الدرر
البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية (الكتاب السابع: كتاب الحج)
(2/49)
(7 - كتاب الحج)
(1 - باب: أحكام الحج)
(الفصل الأول: وجوب الحج)
( [تعريف الحج] :)
أقول: الحج في اللغة: القصد، فمعنى قوله - تعالى -: {ولله على الناس حج
البيت} : قصد البيت، والقصد لا إجمال فيه، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم
-: " خذوا عني مناسككم "؛ فهو أمر بالاقتداء به في أفعاله وأقواله، والأمر
يفيد الوجوب، فتكون المناسك التي بينها - صلى الله عليه وسلم - واجبة، ولا
يخرج عن الوجوب منها؛ إلا ما خصه دليل.
( [لا دليل على اختلال الحج باختلال بعض
المناسك إلا الوقوف بعرفة] :)
وأما كونه لا يصح الحج إلا بفعل جميع المناسك، أو يختل باختلال بعضها: فلا
دليل على ذلك؛ لأن الذي يؤثر عدمه في العدم، هو الشرط لا الواجب، وليس في
أدلة مناسك الحج ما يفيد تأثير عدمه في عدم الحج؛ إلا الوقوف بعرفة، ولا
ريب أنه نسك من مناسك الحج يختص بمزية لا توجد في غيره من المناسك؛ لحديث:
" الحج عرفة، من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ".
(2/51)
أخرجه أحمد، وأصحاب " السنن "، والحاكم،
والبيهقي، وابن حبان من حديث عبد الرحمن بن نعيم الدؤلي.
وأخرج من تقدم ذكره من حديث عروة بن مضرس: " من صلى معنا هذه الصلاة -
يعني: صلاة يوم النحر -، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا؛ فقد تم حجه
وقضى تفثه ".
وصحح هذا الحديث جماعة من الحفاظ؛ كالحاكم، والدارقطني، وابن العربي (1) .
وفي رواية من حديث عبد الرحمن المذكور: " من جاء عرفة قبل أن يطلع الفجر؛
فقد أدرك الحج ".
وفي رواية لأبي نعيم: " ومن لم يدرك جمعا؛ فلا حج له ".
فهذه الروايات تدل على أن الوقوف بعرفة ركن من الأركان التي لا يتم الحج
بدونها.
وههنا بحث؛ وهو أن الاستدلال ببعض أفعاله على الوجوب، وبعضها على الندب
تحكم، وكذلك القول بأن بعضها نسك، وبعضها غير نسك، والظاهر أن جميع أفعاله
الصادرة عنه في حجته مناسك؛ لأنه لم يبين لنا أن النسك هو هذا الفعل دون
هذا، ولكن لا بد أن تكون الأفعال مقصودة لذاتها؛ كالإحرام، والوقوف بعرفة،
والطواف، والسعي، ورمي الجمار، لا ما كان غير مقصود لذاته، كالمبيت بمنى
ليالي الرمي، أو كان بسبب غير الحج؛ كجمع الصلاتين في مزدلفة، ونحو ذلك.
__________
(1) • انظر تخريجه في " التعليقات " (4 / 144) . (ن)
(2/52)
وقد زعم الجلال في " ضوء النهار " أن من
زعم أن حجه صلى الله عليه وسلم مجمل بين بفعله فقد أسرف في الجهل، قال: "
لأن اسم الحج ومسماه ظاهران "، ثم قال: " إن تلك التي فعلها صلى الله عليه
وسلم إنما هي أفعال، وهي لا تدل على الوجوب، حتى يعلم أنه فعلها على وجه
الوجوب، وإلا فالظاهر القربة فقط، وهي لا تستلزم الوجوب ولا الشرطية ".
انتهى.
ولعله لم يخطر بباله - حال تحرير هذا البحث - حديث: " خذوا عني مناسككم "،
وهو حديث صحيح في " مسلم " وغيره، ولا ريب أنه يفيد وجوب مناسك الحج كما
قدمنا.
( [دليل وجوب الحج على المكلف المستطيع فورا]
:)
(يجب على كل مكلف مستطيع) : لنص الكتاب العزيز: {ولله على الناس حج البيت
من استطاع إليه سبيلا} ؛ وعليه إجماع الأمة؛ قالوا: الحج فريضة محكمة يكفر
جاحدها، وقالوا: الحر المكلف القادر، إذا وجد الزاد والراحلة وأمن الطريق؛
يلزمه الحج؛ كذا في " المسوى ".
أقول: حديث تفسيره صلى الله عليه وسلم للسبيل بالزاد والراحلة فيه مقال،
ولكنه قد روي من طريق جماعة من الصحابة، وفي جميع الطرق علل، لا تمنع تقوية
بعضها لبعض، ويشد من عضدها حديث: " من وجد زادا وراحلة "؛ وهو مروي من طريق
ثلاثة من الصحابة، وفي جميعها مقال.
فالحاصل: أن مجموع ما ورد في تفسير السبيل بالزاد والراحلة، وترتيب الوجوب
عليها؛ ينتهض للاحتجاج به على ذلك، فلا وجوب على من لم يجد الراحلة، كما
أنه لا وجوب على من لم يجد الزاد، ولا وجه لقصر
(2/53)
السبيل على الزاد والراحلة، بل السلامة من
المرض والأمن هما من السبيل، وكذلك المحرم للمرأة؛ لدلالة الدليل على ذلك.
ثم التحقيق: أن الشروط تنقسم إلى قسمين: شرط يتعلق بالفاعل، وشرط يتعلق
بالفعل:
فالأول: يتوقف عليه تعلق الخطاب به.
والثاني: يتوقف عليه كونه مطلوبا من فاعله.
والأول - أيضا - هو الذي يقال له: شرط الإيجاب، وشرط الطلب.
والثاني: هو الذي يقال له: شرط الواجب، وشرط المطلوب.
وإيضاح هذا: أن التكليف والإسلام والحرية؛ شروط متعلقة بالفاعل، والزاد،
والراحلة، والأمن، والمحرم؛ شروط متعلقة بالفعل، فجعل بعض شروط الفعل
للوجوب، وبعضها للأداء؛ غير موافق لعقل ولا نقل، وأنت خبير بأن المرأة
منهية عن السفر بدون محرم، كما ثبت النهي عن ذلك في " الصحيح "، ولم يثبت
النهي عن الحج لمن لم يجد الراحلة مثلا، بل كان الإيجاب متعلقا بوجودها،
وهذا يقتضي أن تحصيل المحرم أهم من تحصيل الراحلة؛ لأن السفر بدون محرم
حرام، كما يقتضيه النهي بحقيقته، وكما يقتضيه لفظ: " لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام - أو يوما، أو ليلة، أو بريدا -
بدون محرم "؛ على اختلاف الروايات.
ولم يرد ما يدل على تحريم السفر بدون الراحلة، فإيجاب الوصية بالحج على من
ماتت ولها زاد وراحلة وليس لها محرم، دون من ماتت ولها زاد
(2/54)
ومحرم وليس لها راحلة: ليس بمناسب؛ فإن
فاقدة المحرم لم تستطع إلى الحج سبيلا؛ كفاقدة الراحلة وزيادة.
ومعنى كون الشيء شرطا لتأدية شيء آخر: أن التأدية بدونه لا تصح، وهذا يعود
إلى شرط الصحة، وهم لا يريدون هذا، بل معنى شرط الأداء عندهم: أن يكون
المكلف قد كملت له شروط الصحة والوجوب، ولم يبق إلا التأدية؛ وهي مشروطة
بشرط، وهذا اصطلاح قليل الثمرة، غاية ما فيه؛ أن من مات وقد كملت له شروط
الصحة والوجوب، ولم يبق إلا شرط الأداء؛ وجب عليه الإيصاء بالحج، وقد تقدم
ما هو الحق في ذلك.
(فوراً) : لحديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تعجلوا إلى
الحج؛ فإن أحدكم ما يدري ما يعرض له "؛ أخرجه أحمد.
وأخرج أحمد - أيضا -، وابن ماجه من حديث ابن عباس، عن الفضل - أو أحدهما عن
الآخر - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد الحج
فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة "؛ وفي إسناده
إسماعيل بن خليفة العبسي أبو إسرائيل، وهو صدوق ضعيف الحفظ.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وسعيد بن منصور، والبيهقي من حديث أبي أمامة
مرفوعا: " من لم يحبسه مرض، أو حاجة ظاهرة، أو مشقة ظاهرة، أو سلطان جائر،
فلم يحج؛ فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا "؛ وفي إسناده ليث بن أبي
سليم، وشريك، وفيهما ضعف.
وأخرجه الترمذي من حديث علي مرفوعا: " من ملك زادا وراحلة تبلغه
(2/55)
إلى بيت الله ولم يحج؛ فلا عليه أن يموت
نصرانيا، أو يهوديا؛ وذلك لأن الله - تعالى - قال في كتابه: {ولله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ".
قال الترمذي: غريب، وفي إسناده مقال والحديث يضعف، وهلال بن عبد الله
الراوي له عن أبي إسحاق مجهول.
وقال العقيلي: لا يتابع عليه.
وقد روي من طريق ثالثة من حديث أبي هريرة عند ابن عدي بنحوه.
وروى سعيد بن منصور في " سننه " عن الحسن، قال: قال عمر بن الخطاب: لقد
هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج،
فيضربوا عليهم الجزية؛ ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين؛ وأخرجه أيضا البيهقي.
وقد ذهب إلى القول بالفور: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وبعض أصحاب الشافعي.
وقال الشافعي، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد: إنه على التراخي.
قال في " حجة الله البالغة " - تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من ملك
زادا وراحلة ... " الخ -:
" أقول: ترك ركن من أركان الإسلام يشبه بالخروج عن الملة، وإنما شبه تارك
الحج باليهودي والنصراني، وتارك الصلاة بالمشرك؛ لأن اليهود والنصارى يصلون
ولا يحجون، ومشركو العرب يحجون ولا يصلون.
(2/56)
والمصلحة المرعية في الحج إعلاء كلمة الله،
وموافقة سنة إبراهيم - عليه السلام -، وتذكر نعمة الله عليه ". انتهى.
( [دليل وجوب العمرة] :)
وفي بعض نسخ المتن:
(وكذلك العمرة؛ وما زاد فهو نافلة) ، وفي حديث أبي هريرة، أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج
المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ".
قلت: الحج المبرور: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم.
( [من منكرات الحج تضييع الصلاة] :)
وفي " تنبيه الغافلين " للشيخ محيي الدين بن إبراهيم النحاس؛ في ذكر منكرات
الحجاج:
" وأعظمها فتنة، وأجلها مصيبة، وأكثرها وجودا وبلية: هو تضييع أكثرهم
الصلاة في الحج، وكثير منهم لا يتركونها؛ بل يضيعون أوقاتها، ويجمعونها على
غير الوجه الشرعي، وذلك حرام بالإجماع، ومن تحقق أن ذلك نصيبه في حجه؛ حرم
عليه الحج، رجلا كان أو امرأة.
قال ابن الحاج: وقد قال علماؤنا في المكلف: إذا علم أنه تفوته الصلاة
الواحدة إذا خرج إلى الحج؛ فقد سقط الحج عنه.
(2/57)
وقد سئل (1) مالك في الذي يركب البحر ولا
يجد موضعا يسجد فيه إلا على ظهر أخيه (2) : أيجوز له الحج؟ فقال - رحمه
الله -: أيركب حيث لا يصلي؟ {ويل لمن ترك الصلاة} ويل له {
وأما النساء؛ فلا يمكن إحداهن الصلاة في وقتها المشروع إلا في النادر الذي
لا حكم له، وسبب هذا المنكر العظيم أمراء الحاج وتهاونهم في الإنكار، وخوف
المصلي من فوات الرفقة، ومشقة اللحوق بهم، فالواجب على الأمراء أن يقفوا
بالحج في أوقات الصلاة إذا دخلت عليهم وهم مسافرون، ويتفقدوا من لم يصل من
الجمّالين وغيرهم، ويشددوا عليهم في أمر الصلاة، ويمنعوا من يتقدم منهم قبل
الصلاة، فإن لم يفعلوا؛ كان إثم من ترك الصلاة كذلك في أعناقهم، ومن تركها
تهاونا وكسلا ولم يعلموا به؛ فإثمه في عنق نفسه، وحكمه مذكور في كتب الفقه
". انتهى حاصله (3) .
(الفصل الثاني: وجوب تعيين نوع الحج بالنية)
( [تعيين نوع الحج بالنية واجب] :)
__________
(1) • بحثت عنه في مظانه من " الموطإ " و " المدونة "؛ فلم أقف عليه. (ن)
(2) • فيه إشارة إلى أن صلاة من سجد على ظهر أخيه - ولو لزحام - غير صحيحة
عند مالك، وهو مذهبه؛ ففي " المدونة " (1 / 147) : " وقال مالك: إن زحمه
الناس فلم يستطع السجود إلا على ظهر أخيه؛ أعاد الصلاة، قيل له: أفي الوقت
وبعد الوقت؟ قال: يعيد ولو بعد الوقت ". (ن)
(3) في هذا الكلام شيء من الخلط؛ فإن تارك الصلاة آثم بلا خلاف، ولكن. . هل
هذا يسقط عنه الحج؟ وهل تمسكهم بكلمة مالك التي ذكرها الشارح له وجه؟
إن مالكا ينعى على [من] ركب حيث لا يصلي، وهو تعليم منه - رحمه الله -،
وإرشاد إلى أن الواجب على المسلم أن يتحرى في ركوبه وحله وترحاله إمكان
تأدية الصلاة، ولم يرد - قط - بهذا أن فريضة الحج تسقط حينئذ؛ أعاذه الله
من سوء الفهم} (ش)
(2/58)
(ويجب تعيين نوع الحج بالنية) : لأن
المناسك - على ما استفاض من الصحابة، والتابعين، وسائر المسلمين - أربعة:
حج مفرد، وعمرة مفردة، وتمتع، وقران:
(من تمتع) : وهو أن يحرم الآفاقي بالعمرة في أشهر الحج، فيدخل مكة ويتم
عمرته ويخرج من إحرامه، ثم يبقى حلالا حتى يحج، وعليه أن يذبح ما استيسر من
الهدي.
(أو قران) : وهو أن يحرم الآفاقي بالحج والعمرة معا، ثم يدخل مكة ويبقى على
إحرامه حتى يفرغ من أفعال الحج، وعليه أن يطوف طوافا واحدا، ويسعى سعيا
واحدا - في قول -، وطوافين وسعيين، ثم يذبح ما استيسر من الهدي، فإذا أراد
أن ينفر من مكة؛ طاف للوداع.
