الدراري المضية شرح الدرر البهية

كتاب البيع
البيع
...
كتاب البيع
المعتبر فيه مجرد التراضي ولو بإشارة من قادر على النطق ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب والسنور والدم وعسب الفحل وكل حرام وفضل الماء وما فيه غرر كالسمك في الماء وحبل الحبلة والمنابذة والملامسة وما في الضرع والعبد الآبق والمغانم حتى تقسم والثمر حتى يصلح والصوف في الظهر والسمن في اللبن والمحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخاضرة والعربون والعصير إلى من يتخذه خمرا والكالئ بالكالئ وما اشتراه قبل قبضه والطعام حتى يجري فيه الصاعان ولا يصح الاستثناء في البيع إلا إذا كان معلوما ومنه استثناء المبيع ولا يجوز التفريق بين المحارم ولا أن يبيع حاضرلباد والتناجش والبيع على البيع وتلقي الركبان والاحتكار والتسعير ويجب وضع الجوائح ولا يحل سلف وبيع ولاشرطان في بيع ولا بيعتان في بيعة وربح مالم يضم وبيع ماليس عند البائع ويجوز بشرط عدم الخداع والخيار في المجلس ثابت مالم يتفرقا.
أقول: أما كون المعتبر مجرد التراضي ولو بإشارة من قادر على النطق فلكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة وأنه لا يجوز البيع بغيرها ولا يفيدهم ماورد في الروايات من نحو بعتك وبعت منك فإنا لا ننكر أن البيع يصح ذلك وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها ولم يرد في ذلك شيء وقد قال الله تعالى : { تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء:29] فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كناية بأي لفظ وقع وعلى أي صفة كان وبأي إشارة مفيدة حصل وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" فإذا وجدت طيبة النفس مع التراضي فلا يعتبر غير ذلك.

(2/250)


وأما كونه لا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فلحديث جابر في الصحيحين وغيرهما أنه سمع صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" .
وأما عدم جواز بيع الكلب والسنور فلما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب" وفيهما من حديث أبي جحيفة نحوه وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور" وأخرج النسائي باسناد رجاله ثقات قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد.
وأما الدم فلحديث أبي جحيفة في الصحيحين قال: إن رسول الله حرم ثمن الدم.
وأما عسب الفحل وهو ماء الفحل يكريه صاحبه لينزي به فلما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل" ومثله مافي صحيح مسلم من حديث جابر وفي الباب أحاديث ورخص في الكرامة وهي ما يعطى على عسب الفحل من غير شرط شيء عليه كذا في الحجة.
وأما الحرام فلما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر قيل يارسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلي بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا وهو حرام" ثم قال: "قاتل الله اليهود إن شاء الله لما حرم شحومها جملوه1 ثم باعوه فأكلوا ثمنه" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن
ـــــــ
1 آي أذابوه !هـ.

(2/251)


عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" .
وأما فضل الماء فلحديث أياس بن عبدة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء" رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وقال: القشيري هو على شرط الشيخين ولحديث جابر عند مسلم وأحمد وابن ماجه بنحوه وقد ورد مقيدا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ" وفي لفظ "لا يباع الماء ليمنع به الكلأ" وهو في مسلم.
وأما مافيه غرر فلحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر" وأخرج أحمد من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر" وفي إسناده يزيد ابن أبي زياد وقد رجح البيهقي وقفه ولكنه داخل في بيع الغرر.
وأما حبل الحبلة فلنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في مسلم وغيره من حديث ابن عمر وفي الصحيحين كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقد قيل إنه بيع ولد الناقة الحامل في الحال وقيل بيع ولد ولدها كما في الرواية وقد ورد النهي عن شراء ما في بطون الأنعام كما في حديث أبي سعيد عند أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه ضعف.
وأما المنابذة والملامسة فلحديث أبي سعيد في الصحيحين قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة في البيع" والملامسة يلمس ثوب الآخر بيده بالليل والنهار ولا يقلبه والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض كذا في الرواية وفي الباب عن أنس عند البخاري ومسلم.

