: إنْ كَانَتْ الْجِنَايةُ في الْحَرَمِ اسْتُوفِيتَ الْعُقوبةُ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايةُ في الْحِل ثُمَّ التجأ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِيهِ (2) ويُلْجَأ إلَى الخُرُوجِ مِنْهُ فإِذَا خَرَجَ أُقِيمَتْ.
التاسِعَةُ والْعِشْرُونَ: في أمُور تتعَلَّقُ بِالْكَعْبةِ وَالْمَسْجِدِ.
قَالَ الله عَز وَجَل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ (3) مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ (4) وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.
__________
= يقل: (من دخل داره أو أغلق بابه أو دخل المسجد فهو آمن) فإن الصلح يقتضي الأمان العام.
وقوله أيضاً إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فإِنْ أحدٌ ترخَصَ بقتال رسول الله فقولوا إن الله أذِنَ لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت لحرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" وغير ذلك من الأدلة المذكورة في المجموع وقد ذكر المصنف الإِجابة عنها فيه وفي شرح مسلم.
(1) ومنهم المالكية.
(2) أي إن كانت الجناية قتلاً كما في الحاشية -وأما إن كانت على ما دون النفس فإنه يقتص من الجاني وإن دخل الحرم. وفي فتاوى قاضيخان وغيرها عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن يد السارق لا تقطع فيه، وعن صاحبيه خلافه- وقوله: (ويلجأ) أي بأنْ لا يعامل ولا يؤاكل ولا يداخل ومذهب الحنابلة قريب من مذهب الحنفية كما في الحاشية.
(3) جاء في القرآن الكريم لفظ (مكة) و (بكة) بالميم والباء فقال جماعة من العلماء هما لغتان بمعنى واحد، وقال آخرون هما بمعنيين فقيل (مكة) بالميم الحرم كله، (وبكة) بالباء المسجد خاصة وقيل غير ذلك وسميت (بكة) لازدحام الناس بها يبك بعضهم بعضاً، أي يدفعه في زحمة الطواف.
(4) قد تقدم أن المقام هو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام وقت بنائه =

(1/423)


وَثَبَتَ في صَحِيحِي الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أَبي ذَرّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أوَّل مَسْجِد وُضِعَ في الأَرْضِ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ" قُلْتُ: ثُمَّ أيّ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الأقْصَى"، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ عَاماً".
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسرُونَ في قَوْلهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} فَرَوى الأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ عَنْ مُجَاهِد قَالَ: لَقَدْ خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ مَوْضِعَ هذَا الْبَيْتِ وَقَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئاً مِنَ الأَرْضِ بأَلْفَي سَنةٍ، وَإِنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أيْضاً أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ أَحَدُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَيْتاً فِي كُلّ سَمَاء بَيْتٌ وَفِي كُلّ أرْضٍ بَيْت بَعْضُهُنَّ مُقَابِل بَعْضَ.
وَرَوى الأَزْرَقِي أَيْضاً عَنْ عَلِيِّ بنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بن أبِي طَالِب رَضِيَ الله عَنْهُم قَالَ: إِنَّ الله تَعَالَى بَعَثَ مَلاَئِكَةً فَقَالَ: ابْنُوا لِي في الأَرْضِ بَيْتاً تِمْثَالَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَقَدْرَهُ، وَأَمَرَ الله تَعَالَى مَنْ في الأَرْضِ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، قَالَ: وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُمَا: هُوَ أَوَّلُ بَيْت بَنَاهُ آدَمُ في الأَرْضِ (1).
__________
= للكعبة وهو الآن داخل المحل الزجاجي الذي أمام باب الكعبة وبالحجر أثر قدميه على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
(1) قد بنى البيت أي الكعبة المعظمة عشر مرات كما في (القسطلاني على البخاري) وقد نظم بعض العلماء رحمهم الله تعالى البانين على الترتيب كما في (إعانة الطالبين) فقال:
بنى بيت رب العرش عشرٌ فخذهم ... ملائكة الله الكرام وآدم
فشيث فإبراهيم ثم عمالق ... قصي قريش قبل هذين جرهم =

(1/424)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وعبد الإِله بن الزبير بنى كذا ... بناء لحجاج وهذا متمم
قال الفاسي رحمه الله تعالى في (شفاء الغرام): وأما بناء الحجاج الكعبة فهو أيضاً ثابت مشهور، ذكره الأزرقي وغيره وملخص ذلك أنّ الحجاج بعد محاصرة ابن الزبير وقتله رضي الله عنهما كتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس منها وأحدث فيها باباً آخر واستأذنه في رد ذلك فكتب إليه عبد الملك أنْ يسد بابها الغربي ويهدم ما زاد فيها ابن الزبير من الحجر، ويردها على ما كانت عليه، ففعل الحجاج ذلك، وبناؤه في الكعبة في الجدار الذي من جهة الحجر والباب الغربي المسدود في ظهر الكعبة عند الركن اليماني، وما تحت عتبة الباب الشرقي وهو أربعة أذرع وشبر على ما ذكره الأزرقي، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير، وهذا ملخص ما ذكره الأزرقي في ذلك بالمعنى. اهـ. أقول كما جاء في تاريخ الكعبة المعظمة للشيخ عبد الله بإسلامه رحمه الله مع اختصار وزيادة: أنه لما كان يوم الأربعاء (19/ 8/ 1039 هـ) حصل بمكة المشرفة مطر عظيم، دخل سيله المسجد الحرام، ودخل الكعبة المشرفة من بابها ووصل إلى نصف جدارها، ودخل دور أهل مكة وأخرج منها الأمتعة، وذهب بها إلى أسفل مكة ومات بسببه داخل المسجد وخارجه خَلْق كثير، وبات السيل ليلة الخميس 20/ 8/ 1039 بداخل الكعبة والمسجد الحرام فسقط بسببه الجدار الشامي وبعض الجدارين الشرقي والغربي من الكعبة، وسقطت درجة السطح، وكان أمير مكة آنذاك الشريف مسعود بن إدريس، أمر بفتح سراديب باب إبراهيم التي هي مجاري مياه المسجد الحرام وقتذاك وخرج الماء إلى أسفل مكة، ثم أمر الشريف المذكور بسدّ الجوانب الساقطة بأخشاب من صبيحة سقوطها (20/ 8/ 1039) لعشرين من شعبان سنة تسع وثلاثين وألف فسدّت بأعواد قوية، وأحاط الكعبة بسترة خشبية، وجعل للسترة باباً لطيفاً من الجهة الشرقية وألبسها ثوباً أخضر ثم بعد ذلك دخلها وصلّى فيها وبقيت الكعبة على هذه الحالة إلى أوائل جمادى من السنة بعده ثم صدر أمر السلطان مراد خان بن السلطان أحمد خان بعمارة الكعبة، فعادت عام 1040 أربعين وألف هجرية إلى حالتها التي عليها اليوم في زماننا عام 1401 هـ واحد وأربعمائة وألف هجرية، فبالنظر إلى السَّدّ والسترة الخشبية التي جعلهما شريف مكة آنذاك مسعود بن إدريس تكون أبنية الكعبة اثنتي عشرة مرة. وقد نظم ذلك العلامة أحمد بن علان المكي الذي حضر سقوط جدار الكعبة وعمارة السلطان مراد خان لها فقال رحمه الله تعالى: =

(1/425)