(أو إفراد) ؛ أي: حج مفرد أو عمرة مفردة، فالحج لحاضر مكة أن يحرم منها،
ويجتنب في الإحرام الجماع ودواعيه، والحلق، وتقليم الأظفار، ولبس المخيط،
وتغطية الرأس، والتطيب، والصيد، ويجتنب النكاح على قول، ثم يخرج إلى عرفات،
ويكون فيها عشية عرفة، ثم يرجع منها بعد غروب الشمس، ويبيت بمزدلفة، ويدفع
منها قبل شروق الشمس، فيأتي منى، ويرمي العقبة الكبرى، ويهدي إن كان معه،
ويحلق أو يقصر، ثم يطوف للإفاضة في أيام منى، ويسعى بين الصفا والمروة.
وللآفاقي أن يحرم من ميقات.
فإن دخل مكة قبل الوقوف؛ طاف للقدوم ورمل فيه، وسعى بين الصفا والمروة، ثم
بقي على إحرامه حتى يقوم بعرفة، ويرمي ويحلق، ويطوف، ولا رمل ولا سعي
حينئذ.
(2/59)
والعمرة: أن يحرم من الحل، فإن كان آفاقيا
فمن الميقات، فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر.
وبالجملة: فتعيين نوع الحج بالنية؛ لما تقدم في الوضوء.
وقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: " من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن
أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل "، قالت: وأهلّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وأهلّ به ناس معه، وأهلّ معه ناس بالعمرة
والحج، وأهلّ ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بعمرة.
وفي " البخاري " من حديث جابر: أن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم من ذي
الحليفة حين استوت به راحلته.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر، قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من
عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة -.
وقد وقع الخلاف في المحل الذي أهل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على
حسب اختلاف الرواة؛ فمنهم من روى أنه أهل من المسجد، ومنهم من روى أنه أهلّ
حين استقلت به راحلته، ومنهم من روى أنه أهلّ لما علا شرف البيداء، وقد جمع
بين ذلك ابن عباس، فقال: إنه أهلّ في جميع هذه المواضع، فنقل كل راو ما
سمع.
قال في " الحجة البالغة ": " وبين ابن عباس أن الناس كانوا أتوه أرسالا،
فأخبر كل واحد بما رآه ".
(2/60)
( [التمتع أفضل
أنواع الحج] :)
(والأول) ؛ أي: التمتع (أفضلها) ؛ أي: الأنواع الثلاثة.
واعلم أن هذه المسألة قد طال فيها النزاع، واضطربت فيها الأقوال، فمنهم من
قال بأن أفضل الأنواع القران؛ لكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا على ما هو
الصحيح، وإن كان قد ورد ما يدل على أنه حج إفرادا، لكن الأحاديث الصحيحة
الثابتة في " الصحيحين " وغيرهما من طرق عديدة؛ مصرحة بأنه أهل بحج وعمرة،
فلو لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن غير ما فعله أفضل مما
فعله؛ لكان القران أفضل الأنواع، لكنه ورد ما يدل على ذلك.
ففي " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يا أيها الناس! أحلوا؛ فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم "، قال: فأحللنا،
حتى وطئنا النساء، وفعلنا كما يفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية،
وجعلنا مكة بظهر؛ أهللنا بالحج.
وثبت مثل ذلك في حديث جماعة من الصحابة بألفاظ: منها: " لو استقبلت من أمري
ما استدبرت؛ ما سُقت الهدي، ولجعلتها عمرة ".
وقد ذهب إلى هذا جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ كمالك وأحمد، وهو
الحق؛ لأنه لم يعارض هذه الأدلة معارض، وقد أوضح فيها صلى الله عليه وسلم
أن نوع التمتع أفضل من النوع الذي فعله، وهو القران.
وقد أوضح الماتن حجج الأقوال، وما احتج به كل فريق في " شرح المنتقى "،
والعبد الضعيف في " شرح بلوغ المرام "، وكذلك أوضح الماتن فيه؛
(2/61)
أن حجه - صلى الله عليه وسلم - كان قرانا.
أقول: قد روى الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم أربعة عشر رجلا من الصحابة.
وأما قول أبي ذر؛ فليس بحجة على أحد؛ لأنه رأي صحابي فيما للاجتهاد فيه
مسرح.
والحاصل: أن هذا البحث يطول الكلام عليه جدا، فمن رام العثور على الصواب؛
فعليه ب " شرح المنتقى "، أو ب " الهدي النبوي " للحافظ ابن القيم - رحمه
الله -.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " أفتى صلى الله عليه وسلم بجواز
فسخهم الحج إلى العمرة، ثم أفتاهم باستحبابه، ثم أفتاهم بفعله حتما، ولم
ينسخه شيء بعده، وهو الذي ندين الله به؛ أن القول بوجوبه أقوى وأصح من
القول بالمنع منه.
وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: " من لم يكن أهدى؛ فليهل بعمرة، ومن
أهدى؛ فليهل بحج ثم مع عمرة ".
وأما ما فعله هو: فإنه صح عنه أنه قرن بين الحج والعمرة من بضع وعشرين
رواية عن ستة وعشرين نفسا من أصحابه، ففعل القران وأمر بفعله من ساق الهدي،
وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله؛ كأنه رأي عين؛
وبالله التوفيق ".
( [توضيح ما يتعلق بحج الرسول صلى الله عليه
وسلم] :)
فإن قيل: كيف وقع اختلاف بين الصحابة - رضي الله تعالى
(2/62)
عنهم - في صفة حجته صلى الله عليه وسلم؛
وهي حجة واحدة، وكل واحد منهم يخبر عن مشاهدة في قصة واحدة؟
قلت: قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث؛ فمن مجد
منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصر مختصر.
قال: وأوسعهم في ذلك نفسا؛ أبو جعفر الطحاوي الحنفي، فإنه تكلم في ذلك في
زيادة على ألف ورقة، وتكلم معه في ذلك أيضا أبو جعفر الطبري، ثم أبو عبد
الله بن أبي صفرة، ثم المهلب، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط، والقاضي
أبو الحسن بن القصار البغدادي، والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم.
قال القاضي عياض: وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم، واخترناه
من اختياراتهم، مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث: أن النبي صلى
الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة؛ ليدل على جواز جميعها،
ولو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزئ، فأضيف الجميع إليه، وأخبر كل
واحد بما أمره به، وأباحه له، ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إما
لأمره وإما لتأويله عليه. انتهى.
أقول: إنما ذكر المختلفون في أفضل الأنواع نوع حجته صلى الله عليه وسلم؛
لأنهم يقولون: إن النوع الذي اختاره صلى الله عليه وسلم لنفسه لا يكون إلا
فاضلا، ولا سيما والتلبية كانت عن وحي من الله - عز وجل -؛ كما في حديث:
أنه نزل جبريل فقال: " قل: لبيك بحجة وعمرة ".
(2/63)
وقد اختلف في نوع حجته صلى الله عليه وسلم،
والحق أنه قران كما قرر الماتن ذلك في " شرح المنتقى "، ولكنه قال بعد ذلك:
" لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة "، يعني: كما
فعل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن أمره، وهذا الحديث متفق على صحته كما
تقدم، فدل على أن التمتع أفضل من القران بلا ريب.
ولا اعتبار بقول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك تطييبا لقلوب
أصحابه؛ حيث حجوا تمتعا لعدم الهدي؛ لأن المقام مقام تشريع، لا مقام جبر
خواطر، وتطييب قلوب، فالحق أن التمتع أفضل.
وأما أنه متعين لا يجوز غيره - كما رجحه ابن القيم - رحمه الله -، وأطال
الكلام في تقريره -؛ فلا (1) .
قال في " التكميل ": " اختلفوا في نسك النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان
مفردا للحج، أو قارنا، أو متمتعا سائق الهدي؟ ووجه التطبيق: أن النبي صلى
الله عليه وسلم حين جمع الناس، وخرج من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة؛
كان لا ينوي إلا الحج، فلما بات بذي الحليفة في العقيق؛ أُمر بالقران،
فقال: " لبيك بحجة وعمرة "، فلما دخل مكة، وتذكر جهالة العرب أن العمرة في
أشهر الحج من أفجر الفجور، وعرف أنه في آخر عمره ولا يعيش إلى قابل؛ أراد
رد هذا الوهم بأبلغ وجه، فأمر الناس بفسخ إحرام الحج وجعله عمرة، وقال: "
لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سقت الهدي، وأحللت مع الناس كما حلوا "،
فكان مفردا بحسب ابتداء النية والشهرة، وقارنا بحسب تلبيته من
__________
(1) • التمتع أفضل فقط؛ ولا يتعين. (ن)
قلت: ويُنظر كتاب " حجة النبي صلى الله عليه وسلم " (ص 10 - 20) لشيخنا؛
لتحرير المسألة
(2/64)
العقيق؛ حيث أُمر: " صل في هذا الوادي
المبارك، وقل: عمرة في حجة "، وكان متمتعا سائق الهدي بحسب الهم والرغبة،
ولم ينقل تجديد الإحرام للحج يوم التروية، نعم؛ عُرف تجديد التلبية عند
إنشاء السفر إلى عرفة من منى، فكان قارنا حقيقة، مفردا في أول الأمر،
متمتعا في آخره ". انتهى.
قال في " المسوى ": " والتحقيق في هذه المسألة: أن الصحابة لم يختلفوا في
حكاية ما شاهدوه من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من أنه أحرم من ذي
الحليفة، وطاف أول ما قدم، وسعى بين الصفا المروة، ثم خرج يوم التروية إلى
منى، ثم وقف بعرفات، ثم بات بمزدلفة، ووقف بالمشعر الحرام، ثم رجع إلى منى،
ورمى، ونحر، وحلق، ثم طاف طواف الزيارة، ثم رمى الجمار في الأيام الثلاثة؛
وإنما اختلفوا في التعبير عما فعل باجتهادهم وآرائهم.
فقال بعضهم: كان ذلك حجا مفردا، وكان الطواف الأول للقدوم، والسعي لأجل
الحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنه قصد الحج.
وقال بعضهم: كان ذلك تمتعا بسوق الهدي، وكان الطواف الأول للعمرة، كأنهم
سموا طواف القدوم والسعي بعده عمرة، وإن كان للحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛
لأنه كان متمتعا بسوق الهدي.
وقال بعضهم: كان ذلك قرانا، والقران لا يحتاج إلى طوافين وسعيين.
وهذا الاختلاف سبيله سبيل الاختلاف في الاجتهاديات.
أما أنه سعى تارة أخرى بعد طواف الزيارة - سواء قيل بالتمتع أو القران -؛
فإنه لم يثبت في الروايات المشهورة، بل ثبت عن جابر أنه لم يسع بعده ".
انتهى.
(2/65)
قال النووي في " شرح صحيح مسلم ": " وأما
إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه؛ فأخذ بالأفضل، فأحرم مفردا للحج، وبه
تظاهرت الروايات الصحيحة، وأما الروايات بأنه كان متمتعا؛ فمعناها: أمر به،
وأما الروايات بأنه كان قارنا؛ فإخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء
إحرامه، بل إخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من حجهم، وقلبه إلى عمرة
لمخالفة الجاهلية؛ إلا من كان معه هدي، وكان هو صلى الله عليه وسلم ومن معه
هدي في آخر إحرامهم قارنين؛ يعني: أنهم أدخلوا العمرة على الحج؛ وفعل ذلك
مواساة لأصحابه، وتأنيسا لهم في فعلها في أشهر الحج، لكونها كانت منكرة
عندهم في أشهر الحج؛ ولم يمكنه التحلل معهم بسبب الهدي، واعتذر إليهم بذلك
في ترك مواساتهم، فصار النبي صلى الله عليه وسلم قارنا في آخر أمره، وقد
اتفق جمهور العلماء على جواز إدخال الحج على العمرة، وشذ بعض الناس فمنعه
". انتهى.
(ويكون الإحرام) ؛ وهو في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة، فيه
تصوير الإخلاص والتعظيم، وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر، وفيه جعل النفس متذللة
خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة، وأنواع التجمل، وفيه تحقيق
معاناة التعب والتشعث والتغير لله.
أقول: وليس في إيجاب الإحرام - على غير من دخل لأحد النسكين - دليل.
أما الآية - أعني: قوله - تعالى -: {وإذا حللتم فاصطادوا} -؛ فإنها بيان
لما حرمه عليهم من الصيد حال الإحرام، في قوله تعالى -: {إلا ما يتلى
(2/66)
عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم} - وقد
عُلم أنه لا إحرام إلا لأحد النسكين -، ثم أخبرهم بإباحة الصيد لهم إذا
حلوا.
وأما قول ابن عباس؛ فاجتهاد منه، وليس ذلك من الحجة في شيء، والمقام مقام
اجتهاد، ولهذا خالفه ابن عمر، فجاوز الميقات غير محرم، كما روى ذلك عنه
مالك في " الموطإ ".
وقد كان المسلمون في عصره صلى الله عليه وسلم يختلفون إلى مكة لحوائجهم،
ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بإحرام، كقصة الحجاج بن علاط، وكذلك قصة أبي
قتادة لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال، وقد كان أرسله لغرض قبل
الحج، فجاوز الميقات غير مريد للحج ولا للعمرة، والبراءة الأصلية مستصحبة؛
فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح يجب العمل به.
وقد ذهب إلى جواز المجاوزة من غير إحرام - لغير الحاج والمعتمر - ابن عمر
والشافعي في أخير قوليه.
وأما إيجاب الدم على من جاوز - معللا ذلك بأنه ترك نسكا -: ففاسد؛ فإن
الإحرام ليس بنسك لغير من أراد الحج أو العمرة، على أنه لم يثبت عنه - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: " من ترك نسكا فعليه دم "؛ وإنما روي ذلك عن ابن
عباس؛ كما في " الموطإ ".
( [الإحرام من المواقيت المكانية المحددة]
:)
(من المواقيت المعروفة) : لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما، قال:
وقّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا
(2/67)
الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد
قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، قال: " فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير
أهلهن؛ لمن كان يريد الحج والعمرة ".
وفائدة التأقيت: المنع عن تأخير الإحرام، فلو قدم عليها جاز.
أقول: قال قوم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت لأهل العراق
ذات عرق، وإنما وقته عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
قلت: قد ذهب إلى هذا طاوس، ورواه أحمد بن حنبل عن ابن عباس، وإليه ذهب
جماعة من الشافعية - كالغزالي والرافعي والنووي وغير هؤلاء -، ووجه ذلك؛ ما
قاله ابن خزيمة وابن المنذر من أنه لم يصح أنه - صلى الله عليه وسلم - وقّت
ذات عرق لأهل العراق في حديث صحيح.