(2/252)


وأما ما في الضرع والعبد الآبق والمغانم والثمرة حتى تصلح والصوف في الظهر والسمن في اللبن فلحديث أبي سعيد رضي الله عنه المتقدم في النهي عن شراء مافي بطون الأنعام فإن فيه النهي عن بيع ما في ضروعها وعن شراء العبد الآبق وعن شراء المغانم حتى تقسم وقد ورد النهي عن بيع المغانم حتى تقسم من حديث ابن عباس عند النسائي ومن حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وقد روى النهي عن بيع الثمر حتى يطعم والصوف على الظهر واللبن في الضرع والسمن في اللبن من حديث ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عمر بن فروح وقد وثقه يحيى بن معين وغيره وأحاديث النهي عن بيع الغرر تشد من عضد جميع ما في هذه الروايات لأن الغرر يصدق على جميع هذه الصور وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع" وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي هريرة وفي الصحيحين من حديث أنس نحوه.
وأما المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخاضرة فلحديث أنس عند البخاري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة والملامسة والمزابنة" وفي الصحيحين من حديث جابر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة" وفي الباب أحاديث المحاقلة بيع ثمر النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد والجميع بيع غرر وجهالة والمخاصرة بيع الثمرة خضراء قبل بدو صلاحها.
وأما بيع العربون فلما أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون" وبيع العربون هو أن يعطي المشتري درهما أو نحوه قبل البيع على أنه إذا ترك الشراء كان الدرهم للبائع بغير شيء ولا يعارض هذا ما أخرجه عبد الرازق في مسنده عن زيد بن أسلم أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العربون في البيع فأجاوه لأن في إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف وأيضا الحديث مرسل.

(2/253)


وأما بيع العصير إلى من يتخذ خمرا فلحديث "لعن الله بائع الخمر وشاربها ومشتريها وعاصرها" وأخرجه الترمذي وابن ماجه ورجاله ثقات من حديث أنس وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه وأبو داود وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وقد قيل إنه غير معروف وقيل إنه معروف وهو من أمراء الأندلس وصحح الحديث ابن السكن وأخرج الطبراني في الأوسط عن بريدة مرفوعا "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة" وإسناده حسن وفي الباب أحاديث.
وأما بيع الكالئ بالكالئ أي المعدوم بالمعدوم فلحديث ابن عمر عند الدارقطني والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع كاليء بكاليء دين بدين" وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف وقد قال: أحمد فيه لا تحل الرواية عنه عندي ولا أعرف هذا الحديث عن غيره وقال: ليس في هذا أيضا حديث صحيح ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين انتهى وتقوية الأحاديث الواردة في اشتراط التقابض كحديث "إذا كان يدا بيد" وهو في الصحيح وحديث "مالم يتفرقا وبينكما شيء" .
وأما بيع ما اشتراه قبل قبضه فلحديث جابر عند مسلم وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه" وأخرج مسلم أيضا وغيره قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حتى تستوفى" وأخرج أحمد من حديث حكيم ابن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: له "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه1" وفي إسناده العلا ابن خالد الواسطي وأخرج أبو داود والدارقطني والحاكم وابن حبان وصححاه من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يجوزها التجار إلى رحالهم" وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
ـــــــ
1 في الأصل تقضيه 1هـ هامش الأصل.

(2/254)


وأما كونه لا يصح الاستنثاء في المبيع إلا إذا كان معلوما فلحديث جابر عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا" وزاد النسائي والترمذي وابن حبان وصححاه إلا إن يعلم والمراد أن يبيع شيئا ويستثني منه شيئا مجهولا إلا إذا كان معلوما فيصح ومن الثنيا المعلومة استثنى جابر لظهر جملة إلى المدينة بعد أن باعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيحين وغيرهما من حديثه.
وأما كونه لا يجوز التفريق بين المحارم فلحديث أبي أيوب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" وأخرج أحمد والترمذي والدارقطني والحاكم وصححه وحديث علي أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما وفرقت بينهما فذكرت ذلك له فقال: أدركهما فارتجعهما ولا تبعمها إلا جمعيا" وأخرجه أحمد وقد صححه ابن خزيمة وابن الجاورد وابن حبان والحاكم وغيرهم حديث أبي موسى قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فرق بين الوالد وولده وبين الأخ وأخيه" أخرجه ابن ماجه والدارقطني ولا بأس بإسناده وحديث علي أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع" أخرجه أبو داود والدارقطني والحاكم وصححه وقد أعل بالانقطاع وفي الباب أحاديث وقد قيل إنه مجمع على ذلك وفيه نظر1.
وأما بيع الحاضر للباد فلحديث ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن يبع حاضر لباد" أخرجه البخاري وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه".
وأما التناجس وهو الزيادة في ثمن السلعة مواطأة لرفع ثمنها فلحديث
ـــــــ
1 في المنهاج بيع حاضر لباد هو أن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه فيقول بلدي اتركه عندي لأبيعه على التدريج.

