الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

الباب السادس
في زِيَارَةِ قَبْرِ سَيِّدِنَا وَمَوْلاَنَا رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ وَعَظَّمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ
اعْلَمْ أنَّ لمَدِينَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أسماءٌ خمسة (1): المدينةُ، وطَابَةُ، وَطيبَةُ، والدَّارُ، وَيَثْربُ (2). قال الله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} الآية. وَثَبَتَ في صحيحِ مسلم عن جابر بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ الله عنهما عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنّ الله تعالى سَمَّى المدينَة طابةَ قَالَ سُمِّيتْ طابةَ وطِيبَة لخُلُوصِهَا مِنَ الشرْكِ وَطَهَارَتِهَا مِنْهِ، وَقِيلَ: لِطِيبِ سَاكِنِيهَا لأَمْنِهِم وَدعَتهم، وَقِيلَ: لِطِيبِ الْعَيْشِ بِهَا. وَأَمَّا تَسْمِيتُهَا الدَّارَ فَلِلاستِقْرار بها لأمنها".
وأمَّا الْمَدينة قَالَ كَثِيرونَ مِنْ أهْلِ اللغَةِ وَغَيْرِهِم مِنْهُمْ قُطْرُبُ وابْنُ فارسٍ: هِيَ مِنْ دانَ أَيْ أَطَاعَ وَالدينُ الطَّاعَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأنَّهُ يُطَاعُ الله تعَالَى فيهَا وَقِيلَ غَيْر ذلِكَ والله أعلمُ، وَفِي البابِ مَسَائِلُ:
__________
(1) هذه أَشْهَر أسماء المدينة، وإلا فقد أوصلها بعضهم إلى ألف اسم.
(2) قال في الحاشية: فيه نظر فإنه تسمية جاهلية، وذكْرُهُ في القرآن إنما وقع في الحكاية عن المنافقين، كما حكى عنهم الكفر فلا حجة فيه، ومن ثَمّ غَيرَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عادته في تغيير الأسماء القبيحة إذ التثريب الملامة والحزن. وفي الحديث "يقولون يثرب وهي المدينة" وهو ظاهر في كراهة أن تسمى باسمها في الجاهلية. وسميت به باسم مكان بها قيل وهذه اللفظة إنما وقعت في مُسَودة المصنف دون مبيضته. اهـ.

(1/446)


الأولَى: إذَا انْصَرَفَ الْحُجاجُ وَالمُعْتَمِرُونَ مِنْ مَكةَ فَلْيَتَوَجهُوا إلى مَدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِزَيَارَةِ تربتِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإنهَا مِنْ أهَم الْقُرُبَاتِ وَأَنْجَحِ المَسَاعِي. وَقَدْ رَوَى البزارُ والدارَقطْنِي بِإِسْنادهمَا عن ابنِ عمَر رضي الله عنهما قَالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ زَارَ قبرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي".
الثانيةُ: يستحب للزائِرِ أنْ يَنْوِيَ معَ زيارَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - التَقَرُّب إلى الله تعالَى بِالمسافَرة إِلى مَسْجِده - صلى الله عليه وسلم - والصَّلاَة فِيهِ.
الثالثةُ: يُستَحَب إِذَا تَوَجهَ إِلَى زِيارتِهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُكْثِرَ من الصلاةِ والتسْليمِ عليهِ في طريقِهِ فَإِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى أَشْجَارِ الْمَدينة وَحَرَمِهَا وَمَا يُعْرَفُ بِهَا زَادَ مِنَ الصلاَةِ والتسْلِيمِ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَسْأَل الله تعالَى أَنْ يَنْفَعَه بِزِيارَتِهِ وَأَنْ يَتَقَبلها مِنْهُ.
الرابعةُ: يُسْتَحَب أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ دُخُولهِ وَيَلْبَسَ أَنْظَفَ ثِيَابِهِ.
الخامسةُ: يستحضرُ في قَلْبِهِ حِينَئِذ شَرَفَ الْمَدِينَة وَأَنهَا أَفْضَلُ الدُّنْيَا بَعْدَ مَكةَ عند بعضِ الْعُلَمَاءِ وعند بعضهم أفضلِها على الإِطلاق (1)، وَأَنَّ الذِي شُرفَتْ به - صلى الله عليه وسلم - خَيْرُ الْخَلاَئِقِ أَجْمَعِينَ (2). وَلْيَكُنْ من أَوَّلِ قُدُومِهِ إِلَى أن يَرْجِعَ مُسْتَشْعِراً لتَعْظِيمِهِ مُمْتَلىء الْقَلْبِ مِنْ هَيْبتِهِ كَأَنهُ يَرَاه.
السادسةُ: إذَا وَصَلَ إلَى بَابِ مَسْجِدِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلْيقُلْ مَا قَدمناهُ في دُخُولِ
__________
(1) قد تقدم هذا الخلاف في الباب الخامس، وذَكَرْتُ دليل كُل في التعليق عليه.
(2) ورحم الله القائل:
وأفضل الخلق على الإِطلاق ... نبينا ... فحل عن الشقاق
وقال غيره رحمه الله تعالى مغيراً لبعض الشطر الأخير:
وأفضل الخلق على الاطلاق ... نبينا أعلى المراقي راقي

(1/447)


الْمسجدِ الحَرَامِ (1) وَيقدّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى في الدُّخُولِ وَالْيُسْرى في الْخُرُوجِ (2)، وَكَذَا يَفْعَلُ في جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ. وَيَدْخُلُ فَيقْصِدُ الرَّوْضَةَ الْكَرِيمَةَ وهِيَ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ فَيُصَلِي تَحِيّة الْمَسْجِدِ (3) بِجَنْبِ الْمِنْبَرِ (4).
وَفِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدّينِ أَنهُ يَجْعَلُ عَمُودَ الْمِنْبَرِ حِذَاءَ مَنكبه الأَيمَنِ وَيستَقْبلُ السَّارِيةَ الَّتي إلى جَانبِها الصَّنْدُوقُ وَتكُونُ الدَّائِرَة التي في قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَذَلِكَ مَوْقِفُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وَقَدْ وُسّع الْمَسْجِدُ بَعْدَه - صلى الله عليه وسلم - وَفِي كِتَابِ الْمَدِينة أنَّ ذَرْعَ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ
__________
(1) وهو أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم بسم الله والحمد لله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وسلم. اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك.
(2) ويقول الدعاء الذي قال في الدخول إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك.
(3) أي لما رواه الإمام مالك رحمه الله تعالى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قدمت من سفر فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بفناء المسجد فقال: (أدخلت المسجد فصليت فيه؟. قلت: لا. فاذهب فادخل المسجد فصلِ فيه ثم ائت فسلّم عليّ).
ورحم الله العلامة ابن القيم إذ يقول في الكافية الشافية:-
وكذا نشد رحالنا للمسجد ... النبوي خير مساجد البلدان
من بعد مكة أو على الإطلاق ... فيه الخلف منذ زمان
فإذا أتينا المسجد النبوي ... صلينا التحية أولاً ثنتان
ثم انثنينا للزيارة نقصد القبر ... الشريف ولو على الأجفان
فنقوم دون القبر وقفة خاضع ... متذلل في السر والإِعلان
(4) هذا وما ذكره المصنف رحمه الله عن الإِحياء للغزالي رحمه الله باعتبار ما كان في زمانيهما. وكل هذا تغير، فالمسجد النبوي قد احترق مرتين، المرة الأولى عام 654 هـ والثانية عام 886 هـ وعمر وجُدّد مرات بعد ذلك. وسأذكر إن شاء الله موضع موقفه - صلى الله عليه وسلم - في العمارة الأخيرة للمسجد النبوي عند قول المصنف (أربع عشرة ذراعاً وشبر).