قال الحافظ في " الفتح ": " لعل من قال: إنه غير منصوص؛ لم يبلغه، أو رأى
ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق من طرقه لا تخلو عن مقال، لكن الحديث بمجموع
طرقه يقوى ". انتهى.
وقد ذكر الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى " من روى حديث توقيت ذات
عرق لأهل العراق من الصحابة، ومجموع ما رووه لا يخرج عن حد الحسن لغيره،
وهو مما تقوم به الحجة.
( [يحرم من كان دون المواقيت من مكانه]
)
(ومن كان دونها فمهله) من (أهله) وكذلك (حتى أهل مكة) يهلون منها.
(2/68)
ومثله في " الصحيحين " أيضا من حديث ابن
عمر.
وفي رواية من حديثه لأحمد: أنه قاس الناس ذات عرق بقرن.
وفي " البخاري " من حديثه: أن عمر قال لأهل البصرة والكوفة: انظروا حذو قرن
من طريقكم، قال: فحد لهم ذات عرق.
في " المسوى ": " وميقات المكي للحج جوف مكة، وللعمرة الحل.
في " العالمكيرية ": والتنعيم أفضل.
وفي المنهاج ": أفضل بقاع الحل الجعران (1) ، ثم التنعيم، ثم الحديبية ".
وأما الغسل للإحرام: ففيه حديث خارجة بن زيد - حسنه الترمذي، وضعفه العقيلي
-.
وأما حديث جابر في ولادة أسماء وغسلها: فهو صحيح، ولكنه قد قيل: إن أمرها
بذلك ليس للإحرام؛ بل لقذر النفاس، وكذلك أمره للحائض.
وقد أخرج الحاكم، والبيهقي من حديث ابن عباس: أنه - صلى الله عليه وسلم -
اغتسل ولبس ثيابه، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم أحرم بالحج؛ وفي
إسناده يعقوب بن عطاء، وهو ضعيف.
والحديث محتمل؛ فيمكن أن يكون الغسل للإحرام، ويمكن أن يكون
__________
(1) بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء - وقد تكسر العين وتشدد الراء -؛
وهو موضع قريب من مكة؛ قاله في " النهاية ". (ش)
(2/69)
لغيره، كإذهاب وعثاء السفر، أو التبرد أو
نحوهما.
ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من الناس أن يغتسل للإحرام؛ إلا
ما وقع منه الأمر للحائض والنفساء دون غيرهما، فدل ذلك على أن اغتسالهما
للقذر، ولو كان للإحرام؛ لكان غيرهما أولى بذلك منهما، فمع الاحتمال في
فعله - وعدم صدور الأمر منه -؛ لا تثبت المشروعية أصلا.
وأما إزالة التفث (1) قبل الإحرام: فلم يرد في هذا شيء يصلح لإثبات مثل هذا
الحكم الشرعي؛ وهو الاستحباب.
وأما ما قيل من أنه يقاس على تطييبه صلى الله عليه وسلم: فقياس فاسد، ولا
سيما وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى ترك الشعر والبشر بعد
رؤية هلال ذي الحجة لمن أراد أن يضحي؛ كما في " صحيح مسلم "، وسائر " السنن
" من حديث أم سلمة؛ والحاج أولى بهذه السنة من غيره؛ لأنه في شغل شاغل عن
ذلك.
وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عمر: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
من الحاج يا رسول الله؟ ! قال: " الشعث التفل (2) ".
وقد كان ابن عمر إذا أفطر من رمضان وهو عازم على الحج في ذلك العام؛ لم
يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا؛ حتى يحج كما في " الموطإ ".
__________
(1) بفتح التاء والفاء وآخره ثاء مثلثة: هو ما يفعله المحرم بالحج إذ حل؛
كقص الشارب والأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقيل: هو إذهاب الشعث
والدرن والوسخ مطلقا؛ قاله في " النهاية ". (ش)
(2) • هو الذي ترك استعمال الطيب؛ من التفل؛ وهي الريح الكريهة. (ن)
(2/70)
والحاصل: أن التساهل في الأحكام الشرعية
بلا دليل - بل إثبات ما قام الدليل على خلافه -: ليس من دأب أهل الإنصاف.
( [الفصل الثالث: فصل محظورات الإحرام] )
(1 -[لباس المخيط] :)
(ولا يلبس المحرم القميص) : الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك:
أن الأول ارتفاق وتجمل وزينة، والثاني ستر عورة، وترك الأول تواضع لله،
وترك الثاني سوء أدب؛ كذا في " الحجة ".
(ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس، ولا زعفران،
ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا
تنتقب (1) المرأة، ولا تلبس القفازين، وما مسه الورس والزعفران) : لحديث
ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ما يلبس المحرم؟ فقال: " لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا
البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس (2) ، ولا زعفران، ولا الخفين؛ إلا
أن لا يجد نعلين؛ فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ".
قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه
المحرم.
__________
(1) • وأما سدلها على وجهها فجائز، وهو غير التنقب، والتسوية بينهما خطأ؛
كما بينه ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 269) . (ن)
(2) بفتح الواو وإسكان الراء وآخره سين: هو نبت أصفر؛ يصبغ به. (ش)
(2/71)
وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يجد نعلين؛ فليلبس خفين، ومن لم يجد
إزارا؛ فليلبس سراويل ".
وفي " الصحيحين " نحوه من حديث ابن عباس.
وأخرج أحمد، والبخاري، والنسائي، والترمذي - وصححه - من حديث ابن عمر، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس
القفازين ".
زاد أبو داود، والحاكم، والبيهقي: " وما مس الورس والزعفران من الثياب ".
والقفاز - بضم القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي -: ما تلبسه المرأة في
يدها، فتغطي أصابعها وكفها عند معاناة شيء.
(2 -[التطيب ابتداء] :)
(ولا يتطيب ابتداء) ، ويجوز له أن يستمر على الطيب الذي كان على بدنه قبل
الإحرام؛ فذلك هو الراجح؛ جمعا بين الأدلة.
وقد أوضح الماتن ذلك في " شرح المنتقى "، و " حاشية الشفاء " وغيرهما.
قال صاحب " سبل السلام " في " منسكه ": " ولما أراد الإحرام اغتسل لإحرامه،
ثم طيبته عائشة بذريرة وطيب فيه مسك في يديه ورأسه، حتى كان وبيص (1) المسك
يُرى في مفارقه ولحيته صلى الله عليه وسلم، ثم استدامه ولم يغسله ". انتهى.
__________
(1) بفتح الواو وكسر الباء؛ وهو البريق. (ش)
(2/72)
(3 -[الأخذ من
الشعر والبشرة إلا لعذر] :)
(ولا يأخذ من شعره وبشره إلا لعذر) : لحديث كعب بن عجرة في " الصحيحين "
وغيرهما، قال: كان بي أذى من رأسي، فحُملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم
والقمل بتناثر على وجهي، فقال: " ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى!
أتجد شاة؟ "، قلت: لا، فنزلت الآية {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} ، قال:
" هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين - نصف صاع -؛ طعاما لكل مسكين ".
وقد تقدم الكلام على إزالة التفث؛ فليراجع.
(4 -[الجدال والرفث والفسق] :)
(ولا يرفث ولا يفسق ولا يجادل) : لنص القرآن الكريم: {فلا رفث ولا فسوق ولا
جدال في الحج} ؛ وهذه الأمور لا تحل للحلال، ولكنها مع الإحرام أغلظ.
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " من حج ولم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".
قال الحافظ المنذري: الرفث يطلق ويراد به الجماع، ويطلق ويراد به الفحشاء،
ويطلق ويراد به خطاب الرجل المرأة فيما يتعلق به الجماع.
وقد نُقل [أن] معنى هذا الحديث كل واحد من هذه الثلاثة عن جماعة من
العلماء.
(2/73)
قلت: فيحرم الجميع.
وقال مالك: الرفث إصابة النساء، والله - تعالى - أعلم؛ قال الله - تعالى -:
{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} .
والفسوق الذبح للأنصاب، والله - تعالى - أعلم؛ قال - تعالى: {أو فسقا أهل
لغير الله به} .
والجدال في الحج: أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح (1)
، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة، فكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء: نحن أصوب،
ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فقال الله - تعالى -: {لكل أمة جعلنا منسكا هم
ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم} ؛ فهذا
الجدال في الحج، فيما نُرى، والله - تعالى - أعلم.
وأما فساد الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة: فإن كان الدليل (2) على هذا
__________
(1) بضم القاف وفتح الزاي: هو القرن الذي يقف عنده الإمام بالمزدلفة، ولا
ينصرف - للعدل والعلمية؛ كعمر -؛ قاله في " النهاية ". (ش)
(2) • قلت: قد نقل الحافظ في " الفتح " (4 / 42) الإجماع على إفساد الحج
والعمرة بالجماع، وسبقه إلى ذلك ابن حزم في " مراتب الإجماع " (ص 42) ،
وقيده بأن يكون ذاكرا؛ ما لم يقدم المعتمر مكة، ولم يأت وقت الوقوف بعرفة
للحاج.
ولم يتعقبه شيخ الإسلام بشيء؛ فالظاهر صحة هذا الإجماع، فإذا صح؛ فهو
الدليل على الفاسد، والله أعلم.
وذكر ابن تيمية في رسالة " الصيام " (ص 28) أنه لا يبطل بفعل شيء من
المحظورات؛ لا ناسيا ولا مخطئا؛ لا الجماع ولا غيره؛ قال: " وهو أظهر قولي
الشافعي ". (ن)
(2/74)
الفساد أقوال الصحابة؛ فمع كون الروايات
عنهم إنما هي بطريق البلاغ - كما ذكره مالك في " الموطإ "، وليس ذلك بحجة
لو كان في المرفوع فضلا عن الموقوف -: فقد عرفت غير مرة أن قول الصحابي ليس
بحجة؛ إنما الحجة في إجماعهم عند من يقول بحجية الإجماع.
وأما الاستدلال على ذلك بما أخرجه أبو داود في " المراسيل " بإسناد رجاله
ثقات: أن رجلا جامع امرأته وهما محرمان، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم؟
فقال: " اقضيا نسككما، واهديا هديا ": فالمرسل لا حجة فيه على ما هو الحق
(1) .
وأما الاستدلال بقوله - تعالى -: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} :
فعلى تسليم أن الرفث هو الجماع؛ غاية ما يدل عليه المنع منه، لا أنه يفسد
الحج، وإلا لزم في الجدال أنه يفسد الحج؛ ولا قائل بذلك (2) .
والمروي في هذا الحديث المرسل هو إيجاب الهدي عليهما، والهدي يصدق على
الشاة والبقرة والبدنة، ولا وجه لإيجاب أشد ما يطلق عليه اسم الهدي.
ولا حجة فيما رواه في " الموطإ " عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل واقع أهله
وهو بمنى قبل أن يفيض؟ فأمره أن ينحر بدنة؛ ولا يصح تقييد المطلق به ولا
تفسير المجمل.
__________
(1) انظر " المراسيل " (ص 148 - 149) لأبي داود، وتعليق محققه عليه.
(2) • لعل مستنده في ذلك قول ابن حزم في " المراتب " (ص 43) : " واتفقوا
أنه من جادل في الحج؛ أن حجه لا يبطل، ولا إحرامه "، ولكن ابن حزم - رحمه
الله - خالف هذا الإجماع الذي نقله هو في كتابه " المحلى "، حيث قال فيه (7
/ 196) :
" والجدال بالباطل وفي الباطل؛ عمدا ذاكرا لإحرامه؛ مبطل لإحرامه وللحج؛
لقوله تعالى: {فلا رفث} الآية ". (ن)
(2/75)
فالحاصل: أن البراءة الأصلية مستصحبة، ولا
ينقل عنها إلا ناقل صحيح تقوم به الحجة، وليس ههنا ما هو كذلك، فمن وطئ قبل
الوقوف أو بعده، قبل الرمي أو قبل طواف الزيارة: فهو عاص يستحق العقوبة،
وتغفر له بالتوبة، ولا يبطل حجه، ولا يلزمه شيء، ومن زعم غير هذا؛ فعليه
الدليل المرضي، فليس بين أحد وبين الحق عداوة.
( [النكاح والإنكاح] :)
(ولا ينكح ولا يُنكح ولا يخطب) : لحديث عثمان - الثابت في " مسلم " وغيره
-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينكح المحرم ولا يُنكح، ولا
يخطب " (1) .
وفي الباب أحاديث.
وأما ما في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة
وهو محرم:
فقد عارضه ما في " صحيح مسلم " وغيره من حديث ميمونة: أن النبي صلى الله
عليه وسلم تزوجها وهو حلال.
وما أخرجه أحمد، والترمذي - وحسنه (2) - من حديث أبي رافع: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا، وكان أبو رافع السفير بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة.
وهما أعرف بذلك.
__________
(1) هو من حديث ابن عباس. (ش)
(2) • ورجاله رجال مسلم، وأخرجه ابن حبان في " صحيحيه "، كما ذكرت في "
الروض النضير "، عند حديث ابن عباس رقم (467) . (ن)
(2/76)
وعلى فرض صحة خبر ابن عباس ومطابقته
للواقع: فلا يعارض الأحاديث المصرحة بالنهي، بل يكون هذا خاصا بالنبي صلى
الله عليه وسلم؛ كما قرر الماتن في مؤلفاته: أن فعله صلى الله عليه وسلم
إذا خالف ما أمر الأمة به أو نهاهم عنه؛ يكون مختصا به.
قال في " الحجة البالغة ": " اختار أهل الحجاز من الصحابة والتابعين
والفقهاء أن السنة للمحرم أن لا ينكح ولا يُنكح، واختار أهل العراق أنه
يجوز له ذلك، ولا يخفى عليك أن الأخذ بالاحتياط أفضل.
وعلى الأول: السر فيه أن النكاح من الارتفاقات المطلوبة أكثر من الصيد، ولا
يقاس الإنشاء على الإبقاء؛ لأن الفرح والطرب إنما يكون في الابتداء، ولذلك
يضرب بالعروس المثل في هذا الباب دون البقاء ". انتهى.
(6 -[قتل الصيد] :)
(ولا يقتل صيدا) : فإن الله - تعالى - حرم على المحرم صيد البر ما دام
حرما.
والمراد من الصيد عند الشافعي: كل صيد مأكول بري، فذبح الأنعام ليس منه،
وكذا ما ليس بمأكول، وكذا الصيد البحري (1) .
وعند أبي حنيفة: غير المأكول قد يكون صيدا.
