الدراري المضية شرح الدرر البهية

كتاب الطلاق
الطلاق
*
...
كتاب الطلاق
وهو جائز من مكلف مختار ولو هازلا لمن كانت في طهر لم يمسها فيه ولا طلقها في الحيضة التي قبله أو في حمل قد استبان ويحرم إيقاعه على هذه الصفة وفي وقوعه ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة خلاف والراجح عدم الوقوع.
أقول: أما جواز الطلاق فبنص الكتاب العزيز ومتواتر السنة المطهرة وإجماع المسلمين وهو قطعي من قطعيات الشريعة ولكنه يكره مع عدم الحاجة وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" وأخرج أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي قال: "أبغض الحلال عند الله عز وجل الطلاق".
وأما كونه من مكلف مختار فلأن أمر الصغير إلى وليه وطلاق المكره لا حكم له والأدلة على هاتين المسألتين مقررة في مواضعها.
وأما كونه يقع من الهازل فلحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك وهو مختلف فيه وفي الباب عن فضالة بن عبيد عند الطبراني مرفوعا " ثلاث لا يجوز فيهن اللعب الطلاق والنكاح والعتق" وفي إسناده ابن لهيعة وعن عبادة بن الصامت عند الحارث بن أبي أسامة في سنده مرفوعا بنحوه وزاد "فمن قالهن فقد وجبن" وفي إسناده انقطاع وعن أبي ذر عند عبد الرزاق رفعه "من طلق وهو لا عب فطلاقه جائز ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز" وفي إسناده أيضا

(2/221)


انقطاع وعن على موقوفا عند عبد الرزاق أيضا وعن عمر مرفوعا عنده أيضا وهذه الأحاديث يقوى بعضها بعضا.
وأما كون اعتبار أن يكون في طهر لم يمسها فيه إلخ فلحديث ابن عمر عند مسلم وأهل السنن وأحمد أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" وفي لفظ أنه قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله" وهو في الصحيحين وغيرهما وفي رواية في الصحيح أنه قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قبل عِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وللحديث ألفاظ ووقع الخلاف بين الرواة هل حسبت تلك الطلقة أم لا؟ ورواية عدم الحسبان لها أرحج وقد أوضحت هذه المسألة في شرح المنتقى وفي رسالة مستقلة والخلاف طويل والأدلة كثيرة والراجح عدم وقوع البدعي لما ذكرناه هنالك وقد روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس ذلك شيء" وقد روى ابن حزم في المحلى بسنده المتصل إلى ابن عمر أنه قال: في الرجل يطلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك وإسناده صحيح وقد تابع أبا الزبير الراوي لعدم الحسبان لتطليقة ابن عمر المذكورة في الحديث أربعة عبد الله بن عمر العمري ومحمد بن عبد العزيز أبي رواد ويحيى بن سليم وإبراهيم بن أبي حسنه ولو لم يكن في المقام إلا قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وقد تقرر أن الأمر بالشيء نهى عن ضده والنهي يقتضي الفساد وقول الله تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] والمطلق على غير ما أمر الله به لم يسرح بإحسان وقد ذهب إلى عدم الوقوع جماعة من السلف كالباقر والصادق وابن علية وإليه ذهب ابن حزم وابن تيمية وذهب

(2/222)


الجمهور إلى الوقوع وأما وقوع الثلاث دفعة أو عدمه فقد ذهب الجمهور إلى أنه يقع أن الطلاق يتبع الطلاق وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة وقد حكى ذلك عن أبي موسى وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والناصر والباقر وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى ورواية عن على ورواية عن زيد ابن علي وإليه ذهب ابن تيمية وابن القيم وحكاه ابن مغيث في كتاب الوثائق عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير وحكاه أيضا عن جماعة من مشايخ قرطبة ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس واستدل الجمهور بحديث ركانة بن عبد الله أنه طلق امرأته سهيمة ألبتة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أردت إلا واحدة قال: والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه وأخرجه الشافعي وأبوداود والترمذي وصححه أبو داود وابن حبان والحاكم وفي إسناده الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد وقيل إنه متروك وقد ورد ما يدل على أن الطلاق يتبع الطلاق وليس في الصحيح شيء من ذلك وأرجح من الجميع حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم أن الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر الثلاث واحدة فلما كان عهد عمر تتابع الناس فأجازه عليهم.

(2/223)


فصل في بيان أنه إذا طلق الرجل امرأته فهو أحق برجعتها
ويقع بالكناية مع النية وبالتخيير إذا اختارت الفرقة وذا جعله الزوج إلى غيره وقع منه ولا يقع بالتحريم والرجل أحق بامرأته في عدة طلاقها يراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيا ولا تحل له بعد الثلاث حتى تنكح زوجا غيره .