وَجَاءَ عَنْ عَلِي بْنِ أبِي طَالِبِ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّ مَعْنَاهُ أنهُ أوَّلُ بيتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادةِ أوْ الْبَرَكَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادةَ أنهُ كَانَ قَبْلَهُ بيوت كَثِيرَة وَلَكِنَّهُ أوَّلُ بيتِ وُضِعَ للْعِبَادةِ.
وَقَالَ أقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ: أجْمَعوا عَلَى أنهُ أوَّلُ بَيْت وُضِعَ لِلْعِبَادَة
__________
= بنى الكعبة الأملاك آدم بعده ... فشيث وإبراهيم ثم العمالقة
وجرهم قصي مع قريش وتلوهم ... هو ابن الزبير فادر هذا وحققه
وحجاج تلو ثُم مسعود بعده ... شريف بلاد الله بالنور أشرقه
ومن بعد ذا حقاً بنى البيت كله ... مراد بن عثمان فشيد رونقه
المراد بعثمان في هذه الأبيات جد سلاطين آل عثمان الترك ...
قال العلامة السيد أبو بكر شطا رحمه الله في كتابه (إعانة الطالبين): وقد حدث ترميم في باطن الكعبة المعظمة في شهر ربيع الأخير سنة 1299 ألف ومائتين وتسع وتسعين في مدة السلطان عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد، وقد أرَّخ العمارة المذكورة السيد أحمد زيني دحلان في بيت واحد وجعل قبله بيتين للدخول على بيت التاريخ فقال:
لسلطاننا عبد الحميد محاسن ... ومَن ذا الذي بالحصر يقوى يعدد
وقد حاز تعميراً لباطِن قبلة ... وتاريخه بيت فريد يحدد
بناء بدا زهواً لداخل كعبة ... وسلطاننا عبد الحميد المجدد
53، 7، 19، 665، 97، 207، 169، 82
841 + 458 = 1299 هجرية. اهـ مختصراً.
وفي عام 1377 هـ ألف وثلاثمائة وسبعة وسبعين هجرية في يوم الجمعة الثامن عشر من شهر رجب بدىء في ترميم الجدارين الشامي والغربي من الكعبة وتبديل سقفها وذلك لوجود تصدع في الجدارين المذكورين ولتآكل أخشاب السقف بمرور الزمن، وتم العمل في ذلك يوم السبت 11/ 8/ 1377 الحادي عشر من شعبان عام ألف وثلاثمائة وسبعة وسبعين هجرية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام في حفل بهيج حضره صاحب السمو الملكي ولي العهد فيصل بن عبد العزيز آل سعود وفق الله هذه العائلة لما يحبه ويرضاه آمين.

(1/426)


وَإنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِغَيْرِهِا، قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ هُوَ الأَوّلُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُوِر أَنهُ أوَّلُ بيتِ وُضِعَ مُطْلَقاً والله أعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى مُبَارَكاً مَعْنَاهُ كَثِيرُ الْخَيْرِ، وَانْتَصَبَ مُبَارَكاً عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزّجاجُ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى اسْتَقَرّ بمَكَّةَ في حَالِ بَرَكَتِهِ وَهُوَ حَالُ مِنْ وضع أي وُضِعَ مُبَارَكاً، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} الْمُخْتَارُ أَنهَا الْمَنَاسِكُ وَأمْنُ الخائِفِ وانْمَحَاقُ الجِمَارِ مَعَ كَثْرَةِ الرَّمْي وَالرَّامِينَ عَلَى تكَرُّر الأَعْصَارِ وَالسنِين، وَامْتناعُ الطيْرِ مِنَ الْعُلُو عَلَيْهِ واستشفاء الْمَريضِ بِهِ وَتَعْجِيلِ الْعُقُوبةِ لِمَنِ انْتَهَكَ فِيهِ حَرَمَهُ وَإِهْلاَك أَصْحَابِ الْفِيلِ لَمَّا أَرَادُوا تَخْرِيبَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ (1).
قَالَ أبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ: جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - طُولَ بِنَاءِ الْكَعْبةِ في السَّمَاء تسعْةَ أذرُعٍ (2) وَطُولَهَا في الأَرْضِ ثَلاَثِينَ ذِرَاعاً (3) وَعَرْضَهَا في الأَرْضِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ ذِرَاعاً، وَكَانَتْ غَيْرَ مُسَقفَةٍ ثُمَّ بَنَتْهَا قُرَيش في الْجَاهِلِيةِ فَزَادَتْ فِي طُولها في السمَاءِ تسْعَةَ أذْرُعِ فَصَارَ طُولُهَا ثَمَانِيةَ عَشَرَ ذِرَاعاً وَنَقَصُوا مِنْ طُولهَا في الأَرْضِ سِتةَ أذْرُعٍ وَشِبْراً تركُوهَا في الْحِجْرِ فَلَمْ تَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتى كَانَ
__________
(1) أي كوقع هيبة البيت في القلوب وخشوعها لله عند رؤيته وحنين النفوس إليه وغير ذلك مما ذكر في الحاشية.
(2) قال في الحاشية: ذكر ابن جماعة في ذلك كلاماً مخالفاً لكلام الأزرقي هذا، ثم قال كل ذلك حررته بذراع القماش المستعمل في زماننا بمصر، وحينئذ فيحتمل أن تحرير الأزرقي كان بغير هذا الذراع ... إما بذراع اليد أو غيره.
(3) عَبَّر غير المصنف رحمهم الله تعالى كما في الحاشية أنه جعل عرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعاً من الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي يلي الباب وعرض ما بين الشاميين اثنين وعشرين ذراعاً وما بين الغربي واليماني إحدى وثلاثين وما بين اليمانيين عشرين وجعل الحجر إلى جنبه عريشاً من آراك تقتحمه الغنم وكان زرباً أي حظيرة لغنم إسماعيل وعلى نبينا وسلم. اهـ.

(1/427)


زَمَنُ عَبْدِ الله بْنِ الزبَيْرِ فَهَدَمَهَا وَبَنَاهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ وَزَادَ في طُولهَا في السَّمَاءِ تِسْعَةَ أَذْرُع أخْرَى فَصَارَ طُولُها في السَّمَاء سَبْعاً وَعِشْرِينَ ذِرَاعاً، ثمَّ بَنَاهَا الْحَجَّاجُ فَلَمْ يُغَيّرْ طُولَها فِي السَّماء، فَالْكَعْبةُ الْيَوْمَ طُولَهَا في السَّماءِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعاً.
وَأَمَّا عَرْضُهَا فَبَيْنَ الرُّكْنِ الأَسْوَدِ وَالشَّامِيّ خَمْسَةٌ وَعِشْرونَ ذِرَاعاً وَبَيْنَ الْيَمَانِيّ وَالْغَرْبِيّ كَذَلِكَ بَيْنَ الْيَمَانِي والأَسْوَدِ عِشْرُونَ ذرَاعاً وَبينَ الشامي والغَرْبِى أحَدٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعاً وَالله أعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أنَّ الْكَعْبةَ زَادها الله تَعَالَى شَرَفاً بُنِيَتْ خَمْسَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِنَاءُ المَلاَئِكَةِ أوْ آدَمَ عَلَى مَا تَقَدمَ مِنَ الْخِلاَفِ.
الثانِيَةُ: بِنَاءُ إِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم -.
الثالِثَةُ: بِنَاءُ قُرَيْش في الْجَاهِلِيةِ، وَقَدْ حَضَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْبِنَاءُ وَكَانَ يَنْقُلُ مَعَهم الْحِجَارَةَ كَمَا ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ الصَّحيحِ.
الرَّابِعَةُ: بِنَاءُ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
الْخَامِسَةُ: بِنَاءُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَهَذَا الْبِنَاءُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْيَوْمَ (1)
__________
(1) قال في الحاشية: فيه تَجَوُّز لأن الحجاج لم يهدم من بناء ابن الزبير رضي الله عنهما إلا ناحية الحِجْر بكسر الحاء. بأمر عبد الملك بن مروان وأخرج من الكعبة ما كان أدخله ابن الزبير رضي الله عنهما من الحجر لما أخبرته خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما بما هو مشهور ثم سَدَّ بابها الغربي، وما تحت عتبة الباب الشرقي الموجودة اليوم.
وهو أربعة أذرع وشبر، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير رضي الله عنهما كما ذكر الأزرقي وغيره. اهـ.
أقول: وقول المصنف (وهذا البناء هو الموجود اليوم) أي في زمانه حتى زمان =

