الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية

 (الكتاب السادس: كتاب الصيام)

(2/5)


(6 - كتاب الصيام)
(1 - أحكام الصيام)
(الفصل الأول: وجوب صوم رمضان)
( [صيام رمضان ركن من أركان الدين] :)
(يجب صيام رمضان) وهو ركن من أركان الدين، وضروري من ضرورياته.
( [يجب صوم رمضان برؤية الهلال من عدل أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما] :)
(لرؤية هلاله من عدل) : لصيامه - صلى الله عليه وسلم -، وأمره للناس بالصيام لما أخبره عبد الله بن عمر أنه رآه، أخرجه أبو داود، والدارمي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -.
وصححه أيضا ابن حزم من حديث ابن عمر بلفظ: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه (1) .
__________
(1) • حديث صحيح. (ن)

(2/7)


وأخرج أهل " السنن "، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم من حديث ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان -، فقال: " أتشهد أن لا إله إلا الله؟ "، قال: نعم، قال: " أتشهد أن محمدا رسول الله؟ "، قال: نعم، قال: " يا بلال! أذن في الناس؛ فليصوموا غدا " (1) .
وأخرج الدارقطني، والطبراني من طريق طاوس، قال: شهدت المدينة؛ وبها ابن عمر وابن عباس، فجاء رجل إلى واليها، وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته؟ فأمراه أن يجيزه، وقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة الرجلين.
قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي؛ وهو ضعيف.
وقد ذهب إلى العمل بشهادة الواحد: ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، والشافعي في أحد قوليه.
قال النووي: وهو الأصح.
وذهب مالك، والليث، والأوزاعي، والثوري إلى أنه يعتبر اثنان،
__________
(1) • هذا الحديث صححه جماعة، وأعله الترمذي والنسائي بالإرسال؛ وهو الصواب، كما بينته في الفصل الثالث من " التعليقات الجياد " (ج 3) .
وله شاهد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجه المحاملي في (الثاني من الرابع) من " الأمالي " (ق 41 / 2) ، وسنده حسن بل صحيح؛ فقد أخرجه من طريقين، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن الرجل. (ن)

(2/8)


واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وفيه: " فإن شهد شاهدان مسلمان؛ فصوموا وأفطروا "، أخرجه أحمد، والنسائي.
وفي حديث أمير مكة الحارث بن حاطب، قال: عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية؛ فإن لم نره وشهد شاهدا عدل؛ نسكنا بشهادتهما "؛ أخرجه أبو داود، والدارقطني، وقال: هذا الإسناد متصل صحيح.
وغاية ما في الحديثين: أن مفهوم الشرط يدل على عدم قبول الواحد، ولكن أحاديث قبول الواحد أرجح من هذا المفهوم، وقد حققه الماتن - رحمه الله - في كتابه " إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال ".
ويؤيد وجوب العمل بخبر الواحد: الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد على العموم؛ إلا ما خصه دليل، فمحل النزاع مندرج تحت العموم بعد التنصيص عليه بما في حديث الأعرابي، وبما في حديث ابن عمر.
وأما التأويل باحتمال أن يكون قد شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل قبل شهادة ابن عمر؛ فلو كان مجرد هذا الاحتمال قادحا في الاستدلال؛ لم يبق دليل شرعي إلا وأمكن دفعه بمثل هذا التأويل الباطل.
في " المسوى ": اختلفوا في هلال رمضان: فقيل: يثبت بشهادة الواحد، وعليه أبو حنيفة، وقيل: لا بد من عدلين، وعليه مالك، وللشافعي قولان كالمذهبين؛ أظهرهما الأول، ولا فرق عنده بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة.

(2/9)


وقال أبو حنيفة في الصحو: لا بد من جمع كثير.
وفي " العالمكيرية ": إذا رأوا الهلال قبل الزوال أو بعده؛ لا يصام به ولا يفطر، وهو من الليلة المستقبلة.
وفي " الأنوار ": وإذا رؤي الهلال بالنهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة ".
(أو إكمال عدة شعبان) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم؛ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وفي " الحجة البالغة ": لما كان وقت الصوم مضبوطا بالشهر القمري باعتبار رؤية الهلال، وهو تارة ثلاثون يوما، وتارة تسع وعشرون: وجب في صورة الاشتباه أن يرجع إلى هذا الأصل، وأيضا مبنى الشرائع على الأمور الظاهرة عند الأميين دون التعمق والمحاسبات النجومية، بل الشريعة واردة بإخمال ذكرها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ". انتهى.
( [يصام رمضان ثلاثين يوما ما لم يظهر هلال شوال] :)
(ويصوم ثلاثين يوما ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها) : وجهه ما ورد من الأدلة الصحيحة أن الهلال إذا غم صاموا ثلاثين يوما، كحديث أبي هريرة المذكور، ومثله في " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر، ومن حديث ابن

(2/10)


عباس عند أحمد، والنسائي، والترمذي - وصححه -، ومن حديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، والدارقطني بإسناد صحيح، وغير ذلك من الأحاديث؛ وفيها التصريح بإكمال العدة ثلاثين يوما؛ في بعضها عدة شعبان، وفي بعضها ما يفيد أنها عدة رمضان، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بأحد الشهرين.
قال في " الحجة ": " قوله - صلى الله عليه وسلم -: " شهرا عيد لا ينقصان؛ رمضان وذو الحجة " (1) قيل: لا ينقصان معا، وقيل: لا يتفاوت أجر ثلاثين وتسعة وعشرين، وهذا الآخر أقعد بقواعد التشريع، كأنه أراد سد أن يخطر في قلب أحد ذلك ". انتهى.
أقول: يمكن أن يقال: إن هذا إخبار من الشارع بعدم دخول النقص في الشهرين المذكورين، فما ورد عنه أنه يكون الشهر تسعة وعشرين عام مخصص بالشهرين المذكورين، وما ورد في خصوص شهر رمضان، مما يدل على أنه قد يكون تسعة وعشرين؛ فيمكن أن يقال فيه: إن ذلك إنما هو باعتبار ما ظهر للناس من طلوع الهلال عليهم، وفي نفس الأمر ذلك الشهر هو ثلاثون يوما.
قال بعض المحققين: التكليف الشهري علق معرفة وقته برؤية الهلال دخولا وخروجا، أو إكمال العدة ثلاثين يوما، فهل في الأكوان أوضح من هذا البيان؟ ! والتوقيت في الأيام والشهور بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة. انتهى.
أقول: إن الرؤية التي اعتبرها الشارع في قوله: " صوموا لرؤيته " هي
__________
(1) هذا لفظ الترمذي، ورواه البخاري بلفظ: " شهران لا ينقصان - شهرا عيد -: رمضان، وذو الحجة "؛ انظر " فتح الباري " (جزء 4 ص 87 - 89) . (ش)

(2/11)