(1/448)


وَمَقَامِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الذي كَانَ يُصَلَي فِيهِ حَتى تُوُفي أرْبَعَ عَشْرَةَ ذِرَاعاً (1) وَشِبْر، وأنَّ ذَرْعَ مَا بَيْنَ المِنْبَرِ وَالْقَبْرِ ثَلاَث وَخَمْسُونَ ذِرَاعاً وَشِبْر وَسَيَأْتِي إنْ شَاء الله تَعالَى بيانُ سِعَةِ الْمَسْجِدِ وَكَيْفَ حَاله في آخِرِ هذَا الْبَابِ والله أعلمُ.
__________
(1) أي بذراع اليد المعتدلة كما في الحاشية وجاء في كتاب (عمدة الأخبار في مدينة المختار) وذكر أبو غسان أن ما بين الحجرة الشريفة من المشرق وبين مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان وثلاثون ذراعاً، وأن ما بينه وبين المنبر الشريف أربعة عشر ذراعاً وشبراً. اهـ.
أقول: بهذا الذراع يتحقق موقفه - صلى الله عليه وسلم - لأن ما ذكره المصنف وما جاء في الأخبار قد تغير كما تقدم لتكرر تجديد عمارة المسجد النبوي بعد ذلك. وآخر عمارة في هذا الموضع عمارة السلطان عبد المجيد العثماني رحمه الله تعالى التي بدأت سنة 1263 هـ.
وانتهت سنة 1277 هـ ثم جاءت بعدها التوسعة العظيمة في الجهة الشمالية من المسجد المتصلة بالباقي من عمارة السلطان عبد المجيد كما وسع من جهة الشرق والغرب، بدأ التنفيذ فيها في 5 شوال سنة 1370 هـ بأمر الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ملك المملكة العربية السعودية رحمه الله وانتهت العمارة والتوسعة سنة 1375 هـ، وهي العمارة التي نشاهدها الآن للجزء الشمالي من المسجد المتصلة كما تقدم بالباقي من عمارة السلطان عبد المجيد وفق الله حكومتنا السعودية لما فيه الخير للعباد والبلاد آمين.
أقول: ثم رأيت بعد كتابة ما سبق في كتاب فصول من تاريخ المدينة المنورة للأستاذ علي حافظ: أول من أحدث المحراب المجوف عمر بن عبد العزيز في عمارة الوليد بن عبد الملك للمسجد النبوي سنة (88 إلى 91) كما نقله السيوطي في أوائله ونقل في نزهة الناظرين: والمحراب الموجود الآن هو من عمارة الأشرف قايتباي رحمه الله ومصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للكعبة يقع في الطرف الغربي لتجويفة المحراب فاجعل التجويفة في يسارك، وقف بينك وبين المنبر الشريف مقدار (14) ذراعاً وشبراً تكن في موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. وقد كُتِب في جانب المحراب في نفس الموضع (هذا مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم -). اهـ مختصراً.
أقول: هذا الذي ذكره الأستاذ علي حافظ موافق لما ذكره المصنف عن كتاب المدينة وموافق أيضاً لما في عمدة الأخبار عن أبي غسان رحم الله الجميع ورحمنا معهم آمين. قال في الحاشية: إنما سنت التحية بالموقف الشريف اتباعاً له - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يفرده =

(1/449)


السَّابِعَةُ: إِذَا صَلى التحِية في الرَّوْضَةِ أَو غَيْرِهَا مِنَ الْمَسْجِدِ شَكَرَ الله تَعَالَى عَلَى هذه النعْمَةِ (1) وَيَسْألُهُ إتْمَامَ مَا قَصَدَهُ وَقَبُولَ زِيارَتِهِ، ثُمَّ يَأتِي الْقَبْرَ الْكَرِيمَ فَيَسْتَدْبِرُ الْقِبلَة (2) وَيَسْتَقْبِلُ جِدَارَ الْقَبْرِ وَيبعُدُ مِنْ رَأْسِ الْقبْرِ نَحْوَ أرْبَعْةِ أَذْرُعِ.
وَفِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدّين أنْ يَسْتَقْبِلَ جِدَارَ الْقَبْرِ عَلَى نحو أَرْبَعَةِ أَذْرُعِ مِنَ السَّارِيةِ التِي عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ فِي زَاوِيةِ جِدَارِهِ وَيَجْعلَ القِنْدِيل الذي في الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ عَلَى رَأْسِهِ وَيقف نَاظِراً إِلَى أَسْفَلِ مَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ جِدَارِ الْقَبْرِ غَاضَّ الطرْفِ في مَقَامِ الهَيْبَةِ وَالإِجْلاَلِ فَارِغَ الْقَلْبِ مِنَ عَلاَئِقِ الدُّنْيَا مُسْتَحْضِراً في قَلْبِهِ جَلاَلَةَ مَوْقِفِهِ وَمَنْزِلَةَ مَنْ هُوَ بِحضرته ثُمَّ يُسَلّمُ وَلاَ يَرفعُ صَوْتَهُ بَلْ يقْتَصِدُ (3)
__________
= بالقصد من سائر بقاع المسجد مع استمراره على ذلك إلى أن توفاه الله إلا لشرف عظيم، ومن ثَم كان أحب موضع للصلاة ثم ما لم يعارضه فضيلة الصف الأول وما يليه فالتقدم إليه أفضل، خلافاً لما أشار إليه الزركشي، ولو لم يتيسر له التحية في الموقف الشريف فما قرب منه من الروضة ثم ما قرب منها أفضل، ومحل الاشتغال بها إنْ لم ير جماعة تسن له الصلاة معهم أو نحو خوف فوات نحو مكتوبة وإلا قدّم ذلك. اهـ.
(1) أي بقلبه ولسانه لا بسجدة الشكر كما في الحاشية خلافاً للسادة الحنفية القائلين إِنه يسن بعده الإتيان بتحية المسجد أن يسجد لله شكراً وعليه يلزمهم ومَنْ وافقهم سَن سجدة الشكر عند رؤية الكعبة، ولم ينقل ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه ولا عن أحدٍ من الصحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
(2) قال في الحاشية: هو مذهبنا ومذهب الجمهور كما لو كان حياً خلافاً لأبي حنيفة وغيره. اهـ.
(3) قال تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] وحرمته - صلى الله عليه وسلم - ميتاً كحرمته حياً ورحم الله العلامة ابن القيم إذ يقول في كافيته وشافيته:
وكذا نشدّ رحالنا للمسجد ... النبوي خير مساجد البلدان
فمن بعد مكة أو على الإطلاق ... فيه الخلف منذ زمان =

(1/450)


فَيقُولُ: السلاَمُ عليكَ يا رسولَ الله، السلاَم عليك يا نبيَّ الله، السلاَم عليكَ يا خِيرةَ الله، السلامُ عليكَ يا خَيْرَ خَلْقِ الله، السلاَمُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ الله، السلامُ عَلَيْكَ يا نذير، السلامَ عليك يا بشيرُ، السلامُ عليكَ يا طُهْرُ، السلامُ عليك يا طاهِرُ، السلامُ عليكَ يا نبيَّ الرحمةِ، السلامُ عليك يا نبي الأَمَّةِ، السلامُ عليك يا أبا الْقَاسِمِ، السلاَمُ عليكَ يا رَسُولَ رب العالمينَ، السلامُ عليك يا سيدَ المُرْسَلينَ ويا خاتَم النَّبيين، السلامُ عليكَ يا خيرَ الخَلائِقِ أجْمَعينَ، السلامُ عليك يا قائد الغُر المُحَجَّلينَ، السَّلامُ عليكَ وَعَلى آلِكَ وأهْلِ بَيْتِكَ وأزواجِكَ وذُريتِكَ وأصحابِكَ أجمعين، السلاَمُ عليكَ وَعَلى سائِرِ الأنبياءِ وجميع عِبادِ الله الصَالحينَ، جَزَاكَ الله يا رَسُولَ الله عَنَّا أَفضَل مَا جَزَى نَبياً وَرَسُولاً عَنْ أُمَتِهِ، وصلى الله عليك كُلَّمَا ذَكَرَكَ ذاكر وغفل عَنْ ذكرِكَ غَافِل، أفْضَلَ وَأكْمَلَ وأطْيَبَ مَا صَلَّى على أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ أجْمَعِينَ.
__________
= فإذا أتينا المسجد النبوي ... صلينا التحية أولا ثنتان
ثم انثنينا للزيارة نقصد القبر ... الشريف ولو على الأجفان
فنقوم دون القبر وقفة خاضع ... متذلل في السر والإعلان
فكأنه في القبر حَي ناطق ... فالواقفون نواكس الأذقان
ملكتهم تلك المهابة فاعترت ... تلك القوائم كثرة الرجفان
وتفجرت تلك العيون بمائها ... ولطالما غاضت على الأزمان
فأتى المسلم بالسلام بهيبة ... ووقار ذي علم وذي إيمان
لم يرفع الأصوات حول ضريحه ... كلا ولم يسجد على الأذقان
كلاً ولم ير طائفاً بالقبر ... أسبوعاً كأن القبر بيتٍ ثان
ثم انثنى بدعائه متوجهاً ... لله نحو البيت ذي الأركان
هذي زيارةُ من غدا متمسكاً ... بشريعة الإسلام والإيمان
من أفضل الأعمال هاتيك ... الزيارة وهي يوم الحشر في الميزان
لا تلبسوا الحق الذي جاءت به ... سنن الرسول بأعظم البطلان
هذه زيارتنا ولم ننكر سوى ... البدع المضلة يا أولي العدوان