(2/223)


أقول: أما وقوعه بالكناية فلحديث عائشة عند البخاري وغيره أن ابنة الجون لما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك قال: لها " لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك" وفي الصحيحين وغيرهما في حديث تخلف كعب بن مالك "لما قيل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقال: أطلقها أم ماذا أفعل قال: بل اعتزلها فلا تقربها فقال: لامرأته الحقي بأهلك" فأفاد الحديثان أن هذه اللفظة تكون طلاقا مع القصد ولا تكون طلاقا مع عدمه.
وأما كون الطلاق يقع بالتخيير فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب:28] الآية {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } [الأحزاب:29] الآية وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لما نزلت الآية فخيرهن" وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت: "خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدها شيئا" وفي المسألة خلاف وهذا هو الحق وبه قال: الجمهور.
وأما كونه إذا جعله الزوج إلى غيره وقع منه فلأنه توكيل بالايقاع وقد تقرر جواز التوكيل من غير فرق بين الطلاق وغيره فلا يخرج من ذلك إلا ما أخصه دليل وسئل أبو هريرة وابن عباس وعمرو بن العاص عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه فأجازوا طلاقه كما أخرجه أبو بكر البرقاني في كتابه المخرج على الصحيحين.
وأما كونه لا يقع بالتحريم فلما في الصحيحين عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} وأخرج عنه النسائي أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما فقال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة".

(2/224)


وأخرج النسائي أيضا بإسناد صحيح عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] الآية" وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ماذكر وفي هذه المسألة نحو ثمانية عشر مذهبا والحق ما ذكرناه وقد ذهب إليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم وهذا إذا أراد تحريم العين وأما إذا أراد الطلاق بلفظ التحريم غير قاصد لمعنى اللفظ بل قصد التسريح فلا مانع من وقوع الطلاق بهذه الكناية كسائر الكنايات.
وأما كون الرجل أحق بامرأته في عدة طلاقه إلخ فلحديث ابن عباس عند أبي داود والنسائي في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228] الآية قال: "وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } [البقرة:229] وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال: وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال الرجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبدا قالت: وكيف ذلك قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرها فسكتت حتى جاء النبي فأخبرته فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] قالت: عائشة فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يكن طلق" وأخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي والطبراني عن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة وأشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد".

(2/225)


وأما كونها لا تحل له بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره فلقوله تعالى :{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] ولما في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" وهو مجمع على ذلك.

(2/226)


باب الخلع
إذا خالع الرجل امرأته كان أمرها إليها لا ترجع إليه بمجرد الرجعة ويجوز بالقليل والكثير مالم يجاوز ماصار إليها منه فلا ولا بد من التراضي بين الزوجين على الخلع أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما وهو فسخ وعدته حيضة.
أقول: أما كون أمرها إليها بعد الخلع فلحديث ابن عباس عند البخاري وغيره أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته" قالت نعم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقبل الحديقة وطلقها" وفي رواية لابن ماجه والنسائي بإسناد رجاله ثقات أنها قالت: "لا أطيقه بغضا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته قالت له نعم: فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الحديقة ولا يزداد" وفي رواية للدارقطني بإسناد صحيح أن أبا الزبير قال: إنه كان أصدقها حديقة فقال: النبي صلى الله عليه وسلم أتردين حديقته التي أعطاك ؟ قالت: نعم وزيادة فقال: النبي صلى الله عليه وسلم أما الزيادة فلا ولكن حديقته قالت: نعم" فهذه الفرقة إنما كانت بسبب ماافتدت به المرأة فلو لم يكن أمرها إليها كانت الفدية ضائعة وقد أفاد ماذكرناه أنه لايجوز للزوج أن يأخذ منها اكثر مما صار إليها منه وقد ذهب إلى هذا على وطاوس وعطاء والزهري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق والهادوية وذهب الجمهور إلى أنه لايجوز أن يأخذ منها زيادة على ما أخذت منه استدلالا بقوله

(2/227)


تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] فإنه عام للقليل والكثير ويجاب بأن الروايات المتضمنة للنهي عن الزيادة مخصصة لذلك وأما ما أخرجه البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أتردين حديقته" قالت: وأزيد عليها فردت عليه حديقته وزادته" ففي إسناده ضعف مع أنه لا حجة فيه لأنه لم يقررها على تسليم الزيادة وأيضا قوله تعال : {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}[ البقرة:229] يدل على منع الأخذ مما آتيتموهن إلا مع ذلك الأمر فلا بأس أن تأخذوا مما آتيتموهن لا كله فضلا عن زيادة عليه.
وأما كونه لا بد من التراضي بين الزوجين فلقوله تعالى : {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]
وأما اعتبار إلزام الحاكم فلارتفاع ثابت وامرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلزامه بإن يقبل الحديقة ويطلق ولقوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] وهذه الآية كما تدل على بعث حكمين تدل على اعتبار الشقاق في الخلع ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229] ويدل عليه قصة امرأة ثابت المذكورة وقولها أكره الكفر بعد الإسلام وقولها لا أطيقه بغضا فلهذا اعتبرنا الشقاق في الخلع.
وأما كونه فسخا فلحديث الربيع بنت معوذ عند النسائي في قصة امرأة ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "خذ الذي لها عليك وخل سبيلها قال: نعم فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة واحدة وتلحق بأهلها" ورجال إسناد كلهم ثقات ولها حديث آخر عند الترمذي والنسائي وابن ماجه أن النبي صلى أمرها أن تعتد بحيضة" وفي إسناد محمد بن إسحاق قد صرح بالتحديث.

(2/228)


وأخرج الترمذي1 وأبوداود وحسنه عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة" وأخرج الدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح عن أبي الزبير وفيه "فأخذها وخلى سبيلها" قال: الدارقطني سمعه أبو الزبير من غير واحد فهذه الأحاديث كما تدل على أن العدة في الخلع حيضة تدل على أنه فسخ لأن عدة الطلاق ثلاث حيض وأيضا تخلية السبيل هي الفسخ لا الطلاق وأما ما وقع في بعض روايات الحديث أنه طلقها تطليقة فقد أجيب عن ذلك بجوابات طويلة وقد أودعتها شرح المنتقى فليرجع إليه.
ـــــــ
1 بتقديم أبي داود فلينظر. !هـ من هاشم الأصل.