(1/428)


وَهَكَذَا كَانَتْ الْكَعْبةُ في زَمَنِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ قِيْلَ إِنّهُ بُنِيَ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ غَيْرَ الْخَمْسَةِ:
إحْداهما: بَنَتْهُ العَمالِقَةُ بعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -.
وَالثَّانِيَةُ: بَنَتْهُ جُرْهُم بَعْدَ الْعَمَالِقَةِ، ثُم بَنَتْهُ قُرَيْشٌ وَالله أعلم (1).
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكَانَتْ الْكَعْبَةُ بَعْدَ إِبْرَاهِيم - صلى الله عليه وسلم - مَعِ الْعَمَالِقَةِ وَجُرْهُم إِلى أنْ انْقَرضُوا وَخَلَفَتهُمْ فِيهَا قُرَيْشٌ بَعْدَ اسْتِيلاَئِهِمْ عَلَى الْحَرَمِ لِكَثَْرتهِمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ وَعِزِّهِمْ بَعْدَ الذِّلَّةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جدد بِنَاءَهَا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ قُصَيّ بْنُ كِلاَب وَسَقَّفَهَا بِخَشَبِ الدُّومِ وَجَرِيدِ النَّخْلِ ثُمَّ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ بَعْدَهُ (2) وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيْلَ خَمْس وَثَلاَثِينَ سَنَةً فَقَال أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ: يَا قَوْمِ ارْفَعُوا بَابَ الْكَعْبةِ حَتَّى لاَ يُدْخَلَ إِلَيْهَا إِلاَّ بِسُلَّم فَإِنَهُ لاَ يَدْخُلُهَا حينَئذ إِلا مَنْ أرَدْتُمْ، فَإِنْ جَاءَ أحَدٌ مِمَّنْ تكرَهُونَهُ رميتم به وَسَقَط وَصَارَ نَكَالاً لِمَنْ رَآهُ فَفَعَلَتْ قُرَيْش مَا قَالَ.
__________
= صاحب الحاشية العلامة ابن حجر الهيثمي المكي رحمهما الله تعالى وأيضاً حتى عام 1039 هـ تسعة وثلاثين وألف هجرية، وأما البناء الموجود في زماننا (عام 1401) واحد وأربعمائة وألف هجرية فهو بناء السلطان مراد خان بن السلطان أحمد خان رحمهما الله تعالى الذي بدأ تشييده في 23/ 6/ 1040 هجرية، 1630 ميلادية بعد سقوط معظم جدار الكعبة كما تقدم بل لم يبق منها إلا الأساس.
(1) قد تقدم هذا في التعليق قريباً.
(2) الذي صَح من الأبنية للكعبة المشرفة بلا نزاع بناء إبراهيم عليه السلام وقريش وابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج والشريف مسعود بن إدريس الذي جعل لها سترة خشبية وسَدّ ما تساقط من جدرانها بالأعواد القوية كما تقدم، والسلطان مراد خان بن السلطان أحمد خان وهو البناء القائمة عليه الكعبة المعظمة الآن وقد حصلت لها ترميمات في عهد حكومتنا السعودية السنية وفقها الله لمرضاته كما تقدم في التعليق.

(1/429)


وَكَانَ سَبَبُ بِنَائِهَا أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْتُهْدِمَتْ وَكَانَتْ فَوْقَ الْقَامَةِ وَأَرَادُوا تَعْلِيَتَهَا وَكَانَ سَبَبُ اسْتِهْدَامهَا أنَّ امْرَأة جَاءَت بِمَجْمَرةٍ تُجَمرُ الكعبة (1) فَسَقَطَتْ مِنْهَا شَرَارَة فَتَعَلقَتْ بِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ فَاحْتَرَقَتْ.
وَكَانَ بَابُ الْكَعْبَةِ لاَصِقاً بِالأَرْضِ في عَهْدِ إبْرَاهِيمَ وَفِي عَهْدِ جُرْهُمٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى أَنْ بَنَتْهُ قُرَيْش فَرَفَعَتْ بَابَهُ وَجَعَلتْ لَهَا سَقْفاً وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سَقْفٌ (2)، وَزَادَتْ في ارْتِفَاعِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَجَعَلَتْهُ ثَمَانِيَة عَشَرَ ذِرَاعاً وَتنافَسُوا فِيمَنْ يَضَعُ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ مَوْضِعَه مِنَ الركْن ثُم رَضُوا بِأنْ يَضَعَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - (3).
وَثَبَتَ فِي الْحديثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَباسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ّ: "نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايا بَنِي آدَمَ" (4). قَالَ الترْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح وَالله أعْلَمُ.
__________
(1) أي تبخرها بعود البخور ونحوه.
(2) قد مرّ في كلام المصنف رحمه الله تعالى أنْ قصياً سقّفها بخشب الدوم فالمراد لم يكن للكعبة سقف حين بنائهم هذا.
(3) سببه أنهم اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود فرضوا بأوّل داخل فكان هو - صلى الله عليه وسلم -.
(4) قال المحشي رحمه الله تعالى: الحكمة في كونها سودته دون غيره من بناء الكعبة ما أشار إليه السهيلي رحمه الله من أن العهد الذي فيه هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها من توحيده فكل مولود يولد على الفطرة وقلبه في غاية البياض لأن فيه ذلك العهد ثم سوّد بالذنوب فكذلك الحجر الذي فيه العهد المأخوذ عليه، فلما تناسبا أثرت فيه الخطايا كما أثرت في بنى آدم. اهـ.
أقول قوله: (لعهد) أي الذي أخذه الله على بني آدم وهو قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [سورة الأعراف: آية 172] ثم بعد ما أخذه عليهم جعله في الحجر الأسود كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لَما أخذ من بني آدم ميثاقهم =

(1/430)


الثلاثون: في أُمُورِ تتعَلَقُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
قَالَ أبُو الوَليدِ الأَزْرَقِي، والإِمَامُ أقْضَى القضَاةِ أَبُو الحسَن الماوَرْدِيُّ الْبَصْرِيُّ في كِتَابِهِ الأَحْكَامُ السُّلْطَانِيةِ وَغيْرِهُمَا مِنَ الأَئمةِ المعتمدينَ وفي كلامِ بعضهم زِيادة على بعض: أَمَا المَسْجِد الحَرَامِ فَكَانَ فَنَاءَ حَوْلَ الكَعْبهَ وَفَضَاءَ للطَّائِفِينَ (1) وَلَمْ يكُنْ لَهُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رَضِيَ الله عَنْهُ جِدَار
__________
= جعله في الحجر" رواه أبو الفرج كما في القرى للطبري رحمه الله تعالى وقوله: (فلما تناسبا) أي قلب بني آدم، والحجر في كون كل منهما أودع العهد (أثرت فيه) أي الحجر (الخطايا كما أثرت في بني آدم) أي في قلبه. واعترض بعض الملاحدة على هذا الحديث: (نزل الحجر إلخ)، فقال ما سودته خطايا المشركين ينبغي أن يبيضه توحيد المسلمين، وأجاب ابن قتيبة رحمه الله بأن السواد يصبغ به، ولا ينصبغ والبياض عكسه.
وأجاب غيره رحمه الله تعالى: بأن بقاء السواد أبلغ في اعتبار ذوي البصائر، لأن الخطايا إذا أثرت في الحجر ففي القلب أبلغ. اهـ.
(1) أي على قدر صَحْن المطاف يَحُدُّه من الجهة الشرقية بئر زمزم وباب بني شيبة، وهو عقد عظيم كان على سمت بئر زمزم أزيل في عهد حكومتنا السنية الحكومة السعودية وهو يظهر لك في الصورة القديمة الآتية للمسجد الحرام حينما كانت الدور محيطة به قبل العمارة السعودية وبجانبه المصعد الخشبي الذي يصعد عليه لدخول الكعبة المعظمة، وبحذوه غرفة بئر زمزم السابقة، وعليها غرفة المُبَلغ للصلاة، ويسمى المقام الشافعي، وعلى يمين العقد يظهر لك المنبر المرمري الذي أهداه السلطان سليمان خان للمسجد الحرام عام (966) ستة وستين وتسعمائة، وهو لا يزال موجوداً من التاريخ المذكور إلى وقتنا، وما تراه في الصورة من العقد وغرفة زمزم، وما فوقها من المقام الشافعي قد أزيل في زمن حكومتنا السنية لتوسعة المطاف، ونقل المنبر إلى موضع آخر وأنزلت غرفة بئر زمزم إلى أعماق أرض المطاف فصار سطحها من جملة المطاف وجعلت لها أبواب ذات درج من الجهة الشرقية المقابلة للمسعى مما يلي باب علي رضي الله عنه ولم يبقَ إلا الموضع الزجاجي الذي بداخله مقام إبراهيم عليه السلام، فأصبح المطاف واسعاً جداً كما تراه في الصورة الآتية التي ظهرت فيها العمارة السعودية للمسجد الحرام =