(1/451)


أشْهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إِلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّكَ عَبْدُهُ ورسوله وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وأشْهَدُ أنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ الرسَالة وَأدّيْتَ الأمَانَةَ وَنَصْحَتَ الأَمةَ وَجَاهَدْت في الله حَقَّ جهَادِهِ، اللَّهُمَّ وآتِهِ الوَسيلَةَ والفضيلَة وابعثهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الذي وَعَدْتَهُ، وآتَهِ نِهَايةَ ما ينبغي أَنْ يَسْأَلهُ السَّائِلُونَ.
اللَّهُمَّ صلِّ على محمد عَبْدِكَ وَرَسُولكَ النَّبيّ الأُمّي وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وأَزْوَاجِهِ وذريته كما صَلّيت على إبْرَاهِيِمَ (1) وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيم وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّد النَّبِيّ الأمَّي وعَلَى آل مُحَمَّدٍ وَأزْوَاجِهِ وذُرِّيَتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيم وَعَلى آلِ إبراهيم فِي الْعَالِمينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مجِيدٌ.
__________
(1) إنما خص إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام بالذكر من دون الأنبياء لأن الرحمة والبركة لم تجتمعا في القرآن لنبي غيره، قال الله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] فإن قيل: قد استشكل التشبيه في هذه الصيغة بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أفضل من إبراهيم عليه السلام، فتكون الصلاة والبركة المطلوبتان أفضل وأعظم من الصلاة والبركة الحاصلتين لإبراهيم. فكيف شَبه ما يتعلق بالنبي بما يتعلق بإبراهيم مع أن المشبه به يكون أعلى من المشبه.
(أجيب): عن ذلك بأجوبة (منها) أنّ التشبيه من حيث الكمية -أي العدد- دون الكيفية (أي القَدْر). و (منها) أن التشبيه راجع للآل فقط ولا يشكل أن آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسوا بأنبياء فهم بنو هاشم وبنو المطلب أو أمة الإجابة في مقام الدعاء، فكيف يساوون آل إبراهيم عليه السلام فهم إسماعيل وإسحق وأولادهم وكل الأنبياء بعد إبراهيم من نسل إسحق إلا نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فمن ولد إسماعيل عليه السلام مع أن غير الأنبياء لا يساوونهم مطلقاً لأنه لا مانع من مساواة آل النبي، وإنْ كانوا غير أنبياء لآل إبراهيم، وإن كانواً أنبياء بطريق التبعية له - صلى الله عليه وسلم -، ومنها: أنه توسل للفضل بالفضل أي كما تفضلت يا الله على إبراهيم وآله بذلك تفضل به على محمد وآله. وهذا الجواب لا يلزم عليه إشكال أصلاً.
(ومنها) أن المشبه ليس بأعلى من المشبه به بل على العكس لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو أحد أفراد آل إبراهيم حيث إنه ولد إسماعيل فهو موجود في المشبه به، فعليه تكون الصلاة والبركة =

(1/452)


وَمَنْ عَجَزَ عَنْ حِفْظِ هَذَا أَوْ ضَاقَ وَقْتُهُ عَنْهُ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ وَأَقلهُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وَجَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ السلَفِ رَضِيَ الله عَنْهُم الاْقْتِصَارُ جداً فَكَانَ ابنُ عُمَر يقولُ: السلاَمُ عليكَ يَا رَسُولَ الله، السلامُ عَلَيْكَ يا أبا، بكْرٍ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أبتَاه (1).
وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ الله تَعَالَى أنه كانَ يقولُ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أيها النَّبيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، ثُمّ إنْ كانَ قَدْ أَوْصَاهُ أَحَدٌ بِالسَّلاَم عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلْيقُلْ (2) السَّلاَمُ عَلَيْكَ يا رسولَ الله مِنْ فُلاَن ابْنِ فُلاَن، أَوْ فُلاَنُ ابنُ فُلاَنٍ يُسَلّمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْعِبَارَاتِ، ثُمَّ يتأخرُ إلى صَوْبِ يَمِينِهِ قدر ذراعٍ فَيُسَلّم على أبِي بكْر رَضِيَ الله عَنه لأنَّ رَأْسهُ عِنْدَ مَنكبِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَيقُولُ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يا أبَا بكْرٍ صَفِيّ رسولِ الله وثانيه في الْغَارِ جَزَاكَ الله عَنْ أمةِ نبيه - صلى الله عليه وسلم - خيراً، ثُمَّ يَتَأخّرُ إلى صَوْبِ يمينه قدر ذِراعٍ للسَّلاَمِ عَلَى عُمَرَ رضي الله عَنْهُ فَتقُولُ: السلامُ عَلَيْكَ يا عُمَرُ أعَزَّ الله بِكَ الإِسْلاَمَ جَزَاكَ الله عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَيْراً.
__________
= الحاصلتان لإبراهيم عليه السلام مع آله الأنبياء الذين أحد أفرادهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل وأعظم من الصلاة والبركة المطلوبتين لنبينا محمد وآله الذين ليسوا بأنبياء والله أعلم.
(1) أخذ بعضهم من قول ابن عمر رضي الله عنهما: يا أبتاه أن من كان من ذرية أبي بكر أو من ذرية عمر قال ذلك وعلله بأنه أولى في استدعاء الرقة والعطف من المسلم عليه، ولعل ذلك في غيره - صلى الله عليه وسلم - أمّا هو فينبغي أن يسلم عليه - صلى الله عليه وسلم - كما يسلم من كان من غير الذرية.
(2) أي ندباً السلام إلخ بخلاف ما لو أوصى آخر بالسلام على غيره وجب عليه إن لم يصرح بعدم القبول أنه لا يسلم عليه ويجب على المُسَلم عليه الرد بلسانه فوراً، كما لو كان المسلم حاضراً. والفرق بينهما أن المقصود من الأول التبرك فلذا ندب، والمقصود من الثاني ترك الضغائن وهذا طريقه فوجب والله أعلم.