(2/229)


باب الايلاء
هو أن يحلف الزوج على جميع نسائه أو بعضهن لا أقربهن فإن وقت بدون أربعة أشهر اعتزل حتى ينقضي ما وقت به وإن وقت بأكثر منها خير1 بعد مضيها أن يفئ أو يطلق.
أقول: أما كون الإيلاء هو حلف الزوج لا أقرب بعض نسائي أو كلهن فظاهر.
وأما كونه يصح التوقيت بدون أربعة أشهر فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا ثم دخل بهن بعد ذلك".
وأما أن وقت بأكثر من أربعة أشهر يخير بعد مضيها بين الفيء أو الطلاق فلقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] الآية وقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق" قال البخاري: ويذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء
ـــــــ
1 قلت: ترك لو لم يوقت أصلا ومضت أربعة أشهر ! هـ. من هامش الأصل.

(2/229)


وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي وأخرج الدارقطني عن سليمان بن يسار قال: "أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقفون المولى" وأخرج أيضا عن سهيل بن أبي صالح عن ابيه قال: "سألت اثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يولى قال:وا ليس عليه شيء حتى تنقضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلاطلق" وقد اختلف في مقدار مدة الإيلاء فذهب الجمهور إلى أنها أربعة أشهر فصاعدا قال:وا فإن حلف على أنقص منها لم يكن موليا واحتجوا بالآية وهي لاتدل على مطلوبهم لأنها لبيان المدة التي تضرب للمولى ليفئ بعدها أو يطلق وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم الإيلاء شهرا ودخل على نسائه بعده فلو كان الإيلاء أربعة أشهر فصاعدا ولايصح أقل منها لم يقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك وقد ذهب إلى جواز الإيلاء دون أربعة أشهر جماعة من أهل العلم وهو الحق.

(2/230)


باب الظهار
الظهار
...
باب الظهار
هو قول الزوج لإمرأته: أنت علي كظهر أمي أو ظاهرتك أو نحو ذلك فيجب عليه قبل أن يمسها أن يكفر بعتق رقبة وإن لم يجد1 فليطعم ستين مسكينا فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ويجوز للإمام أن يعينه من صدقات المسلمين إذا كان فقيرا لا يقدر على الصوم وله أن يصرف منها لنفسه وعياله وإذا كان الظهار مؤقتا فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت أو قبل التكفير كف حتى يكفر في المطلق ويقضي وقت المؤقت.
أقول: الدليل على ما أشتمل عليه هذا الباب من التكفير على هذا الترتيب ما في القرآن الكريم وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سلمة بن صخر لما ظاهر من
ـــــــ
1 أقول وقع هنا سبق قلم، وإلا فالصوم مقدم على الإطعام، وقد وجدته هكذا في نسخته الأصل وغيرها ! هـ. من هامش الأصل.

(2/230)


امرأته ثم وطئها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة فقال: لا والذي بعثك بالحق ما أصيحت أملك غيرها وضرب صفحة رقبته قال: "فصم شهرين متتابعين" قال: يارسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم قال: فتصدق قال: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا ما لنا عشاء قال: "اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك فأطعم منها وسقا من تمر ستين مسكينا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن خزيمة وابن الجاورد وفي لفظ منه لأبي داود "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كله أنت وأهلك" وأخرج نحو أهل السنن وصححه الترمذي من حديث ابن عباس وصححه أيضا الحاكم قال ابن حجر: رجاله ثقلت لكن أعله أبو حاتم والنسائي بالإرسال وقال ابن حزم: رواته ثقات ولا يضره إرسال من أرسله وللمحدثين شواهد وأخرج نحوه أبوداود وأحمد من حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث عائشة وأخرجه الحاكم أيضا وقد قام الإجماع على أن الكفارة تجب بعد العود لقوله تعالى : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [القصص:3] واختلفوا هل العلة في وجوبها العود أو الظهار واختلفوا أيضا هل المحرم الوطء فقط أم هو مع مقدماته فذهب الجمهور إلى الثاني لقوله: تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [القصص:3] وذهب البعض إلى الأول قالوا لأن المسيس كناية عن الجماع واختلفوا في العود ماهو فقال: قتادة وسعيد بن جبير وأبو حنيفة وأصحابه والعترة أنه إرادة المسيس لما حرم بالظهار لأنه إذا أراد فقد عاد من عزم الترك إلى عزم الفعل سواء فعل أم لا وقال: الشافعي بل هو إمساكها بعد الظهار وقتا يسع الطلاق ولم يطلق إذ تشبيهها بالأم يقتضي إبانتها وإمساكها نقيضه وقال مالك وأحمد: بل هو العزم على الوطء فقط وإن لم يطأ وقد وقع الخلاف أيضا إذا وطء المظاهر قبل التكفير فقيل يجب عليه كفارتان وقيل ثلاث وقيل تسقط الكفارة وذهب الجمهور إلى أن الواجب كفارة واحدة وهو الحق كما تفيده الأدلة المذكورة.