الرؤية الليلية لا الرؤية النهارية، فليست بمعتبرة، سواء كانت قبل الزوال أو بعده، ومن زعم خلاف هذا؛ فهو عن معرفة المقاصد الشرعية بمراحل.
واحتجاج من احتج برؤية الذين أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم رأوه بالأمس باطل، كاحتجاج من احتج على وجوب الإتمام بقوله - تعالى -: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} ، وكلا الدليلين لا دلالة لهما على محل النزاع:
أما الأول: فإنهم إنما أخبروا عن الرؤية في الوقت المعتبر، وذلك مرادهم بلفظ: أمس، كما لا يخفى على عالم.
وأما الثاني: فالمراد به وجوب إتمام الصيام إلى الوقت الذي يسوغ فيه الإفطار؛ تعيينا لوقته الذي لا يكون صوما بدونه.
والحاصل: أن المجادلة عن هذا القول الفاسد - وهو الاعتداد برؤية الهلال نهارا - يأباه الإنصاف.
وإن قال المتحذلق: إن الاعتبار بالرؤية؛ وقد وقعت؛ لحديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته "، والاعتبار بعموم اللفظ، ونحو ذلك من المجادلات التي لا يجهل صاحبها أنه غالط أو مغالط، ولو كان هذا صحيحا لوجب الإفطار عند كل رؤية للهلال في أي وقت من أوقات الشهر، وهو باطل بالضرورة الدينية.
( [اختلاف مذاهب العلماء في المطلع] :)
(وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة) : وجهه الأحاديث المصرحة

(2/12)


بالصيام لرؤيته والإفطار لرؤيته، وهي خطاب لجميع الأمة، فمن رآه منهم في أي مكان؛ كان ذلك رؤية لجميعهم.
وأما استدلال من استدل بحديث كريب عند مسلم وغيره: أنه استهل عليه رمضان وهو بالشام، فرأى الهلال ليلة الجمعة، فقدم المدينة، فأخبر بذلك ابن عباس، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، ثم قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وله ألفاظ -:
فغير صحيح؛ لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين أو يروه، ظنا منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل؛ وهذا خطأ في الاستدلال، أوقع الناس في الخبط والخلط، حتى تفرقوا في ذلك على ثمانية مذاهب.
وقد أوضح الماتن المقام في الرسالة التي سماها " إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال ".
قال في " المسوى ": " لا خلاف في أن رؤية بعض أهل البلد موجبة على الباقين، واختلفوا في لزوم رؤية أهل بلد أهل بلد آخر.
والأقوى - عند الشافعي -: يلزم حكم البلد القريب دون البعيد.
وعند أبي حنيفة: يلزم مطلقا ".
( [وجوب تبييت النية قبل الفجر في صوم الفرض] :)
(وعلى الصائم النية قبل الفجر) : لحديث حفصة، عن النبي -

(2/13)


صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وابن خزيمة، وابن حبان - وصححاه -، ولا ينافي ذلك رواية من رواه موقوفا، فالرفع زيادة يتعين قبولها، على ما ذهب إليه أهل الأصول، وبعض أهل الحديث.
وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم، وخالفهم آخرون، واستدلوا بما لا تقوم به الحجة (1) .
أما حديث أمره صلى الله عليه وسلم لمن أصبح صائما أن يتم صومه في يوم عاشوراء؛ فغاية ما فيه: أن من لم يتبين له وجوب الصوم إلا بعد دخول النهار؛ كان ذلك عذرا له عن التبييت (2) .
وأما حديث: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ذات يوم، فقال: " هل عندكم من شيء؟ "، فقالوا: لا، فقال: " فإني إذن صائم ": فذلك في صوم التطوع.
قال في " المسوى ": قال الشافعي: يشترط للفرض التبييت، ويصح النفل بنيته قبل الزوال.
وقال أبو حنيفة: يكفي في الفرض والنفل أن ينوي قبل نصف النهار، ولا بد في القضاء والكفارات من التبييت.
أقول: وأما أنه يجب تجديد النية لكل يوم؛ فلا يخفى أن النية هي مجرد القصد إلى الشيء، أو الإرادة له من دون اعتبار أمر آخر، ولا ريب أن من
__________
(1) • وانظر تفصيل ذلك في " التعليقات " (4 / 32 - 34) . (ن)
(2) أمر صلى الله عليه وسلم في عاشوراء من أصبح صائما أن يتم صومه، ومن أصبح مفطرا أن يمسك بقية يومه، وهذا حديث خاص بعاشوراء، ثم نسخ وجوب صومه؛ فلا يستدل به على ما قاله الشارح. (ش)

(2/14)


قام في وقت السحر، وتناول طعامه وشرابه في ذلك الوقت من دون عادة له به، في غير أيام الصوم؛ فقد حصل له القصد المعتبر؛ لأن أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك، وكذلك الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لا يكون إلا من قاصد للصوم بالضرورة، إذا لم يكن ثم عذر مانع عن الأكل والشرب غير الصوم، ولا يمكن وجود مثل ذلك من غير قاصد؛ إلا إذا كان مجنونا أو ساهيا أو نائما، كمن ينام يوما كاملا.
وإذا تقرر هذا؛ فمجرد القصد إلى السحور قائم مقام تبييت النية عند من اعتبر التبييت، ومجرد الإمساك عن المفطرات وكف النفس عنها في جميع النهار يقوم أيضا مقام النية عند من لم يعتبر التبييت، ومن قال: إنه يجب في النية زيادة على هذا المقدار؛ فليأت بالبرهان؛ فإن مفهوم النية لغة وشرعا لا يدل على غير ما ذكرناه، وهكذا سائر العبادات؛ فإن مجرد قصدها كاف من غير احتياج إلى زيادة على ذلك.
مثلا؛ يكفي في نية الوضوء مجرد دخول المكان المعتاد لذلك، والاشتغال بغسل الأعضاء المخصوصة على الصفة المشروعة، وكذلك في الصلاة؛ يكفي الدخول في المحل الذي تقام فيه، والتأهب لها، والشروع فيها على الصفة المشروعة، فإن القصد والإرادة لازمان لهذه الأفعال؛ لعدم صدور مثل ذلك من العقلاء؛ لمجرد اللعب والعبث.
(2 - فصل مبطلات الصوم)
( [يبطل الصوم بالأكل والشرب عمدا] :)
(يبطل بالأكل والشرب) عمدا، لا خلاف في ذلك، وأما مع النسيان؛

(2/15)


فلا؛ لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من نسي وهو صائم، فأكل وشرب؛ فليتم صومه؛ فإنما الله أطعمه وسقاه ".
وفي لفظ للدارقطني بإسناد صحيح: " فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه ".
وفي لفظ آخر للدارقطني، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم: " من أفطر يوما من رمضان ناسيا؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة "؛ وإسناده صحيح أيضا؛ قاله الحافظ ابن حجر (1) .
وأخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا: " من أكل في شهر رمضان ناسيا؛ فلا قضاء عليه ".
قال ابن حجر: وإسناده وإن كان ضعيفا؛ لكنه صالح للمتابعة، فأقل درجات هذا الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا، فيصلح للاحتجاج به. انتهى.
وقد ذهب إلى العمل بهذا: الجمهور، وهو الحق، ومن قابل هذه السنة بالرأي الفاسد؛ فرأيه رد عليه، مضروب في وجهه.
( [يبطل الصوم بالجماع عمدا] :)
(و) هكذا (الجماع) ؛ لا خلاف في أنه يبطل الصيام إذا وقع من عامد،
__________
(1) • في " بلوغ المرام "، وسبقه إلى ذلك غيره.
وتردد النووي بين تصحيحه وتحسينه، والحق أنه حسن الإسناد، والأول صحيحه؛ كما بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 26) . (ن)