(1/431)


يحيطُ بِهِ وَكَانَتْ الدُّورُ مُحْدِقَةً بِهِ، وَبينَ الدُّور أَبْوَابٌ يَدْخُلُ النّاسُ مِنْ كُلّ نَاحية فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رضيَ الله عَنْهُ وَكَثُرَ النّاسُ وَسَّع الْمَسْجِدَ (1) واشْتَرَى دُوراً وَهَدَمَهَا وَزَادهَا فِيهِ وَاتَّخَذَ لِلْمَسْجِدِ جِدَاراً قَصِيراً دُونَ الْقَامَةِ، وَكَانَتْ الْمَصَابِيحُ تُوضَعُ عَلَيْهِ.
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ الله عَنْهُ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الجِدَارَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (2)، فلمَّا استُخْلِفَ عُثْمَانُ رَضِيَ الله عنهُ ابْتَاعَ مَنَازِلَ وَوَسَّعَهُ بِهَا أيضاً وبنى الْمَسْجِدَ وَالأَرْوِقةَ، وَكَانَ عثمانُ رَضِيَ الله عَنْهُ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ الأَرْوِقَةَ (3). ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبير زَادَ في المَسْجِدِ زِيَادَةً كَثيرة واشْتَرى دُوراً مِنْ جُمْلَتِهَا بَعْضُ دارِ الأَزْرقِ، اشْتَرَى ذَلِكَ الْبَعْضَ بِبِضْعَةَ عَشَرَ ألْفَ دينَار ثُمَّ عمَّرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ لَكِنْ رَفَعَ جِدَارَهُ وَسَقَّفَهُ بِالسَّاج وَعَمَّرَهُ عِمَارَة حَسَنهً، ثُمَّ إِنَّ الوليدِ بنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ وَحَمَلَ إِلَيْهِ أَعْمِدَةَ الْحِجَارَةِ وَالرُّخَامِ وَزَادَ فِيهِ الْمَهْديُّ (4) بَعْدَهُ مَرَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا بَعْدَ سَنَةِ ستينَ وَمَائَة، وَالثانِيةُ بَعْدَ سَنَةِ سَبْعٍ
__________
= ذات الطوابق والمآذن العملاقة وظهر لك باب الكعبة الذهبي الذي عمل في عهد الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود عام 1399 هـ كما تقدم، وأرض المطاف قد رصفت بأحجار المرمر الأبيض لتعكس حرارة الشمس بإذن الله تعالى فلا تؤذي الطائفين، وَفَّق الله الحكومة السعودية لما فيه خير العباد والبلاد آمين.
(1) وَسع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسجد الحرام عام (17) سبعة عشر من الهجرة.
(2) وأول مَنْ وَسعه وأول من جعل له أبواباً وأول من أضاء المساجد بالمصابيح.
(3) في سنة ست وعشرين من الهجرة زاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه المسجد الحرام ووسّعه بأرض الدور الملاصقة له التي اشتراها من أهلها وسقفه فكان أوّل مَنْ اتخذ للمسجد الحرام أروقة بعد أن كان عبارة عن متسع فسيح مثل الحصوة.
(4) أي ابن أبي جعفر المنصور والد هارون الرشيد رحمهم الله تعالى.

(1/432)


وَسِتينَ وَمَائَةٍ إلَى تِسْعٍ وَسِتينَ وَمَائَةٍ وَفِيهَا تُوفِّيَ الْمَهْديُّ واستقر على ذلك بناؤه إلى وقتنا هذا (1).
__________
(1) أي وقت المصنف رحمه الله تعالى عام وفاته عام 676 ستمائة وستة وسبعين هجرية كما تقدم في ترجمته. قال في الحاشية: وقد تجدد بعد المهدي زيادة بالجانب الشمالي زادها المعتضد العباسي بعد الثمانين ومائتين، أدخل فيها ما كان بقي من دار الندوة وأخرى وهي المعروفة بزيادة باب إبراهيم في دولة المقتدر بالله العباسي سنة ست وثلثمائة (306). اهـ.
أقول: وقول المصنف واستقر بناؤه -أي التربيعي- للمسجد الحرام ولم ينظر إلى الزيادتين لأنهما خارجتا التربيع والله أعلم، ثم أزيلت عمارة المهدي رحمه الله تعالى عام (980) ثمانين وتسعمائة من الهجرة، بعد دوامها (810) ثمانمائة وعشر سنين من الهجرة لظهور تشقق في الرواق الشرقي فصدر أمر السلطان سليم بك بن سليمان خان بعمارة المسجد الحرام جميعه بعد هدمه، وإبدال سقف الأروقة الخشبية بقباب هي المشاهدة الآن في البناية القديمة، وأعيدت الأعمدة المرمرية ثانياً في عمارة السلطان سليم خان "وابنه" "مراد" وهي من بقايا عمارة المهدي فلها الآن نحواً من ألف ومائتين وواحد وثلاثين عاماً (1231) في عمارة الوليد المهدي وعمارة سليم وابنه مراد، وحين ما كمل عمل جانبين من عمارة المسجد الحرام الشرقي، والشامي توفي السلطان سليم رحمه الله تعالى، وتولى مكانه ابنه مراد خان فتمم عمارة المسجد الحرام في عام (984) تسعمائة وأربعة وثمانين هجرية على أحسن شكل وأبهى منظر، وفي هذا يقول المؤرخ العلامة قطب الدين في كتابه (الأعلام) رحمه الله تعالى:
جَددَ السلطان مراد بن سليم ... مسجد البيت العتيق المحترم
سر منه المسلمون كلهم ... دار منشور اللواء والعلم
قال روح القدس في تاريخه ... عمر سلطان مراد الحرم
وما زالت عمارة السلطان سليم وابنه السلطان مراد رحمهما الله تعالى قائمة منذ عام (984) تسعمائة وأربعة وثمانين بمآذنها وقبابها وجميع لوازمها وبها المنبر الذي أهداه السلطان سليمان خان عام 966 هـ تسعمائة وستة وستين هجرية إلى أنْ قامت التوسعة السعودية في أوائل عام (1375 هـ) ألف وثلثمائة وخمسة وسبعين هجرية التي احتفظت =

(1/433)


وقد قدمنا أنه يجوز الطواف في جميع أروقته وَلَوْ وُسع جَازَ الطوافُ في جمِيعِهِ والله أعْلَمُ.
__________
= ببناء الأروقة القديمة وأقامت حولها الأروقة الجديدة من دورين، وأدخل المسعى بعد أن كان شارعاً تجارياً ضمن المسجد الحرام واستمر البناء على أُسس متينة وهندسة جميلة تليق بما لبيت الله الحرام من قداسة ومكانة في نفوس المسلمين وأصبحت مساحة المسجد الحرام بطابقيه بعد هذه التوسعة (160168) مائة وستين ألفاً ومائة وثمانية وستين متراً مسطحاً بعد أن كانت (29127) تسعة وعشرين ألفاً ومائة وسبعة وعشرين متراً مسطحاً، وهي مساحة تتسع لأكثر من ثلاثمائة ألف مصلٍ في وقت واحد ويعتبر مشروع توسعة المسجد الحرام الذي قامت به المملكة العرببة السعودية واستغرق العمل فيه أكثر من اثني عشر عاماً من أضخم المشروعات العمرانية كما تعدّ العمارة غاية في الروعة والجمال، وما صرف عليها من مئات الملايين من الريالات يعتبر منتهى السخاء في عمارة بيوت الله تعالى وفق الله تعالى حكومتنا السعودية لمرضاته آمين.

