الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

الباب الثامن
فِي حَجّ الصَّبِيّ وَالْعَبْدِ وَالْمَرأةِ (1) وَمَنْ في مَعْنَاهُم (2)
اعْلَمْ أَنّ الصَّبِيَّ (3) لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَج وَلكِنْ يَصِحُّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي آخِرِ الْبَابِ الأَوَّلِ ثُمَّ إِنْ كَانَ مُمَيِّزاً أحْرَمَ بَإِذْنِ وَلِيهِ فَإِنْ أحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الأَصَح (4)، وَلَوْ أحْرَمَ عَنْهُ (5) وَلِيُّهُ صَحَّ عَلَى الأَصَحِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيزاً أحْرَمَ عَنْهُ وَليهُ (6) سواء كَانَ الْوَلي حَلاَلاَ أوْ مُحْرِماً وَسَوَاءٌ كَانَ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أمْ لاَ وَلاَ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الصَّبِيّ (7) وَمُوَاجَهَتُهُ بِالإِحْرَامِ على الأصَحّ، وَالْمَجْنُونُ
__________
(1) أي سواء كانت حرة أو أمة لم يذكر المصنف رحمه الله من أحكامها هنا إلا وجوب استئذان الزوج أو السيد إنْ كانت مزوجة، وبقية أحكامها قد قدمها أول الكتاب.
(2) أي من الأجزاء والجند المرصدين للحرب.
(3) ومثله الصَّبِية.
(4) فارق الصوم لأنه لا يفتقر إلى مال والحج يفتقر إليه والصبي محجور عليه فيه.
(5) أي عن المميز وليه وقوله صَح: هو المعتمد كما في الحاشية خلافاً لما في شرح مسلم.
(6) صفة إحرام الولي عن الصبي كما في المجموع هي أنْ ينوي جعله محرماً فيصير محرماً بمجرد ذلك.
(7) فلو كان الولي بالميقات والصبي بدمشق مثلاً ونوى عنه الولي صح لكنه يكره لاحتمال ارتكاب الصبي محظوراً لعدم علمه بالإِحرام.

(1/505)


كَالصَّبِي الذي لاَ يُمَيّزُ يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيهُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ إحْرَامُ غَيْرِهِ عَنْهُ (1) كَالْمَرِيضِ، وَأَمَّا الْوَلي الّذِي يُحْرِمُ عَنْ الصَّبِيّ أو يَأذَنُ لَهُ فَالأَبُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ (2) وَكَذَا الْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الأَبِ (3) وَلاَ يَتَوَلاَّهُ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَالوَصِي والْقَيّمُ كَالأَبِ عَلَى الصَّحِيحِ وَلاَ يَتَوَلاَّهُ الأَخُ وَالْعَم (4) وَالأُمّ (5) عَلَى الأصَح إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيةٌ وَلاَ ولاَية مِنَ الْحَاكِمِ.

فَصْلٌ
متى صارَ الصَّبِيُّ مُحَرِماً فَعَلَ ما قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَفَعَلَ بِهِ الْوَلي مَا عَجَزَ عَنْهُ، فَإنْ قَدَرَ عَلَى الطَّوَافِ عَلَّمَهُ فَطَافَ وإلاّ طِيفَ بِهِ (6) كَمَا سَبقَ، وَالسَّعْيُ
__________
(1) أي لا وليه ولا رفيقه لأنه غير زائل العقل ويرجى برؤه عن قرب فلو خرج في طريق الحج، فأغمى عليه عند الميقات قبل أنْ يحرم لم يصح إحرام وليه ولا رفيقه عنه سواء أذن فيه قبل الإغماء أم لا، وبه قال مالك وأبو يوسف، ومحمد وداود، وقال أبو حنيفة: يصح إحرام رفيقه عنه استحساناً ويصير المغمى عليه محرماً لأنه علم من قصده ذلك ولأنه يشق عليه تفويت الإحرام.
(2) أي بنفسه أو مأذونه ويشترط فيه شروط ولاية المال من العدالة وغيرها فإن انتفى عنه بعضها انتقلت إلى الجد فالحاكم.
(3) أو وجوده لا بصفة الولاية.
(4) أي وسائر العصبة غير مَنْ ذكر من الأب والجد.
(5) اعترض بما في مسلم من أنّ امْرأة رفعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر. وردّ بأنه ليس في الحديث أنها أحرمت عنه وبتقديره يحتمل كونها وصية أو قيمة، والأجر الحاصل للأم أجر الحمل والنفقة. اهـ حاشية.
(6) أي مع طهر الطائف والمطوف به من الصبي والمجنون وغير المميز إذا كان راكباً اشترط أن يكون الولي أو مأذونه سائقاً أو قائداً في جميع المطاف. وأفهم قوله: (طيف به) وقوله فيما يأتي: (مَن لا رمي عليه) أنه يجوز للولي أن ينيب مَنْ يفعل عنه ما عجز عنه كما بينه في الإحرام عنه بل أولى.

(1/506)


كالطَّوَافِ (1)، وَيُصَلي عَنْهُ وَليهُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيزاً فَإنْ كانَ مُمَيزاً صَلاَّهُمَا بِنَفْسِهِ وَقِيلَ يُصَلِيهِمَا الْوَلي أيْضاً عَنْهُ وَيُشْتَرَطُ إحْضَارُهُ عَرَفَاتٍ وَيُحْضِرُهُ أيْضاً الْمُزْدَلِفَةَ وَالْمَوَاقِفَ والمبيتَ بِمنىً ويناولُهُ الأحجارَ فَيَرْميهَا إنْ قَدَرَ وَإلاَّ فَيَرْمِي عَنْهُ مِنْ لاَ رَمْيَ عَلَيْهِ وَيُستَحَب أنْ يضَعَهَا في يدِهِ أوَّلاً ثُمَّ يأْخُذُهَا فَيَرْمِيهَا.