(2/16)


وأما إذا وقع مع النسيان؛ فبعض أهل العلم ألحقه بمن أكل أو شرب ناسيا، وتمسك بقوله في الرواية الأخرى " من أفطر يوما من رمضان ناسيا؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة "، وبعضهم منع من الإلحاق.
أقول: إفساد الصوم بالوطء لا يعرف في مثل هذا خلاف، وقد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن المجامع في رمضان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت يا رسول الله {قال: " وما أهلكك؟} "، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فأمره بالكفارة.
وفي رواية لأبي داود، وابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: " وصم يوما مكانه "؛ وهذه الزيادة مروية من أربع طرق، ويقوي بعضها بعضا.
ويدل على تحريم الوطء للصائم واجبا: مفهوم قوله - سبحانه - {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} .
( [يبطل الصوم بالقيء عمدا] :)
(والقيء عمداً) : لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ذرعه القيء؛ فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا؛ فليقض "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم - وصححه -.
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفسد الصيام؛ وفيه نظر؛ فإن ابن مسعود، وعكرمة، وربيعة قالوا: إنه لا يفسد الصوم، سواء كان غالبا أو مستخرجا؛ ما لم يرجع منه شيء باختياره، واستدلوا بحديث:

(2/17)


" ثلاث لا يفطّرن: القيء، والحجامة (1) ، والاحتلام "، أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف.
وعلى فرض صلاحيته للاستدلال؛ فلا يعارض حديث أبي هريرة؛ لأن هذا مطلق وذاك مقيد بالعمد.
أقول: حديث أبي هريرة المتقدم هو في عدة من كتب الحديث، وله طرق مختلفة ينتهض معها للاستدلال (2) ، وفيه الفرق بين المتعمد للقيء وغير المتعمد، ولا يعارض هذا حديث أبي سعيد المتقدم؛ لأنه عام مخصص بحديث الفرق بين المتعمد وغير المتعمد، فيكون معناه: أن القيء إذا وقع من غير اختيار الصائم بل ذرعه؛ كان غير مفطر، وهذا الجمع لا بد منه.
ويؤيده حديث: أنه صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر (3) ؛ فإن بعض الحفاظ فسره بأنه استقاء، والمراد بالاستقاء؛ تعمد القيء؛ كما صرح به أهل العلم.
( [يحرم الوصال] :)
(ويحرم الوصال) : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ كما في حديث أبي هريرة، وابن عمر، وعائشة؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
__________
(1) • هذا الذي استقر عليه الشرع، وإن كان قد صح: " أفطر الحاجم والمحجوم ": فإنه منسوخ؛ كما بينته في " التعليقات " (4 / 33 - 34) . (ن)
(2) • قلت: لا سيما وأن أحدها صحيح على شرط الشيخين؛ كما بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 27) . (ن)
(3) • صححه غير واحد، لكن في سنده اختلاف أشار إليه الحافظ وغيره، كما ذكرنا في " التعليقات " (4 / 28) . (ن)
قلت: وجزم الشيخ - أخيرا - بصحته في " تمام المنة " (ص 111) ، و " الإرواء " (تحت حديث 111) .

(2/18)


وفي الباب أحاديث.
( [كفارة من أفطر عمدا] :)
(وعلى من أفطر عمدا كفارة ككفارة الظهار) : لحديث المجامع في رمضان؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " هل تجد ما تعتق رقبة؟ "، قال: لا، قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال: " فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ "، قال: لا، ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: " تصدق بهذا "، قال: فهل على أفقر منا؟ ! فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، وقال: " اذهب فأطعمه أهلك "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، وعائشة.
وقد قيل: إن الكفارة لا تجب على من أفطر عامدا بأي سبب، بل بالجماع فقط، ولكن الرجل إنما جامع امرأته؛ فليس في الجماع في نهار رمضان إلا ما في الأكل والشرب؛ لكون الجميع حلالا لم يحرم إلا لعارض الصوم.
وقد وقع في رواية من هذا الحديث: أن رجلا أفطر؛ ولم يذكر الجماع (1) .
__________
(1) إذا صح الحديث؛ فهو مجمل، وقد بينته الروايات الأخرى: أنه أفطر بالجماع.
ثم إن قياس الأكل والشرب على الجماع غير صحيح، والقياس في العبادات باطل أصلا، وليس للقائلين بوجوب الكفارة على المفطر بغير الجماع دليل صحيح، والأصل عدم الوجوب إلا بدليل.
فالحق أن الكفارة لا تجب إلا على من أفطر بالجماع فقط؛ كما ذهب إليه الشافعي وغيره من أهل العلم. (ش)

(2/19)


أقول: إذا ورد ما يدل على وجوب مثل كفارة الظهار، وورد ما يدل على أنه يجزئ أقل منها،؛ كان ورود الأقل رخصة لمن لا يجد مثل كفارة الظهار، وهذا ظاهر لا لبس فيه.
( [تعجيل الفطر وتأخير السحور مندوب] :)
(ويُندب تعجيل الفطر وتأخير السحور) : لحديث سهل بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
وعن أبي ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال أمتي بخير؛ ما أخروا السحور، وعجلوا الفطر " (1) ؛ أخرجه أحمد، وفي إسناده سليمان بن عثمان، قال أبو حاتم: مجهول.
وقد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث زيد بن ثابت: أنه كان بين تسحره صلى الله عليه وسلم ودخوله في الصلاة؛ قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية.
وفي الباب أحاديث كثيرة.
(3 - قضاء الصوم:)
( [من أفطر لعذر شرعي وجب عليه القضاء] :)
(يجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي) كالمسافر والمريض، وقد
__________
(1) • يغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إنا - معشر الأنبياء - أُمرنا بتعجيل فطرنا، وتأخير سحورنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة "؛ رواه ابن حبان، والضياء بسند صحيح. (ن)

(2/20)


صرح بذلك القرآن الكريم: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} .
وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة؛ وقد تقدم ذكره؛ والنفساء مثلها.
( [الفطر للمسافر رخصة] :)
(والفطر للمسافر ونحوه رخصة؛ إلا أن يخشى التلف، أو الضعف عن القتال؛ فعزيمة) ، الأحاديث في ذلك كثيرة:
منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر "؛ لما سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر؛ وهو في " الصحيحين " من حديث عائشة، وفيه دليل على تفويض الفطر في الصوم وعدمه إلى المسافر، ومن حمله على صوم التطوع فلم يصب؛ فإنه عند أبي داود، والحاكم - وصححه -: أنه قال: ربما صادفني هذا الشهر - يعني: رمضان -:
وأما حديث: أنه قيل له صلى الله عليه وسلم: إن جماعة لم يفطروا في سفر من أسفاره، فقال: " أولئك العصاة ": فذاك لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان أمرهم بالإفطار في ذلك اليوم بخصوصه، فسماهم عصاة؛ لمخالفة أمره، لا لمجرد الصوم في السفر.
وأما حديث: " ليس من البر الصيام في السفر " - وهو متفق عليه -: ففي