(1/434)


(صور)

(1/435)


وَاعْلَمْ أَن الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يُطلَقُ وَيُرَادُ بهِ هَذَا المسجدُ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ (1)، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْحَرَم وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَكةُ، وَقِيلَ هَذَانِ الأَمْرَانِ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أعْلَمُ.
الحَادِيةُ وَالثَّلاَثُونَ: في أُمُورٍ تتعَلَّقُ بِمَكَّةَ. اعْلَمْ أنَّ لَهَا سِتَّةَ عَشَرَ اسْمَاً: مَكَّةُ، وَبَكّةُ وَالْبَلَد، وَأُمُّ الْقُرَى، وَالْبَلَدُ الأَمِينُ، وَأُمُّ رُحْمٍ (2)، لأَنَّ النّاسَ يَتَرَاحَمُونَ وَيَتَوَاصَلُونَ فِيهَا، وَصَلاَح بِفَتَحِ الصَّادِ وَكَسْرِ الْحَاءِ كَمَا قَالُوا: حَذَامِ وَقَطَامِ بنوهُمَا عَلَى الْكَسْرِ سُمَّيَتْ بِذَلِكَ لِأَمْنِهَا وَيقالُ لَهَا الْمُقَدّسَةُ، وَالْقَادِسَةُ، مَأْخُوذَانِ مِنَ التَّقْدِيسِ وَهُوَ التَّطْهِيرُ، والنَّاسَّةُ بالنُّونِ والسينِ المهملةِ المُشَدّدة، والنَّسَّاسَةُ بتشديدِ السين الأُولَى قِيلَ لأَنَّهَا تنسُّ مَنْ ألْحَدَ فِيهَا أي تَطْرُدُهُ وَتَنْفِيهِ.
وقَالَ الأَصْمَعِي النسُّ الْيَبْسُ وَقِيلَ لِمَكَّةَ نَاسَّة لقِلَّةِ مَائِهَا وَيقَالُ البَاسَّةُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ لأَنهَا تَبُسُّ الْمُلْحِدَ أي تُحَطمُه وَتُهْلِكُهُ وَمِنْهُ قَوْلُ الله تَعَالَى:
__________
(1) من الغالب قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ} [الإسراء: 1] على الراجح وقيل هو هنا مكة لأنه أسرى به من بيت أم هانئ أو شِعْب أبي طالب، قال العلامة عبد الرؤوف رحمه الله: ويمكن الجمع بأنه أُخِذَ أولاً - صلى الله عليه وسلم - من المسجد إلى الشعْب ثم إلى بيت أم هانئ أو عكسه. اهـ.
قوله: (وقد يراد به الحرم) قال الماوردي رحمه الله وهو المراد في جميع القرآن الكريم، وهي خمسة عشر موضعاً إلا: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فالمراد به الكعبة وقوله: (وقد يراد به مكة) أي المحدودة بدءاً وآخراً بالعمارات. وبقي على المصنف إطلاق رابع للمسجد وهو الكعبة. وقوله: (وقيل هذان الأمران في قول الله إلخ) فجرى المصنف النووي رحمه الله تعالى على الأول وهو أنّ المراد من المسجد الحرام في الآية المذكورة: الحرم، وجرى الرافعي رحمه الله على الثاني وهو أن المراد من المسجد في الآية المذكورة مكة. والمعتمد في المسألة عند الشافعية ما ذهب إليه النووي وقد تقدمت أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى.
(2) بضم الراء وإسكان الحاء.

(1/436)


{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} يقالَ لَهَا الحاطِمَةُ لِحَطْمِهَا الْمُلْحِدَ، وَيقالُ لَهَا الْعُرُشُ (1)، وَيقالُ لَهَا كُوثَى (2). فَهَذِهِ سِتّة عَشَرَ اسْماً وَقَدْ أوْضَحْتُهَا في كِتَابِ تَهْذِيبِ الأَسْمَاءِ وَاللغَاتِ وَأَتيْتُ هُنَا بِمَقَاصِدِهَا.
وَاعْلَمْ أنَّ كَثْرَة الأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْمُسَمَّى كمَا فِي أَسْمَاءِ الله تَعَالَى وَأَسْمَاءِ رَسُولهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلاَ يُعْرَفُ بَلَدٌ مِنَ الْبِلاَدِ أكْثَرُ أسْمَاءً مِنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِكَوْنهِمَا أَشْرَفُ الأَرْضِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ جَمَاعَة مِنَ الْعُلَمَاءِ بكّةَ وَمَكةَ بِمَعْنى وَاحِدٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ هُمَا بِمَعْنَيين واخْتَلَفُوا عَلَى هَنا، فَقِيْلَ مَكَّةُ بالْمِيمِ الْحَرَمُ كُلهُ وَبكَّةُ الْمَسْجِدُ خاصَّةً، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَزَيْدُ بنُ أَسْلَمَ. وَقِيلَ مَكَّةُ اسْمٌ لِلْبَلَدِ وَبَكَّةُ بِالْبَاءِ الْبَيْتُ وَمَوْضِعُ الطَّوَافِ وَقِيلَ بَلِ الْبَيْتُ خَاصَّةً، قَالَهُ النَّخَعِي وَغَيْرُهُ، سُميت بَكّة لازْدِحَامِ النَّاسِ بِهَا يبكُّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً أيْ يَدْفَعُهُ في زَحْمَةِ الطَّوَافِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: سُمِّيتْ بَكَّةَ لأَنَّهَا تبك أَعْنَاقَ الجَبَابِرَةِ إِذَا ألْحَدُوا فِيهَا أَيْ تَدُقهَا أيْ وَالْبَك الدق وَأَمَّا مَكَّةُ بِالمِيمِ فَقَالَ الأَصْمَعِي وَغَيْرُهُ هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلهِمْ تمككْتُ الشَّيْءَ إذَا استَخْرجْتُهُ لأَنهَا تَمُك الْفَاجِرَ عَنْهَا وَتُخْرِجُهُ مِنْهَا، وَقِيلَ لأَنَّها تَمُك الذُّنُوبَ أيْ تُذْصبُهَا وَقِيلَ لِقِلَّةِ مَائِهَا مِنْ قَوْلهِمْ امْتَكَّ الْفَصِيل ضَرْعَ أمِّه إذَا امْتَصَّهُ.
قَالَ الماوَرْدِيُّ: لَمْ تكُنْ مَكَّةُ ذَاتَ مَنَازِلَ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ بَعْدَ جُرْهُم
__________
(1) بضم العين والراء وفتح العين مع سكون الراء.
(2) بضم الكاف وفتح التاء.