(1/453)


وَهذه صِفَةُ الْقُبورِ الْكَرِيْمَةِ:

* الصفة الأولى
- قبر النبي صلى الله عليه وسلم
- - قبر أبي بكر رضي الله عنه
- - - قبر عمر رضي الله عنه

* الصفة الثانية
قبر النبي صلى الله عليه وسلم
قبر أبي بكر رضي الله عنه - قبر عمر رضي الله عنه

* الصفة الثالثة
قبر النبي صلى الله عليه وسلم
قبر أبي بكر رضي الله عنه
قبر عمر رضي الله عنه

وَالمَشْهُورُ هُوَ الصفةُ الأُولى (1)، ثُمَّ يَرْجعُ إِلَى مَوْقِفِهِ الأوَّلِ قبَالَ وَجْهِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَتَوَسَّلُ بِهِ في حَقّ نَفْسِهِ وَيَتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى رَبّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمِنْ أحْسَن مَا يقُولُ مَا حَكَاهُ أصْحَابُنَا عَنِ الْعُتْبِيّ مُسْتَحْسِنِينَ لَهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ قَبْرِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ أَعْرَابِيّ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيكَ يا رسول الله سَمِعْت الله يقُولُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} وقد جئتك مستغفراً من ذنبي
__________
(1) أي لخبر الحاكم رحمه الله الذي صححه عن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أم المؤمنين اكشفي لي عن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء، فرأيت رسول الله مقدماً وأبا بكر رأسه بين كتفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر رأسه عند رجلْي النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(1/454)


مُسْتَشْفِعاً بِكَ إِلَى رَبّيِ ثُمَّ أنْشَأ يقُولُ:
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أعْظُمهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبهِن القاعُ والأكَمُ
نَفْسِي فِدَاءٌ لِقَبْر أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيهِ العَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
أَنْتَ الشفِيعُ الَّذِي تُرْجَى شَفَاعَتُه ... عَلَى الصِّراطِ إِذَا مَا زَلَّتِ القَدَمُ
وَصَاحِبَاكَ فَلاَ أَنْسَاهُمَا أبَداً ... مِنّي السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ مَا جَرَى الْقَلَمُ
قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ فَغَلَبتَنِي عَيْنَايَ فَرَأيْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّوْمِ فَقَالَ: "يَا عُتْبي إلْحَقْ الأَعْرَابِيَّ وَبَشّرْهُ بِأن الله تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَه". اهـ. ثُمَّ يَتَقَدمُ إلى رَأْسِ النَّبِي فَيقِفُ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالأُسْطُوَانَةِ الَّتِي هُنَاكَ وَيَسْتَقبلُ الْقِبْلَةَ ويحْمَدُ الله تعالى ويُمَجدُهُ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا أَهَمَّهُ وَمَا أحَبَّهُ وَلِوَالديهِ وَلِمَنْ شَاءَ مِنْ أقارِبِهِ وأَشْيَاخِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَائِرِ المُسلمينَ ثُمَّ يَأتِي الرّوضَةَ فَيُكْثِرُ فِيهَا مِنَ الدُّعَاءِ وَالصَّلاَةِ. فَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبي هُرَيْرَة رَضي الله عَنْهُ أنّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي (1) رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الْجَنَّةِ (2) وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي"، وَيقِفُ عِنْدَ الْمِنبر وَيَدْعُو.
__________
(1) وفي رواية كما في الحاشية: (ما بين منبري وبيتي) وفي أخرى (ما بين حجرتي ومنبري) ولا اختلاف لأن قبره - صلى الله عليه وسلم - في بيته والبيت هو الحجرة.
(2) قال في الحاشية: قيل ومعنى كونه روضة من رياض الجنة أن العمل فيه يوصل لذلك وفيه نظر، والأولى ما قاله الإِمام مالك وغيره رحمهما الله من بقائه على ظاهره فينقل إلى الجنة، وليس كسائر الأرض يذهب ويفنى، أو هي من الجنة الآن حقيقة وإنْ لم تمنع نحو الجوع، عملاً بأصل الدار الدنيوية. وأنها آيلة للفناء، ومعنى قوله: (ومنبري على حوضي) أن ملازمة الأعمال الصالحة عنده تورد الحوض كذا قيل، وقيل يعيده الله على حاله فينصبه على حوضه وهو الأولى أيضاً لأن الأصل بقاء اللفظ على ظاهره الممكن. اهـ.

(1/455)


الثامنةُ: لاَ يَجُوزُ أنْ يُطَافَ بِقَبْرِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ويُكْرَهُ إلْصَاقُ الْبَطْنِ وَالظهْرِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ قَالَهُ الْحَلِيميُّ وَغَيْرُهُ، وَيُكْرَهُ مَسحهُ بِالْيَدِ وَتَقْبِيلُهُ بَلْ الأَدَبُ أنْ يَبْعُدَ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ مِنْهُ لَوْ حَضَرَ في حَيَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - هذَا هُوَ الصَّوَابُ (1) وَهُوَ الّذِي قَالَهُ الْعُلَمَاءُ وَأطْبقُوا عَلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أنْ لاَ يَغْتَرَّ بِكَثِيرِ مِنَ الْعَوَامّ في مُخَالَفَتِهِمْ ذلِكَ فَإِنْ الاقْتِدَاءَ وَالْعَمَلَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَقْوَالِ الْعُلماءِ وَلاَ يلتفتُ إلى مُحْدَثَاتِ العَوَامِ وجهالاتهم، وَلَقَدْ أحْسَنَ السَّيّدُ الْجَلِيلُ أبُو عَلِيّ الفُضَيْلُ بنُ عِياضِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في قَوْلهِ مَا مَعْنَاهُ: اتَّبْعِ طُرُق الْهُدَى وَلاَ يَضُرُّكَ قِلّةُ السَّالِكِينَ، وإياكَ وَطُرُقَ الضلاَلَةِ وَلاَ تَغْتَرَ بِكِثْرةِ الْهَالِكِينَ، وَمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أنَّ الْمَسْحَ بِالْيَدِ وَنَحْوهِ أبْلَغُ في الْبَرَكَةِ فَهُوَ مِنْ جَهَالَتِهِ وَغَفْلَتِهِ لأَن الْبَرَكَةَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا وَافَقَ الشَّرْعَ وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ، وَكَيْفَ يَبْتَغِي الفضلَ في مُخَالَفَةِ الصَّوابِ (2).
التاسعةُ: يَنْبَغِي لَهُ مُدَّة إقَامَتِهِ بِالْمَدِينَة أنْ يُصَلّي الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِمَسْجِدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ الاعْتِكَافَ فيه كَمَا قَدَّمْنَاه في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
الْعَاشِرَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ كُلَّ يَوْمِ إِلَى الْبقِيعِ خُصُوصاً يَوْمَ الْجُمُعَةِ
__________
(1) ورحم الله العلامة ابن القيم القائل في كافيته وشافيته:
وأتى المسلم بالسلام بهيبة ... ووقار ذي علم وذي إيمان
لم يرفع الأصوات حول ضريحه ... كلاً ولم يسجد على الأذقان
كلاّ ولم ير طائفاً بالقبر ... أسبوعاً كان القبر بيت ثان
(2) قال الفُضَيْل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] أخلصه وأصوبه، قيل يا أبا عليّ ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبَل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. اهـ. أقول: أسأله تعالى أن يوفقني وإخواني المسلمين والمسلمات إلى السلوك عليها آمين.