فَصْلٌ
الزائِدُ مِنْ نَفقةِ الصَّبِي بِسَبَبِ السَّفَرِ يَجِبُ في مَالِ الوَلي عَلَى الأَصَحّ (2) وَقِيلَ في مَالِ الصَّبِي.
فَصْلٌ
يُمْنَعُ الصَّبِي الْمُحْرِمُ (3) مِنْ مَحْظُورَاتِ الإْحْرَامِ، فَإنْ تَطَيّبَ أوْ لَبِسَ نَاسِياً فَلاَ فِدْيةَ وَإِنْ كَانَ عَامِداً وَجَبَتْ الْفِدْيةُ على الأَصَح سَوَاءٌ كانَ بِحَيْثُ يَلْتَذُّ بِالطيبِ وَاللبَاسِ أمْ لاَ وإنْ حَلَقَ الشَّعْرَ أوْ قَلَّمَ الظفْرَ أوْ أتْلَفَ صَيْداً وَجَبَتْ الْفِدْيةُ عَمْداً كَانَ أوْ سَهْواً، وَمَتَى وَجَبَت الفِدْية فَهِيَ في مَالِ الوَلي عَلَى الأصَح إن كانَ أحْرَمَ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أحْرَمَ بِنَفْسِهِ وَصَحَّحْنَاهُ (4) ففِي مَالِ الصَّبِي.
__________
(1) أي يجب فيه إذا كان غير المميز راكباً أن يكون الولي أو مأذونه سائقاً أو قائداً.
(2) لأنه المورط له في ذلك.
(3) أي المميز أما غير المميز فلا فدية عليه ولا على الولي: قال الفقهاء رحمهم الله تعالى: إنما يكون عمد الصبي والمجنون عمداً إن كان لهما نوع تمييز. اهـ.
(4) أي على مقابل الأصح المتقدم في قوله فإن أحرم بغير إذنه لم يصح على الأصح.

(1/507)


فَصل
إذا جامعَ الصَّبِي أوْ جُومِعَتِ الصَّبيةُ إِنْ كَانَ نَاسِياً أوْ مُكْرَهاً لَمْ يَفْسُدْ حَجهُ، وَإِنْ كَانَ عَامِداً (1) فَسَدَ عَلَى الأَصَحّ وَوَجَبَ قَضَاؤُهُ عَلَى الأَصَحّ، وَيُجْزِئُهُ الْقَضَاءُ في حالِ الصبَا عَلَى الأصَحّ فَلَوْ شَرَعَ في الْقَضَاءِ فَبَلَغ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَات وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الإٍسْلاَمِ (2) وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ (3) وَإِذا فَسَدَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهَلْ هِيَ في مَالِ الْوَالِيّ أو في مَالِ الصَّبِيّ؟ فيهِ الخِلاَفُ السَّابِقُ.
فَصْل
حُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الصَّبِي الَّذي لاَ يُمَيّزُ في جميعِ مَا ذَكَرْنَاة (4).
__________
(1) أي ومميزاً أيضاً كما تقدم التقييد به أما غيره فلا فدية عليه ولا على وليه كما تقدم.
(2) إنما وقع عن حجة الإٍسلام دون القضاء لأن حجة الإسلام لا يتقدم عليها غيرها.
(3) أي ثانياً.
(4) حاصل مذهب الشافعية رحمهم الله تعالى في الصبي غير المميز والمجنون الذي لا يميز أنه إذا فعل كل منهما محظوراً فلا فدية على أحد، وإنْ كان الصبي مميزاً فإن تطيب أو لبس ناسياً فكذلك ومثله الجاهل، وإنْ تعمد وحلق أو قَلّم أو قتل صيداً ولو سهواً فالفدية في مال الولي لأنه المورط في ذلك بالإٍذن له فيه وحيث وجبت على الولي فهي كالواجبة بفعله، فإن اقتضت صوماً أو غيره وفعله أجزأه أو في مال الصبي. فإن كانت مرتبة أخرجت منه أو مخيرة امتنع الفداء عنه بالمال، ويصح الصوم منه ويجزئه، ولو طيّبه أو ألبسه الولي أو غيره، ولو لحاجة الصبي لزمته الفدية، وحكم دم التمتع والقران حكم الفدية بارتكاب محظور، والصحيح أنها في مال الولي لأنه المورط له، ولأنه يجب عليه منع موليه من سائر المحظورات ومحل الخلاف على مرجح العلامة =

(1/508)


فَصْل
إذَا بَلَغَ الصبي فِي أثناءِ الْحَجّ نُظِرَ إنْ بَلَغَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الوُقُوفِ أوْ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَبَعْدَ مُفَارَقَةِ عَرَفَات وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حجّة الإٍسْلاَمِ، وَإِنْ بَلَغَ في حَالِ الْوُقُوفِ أوْ بَعْدَهُ فَعَادَ وَوَقَفَ في الْوَقْتِ أجْزأهُ عَنْ حجَّةِ الإٍسْلاَمِ (1) لكِنْ يَجِبُ إِعَادَةُ السَّعْيِ إنْ كَانَ سَعَى عَقيبَ طَوَافِ القُدُومِ قَبْلَ الْبُلُوغ وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيح والطَّوافُ في الْعُمْرَةِ كَالْوُقُوفِ في الْحَجّ إذَا بَلَغَ قَبْله (2) أجْزَأهُ عَنْ عُمْرَةِ الإٍسْلَامِ، وَعِتْقُ الْعَبْدِ فِي أثْنَاء الْحَج أو الْعُمْرَةِ كَبُلُوغِ الصبي (3) فِي أثْنَائِهِمَا.
فَصْلٌ
إِحْرَامُ العبدِ صحيحٌ بِإِذْنِ سَيدِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ (4)، فإِنْ أحْرَمَ بِإِذْنِهِ (5) لَمْ يكُنْ
__________
= المحشي رحمه الله تعالى إذا لم تمكنه المرأة وإلا فعليها، وأما بالنسبة للصبية إذا جومعت فالكفارة على المجامع كما مَرّ ذلك والله أعلم.
(1) وكذا لو بلغ بعد التحللين كما في الحاشية فعاد لعرفة قبل الفجر أجزأه عن حجة الإسلام ولزمه إعادة الطواف والسعي والحلق ورمي جمرة العقبة لأنه لا زال في أثناء الحج ما بقي عليه بعض أعماله، وهنا بقي عليه مبيت ليالي منى ورمي أيامها، ويؤيده عدم صحة اعتماره حينئذ لقول الفقهاء رحمهم الله تعالى إنه إلى الآن في الحج لم يخرج
(2) أي أو في أثنائه كما دَل له تشبيهه له بالوقوف، وصَرح به في المجموع. اهـ حاشية.
(3) أي وكذا إفاقة المجنون بعد الإٍحرام عنه كما في الحاشية.
(4) أي إذا كان بالغاً وله تحليله كما يصح. إحرام السفيه بغير إذن وليه وله تحليله، أما الصغير المميز فلا يصح إحرامه بغير إذن سيده كالحر المميز بل أولى هذا حكم إحرامه عن نفسه، وأما إحرام سيده عنه فيجوز عن الصغير ولو غير مميز.
(5) محل اعتبار إذن السيد حيث لم تكن منفعة القن مستحقة للغير والا اشترط إذن =