(2/21)


رواية زادها النسائي في هذا الحديث: " عليكم برخص الله التي رخص لكم؛ فاقبلوا " (1) ؛ فالتصريح بالرخصة مشعر بأن الصوم عزيمة، وهو المطلوب.
وأما ما روي بلفظ: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ": فقد صحح جماعة من الحفاظ وقفه على عبد الرحمن بن عوف، ولا حجة في ذلك.
وفي " الصحيحين " من حديث أنس: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم.
وأخرج مسلم وغيره (2) عن حمزة بن عمرو الأسلمي: أنه قال: يا رسول الله {أجد مني قوة على الصوم، فهل علي جناح؟ فقال: هي رخصة من الله - تعالى -، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم؛ فلا جناح عليه ".
وفي " الصحيحين " من حديث جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: " ما هذا؟} "، فقالوا: صائم، فقال: " ليس من البر الصوم في السفر ".
وأخرج مسلم (3) ، وأحمد، وأبو داود من حديث أبي سعيد، قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم "، فكانت رخصة؛ فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: " إنكم
__________
(1) هذه الزيادة رواها أيضا الشافعي، وقال ابن القطان: " إسنادها حسن متصل ". (ش)
(2) • انظر " التعليقات الجياد " (4 / 16) . (ن)
(3) • انظر تخريجه منا في " التعليقات الجياد " (4 / 14) . (ن)

(2/22)


مصبِّحو عدوكم، والفطر أقوى لكم؛ فأفطروا "، فكانت عزيمة، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر.
وقد ذهب إلى كون الصوم رخصة في السفر: الجمهور.
وروي عن بعض الظاهرية - وهو محكي عن أبي هريرة -: أن الفطر في السفر واجب، وأن الصوم لا يجزئ.
والمراد ب (نحو المسافر) : الحبلى والمرضع؛ لما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - وحسنه الترمذي - من حديث أنس بن مالك الكعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله - عز وجل - وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم ".
( [من مات وعليه صوم صام عنه وليه] :)
(ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه "؛ وقد زاد البزار لفظ: " إن شاء ".
قال في " مجمع الزوائد ": " وإسناده حسن " (1) .
وبه قال أصحاب الحديث، وبعض الشافعية، وأبو ثور، والأوزاعي،
__________
(1) • قلت: وليس كذلك؛ لأنه تفرد بها ابن لهيعة - كما في " الفتح " (4 / 157) -، وقد صرح بضعفها في " التلخيص "، فقال (6 / 457) : " وهي ضعيفة؛ لأنها من طريق ابن لهيعة ".
وقوله: " صام "؛ خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصم، وهو للوجوب عند بعض أهل الظاهر - خلافا للجمهور -، وإلى ذلك ذهب الشارح - رحمه الله -. (ن)

(2/23)


وأحمد بن حنبل.
قال البيهقي في " الخلافيات ": " هذه السنة ثابتة، لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها ".
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب صوم الولي عن وليه.
وقال في " الحجة ": ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه " وقوله فيه أيضا: " فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا "؛ إذ يجوز أن يكون كل من الأمرين مجزئا.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1) : " وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه "، فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، وقالت: يصام عنه النذر والفرض.
وأبت طائفة ذلك، وقالت: لا يصام عنه نذر ولا فرض.
وفصلت طائفة، فقالت: يصام النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه، والإمام أحمد وأصحابه؛ وهو الصحيح؛ لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة؛ فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يسلم أحد عن أحد؛ فكذلك الصيام، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه، وهذا محض الفقه، وطرد هذا أنه لا يحج عنه، ولا يزكي عنه؛ إلا إذا كان معذورا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر
__________
(1) (3 / 554) . (ن)

(2/24)


في رمضان لعذر، فأما المفطر من غير عذر أصلا (1) ؛ فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله - تعالى - التي فرّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاء وامتحانا دون الولي، فلا ينفع توبة أحد عن أحد، ولا إسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه، ولا غيرها من فرائض الله - تعالى - التي فرط فيها حتى مات، والله - تعالى - أعلم.
أقول: الظاهر - والله أعلم - أنه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميت إذا كان عليه صوم، سواء أوصى أو لم يوص، كما هو مدلول الحديث، ومن زعم خلاف ذلك؛ فليأت بحجة تدفعه (2) .
( [يكفّر الكبير العاجز عن الأداء والقضاء] :)
(والكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين) : لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في " الصحيحين " وغيرهما، قال: لما نزلت هذه الآية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ؛ كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
وأخرج هذا الحديث أحمد، وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدم؛ وزاد:
__________
(1) • فإذا كان المفطر لعذر شرعي - كمرض -؛ أفلا يصوم عنه وليه؟ الظاهر من كلام ابن القيم أنه يصوم؛ وهو الأقرب إلى عموم الحديث، والله أعلم. (ن)
قلت: وانظر في تفصيل المسألة - هذه وغيرها - كلام شيخنا في " تمام المنة " (ص 427 - 428) ، و " أحكام الجنائز " (ص 213 - 216 - المعارف) .
(2) سياق الأحاديث الواردة في الصيام عن الميت؛ يدل على إباحة ذلك للولي برا بالميت، لا وجوبا على الولي.
ويقوي هذا الظاهر رواية البزار التي ذكرها الشارح، وفيها زيادة: " إن شاء "، ولم يرد في شيء من السنة ما يدل على الوجوب، فمن ادعاه طولب بالدليل؛ لأن الأصل براءة الذمة، وأن المكلف غير ملزم بأداء ما ثبت في ذمة غيره إلا بدليل صريح، والله أعلم. (ش)

(2/25)


ثم أنزل الله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام.
وأخرج البخاري عن ابن عباس، أنه قال: ليست هذه الآية منسوخة: هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما؛ فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.
وأخرج أبو داود، عن ابن عباس، أنه قال: أثبتت للحبلى والمرضع أن يفطرا؛ ويطعما كل يوم مسكينا.
وأخرج الدارقطني، والحاكم - وصححاه - عن ابن عباس، أنه قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينا، ولا قضاء عليه.
وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن، مع ما فيه من الإشعار بالرفع؛ فكان ذلك دليلا على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم.
أقول: لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصوم شيء من المرفوع في شيء من كتب الحديث، وليس في الكتاب العزيز ما يدل على ذلك؛ لأن قوله - تعالى -: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ؛ إن كانت منسوخة - كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمهات كلهم: أنها كانت في أول الإسلام، فكان من أراد أن يفطر يفتدي؛ حتى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله - تعالى - {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، ومثل ذلك روي عن معاذ ابن جبل؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، ومثله عن ابن عمر؛ أخرجه البخاري -:

(2/26)