( [بيان جزاء قتل الصيد] :)
(ومن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل) : لما ورد
__________
(1) • ونقل ابن حزم (ص 4) الإجماع على هذا: أن للمحرم أن يتصيد في البحر ما
شاء من سمكه. (ن)
(2/77)
بذلك القرآن الكريم: {ومن قتله منكم متعمدا
(1) فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو
كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن
عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} .
أقول: ههنا أمران: أحدهما: اعتبار المماثلة، الثاني: حكم العدلين.
وظاهره أن العدلين إذا حكما بغير المماثل لم يلزم حكمهما؛ لأنه قال: {يحكم
به} ؛ أي: بالمماثل.
وحق العدالة أن لا يقع من صاحبها الحكم بغير المماثل؛ إلا لغلط أو طرو
شبهة؛ بأن المعتبر في المماثلة هو هذا الوصف دون هذا الوصف؛ والواقع
بخلافه.
ثم الظاهر أن العدلين إذا حكما بحكم في السلف؛ لا يكون ذلك الحكم لازما
للخلف، بل تحكيم العدلين ثابت عند كل حادثة تحدث في قتل الصيد.
إذا تقرر لك هذا: فاعلم أن جعل الظبي مشبها بالشاة دون التيس؛ مخالف
للمشاهد المحسوس؛ فإن الظبي يشبه التيس في غالب ذاته وصفاته، ولا مشابهة
بينه وبين الشاة في غالب ذاته وصفاته، وكذلك الحمامة؛ فإنها لا تشبه الشاة
في شيء من الأوصاف، وكذلك سائر الطيور ليس بمشابه للشاة في شيء.
__________
(1) • قال أبو عمر: فدخل فيه قتل الخطأ؛ قياسا عند الجمهور إلا من شذ؛ كذا
في " إعلام الموقعين " (1 / 247) . (ن)
(2/78)
وإذا صح عن بعض السلف أنه حكم في شيء منها
بشاة؛ فذلك غير لازم لنا؛ لما عرفت من أن حكم العدلين لا بد أن يكون
بالمثل، كما صرح به القرآن الكريم.
(7 -[الأكل مما صيد لأجله] :)
(ولا يأكل ما صاده غيره) : لحديث الصعب بن جثامة في " الصحيحين " وغيرهما:
أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا (1) وهو بالأبواء
أو بودان (2) ، فرده عليه، فلما رأى في وجهه؛ قال: " إنا لم نرده عليك؛ إلا
أنا حرم ".
وأخرج مسلم نحوه من حديث زيد بن أرقم.
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم
أكل من صيده الذي صاده وهو حلال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم محرما،
فأكل عضد حمار الوحش الذي صاده.
وجمع بين حديث الصعب وحديث أبي قتادة المتفق عليه؛ بأنه صلى الله عليه وسلم
إنما امتنع من أكل صيد الصعب لكونه صاده لأجله، وأكل من صيد أبي قتادة
لكونه لم يصده لأجله، فلو كان صيد الحلال حراما على المحرم لما أكل منه صلى
الله عليه وسلم، وقرر الصحابة على الأكل منه، فهذا يدل على جواز أكل المحرم
لصيد الحلال.
__________
(1) • وكان مذبوحا؛ كما في بعض الروايات الصحيحة، وقد ذكرتها في "
التعليقات الجياد " (4 / 81 - 82) . (ن)
(2) الأبواء - بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة -: جبل.
وودان - بفتح الواو وتشديد الدال وآخره نون -: موضع بقرب الجحفة. (ش)
(2/79)
ويدل على ذلك أيضا حديث جابر عند أحمد،
وأهل " السنن "، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صيد البر لكم حلال وأنتم حرم؛ ما لم
تصيدوه أو يُصد لكم "؛ وهذا الحديث وإن كان فيه مقال (1) ؛ فهو لا يقدح في
انتهاضه للاستدلال، وهو نص في الفرق باعتبار القصد وعدمه.
( [جواز أكل صيد الحلال إذا لم يصده لأجل
المحرم] :)
(إلا إذا كان الصائد حلالا، ولم يصده لأجله) ، ولا بد من ضبط الصيد؛ فإن
الإنسان قد يقتل ما يريد أكله، وقد يقتل ما لا يريد أكله، وإنما يريد به
التمرن بالاصطياد، وقد يقتل ويريد أن يدفع شره عنه، أو عن أبناء جنسه، وقد
يذبح بهيمة الأنعام.
فأيها الصيد؟
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن المحرّم منه ما صاده المحْرم أو صيد لأجله،
وما لم يكن كذلك فإنه حلال، كما أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي من
حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صيد البر حلال لكم؛
ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ".
وفي لفظ: " أو يصد لكم ".
فما ورد من الأحاديث في ذلك تحريما وتحليلا: حمل على ذلك التفصيل.
__________
(1) • وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي؛ وقد وهما كما بينته في " التعليقات
" (4 / 83) . (ن)
(2/80)
(8 -[قطع شجر
الحرم إلا الإذخر] :)
(ولا يعضد (1) من شجر الحرم إلا الإذخر (2)) : لحديث ابن عباس في "
الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "
إن هذا البلد حرام؛ لا يعضد شجره، ولا يُختلى خلاه (3) ، ولا يُنفَّر صيده،
ولا تُلتقط لقطته إلا لمعرّف "، قال العباس: إلا الإذخر؛ فإنه لا بد لهم
منه؛ فإنه للقيون (4) والبيوت؟ فقال: " إلا الإذخر ".
وأخرجا نحوه أيضا من حديث أبي هريرة.
( [يجوز للمحرم قتل الفواسق] :)
(ويجوز له قتل الفواسق الخمس) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما،
قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم:
الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور.
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " خمس من الدواب؛ ليس في قتلهن جناح ".
__________
(1) بضم الياء وإسكان العين وفتح الضاد؛ أي: لا يقطع. (ش)
(2) بكسر الهمزة وإسكان الذال وكسر الخاء: هو نبت معروف عند أهل مكة، طيب
الرائحة، ينبت في السهل والحزن، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب،
ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور. (ش)
(3) الخلا - بفتح الخاء مقصور -: هو الرطب من النبات.
واختلاؤه قطعه واحتشاشه. (ش)
(4) جمع قين؛ وهو الحداد. (ش)
(2/81)
وفي " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر زيادة:
" الحية ".
وكذلك في حديث ابن عباس عند أحمد بإسناد فيه ليث بن أبي سليم.
قال البغوي: " اتفق أهل العلم على أنه يجوز للمحرم قتل هذه الأعيان
المذكورة في الخبر، ولا شيء عليه في قتلها.
وقاس الشافعي عليها كل حيوان لا يؤكل لحمه، فقال: لا فدية على من قتلها في
الإحرام أو الحرم ".
( [صيد المدينة وشجره كحرم مكة] :)
(وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة) : لحديث علي، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " المدينة حرم؛ ما بين عير إلى ثور "؛ وهو في " الصحيحين "
وغيرهما.
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث عباد بن تميم، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرم
إبراهيم مكة ".
وفي الباب أحاديث في " الصحيحين " وغيرهما عن جماعة من الصحابة.
قال ابن القيم: " ورُدت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة
وعشرون صحابيا في أن المدينة حرم يحرم صيدها، ودعوى أن ذلك خلاف الأصول
ومعارضتها بالمتشابه من قوله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا عمير! ما فعل
النُّغير (1) ".
__________
(1) النغير؛ تصغير النغر - بضم النون وفتح الغين -؛ وهو طائر يشبه العصفور،
أحمر المنقار، ويجمع على نغران - بكسر النون وإسكان الغين - قاله في "
النهاية ".
وظاهر الحديث لا يحتمل ما زعمه ابن القيم، ولا معارضة فيه لحديث تحريم حرم
المدينة؛ بل الوجه الصحيح فيه؛ هو الوجه الثالث، والأوجه الباقية لا دليل
عليها، ولا معنى لها. (ش)
(2/82)
ويالله العجب {أي الأصول التي خالفتها هذه
السنن، وهي من أعظم الأصول؟ فهلا رد حديث أبي عمير لمخالفته لهذه الأصول؟}
ونحن نقول: معاذ الله {أن نرد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة صحيحة
غير معلومة النسخ أبدا.
وحديث أبي عمير يحتمل أربعة أوجه، قد ذهب إلى كل منها طائفة:
أحدها: أن يكون متقدما على أحاديث تحريم المدينة؛ فيكون منسوخا.
الثاني: أن يكون متأخرا عنها معارضا لها؛ فيكون ناسخا.
الثالث: أن يكون النغير مما صيد خارج المدينة ثم أدخل المدينة كما هو
الغالب من الصيود.
الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره، كما رخص لأبي بردة في التضحية
بالعناق دون غيره.
فهو متشابه كما ترى، فكيف يجعل أصلا يقدم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة
الصريحة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا؟} ". انتهى.
( [من قطع شجر المدينة أو خبطه سلب] :)
(إلا أن من قطع شجره أو خبطه كان سلبه حلالا لمن وجده) : لحديث سعد ابن أبي
وقاص: أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا، أو يخبطه فسلبه،
فلما رجع سعد جاءه أهل العبد، فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من
غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأبى أن يرد عليهم؛ أخرجه مسلم، وأحمد.
(2/83)
وفي لفظ لأحمد، وأبي داود، والحاكم - وصححه
-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من رأيتموه يصيد فيه شيئاً؛
فلكم سلبه ".
أقول: عندي أنه لا يجب على من قتل صيدا - أو قطع شجرا من حرم المدينة -، لا
جزاء ولا قيمة، بل يأثم فقط، ويكون لمن وجده يفعل ذلك أخْذ سلبه؛ ولا يجب
على الحلال في صيد حرم مكة ولا شجره شيء؛ إلا مجرد الإثم.
وأما من كان محرما: فعليه الجزاء الذي ذكره الله - عز وجل - إذا قتل صيدا،
وليس عليه شيء في شجر مكة؛ لعدم ورود دليل تقوم به الحجة.
وما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدوحة الكبيرة: " إذا قُطعت
من أصلها؛ بقرة ": لم يصح.
وما يروى عن بعض السلف لا حجة فيه.
والحاصل: أنه لا ملازمة بين النهي عن قتل الصيد وقطع الشجر، وبين وجوب
الجزاء أو القيمة؛ بل النهي يفيد بحقيقته التحريم، والجزاء والقيمة لا
يجبان إلا بدليل، ولم يرد دليل إلا قول الله - تعالى -: {لا تقتلوا الصيد
وأنتم حرم} الآية؛ وليس فيها إلا ذكر الجزاء فقط؛ فلا يجب غيره.
( [صيد وجّ وشجره حرام] :)
(ويحرم صيد وجّ) - بفتح الواو وتشديد الجيم -: اسم واد بالطائف (وشجره) :
لحديث الزبير، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(2/84)
" إن صيد وج وعضاهه (1) حرام؛ محرم لله -
عز وجل - "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والبخاري في " تاريخه "، وحسنه المنذري
(2) ، وصححه الشافعي.
وأخرج أبو داود من حديث الزبير بن العوام بلفظ، أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: " صيد وجّ محرم "، وحسنه الترمذي (3) ، وصححه الشافعي.
__________
(1) بكسر العين؛ وهو كل شجر يعظم، وله شوك. (ش)
(2) • كذا قال، وسبقه إلى ذلك الشوكاني في " نيل الأوطار " (5 / 29) ،
فقال: " الحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه المنذري "، وهذا خطأ في النقل، فلم
يحسنه المنذري في " مختصر السنن "، بل فحوى ما نقله عن الأئمة حول الحديث؛
أنه يذهب إلى تضعيفه، فقال (2 / 442) ما نصه: " في إسناده محمد بن عبد الله
بن إنسان الطائفي وأبوه، فأما محمد؛ فسئل عنه أبو حاتم الرازي؟ فقال: ليس
بالقوي، وفي حديثه نظر.
وذكره البخاري في " تاريخه الكبير "، وذكر له هذا الحديث؛ وقال: لم يتابع
عليه.
وذكر أباه، وأشار إلى هذا الحديث، وقال: لم يصح حديثه.
وقال البستي: عبد الله بن إنسان؛ روى عنه ابنه محمد ولم يصح حديثه ".
فقد نقل عن هؤلاء الأئمة تضعيفهم لهذا الحديث، ولم يتعقبهم بشيء، فدل على
موافقته لهم في ذلك، وهو الحق؛ خلافا لما قال الشارح؛ فإن علته واضحة، وهو
عبد الله بن إنسان هذا؛ فإنه لم يوثقه أي إنسان؛ حاشا ابن حبان، حيث ذكره
في " الثقات "، ومع ذلك فقد قال فيه: " كان يخطئ "، مع أنه ليس له إلا هذا
الحديث، وقد ضعفه هو نفسه، كما سبق نقله عن المنذري، فأين الحديث الذي لم
يخطئ فيه؟ {ولذلك قال الحافظ في " التقريب " أنه " لين الحديث "، وصرح ابن
القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 35) بأن الحديث ضعيف، أورده في أحاديث
قدمها الشافعي على القياس مع ضعفها.
لكن الذهبي ذكر في " الميزان " أن الشافعي صحح هذا الحديث؛ فلا أدري هل أخذ
ذلك من نص للشافعي في تصحيحه، أم استلزم ذلك من احتجاجه به أو إيراده له؟}
فإن كان هذا؛ فالتصريح بأن الشافعي صححه؛ لا يخفى ما فيه؛ فتأمل! (ن)
(3) • هذا خطأ؛ فالحديث لم يروه الترمذي، ولا نقل أحد عنه تحسينه فيما
علمت، فالظاهر أنه تحرف على الناسخ أو الطابع من " المنذري "، وحينئذ؛ فهذا
تكرار من المؤلف لا فائدة فيه، وطالما فعل ذلك فيما سلف. =
(2/85)
وقد ذهب إلى ما في الحديث: الشافعي؛ وهو
الحق.
ولم يأت من قدح في الحديث بما يصلح للقدح المستلزم لعدم ثبوت التكليف بما
تضمنه.
( [الفصل الرابع: فصل ما يجب عمله أثناء الطواف] )
[طواف القدوم سبعة أشواط] :
(وعند قدوم الحاج مكة يطوف للقدوم) : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما
دخل المسجد الحرام؛ بدأ بالطواف ولم يصل تحية المسجد؛ فإن تحية المسجد
الحرام الطواف بالبيت.
قد استفاض عن الصحابة أن أول شيء كانوا يبدأون به الطواف بالبيت، ثم لا
يحلون؛ رواه الشيخان.
ولا يسن طواف القدوم لمن أحرم من مكة؛ وعليه أهل العلم.