(2/255)


أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يبيع حاضر لباد وأن تناجشوا" وفيهما من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش".
وأما البيع على البيع فلحديث ابن عمر عند أحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يبع أحدكم على بيع أخيه" وهو في الصحيحين أيضا بنحو ذلك وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه" وقد ورد أن من باع من رجلين فهو للأول منهما" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وصححه أبو زرعة وأبو حاتم والحاكم.
وأما تلقي الركبان فلحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق" وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع" وفيهما أيضا نحو ذلك من حديث ابن عمر وابن عباس.
وأما الاحتكار فلحديث ابن عمر عند أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلي مرفوعا: "من أحتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه" وفي إسناده أصبغ بن عبد زيد وفيه مقال: وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا: "لا يحتكر إلا خاطئ" وأخرج نحوه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة.
وأما التسعير فلحديث أنس عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه والدارمي والبزار وأبي يعلى أن السعر غلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سعر لنا فقال: " إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال" وصححه ابن حبان والترمذي وفي الباب أحاديث.
وأما ووضع الجوائح فلحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الجوائح" أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود وأخرجه أيضا مسلم رحمه الله بلفظ: "أمر

(2/256)


بوضع الجوائح" وفي لفظ لمسلم وغيره "إن كنت بعت من أخيك ثمرا فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك" وفي الباب عن عائشة في الصحيحين وعن انس فيهما أيضا وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة والليث وسائر الكوفيين.
وأما كونه لايحل سلف وبيع وشرطان في بيع فلحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لايحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولاربح مالم يضمن ولاتبع ماليس عندك" أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والترمذي وصححه وكذلك صححه ابن خزيمة والحاكم والمراد بالسلف هنا القرض قال: مالك هو أن يقرضه قرضا ثم يبايعه عليه يزداد عليه وهو فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن وقد يكون السلف بمعنى السلم وذلك مثل أن يقول أبيعك عبدي هذا بألف على أن تسلفني ماله في كذا وكذا والشرطان في بيع أن يقول بعتك هذا بألف إن كان نقدا وبألفين إن كان سيئة وقيل هو أن يقول بعتك ثوبي بكذا وعلى قصارته وخياطته.
وأما البيعتان في بيعة فلحديث أبي هريرة عند احمد والنسائي وأبي داود والترمذي وصححه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة" ولفظ أبي داود: "من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا" وأخرجه احمد من حديث عبد الله بن مسعود قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة" قال: سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسئ كذا وبنقد كذا ورجاله رجال الصحيح وما ذكره سماك هو معنى البيعتين في بيعة وقد تقدم تفسير الشرطين في بيع مثل هذا وليس بصحيح بل المراد بالشرطين في بيعه أن البيع واحد شرط فيه شرطان وهنا البيع البيعان.
وأما ربح مالم يضمن فلما تقدم في دليل لايحل سلف وبيع وهو ان يبيع شيئا لم يدخل في ضمانه كالبيع قبل القبض.
وأما بيع ماليس عند البائع فلحديث حكيم بن حزام قال: قلت يارسول

(2/257)


الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي أبيعه منه ثم ابتاعه من السوق فقال: لا تبع ماليس عندك" أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والمراد بقوله: ماليس عندك ماليس في ملكك وقدرتك.
وأما كونه يجوز شرط عدم الخداع فلحديث ابن عمر في الصحيحين قال: "ذكر رجل لرسول الله أنه يخدع في البيوع فقال: "من بايعت فقل لا خلابة" وفي الباب أحاديث والخلابة الخديعة وظاهره أن من قال بذلك ثبت له الخيار سواء غبن أو لم يغبن.
وأما كون الخيار في المجلس ثابتا مالم يفترقا فلحديث حكيم بن حزام في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار مالم يفترقا" وفيهما أيضا نحوه من حديث ابن عمر وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى إثبات خيار المجلس جماعة من الصحابة منهم علي وأبو برزة الأسلمي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم ومن التابعين شريح والشعبي وطاوس وعطاء وابن أبي مليكة نقل ذلك عنهم البخاري ونقل ابن المنذر القول به أيضا عن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة وعن الحسن البصري والأوزاعي وابن جريح وغيرهم وبالغ ابن حزم فقال: لا يعرف لهم مخالف من التابعين إلا النخعي وحده ونقل صاحب البحر ذلك عن الصادق والباقر وزين العابدين وأحمد بن عيسى والناصر والإمام يحيى وحكاه أيضا عن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وذهب الحنفية والمالكية وغيرهم إلى أنها إذا وجبت الصفقة فلا خيار والحق القول الأول.