فالمنسوخ ليس بحجة بلا خلاف.
وإن كانت محكمة - كما رواه أبو داود عن ابن عباس -: فظاهرها جواز ترك الصوم لمن كان مطيقا غير معذور، ووجوب الفدية عليه، وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون.
وأما قول ابن عباس المتقدم: فكلام غير مناسب لمعنى الآية؛ لأنها في المطيقين، لا فيمن لا يستطيع أن يصوم كما قال، وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنها أُثبتت للحبلى والمرضع، فإنه يدل على أنها منسوخة فيما عداهما.
فعلى كل حال؛ ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصوم وهو لا يطيقه، وهو محل النزاع، وإذا لم يوجد دليل في كتاب الله، ولا في سنة رسوله: فليس في غيرهما أيضا ما يدل على ذلك، فالحق عدم وجوب الإطعام، وقد ذهب إليه جماعة من السلف؛ منهم: مالك، وأبو ثور، وداود.
وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان - وعليه رمضان أو بعضه، ولم يقضه -؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيء صح رفعه، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم، وليس بحجة على أحد، ولا تعبد الله بها أحدا من عباده، والبراءة الأصلية مستصحبة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح، وقد ذهب إلى هذا النخعي؛ وأبو حنيفة، وأصحابه.
وأما التفريق في قضاء رمضان: فقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عمر: أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قضاء رمضان؟ فقال:

(2/27)


" إن شاء فرقه، وإن شاء تابعه "؛ وفي إسناده سفيان بن بشر؛ وقد ضعفه بعضهم.
وقال ابن الجوزي: ما علمنا أحدا طعن فيه، ثم صحح الحديث.
ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من التخيير: قوله - تعالى -: {فعدة من أيام أخر} ؛ وهذه العدة تصدق على ما كان مجتمعا ومتفرقا؛ لأنه يحصل من كل واحد منهما عدة، والبراءة الأصلية قاضية بعدم التعبد بما هو أشق ما يصدق عليه معنى الآية دون ما هو أخف.
وأما ما يروى من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان عليه صوم من رمضان فليسرده، ولا يقطعه " - كما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة -: ففي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاص، وقد ضعفه جماعة من الأئمة؛ وقال البيهقي: لا يصح، وأنكره أبو حاتم على عبد الرحمن.
وأما ابن القطان فقال: لم يأت من ضعفه بحجة (1) . انتهى.
ولكنه - مع ذلك - لا ينتهض للنقل عن مجرد البراءة الأصلية، فضلا عما عضدها.
__________
(1) قال ابن القطان: " والحديث حسن ".
وقال ابن حجر: " قد صرح ابن أبي حاتم عن أبيه؛ أنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد الرحمن "؛ نقله الشوكاني (جزء 4 ص 317 في " نيل الأوطار ") .
وعبد الرحمن هذا؛ قال أحمد: " ليس به بأس ".
قال الذهبي: " ومن مناكيره: عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا: " من كان عليه صوم رمضان؛ فليسرده ولا يقطعه "؛ أخرجه الدارقطني " اه. (ش)

(2/28)


(2 - باب صوم التطوع)
(الفصل الأول: ما يستحب صيامه)
(1 -[صيام ستة أيام من شوال] :)
(يستحب صيام ست من شوال) : لحديث: " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال؛ فذاك صيام الدهر "، أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي أيوب.
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ": " والسر في مشروعيتها: أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة، تكمل فائدتها بالنسبة إلى أمزجة لم تتام فائدتها بهم، وإنما خص في بيان الفضيلة التشبه بصوم الدهر؛ لأن من القواعد المقررة أن الحسنة بعشر أمثالها، وبهذه الستة يتم الحساب ". انتهى.
أقول: ظاهر الحديث أنه يكفي صيام ست من شوال، سواء كانت من أوله، أو من أوسطه، أو من آخره، ولا يشترط أن تكون متصلة به لا فاصل بينها وبين رمضان؛ إلا يوم الفطر، وإن كان ذلك هو الأولى؛ لأن الاتباع - وإن صدق على جميع الصور -؛ فصدقه على الصورة التي لم يفصل فيها بين رمضان وبين الست إلا يوم الفطر الذي لا يصح صومه؛ لا شك أنه أولى.

(2/29)


وأما أنه لا يحصل الأجر إلا لمن فعل كذلك فلا؛ لأن من صام ستا من آخر شوال؛ فقد أتبع رمضان بصيام ست من شوال بلا شك، وذلك هو المطلوب.
(2 -[صيام تسع ذي الحجة] :)
(وتسع ذي الحجة) : لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث حفصة عند أحمد، والنسائي، قالت: أربع لم يكن يدعهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر.
وأخرجه أبو داود بلفظ: كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل كل شهر، وأول اثنين من الشهر والخميس (1) .
وقد أخرج مسلم عن عائشة، أنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائما في العشر قط.
وفي رواية: لم يصم العشر قط.
وعدم رؤيتها وعلمها لا يستلزم العدم.
وآكد التسع يوم عرفة.
__________
(1) • هذا لفظ أبي داود، وأخرجه النسائي بلفظ: ثم الخميس، ثم الخميس؛ مرتين، وإسناده صحيح.
وقد وقع في إسناد هذا الحديث ومتنه اختلاف، بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 38) ؛ ورجحت فيه ما علقته هنا من رواية النسائي. (ن)

(2/30)


وقد ثبت في " صحيح مسلم " وغيره من حديث أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صوم يوم عرفة يكفّر سنتين؛ ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفّر سنة ماضية ".
(3 -[صيام شهر المحرم] :)
(و) أما صيام شهر (محرم) : فلحديث أبي هريرة عند مسلم، وأحمد، وأهل " السنن ": أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الصيام بعد رمضان أفضل؟ فقال: " شهر الله المحرم ".
وآكده يوم عاشوراء؛ لما ورد فيه من الأحاديث الثابتة في " الصحيحين "، وغيرهما عن جماعة من الصحابة: أنه صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، ثم قال: " هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام، ومن شاء فليفطر؛ وقد تقدم أنه يكفر سنة ماضية.
وثبت في " مسلم " (1) ، وغيره: أنه لما أمر بصيامه؛ قالوا: يا رسول الله! إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى؟ فقال: " إذا كان العام المقبل - إن شاء الله -؛ صمنا التاسع "، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وعليه أهل العلم، واستحب أكثرهم أن يصوم التاسع والعاشر.
وفي " العالمكيرية ": ويكره صوم يوم عاشوراء مفردا. انتهى.
وفي الباب أحاديث أخرى أوردها الشيخ عبد الحق الحنفي الدهلوي في
__________
(1) • (3 / 150) . (ن)

(2/31)


" ما ثبت من السنة في أيام السنة ".
أقول: أما شهر المحرم؛ فلا ريب أنه قد خصه دليل صحيح ناطق؛ بأنه أفضل الصيام المتطوع به، ولم يعارضه في هذه الأفضلية إلا ما قيل في صوم يوم عرفة، وقد ذكر الجمع الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى ".
(4 -[صيام شهر شعبان] :)
(وشعبان) : لحديث أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان؛ يصل به رمضان "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - وحسنه الترمذي (1) -.
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة: ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان؛ كان يصومه إلا قليلا؛ بل كان يصومه كله.
وفي لفظ: وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان.
(5 -[صيام الاثنين والخميس] :)
(والاثنين والخميس) : لحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس؛ أخرجه أحمد، والترمذي - وصححه -، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان - وصححه -.
وأخرج نحوه أبو داود من حديث أسامة بن زيد.
__________
(1) • (2 / 51) ، قلت: وسنده صحيح على شرطهما. (ن)