في " المنهاج ": يختص طواف القدوم بحاج دخل مكة قبل الوقوف.
(سبعة أشواط) : الأقرب - والله أعلم -: أن الطواف يوافق الصلاة، فمن شك: هل
طاف ستة أشواط أو سبعة أشواط؟ فليطرح الشك وليتحر الصواب،
__________
= ثم إن هذا اللفظ الذي نسبه إلى أبي داود وحده؛ ليس هو في " سننه "، بل
عنده اللفظ الأول (1 / 317) ، وهو في " المسند " (رقم 1416) ، وقد صرح
شارحه الشيخ أحمد محمد شاكر بأن إسناده صحيح، وهو خطأ بين؛ سببه اعتماده
على توثيق ابن حبان الذي اشتهر بتساهله في التوثيق، وقد بينت هذا الخطأ؛
فيما علقته على تعليقه في هذا الموضع.
(2/86)
فإن أمكنه ذلك عمل عليه، وإن لم يمكنه
فليبن على الأقل، كما ورد بذلك الدليل الصحيح.
وشرع الطواف في الأصل؛ لإغاظة المشركين كما في حديث ابن عباس، قال: قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم
قد وهنتهم (1) حمى يثرب، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا
الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا
الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم؛ متفق عليه.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
إذا طاف بالبيت الطواف الأول؛ خب (2) ثلاثا، ومشى أربعا.
وفي لفظ: رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحجر إلى الحجر ثلاثا،
ومشى أربعا.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن عمر، أنه قال: فيم الرملان الآن،
والكشف عن المناكب وقد أطى (3) الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ ! ومع ذلك
لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذهب الجمهور إلى فرضية الطواف للقدوم.
__________
(1) بتخفيف الهاء، وقد يستعمل رباعيا، ومعناه: أضعفتهم. (ش)
(2) الخب - بفتح الخاء -: هو إسراع المشي مع تقارب الخطى؛ كالرمل - بفتح
الميم -. (ش)
(3) أصله: وطئ، فأبدلت الواو همزة؛ كما في: وقت وأقت؛ ومعناه: مهد وثبت.
(ش)
(2/87)
وقال أبو حنيفة: سنة.
وروي عن الشافعي أنه كتحية المسجد.
والحق الأول؛ لقوله - تعالى -: {وليطوفوا بالبيت العتيق} .
( [يرمل الحاج في الثلاثة الأولى من الطواف]
:)
(يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي) :
قال في " الحجة ": " وأول طواف بالبيت رمل واضطباع (1) ، وبعده سعي بين
الصفا والمروة، وكان عمر أراد أن يترك الرمل والاضطباع لانقضاء سببهما، ثم
تفطن إجمالا أن لهما سببا آخر غير منقض، فلم يتركهما ".
( [يقبل الحاج الحجر الأسود] :)
(ويقبل الحجر الأسود) : لما في " الصحيحين " من حديث عمر: أنه كان يقبل
الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنقع، ولولا أني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك.
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم من
حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي هذا الحجر
يوم القيامة؛ له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحق ".
__________
(1) هو افتعال من الضبع - بإسكان الباء -؛ وهو العضد؛ وهو أن يدخل إزاره
تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على منكبه الأيسر، ويكون منكبه الأيمن مكشوفا.
(ش)
(2/88)
وفي الباب أحاديث.
وأما الابتداء بالحجر: فلأنه وجب عند التشريع أن يعين محل البداية وجهة
المشي، والحجر أحسن مواضع البيت؛ لأنه نازل من الجنة، واليمين أيمن
الجهتين.
(أو يستلمه) ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في استلامه ثلاث صفات: أحدها:
تقبيله، وثانيها: أنه وضع يده عليه ثم قبلها، وثالثها: أنه يشير إليه
بالمحجن (1) .
ولم يقل: طوافي لكذا، ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله كثير ممن لا علم عنده،
وذلك من البدع المنكرة.
(بمحجن ويقبل المحجن) : لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عباس،
قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن
بمحجن.
وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي الطفيل، وزاد: ويقبل المحجن.
(ونحوه) ؛ أخرج أحمد من حديث عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "
يا عمر! إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر؛ فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلة
فاستلمه؛ وإلا فاستقبله وهلل وكبر "؛ وفي إسناده مجهول (2) .
__________
(1) بكسر الميم، وإسكان الحاء، وفتح الجيم، وآخره نون: هو عصا محنية الرأس.
(ش)
(2) صححه شيخنا في " مناسك الحج والعمرة " (ص 21) .
(2/89)
( [ويستلم
الحاج الركن اليماني] :)
(ويستلم الركن اليماني) : لما أخرج أحمد، والنسائي عن ابن عمر، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا
حطا "؛ وفي إسناده عطاء بن السائب (1) .
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر، قال: لم أر النبي صلى الله عليه
وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين.
وأخرج البخاري في " تاريخه "، وأبو يعلى من حديث ابن عباس، قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني؛ وفي إسناده عبد الله بن مسلم
بن هرمز؛ وهو ضعيف (2) .
وأخرج أحمد، وأبو داود من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل
الركن اليماني، ويضع خده عليه.
قال صاحب " سبل السلام " (3) : " وكان يقول عند استلامهما: " بسم الله
والله أكبر "، وكان كلما أتى الحجر يقول: " الله أكبر ".
ولم يحفظ له دعاء معين في الطواف؛ إلا أنه أخرج أبو داود، وابن
__________
(1) • قلت: ولا يضر هنا؛ لأن من رواة الحديث عنه - عند أحمد (رقم 5621) -
الثوري؛ وهو قد روى عن عطاء قبل اختلاطه؛ فالحديث صحيح. (ن)
(2) • وقد أخرجه من طريقه غير المذكورين، كما بينته في " التعليقات " (4 /
106) . (ن)
(3) • قلت: تبع في ذلك العلامة ابن القيم في " الزاد "، وقد بينت في "
التعليقات الجياد " أن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح، وإنما صح
موقوفا على ابن عمر. (ن)
(2/90)
حبان (1) : أنه يقول بين الركنين: {ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ، وفي الطواف: "
اللهم! قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائب لي بخير "،
أخرجه الحاكم.
وفي " مصنف ابن أبي شيبة ": " لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك،
وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ".
والموضع موضع دعاء، فيختار فيه ما شاء ". انتهى.
قلت: إنما خص الركنين اليمانيين بالاستلام - كما ذكره ابن عمر - من أنهما
باقيان على بناء إبراهيم دون الركنين الآخرين، فإنهما من تغيرات الجاهلية،
وإنما اشترط له شروط الصلاة كما ذكره ابن عباس؛ لأن الطواف يشبه الصلاة في
تعظيم الحق وشعائره، فحمل عليها.
( [القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد]
:)
(ويكفي القارن طواف واحد، وسعي واحد) : لكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا
على الأصح، واكتفى بطواف واحد للقدوم، وبسعي واحد، ولا دليل على وجوب
طوافين وسعيين.
وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا: " من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأة
طواف واحد وسعي واحد "؛ وقد حسنه الترمذي.
أقول: الأدلة القاضية بأن الواجب على القارن ليس إلا طواف واحد
__________
(1) • في سنده عبيد - مولى السائب -؛ وفيه جهالة، كما بينته في " التعليقات
" (4 / 105) . (ن)
(2/91)
وسعي واحد: ثابتة قولا وفعلا:
أما القول: فحديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من
قرن بين حجه وعمرته؛ أجزأه لهما طواف واحد "؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة.
وأخرجه أيضا الترمذي بلفظ: " من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأه طواف واحد وسعي
واحد منهما، حتى يحل منهما جميعا "، وقال " " هذا حديث حسن ".
وأخرجه أيضا سعيد بن منصور بنحو لفظ الترمذي.
وأما إعلال الطحاوي لهذا الحديث بالوقف: فقد رده غيره من الحفاظ؛ لأن
الطحاوي قال: إن الدراوردي أخطأ في رفعه، وإنه موقوف، فأجابوا عنه بأن
الدراوردي صدوق، وأن رفعه حجة (1) .
ومن القول؛ حديث طاوس عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "
يسعك طوافك لحجك وعمرتك "، أخرجه أحمد، ومسلم.
وأخرج أيضا مسلم من طريق مجاهد عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:
" يجزي عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك ".
وأما أحاديث الفعل: فأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة: أن الذين جمعوا بين
الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا.
__________
(1) • قد خرجت حديثه في " التعليقات " (4 / 71) .
وأخرجه ابن الجارود في " المنتقى " (رقم 460) ، وعزاه المعلق عليه لمسلم؛
فوهم. (ن)
(2/92)
وأخرج مسلم، وأبو داود عن جابر: أنه لم يطف
النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.
وأخرج البخاري عن ابن عمر: أنه طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا؛ بعد أن قال:
إنه سيفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس: أنه حلف ما طاف أحد من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا.
واستدل القائلون بأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين بفعل علي - رضي الله
عنه -، وقوله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هكذا؛ أخرجه عبد
الرزاق، والدارقطني، وغيرهما (1) .
وقد روي نحوه عن ابن مسعود، وابن عمر بأسانيد في بعضها متروك، وفي البعض
الآخر ضعيف.
حتى قال ابن حزم: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من
أصحابه في ذلك شيء.
وتعقب بأن حديثي علي وابن مسعود (2) ؛ لا بأس بإسناديهما، ولهذا رجح
البيهقي وغيره المصير إلى الجمع: أنه طاف طواف القدوم، وطواف الإفاضة، قال:
وأما السعي فلم يثبت فيه شيء.
__________
(1) • وفيه رجل مجهول؛ كما بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 63) (ن)
(2) • يعني الموقوفين، وقد تكلمت عليهما، وبينت أن الأول منهما صحيح
الإسناد في " التعليقات " (4 / 71 - 72) . (ن)
(2/93)
وقد حكى الحافظ في " الفتح " أنه روى جعفر
الصادق عن أبيه: أنه كان يحفظ عن علي للقارن طوافا واحدا؛ خلاف ما يقوله
أهل العراق.
والحاصل: أن الجمع بما تقدم - إن اندفع به النزاع - فالمراد؛ وإلا وجب
المصير إلى التعارض والترجيح، ولا يشك عالم بالحديث أن أدلة الطواف الواحد
والسعي الواحد أرجح.
( [وجوب الوضوء وستر العورة أثناء الطواف]
:)
(ويكون حال الطواف متوضئا ساتر العورة) : لما في " الصحيحين " من حديث
عائشة: أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم؛ أنه توضأ، ثم
طاف بالبيت.
وفيهما أيضا من حديث أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يطوف
بالبيت عريان ".
في " شرح السنة ": عند الشافعي لا يجزىء الطواف إلا بما يجزىء به الصلاة؛
من الطهارة عن الحدث والنجاسة، وستر العورة، فإن ترك شيئا منها؛ فعليه
الإعادة (1) .
قال في " الأنوار ": ولو أحدث في الطواف عمدا؛ توضأ وبنى، ولا
__________
(1) • وذهب أكثر السلف إلى أنه لا يشترط للطواف شروط الصلاة؛ وهو مذهب أبي
حنيفة وغيره.
قال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (2 / 453) : " وهذا القول هو الصواب "، ثم
أفاض في التدليل لذلك؛ فراجعه! (ن)
(2/94)
يجب الاستئناف وإن طال الفصل.
والكلام في الطواف مباح، ويستحب أن لا يتكلم؛ إلا بذكر الله أو حاجة أو
علم.
وقال أبو حنيفة: إذا طاف جنبا أو محدثا وفارق مكة؛ لا تلزمه الإعادة وعليه
دم.
وفي " العالمكيرية ": " أن كل عبادة تؤدى لا في المسجد من المناسك؛
فالطهارة ليست من شرطها، كالسعي، والوقوف بعرفة، وكل عبادة في المسجد؛
فالطهارة من شرطها كالطواف ".
أقول: أما فرضية الوضوء للطواف أو شرطيته - كما زعمه البعض -: فغاية ما في
ذلك حديث: أنه توضأ صلى الله عليه وسلم ثم طاف، وهذا مجرد فعل لا ينتهض
للوجوب، وليس الوضوء بداخل في عموم المناسك، حتى يقول: إنه بيان لقوله: "
خذوا عني مناسككم ".
فإن قيل: إنه شرط النسك أو فرضه؛ فيكون من جملة بيان المناسك؛ فيجاب بأن
هذه مصادرة على المطلوب؛ لأن كونه شرطا أو فرضا هو محل النزاع، ومع هذا
ففعله للوضوء يحتمل أن يكون لما يتعقب الطواف من الصلاة، ولا سيما وقد كان
صلى الله عليه وسلم لا يدخل المسجد إلا متوضئا في غير الحج، فملازمته لذلك
في الحج أولى.
وأما منعه صلى الله عليه وسلم للحائض أن تطوف بالبيت: فليس فيه دليل على أن
المنع لها لكون الطهارة شرطا أو فرضا للطواف؛ لاحتمال أن يكون المنع لها
لكون
(2/95)
الطواف من داخل المسجد، وهي ممنوعة من
المساجد، ولو سلم فغايته أن الطهارة من الحيض هي الشرط، لا الوضوء.
وأما حديث: " الطواف بالبيت صلاة ": فمع كونه في إسناده عطاء بن السائب (1)
؛ وهو ضعيف؛ فليس التشبيه بمقتض لمساواة المشبه للمشبه به في جميع الأوصاف،
بل الاعتبار التشابه في أخص الأوصاف؛ وليس هو الوضوء.
( [يحرم الطواف على الحائض] :)
(والحائض تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف) طواف القدوم وكذا طواف الوداع
(بالبيت) : لحديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " الحائض
تقضي المناسك كلها؛ إلا الطواف "؛ أخرجه أحمد.
وأخرج نحوه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من حديث ابن عمر.
ولحديث عائشة أيضا في " الصحيحين " وغيرهما: أنه قال لها النبي صلى الله
عليه وسلم لما حاضت: " افعلي ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت، حتى
تغتسلي (2) ".
__________
(1) • قلت: القول في هذا كالقول في سابقه؛ فإن من الرواة عنه - لهذا الحديث
- سفيان أيضا عند البيهقي (5 / 87) .
نعم؛ اختلف عليه فيه: فرواه عنه جماعة موقوفا على ابن عباس، ورواه آخرون
عنه مرفوعا، ويرجحه أن منهم سفيان.