(2/231)


وأما كونه يكف إذا وطئ قبل التكفير إلخ فلحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للمظاهر الذي وطئ امرأته " لا تقربها حتى تفعل ماأمرك الله" أخرجه أهل السننن وصححه الترمذي والحاكم وأما صحة الظهار المؤقت فلتقريره صلى الله عليه وسلم لسلمة بن ضخر لما قال له: إنه ظاهر من امرأته إلى أن ينسلخ رمضان وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه ابن خزيمة وابن الجارود كما تقدم وظاهر القرآن أنه لا يوجب الكفارة إلا العود فاظهار المؤقت إذا انقضى وقته لم يكن إرادة الوطء عودا فلا تجب فيه كفارة وأما إذا كان الموجب للكفارة قول المنكر والزور فهي واجبة في مطلق مؤقت لأنه قدم القول بمجرد إيقاع الظهار

(2/232)


فصل في اللعان
إذا رمى الرجل امرأته بالزنا ولم تقر بذلك ولا رجع عن رميه لاعنها فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وإذا كانت حاملا أو كانت قد وضعت أدخل نفى الولد في أيمانه ويفرق الحاكم بينهما وتحرم عليه أبدا ويلحق الولد بأمه فقط ومن رماها به فهو قاذف.
أقول: حكم اللعان مذكور في الكتاب العزيز قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] الآية وأما اشتراط عدم إقرار المرأة بالزنا وعدم رجوع الرجل عن الرمي فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث المتلاعنين على ذلك ففي الصحيحين وغيرهما أنه وعظ الزوج وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة" فإذا أقرت المرأة كان عليها حد الزاني المحصن إذا لم يكن

(2/232)


هناك شبهة وإذا أقر الرجل بالكذب كان عليه حد القذف وأما كيفية اليمين فكما في الباب وقد نطق بذلك الكتاب العزيز والسنة المطهرة في ملاعنته صلى الله عليه وسلم بين عويمر العجلاني وامرأته وبين هلال بن أمية وامرأته.
وأما كونه يدخل نفي الولد في أيمانه فلم يكن ذلك في الكتاب العزيز ولا وقع في الملاعنة الواقعة في زمنه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن هناك حمل ولا ولد.
وأما كونه يفرق الحاكم بينهما ثم لا يجتمعان أبدا1 ففي حديث حسنه سهل بن سعد عند أبي داود قال: مضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا وفي حديث ابن عباس عند الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا" وأخرج نحوه عنه أبو داود وفي الصحيحين وغيرهما أن عويمر طلق امرأته ثلاث تطليقات قبل أن يأمره صلى الله عليه وسلم قال: ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين.
وأما كون الولد يلحق أمه ويحد قاذفها فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله في ولد المتلاعنين أن يرث أمه وترثه أمه ومن رماها به جلد ثمانين" أخرجه أحمد وفي إسناده محمد بن إسحاق2 وبقية رجاله ثقات ويؤيد هذا الحديث الأدلة الدالة على أن الولد للفراش ولا فراش هنا والأدلة دالة على وجوب حد القذف والملاعنة داخلة في المحصنات لم يثبت عليها ما يخلف ذلك وهكذا من قذف ولدها فإنه كقذف أمه يجب الحد على القاذف.
ـــــــ
1هكذا في هامش الأصل من غير تصحيح عليه، وفي نسخة أخرى، وأما كونه يفرق الحاكم بينهما ثم لا يجتمعان أبدا ففي حديث ابن عباس إلى آخره من غير هذه الزيادة !هـ. هامش الأصل.
2 أقول: ومحمد بن إسحاق إمام ثقة وإنما هو مدلس، أما إذا صرح بالحديث فهو من جملة من يصحح حديثه الأئمة ! هـ. من هامش الأصل.

(2/233)


باب العدة والإحداد
العدة والإحداد
...
باب العدة والإحداد
هي للطلاق من الحامل بالوضع ومن الحائض بثلاث حيض ومن غيرهما بثلاثة أشهر وللوفاة بأربعة أشهر وعشر وإن كانت حاملا فبالوضع ولاعدة على غير مدخولة والأمة كالحرة وعلى المعتدة للوفاة ترك التزين والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها أبو بلوغ خبره.
أقول: أما اعتداد الحامل بالوضع فلقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وأما اعتداد الحائض بثلاث حيض فلقوله: تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وهي الحيض كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: "دعي الصلاة أيام أقرائك" والقرء وإن كان في الأصل مشتركا بين الأطهار والحيض كقوله: صلى الله عليه وسلم: "تعتد بثلاث حيض" وقوله: "تجلس أيام أقرائها" وقوله: "وعدتها حيضتان" وسيأتي.
وأما غيرهما أي الحامل والحائض وهي الصغيرة والكبيرة التي لا حيض فيها أو التي انقطع حيضها بعد وجوده فإنها تعتد بثلاثة أشهر لقوله: تعالى {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] الآية وقد وقع الخلاف في منقطعة الحيض لعارض فقيل إنها تتربص حتى يعود فتعتد بالحيض أو تيأس فتعتد بالأشهر، والحق ما ذكرناه، لأنه يصدق عليها عند الانقطاع أنها من اللائي لم يحضن.