(1/456)


وَيَكُونُ ذلِكَ بَعْدَ السَّلاَمِ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ قَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ (1) دار قَوْمِ مُومِنينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ الله بكم (2) لاَحِقُونَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بقيعِ الْغَرْقَدِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا وَلَهُمْ. وَيَزُورُ الْقُبُورَ الظَّاهِرَةِ فِيهِ كَقَبْرِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَعُثْمَانَ وَالْعَباسِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِي وَعَلِي بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُحَمدِ بْنِ عَلِي وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمدِ وَغَيْرِهِمْ وَيَخْتِم بِقَبْرِ صَفِيةَ رَضِيَ الله عَنْهَا عَمَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ ثَبَتَ في الصَحِيح في فَضْلِ قُبُورِ الْبقِيعِ وَزِيَارَتِهَا أَحَادِيثٌ كَثِيْرَة.
الْحَاديَةَ عَشْرَةَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَزُورَ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ بِأُحُد وأفْضَلُهُ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَابتداؤه بحمزة عَم رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويُبَكرُ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ بِمَسْجِدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتى يَعُودَ وَيُدْرِكَ جَمَاعَةَ الطهْرِ فِيهِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَة: يُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَاباً مُتَأكداً أنْ يأتي مَسْجِدَ قُبَاء وَهُوَ فِي يَوْمِ السَبْتِ أوْلَى، نَاوِياً التَّقَرُّبَ بِزِيارَتِهِ وَالصَّلاَةَ فِيهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ في كِتَابِ التّرْمِذِي وَغَيْرِهِ عَنْ أسُيْد بن ظهير رَضِيَ الله عَنْهُ أنّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صَلاَةٌ في مَسْجِدِ قُبَاء كَعُمْرَةٍ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأتي مَسْجِدَ قُبَاء رَاكِباً وَمَاشِياً فَيُصَلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. وَفِي
__________
(1) قال في التعليق عن ابن علان رحمه الله تعالى تصح قراءة (دار) بالنصب على النداء أو الاختصاص أو المدح أو بإضمار أعني وبالجر بدلاً من الضمير لإفادته الإِحاطة والشمول. اهـ.
(2) جيء بالمشيئة تبركاً وامتثالاً لعموم {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أو لخصوص المكان أو على وصف الإيمان. اهـ ابن علان. اهـ تعليق.

(1/457)


رِوَايةٍ صَحِيحَةٍ كَانَ يَأتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ وَيُسْتَحَب أَنْ يَأْتِي بِئْرَ أرِيسٍ (1) الَّتي رُوَي أَن النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تفَلَ فيها عِنْدَ مَسْجِدِ قُبَاء فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا وَيَتَوَضّأ مِنْهُ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: يُسْتَحَب أَنْ يَأتِيَ سَائِرَ الْمَشَاهِدِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ نَحْوُ ثَلاَثِينَ مَوْضِعاً يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَلْيقصد ما قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَكَذَا يَأْتِي الآبارَ الَّتي كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتَوَضَّأ مِنْهَا وَيَغْتَسِلُ فَيَشْربُ وَيَتَوَضَّأ وَهِيَ سَبْعُ آبَار (2).
__________
(1) هي إحدى الآبار السبعة المباركة التي تنسب إليه - صلى الله عليه وسلم -. وقد نظمها بعضهم بقوله:
"أرِيسٌ" و"غُرْسٌ "رُومَةٌ" و"بُضَاعَةٌ" ... كذا "بُصةٌ" قُلْ "بَيْرُحَاء" مع "العِهْنِ"
(فأريس) كأمير، (وغرس) بضم الغين وفتحها فراء ساكنة أو مفتوحة، وهي شرقي مسجد قباء، ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل فيها وشرب منها وأهدى له عسل فصبه فيها، و (رومة) بضم الراء المهملة المضمومة وتقع هذه البئر في عرصة عقيق المدينة الكبرى.
قال لي بعض الإخوان هي البئر التي في مزرعة المدينة بالوسيطة، والله أعلمِ، وماؤها صافٍ عذب، ولذا رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في شرائها وحفرها بقوله: "مَنْ حَفرَ بئر رومة فله الجنة"، وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - فيها "نعم القليب قليب المزنى"، وفي رواية "نعم الحفير حفير المزنى"، فلما سمع عثمان رضي الله عنه هذا اشتراها وحفرها وتصدق بها على المسلمين.
و (بضاعة) بضم الباء الموحدة ثم ضاد معجمة ممدودة بألف ثم عين مهملة تقع غربي بيرحاء إلى جهة الشمال صَح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لما قيل له نستقي لك من بئر بضاعة وهي بئر فيها لحوم الكلاب والمحايض (خرق الحيض) وعذر الناس فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء" و (بُصَّة) بباء موحدة مضمومة فصاد مهملة وقيل مشددة: قريبة من البقيع في حديقة، و (بيرحاء) بباء موحدة مفتوحة أو مكسورة ثم ياء ثم راء مهملة مفتوحة أو مضمومة ممدوداً أو مقصوراً (وحاء) اسم انسان أو مكان وكان - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، وهي تَقع قرب بال المجيد (والعهن) بكسر العين المهملة فسكون الهاء وهو في الأصل الصوف الملون وهي معروفة بالعوالي منقورة في الجبل.
(2) تقدمت أسماؤها منظومة، وتقدم الكلام عليها قريباً.

(1/458)


الرَّابِعَةَ عَشْرَة: مِنْ جَهَالَةِ الْعَامَّةِ وَبِدَعهم تَقَرُبُهُمْ بِأَكْلِ التَّمْر الصَّيْحَانِي (1) فِي الرَّوْضَةِ الكريمَةِ وَقَطْعِهِمْ شُعُورَهُمْ وَرَمْيِهَا في القِنْدِيل هَذَا مِنَ المُنْكَراتِ الشَّنِيْعَةِ (2).
الخَامِسَةَ عَشْرَة: كَرِهَ مَالِكٍ (3) رَحِمَهُ الله تعالَى لأَهْلِ المدينَةِ كُلَّمَا دَخَلَ أَحَدُهُم الْمَسْجِدَ وَخَرَجَ الْوُقُوفَ بِالْقَبْرِ قَالَ: وَإنَّمَا ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ قَالَ: وَلاَ بَأْسَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ مِنْ سَفَرٍ أَوْ خَرَجَ إِلَى سَفَر أَنْ يقِفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَيُصلِي عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَلأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا. قَالَ الْبَاجِي: فَرّقَ مَالِكُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينةِ وَالْغُرَبَاءِ لأَنَّ الغُرَبَاءَ قَصَدُوا لِذلِكَ وأهْلَ الْمَدِينَةِ مقيمُونَ بِهَا، وَقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وثناً يُعْبَد" (4).
__________
(1) سبب تسميته بذلك ما أخرجه ابن المؤيد الحموي لكن رُدَّ بأنه موضوع عن جابر رضي الله عنه: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً في بعض حيطان المدينة ويد عليّ في يده فمررنا بنخل، فصاح النخل: هذا محمدٌ سيد الأنبياء، وهذا علي سيد الأولياء أبو الأئمة الطاهرين، ثم مررنا بنخل فصاح هذا محمد رسول الله وهذا عليٌّ سيف الله. فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي وقال: سَمه الصيحاني. فسمى من حينئذ. اهـ حاشية.
(2) جميع ما ذكر المصنف رحمه الله تعالى من هذه البدع ليس بشيء منها في زماننا والحمد لله نسأله تعالى إماتة الباع وإحياء السنن آمين.
(3) قال السبكي رحمه الله تعالى كما في الحاشية: هو جارٍ على قاعدته رحمه الله تعالى في سد الذرائع أي لأن ذلك يفضي إلى الملل، والمذاهب الثلاثة يقولون باستحباب الإكثار منها لأن الإكثار من الخير خير. اهـ.
(4) قد استجاب الله سبحانه وتعالى دعاء نبيه صلوات الله وسلامه عليه فصان قبره الشريف من التقبيل والتمسح به والطواف حوله كما يفعل بقبور غيره، فحفظه وصانه بالجدران المحيطة به ثم بالمقصورة الحديدية وهي الشباك. فصلوات الله وسلامه على سيدنا محمد الآخذ بحجز أمته عن وقوعها في مهاوي الهلكة ومزالق الشرك. ورحم الله العلامة ابن القيم القائل: =

(1/459)