(1/509)


لَهُ تَحْلِيلُهُ سَواءٌ بقِيَ نُسُكُهُ صَحِيحا أوْ أفْسَدَهُ وَلَوْ بَاعَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي تحلِيلُهُ وَلَهُ الخِيَارُ إنْ جَهِلَ إحْرَامَهُ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَالأَوْلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ في إتْمَامِ نُسُكِهِ فإنَّ حَلَّلَهُ جَازَ (1)، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ في الإٍحْرَامِ فَلَهُ الرُّجُوعُ مَا لَمْ يُحْرِمْ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ في الْعُمْرة فَأحْرَمَ بالحجّ كَانَ لَهُ تَحْلِيلُهُ، وَلَوْ أذِنَ لَهُ في الْحَجّ فأحْرَمَ بالعُمْرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيلُهُ، وَلَوْ أذِنَ لَهُ في الْحَجِّ أوِ التَّمَتّعِ فَقَرَنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيلُه (2)، وَلَوْ أذِنَ لَهُ فِي الإٍْحْرَامِ في ذِي الْقِعْلَه فَأَحْرَمَ في شَوَّال فَلَهُ تَحْلِيلُهُ قَبْلَ دُخُولِ ذِي الْقِعْدَةِ ولا يجُوزُ بَعْدَ دُخُولهِ.
وَلَوْ أَفْسَدَ العبد الحج لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ ويُجْزِئُهُ قضاؤهُ فِي حَالِ الرِّقّ عَلَى الأَصَحّ وَلاَ يَلْزَمُ أنْ يأذَنَ لَهُ في الْقَضَاءِ سَوَاءٌ كَانَ إحْرَامُهُ الأوَّلُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَكُلُّ دَم لَزِمَهُ بِمَحْظُور أوْ تَمَتّع أوْ قِرَان أوْ فوات أو إحصار لا يجب منه شيء على السيد سواء كان أحرم بإذنه أو بِغيرِ إذْنِهِ وَوَاجِبُه الصَّوْمُ، وَللسَّيْدِ
__________
= ذلك الغير دون السيد، فالموصي بمنفعته والمستأجر عينه لعمل في السفر مدة معينة والموقوف على معين أو على جهة يعتبر إذن الموصي له والمستاجر وذلك المعين والناظر ولو حاكماً.
(فرع): قال في الحاشية: أذن له السيد ثم رجع قبل إحرامه: فإن عَلِمَ العبد ثم أحرم كان له تحليله وإنْ لم يعلم إلا بعد إحرامه فوجهان كالقولين في تصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم ومقتضاه لا يحلله إلا إنْ صدقه العبد وإلا احتاج السيد لبينة بتقديم الرجوع على الإٍحرام، وليس ببعيد. قال الأذرعي وغيره: ولو أسلم قن حربي ثم أحرم بغير إذنه ثم غنمناه لم يكن لنا تحليله. اهـ.
(1) أي حيث لم يأذن له في الإتمام وإلا لم يملك تحليله بعد وكذا المشتري منه لكن له الخيار، فإنْ لم يأذن له أصلاً وباعه جاز للمشتري تحليله ولا خيار له.
(2) هو المعتمد كما في الحاشية لأن الإٍذن في التمتع إذْن في الحج كما في المجموع.

(1/510)


مَنْعُهُ (1) إلاَّ صَوْمَ التَّمتعِ وَالقِرَانِ (2) إذَا أذِنَ فِيهِ وَحَيْثُ جُوزَ للسيّدِ تَحْلِيلُهُ أرَدْنَا أَنهُ يأمره بالتحَلُل لاَ أنَ السَّيّدَ يستقل بِمَا يَحْصُلُ بهِ التحَللُ وَإِذَا جَازَ للسَّيدِ تحليلُهُ جازَ لَهُ هُوَ التحللُ (3) وتَحَللُهُ يحصلُ بنيةِ التَّحَلُّلِ مَعَ الْحَلْقِ إذَا قُلْنَا إنَّهُ نُسُك وَأمُّ الْوَلَد وَالمُدَبَّرُ والمعَلق عِتْقُهُ والْمُكَاتَبُ وَمَنْ بَعْضُهُ حُر (4) لَهُمْ حُكْمُ الْعَبْدِ (5)، والأمةُ المزوَّجةُ لاَ يَجُوزُ لَهَا الإٍْحْرَامُ إلاَّ بِإِذن الزَّوجِ والسيِّدِ جَمِيعاً وَلَوْ مَنَعَهُ الوَالِدُ أو الزوجُ أو صاحبُ الدَّيِن فَقَدْ تقدم بيانُهُ في أوَّلِ الكتابِ في المسئلة الثالثة والرَّابعة (6).
__________
(1) أي من الصوم إنْ كان أمة تحل له مطلقاً أو عبداً أو أمة لا تحل له كمجوسية أو محرم إن ضعفا عن الخدمة أو نالهما به ضرر، لأن حق السيد فوري والكفارة أصالة على التراخي، فلا نظر لكونها قد تجب فوراً لعصيانه بسببها لعروضه فقدم حق السيد لقوته عليه فإنْ انتفى ما ذكر فلا منع له، ولو من صوم تطوع.
(2) مثلهما دم الإحصار كما في الحاشية لإذنه في سببه، وله الذبح عنه بعد موته لحصول اليأس من تكفيره والتمليك بعد الموت ليس بشرط، ولهذا لو تصدق عن ميت جاز لا في حياته لتضمنه تمليكه وهو ممتنع.
(3) قيده في الحاشية تبعاً للإسنوي وغيره رحمهم الله تعالى بما إذا أمره به السيد، وكذا إن منعه من المضي، وإن لم يأمره به كما أخذه الأذرعي من كلام الرافعي ويجب في الصورة الأولى دون الثانية. أقول: قال بعضهم رحمه الله تعالى: وهذا أعني التقييد تبعاً للإسنوي وغيره رده في التحفة بأن الذي دَل عليه كلامهم أن له التحلل مطلقاً قال: بل القياس وجوبه عليه لما فيه من الخروج من المعصية لكن لَما كان شبهة التلبس بالنسك مع شدة لزومه واحتمال أن السيد يأذن له أبيح له البقاء إلى أن يأمره السيد بالتحلل فإنْ أمره به وجب.
(4) أي إن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة أوكانت وأحرم في نوبة السيد. أما إذا أحرم في نوبته ووسعت النسك فله حكم الحر.
(5) أي الخالص.
(6) أي من الباب الأول في آداب السفر. =