(2/234)


وأما كون عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا فلقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] هذا في غير الحامل وأما الحامل فبوضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق:4] وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكمل البيان ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة "أن امرأة من أسلم يقال: لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفي عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه فقال: والله مايصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين فمكثت قربيا من عشر ليالي ثم نفست ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انكحي" وأخرج البخاري عن ابن مسعود المتوفى عنها زوجها وهي حامل قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تحعلون لها الرخصة نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وقد أخرج أحمد والدارقطني من حديث أبي كعب قال: قلت يا رسول الله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن للمطلقة ثلاثا وللمتوفي عنها؟ قال: "هي للمطلقة وللمتوفى عنها" وأخرجه أبو يعلي والضياء في المختارة وابن مردويه وفي إسناده المثنى بن الصباح وثقة ابن معين وضعفه الجمهور فرجع وقد أخرج ابن ماجه عن الزبير بن العوام أنها كانت عنده أم كثلوم بنت عقبة فقالت له: وهي حامل طيب نفسي بتطليقة فطلقها ثم خرج إلى الصلاة فرجع وقد وضعت فقال: مالها خدعتني خدعها الله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "سبق الكتاب أجله اخطبها إلى نفسها" ورجال إسناده رجال الصحيح إلا محمد بن عمر بن هياج وهو صدوق لا بأس به وقد تمسك بعض الصحابة بالآيتين فجعل عليها أطول الأجلين فقال: إذا وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة حتى تضع وبه قال جماعة من أهل العلم والحق أن عدة الحامل بالوضع في الطلاق والوفاة للأدلة التي ذكرناها وهي نصوص في محل النزاع ومبينة للمراد وأما كون غير المدخولة لا عدة عليها فلقوله تعالى في غير الممسوسات: {فَمَا

(2/235)


لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] وأما كون عدة الأمة كالحرة فلحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" أخرجه الترمذي وأبو داود والبيهقي قال: فيه أبو داود وهو حديث مجهول وقال: الترمذي حديث غريب ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لايعرف له في العلم غير هذا الحديث انتهى.
وأخرج ابن ماجه والدارقطني ومالك في المؤطا والشافعي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان" وفي إسناده عمرو بن شعيب وعطية العوفي وهما ضعيفان وصحح الدارقطني أنه موقوف على ابن عمر وأخرج أحمد عن علي نحو ذلك وإذا كان الصحيح الوقف فيما عدا حديث عائشة فلم يكن بالباب ما تقوم به الحجة لأن حديث عائشة ضعيف كما عرفت فوجب الرجوع إلى أدلة الكتاب والسنة المشتملة على تفصيل العدد وهي غير مختصة بالحرائر وأما كون على المعتدة للوفاة ترك التزين فلحديث أم سلمة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا" وفي الباب عن أم حبيبة وزنيب بنت حجش في الصحيحين وغيرهما فيهما أيضا من حديث أم سلمة أن امرأة توفي زوجها فخشوا على عينها فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فقال: "لا تكتحل كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها أو شر بيتها فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة فلا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر" وفي الصحيحين من حديث أم عطية قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا

(2/236)


من حيضها في نبذة من كست أظفار" وفي الباب أحاديث وقد روى ما يعرض هذه الأحاديث فأخرج أحمد وابن حبان وصححه من حديث أسماء بنت عميس قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب فقال: لا تحدي بعد يومك هذا" وهي كانت امرأته بالإتفاق وقد أجيب بأنه حديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة وقد وقع الإجماع على خلافه وقيل إنه منسوخ وقد أعله البيهقي بالإنقطاع وهذه الأحاديث المؤقتة في الإحداد بأربعة أشهر وعشر هي في غير الحامل وأما هي فعليها ذلك حتى تنقضي عدتها بالوضع وأما كون عليها المكث في البيت الذي كانت فيه إلخ فلحديث فريعة1
بنت مالك عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم قالت: خرج زوجي في طلب أعلاج فأدركهم في طريق القدوم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت له إن نعي زوجي أتاني وأنا في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع لي نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له فلو تحولت إلى دور أهلي وإخوتي لكان أرفق بي في بعض شأني قال: تحولي فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني أو أمر بي فدعيت فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت: فاعتدت أربعة أشهر وعشرا" وفي بعض ألفاظه أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك فأخبرته فأخذ به وقد أعل هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به وأخرج النسائي وأبو داود وغزاه المنذري إلى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] نسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله عليها من الربع والثمن ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا وقد ذهب إلى العمل بحديث فريعة جماعة من الصحابة فمن بعدهم وقد روى جواز الخروج للعذر عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم
ـــــــ
1بضم الفاء وفتح الراء وسكون المثناة التحتية وعن مهملة أخت أبي سعيد الخدري شهدت بيعة الرضوان ولها رواية في سبل السلام !هـ. من هامش الأصل.

(2/237)


وقد روى جواز الخروج للعذر عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم ولم يأت من أجاز ذلك بحجة تصلح لمعارضة حديث فريعة وغاية ما هناك روايات عن بعض الصحابة وليست بحجة لا سيما إذا عارضت المرفوع وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلا أن رجالا استشهدوا بأحد فقال: نساؤهم يا رسول الله إنا نستوحش في بيوتنا افنبيت عند إحدانا فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوى كل واحدة إلى بيتها وهذا مع إرساله لا تقوم به الحجة.