السادِسَةَ عَشْرَة: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلاَحِظَ بِقَلْبِهِ فِي مُدَّة مُقَامِهِ بِالْمَدِيْنَةِ جَلاَلتَهَا وَأنهَا الْبَلْدَةُ الَّتي اخْتَارَهَا الله تَعَالَى لِهِجْرَةِ نبيهِ - صلى الله عليه وسلم - واستيطَانِهِ وَمَدْفَنِهِ وَلْيَسْتَحْضِرْ تَرَدُّدهُ - صلى الله عليه وسلم - فيهَا وَمَشْيَهُ في بِقَاعِهَا.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: يُسْتَحَبُّ الْمُجَاورة بِالْمَدِينة بِالشَّرْطِ الْمُتَقَدّمِ بالْمُجَاوَرَةِ بِمَكّة فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِم عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُمْ عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ صَبَرَ عَلَى لأوَاءِ الْمَدِيْنةِ وَشِدَّتِهَا كُنْتُ لَهُ شَهِيداً أوْ شَفِيعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
الثَّامِنَة عَشْرَةَ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ بالمَدِينَةِ مَا أَمْكَنَهُ وأن يتصدق بما أمكنه عَلَى جِيرَانِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فإِنْ ذلِكَ مِنْ جُمْلَةِ بِرهِ.
التاسِعَةَ عَشْرَة: لَيْسَ لَهُ أن يَسْتَصْحِبَ شَيْئاً مِنَ الأكر المعمُولة من تُرَاب حَرَامِ الْمَدِينَةِ وَلاَ الأَباريق وَالْكِيزَانِ وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ تُرَابِهِ وَأَحْجَارِهِ كَما سَبقَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ (1).
الْعِشْرُونَ: يَحْرُمُ صَيْد حَرَمِ المَدِينة وَأشْجَارِهِ عَلَى الْحَلاَلِ وَالْمُحْرِمِ كَمَا سَبَقَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ، وَسَيَأتِي بيانُ ضَمَانِهِ فِي الْبَاب السَّابِعِ إنْ شَاءَ الله
__________
= ولقد نهانا أن نصير قبره ... عيداً حذار الشرك بالرحمن
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثناً من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اعتدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان
(1) أي في المسألة العشرين من الباب الخامس في المقام بمكة وطواف الوداع وهو قوله: (لا يجوز أنْ يأخذ شيئاً من تراب الحرم وأحجاره معه إلى بلاده، ولا إلى غيره من الحل .. ) إلخ. أقول: قد ذكرت هناك في التعليق الدليل على عدم الجواز وعلة ذلك فراجعه.

(1/460)


تَعَالَى (1). وَحَدُّ حَرَمِ المَدِينَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْمَدِيْنَةُ حَرَم ما بينَ عَيْرَ إلى ثَوْرٍ (2).
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَم وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عير جَبَل بالْمَدِينة.
وَأَمَّا ثَوْرُ فَلاَ يَعْرِفُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهَا جَبَلاً يقَال لَهُ ثَوْر، إِنَّمَا، ثَوْر، بِمَكَّة (3) قَالُوا: فنرَى أَنَّ أَصلَ الْحَدِيثِ مَا بَيْنَ عير إِلَى أَحُد.
وَقَالَ الحافِظ أَبُو بكر الحازِمِيُّ في كِتَابِهِ المؤتلف في أسماء الأَمَاكِنِ في الحديثِ حَرَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَا بينَ عير إِلى أُحُدٍ قَالَ: هَذ الرّوَايةُ الصَّحِيحَةُ، وَقِيلَ إِلى ثَوْرٍ وليسَ لَهُ مَعْنَى، وَفِي الصّحيحينِ من حديثِ أبي هريرة رضي الله عَنْهُ قَالَ: لَوْ رَأيْتُ الظبَاءَ بِالمدينة تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا، وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا
__________
(1) بيّن المصنف الضمان في الباب السابع بقوله رحمه الله: فإن أتلفه ففي ضمانه قولان للشافعي رحمه الله: الجديد لا يضمن وهو الأصح عند أصحابنا. أقول: وهو مذهب الإِمام أبي حنيفة كما في كتاب (رحمة الأمة) والقديم أنه يضمن وهو المختار، وعلى هذا في ضمانه وجهان أحدهما: كضمان حرم مكة وأصحهما أخذ سلب الصائد وقاطع الشجر.
أقول: وهو مذهب الإِمامين مالك وأحمد كما في كتاب رحمة الأمة والمراد بالسلب ما يسلب القتيل من الكفار ثم هو للسالب على الأصح وقيل لفقراء المدينة وقيل لبيت المال. اهـ بزيادة ما بين القوسين.
(2) قال في الحاشية: هما المرادان بمأزميها في رواية (وإن حرمت ما بين مأزميها). اهـ.
(3) هذا الحصر ممنوع كما في الحاشية فقد قال كثيرٌ من المحققين كالزمخشري وغيره رحمهم الله، ونقله بعضهم عن طوائف من العرب العارفين بتلك الأرض أن ثوراً اسم جبل صغير خلف أحُد، وبه يعلم أن أحُداً من حرم المدينة. اهـ.

(1/461)


بينَ لاَبَتَيْهَا حَرَام"، وَكَذَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابةِ في الصّحِيحِ، وَاللاّبَتَانِ الْحرّتَانِ (1).
الحَادِيةُ والْعِشْرُونَ: إِذَا أَرَادَ السَّفَر مِنَ الْمَدِينةِ وَالرُّجُوعَ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ غَيْرِهِ اسْتُحِب أَنْ يُوَدعَ الْمَسْجِدَ بِرَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ وَيَأَتِي الْقَبْرَ (2) وُيعيدُ نَحْوَ السَّلاَمِ وَالدُّعَاءِ المذكُور في ابْتِدَاءِ الزّيَارَةِ وَتقُولُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ هَذَا آخِرَ الْعَهْدِ بِحَرَمِ رَسُولكَ وَيَسرْ لِي الْعَوْدَ إِلَى الْحَرَمَيْنِ سَبِيلاً سَهْلَة وارْزُقْنِي العفو والْعَافِيَةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرة وَرُدنا سَالِمِينَ غَانِمِينَ، وَيَنْصَرِفُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَلاَ يَمْشِي قهقرَى إِلَى خَلْفِهِ.
الثَّانِيَةُ والعِشْرُونَ: فِي أَشْيَاءَ مُهِمّةٍ تتعَلَّقُ بِمَسْجِدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. رَوَيْنَا في صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَبْنيِاً بِاللَّبِنَ وَسَقْفُه الْجَرِيدُ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخلِ فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بكْر رَضِيَ الله عَنْهُ شَيئاً (3) وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ رَضِيَ الله عَنْهُ
__________
(1) الحرة: بفتح الحاء: هي الأرض ذات الحجارة السود كما في الحاشية وقال فيها: وهذا حَد الحرم في العَرْضِ، وما مَرَّ حَدُّه في الطول، وإنما لم يأخذ أصحابنا بقضية أحاديث وردت مِنْ أن حرمَ الطير والوحش والقتال وغيرها إلا الشجر ما بين الحرتين، وحَرَم الشجر بريد في بريد من سائر جوانب المدينة لأنها لم تثبت، وإنْ أخَذَ بذلك مالك رحمه الله. اهـ.
(2) أي ثم يأتي القبر خلافاً لمن قال: يقدم وداعه - صلى الله عليه وسلم - على توديع المسجد بركعتين. اهـ حاشية.
(3) لقصر مدة خلافته رضي الله عنه التي قضاها أو معظمها في حروب الردة، وتثبيت الإسلام الذي رجع عنه بعد موته - صلى الله عليه وسلم - معظم سكان الجزيرة فأعاده الله على يديه، وثبت الناس عليه فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء. قال أبو هريرة رضي الله عنه: (والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبدَ الله) كررها ثلاثاً.