(1/511)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= مسائل في مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى في حج العبد والصبي والأغلف ومن حج بمال حرام أو ركب دابة مغصوبة مأخوذة من المجموع
(الأولى): أجمع أهل العلم على سقوط فرض الحج عن الصبي، وعن المجنون والمعتوه، وأما صحة حج الصبي فهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وداود وجماهير العلماء. وقال أبو حنيفة في المشهور عنه: لا يصح منه لأنه لو صَح منه لوجب عليه القضاء إذا أفسده، ولأنه عبادة بدنية لا يصح عقدها من الولي للصبي كالصلاة.
واحتج المصححون بحديث جابر الذي رواه ابن ماجه (حججنا معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم). وبحديث البخاري عن السائب بن زيد رضي الله عنه قال: (حج بي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين). وبحديث ابن عباس الذي رواه مسلم: (أن امرأة رفعت صبياً في حجة الوداع فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر")، وقياساً على الطهارة والصلاة فإن أبا حنيفة صححهما منه.
(الثانية): أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج لأن منافعه مستحقة لسيده فليس هو مستطيعاً، ويصح منه الحج بإذن سيده وبغير إذنه عند الشافعية. قال القاضي أبو الطيب رحمه الله تعالى وبه قال الفقهاء كافة وقال داود: لا يصح بغير إذنه. دليل المصححين أنه من أهل العبادة فصح منه الحج كالحر.
(الثالثة): الصبي والعبد إذا أحرما وبلغ الصبي وعُتق العبد قبل فوات الوقوف أجزأهما عن حجة الإسلام عند الشافعية، وبه قال أحمد في العبد، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجزئهما.
(الرابعة): إحرام العبد بغير إذن سيده صحيح عند الشافعية، وبه قال جميع الفقهاء والمشهور عن داود بطلانه، قال في كتاب رحمة الأمة: والأمة كالعبد إلا أن يكون لها زوج فيعتبر إذنه مع الولي، وعن محمد بن الحسن أنه لا يعتبر إذن الزوج.
(الخامسة): يصح حج الأغلف (وهو الذي لم يختتن) عند الشافعية وعند كافة العلماء (وأما) حديث أبي بردة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحج الأغلف حتى يختتن" فضعيف. قال ابن المنذر في كتاب (الختان) من الإشراف: هذا الحديث لا يثبت، وإسناده مجهول. =

(1/512)


فَصْلٌ
في آدابِ رُجُوعِهِ مِنْ سَفَرِ حَجّهِ
اعلم أن مُعْظَمَ الآدَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الأَولِ في سَفَرِهِ مَشْرُوعَة في رُجُوعِهِ مِنْ سَفَرِهِ وَيُزَادُ هُنَا آداب:
أحدها: السُّنَّةُ أنْ يقَولَ مَا ثَبَتَ في الحديثِ عن ابنِ عُمَر رَضِيَ الله عنهما أنَّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذَا قَفَل (1) مِنْ حَج أوْ عُمْرَةٍ كَبرَ عَلَى كُل شَرَفٍ (2) ثَلاَثَ تكْبِيرَاتٍ ثُمّ يقَولُ: "لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الملكُ وَلَهُ الحمدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قدير، آئبون (3) تائبونَ عابدونَ ساجدونَ لِرَبنَا حَامِدُونَ، صدَقَ الله وَعْدَه (4) وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَه". رَوَاهُ البخاريُ ومسلم في صَحيحَيْهِمَا، وَفِي صحيحِ مسلمٍ عن أنسٍ رضي الله عنهُ قَالَ: أقْبَلْنَا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتى إذَا كُنا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ قَالَ: "آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ" فَلَمْ يَزَلْ يقَولُ ذَلِكَ حَتى قَدِمْنَا المدينةَ.
__________
= (السادسة): إذا حج بمال حرام أو راكباً دابة مغصوبة أثِم وصح حجه، وأجزأه عند الشافعية وبه قال أبو حنيفة ومالك والعبدري وكثر الفقهاء وقال أحمد: لا يجزئه. دليل المصححين أن الحج أفعال مخصوصة والتحريم لمعنى خارج عنها والله أعلم.
(1) أي رجع.
(2) أي مرتفع من الأرض.
(3) آئبون أي راجعون بهمزتين بينهما ألف الثانية منهما مكسورة، ويجوز إبدالها ياءً وأصل آئبون آوبون اسم فاعل من الأوب وهو الرجوع فقلبت الواو همزة معناه راجعون.
(4) أي ما وعد به من إظهار دينه بقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] وهذا في الغزو ومناسبته للحج قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27].