(2/32)


وأخرجه أيضا النسائي، وفي إسناده مجهول؛ مع أنه قد صححه ابن خزيمة.
وأخرج أحمد، والترمذي من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فأحب أن يُعرض عملي؛ وأنا صائم ".
وفي " صحيح مسلم ": أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: " ذاك يوم ولدت فيه، وأنُزل علي فيه ".
(6 -[صيام أيام البيض] :)
(وأيام البيض) : لحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله ".
وأخرج أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان - وصححه - من حديث أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صمت من الشهر ثلاثة؛ فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة ".
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ": " وقد اختلفت الرواية في اختيار تلك الأيام؛ فورد: " يا أبا ذر! ... " إلخ.
وورد: كان يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء، والأربعاء، والخميس.

(2/33)


وورد: من غرة كل شهر ثلاثة أيام.
وورد: أنه أمر أم سلمة بثلاثة أولها الاثنين والخميس.
ولكل وجه ". انتهى.
(7 -[صوم يوم وإفطار يوم أفضل التطوع] :)
(وأفضل التطوع؛ صوم يوم وإفطار يوم) : لحديث عبد الله بن عمرو في " الصحيحين " وغيرهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صم في كل شهر ثلاثة أيام "، قلت: فإني أقوى من ذلك، فلم يزل يرفعني، حتى قال: " صم يوما، وأفطر يوما؛ فإنه أفضل الصيام، وهو صوم أخي داود - عليه السلام - ".
قال في " الحجة البالغة ": " واختلفت سنن الأنبياء - عليهم السلام - في الصوم، فكان نوح - عليه السلام - يصوم الدهر، وكان داود - عليه السلام - يصوم يوما ويفطر يوما، وكان عيسى - عليه السلام - يصوم يوما ويفطر يومين أو أياما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم، ولم يكن يستكمل صيام شهر؛ إلا رمضان، وذلك أن الصيام ترياق، والترياق لا يستعمل إلا بقدر المرض، وكان قوم نوح - عليه السلام - شديدي الأمزجة، حتى روي عنهم ما روي، وكان داود - عليه السلام - ذا قوة ورزانة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " وكان لا يفر إذا لاقى "، وكان عيسى - عليه السلام - ضعيفا في بدنه، فارغا لا أهل له ولا مال، فاختار كل واحد ما يناسب الحال، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم عارفا بفوائد الصوم والإفطار، مطلعا على مزاجه وما يناسبه، فاختار بحسب مصلحة الوقت ما شاء ".

(2/34)


( [الفصل الثاني: ما يكره صومه] )
(1 -[صوم الدهر] :)
(ويُكره صوم الدهر) : لحديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا صام من صام الأبد "؛ وهو في " الصحيحين "، وغيرهما.
وأخرج أحمد، وابن حبان، وابن خزيمة، والبيهقي، وابن أبي شيبة من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من صام الدهر؛ ضُيقت عليه جهنم هكذا "؛ وقبض كفه.
ولفظ ابن حبان: " ضُيقت عليه جهنم هكذا "؛ وعقد تسعين (1) ؛ ورجاله رجال الصحيح.
وهذه الأحاديث من أعظم الأدلة الدالة على أن صوم الدهر مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نزّل صوم صائم الدهر منزلة العدم في الحديث الأول؛ وفي رواية: " لا صام من صام الدهر ولا أفطر "؛ والحديث صحيح.
ويؤيده ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من نهيه صلى الله عليه وسلم لابن عمرو لما أراد أن يصوم الدهر، وقال له: " لا تفعل "، وقال لما بلغه عن المتكلفين في العبادة، أنهم سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم؟ فاستقلوها، فقال أحدهم: أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أقوم ولا أنام، وقال الثالث: لا أنكح النساء، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما أنا: فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني ".
__________
(1) • انظر تخريجه في " التعليقات " (4 / 36 - 37) . (ن)

(2/35)


وأما تقريره صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو، قال له: يا رسول الله! إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: " إن شئت " - كما أخرجه الشيخان وغيرهما -: فليس فيه دليل على صوم الدهر؛ لأن السرد يصدق بصوم أيام متتابعة، وإن كانت بعض سنة، فضلا عن أكثر منها.
ومن جملة الوعيد لمن صام الدهر: حديث أبي موسى المتقدم، وهذا وعيد شديد، ومن زعم أنه ترغيب في صوم الدهر؛ فلم يصب (1) .
(2 -[إفراد يوم الجمعة] :)
(وإفراد يوم الجمعة) : لحديث جابر في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم الجمعة.
وفي رواية: أن يفرد بصوم.
وفي الصحيحين " من حديث أبي هريرة: " لا تصوموا يوم الجمعة؛ إلا وقبله يوم أو بعده يوم ".
وفي لفظ لمسلم: " ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ".
وفي الباب أحاديث.
قال الشافعي: يكره إفراد الجمعة.
وفي " العالمكيرية ": يستحب صوم يوم الجمعة بانفراده.
__________
(1) • وقد بينت وجه ذلك في " التعليقات " (4 / 37) . (ن)

(2/36)


أقول: الأحاديث واردة بالنهي عنه، وحقيقة النهي التحريم؛ إذا لم يصم يوما قبله ولا يوما بعده.
وما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من أنه كان يصومه؛ لا يصلح لجعله قرينة صارفة؛ لوجهين:
الأول: أنه لم ينقل أنه كان يصومه منفردا؛ بل الظاهر أنه كان يصومه على غير الصفة التي نهانا عنها.
الثاني: أن فعله لا يعارض قوله الخاص بالأمة؛ كما تقرر في الأصول، وعلى فرض عدم الاختصاص لقوله بالأمة بل شموله له ولهم: فهو مخصص له من العموم، وذلك لا يصلح قرينة صارفة للنهي عن معناه الحقيقي.
(3 -[إفراد يوم السبت] :)
(ويوم السبت) : لحديث الصماء بنت بسر عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، والطبراني، والبيهقي، وصححه ابن السكن، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصوموا يوم السبت؛ إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحاء شجر؛ فليمضغه ".
( [الفصل الثالث: ما يحرم صومه] )
(1 -[صوم العيدين] :)
(ويحرم صوم العيدين) : لحديث أبي سعيد في " الصحيحين "، وغيرهما،

(2/37)


عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم النحر.
وقد أجمع المسلمون على ذلك.
(2 -[صوم أيام التشريق] :)
(وأيام التشريق) : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصوم فيها، كما ثبت ذلك من طريق جماعة من الصحابة.
وقد سرد أحاديثه الماتن في " شرح المنتقى ".
(3 -[استقبال رمضان بيوم أو يومين] :)
(واستقبال رمضان بيوم أو يومين) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما؛ فليصمه ".
ويؤيده حديث أبي هريرة أيضا عند أصحاب " السنن " - وصححه ابن حبان، وغيره (1) - مرفوعا بلفظ: " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ".
وفي الباب أحاديث.
والخلاف طويل مبسوط في المطولات.
أقول: وما زال الخلاف في هذه المسألة من عصر الصحابة إلى الآن،
__________
(1) • وهو الحق، وإن كان منكرا عند أحمد، وابن معين؛ فإن سنده صحيح على شرط مسلم، كما ذكرته في " التعليقات " (4 / 35) . (ن)

(2/38)


وقد صارت مركزا من المراكز التي يتغالى الناس في أمرها إثباتا ونفيا، ولم يحتج أحد منهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه.
وأما ما احتجوا به من العمومات الدالة على مشروعية مطلق الصوم واستحبابه: فنحن نقول بموجبها، ونقول: هي مخصصة بأحاديث أمره صلى الله عليه وسلم بالصوم لرؤية الهلال، والإفطار لرؤيته، أو إكمال العدة كما صح في جميع دواوين الإسلام، وبأحاديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، وهو في " الصحيح "؛ بل ورد النهي عن صوم النصف الأخير من شعبان.
وقال عمار: من صام يوم الشك؛ فقد عصى أبا القاسم؛ وهو صحيح.
بل قال ابن عبد البر: لا يختلفون في رفعه.
ولعل مراده أن له حكم الرفع، لا أن القائل له هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا إذا لم يصلح لتخصيص العمومات لم يصلح مخصص قط.
ومن نظر إلى ما يقع من عوام المسلمين - بل ومن بعض خواصهم في هذه الأعصار من التجاري على الصوم والإفطار بمجرد الشكوك والخيالات، التي هي عن الشريعة بمعزل -: قضى العجب، وبكى على الدين، وانتظر القيامة.

(2/39)


(3 - باب الاعتكاف)
( [مشروعية الاعتكاف] :)
(يشرع) : لا خلاف في مشروعية الاعتكاف، وقد كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، كما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة.
( [يصح الاعتكاف في كل وقت في المساجد] :)
(ويصح في كل وقت في المساجد) : لأنه ورد الترغيب فيه، ولم يأت ما يدل على أنه يختص بوقت معين.
وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: " فأوف بنذرك ".
وأما كونه لا يكون إلا في المساجد؛ فلأن ذلك هو معنى الاعتكاف شرعا؛ إذ لا يسمى من اعتكف في غيرها معتكفا شرعا.
وقد ورد ما يدل على ذلك؛ كحديث: " لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة "؛ أخرجه ابن أبي شيبة (1) ، وسعيد بن منصور من حديث حذيفة.
__________
(1) • عزوه لابن أبي شيبة خطأ، كما يتبين من مراجعة " نيل الأوطار " (4 / 269 - المطبعة العثمانية) .
ثم إن في الاستدلال به على ما أورده المؤلف نظرا؛ لأن لفظه كما في المصدر المذكور: " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة - أو قال: في مسجد جماعة - "؛ فهذا الشك مما يضعف الاحتجاج، كما قال الشوكاني فيه. (ن)

(2/40)


قال في " المسوى ": " الاعتكاف جائز في كل مسجد، فإن لم يكن المسجد جامعا: فالخروج للجمعة واجب عليه، فإذا خرج يبطل اعتكافه عند الشافعي، فيحتاج إلى نية جديدة لما يستقبله إن كان تطوعا، ولا يبطل عند أبي حنيفة كما لو خرج لقضاء الحاجة ".
أقول: لا ريب أن مسمى الاعتكاف الشرعي لا يحصل إلا إذا كان في المسجد، ولهذا لم تختلف الأمة في اعتبار ذلك؛ إلا ما يروى عن محمد بن عمر بن لبابة المالكي؛ فإنه أجازه في كل مكان.
وإنما اختلفوا هل يجزىء الاعتكاف في كل مسجد؟ أم في الثلاثة المساجد فقط؟ أم في المسجد الحرام فقط؟
والظاهر أنه يجزىء في كل مسجد؛ قال - تعالى -: {وأنتم عاكفون في المساجد} ؛ ولا حجة في قول عائشة، ولا في قول حذيفة (1) في هذا الباب.
( [أفضل الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان] :)
(وهو في رمضان آكد سيما في العشر الأواخر منه) : أفضل وآكد؛ لكونه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فيها؛ ولم يرد ما يدل على توقيته بيوم أو أكثر، ولا على اشتراط الصيام؛ إلا من قول عائشة.
وحديث نذر عمر - المتقدم - يرده.
__________
(1) قول عائشة سيأتي في الكلام على خروج المعتكف؛ وهو حديث صحيح مرفوع حكما.
وقول حذيفة سبق قريبا، وهو حديث مرفوع أيضا. (ش)

(2/41)


وكذلك حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على المعتكف صيام؛ إلا أن يجعله على نفسه " (1) ، أخرجه الدارقطني، والحاكم، وقال: " صحيح الإسناد "، ورجح الدارقطني، والبيهقي وقفه.
وبالجملة: فلا حجة إلا في الثابت من قوله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه ما يدل على أنه لا اعتكاف إلا بصوم، بل ثبت عنه ما يخالفه في نذر عمر.
وقد روى أبو داود عن عائشة مرفوعا من حديث: " ولا اعتكاف إلا بصوم ".
ورواه غيره من قولها، ورجح ذلك الحفاظ.
أقول: اعلم أن كون الشيء شرطا لشيء آخر، أو ركنا له أو فرضا من فروضه: لا يثبت إلا بدليل؛ لأنه حكم شرعي أو وضعي، ولم يأت ما يدل على أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم، بل ثبت الترغيب منه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف؛ ولم ينقل إلينا أنه اعتبر ذلك، ولو كان معتبرا؛ لبينه للأمة.
وأما اعتكافه صلى الله عليه وسلم في صومه: فلا يستلزم أن يكون الاعتكاف كذلك؛ لأنه أمر اتفاقي، ولو كان ذلك معتبرا؛ لكان اعتكافه في مسجده معتبرا؛ فلا يصح من أحد الاعتكاف في غيره، وأنه باطل.
وأما قول عائشة المتقدم: فظاهر هذا السياق أن لفظ: " ولا اعتكاف إلا بصوم "؛ ليس من بيان السنة المذكورة في أول كلامها، بل ابتداء كلام منها، فقد أخرجه النسائي؛ ولم يذكر فيه قولها: من السنة.
__________
(1) هو حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف الجامع " (4896) .