(2/238)


فصل في الترهيب في وطء السبايا
ويحب استبراء الأمة المسبية والمشتراه ونحوهما بحيضة إن كانت حائضا والحامل بوضع الحمل ومنقطعة الحيض حتى يتبين عدم حملها ولا تستبرأ بكر ولاصغيرة ولا يلزم البائع ونحوه.
أقول: أما المسبية فلما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاوس: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة" لما أخرجه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يعلن الذي أراد وطء امرأة حامل من السبى لعنة تدخل معه قبره" وأخرج الترمذي من حديث العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن" وأخرج ابن أبي شيبة من حديث علي قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ حامل ختى تضع ولا توطأ حائل حتى تستبرئ بحيضة" وفي إسناده ضعف وانقطاع وأخرج أحمد والطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره" وفي إسناده بقية وحجاج بن أرطأة وهما مدلسان وهو يشمل المسبية وغيرهما كالمشتراه والموهوبة وكذلك حديث رويفع بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم

(2/238)


الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره" أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن أبي شيبة والدارمي والطبراني والبيهقي والضياء المقدسي وابن حبان وصححه والبزار وحسنه وهو كما يتناول الحامل المشتراة ونحوها كذلك يتناول من يجوز حملها من الغير كائنا من كان لأن العلة كونه يسقس ماءه ولد غيره وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم وقال :"لا تسق ماءك زرع غيرك" وأصله في النسائي و أخرج البخاري عن ابن عمر "إذا وهبت الوليدة أو بيعت أو أعتقت فلتستبرأ بحيضة ولا تستبرأ العذراء" ويدل على استبراء المشتراة التي هي حامل أو التي جوز حملها الأدلة الواردة في المسبية لأن العلة واحدة وأما العذراء والصغيرة فليستا ممن يصدق تلك العلة وإن كان حمل البالغة العذراء ممكنا مع بقاء البكارة ولكنه في غاية الندرة فلا اعتبار به وأما ما أخرجه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى اليمن ليقبض الخمس فاصطفى على منه سبية فأصبح وقد اغتسل ثم بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره" بل قال: في بعض الروايات لنصيب على أفضل من وصيفة فيحمل على أنها كانت صغيرة أو بكرا جمعا بين الأدلة وأنه قد كان مضى لها من وقت من السبى ما تبين به أنها غير حامل وأما كون منقطعة الحيض تستبرأ حتى يتبين عدم حملها فلأنه لا يمكن العلم بعدم الحمل إلا بذلك إذ لا حيض بل المفروض أنه منقطع لعارض أو أنها ضهيأ، وأما من قد بلغت سن اليأس من المحيض قفد صار حملها مأيوسا كحيضها ولا اعتبار بالنادر.
وأما كونه لا استبراء على البائع فلعدم الدليل على ذلك لا بنص ولا بقياس صحيح بل هو محض رأي.

(2/239)


باب ما جاء في النفقة
تجب على الزوج للزوجة والمطلقة رجعيا ولا بائنا ولا في عدة الوفاة فلا نفقة ولا سكنى إلا أن يكون حاملين وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر والعكس وعلى السيد لمن يملكه ولا تجب على القريب لقربيه إلا من باب صلة الرحم ومن وجبت نفقته وجبت كسوته وسكناه.
أقول: أما وجوبها على الزوج للزوجة فلا أعرف في ذلك خلافا وقد أوجبها القرآن الكريم قال الله تعالى : {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء:5] وقد قرر دلالة هذه الآية على المطلوب الموزعي في تفسيره المسمى ببدر التمام في الآيات والأحكام ولحديث إذنه صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف" وهو في الصحيحين وغيرهما ولقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حق الزوجة على الزوج " أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت" وهو عند أهل السنن وغيرهم.
وأما وجوبها للمطلقة رجعيا فلحديث فاطمة بنت قيس أنه قال لها صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة" أخرجه أحمد والنسائي وفي لفظ لأحمد: "فإذا لم يكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى" وفي إسناده مجالد بن سعيد وقد توبع وأعل بالوقف ولكن الرفع زيادة مقبولة إذا صح مخرجها أو حسن وقد أثبت لها القرآن السكنى قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ويستفاد من النهي عن الاخراج

(2/240)


وجوب النفقة مع السكنى ويؤيده قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] ويدل على وجوب النفقة قوله: تعالى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241] وقوله تعالى في آخر الآية الأولى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] وهو الرجعة وكان ذلك في الرجعية.
وأما البائنة فلا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس عند مسلم رحمه الله وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا "لا نفقة لها ولا سكنى" وفي الصحيحين وغيرهما عنها أنها قالت: "طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى" وقد صح حديثها بلا نزاع وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أنه قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا " وقد أنكر عليها عمر وعائشة هذا الحديث وقال: عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت وقد قالت: فاطمة حين بلغها ذلك بيني وبينكم كتاب الله قال الله تعالى : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق:1] حتى قال: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] فأي أمر يحدث بعد الثلاث وقد ذهب إلى عدم وجوب النفقة والسكنى للبائنة أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأتباعهم وحكاه في البحر عن ابن عباس والحسن البصري وعطاء والشعبي وابن أبي ليلى والأوزاعي والإمامية والقاسم وذهب الجمهور إلى أنه لا نفقة لها ولها السكنى لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] وقد تقدم ما يدل على أنها في الرجعية وذهب عمر بن الحطاب وعمر بن عبد العزيز والثورى وأهل الكوفة والناصر والإمام يحيى إلى وجوب النفقة والسكنى.
وأما عدم وجوبها لمن في عدة الوفاة فلعدم وجود دليل يدل على ذلك في غير الحامل ولا سيما بعد قوله: صلى الله عليه وسلم "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة فإذا لم يكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى" ويؤيده أيضا في تعليل الآية المتقدمة بقوله: تعالى :{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}