(1/513)


الثاني: يُسْتَحَبّ إذَا قَرُبَ مِنْ وَطَنِهِ أنْ يَبْعَثَ قُدَّامَهُ مَنْ يُخْبِرُ أهْلَه (1) كَيْ لاَ يقْدَم عَلَيْهِم بَغْتَة فَهَذَا هُوَ السُّنّةُ.
الثالث: إذَا أشْرَفَ عَلَى بَلَدهِ فَحَسَن أنْ يقُولَ: اللَّهُم إنّي أسْألُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ أهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا واسْتُحِبَّ أنْ تقُولَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ لنا بِهَا قَرَاراً (2) وَرِزْقاً حَسَناً، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا جَنَاها (3) وأعِذْنَا مِنْ وَبَالها وَحَبِّبْنَا إلَى أهْلِهَا وَحَبّبْ صَالِحِي أهْلِهَا إلَيْنَا، فَقَدْ رَوَيْنَا هذَا في الْحديثِ وَقَدْ أوْضَحْتُهُ في كِتَابِ الأَذْكَارِ (4).
الرابع: إذَا قَدمَ فَلاَ يَطْرُق أهْلَهُ في الليْلِ (5) بَلْ يَدْخُلُ الْبَلْدَه غُدْوَةَ وَإِلاّ فَفِي آخِرِ النَّهَارِ.
__________
(1) ظاهر هذا أن الإرسال خاص بمن له حليلة والله أعلم.
(2) فإن قيل: إنّ طلب القرار إنما ورد في المدينة الشريفة -على ساكنها - صلى الله عليه وسلم - وإخوانه الأنبياء والمرسلين والآل والصحب والأمة أجمعين أفضل الصلاة وأزكى السلام- للحث على سكناها فهو خاصٌّ بها.
أجيب: كما في الحاشية بأن كل أحد لا يتيسر له سكناها. ولئن سلم وروده فيها فلا يقتضي أنه مِنْ خواصها بل يقاس عليها غيرها في ذلك لأن النفوس تنزع إلى أوطانها، فإذا وصلت إليها طلب منها أنْ تسأل الله القرار فيها حذراً من تشتتها إذا انتقلت إلى غيرها والله أعلم.
(3) بفتح الجيم هو ما يجتنى من الثمرة، والمراد منها هنا ما يشمل المعنوية كالحسية.
(4) كتاب الأذكار للمصنف رحمه الله تعالى أحسن كتاب في الأذكار النبوية دنيوية وأخروية ودينية، وكل كتاب يأتي بعده فهو عالة عليه فيجب على كل شخص اقتناؤه ولذا قيل (بعْ الدار واشتر الأذكار) ورحم الله القائل:
ورحم الله النواوي الإمام ... لجمعه أذكار سيد الأنام
فطالعوه يا ذوي الدراية ... فإن فيه الخير والكفاية
(5) مستدرك وإلا فالطروق خاص بالليل. قال في المصباح: كل ما أتى ليلاً فقد =

(1/514)


الخامس: إذا وَصَلَ مَنْزِلَهُ فالسُّنَّةُ أنْ يَبْتَدِىءَ بِالمَسْجِدِ فَيُصَلّي فِيهِ ركعتين (1)، وإذَا دَخَلَ مَنزِلَهُ صَلَّى أيْضاً رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا وَشَكَرَ الله تعالَى.
السادس: يُسْتَحَب لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَادِمِ مِنَ الْحجّ أنْ يقُولَ: قَبِلَ الله حَجَّكَ وَغَفَرَ ذَنْبَكَ وَأخْلَفَ نَفَقَتَكَ. رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ الله عَنْهُما عَنِ النبِي - صلى الله عليه وسلم - وَعن أبي هريرة رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ للْحَاج وَلمِنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ". قَالَ الحاكمُ: وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِم.
السابع: يُسْتَحَب أنْ يقُولَ: إذَا دَخَلَ بيتَهُ مَا رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الأَذْكَارِ عَنِ ابنِ عباس رضي الله عَنْهُما قَالَ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذَا رَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ فَدَخَلَ عَلَى أهْلِهِ قَال تَوْباً تَوْباً (2) لربنا أَوْباً لاَ يغادرُ حَوْباً. قُلْتُ: تَوْباً تَوْباً، سؤال التوبةِ أيْ نَسْألُك تَوبة كَامِلَة (3) وَلاَ يُغَادِرُ حَوْباً أيْ لاَ يَتْرُكُ إثْماً.
__________
= طرق وهو طارق ولعله جرد الفعل عن جزء معناه، وأراد به مطلق الإتيان وقضيته مع قوله قبل يستحب إذا قرب من وطنه أن يبعث إليهم أن طروقهم ليلاً خلاف السنة وإن أرسل من يخبرهم بقدومه وهو ظاهر لما في القدوم ليلاً من المشقة وإنْ وجد المخبر المذكور وظاهر أنّ الإٍرسال كما تقدم خاص بمن له حليلة والإٍتيان نهاراً غير مختص بذلك وأن الكلام فيمن لم يشق عليه تأخير القدوم إلى النهار والله أعلم.
(1) أي للحديث المتفق عليه وهو أنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين".
(2) أي أتوب توباً والتكرار للتأكيد، والتوبة منه - صلى الله عليه وسلم - خضوع لمولاه سبحانه أو تشريع للأمة وقوله: أوْباً أي رجوعاً وقوله (لا يغادر) أي لا يترك وقوله: (حوباً) هو بضم الحاء وفتحها وهو أحسن لمناسبة أوْباً ومن الضم قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)} أي ذنباً عظيماً.
(3) أو نتوب إلى ربنا توباً ونرجع إليه رجوعاً لا يترك ذنباً ولا إثماً، وفقنا الله لمرضاته ولمتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمين.

(1/515)


الثامن: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بَعْدَ رُجُوعِهِ خَيْراً مِمَّا كَانَ فَهَذا مِنْ عَلاَمَاتِ قبولِ الْحَج وأنْ يَكُونَ خَيْرُهُ آخِذاً (1) في ازْديادِ.