(1/462)


وَبَنَاهُ عَلَى بِنَائِهِ (1) فِي عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - باللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمَدَهُ خَشَباً، ثُم غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيادة كثيرة (2) وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ المَنْقُوشة وَالْقَصَّة وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَة مَنْقُوشَة وَسقفَهُ بِالسَّاجِ هذَا لَفْظُ رِوَاية الْبُخَارِي.
وَقَوْلُهُ القَصَّةِ هِيَ بِفَتْحِ القَافِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلة وهي الْجصُّ.
وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْد أَحَدِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَة (3) قَالَ: بَنَى
__________
= أقول: ومَنْ أراد الاطلاع على حياة أبي بكر فعليه بكتابي (إتحاف الصَّديق بمناقب الصِّدِّيق) وهو مطبوع نفع الله به وبجميع كتبي آمين.
(1) جاء في (عمدة الأخبار عن مدينة المختار) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كثر الناس في عهد عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين: لو وسعت في المسجد. فزاد فيه عمر وأدْخل فيه دار العباس فجعل طوله مائة وأربعين ذراعاً وعرضه مائة وعشرين، وبدل أساطينه بأخر من جذوع النخل كما كانت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسقفه بجريد، وجعل سترة المسجد فوقه ذراعين أو ثلاثة وقد بنى أساسه بالحجارة إلى أنْ بلغ قامة، وجعل له ستة أبواب: بابين عن يمين القبلة وبابين عن يسارها وبابين خلفها. فلما فرغ من زيادته قال: لو انتهى بناؤه إلى الجبانة لكان الكل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اهـ.
(2) أي في قبلي المسجد وذلك في العام الرابع من خلافته رضي الله عنه حينما كلمه الناس أنْ يزيد في المسجد وشكوا إليه ضيقه فشاور عثمان أهل الرأي فأشاروا عليه بذلك.
(3) المنظومة أسماؤهم رحمهم الله تعالى في قول بعضهم رحمهم الله تعالى:
ألا كل مَنْ لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق عاريه
فخذهم عُبَيْد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه
(أحدهم): سعيد بن المسيب القرشي المخزومي المدني إمام التابعين.
(ثانيهم): خارجة بن زيد بن الضحاك الأنصاري النجاري المدني التابعي.
(ثالثهم): عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي المدني التابعي.
(رابعهم): القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التابعي القرشي التيمي. =

(1/463)


رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مسْجدَهُ سَبْعِينَ (1) ذِرَاعاً أَوْ يَزِيدُ، قَالَ أَهْلُ السّيَرِ جَعَلَ عُثْمَانُ طُولَ المسجد مَائَةَ وَسِتّينَ ذِرَاعاً وَعَرْضَهُ مَائَة وخَمْسِينَ ذِراعاً وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّة كَمَا كَانَتْ في زَمَنِ عُمَر ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْوَليدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ (2) فَجَعَلَ طُولَهُ مَائتيْ
__________
= (خامسهم): عبيد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني التابعي عم أبيه عبد الله بن مسعود الصحابي.
(سادسهم): سليمان بن يسار التابعي الهلالي أخو عطاء وعبد الملك وعبد الله موالي ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها. قال ابن سعد: ويقال: إن سليمان نفسه كان مكاتباً لها.
(سابعهم): اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال كما في تهذيب الأسماء واللغات للمصنف رحمه الله. (فقيل) سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (وقيل) أبو سلمة التابعي المدني ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري واسم أبي سلمة عبد الله على الصحيح المشهور، وقيل إسمعيل (وقيل) أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي التابعي المدني. قيل اسمه محمد وقيل اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن. والصحيح أن اسمه كنيته كما في تهذيب المصنف وعلى القول بأن السابع من الفقهاء السبعة أبو بكر بن عبد الرحمن جاء النظم المتقدم رضي الله عن الصحب الكرام وأتباعهم وعنا وعنهم آمين.
(1) أي في ستين ذراعاً هذا بناؤه المرة الأولى وبناه - صلى الله عليه وسلم - كما في الحاشية المرة الثانية وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وكذا في العرض. اهـ. أقول: ومما يعضد ما في الحاشية قول جعفر بن محمد كما في عمدة الأخبار. قال: بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين حين قدم أقل من مائة، فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد فيه مثله من الدور وضرب الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشام، ولم يضربها في غربيه وكانت خارجة من المسجد مدبرة به إلا من المغرب وكانت أبوابها شارعة في المسجد. اهـ.
(2) الأموي رحمه الله تعالى في سنة 88 - 91، وقيل 93 هـ، وقام بالعمارة عامله بالمدينة المنورة عمر بن عبد العزيز، وأحدث فيها المنابر والمحراب والشرفات وأدخل في المسجد حجرات أمهات المؤمنين بعد أنْ هدمها وكانت زيادة في الشرق والغرب والشمال من المسجد.

(1/464)


ذِرَاعٍ وَعَرْضَهُ في مُقَدَّمِهِ مَائَتَيْ ذراعَ وَفِي مُؤَخرِهِ مَائَةً وَثَمَانِينَ ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْمَهْدِيُّ (1) مَائَة ذِراع مِنَ جِهَةِ الشَّامِ فَقَطْ دُونَ الْجِهَاتِ الثَّلاثِ (2).
__________
= رأي سعيد بن المسيب رحمه الله في حجرات أمهات المؤمنين
روي عن عطاء رحمه الله تعالى: سمعت سعيد بن المسيب يقول: (والله لوددت أنهم تركوها -يعني الحجرات على حالها-، ينشأ ناس من أهل المدينة، ويقدم قادم من الأفق، فيرى ما اكتفى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والفخر). قال الشيخ علي حافظ في كتابه (فصول من تاريخ المدينة المنورة): تُرَى هل هذه إشارة من سعيد بن المسيب أحد أعلام الفقه والحديث في الاحتفاظ بالآثار التاريخية التي لها معنى العظة والعبرة؟ أقول: مع سعيد ليتهم فعلوا. اهـ.
(1) العباسي رحمه الله أي سنة 161 - 165 هـ.
(2) قال بعض المؤرخين رحمهم الله تعالى: بزيادة المهدي هذه صار طول المسجد النبوي (300) ذراع، وعرضه مائة وثمانين (180) ذراعاً، وزخرفه بالفسيفساء، وأدخل عمد الحديد في سواريه، كما فعل الوليد بن عبد الملك الأموي رحم الله الجميع، ثم زاد فيه السلطان الأشرف قايتباي نحو ذراعين وربع ذراع جهة الشرق حينما ظهر ضيق عند بناء القبة الخضراء فخرجوا بالجدار الذراعين والربع فيما حازى ذلك، وهذه الزيادة وقعت منه عندما عَمره بعد حريق عام 886 هـ الحريق الثاني للمسجد النبوي وتمت العمارة سنة 890 هـ وسبب هذا الحريق أنه حصلت غيوم في السماء شهر رمضان عام 886 هـ وبرق البرق وهدر الرعد وسقطت صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة الرئيسية فسقط، وكان رئيس المؤذنين شمس الدين بن الخطيب يؤذن فتوفي رحمه الله صعقاً، وأصاب ما نزل من الصاعقة سقف المسجد النبوي الأولى عند المنارة فعلقت النار فيه وفي السقف الأسفل وأخذ لهبها يزحف نحو الشمال والغرب وعجز الناس عن إطفائها، وهذه العمارة التي احترقت هي العمارة التي قام بها عدد من الملوك والحكام المسلمين رحم الله الجميع.
أما الحريق الأول للمسجد النبوي فكان في أول شهر رمضان عام 654 هـ وكان سببه دخول أحد فراشي المسجد النبوي مخزن الزاوية الغربية الشمالية للمسجد لاستخراج قناديل المسجد وتَرْكه الضوء الذي كان بيده على قفص القناديل مضيئاً فاشتعلت النار =

(1/465)