(2/241)


[الطلاق:1] وهو الرجعة ولم يبق في عدة الوفاة ذلك الأمر ويفيده أيضا مفهوم الشرط في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] وهو أيضا يدل على وجوب النفقة للحامل سواء كانت في عدة الرجعي أو البائن أو الوفاة وكذلك يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس "لا نفقة لك إلا تكوني حاملا" وقد روى البيهقي عن جابر يرفعه في الحامل المتوفى عنها قال: "لانفقة لها" قال: ابن حجر ورجاله ثقات لكن قال: البيهقي المحفوظ وقفه ولوصح رفعه لكان نصا في محل النزاع وينبغي أن يقيد عدم وجوب السكنى لمن في عدة الوفاة بما تقدم في وجوب اعتدادها في البيت الذي بلغها موت زوجها وهي فيه فإن ذلك يفيد أنها إذا كانت في بيت الزوج بقيت فيه حتى تنقضي العدة ويكون ذلك جمعا بين الأدلة من باب تقييد المطلق أو تخصيص العام فلا إشكال.
وأما كونها تجب للولد على والده الموسر فلحديث هند بنت عتبة المتقدم ويؤيده ما تقدم في الفطرة من وجوبها على الرجل ومن يمون.
وأما وجوب نفقة الوالد على ولده الموسر فلأن النقفة هي أقل ما يفيده قوله تعالى : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" أخرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن الجاورد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه فكلوا من أموالهم" أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم ويؤيد ذلك حديث "من أبر يا رسول الله؟ قال: "أمك" قال: ثم من قال: "أمك" قال: ثم من قال: "أباك" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة. وأما وجوب النفقة على السيد لمن يملكه فلحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل مالا يطيق" وحديث "فليطعمه مما يأكل ويلسبه مما يلبس" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر.

(2/242)


وأما كونها لا تجب نفقة سائر القرابة إلا من باب صلة الرحم فلعدم ورود دليل يخص ذلك بل جاءت أحاديث صلة الرحم وهي عامة والرحم المحتاج إلى نفقة أحق الأرحام بالصلة وقد قال تعالى : {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] وأما كون من تجب نفقته تجب كسوته وسكناه فلما يستفاد من الآيات القرانية والأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها.

(2/243)


باب ما جاء في الرضاع
إنما يثبت حكمه بخمس رضعات من تيقن وجود اللبن وكون الرضيع قبل الفطام ويحرم به ما يحرم من النسب ويقبل قول المرضعة ويجوز إرضاع الكبير ولو كان ذا لحية لتجويز النظر.
أقول: أما كون الرضاع لا يثبت إلا بخمس رضعات فلحديث عائشة عند مسلم وغيره أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخ بخمس رضعات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن" وللحديث طرق ثابتة في الصحيح ولا يخالفه حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان" أخرجه مسلم وأحمد وأهل السنن وكذلك حديث أم الفضل عند مسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان والأملاجة والأملاجتان" وأخرج نحوه أحمد والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الزبير لأن غاية ما في هذه الأحاديث أن المصة والمصتين والرضعة والرضعتين والإملاجة والأملاجتين لا يحرمن وهذا هو معنى الأحاديث منطوقا وهو لا يخالف حدييث الخمس الرضعات لأنها تدل على أن ما دون الخمس لا يحرمن وأما معنى هذه الأحاديث مفهوما وهو أن يحرم مازاد على الرضعة والرضعتين فهو مدفوع لحديث الخمس وهي مشتملة على زيادة فوجب قبولها والعمل بها ولا سيما عند قول من يقول إن بناء الفعل على المنكر يفيد التخصيص والرضعة هي أن يأخذ الصبي الثدي فيمتص منه ثم يستمر على ذلك حتى يتركه باختياره لغير

(2/244)


عارض وقد ذهب إلى اعتبار الخمس ابن مسعود وعائشة وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وابن حزم وجماعة من أهل العلم وقد روى ذلك عن علي بن أبي طالب وذهب الجمهور إلى أن الرضاع الواصل إلى الجوف يقتضي التحريم وإن قل. وأما اعتبار تيقن وجود اللبن فلأنه سبب ثبوت حكم الرضاع فلو لم يكن وجوده معلوما وارتضاع الصبي معلوما لم يكن لإثبات حكم الرضاع وجه مسوغ.
وأما اعتبار كون الرضيع قبل الفطام فلحديث أم سلمة عند الترمذي وصححه والحاكم أيضا وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" وأخرج سعيد بن منصور والدارقطني والبيهقي وابن عدي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لارضاع إلا ماكان في الحولين" وقد صحح البيهقي وقفه ورحجه ابن عدي وابن كثير وأخرج أبو داود الطيالسي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام" وقد قال المنذري أنه لا يثبت وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت: "لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: من هذا قلت أخي من الرضاعة قال: يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة" .
وأما كونه يحرم به ما يحرم من النسب فقد تقدم الاستدلال عليه فيمن يحرم نكاحه من كتاب النكاح.
وأما كونه يقبل قول المرضعة فلما أخرجه البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث "أنه تزوح أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنى قال: فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: " وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما فنهاه " وفي لفظ "دعها عنك" وهو في الصحيح وفي لفظ آخر "كيف وقد قيل ففارقها عقبة " وقد

(2/245)


ذهب إلى ذلك عثمان وابن عباس والزهري والحسن وإسحاق والأوزعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وروى عن مالك.
وأما كونه يجوز إرضاع الكبير ولو كان ذا لحية لتجويز النظر فلحديث زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة "إنه يدخل عليك هذا الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت: عائشة مالك في رسول الله أسوة حسنه" وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: "يارسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه حتى يدخل عليك" أخرجه مسلم وغيره وقد أخرجه مسلم وغيره وقد أخرج نحوه البخاري من حديث عائشة وقد روى هذا الحديث من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وزينب بنت أم سلمة ورواه من التابعين جماعة كثيرة ثم رواه عنهم الجمع الجم وقد ذهب إلى ذلك علي وعائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن عيينة وداود الظاهري وابن حزم وهو الحق وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك.