فَصْلٌ
ذكر أقضى القضاةِ الماورديُّ في الأحكامِ السلطانيةِ باباً في الولايةِ على الحجيجِ أنَا أذكرُ إِن شاءَ الله تعالى مقاصِدَهُ قَالَ: وِلايةُ الحج على ضربين: أحدهما: يكون على تسيير الحج، والثاني: على إقامة الحج.
أمَّا الضربُ الأولُ فَهُوَ وِلاية سِيَاسَةٍ وَتَدْبِيرٍ، وشرطُ المتولي أن يكونَ مُطَاعاً ذَا رَأْيِ وَشَجَاعَةٍ وِهدَايةٍ وَالذي عَلَيْهِ في هذ الولايةِ عشرةُ أشياءَ:
أحدها: جمعُ الناسِ في مسيرهِمِ ونزولِهِم حَتى لا يتفرّقُوا فيخافُ عَلَيْهِم.
الثاني: ترتيبُهُمْ في السَّيْرِ والنُّزُولِ وإعطاءِ كُل طَائفةِ مِنْهُمْ مَقاداً (2) حتى يَعْرِفَ كُلّ فِرْقَةٍ مَقادَهُ إذَا سَارَ وَإِذَا نَزَلَ وَلاَ يَتَنَازَعُوا وَلاَ يَضِلوا عَنْهُ.
الثالث: يرفقُ بهم في السَّيرِ ويسيرُ سيرَ أضْعفِهِمْ (3).
__________
(1) في بعض النسخ بدل (آخذاً) (مستمراً) في ازدياد.
(2) المقاد في عرف الناس يسمى بالتقطير، وهو جَعْل الإِبل مربوطة بعضها خلف بعض تسير جملة مترتبة كل فرقة من الحجاج لإبلها موضع في المقاد، وظاهر أن هذا فيمن تقطر ركابهم كأهل تهامة، وأما أهل نجد والعراق فإنهم لا يربطون إبلهم بل تسير جملة بعضها في بعض. أقول: كل من الذي يقطر والذي لا يقطر كان في زمان قد مضى وانقضى والآن عصر السرعة طائرات وسيارات زمان عطلت فيه العشار، وحشرت في حدائقه الوحوش وجمعت فيها أصناف الحيوانات. زمان قرب بعيده وسار ونطق حديده، نسأله تعالى حسن الخاتمة آمين.
(3) أي ما لم يعارضه ما هو أهم منه كخوف عطش ونحوه.

(1/516)


الرابع: يسلكُ بهمْ أوْضَحَ الطُّرقِ وأخْصَبَهَا.
الخامس: يَرْتَادُ لهْم المياهَ والمراعيَ إذا عجزُوا عَنْهَا.
قلت السادس: يَحْرُسُهُمْ إِذَا نَزَلُوا وَيَحُوطُهُمْ إذَا رَحَلُوا حَتى لا يتخطفهم متلصص.
السابع: يكف عنهمْ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الْمَسيرِ (1) بقتالٍ إنْ قدرَ عَلَيْهِ أَوْ بذلِ مالٍ إِنْ أجَابَ الحَجِيجُ إلَيْهِ وَلاَ يَحِل لَهُ أن يَجْبُرَ أحَداَ عَلَى بَذْلِ الخِفارةِ (2) إنْ امْتَنَعَ مِنْهَا لأنّ بَذْلَ المالِ في الخفارَةِ لا يَجِب (3).
الثامن: يصلحُ بينَ المتنازعينَ ولا يتعرضُ لِلْحُكْمِ بينَهُمْ، إلا أنْ يَكُونَ قَدْ فُوّضَ إلَيْهِ الحُكْمُ وَهُوَ جَامع لِشَرائِطِهِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فإنْ دَخَلُوا بلَداً جازَ لَهُ وَلحَاكِم البلدِ الحُكْمُ بينهمْ، وَلَوْ تَنازَعَ واحدٌ من الحجيجِ وَوَاحِد مِنَ البلدِ لَمْ يحكمْ بينهمْ إلا حَاكِمُ البلدِ.
__________
(1) لله الحمد والمنة الآن الطرق كلها في أمان الله، ثم في أمان الحكومة السعودية ولا هناك شيء مما كان، نسأله تعالى التوفيق لمرضاته وشكره آمين.
(2) الخفارة: هي المال الذي يدفعه الحاج ليأمن على نفسه فيؤدي نسكه.
(3) قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر رحمه الله في كتابه (مفيد الأنام): اللهم إلا أن يخاف عليهم (أي على الحجاج) إنْ لم يبذلوا الخفارة من النهب والسلب أو القتل مع عجزهم عن مدافعة طالب الخفارة فله إذاً إجبار الحجيج على بذلها إلى أنْ قال: وفي سنة إحدى وسبعين وثلثمائة وألف طرح الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود الخفارة التي تؤخذ من الحجاج في زمنه وزمن أمراء مكة السابقين فصارت حسنة من حسناته والله لا يضيع أجر مَنْ أحسَنَ عملاً. اهـ من الكتاب المذكور ص 177 من الجزء الثاني.
أقول: وما زالت حكومتنا السنية من ذلك العهد وهي تبذل الأموال الطائلة على راحة الحجاج غير طالبة منهم جزاءً ولا شكوراً، وفقها الله تعالى لمرضاته آمين.