(2/258)


باب ما جاء في الربا
يحرم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل يدا بيد وفي إلحاق غيرها بها خلاف فإن اختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يدا بيد ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي وإن صحبه غيره ولا بيع الرطب بما كان يابسا إلا لأهل العرايا ولا بيع اللحم بالحيوان ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه ولا يجوز بيع العينة.
أقول: الستة الأجناس المذكورة هي المنصوص عليها في الأحاديث كحديث أبي سعيد بلفظ: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو ازداد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء" . وهو في الصحيح وسائر الأحاديث في الصحيحين وغيرهما هكذا ليس فيها إلاذكر الستة الأجناس وقد اختلف في الإلحاق هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة غيرها فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء مع الإتفاق في الجنس وتحريم النساء فقط مع الإختلاف في الجنس والإتفاق في العلة فقالت: الظاهرية أن لا يلحق بها غيرها وذهب من عداهم إلى أنه يلحق بها مايشاركها في العلة واختلفوا في العلة ما هي فقيل الاتفاق في الجنس والطعم وقيل الجنس والتقدير بالكيل والوزن والإقتيات وقيل الجنس ووجوب الزكاة وقد استدل لمن قال: بالإلحاق بما أخرجه الدارقطني والبزار من حديث عبادة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ماوزن فمثل

(2/259)


بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به" وقد أشار إلى هذا الحديث صاحب التلخيص ولم يتكلم عليه وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقة أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة وهذا الحديث كما يدل على إلحاق غير الستة بها كذلك يدل على أن العلة الاتفاق في الكيل والوزن مع اتحاد الجنس ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس حديث ابن عمر في الصحيحين قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن: كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله" وفي لفظ لمسلم وعن كل ثمر يخرصه" فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب ورواية مسلم تدل على أعم من ذلك ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في المؤطأ عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان" وأخرجه أيضا الشافعي وأبو داود في المراسيل ووصله الدارقطني في الغرائب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد وحكم بضعفه وصوب الرواية المرسلة وتبعه ابن عبد البر وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار وفي إسناد ثابت بن زهير وهو ضعيف وأخرجه أيضا من رواية أبي أميمة بن أبي يعلي عن النافع أيضا وأبو أمية ضعيف وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عند الترمذي في رخصة العرايا وفيه عن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمرة يخرصه ومما يدل على أن المعتبر الإتفاق في الوزن حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم بلفظ "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء" .
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة: "الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل" وعند مسلم والنسائي وأبي داود من حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن" ومما ورد في اعتبار الكيل حديث ابن عمر

(2/260)


المتقدم، وفيه "وإن كان كرما أن تبيعه بزبيب كيلا" ومما سيأتي قريبا من النهي عن بيع الصبرة لا يعلم كيلها.
وأما جواز التفاضل مع اختلاف الأجناس فلما ثبت في الصحيح من حديث عبادة صامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد" وفي الباب أحاديث.
وأما كونه يعتبر العلم بالتساوي فلما وقع في الأحاديث الصحيحة من قوله: "مثلا بمثل سواء بسواء وزنا بوزن" فإن هذا يدل على أنه لا يجوز بيع الشيء بجنسه إلا بعد العلم بالمساواة والمماثلة ومما يدل على ذلك حديث جابر عند مسلم وغيره قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر" فإن هذا يدل على أنه لا يجوز البيع إلا بعد العلم.
وأما كونه لا تأثير لمصاحبة شيء آخر لأحد المثلين فلحديث فضالة بن عبيد عند مسلم وغيره قال: "اشتريت قلادة يوم خبير باثنى عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثنى عشر دينار فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل" وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف منهم عمر بن الخطاب وقال: به الشافعي وأحمد وإسحاق وذهب جماعة منهم الحنفية والهدوية إلى جواز التفاضل مع مصاحبة شيء شيء آخر إذا كانت الزيادة مساوية لما قابلها.
وأما كونه لا يجوز بيع الرطب بما كان يابسا فلحديث ابن عمر المتقدم في النهي عن أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيع بزبيب كيلا وكذلك حديث رافع بن خديج وسهل ابن أبي حثمة المتقدمان.
وأما جواز ذلك لأهل العرايا فلحديث زيد ابن ثابت عند البخاري وغيره:

(2/261)


أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا" وفي لفظ في الصحيحين "رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرأ يأكلونها رطبا" وأخرج أحمد والشافعي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بخرصها الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة" وفي الباب أحاديث والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للفقراء الذين لا نخل لهم أن يشتروا من أهل النخل رطبا يأكلونه في شجرة بخرصه تمرا والعرايا جمع عرية وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة وقد ذهب إلى ذلك الجمهور ومن خالف فالأحاديث ترد عليه.
وأما المنع من بيع اللحم بالحيوان فلما تقدم قريبا.
وأما جواز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه فلحديث جابر عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين" وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه وأخرج مسلم رحمه الله أيضا وغيره من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبى" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبعث جيشا على إبل كانت عنده قال: فحملت الناس عليه حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس قال: فقلت يا رسول الله الإبل قد نفذت وبقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال: لي ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى ينفذ هذا البعث قال: وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى نفذت ذلك البعث فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال: وقوى في الفتح إسناده وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن الجاورد من حديث سمرة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" وهو من رواية الحسن عن سمرة ولم يسمع منه وقد جمع الشافعي بين الحديثين بأن المراد به النسيئة من الطرفين فيكون ذلك من بيع الكاليء بالكاليء لا من طرف واحد فيجوز.

(2/262)


وأما كونه لايحوز بيع العينة فلحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم البلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم" . أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وابن القطان وصححه قال: الحافظ رجاله ثقات والمراد بالعينة بكسر العين المهملة بيع التاجر سلعته بثمن إلى أجل ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن ويدل على المنع من ذلك ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته منه بستمائة نقدا فقالت: لها عائشة بئسما اشتريت وبئسما شريت إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلاأن يتوب" أخرجه الدارقطني وفي إسناده الغلية بنت أيفع وقد روى عن الشافعي أنه لايصح وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده وقد ذهب إلى عدم جواز العينة مالك وأبوحنيفة وأحمد والهدوية وجوز ذلك الشافعي وأصحابه وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لها البيهقي في سننه بابا.

(2/263)


باب الخيارات
يجب على من باع ذا عيب أن يبينه وإلا ثبت للمشترى الخيار والخراج بالضمان وللمشتري الرد بالغرر ومنه المصراة فيردها وصاعا من تمر أو ما يتراضيان عليه ويثبت الخيار لمن خدع أو باع قبل وصول السوق ولكل من المتبايعين بيعا منهيا عنه الرد ومن اشترى شيئا لم يره فله رده إذا رآه وله رد مااشتراه بخيار وإذا اختلف البيعان فالقول ما يقوله: البائع.
أقول: أما وجوب بيان العيب على البائع فلحديث عقبة بن عامر عن ابن ماجه والدارقطني والحاكم والطبراني قال: "سمعت رسول الله يقول: "المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلابينه" وقد حسن إسناده الحافظ في الفتح وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك ومن حديث واثلة مرفوعا وفي إسناده أبو جعفر الرازي وأبو سباع والأول مختلف فيه والثاني مجهول وأخرج ابن ماجه والترمذي والنسائي وابن الجاورد والبخاري تعلقيا من حديث العداء ابن خالد قال: "كتب لي النبي صلى الله عليه وسلم هذا ماشتراه العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم من المسلم" ويؤيده هذه الأحاديث حديث "من غشنا فليس منا" وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فدلت هذه الأحاديث على أنه من باع ذا عيب ولم يبينه فقد باع بيعا لا يحل شرعا فيكون المشتري بالخيار إن رضيه فقد أثم البائع وصح البيع لوجود المناط الشرعي وهو