ويؤيده أن له طريقين آخرين عن ابن عباس، وشاهدا من حديث ابن عمر؛ خرجهما
الزيلعي في " نصب الراية " (3 / 58) ، وآخر في " المسند " (3 / 414، 4 /
64، 5 / 377) . (ن)
(2) • وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جواز طواف الحائض، ولا شيء عليها إذا
لم يمكنها أن تطوف طاهرا؛ بأن تتأخر حتى تطهر؛ لذهاب رفقتها وعدم انتظارهم
إياها؛ في بحث له طويل نفيس، راجعه في " الفتاوى " (2 / 436 - 456) . (ن)
قلت: والأصل الطهارة، والله أعلم.
(2/96)
( [يسن الذكر
بالمأثور أثناء الطواف] :)
(ويندب الذكر حال الطواف بالمأثور) : لحديث عبد الله بن السائب، قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر: {ربنا آتنا
في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ؛ أخرجه أحمد، وأبو داود،
والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم؛ لأنه دعاء جامع نزل به القرآن، وهو
قصير اللفظ يناسب تلك الفرصة القليلة.
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " وكل به - يعني: الركن
اليماني - سبعون ملكا، فمن قال: اللهم {إني أسألك العفو والعافية في الدنيا
والآخرة {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ؛
قالوا: آمين "؛ أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه إسماعيل بن عياش، وهشام بن عمار؛
وهما ضعيفان (1) .
وأخرج ابن ماجه أيضا من حديثه أنه سمعه يقول: " من طاف بالبيت سبعا، ولا
يتكلم إلا بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول
ولا قوة إلا بالله: محيت عنه عشر سيئات، وكتب له عشر حسنات، ورفع له بها
عشر درجات "، وفي إسناده من تقدم في الحديث الأول (2) .
__________
(1) • إطلاق القول على هشام بن عمار بالضعف؛ خطأ بين؛ لأن الرجل في نفسه
ثقة، روى له البخاري، لكنه كان قد تغير في آخر عمره، فالأحسن ما قاله
الشوكاني فيه عند هذا الحديث (5 / 40) : " وهو ثقة تغير بآخرة "، وكأن
الشارح - رحمه الله - اختصر كلامه هذا؛ فأخل.
وأحسن من ذلك قول الحافظ في " التقريب ": " صدوق مقرئ؛ كبر فصار يتلقن؛
فحديثه القديم أصح ". (ن)
قلت: وانظر " المشكاة " (2590) ؛ فهو فيه مضعفا.
(2) هو تمام الحديث السابق؛ فتنبه}
(2/97)
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وصححه -
(1) من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما
جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة؛ لإقامة ذكر الله - تعالى - ".
وفي الباب أحاديث.
( [صلاة ركعتين في مقام إبراهيم بعد الطواف]
:)
(وبعد فراغه يصلي ركعتين) :
وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: هما واجبتان.
(في مقام إبراهيم ثم يعود إلى الركن فيستلمه) : لحديث جابر عند مسلم وغيره:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى إلى مقام إبراهيم؛ قرأ {واتخذوا
من مقام إبراهيم مصلى} ؛ فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب، و {قل يا أيها
الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} ، ثم عاد إلى الركن، فاستلمه.
قلت: وجهر فيهما بقراءته نهارا، فالجهر فيهما السنة؛ ليلا ونهارا، فلما
__________
(1) • بقوله (2 / 105) : " هذا حديث حسن صحيح "، وفيه نظر؛ لأن في سنده -
عنده وعند أبي داود (1 / 296) - عبيد الله بن أبي زياد - وهو القداح - وفيه
كلام واختلاف، وفي " التقريب " أنه " ليس بالقوي ".
ثم قد خالفه من هو أوثق منه: فرواه عن شيخه القاسم، عن عائشة؛ فلم يرفعه،
وكذلك رواه حسين المعلم، عن عطاء، عن عائشة موقوفا؛ انظر " سنن البيهقي "
(5 / 145) .
والحديث رواه أحمد أيضا (6 / 64، 75، 139) ، وراجع " تاريخ بغداد " (11 /
331 - 332) . (ن)
(2/98)
فرغ منهما؛ أتى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم
خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله.
( [الفصل الخامس: وجوب السعي بين الصفا والمروة] )
( [وجوب السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط]
:)
(ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعيا بالمأثور) ؛ والسعي واجب؛ لقوله
- تعالى -: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا
جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} ؛ وعليه أهل
العلم؛ إلا أنه عند الشافعي من الأركان؛ فلا يجبر بالدم.
وذهب الجمهور إلى أنه فرض.
وعند أبي حنيفة: من الواجبات، وعلى من تركه دم؛ كذا في " المسوى ".
والسعي هو النسك الثالث؛ لأن النسك الأول الإحرام، والثاني الطواف؛ كما
تقدم.
ودليله ما أخرج أحمد، والشافعي، من حديث حبيبة بنت أبي تجزأة (1) ،
__________
(1) وحبيبة بنت أبي تجزأة - بضم التاء وسكون الجيم -: صحابية؛ كذا ضبطه "
القاموس " في باب الزاي.
وقال ابن حجر في " الفتح " (جزء 3 ص 323) : " بكسر المثناة وسكون الجيم،
بعدها راء، ثم ألف ساكنة ثم هاء؛ وهي إحدى نساء بني عبد الدار ".
وقال في " الإصابة " (جزء 8 ص 47) : " ضبطها الدارقطني بفتح المثناة من
فوق، وقال أيضا: حبيبة - بفتح أوله -؛ وقيل: بالتصغير ". (ش)
(2/99)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "
اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي "؛ وفي إسناده عبد الله بن المؤمل، وهو
ضعيف.
وله طريق أخرى في " صحيح ابن خزيمة "، و " الطبراني " عن ابن عباس.
وأخرج أحمد نحوه من حديث صفية بنت شيبة (1) .
وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما
فرغ من طوافه؛ أتى الصفا، فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه، فجعل
يحمد الله، ويدعو ما شاء أن يدعو.
وأخرج نحوه النسائي من حديث جابر.
وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر أيضا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما
دنا من الصفا قرأ: " {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ؛ أبدأ بما بدأ الله
به "، فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله
وكبره، قال: " لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو
على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم
الأحزاب وحده "، ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى
المروة، حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا؛ مشى حتى أتى
المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
ويجوز السعي راكبا، وماشيا - وهو أفضل -، وعليه أهل العلم.
__________
(1) • وعنها أخرجه البيهقي (5 / 97) أيضا؛ وسنده صحيح. (ن)
(2/100)
( [المتمتع بعد
السعي يصبح حلالا] :)
(وإذا كان متمتعا صار بعد السعي حلالا حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج)
: لقول عائشة حاكية لحجهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأما من أهل
بالعمرة؛ فأحلوا حين طافوا بالبيت، وبالصفا والمروة؛ وهو في " الصحيحين "
وغيرهما.
وفيهما أيضا من حديث جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أحلوا
من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، ثم أقيموا حلالا، حتى
إذا كان يوم التروية؛ فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم لها متعة ".
وفي لفظ لمسلم من حديثه أيضا، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، فأهللنا من الأبطح.
أقول: الإهلال هو رفع الصوت بلفظ: لبيك بحجة وعمرة، والظاهر من الأدلة؛ أنه
لا يجب إلا نية الإحرام بالحج، وليس وراء ذلك أمر آخر هو الإحرام؛ بل هو
مجرد النية.
وأما اشتراط كونها مقارنة لتلبية أو تقليد؛ فلم يدل عليه دليل؛ بل التلبية
ذكر مستقل وسنة منفردة، وكذلك التقليد للهدي، ولا كلام في ثبوت مشروعيتهما،
وأما أنهما شرط لنية الإحرام بالحج؛ فلا، ومن ادعى ذلك؛ فعليه البرهان.
(2/101)
( [الفصل السادس: مناسك الحج] )
( [التوجه إلى عرفات صبح يوم التاسع] )
( [ويصلي: الظهر والعصر جمع تقديم مع خطبة] :)
(ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيا مكبرا، ويجمع العصرين) الظهر والعصر
(فيها ويخطب) : لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس وهو على
راحلته خطبة بديعة؛ قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك
والجاهلية، وقرر فيها المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء
والأموال والأعراض، وغير ذلك من الأحكام، وكانت خطبة واحدة، لم تكن خطبتين
يجلس بينهما.
وقال في " الحجة ": " إنما خطب يومئذ بالأحكام التي يحتاج الناس إليها، ولا
يسعهم جهلها؛ لأن اليوم يوم اجتماع، وإنما تنتهز مثل هذه الفرصة لمثل هذه
الأحكام، التي يراد تبليغها إلى جميع الناس ". انتهى.
( [الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة ويصلي المغرب
والعشاء جمع تأخير] :)
(ثم يفيض من عرفة ويأتي المزدلفة ويجمع فيها بين العشاءين) المغرب والعشاء
بأذان وإقامتين، ولا يسبح (1) ههنا؛ كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
( [المبيت في المزدلفة ويصلي الفجر فيها]
:)
(ثم يبيت بها) : قال النحاس: إن كثيرا من الحجاج لا يقف بالمزدلفة،
__________
(1) أي: لا يصلي نافلة. (ش)
(2/102)
وإن وقف فلا يبيت، وهذه بدعة يجب على
الأمير، ومن قدر أن يمنع منها؛ لأن من ترك المبيت بالمزدلفة وجب عليه إراقة
دم في الأظهر.
وذهب ابن خزيمة، وجماعة من العلماء إلى أن المبيت بها ركن.
فعلى هذا إذا تركه فسد (1) حجه، ولا يجبر بدم ولا بغيره، وشرط المبيت أن
يكون في ساعة من النصف الثاني من الليل، فلو رحل قبله لم يسقط عنه الدم،
ولو عاد إليها قبل الفجر سقط. انتهى.
(ثم يصلي الفجر) حتى يتبين له الصبح بأذان وإقامة.
( [الوقوف في المشعر مع ذكر الله] :)
(ويأتي المشعر) الحرام.
تركهم السنة في الوقوف بالمشعر الحرام بدعة أيضا، ويستقبل القبلة.
(فيذكر الله عنده) ويدعوه ويكبره ويهلله ويوحده.
أقول: وما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا؛ لأنه - مع
كونه مفعولا له صلى الله عليه وسلم ومندرجا تحت قوله: " خذوا عني مناسككم "
- فيه
__________
(1) • والدليل ما أخرجه الترمذي - وقال: " حسن صحيح " - مرفوعا: " من شهد
صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا؛ فقد
تم حجه وقضى تفثه ".
وهذا مذهب ابن عباس، وابن الزبير، وغيرهما، وتمام البحث انظره في " زاد
المعاد " (ج 1 / ص 314) ؛ وقد ذكرت في " التعليقات " عليه (4 / 145) ما
يستفاد منه أن الحديث ليس دليلا على ذلك؛ بدليل ذكر الصلاة فيه؛ فإن هذا
ليس ركنا اتفاقا؛ فراجعه. (ن)
(2/103)
أيضا النص القرآني بصيغة الأمر: {فاذكروا
(1) الله عند المشعر الحرام} .
(ويقف به) ؛ والوقوف هو النسك الرابع من مناسك الحج.
(إلى قبل طلوع الشمس ثم يدفع حتى يأتي بطن محسر) ؛ وهو محل هلاك أصحاب
الفيل، وبرزخ بين المزدلفة ومنى ليس من هذه ولا هذه، فمن شأن من خاف الله
وسطوته أن يستشعر الخوف في ذلك الموطن، ويهرب من الغضب.
( [ترمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس] :)
(ثم يسلك الطريق الوسطى) بين الطريقين (إلى الجمرة التي عند الشجرة وهي
جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة) ؛ مثل حصى الخذف.
(ولا يرميها إلا بعد طلوع الشمس) ؛ وإنما كان رمي الجمار يوم الأول غدوة،
وفي سائر الأيام عشية؛ لأن من وظيفة الأول النحر والحلق والإفاضة، وهي كلها
بعد الرمي، ففي كونه غدوة توسعة.
وأما سائر الأيام: فأيام تجارة وقيام أسواق، فالأسهل أن يجعل ذلك بعد
__________
(1) • أي: اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام - ويسمى جمعا -؛ لأنه
يجمع ثم المغرب والعشاء، قاله قتادة.
وقيل: لاجتماع آدم فيه مع حواء، وازدلف إليها - أي: دنا منها -، وبه سميت
المزدلفة.
ويجوز أن يقال: سميت بفعل أهلها؛ لأنهم يزدلفون إلى الله - أي: يتقربون
بالوقوف فيها -.
وسمي مشعرا؛ من الشعار وهو العلامة؛ لأنه معلم للحج، والصلاة، والمبيت به،
والدعاء عنده من شعائر الحج، ووصف بالحرام لحرمته؛ كذا في " تفسير القرطبي
" (2 / 421) . (ن)
(2/104)
ما يفرغ من حوائجه، وأكثر ما كان الفراغ في
آخر النهار.
( [الترخيص للضعفاء بالرمي بعد منتصف ليلة
النحر] :)
(إلا النساء والصبيان فيجوز لهم قبل ذلك) .
( [يحلق رأسه أو يقصره] :)
(ويحلق رأسه) (1) : فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا
وللمقصرين مرة واحدة (أو يقصره) ؛ وهو النسك الخامس.
(فيحل له كل شيء إلا النساء، ومن حلق، أو ذبح، أو أفاض إلى البيت قبل أن
يرمي فلا حرج) .
( [المبيت بمنى ليالي التشريق] )
(ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق) ؛ وهو النسك السادس.
والحاصل: أن المبيت بمنى ليس بمقصود في ذاته؛ إنما هو لأجل الرمي المشروع؛
لأنه فعل، والزمان والمكان من ضرورياته، فالحق ما قاله الحنفية وبعض
الشافعية؛ من عدم وجوبه في نفسه (2) .
__________
(1) • أي: الرجل، والمرأة تقصر فقط؛ لقوله عليه السلام: " ليس على النساء
الحلق؛ إنما على النساء التقصير "؛ وهو حديث صحيح الإسناد، كما بينته في "
التعليقات (4 / 167) . (ن)
(2) • قلت: هذا خلاف ما سبق تقريره من المصنف؛ أن الأصل في أفعاله صلى الله
عليه وسلم في مناسك الحج الوجوب، وما ذكره هنا من الدليل على أن المبيت غير
واجب؛ إنما هو رأي لا دليل عليه من السنة، بل السنة تخالفه وتشهد لهذا
الأصل، وهو ما صححه الترمذي وغيره عن عاصم بن عدي: أن رسول
(2/105)
( [يرمي كل يوم
الجمرات الثلاث بسبع حصيات بالترتيب] :)
(ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات مبتدئا
بالجمرة الدنيا، ثم الوسطى ثم جمرة العقبة) : لما أخرج أحمد، وأهل " السنن
"، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني من حديث عبد الرحمن بن يعمر: أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر مناديا فنادى: " الحج عرفة ".