(1/517)


التاسع: أنْ يؤدّبَ جَانِيهِمْ وَلاَ يجاوزُ التعزيرَ إلى الحدّ إِلاّ أنْ يكُونَ قَدْ أذِنَ لَهُ في الحدّ فَيَسْتَوفِيهِ إذا كانَ مِنْ أهْلِ الاجْتِهَادِ فيهِ، فإذا دخَلَ بلداً فِيهِ مَنْ يَتَوَلَى إقامَةَ الْحُدُودِ عَلَى أهْلِهِ فإنْ كَانَ الَّذِي مِنَ الحجيجٍ أتَى بالجنايةِ قبل دُخُولهِ البَلَدَ فَوَالِي الْحَج أوْلَى بإقامةِ الحَد عَلَيْهِ وَإِنْ كَان بَعْدَ دخولهِ الْبَلَدَ فَوَالِي الْبَلَدِ أوْلَى بِهِ (1).
العاشر: أنْ يُراعِيَ اتّسَاعَ الْوَقتِ حَتَّى يَأمَنَ الْفَوَاتَ وَلاَ يَلْحَقُهُمْ ضيقٌ فِي الحَثّ عَلَى السيْر. فَإذَا وَصَلَ الميقاتَ أمْهَلهُمْ للإحْرَامِ ولإقامةِ سُنتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْت وَاسِعاً دَخَلَ بِهمْ مَكّةَ وَخَرَجَ مَعَ أهْلِهَا إلَى مِنى ثُمَّ عَرَفَاتٍ، وَإٍن كَانَ ضَيقاً عَدَلَ إلَى عَرَفَاتٍ مَخَافَةً مِنَ الْفَوَاتِ، فَإِذَا وَصَلَ الحجيجُ مَكةَ فمَنْ لَمْ يكُنْ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ زالتْ وِلاَيةُ وَالِي الحَجِيجِ عَنْهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى عَزْمِ الْعَودِ فَهُو تَحْتَ وِلاَيَتِهِ وَمُلْتَزِمٌ أحْكَامَ طَاعَتِهِ (2).
وإذَا قَضَى النّاسُ حَجَّهُمْ أمْهَلَهُمْ الأَيَّامَ الّتِي جَرَتْ العادةُ بِهَا لإنجازِ حَوَائجِهِمْ وَلاَ يُعَجلُ عَلَيْهِمْ فِي الْخُرُوجِ فَيَضرُّ بِهِمْ، فَإذَا رَجَعُوا سَارَ بِهِمْ إلَى مَدِينةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيارةِ قَبْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - رِعَايةً لحُرْمَتِهِ وَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يكُنْ مِنْ فُرُوضِ الْحج فَهُوَ مِنْ مندوباتِ الشَّرعِ الْمُسْتَحَبّةِ وَعَادَاتِ الْحَجِيجِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، ثُم يكونُ في عَوْده ملتزماً فيهم من الحقوق ما كان ملتزماً في ذهابه حتى يصل البلد الذي سارَ بِهِمْ مِنْهُ فتنْقَطعُ وِلاَيتُهُ بِالْعَوْدِ إلَيْهِ.
__________
(1) هذا باعتبار السابق أما الآن فإذا وصل الحجاج من أي جهة كانوا حدود المملكة السعودية لا دخل لأحد في الحكم أياً كان، فالحكم لله ثم لجلالة الملك ثم لنوابه. وفق الله حكومتنا وجميع حكام المسلمين لما يحبه ويرضاه آمين.
(2) أي في غير معصية الله تعالى.

(1/518)


الضربُ الثاني: أن تكونَ الْوِلاَيةُ عَلَى إِقَامَةِ الحج فَهُوَ فيهِ بِمنزلةِ الإٍمامِ في إقَامَةِ الصَّلاَةِ، فَمِنْ شُرُوطِ هذهِ الْوِلاَيةِ مَعَ الشرُوطِ الْمُعْتبَرةِ في أئِمّةِ الصلواتِ أن يَكونَ عَالِماً بِمَنَاسِكِ الْحج وأحْكَامِهِ وَمَوَاقِيتِهِ وأيامِهِ وَتكُونُ مُدَّةُ وِلاَيتِهِ سَبْعَةَ أيَّامِ أوَّلُهَا مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ في الْيَوْمِ السَّابع مِنْ ذِي الْحِجةِ وَآخِرُهَا الْيَوْمُ الثالِثُ مِن أيامِ التشْرِيقِ وَهُوَ فيمَا قَبْلَهَا وَبَعْدَها أحَدُ الرَّعَايَا وَلَيْسَ مِنْ الْوُلاَةِ، ثُم إنْ كَانَ مُطْلَقَ الوِلاَيةِ على الحجّ فَلَهُ إِقَامَتُهُ كُلَّ سَنَةِ مَا لَمْ يُعْزَلْ عَنْهُ، وإنْ عقدَتْ خَاصَّةَ عَلَى عَام واحد لَمْ يَتَعَدَّ إِلى غَيْرِهِ إِلاّ بِولاية، والذي يَخْتَصُ بِولايتِهِ ويكونُ نَظَرُهُ عَليه مَقْصُوراً خَمْسَةُ أحْكام مُتفَقٌ عَلَيْهَا وسادِسٌ مختلفٌ فيهِ.
أحدُها: إعلامُ الناس بِوَقْتِ إِحْرَامِهِمْ والخروجِ إِلَى مشاعرِهِمْ ليكونُوا تابعينَ لَهُ مُقْتَدِينَ بأفعالِهِ.
الثاني: ترتيب المناسِكِ على ما استَقَر عَلَيْه الشَرْعُ فَلاَ يقدمُ مُؤخَّراً وَلاَ يُؤخرُ مُقَدَّماً سَواءٌ كانَ الترتيبُ مستَحباً أوْ وَاجِباً لأَنهُ متبوعٌ.
الثالثُ: تَقْدِير المواقيتِ بمقامِهِ فيها ومسيرِهِ عنها كَمَا تُقَدرُ صَلاَةُ المأمومِ بِصَلاَةِ الإمامِ.
الرابعُ: اتباعُهُ في الأذْكَارِ المشروعَةِ والتأمينِ على دعائِهِ.
الخامس: إمَامَهُمْ في الصَّلَوَاتِ التي شرِعت خُطَبُ الْحَجّ فِيهَا وجمع الحجِيجِ وهي أَرْبَعُ خُطَبِ سَبَقَ بيانُهَا: الأولَى بَعْدَ صَلاَةِ الظهْرِ يومَ السَّابع مِنْ ذِي الحجةِ وهي أَولُ شُرُوعِهِ في مَنَاسِكِهِ بَعْدَ الإٍحْرَامِ فَيَفْتَتِحُهَا بِالتَّلْبِيةِ إنْ كَانَ مُحْرِماَ وبالتكْبِيرِ إنْ كَانَ حَلاَلاً وَلَيْسَ لَهُ أنْ يَنفر النَّفْرَ الأَولَ بِمنى ليلةَ الثالثِ مِنْ أيامِ التشْرِيقِ وَيَنْفُر النَّفْر الثاني مِن غَدِ بَعْدَ الرَّمْي لأنّهُ مَتْبُوع فَلاَ يَنْفُر إلا