(2/264)


التراضي وإن لم يرضه كان له رده لأن العلم بالعيب كشف عن عدم الرضا الواقع حال العقد فلم يوجد المناط الشرعي ولما ورد في رد المعيب وسيأتي.
وأما كون الخراج بالضمان فلحديث عائشة عند أحمد وأهل السنن والشافعي وصححه الترمذي وابن حبان وابن الجاورد والحاكم وابن القطان وابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان" وفي رواية أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده بالعيب فقال: البائع غلة عبدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الغلة بالضمان" والمراد بالخراج الدخل والمنفعة أي يملك المشترى الخراج الحاصل من البيع بضمان الأصل الذي عليه أي بسببه وأما الرد بالغرر فلأن المشتري إنما رضي بالمبيع عند العقد قبل علمه بالغرر فإذا تبين له الغرر كشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي ومن ذلك المصراة فإنه يثبت الخيار فيها لوجود الغرر الكائن بالتصرية وهوحبس اللبن في الضروع ليخيل للمشتري غزارته فيغتر وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" وفي رواية مسلم وغيره "من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام وإن شاء أمسكها وإن شاء ردها ومعها صاعا من تمر لا سمراء" .
وأما كونه يجوز رد ما يتراضيان عليه فلأن حق الآدمي مفوض إليه فإذا رضي بأخذ عوض عنه جاز ذلك كما لو رضي بإسقاطه أو بعضه.
وأما كونه يثبت بالخيار لمن خدع فإن كان مع شرط عدم الخداع فلا ريب في ذلك لما تقدم من حديث ابن عمر أن رجلا كان يخدع في البيوع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من بايعت فقل لا خلابة" وهو في الصحيحين وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لحيان بن منقذ الذي كان يخدع في البيوع الخيار ثلاثة أيام" كما في حديث ابن عمر في رواية منه وكذلك في حديث غيره وأما إذا لم يشترط فالبيع الذي وقع ليس هو البيع المسلم إلى المسلم بل هو مشتمل على الخبث والخداع

(2/265)


والغائلة فللمخدوع الخيار لكونه كذلك ويكون الخداع كشفا عن عدم الرضا المحقق الذي هو المناط كما تقدم تقريره.
وأما كونه يثبت الخيار لمن باع قبل وصول السوق فلحديث أبي هريرة عند مسلم رحمه الله تعالى و غيره قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق1".
وأما كونه لكل واحد من المبتايعين الخيار إذا وقع البيع على صورة منهي عنها كتلك الصور المتقدمه فوجهه أن النهى إن كان مقتضيا للفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول فوجود العقد كعدمه وهو غير لازم لواحد منهما فالرد بالخيار هو بمعنى الرد لما هو غير لازم وإن كان النهي غير مقتض للفساد فوقوع العقد على صورة من تلك الصور إن رضيه كل واحد منهما فقد حصل المناط الشرعي وهو الرضا وإن لم يحصل منهما الرضا أو من أحدهما لوقوعه على وجه يخالف الشرع فقدْ فقدَ المناط.
وأما كون من اشترى شيئا لم يره فله الرد إذا رآه فلحديث أبي هريرة مرفوعا "من اشترى مالم يره فله الخيار إذا رآه" أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي وهو ضعيف ولكنهما أخرجا عن مكحول مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وفي إسناده أيضا أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف و مثل هذا لا تقوم به الحجة ولكن الخيار في الغالب يمكن الاستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر فإن مالم يقف الإنسان على حقيقته لايخلو عن نوع غرر سواء كان بعناية البائع أم لا وأيضا لا بد من حصول المناط الشرعي وهو التراضي فإذا لم يرض المشتري بالبيع عند رؤيته فقد الرضا فعدم المصحح.
وأما كون له رد ما اشتراه بخيار وذلك نحو يشتري شيئا على أن له فيه الخيار مدة معلومة فلما ورد في الأحاديث الصحيحة الواردة في خيار المجلس
ـــــــ
1وتلقي الجلب هو أن يقدم ركب بتجارة فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد ويعرفوا السعر فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد وهو مظنة ضرر للبائع وله الخيار إذا عثر على الضرر.