(1/437)


والْعَمَالِقَةِ يَنْتَجِعُونَ (1) فِي جِبَالِهَا وَأَوْدِيَتِهَا وَلاَ يَخْرُجُونَ مِنْ حَرَمِهَا انْتِسَاباً إلى الْكَعْبَةِ لاسْتِيلاَئِهِمْ عَلَيْهَا وَتَخَصُّصاً بالْحَرَمِ لِحُلولِهِمْ فِيهِ وَيَرَوْنَ أَنهُم سَيَكُونُ لَهُمْ بِذلِكَ شَأْنٌ، وكُلَّمَا كَثُرَ فِيهِمْ الْعَدَدُ وَنَشَأَتْ فِيهِمْ الرياسَةُ قَوِيَ أمَلُهُمْ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ سَيَتَقَدَمُونَ عَلَى العربِ. وَكَانَ فُضَلاَؤُهُمْ يَتَخَيَّلُونَ أَنَّ ذلِكَ لِرياسَةٍ في الدينِ وَتَأْسِيساً لِنبوّة ستكُونُ، فَأَوَّلُ مَنْ أُلهِمَ ذلِكَ مِنْهُم كَعْبُ بنُ لُؤَيِّ بن غَالِبٍ وَكَانَتْ قُرَيْش تَجْتَمعُ إِلَيْهِ في كُل جُمعةٍ وَكَانَ يَخْطُبُهُمْ فِيهِ وَيَذْكُرُ لَهُمْ أمْرَ نَبِيّنا محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ انْتَقَلَتْ الرياسَةُ إلَى قُصي بنِ كَلاَبٍ فَبَنى بِمَكَّةَ دَارَ النّدْوَةِ لِيَحْكُمَ فِيهَا بَيْنَ قُرَيْش ثُم صَارَتْ لِتَشَاوُرِهِمْ وَعَقْدِ الأَلْوِيةِ لحُرُوبِهِم.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَتْ أوَّلَ دَارٍ بُنِيَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ تتابَعَ النَّاسُ فَبَنَوا الدُّورَ وكُلَمَا قَرُبُوا مِنَ الإِسْلاَمِ ازْدَادُوا قُوَّةً وَكَثْرَةَ عَدَدٍ حَتى دَانَتْ لَهُمُ الْعَرَبُ.
الثَّانِيَةُ والثَّلاَثُون: يُكْرَهُ حَمْلُ السِّلاحِ بِمَكَّةَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابر رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّ النَبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لاَ يَحِلُّ أَنْ يُحْمَلَ السّلاحُ بِمَكَّةَ.
الثَّالِثَةُ والثلاَثُون: قَالَ أصْحَابُنَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايةِ أنْ تُحَجّ الكَعْبَةُ كُلَّ سَنةٍ فَلاَ تُعَطّلُ (2) وَلاَ يُشْتَرَطُ لِعَدَدِ الْمُحَصّلِينَ لِهذَا الفْرَضِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ بَلِ الْغَرَضُ أنْ يُوجَدَ حَجهَا في الْجُمْلَةِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ في كُلِّ سَنَة مَرَةً.
__________
(1) أي يستمرون منتقلين من موضع إلى موضع آخر في جبالها وأوديتها بدون أن يتجاوزوا حدود الحرم.
(2) لأن الحج هو المقصود الأعظم من بنائها لما فيه من إحيائها وإحياء الأماكن المقدسة كعرفة ومزدلفة ومنى والحج زيارة بقاع مخصوصة بأفعال مخصوصة في أشهر مخصوصة.

(1/438)


الرَّابعَةُ والثلاَثُونَ: قَدْ تَقَدمَ أَنهُ يَجُوزُ صَلاَةُ الْفَرضِ وَالنَّفْلِ جَمِيعاً في الْكَعْبَةِ وَأن النَّافِلَةَ فِي الْبَيْتِ أفْضَلُ مِنْهَا خَارِجَهُ وَكَذَا الْفَرِيضَةُ إذَا لَمْ تكُنْ جَمَاعَة وَإِنْ كَانَتْ جَمَاعَة فَخَارجهُ وَإِذا صَلُّوا جَمَاعَة دَاخِلُهُ فَلَهُمْ في الْمَوْقِفِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ تَقَدَّمَ بيانُها (1).
أَمَّا إِذَا صَلوا جَمَاعَة خَارِجَ الْبَيْتِ وَوَقَفَ الإِمَامُ عِنْدَ الْمَقَامِ أوْ غَيْرِهِ وَوَقَفَ المأمُومُونَ خَلْفَهُ مُسْتَدِيرينَ فَصَلاَتُهُمْ صَحِيحَة، فَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ أقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الإِمَامِ نُظِرَ إِنْ كَانَ أقْرَبَ وَهُوَ فِي جِهَةِ الإِمَامِ بأَنْ يقِفَ قُدامَهُ لَمْ تَصِحَّ صَلاَةُ المأمُومِ عَلَى الأَصَح، وَإِنْ كَانَ أقْرَبَ فِي جِهَةِ أخْرَى بِأَنْ اسْتَقْبَلَ الإِمَامُ الْجِدَارَ مِنْ جِهَةِ الْبَابِ وَاسْتَقْبَلَ الْمَأْمُومُ مِنْ جِهَةِ الْحجرِ أو غَيْرِهَا صَحَتْ صَلاَتهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَحِيحِ (2)، وَقَالَ أَبُو إِسْحقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أصْحَابِنَا لاَ تَصِحُّ (3).
وَلَوْ وَقَفُوا خَلْفَ الإِمَامِ آخِرَ الْمَسْجِدِ وَامْتَد صَف طَوِيل جَازَتْ صَلاَتُهُم (4)، وَإِنْ وَقَفُوا بِقُرْبِ الْبَيْتِ وَامْتَدَّ الصف فَصَلاَة الخَارِجِينَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ بَاطِلَة عَلَى الأَصح.
__________
(1) في المسألة الثامنة من هذا الباب.
(2) ولو استقبل الإمام ركناً لم يجز التقدم عليه في كل من جهتيه لاستقباله لهما.
(3) الظاهر أنه انفرد بهذا الخلاف.
(4) حاصله كما في الحاشية أن الصف إن قرب من الكعبة سواء كان آخر المسجد أم لا اشترط تيقن كل مَنْ به من محاذاتها، وإلآ بطلت صلاة مَن لم يتيقن محاذاتها بخلاف ما إذا بعد الصف عنها فتصح صلاة الكل وإن طال الصف من المشرق إلى المغرب لأن صغير الحجم كلما زاد بعده زادت محاذاته كغرض الرماة، هذا ما قاله الشيخان الرافعي والنووي رحمهما الله تعالى. اهـ مختصراً بزيادة.

(1/439)