(1/519)


بَعْدَ كَمَال الْمَناسِكِ، فإِذا حَصَلَ النفر الثاني انقضَتْ وِلاَيَتُهُ، وأَما الْحكم السادسُ الْمُخْتَلفُ فِيهِ فَثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ:
أحدها: إذا فَعَلَ بَعْضُ الحجيجِ ما يقتضِي تعزيراً أو حَداً فإنْ كانَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِالحجّ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعْزِيرُهُ وَلاَ حَدُّهُ، وإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّق بالحجِّ فَلَهُ تعزيرُهُ وَهَلْ لَهُ حَدّه؟ فيه وَجْهَانِ.
الثاني: لا يجوزُ أنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْحَجِيجِ فِيْمَا يتنازعُون فيهِ مِمَّا لاَ يَتَعَلقُ بالحجِّ، وفِي الْمُتَعَلِّقِ بالحجّ كالزَّوْجَيْنِ إذَا تنازَعَا في إيجابِ الكفَّارَةِ بِالْوَطْءِ ومؤنةِ المرأةِ في القضاء وَجْهَانِ.
الثالث: أنْ يفعَلَ بَعْضُهُمْ مَا يقْتَضِي فِدْيةً فَلَهُ اْنْ يَعْرِفَ وَجُوبَها وَيَأمُرُهُ بإِخْرَاجِهَا وَهَلْ لَهُ إلْزامُهُ، فيهِ الْوَجْهَانِ.
واعلمْ أنَّهُ لَيْسَ لأمِيرِ الْحجّ أن ينكر عليهم ما يسوغ فعله إلاّ أن يخاف اقتداء الناس بفاعله وليس له أنْ يَحْمِلَ النّاسَ عَلَى مَذْهبِهِ وَلَوْ أقامَ الناسُ المَناسِك وَهُوَ حَلاَل غَيْرُ مُحْرِمِ كُرِهَ ذَلِكَ وَصَحَ الْحَج، وَلَوْ قَصَدَ النّاسُ التَّقَدُّمَ عَلَى الأَمِيرِ أوْ التأخُّرَ كرهَ ذلِكَ وَلَمْ يحرمْ هذا آخر كلام الماوردي رحمه الله تعالى.

فَصْلٌ
نَختم به الكتاب وإن لم يكنْ له اختصاص بالمناسك
تستحب المحافظة على دعاء الكرب وهو ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرضِ رب العرشِ الكريم.

(1/520)


وفي رواية لمسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذَا حَزَبَهُ أمْر قَالَ ذَلِكَ.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه كان أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة (1) وفي الآخرة حسنة وقِنَا عذابَ النارِ". وفي الحديثِ الصحيح عن أبي موسى الأشْعريّ رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حولَ ولا قوةً إلا بالله كَنْز من كُنُوزِ الجنةِ".
وفي الصحيحين وهو آخرُ حديثٍ في صحيحِ البخارِي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلمتان خفيفتان عَلَى اللّسانِ ثقيلتانِ في المِيزانِ (2): سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" فهذا آخرُ الكتاب والحمدُ لله أوَّلاً وآخراً وصلاتُهُ وَسَلامُهُ عَلَى سَيدِنَا مُحمّدِ خَيْرِ خَلْقِهِ وَعَلَى سَائِر النبيينَ والمرسلينَ أجمعين. والله أسأل خاتمةَ الخيرِ لِي ولسائرِ أحبابِي وسَائرِ المسلمين وحسبي الله ونعم الوكيلُ ولا حولَ ولا قُوّةَ إلاّ بالله العلِيّ العظيم.
قال الشيخ الإٍمامُ مُحيي الدينِ: صنفتُ هذَا الكتابَ وفرغتُ من تصنيفِهِ في صبيحةِ يوم الجمعة العاشِرِ مِنْ رجب الفردِ (3) سنة سبع وستين وستمائة رَحِمَهُ الله تعالى ورضِيَ عَنْهُ وأثابه الجنة برحمتهِ وجمعنا به في دارِ كرامَتِهِ بمَنّهِ وَكَرَمِهِ إِنَّهُ عَلَى كُلّ شيءِ قَدير والحمد لله رب العالمينَ.
__________
(1) الحسنة في الدنيا هي كل خير ديني أو ما يجر إليه، وفي الآخرة كل مستلذ أخروي متعلق بالروح والبدن، جعلنا الله وإخواننا المسلمين والمسلمات من أهلها في الدنيا والآخرة آمين.
(2) أي ثقيل ثوابهما.
(3) سمي رجب بالفرد لانفراده عن باقي الأشهر الحرم وهي شهر ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب رابعها والله أعلم. =

(1/521)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قال جامع هذا التعليق المسمى (بالإفصاح عن مسائل الإيضاح) على مذاهب الأئمة الأعلام عليه وعليهم وعلى الأمة رحمة العلام، عبد الفتاح بن حسين بن إسمعيل بن محمد طيب راوه المكي انتهى ما وفقني الله إليه من التعليق على هذا الكتاب الكثير النفع المسمى بالإيضاح للإمام الحافظ المحدث الفقيه أبي زكريا يحيى النووي رحمني الله وإياه والمسلمين والمسلمات ليلة الجمعة السادس عشر من ربيع الثاني عام واحد بعد الأربعمائة والألف (1401) من هجرة من له مزيد الشرف سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى إخوانه النبيين والمرسلين وآل كل وصحب كل وأتباع كل كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
اللهم انفع بكتابي هذا (الإِفصاح) وبكافة كتبي كما نفعت بأصولها آمين. والحمد لله رب العالمين.

(1/522)