(2/266)


بلفظ كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار بهذا المعنى ولكنه قد اختلف في تفسير بيع الخيار فقيل هذا وقيل غيره ويؤيده ثبوت الشرط ماتقدم من حديث من كان يخدع في البيوع ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: له إذا بايعت فقل لاخلابة وفي بعض الروايات ولك الخيار ثلاثة أيام وقد تقدم ذلك وأما كونه إذا اختلف البيعان فالقول ما يقوله: البائع فلحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وصححه الحاكم وابن السكن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول مايقوله صاحب السلعة أو يترادان" وفي لفظ "والمبيع قائم بعينه" وفي لفظ "إذا اختلف البيعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع" وفي لفظ "ولابينة بينهما" وفي الباب روايات كثيرة قد استوفيتها في شرح المنتقى وحاصلها يفيد أن القول قول البائع وقد قيل أن هذا الحديث مخصص لأحاديث أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين وسيأتي وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه وقد اختلف أهل العلم في ذلك اختلافا طويلا.

(2/267)


باب السلم
هو أن يسلم رأس المال في مجلس العقد على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوما إلى أجل معلوم ولايأخذ إلاما سماه أو رأس ماله و لايتصرف قبل قبضه.
أقول: السلم هو نوع مخصوص من أنواع البيع فلا يجوز أن يكون المالان مؤجلين لأن ذلك هو بيع الكالئ بالكالئ وقد تقدم المنع منه فلا بد أن يكون رأس المال مدفوعا عند العقد وقد وقع الإتفاق على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس وقد شرط في السلم جماعة من أهل العلم شروطا لم يدل عليها دليل.
وأما اعتبار أن يكون المسلم فيه معلوما والأجل معلوما فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وأخرج أحمد والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزي وعبد الله بن أبي أوفى قالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى وقيل أكان لهم زرع أو لم يكن قالا ماكنا نسألهم عن ذلك" وفي لفظ لأحمد وأهل السنن إلا الترمذي وما نراه عندهم.
وأما كونه لا يأخذ إلا ما سماه أو رأس المال فلحديث ابن عمر عند الدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسلف شيئا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه" وفي لفظ "من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله" .

(2/268)


وأما كونه لا يتصرف فيه قبل قبضه فلما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره" وفي إسناده عطية بن سعيد العوفي وفيه مقال، والمعنى أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه ولا يجوز بيعه قبل قبضه وقد اختلف أهل العلم في ذلك.

(2/269)


باب القرض
يجب إرجاع مثله ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطا ولايجوز أن يجر القرض نفعا لمقرض.
أقول: أما وجوب رد المثل فلأنه إذا وقع التواطؤ على أن يكون القضاء زائدا على أصل الدين فذلك هو الربا بل قد ورد مايدل على أن مجرد الهدية من المستقرض للمقرض ربا كما أخرجه البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال: "قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال: لي إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدي إليك حمل بر أو حمل شعير أو حمل قت فلاتأخذه فإنه ربا".
وأما كونه يجوز أن يكون القضاء أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطا فلحديث جابر في الصحيحين قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني" وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة قال: "كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه فطلبوا سنة فلم يجدوا إلاسنا فوقها فقال: أعطوه فقال: أوفيتني أوفاك الله" فقال: النبي "إن خيركم أحسنكم قضاء" وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث أبي رافع وهذان الحديثان كما يدلان على جواز أن يكون القضاء أفضل يدلان على أنه لايصح قرض الحيوان وإليه ذهب الجمهور ومنع من ذلك الهدوية.
وأما كونه لايجوز أنم يجر القرض نفعا للمقرض فلحديث أنس عند ابن ماجه أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه حمله على الدابة فلا يركبها ولا

(2/270)


يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" وفي إسناده يحيى ابن إسحاق الهنائى وهو مجهول وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد العتبي وقد ضعفه أحمد والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف وقد أخرج البخاري في التاريخ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقرض فلا يأخذ هدية" وأخرج البيهقي عن ابن مسعود وأبي كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس في السنن الكبرى موقوفا عليهم أن كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجه الربا" وأخرج البيهقي أيضا نحو ذلك في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا عليه وقد تقدم ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن سلام وقد أخرجه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة" وفي رواية "كل قرض جر منفعة فهو ربا" وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك وفي الباب من الأحاديث والآثار مايشهد بعضها لبعض.

(2/271)