(2/42)


وكذلك أخرجه أيضا من حديث مالك؛ وليس فيه ذلك.
وقال أبو داود: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: من السنة.
وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها: لا يخرج، وما عداه ممن دونها.
وكذلك رجح ذلك البيهقي (1) ؛ كما ذكره ابن كثير في " إرشاده ".
ومما يؤيد هذا: حديث: " من اعتكف فواق ناقة "، وكذلك حديث: " ليس على المعتكف صيام "؛ وفيهما مقال أوضحه الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى ".
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه اعتكف عشرا من شوال، ولم ينقل عنه أنه صامها، بل روي (2) عنه أنه اعتكف العشر الأول من شوال، ولا يخفى أن يوم الفطر من جملتها، وليس بيوم صوم.
فالحق عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف لما تقدم، ولما ثبت: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال: " أوف بنذرك "؛ وهو متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: " يوما " مكان: " ليلة ".
وما في " الصحيحين " أرجح مما في أحدهما؛ إذا لم يمكن الجمع.
__________
(1) • وتبعه الحافظ في " بلوغ المرام "، كما ذكرته في " التعليقات " (4 / 43) . (ن)
(2) • قوله: " روي " تساهل من المؤلف - رحمه الله -؛ لأن هذه الرواية في " صحيح مسلم " (3 / 175) ، وفي " البيهقي " (4 / 315) و " أبي داود " (1 / 386) . (ن)

(2/43)


وقد جمع ابن حبان، وغيره بأنه نذر اعتكاف ليلة ويوم.
وفي رواية أبي داود، والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " اعتكف وصم "؛ ولكن في إسناده عبد الله بن بديل، وهو ضعيف، وقد ذكر ابن عدي، والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار.
وقال الحافظ في " الفتح ": إن رواية من روى: " يوما " شاذة.
وإذا عرفت ما تقدم من عدم انتهاض ما احتجوا به على شرطية الصوم؛ فالحق الحقيق بالقبول: أن الاعتكاف يكون ساعة فما فوقها.
بل حديث: " من اعتكف فواق ناقة "؛ يدل على أنه يكون أقله لحظة مختطفة، وهذا الحديث - وإن لم يكن صالحا للاحتجاج به -: فالأصل عدم التقدير بوقت معين، والدليل على مدعي ذلك.
ثم كون اليوم الكامل شرطا للصوم لا يستلزم أن يكون شرطا للاعتكاف؛ لأنه يمكن الاعتكاف بعض اليوم مع الصوم لكل اليوم، فاليوم شرط الصوم لا شرط الاعتكاف؛ على تسليم أن الصوم شرط.
( [استحباب الاجتهاد في العمل في العشر الأواخر من رمضان] :)
(ويستحب الاجتهاد في العمل فيها) : لحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل كله، وأيقظ أهله، وشد المئزر؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.

(2/44)


( [مشروعية قيام ليالي القدر] :)
(وقيام ليالي القدر) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه ".
وفي تعيين ليلة القدر أحاديث مختلفة، وأقوال جاوزت الأربعين؛ ذكرتها في " مسك الختام شرح بلوغ المرام " بالفارسية؛ وقد استوفاها الماتن في " نيل الأوطار ".
وفي " حاشية الشفاء " للماتن:
" أقول: في تعيينها مذاهب يطول تعدادها، وقد بسطتها في " شرح المنتقى "، فكانت سبعة وأربعين قولا، وذكرت أدلتها، وبينت راجحها من مرجوحها، ورجحت أنها في أوتار العشر الأواخر؛ لما ذكرته هنالك ". انتهى.
قال في " الحجة البالغة ": إن ليلة القدر ليلتان:
إحداهما: ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم، وفيها نزل القرآن جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك نجما نجما، وهي ليلة في السنة، ولا يجب أن تكون في رمضان، نعم؛ رمضان مظنة غالبة لها، واتفق أنها كانت في رمضان عند نزول القرآن.
والثانية: يكون فيها نوع من انتشار الروحانية، ومجيء الملائكة إلى الأرض، فيتفق المسلمون فيها على الطاعات، فتتعاكس أنوارهم فيما بينهم،

(2/45)


ويتقرب منهم الملائكة، ويتباعد منهم الشياطين، ويستجاب منهم أدعيتهم وطاعاتهم، وهي ليلة في كل رمضان في أوتار العشر الأواخر، تتقدم وتتأخر فيها، ولا تخرج منها، فمن قصد الأولى قال: هي في كل سنة، ومن قصد الثانية قال: هي في العشر الأواخر من رمضان (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها؛ فليتحرها في السبع الأواخر "، وقال: " أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين "، فكان ذلك في ليلة إحدى وعشرين.
واختلاف الصحابة فيها مبني على اختلافهم في وجدانها.
ومن أدعية من وجدها: " اللهم {إنك عفو تحب العفو؛ فاعف عني ".
وفي " المسوى ": " اختلفوا في [أي] ليلة هي أرجى؟ والأقوى أنها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة تتقدم وتتأخر.
وقول أبي سعيد: إنها ليلة إحدى وعشرين.
وقال المزني، وابن خزيمة: إنها تنتقل كل سنة ليلة؛ جمعا بين الأخبار.
قال في " الروضة ": وهو قوي.
ومذهب الشافعي أنها لا تلزم ليلة بعينها.
__________
(1) هذا خيال غريب من صاحب " الحجة البالغة "، لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وما أظن أحدا قاله قبله، والعبرة في هذه الأمور بالنقل؛ لا بالتخيل والأوهام} (ش)

(2/46)


وفي " المنهاج ": وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والثالث والعشرين.
وعن أبي حنيفة: أنها في رمضان، لا يدرى أية ليلة هي؟ وقد تتقدم وتتأخر.
وعندهما كذلك؛ إلا أنها متعينة لا تتقدم ولا تتأخر ".
( [لا يخرج المعتكف إلا لحاجة] :)
(ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة) : لما ثبت من حديث عائشة في " الصحيحين "، عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان؛ إذا كان معتكفا.
وأخرج أبو داود، عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه؛ وفي إسناده ليث بن أبي سليم.
قال الحافظ: والصحيح عن عائشة من فعلها؛ أخرجه مسلم وغيره، وقال: صح ذلك عن علي.
وأخرج أبو داود عن عائشة أيضا، قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة؛ إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع.
وأخرجه أيضا النسائي؛ وليس فيه: قالت: السنة.

(2/47)


قال أبو داود: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: قالت: السنة.
وجزم الدارقطني بأن القدر من حديث عائشة قولها: لا يخرج، وما عداه ممن دونها (1) .
قال في " المسوى ": اتفق أهل العلم على أن المعتكف يخرج للغائط والبول، ولا يفسد به اعتكافه، ولا يخرج للأكل والشرب، ويجوز غسل الرأس، وترجيل الشعر، وما في معناه.
وأكثرهم على أنه لا يجوز له الخروج لعيادة المريض، وصلاة الجنازة؛ إلا أن يخرج لحاجة فيسأل المريض مارا.
وإن شرط في اعتكافه الخروج لشيء من هذا؛ جاز له أن يخرج عند الشافعي، ولا يجوز عند أبي حنيفة؛ كذا في " شرح السنة ".
__________
(1) سبق أن نقل كلام أبي داود والدارقطني؛ فلا داعي لتكراره.
وانفراد عبد الرحمن بن إسحاق بزيادة قول عائشة: السنة؛ لا يضر؛ فإنه ثقة تقبل زيادته، ومثل هذا؛ حكمه أن يكون مرفوعا عند أهل العلم بالحديث. (ش)

(2/48)