قَالَ أبو الوليد الأزرقي: أَول من أدار الصفوف حول الكعبةِ وراءَ الإِمَامِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله القَسْرِيُّ (1) حِيْنَ كَانَ وَالياً عَلَى مَكَّةَ فِي خِلاَفَةِ عَبْدِ الْمَلكِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أنَهُ ضَاقَ عَلَى النَّاسِ مَوْقِفُهُمْ وَرَاءَ الإِمَامِ فَأَدَارَهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ عَطَاءُ بْنُ أبِي رَبَاحٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَار وَنُظَرَاؤُهما مِنَ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ ذَلِكَ وَلاَ يُنْكرُونَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ إذا قَل النَّاسُ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيُّهُما أَحَب إِلَيْكَ؟ أَنْ يُصَلوا خَلْفَ الْمَقَامِ أمْ يَكُونُوا صَفَّاً وَاحِداً حَوْلَ الكَعْبَةِ؟ فَقَالَ: أَنْ يَكُونُوا صَفاً وَاحِداً حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَالله أَعْلَمُ.
قَالَ أَصحَابُنَا: وَلَوْ صلى مُنْفَرِداً عِنْدَ طَرَفِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الكَعْبَةِ وَبَعْضُ بَدَنِهِ مُحَاذِي الركْنِ وَبَعْضُهُ يَخْرِجُ عَنْهُ لَمْ تَصِحّ صَلاَتُهُ عَلَى الأَصحِّ (2)، وَلَوْ اسْتَقْبَلَ حِجْرَ الْكَعْبَةِ وَلم يَسْتَقْبِلْهَا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا فَالأَصَحُ أَنهُ لا تَصحُّ صَلاَتُهُ (3) وَلَوْ وَقَفَ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ (4) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَاخِص (5) لَمْ تَصِح
__________
(1) وفي قول نقله الزركشي أن أول من أدار الصفوف حول الكعبة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وسبب ذلك إنه عيب عليه أن جميع الناس خلف الإِمام والله أعلم.
(2) أي بخلاف ما لو استقبل الركن فصلاته صحيحة. وإن خرج عنه بعض بدنه من الجانبين لاستقباله للبناء المجاور للركن.
(3) أي وإنْ استقبل ما في الحجر من الكعبة لأن القبلة لا بد فيها من القطع بأنها قبلة قرب المصلى منها أو بعد وما في الحجر من البيت إنما ثبت بدليل ظني وهو لا يكتفي به فيها ثم بعد القطع باستقبال القبلة لا بد من القطع بمحاذاتها لمن عندها وغلبة الظن للبعيد عنها. وقوله: (مع تمكنه منها) خرج العاجز عن استقبالها، فهذا يصلي على حسب حاله ويعيد.
(4) أي أو في عرصتها إذا انهدمت والعياذ بالله. والعرصة هي البقعة الواسعة بين الدور ليس بها بناء.
(5) أي من بنائها أو مسمر فيه أو شجر ثابت فيه أو تراب مجتمع منه بخلاف الحشيش النابت فيه، وكذا العصا المغروزة لأنها معرضة للزوال والله أعلم.

(1/440)


صَلاَتهُ عَلَى الصحِيحِ وَإِنْ كَانَ شَاخِص مِنْ نَفْسِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ ثُلُثَا ذِرَاع (1) صَحَّتْ صَلاَتُه وإلاّ فَلاَ، وَلَوْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَتَاعاً لَمْ يَكْفِهِ.
الخَامِسَةُ والثلاَثُونَ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الصّلَوَاتِ يَتَضَاعَفُ الأَجْرُ فِيهَا فِي مَكَّةَ وَكَذَا سَائِرُ أنْوَاعِ الطَّاعَاتِ أيْضَاً (2)، وَمَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مُجاهدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلِ (3). وَقَالَ الْحَسَنُ البَصْرِي: صَوْمُ يَوْم بِمَكَّةَ بِمَائَةِ ألف وَصَدَقةُ دِرْهَم بِمَائَةِ ألْفٍ وَكُل حَسَنَة بِمَائَة أَلْفٍ فَيُسْتَحَب أَنْ يُكْثِر فِيها مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقِرَاءةِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ الَّتي تُمْكِنُهُ.
السَّادسةُ والثلاَثُونَ: في كُسْوَةِ الْكَعْبَة.
قَالَ الأَزْرَقُي: قَالَ ابْنُ جُريَج: كانَ تبَّع الحميَريُّ (4) أوَّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ
__________
(1) أي طولاً بذراع الآدمي تقريباً وإن لم يكن له عرض كما تقدم في ساتر قاضي الحاجة عند استقباله القبلة.
(2) قد تقدم الكلام على هذا في التعليق على المسألة الثالثة عشرة من هذا الباب.
فراجعه تجد فيه أقوال بعض الصحب الكرام والأئمة الأعلام رضوان الله عليهم جميعاً وعلينا معهم آمين.
(3) أي تبعاً لابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم كما في الحاشية.
(4) اسمه أسعد أبو كرب وهو الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعدما غزا المدينة، وأراد خرابها، ثم انصرف لَما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد. وقال شعراً أودعه عند أهلها، فكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر إلى أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدوه إليه. ويقال كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه وفيه:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مُدَّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيراً له وابن عم
وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - كما في تفسير القرطبي رحمه الله (لا تسبوا تُبعاً فإنه كان مؤمناً)، فهذا يدل على أنه كان واحداً بعينه. وقال السهيلي رحمه الله تعالى: تُبَّع اسم لكل مَلِكٍ =

(1/441)


كُسْوَةً كَامِلَةً أري فِي الْمَنَامِ أنْ يكْسُوهَا فَكَسَاهَا الأَنْطَاعَ (1) ثُمّ أُرِي في الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوهَا الْوَصَائِل وَهِيَ ثِيَاب حَبَرةٍ (2) مِنْ عَصْبِ الْيَمَنِ ثُم كَسَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُم رَوَى الأَزْرقِي فِي رِوَايَاتٍ مُتَفَرَّقَةٍ حَاصِلُها أَن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كَسَا الْكَعْبَةَ ثِيَاباً يمانِيةً ثُم كَسَاهَا أبُو بكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيةُ وَابْنُ الزبيرِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وإن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُ كَانَ يَكسُوهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فيكْسُوهَا القَبَاطِيّ (3) وَكَسَاهَا ابْنُ الزبَيْرِ وَمُعَاوِيةُ الديباجَ (4) وَكَانَتْ تكْسَى يَوْمَ عَاشُورَاءَ ثُمَّ صَارَ مُعاوِيةُ يكْسُوهَا مَرتَيْنِ ثُم كَانَ المأمُونُ يكْسُوهَا ثَلاَثَ مَرات فَيَكْسُوهَا الديْبَاج الأحمرَ يوْمَ التروِية (5) وَالقِبَاطِي يَوْمَ هِلاَلِ رَجب والديباجَ الأبْيَضَ يَوْمَ سَبع وَعشرِينَ مِنْ رَمَضَاَن وَهَذَا الأَبْيَضُ ابتدأه المأمُونُ سنةَ ستّ وَمَائتين حين قالُوا له: الديباجُ الأحمر يتخرّقُ قَبْلَ الْكُسْوَةِ الثانِيةِ فَسَأَلَ عَنْ أَحْسَنِ مَا تكونُ فيه الكعبةَ فقيلَ لَهُ: الديْبَاجُ الأبْيَضُ فَفَعَلَهُ.
السابعةُ والثلاثونَ: في تزيينِ الكعبة بالذهبِ وَكَيفَ كَانَ ابتداوهُ.
__________
= مَلَكَ اليمن والشجر وحضرموت. أقول: لا تعارض بين القولين لحمل تُبع الذي ورد فيه الخبر على هذا (أسعد أبي كرب) الذي كسا الكعبة، وقال الشعر مصدقاً برسالته - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم.
(1) بسط من الجلد.
(2) أي مخططة يعصب غزلها -أي يجمع- ويشد ثم يصبغ وينسج فيأتي موشياً لبقاء ما عصب أبيض لم يصبه الصبغ، يقال: (برد عصب) بالوصف والإضافة هي ما تُسمى في الحجاز: (المصانف اليمانية) والله أعلم.
(3) القباطي: ثياب بيض رقيقة كان يصنعها القبط بمصر.
(4) الديباج: ما غلظ من الحرير.
(5) هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وسمي بيوم (التروية) لأن الناس كانوا في السابق يتروون فيه الماء من مكة، ويحملونه معهم إلى عرفة، وقيل غير ذلك والله أعلم.