وأخرج أحمد، وأبو داود عن ابن عمر، قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم
من منى حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة، فنزل بنمرة، وهي
منزل الإمام الذين ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر؛ راح رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح
فوقف على الموقف من عرفة.
وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر، قال: لما كان يوم التروية؛ توجهوا إلى
منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر
والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا، حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة
من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش
__________
الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى ...
الحديث، وقد خرجته وصححته في " التعليقات " (7 / 4) .
وفي " البخاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام
منى من أجل سقايته.
قال الحافظ: " وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج؛
لأن التيسير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة
المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها؛ لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال
الجمهور ".
ونقله الشوكاني في " النيل " (5 / 68) ، لكنه لم يعزه إليه؛ فدل على أنه
يرى الوجوب خلافا للشارح؛ وهو الحق! (ن)
(2/106)
أنه واقف عند المشعر الحرام؛ كما كانت قريش
تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى عرفة، فوجد
القبة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء (1) ؛
فرُحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: " إن دماءكم وأموالكم حرام
عليكم؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ".
وفي " صحيح مسلم " من حديث أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال في عشية عرفة، وغداة جمع للناس حين دفعوا: " عليكم السكينة "؛ وهو كاف
ناقته، حتى دخل محسرا.
وفي حديث جابر عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة،
فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما شيئا، ثم
اضطجع، حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب
القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله
ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن
محسر فحرك قليلا (2) ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى،
حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع
__________
(1) اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ش)
(2) • يعني: وأسرع السير؛ كما جاء مصرحا به في بعض الأحاديث، كما أشرت إلى
ذلك في " التعليقات " (4 / 150) .
قال في " الزاد " (1 / 315) : " وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم في
المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه؛ فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص
الله علينا؛ ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر؛ لأن الفيل حسر فيه - أي: أعيى
- وانقطع عن الذهاب، وكذلك فعل في سلوكه الحجر، وديار ثمود؛ فإنه تقنع
بثوب، وأسرع السير ". (ن)
(2/107)
حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى
الخذف؛ رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر.
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر، قال: رمى النبي - صلى الله عليه
وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد؛ فإذا زالت الشمس.
وفيهما أيضا من حديث ابن مسعود: أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى، فجعل البيت
عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال: هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة
البقرة.
وفي رواية: حتى انتهى إلى جمرة العقبة.
وفي " الصحيحين " (1) وغيرهما من حديث ابن عباس، قال: أنا ممن قدّم النبي -
صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله.
وفيهما (2) أيضا من حديث عائشة، قالت: كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة (3) ،
فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل.
وفي الباب أحاديث.
وفي " صحيح مسلم "، وغيره من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى
منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: " خذ "،
وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس.
__________
(1) • رواه البخاري (3 / 414) . (ن)
(2) • رواه البخاري (3 / 415 - 416) . (ن)
(3) بفتح الثاء المثلثة، وكسر الباء الموحدة؛ أي: بطيئة الحركة؛ لعظم
جسمها. (ش)
(2/108)
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي
هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم {اغفر للمحلقين "،
قالوا: يا رسول الله} وللمقصرين؟ {قال: " اللهم} اغفر للمحلقين "، قالوا:
يا رسول الله {وللمقصرين؟} قال: " اللهم {اغفر للمحلقين "، قالوا: يا رسول
الله} وللمقصرين؟ {قال: " وللمقصرين ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث ابن عباس، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رميتم الجمرة؛ فقد حل لكم كل شيء؛ إلا
النساء " (1) .
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم؛ وأتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة، فقال: يا رسول الله}
حلقت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج "، وأتاه آخر فقال: ذبحت قبل أن
أرمي؟ فقال: " ارم ولا حرج "، وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن
أرمي؟ فقال: " ارم ولا حرج ".
وفي رواية فيهما: فما سئل عن شيء؛ إلا قال: " افعل ولا حرج ".
وأخرج أحمد من حديث علي، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! حلقت قبل أن
أنحر؟ قال: " انحر ولا حرج "، ثم أتاه آخر فقال: إني أفضت
__________
(1) • قلت: تبع الشارح - في عزوه لأبي داود - الشوكاني في " النيل " (5 /
60) ، وأنا فتشت عنه في " سننه "، فلم أجده من حديث ابن عباس، وإنما رواه
(1 / 310) من حديث عائشة؛ وأعله بالانقطاع.
ويبدو لي أنه ليس عنده من حديث ابن عباس؛ فإن الزيلعي في " نصب الراية " (3
/ 81) لم يعزه إلا للنسائي، وابن ماجه، وهو في " المسند " (رقم 2090) ؛ وهو
منقطع أيضا، لكن أحدهما يقوي الآخر؛ سيما وقد جاء من حديث أم سلمة بسند حسن
- إن شاء الله تعالى -؛ فراجع " نصب الراية ". (ن)
(2/109)
قبل أن أحلق؟ قال: " احلق - أو قصر - ولا
حرج ".
وفي لفظ للترمذي - وصححه -، قال: إني أفضت قبل أن أحلق؟
وفي " الصحيحين " وغيرهما عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له
في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير؟ فقال: " لا حرج ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم من حديث عائشة، قالت: أفاض رسول
الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث
بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات؛
يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، وعند الثانية، فيطيل القيام ويتضرع،
ويرمي الثالثة لا يقف عندها.
وعن ابن عباس، قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت
الشمس؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -.
وفي " البخاري " عن ابن عمر، قال: كنا نتحين؛ فإذا زالت الشمس رمينا.
وأخرج الترمذي - وصححه - من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
إذا رمى الجمار مشى إليها، ذاهبا وراجعا.
وفي لفظ عنه: أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا، وسائر ذلك ماشيا،
ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عباس، وابن عمر: أن العباس استأذن
(2/110)
النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة
ليالي منى؛ من أجل سقايته؟ فأذن له.
وفي " البخاري "، و " أحمد " من حديث ابن عمر: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا
بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل (1) ، فيقوم مستقبل القبلة
طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال، فيسهل،
فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي الجمرة ذات
العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يفعله.
وأخرج أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث عاصم ابن عدي: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون
يوم النحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغداة ليومين، ثم يرمون يوم النفر.
وأخرج أحمد (2) ، والنسائي عن سعد بن مالك، قال: رجعنا في الحجة مع النبي
صلى الله عليه وسلم، وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضنا يقول: رميت بست
حصيات، ولم يعب بعضهم على بعض؛ ورجاله رجال الصحيح.
( [تستحب الخطبة يوم النحر] )
(ويستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم) بعد الزوال خطبتين خفيفتين
__________
(1) • أي: يقصد السهل من الأرض. (ن)
(2) • في " المسند " (رقم 1439) ؛ وسنده صحيح على شرط الشيخين.
لكن الحديث لا يكون دليلا بمجرد ترك إنكار الصحابة على بعضهم بعضا؛ إلا أن
يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على شيء من ذلك وقرره؛ كذا في "
النيل " (5 / 70) .
ثم الحديث في " النسائي " (2 / 51) ، ورواه البيهقي أيضا (5 / 149) ؛ وأعله
ابن التركماني بالانقطاع بين مجاهد وسعد؛ فراجع. (ن)
(2/111)
قائما، والأخيرة أخف، ويجلس بينهما كالجمعة
(1) ؛ يعلم فيهما المناسك إلى اليوم الثاني، وإذا زالت الشمس اغتسل، إن
أحب.
(يوم النحر) : لحديث الهرماس بن زياد، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم
يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى؛ أخرجه أحمد، وأبو داود (2) .
وأخرج نحوه أبو داود (3) أيضا من حديث أبي أمامة.
وأخرج نحوه هو، والنسائي من حديث عبد الرحمن بن معاذ التيمي.
وأخرجه البخاري (4) ، وأحمد من حديث أبي بكرة، وفيه أنه قال: " فإن دماءكم
وأموالكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بدلكم هذا إلى يوم
تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ {"، قالوا: نعم، قال: " اللهم} اشهد، فليبلغ
الشاهد الغائب؛ فربّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب
بعضكم رقاب بعض ".
( [تستحب الخطبة في وسط أيام التشريق]
:)
(و) يستحب الخطبة (في وسط أيام التشريق) : لحديث سراء بنت نبهان،
__________
(1) • لم أجد هذا منصوصا عليه في شيء من الأحاديث التي وقفت عليها؛ ويؤيد
ذلك أن البيهقي لما عقد بابا خاصا لخطبة العيدين، والجلوس بين الخطبتين؛ لم
يسق لذلك حديثا؛ بل قال: " قياسا على خطبتي الجمعة ". (ن)
(2) • وسنده صحيح؛ كما في " التعليقات " (4 / 153) . (ن)
(3) • والبيهقي (5 / 140) ؛ وانظر " التعليقات " (4 / 154) . (ن)
(4) • انظر " التعليقات " (4 / 152) ، وهو في " البخاري " (2 / 191 - طبع
دار الطباعة العامرة) . (ن)
(2/112)
قالت: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يوم الرؤوس (1) ، فقال: " أي يوم هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم،
قال: " أليس أوسط أيام التشريق؟ ! "؛ أخرجه أبو داود، ورجاله رجال الصحيح
(2) .
وأخرج نحوه أحمد من حديث أبي بصرة؛ ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج نحوه أبو داود عن رجلين من بني بكر.
فتضمنت حجته - صلى الله عليه وسلم - ثلاث خطب: يوم عرفة، ويوم النحر، وثاني
أيام التشريق.
قال الماتن - رحمه الله - في " حاشية الشفاء ": " الخطب المشروعة في الحج
أربع؛ كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة؛ وقد بيناها في " شرح المنتقى "
(3) ؛ فليرجع إليه ". انتهى.
( [طواف الإفاضة ركن] :)
(ويطوف الحاج طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يوم النحر) : لحديث ابن عمر في
" الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم
النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى.
__________
(1) سمي بذلك لأنهم كانوا يأكلون فيه رؤوس الأضاحي. (ش)
(2) • وحسنه الحافظ في " بلوغ المرام ". (ن)
(3) • تقدمت الثلاث؛ والرابعة؛ يوم السابع من ذي الحجة، وقد عقد لها
البيهقي بابا؛ فانظر " سننه " (5 / 111) . (ن)
(2/113)
وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر نحوه (1) .
والمراد بقوله: أفاض؛ أي: طاف طواف الإفاضة.
قال النووي: وقد أجمع (2) العلماء أن هذا الطواف - وهو طواف الإفاضة - ركن
من أركان الحج، لا يصح إلا به، واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد
الرمي والنحر والحلق، فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه، ولا دم
عليه بالإجماع.
قال صاحب " سبل السلام ": " طواف الزيارة - ويقال له: طواف الصدر، ويسمى
طواف الإفاضة -؛ طاف صلى الله عليه وسلم ولم يطف غيره، ولم يسع (3) ،
وتضمنت حجته رفع يديه للدعاء ست مرات: الأولى: على الصفا، الثانية: على
المروة، الثالثة: بعرفة، الرابعة: بمزدلفة، الخامسة: عند الجمرة الأولى،
السادسة: عند الجمرة الثانية ". انتهى.
أقول: الأدلة تدل على عدم وجوب طواف الزيارة على التعيين، فضلا عن كونه
ركنا من أركان الحج التي لا يصح بدونها، فعلى المجتهد أن يبحث
__________
(1) • قلت: لكن فيه أنه صلى الظهر بمكة، وقد اختلف في التوفيق بينهما:
فقيل: إنه صلى إماما في الموضعين.
وقيل: إنه صلى في منى مع أصحابه متنفلا.
ولم يرتض ذلك ابن القيم؛ بل رجح حديث ابن عمر؛ لأنه متفق عليه.
انظر " الزاد " (1 / 326 - 327) ، و " النيل " (5 / 61) . (ن)
(2) • نقل هذا الإجماع الإمام المهدي في " البحر "؛ كما في " النيل ".
قلت: ونقله أيضا ابن حزم في " المراتب " (ص 49) ، وأقره ابن تيمية. (ن)
(3) • يعني: لأنه كان - عليه السلام - قارنا؛ وإلا فقد طاف طواف القدوم
وأيضاً، وكذا طواف الوداع. (ن)
(2/114)
عن المسائل التي قلد فيها الآخر الأول،
وجعل عليها سورا لا يستطيع صعوده من كان هيابا للقيل والقال، ومخبوطا
بأسواط آراء الرجال، وهو دعوى الإجماع؛ فإن ما كان كذلك؛ قل أن يكشف عن
أصله ومستنده؛ إلا من كان من الأبطال المؤهلين للنظر في الدلائل، الفارقين
بين العالي منها والسافل؛ {وقليل ما هم} ؛ بل هم أقل من القليل، والله
المستعان.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عند الشيخين وغيرهما من حديث عائشة: أنه
قال لها: " طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة؛ يكفيك لحجك وعمرتك ".
وأخرج الشيخان (1) وغيرهما من حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "
من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأه طواف واحد وسعي واحد "؛ واللفظ للترمذي.
وهذا يدل على أن الواجب ليس إلا طواف واحد لا ثلاثة: طواف القدوم،
والزيارة، والوداع.
ويدل عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر: أنه حج، فطاف بالبيت ولم
يطف طوافا غير ذلك (2) .
__________
(1) • ليس هو في " الصحيحين " مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما
هو في " مسلم " (4 / 51) موقوف على ابن عمر، وسأذكر لفظه قريبا، وهو في "
البخاري " بنحوه.
وأما المرفوع؛ فهو عند الترمذي وغيره، وقد تقدم. (ن)
(2) • لقد تتبعت ألفاظ هذا الحديث في " البخاري " (3 / 389 - 433، 4 / 4 -
5، 9 - 10) ، و " مسلم " (4 / 51 - 52) ، فلم أر فيهما هذا اللفظ الذي
أورده الشارح، وكأنه نقله بالمعنى!
وهو تساهل منه، لا سيما وقد زاد فيه - بناء على فهمه -: ولم يطف طوافا غير
ذلك؛ ولا أصل لهذه الزيادة عندهما.