فَإِذَا عَرَفْتَ حَالَ الْمَسْجِدِ فَيَنبغي أنْ تَعْتَنِي بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلاَةِ فِيمَا كَانَ في عَهْدِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي سبق ذِكْرُهُ صَلاَة فِي مَسْجِدي هَذَا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاَة فيما سواه من المَسَاجِدِ إنَّما يَتَنَاولُ مَا كَانَ في
__________
= وامتدت واستولت على جميع ما حواه المسجد من سقفه وغيرها، ولم تبق إلا القبة التي كانت بوسط صحن المسجد التي بناها الناصر لدين الله سنة 579 هـ لحفظ ذخائر المسجد مثل المصحف العثماني وعدة صناديق أثرية صنعت عام 300 هـ، وهذه العمارة التي احترقت هي عمارة الوليد بن عبد الملك الأموي والمهدي العباسيّ رحمهما الله تعالى. اهـ من كتاب فصول من تاريخ المدينة المنورة للأستاذ علي حافظ.
ثم حدث خراب في بعض أجزاء عمارة السلطان قايتباي للمسجد النبوي التي مَرّ عليها نحو 387 سنة هجرية فأمر بهدمها السلطان عبد المجيد العثماني وأعاد البناء في سنة (1265 هـ إلى 1277 هـ) وسقَفَه بالقباب بدلاً من الخشب وزاد فيه نحو خمسة أذرع وربع ذراع من المنارة الرئيسية وهي المجاورة للقبة الخضراء وموقعها في الركن الجنوبي الشرقي للمسجد وهي والقبة الخضراء الآن على عمارة الأشرف قايتباي رحمه الله تعالى إلى ما يلي باب جبريل لضيق المسجد في ذلك الموضع ثم في يوم 15 شوال عام 1370 هـ نفذ أمر جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالى بتوسعة المسجد النبوي الشريف وانتهت العمارة والتوسعة عام 1375 هـ في عهد الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله وهي العمارة التي نشاهدها في جهة الشمال للمسجد النبوي المتصلة بالباقي من عمارة السلطان عبد المجيد العثماني كما وسع من جهة الشرق والغرب قليلاً، وقد أزيلت مبانٍ في مناطق التوسعة بعد تعويض أصحابها بقيم مرضية، وأزيلت أيضاً مبانٍ أخر في الشمال والشرق والغرب لتوسعة الطرق حوله، وأصبحت مساحة المسجد النبوي في الوقت الحاضر 16327 متراً مربعاً بعد أن كانت (10302) أمتاراً مربعة ولا زالت حكومتنا السعودية جادة في توسعة المسجد النبوي فقد أزالت مبانٍ كثيرة من جهة الغرب في عهد الملك فيصل والملك خالد ابني الملك عبد العزيز آل سعود بعد تعويض أصحابها بما يرضيهم، وأقامت موضعها قباباً مؤقتة يؤدي فيها المصلون صلاتهم مع الجماعة ريثما يتم اتصال مبناها مع المسجد من هذه الجهة وفق الله حكومتنا السعودية لمرضاته آمين. =

(1/466)


زَمَنِهِ - صلى الله عليه وسلم - (1) لكِن إذا صَلى جَمَاعَةً فَالتَّقَدُّمُ إلَى الصَّفّ الأَوَّلِ ثُمَّ مَا يَلِيهِ أفْضَلُ فَلْيُفْطَنْ إلْى مَا نبهْتُ عَلَيْهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْن عَنْ أبي هُرَيْرَة رضي الله عنهُ عَنْ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مِنْبري عَلَى حَوْضِي" قَالَ الإِمامُ الْخَطابي: مَعْنَاهُ مَنْ لَزِمَ الْعِبَادَةَ عِنْدَ مِنْبَرِي يُسْقَى مِنَ الْحَوْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدّمَ الْحَدِيثُ الآخَرُ فِي الصحيح: "مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي روْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ".
الثالِثَةُ والعشرون: مِنَ العامّة مَنْ زَعَمَ أنّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ في عَام واحد ضَمِنْتُ لَهُ الْجَنَّة" وَهَذَا بَاطِلٌ، لَيْسَ هُوَ عَنْ
__________
(1) وافق المصنف جمع منهم السبكي وابن عقيل الحنبلي والولي العراقي رحم الله الجميع آمين، واعترضه جمع كالمحب الطبري وغيره رحمهم الله بأشياء منها أن المضاعفة في مسجد مكة لا تختص بما كان موجوداً في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كما في مسلم وبأن الإشارة في قوله: "مسجدي هذا" إنما هي لإخراج غيره من المساجد المنسوبة إليه وبأن الإمام مالكاً رحمه الله تعالى سئل عن ذلك فأجاب بعدم الخصوصية لأنه صلوات الله وسلامه عليه زويت له الأرض وعلم -أي عن الله تعالى- ما يحدث وأخبر به، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون أن يزيدوا فيه بحضرة الصحابة ولم ينكروا عليهم. اهـ. وأجاب في الحاشية عنها بما حاصله أن (أل) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وصلاة في المسجد الحرام" الحديث ... أضعف في الدلالة على الحضور واليقين من الإشارة "في مسجد هذا" بدليل ما قيل إنه اسم لجميع الحرم لما شاع في القرآن وغيره من إطلاقه عليه، كما مَرّ ولم يقل في المسجد النبوي وأن قولهم: "إنما هي لإخراج غيره .. " إلخ ممنوع فيحتاج إلى دليل (وأن سكوت الصحابة) يحتمل أنه لما رأوه من المصلحةِ لكثرة الناس حينئذ فوسعوه لخشية تضررهم بالزحمة فأقروا على ذلك، وما روي مرفوعاً مما يقتضي المضاعفة في الزيادات ضعيف. فصَح وسَلم ما قال النووي رحم الله الجميع آمين.
(تنبيه): قال في الحاشية: لا فرق في مضاعفة الصلاة بين فرضها ونفلها خلافاً لبعض المالكية والحنفية.

(1/467)


رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ يُعْرَفُ في كِتاب بَلْ وَضَعَهُ الْفَجَرةُ، وَزِيَارَةُ الخليل - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ مُنكَرَةٍ وإِنَّمَا المُنكَرُ مَا رَوَوهُ وَلاَ تَعَلقَ لزِيَارَةِ الْخَلِيلِ بِالْحَج بَلْ تِلْكَ قُرْبَةٌ مستقلة، وَمِثلُ ذلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْعَامَّةِ إذَا حَج: أقدّسُ حَجّي، وَيَذهْبُ فَيَزُورُ بَيْتَ المقدسِ وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْحَجّ، هَذا بَاطِلٌ أَيْضاً وَزِيَارَةُ الْقُدسِ مُسْتَحَبّةٌ لكَنَّهَا غيرُ مُتَعَلقَة بِالحَجّ وَالله أعلمُ.
الرابِعَةُ والعشْرُونَ: لَوْ نََذَر الذهابَ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أوْ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى فَفِيهِ قَوْلاَنِ للشَّافِعِي رَحِمَهُ الله تَعَالَى أَصَحُّهُمَا أَنهُ يُسْتَحَب (1) لَهُ الذَّهابُ وَلاَ يَجِبُ (2)، وَالثَّانِي يَجبُ. فَعَلَى هذا إِذَا أتَاهُ وَجَبَ عليه فِعْلُ عِبَادة فيه إِمَّا صَلاَةٌ وإِمَّا اعتكافٌ هذَا هُوَ الأَصَحُّ وقيل تتعين الصلاة وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ الاعْتِكَافُ وَالمُرَادُ اعْتِكَافُ سَاعَة وَالمُرادُ الصَّلاَةُ رَكْعَتَانِ وَقِيْلَ رَكْعَةٌ والمُرادُ نَافِلَةٌ وقِيلَ تكفِي الْفَرِيضَةُ.
__________
(1) أي لأنه أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها.
(2) أي لأنه مسجد لا يقصد بالنسك كغيره (فإنْ قيل) كيف أوجبتم الاعتكاف فيه بالنذر.
(أجيب): كما في الحاشية: وجب الاعتكاف فيه بالنذر لأنه عبادة مستقلة مختصة بالمسجد فإذا كان له فضل ولها فيه مزيد ثواب فكأنه التزم فضيلة في العبادة الملتزمة والإتيان بخلافه. اهـ. وأما لو نذر الذهاب إلى مسجد مكة أو محل من حرمها وجب قصد ذلك بالنسك لأنه يقصد لذلك كما تقدم في الثاني عشر من المسألة الخامسة والعشرين من الباب الخامس في الأحكام التي يخالف فيها الحرم غيره من البلاد عند قول المصنف رحمه الله: إذا نذر قصده لزمه الذهاب إليه بحج أو عمرة .. إلخ.

(1/468)