(1/442)


نَقَل الأزرقي (1) أن عبدَ الله بن الزبيرِ حِين أَرَادَ هَدْمَ الكَعْبةَ وَبِنَاءَهَا اسْتَشَارَ النّاسَ في ذَلِكَ فَأشارَ جَابِرِ بْنُ عَبْدِ الله وَعبيدُ بنُ عُمَيْر وَآخَرُونَ بِتَرْكِهَا عَلَى حَالِهَا فَعَزَمَ ابْنُ الزبير عَلَى هَدْمِهَا فَخَرَجَ أهْلُ مَكَّةَ إِلَى مِنى فَأَقَامُوا بِهَا ثَلاَثاً خَوْفاً مِنْ أنْ يَنْزلَ عَلَيْهِم عَذَابٌ لَهَدْمِهَا، فأمَرَ ابنُ الزبير بِهَدْمِهَا فَمَا اجْتَرأ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ فَلَمَا رَأى ذَلِكَ عَلاَهَا بِنَفْسِهِ وَأَخَذَ المِعْوَلَ وَجَعَلَ يَهْدِمُهَا وَيَرْمِي أحْجَارَهَا، فَلَما رَأوْا أَنهُ لاَ يُصِيبُهُ شيء اجْتَرَؤُوا فَصَعَدُوا وَهَدَمُوهَا، فَلَمّا فَرَغَ ابنُ الزّبيرِ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبةِ خَلقَها (2) مِنْ دَاخِلِهَا وَخَارِجِهَا مِنْ أعْلاَهَا إِلَى أسْفَلِهَا وَكَسَاهَا القَبَاطيَّ. وَقَالَ: مَنْ كَانَتْ لي عليه طاعةٌ فَلْيَخْرُجْ فليعْتَمِرْ مِن التنْعِيمِ ومَنْ قدرَ أن ينحرَ بدنَة فليفعلْ ومنْ لَمْ يقدِرْ فليذبحْ شاة ومن لم يقدرْ فليتصدّقْ بوسْعِهِ، وخرجَ ابنُ الزّبيرِ ماشياً وخرح النّاسُ معه مشاة حتى اعتمرُوا مِنَ التَّنْعِيم شكراً ولمْ يُرَ يَوماً أكثر عَتيقاً وبَدنة مَنحورَة وشاة مذبوحة وصدقة مِنْ ذَلِكَ اليومِ، وَنحر ابْنُ الزبيرِ مَائة بَدَنَةٍ.
وَأمَّا تذهيبُ الكعبةِ فإن الوليدَ بنَ عبدِ الملكِ بعثَ إلى واليهِ عَلَى مكةَ خالدِ بنِ عبدِ الله القَسْرِي بستّة وَثَلاثينَ ألْفِ دِينار فضربَ منهَا على باب الكعبةِ
__________
(1) أقول: فإن قيل: قول المصنف رحمه الله تعالى: نَقَلَ الأزرقي حتى قوله: (ونحر ابن الزبير مائة بدنة) ليس مطابقاً لما ترجم له هذه المسألة.
(أجيب): كما في الحاشة: بأنه قَصَدَ الرد على مَنْ قال من المؤرخين إن ابن الزبير رضي الله عنهما هو أول من حَلى الكعبة حين بناها، والأزرقي رحمه الله لم يذكر إلا بناءه ولم يذكر أنه أول مَنْ حَتى الكعبة إلخ بل نقل أن أول من ذهَّبَها عبد الملك بن مروان، ونقل قبله أن أول من ذهَّبَ البيت الوليد بن عبد الملك. والمشهور الأول. ويحمل ما قال ثانياً على أن أول من فعل ذلك بعد عبد الملك ابنه وقول الأزرقي مُقدم على غيره لأنه أعلم بذلك والله أعلم.
(2) أي طلاها بالمسك والعنبر.

(1/443)


صفائح الذهبِ وعلى ميزابِ الكعبةِ وعلى الأساطينِ التي في بَطْنِهَا وعلى الأَرْكَانِ في جَوْفِهَا فكلُّ ما على الميزاب والأَركانِ من الذهبِ فَهُوَ مِنْ عَمَلِ الوليدِ وَهُوَ أوّلُ من ذهّبَ الْبَيْتَ في الإِسلامِ.
فأمّا ما كانَ على البابِ من الذهبِ من عمل الوليدِ فَسُرقَ فرفعَ ذَلِكَ إلى أميرِ المؤمنينَ مُحَمّدِ بنِ الرشيدِ في خلافتِهِ فأرسلَ إلى سالمِ بنِ الجرَّاحِ عامِلِهِ عَلَى ضَوَاحِي مَكّةَ بِثمانِيَة عَشَرَ ألْفِ دينار لِيَضْرِبَ بِهَا صَفائح الذَّهَبِ عَلَى بابِ الْكَعْبَةِ فَقَلَعَ ما كانَ عَلَى البابِ من الصَّفائحِ وَزَادَ عَلَيْهَا ثمانِيَة عَشَرَ ألْفَ دينارٍ فَضَرَبَ عَليهَا الصفائحِ التي هِيَ عليهِ الْيَوْمَ وَالْمَسامِيرَ وحلَقَتَيْ الْبَابِ والْعَتبَةِ، فالَّذِي عَلَى البابِ مِن الذهبِ ثلاثةٌ وثلاثون ألْفَ مِثقالٍ (1). وَعملَ الوليدُ بْنُ عبدِ الملكِ الرُّخَامَ الأحْمَرَ والأخْضَرَ والأبيضَ في بَطْنِهَا مُؤزِّراً بِهِ جُدْرَانَهَا وَفَرَشَهَا بالرّخامِ فجميعُ مَا في الْكَعْبَةِ مِنَ الرّخامِ هُوَ مِنْ عَملِ الوليدِ بن عبد الملكِ وهو أوَّلُ مَنْ فَرَشَهَا بِالرُّخَامِ وأزرَ بِهِ جُدْرَانَهَا وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ زَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ.
الثامنةُ والثلاثونَ: في تطييب الْكَعْبَةِ.
رَوَى الأزْرقِيُّ أن عبد الله بن الزُّبَيْرِ رضي الله عنهُمَا كَانَ يُجَمِّرْ (2) الْكَعْبَةَ
__________
(1) أما الباب الذهبي الموجود في عصرنا عام (1401) هجرية - واحد وأربعمائة وألف فهو من عمل الحكومة السعودية عُمِلَ في عهد الملك خالد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود عام 1399 تسعة وتسعين وثلثمائة وألف هجرية، وكان قبه باب عملته أيضاً الحكومة السعودية بعد أن خلعت الباب القديم السابق وفق الله الحكومة السعودية لما يحبه ويرضاه آمين.
(2) أي يجعل بخور العود في المجمرة ويبخّر به الكعبة.

(1/444)


كُلَّ يَوْم بِرَطْل وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ بِرَطْلَيْنِ مُجْمَراً (1)، وأنَّ ابْنَ الزبيرِ خَلَّق (2) جَوْفَ الْكَعْبَةِ كُلَّهُ. وَعَنْ عائْشةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: طَيّبوا الْبَيْتَ فَإِنَّ ذَلِكَ من تَطْهِيرِهِ تَعْنِي قَوْلَ الله تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} وَأنَّ عَائشةَ قَالَتْ: لأَنْ أُطَيِّبَ الْكَعْبَةَ أَحبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُهْدِيَ لَهَا ذهَباَ أَوْ فِضَّةً، وَأنّ مُعَاوِيةَ رضي الله عَنْهُ أَجْرَى للْكَعْبَة طِيبَهَا لِكُل صَلاَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ مُعَاوِيةُ أوّلَ مَنْ طَيَّبَ الْكَعْبةَ بِالْخلُوقِ (3) والمجمّرِ وَأجْرى الزيْتَ لِقَنَادِيل (4) المسْجِدِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالله أعْلَمُ.
__________
(1) بضم الميم وسكون الجيم وفتح الميم الثانية: عود رطب يوضع في المجمر بكسر أوله أي المجمرة.
(2) أي طيب الكعبة (بالخلوق) بفتح الخاء وضم اللام وهو نوع من الطيب.
(3) أي بالطيب. والمجمر: عود الطيب أي طَيب الكعبة بالطيب وبَخَّرها بالعود المُجَمَّر، أي الموضوع في نار المجمرة.
(4) القناديل برام من الزجاج توضع فيها مصابيح زيت الزيتون، ولا زالت منها بقايا المسجد النبوي معلقة.

(1/445)