(2/246)


باب الحضانة
...
باب ماجاء في الحضانة
الأولى بالطفل أمه مالم تنكح ثم الخالة ثم الأب ثم يعين الحاكم من القرابة من رأى فيهم صلاحا وبعد بلوغ سن الاستقلال يخير الصبي بين أبيه وأمه فإن لم يوجد أكفله من كان له في كفالته مصلحة.
أقول: أما الأم فلحديث عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يارسول الله إن ابني هذا كانت بطني له وعاء وحجري له حواء وثديى له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال: "أنت أحق به مالم تنكحي" أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه وقد وقع الإجماع على أن الأم أولى من الأب وحكى ابن المنذر الاجماع على أن حقها يبطل بالنكاح وقد روى عن عثمان أنه لا يبطل بالنكاح وإليه ذهب الحسن البصري وابن حزم واحتجوا ببقاء ابن أم سلمة في كفالتها بعد أن تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم ويجاب عن ذلك بأن مجرد البقاء مع عدم المنازع لا يحتج به لاحتمال أنه لم يبق له قريب غيرها واحتجوا أيضا بما سيأتي في حديث ابنة حمزة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن الحق لخالتها وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وقد قال: الخالة بمنزلة الأم ويجاب عن هذا بأنه لا يدفع النص الوارد في الأم ويمكن أن يقال: إن هذا يكون دليلا على ماذهبت إليه الحنفية والهادوية من أن النكاح إذا كان بمن هو رحم للصغير فلا يبطل به الحق ويكون حديث ابنة حمزة مقيدا لقوله: صلى الله عليه وسلم: "مالم تنكحي" .
وأما كون الخالة أولى بعد الأم ممن عداها فلحديث البراء بن عازب في الصحيحين وغيرهما أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد فقال علي:

(2/247)


أنا أحق بها هي ابنة عمي وقال: جعفر بنت عمي وخالتها تحتى وقال: زيد ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم" والمراد بقول زيد ابنة أخي أن حمزة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم آخي بينهما ووجه الاستدلال بهذا الحديث أنه قد ثبت بالإجماع أن الأم أقدم الحواضن فمقتضى التشبيه أن الخالة أقدم من غيرها من غير فرق بين الأب وغيره وقد قيل إن الأب أقدم منها إجماعا وليس ذلك بصحيح والخلاف معروف والحديث يحج من خالفه.
وأما إثبات حق الأب في الحضانة فهو وإن لم يرد دليل يخصه لكنه قد استفيد من قوله: صلى الله عليه وسلم للأم "أنت أحق به مالم تنكحي" فإن هذا يدل على ثبوت أصل الحق للأب بعد الأم ومن بمنزلتها وهي الخالة وكذلك إثبات التخيير بينه وبين الأم في الكفالة فإنه يفيد إثبات حق له في الجملة.
وأما كونه يعين الحاكم من القرابة من رأى فيه صلاحا فلأنه إذا عدمت الأم والخالة والأب والصبي محتاج إلى من يحضنه بالضرورة والقرابة أشفق به فيعين الحاكم من يقوم بأمره منهم ممن يرى فيه صلاحا للصبي وقد أخرج عبد الرزاق عن عكرمة قال: "إن امرأة عمر بن الخطاب خاصمته إلى أبي بكر في ولد عليها فقال: أبو بكر هي أعطف وألطف وأرحم وأحنى وهي أحق بولدها مالم تتزوج" فهذه الأوصاف تفيد أن أبا بكر رضي الله عنه جعل العلة العطف واللطف والرحمة والحنو.
وأما كونه يثبت التخيير للصبي بعد بلوغ سن الاستقلال بين الأم والأب فلحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه" وفي لفظ "أن امرأة جاءت فقالت: يارسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم استهما عليه قال: زوجها من يحاقني في ولدي فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت" فأخذ بيد أمه فانطلقت به" أخرجه أهل السنن وابن أبي شيبة وصححه الترمذي وابن حبان

(2/248)


وابن القطان وأخرج أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني من حديث عبد الحميد ابن جعفر الأنصاري عن جده أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم فجاء بابن صغير له لم يبلغ قال: فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب هاهنا والأم ههنا ثم خيره وقال: اللهم اهده فذهب إلى أبيه.
وأما كونه يكلفه من كان له في كفالته مصلحة إذا لم يوجد فلكونه محتاجا إلى ذلك ولم يوجد من له في ذلك حق بنص الشرع فكانت المصلحة معتبرة في مصلحة ابنه كما اعتبرت في ماله وقد دلت على ذلك الأدلة الواردة في أموال اليتامى من الكتاب والسنة.

(2/249)