والناظر في ألفاظهما بتأمل؛ يتبين له خلاف ما قاله الشارح؛ ذلك لأن ابن عمر
كان قارنا، كما =
(2/115)
( [طواف الوداع
واجب] :
__________
= قال في رواية لهما: إني قد أوجبت حجة مع عمرة، فانطلق حتى ابتاع بقديد
هديا، ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل
منهما حتى حل منها بحجة يوم النحر - زاد مسلم -، وكان يقول: من جمع بين
الحج والعمرة؛ كفاه طواف واحد، ولم يحل حتى يحل منهما جميعا.
فأنت ترى أنه ليس فيه نفي طواف الإفاضة والوداع، بل قصده بيان أن القارن
يكتفي أن يطوف لقدومه طوافا واحدا لحجه وعمرته.
نعم؛ في بعض الروايات عنه ما يدل - بظاهره - على ما ذهب إليه الشارح، وهو
قوله بعد قول نافع: فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم
ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم؛ حتى كان يوم النحر؛ فنحر،
وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وقال ابن عمر: كذلك
فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الحافظ (4 / 5) : " وهذا ظاهره أنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف
الإفاضة، وهو مشكل ".
قلت: لكن هذا الظاهر غير مراد من الحديث، والدليل قوله فيه: كذلك فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه من المعلوم أنه عليه السلام كان في حجه
قارنا، وأنه طاف لذلك طوافا واحدا، ثم طاف طواف الإفاضة، ثم طواف الوداع؛
كما ورد عن جمع من الصحابة؛ منهم ابن عمر نفسه، في " البخاري " (3 / 424 -
426) وغيره. [فإذا حمل] قوله في الحديث: كذلك فعل رسول الله على اكتفائه
بطوافه الأول عن ما بعده من الإفاضة والوداع - كما فهم الشارح واستشكله
الحافظ -؛ تناقض حديثاه، وذا لا يجوز؛ فوجب حمله على معنى لا يختلف مع
حديثه الآخر، وليس هو إلا ما ذكرناه من اكتفائه لقدومه بطواف لحجه وعمرته،
لا الاكتفاء به عما بعده من الطواف.
وبعد؛ فإن البحث يحتمل الزيادة، ولكن المجال ضيق، فنكتفي بهذا.
ولا بد من التنبيه على أمرين آخرين:
الأول: أن احتجاج المؤلف بحديث عائشة؛ هو مثل احتجاجه بحديث ابن عمر؛ أعني
أن عائشة كانت قارنة، وأيضا فإنها كانت حائضا حين قدمت مكة، فلم تستطع أن
تطوف حتى قضت مناسكها كلها؛ كما في " البخاري " وغيره، فلا يقاس بها
الرجال، والنساء الطاهرات؛ كما لا يخفى.
والأمر الآخر: أنه قد فاته الدليل على وجوب طواف الزيارة؛ وهو قوله تعالى:
{ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} ؛ وهو طواف
الإفاضة؛ كما جزم به الشوكاني في " النيل "، (5 / 61) وكذا ابن كثير وغيره.
(ن)
(2/116)
(وإذا فرغ من أعمال الحج طاف للوداع) :
لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحد؛ حتى يكون آخر عهده بالبيت
".
وفي لفظ للبخاري، ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يكون
آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.
وفي الباب أحاديث.
وإلى وجوب طواف الوداع: ذهب الجمهور.
وقال مالك، وداود، وابن المنذر: هو سنة، لا شيء في تركه.
قال في " الحجة ": " والسر فيه تعظيم البيت أن يكون هو الأول، وهو الآخر،
تصويرا لكونه هو المقصود من السفر، وموافقة لعادتهم في توديع الوفود ملوكها
عند النفر ".
وقال في " سبل السلام ": " ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الوداع
ليلا سحرا، ولم يرمل في هذا الطواف، وصلى الفجر بالحرم، وقرأ ب {الطور} ،
ثم نادى بالرحيل، فارتحل راجعا إلى المدينة، فلما أتى ذا الحليفة بات بها،
فلما رأى المدينة كبر ثلاثا، وقال: " لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له
الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون،
لربنا حامدون، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده "، ثم دخلها نهارا
". انتهى.
(2/117)
( [الفصل السابع: أفضل أنواع الهدي] )
(1 -[البدنة] :)
(والهدي) : لقوله - تعالى - {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} ، واتفق
أهل العلم على أن الهدي مستحب للحاج المفرد والمعتمر المفرد، وواجب على
المتمتع والقارن، وعلى من وجب عليه جزاء العدوان على الإحرام، ويعتبر في
الهدايا ما يعتبر في الضحايا.
(أفضله البدنة) : لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي البدن، ولأنها أنفع
للفقراء.
(2 -[البقرة] ، 3 -[الشاة] :)
(ثم البقرة ثم الشاة) : لأن البقرة أنفع بالنسبة إلى الشاة؛ وهذا إذا كان
الذي يهدي البدنة والبقرة واحدا.
أما إذا كانوا جماعة بعدد ما تجزئ عنه البدنة والبقرة؛ فقد وقع الخلاف، هل
الأفضل سُبع البدنة أو البقرة، أم الشاة عن الواحد؟
والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للفقراء.
( [البدنة أو البقرة تجزئ عن سبعة] :)
(وتجزئ البدنة والبقرة عن سبع) : لحديث جابر في " الصحيحين " وغيرهما، قال:
أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك
(2/118)
في الإبل والبقر؛ كل سبعة منا في بدنة.
وفي لفظ لمسلم: فقيل لجابر: أيُشترك في البقر ما يُشترك في الجزور؟ فقال:
ما هي إلا من البدن.
وأخرج أحمد، وابن ماجه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل
فقال: إن علي بدنة، وأنا موسر ولا أجدها؛ فأشتريها؟ فأمره صلى الله عليه
وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن؛ ورجاله رجال الصحيح (1) .
ولا يعارض هذا حديث ابن عباس عند أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي -
وحسنه (2) - قال: كنا في سفر، فحضر الأضحى، فذبحنا البقرة عن سبعة، والبعير
عن عشرة.
وكذلك لا يعارضه ما في " الصحيحين " من حديث رافع بن خديج: أنه صلى الله
عليه وسلم قسم، فعدل (3) عشرا من الغنم ببعير:
لأن تعديل البدنة بسبع شياه هو في الهدي، وتعديلها بعشر هو في الأضحية
والقسمة.
__________
(1) • قلت: ومع ذلك؛ فإن سنده غير صحيح؛ فإنه من رواية ابن جريح؛ قال: قال
عطاء الخراساني، عن ابن عباس.
وهذا منقطع بين ابن جريج وعطاء، وبين هذا وابن عباس؛ فإنه لم يسمع منه،
وابن جريج مدلس ولم يصرح بالسماع.
والحديث في " السنن " (2 / 274 - 275) ، و " المسند " (رقم 2840، 2853) .
(ن)
(2) • قلت: وسنده صحيح؛ كما بينته في " التعليقات " (4 / 160) . (ن)
(3) العدل والتعديل بين الشيئين: التسوية. (ش)
(2/119)
وقد ذهب الجمهور إلى أن عدل البدنة في
الهدي سبع شياه.
وادعى الطحاوي وابن رشد (1) أنه إجماع؛ ولا تصح هذه الدعوى فالخلاف مشهور.
( [يجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه] :)
(ويجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه) : لحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر من كل بدنة ببضعة (2) ، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل هو وعلي من
لحمها، وشربا من مرقها؛ أخرجه أحمد، ومسلم.
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة: أنه دخل عليها يوم النحر بلحم بقر، فقالت:
ما هذا؟ فقيل: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه.
قال النووي: " وأجمع العلماء على أن الأكل من هدي التطوع وأضحيته سنة ".
انتهى.
والظاهر أنه لا فرق بين هدي التطوع وغيره؛ لقوله - تعالى -: {فكلوا منها} .
( [يجوز للمهدي أن يركب على هديه] :)
(ويركب عليه) ، أي: المهدي على هديه؛ لحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما،
قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يسوق بدنة، فقال: " اركبها "،
__________
(1) • في " البداية " (1 / 347) ، وراجع " التعليقات " (4 / 158) . (ن)
(2) البضعة - بفتح الباء لا غير -: هي القطعة من اللحم. (ش)
(2/120)
فقال: إنها بدنة؟ قال: " اركبها "، قال:
إنها بدنة؟ قال: " اركبها ".
وفيهما نحوه من حديث أبي هريرة.
وأخرج أحمد، ومسلم من حديث جابر: أنه سئل عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اركبها بالمعروف، إذا ألجئت إليها،
حتى تجد ظهرا ".
( [يندب إشعار الهدي وتقليده] :)
(ويندب له إشعاره وتقليده) (1) : لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره: أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته،
فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، وقلدها نعلين.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " قالوا: إنها خلاف الأصول؛ إذ
الإشعار مثلة، ولعمر الله؛ إن هذه السنة خلاف الأصول الباطلة {وما ضرها ذلك
شيئا، والمثلة المحرمة هي العدوان، لا يكون عقوبة، ولا تعظيما لشعائر الله،
فأما شق صفحة سنام البعير المستحب أو الواجب ذبحه، ليسيل دمه قليلا، فيظهر
شعار الإسلام، وإقامة هذه السنة التي هي من أحب الأشياء إلى الله وفق
الأصول؛ وأي كتاب أو سنة حرم ذلك حتى يكون خلافا للأصول؟} وقياس الإشعار
على المثلة المحرمة من أفسد قياس على وجه الأرض؛ فإنه قياس ما يحبه الله
ويرضاه على ما يبغضه ويسخطه وينهى عنه؛ ولو لم يكن في حكمة الإشعار
__________
(1) • انظر " التعليقات " (4 / 52 - 53) . (ن)
(2/121)
إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها، وعلم الناس
بأن هذه قرابين الله - عز وجل - تساق إلى بيته، تذبح له، ويتقرب بها إليه
عند بيته، كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته، عكس ما عليه أعداؤه المشركون
الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها، فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون
نسكهم وصلاتهم لله وحده، وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار، ليعلو دينه
على كل دين: فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بالإشعار على وفقها؛
ولله الحمد ".
( [بيان حكم من بعث بهديه] :)
(ومن بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم) : لحديث عائشة في "
الصحيحين " وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي من المدينة،
ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم.
أقول: هذا آخر كلام الماتن على أحكام الحج.
( [بيان حكم الحج عن الميت] :)
وأما الحج عن الميت والاستئجار له؛ فاعلم أن الحج من الواجبات المتعلقة
ببدن المكلف، والظاهر في الواجبات البدنية أنها لا تلزم بعد رفع قلم
التكليف، وانتقال المكلف من هذه الدار التي هي دار التكاليف إلى دار
الآخرة؛ لأنه لم يبق من طلب منه الفعل، فمن قال: إنه يلزم الميت الإيصاء
بشيء من الواجبات البدنية بأن يفعل عنه غيره بعد موته؛ لم يقبل إلا بدليل.
أو قال: من تبرع عن ميت بفعل واجب بدني أجزأه؛ لم يقبل ذلك منه إلا بدليل.
(2/122)
وقد ورد الدليل في أمور، منها الصوم؛
لحديث: " من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه "، ولكن ليس في هذا الحديث وجوب
على الميت، بل الإيجاب على الولي (1) ، وغاية ما يستفاد من قوله: " صام عنه
"؛ أنه يجزىء ذلك الصوم عن الميت.
وأما الحج؛ فلم يرد ما يدل على وجوب الوصية على الميت به، بل ورد ما يدل
على وقوع الحج من القريب عن قريبه الميت؛ كما في حديث من نذرت أخته أن تحج،
فماتت قبل أن تحج (2) ، وكذلك ورد ما يدل على وقوع الحج من الولد لأبيه،
إذا كان في الحياة عاجزا عن الإتيان بالفريضة؛ كما في خبر الخثعمية.
__________
(1) وليس فيه أيضا إيجاب على الولي كما قدمنا. (ش)
• ولكن الحديث الذي أفاده ذلك ضعيف؛ كما قدمناه أيضا (ص 23) . (ن)
(2) • روى البخاري (11 / 495) ، والبيهقي (5 / 179) من حديث ابن جبير، عن
ابن عباس، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت
أن تحج، وإنها ماتت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كان عليها دين؛
أكنت قاضيه؟ "، قال: نعم، قال: " فاقض لله؛ فهو أحق بالقضاء ".
لكن ذكر الأخت في الحديث شاذ؛ ففي رواية أخرى للبخاري (4 / 52) وغيره من
هذا الوجه: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت:
إن أمي نذرت ... الحديث.
قال الحافظ تحت هذه الرواية: " كذا رواه أبو بشر، عن سعيد بن جبير، من
رواية أبي عوانة عنه، وسيأتي في (النذور) من طريق شعبة، عن أبي بشر، بلفظ:
أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت ... ، فإن كان
محفوظا؛ احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته، والبنت سألت عن أمها ... ".
ثم إن في الحديث اختلافا آخر؛ وهو: هل السائل والمسؤول عنه رجل أو امرأة؟
وقد ساق الحافظ طرق الحديث وألفاظه، وبين ما فيها من الاختلاف، ثم قال:
" والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق: أن السائل رجل، وكانت ابنته معه،
فسألت أيضا، والمسؤول عنه؛ أبو الرجل وأمه معا ". (ن)
(2/123)
وأما إيجاب الوصية بالحج، أو أنه يجزىء من
كل أحد عن كل ميت: فلا دليل على ذلك فيما أعلم.
نعم؛ إذا أوصى بالحج بنصيب من ماله؛ فقد جعل الله له ثلث ماله في آخر عمره
يتصرف به كيف يشاء؛ ما لم يكن ضرارا؛ فالموصي بالحج كأنه أوصى بنصيب من
ماله المأذون له بالتصرف في ثلثه، فيجب امتثال وصيته.
وأما كون ذلك يسقط الواجب على الميت؛ فمحل تردد عندي، ولا سيما إذا كان
الذي حج عنه ليس من قرابته (1) ؛ فإن القرابة لها تأثير في القيام ببعض
الواجبات البدنية من الحي عن الميت؛ كما في حديث: " صام عنه وليه "، وكما
في حديث الذي نذرت أخته أن تحج.
وأما حديث: " حج عن نفسك، ثم عن شبرمة " (2) : فهو - وإن كان في بعض "
السنن " -؛ لكن لم يصرح فيه بأن الملبي عن شبرمة كان أجنبيا عنه، بل ورد في
رواية: وهو أخ له أو صديق؛ ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال.
وفي لفظ؛ أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " من شبرمة؟ "، قال: أخ لي
أو قريب لي؛ وقد أخرج هذه الرواية البيهقي.
والظاهر: أن اعتناءه به، وتلبيته عنه، وطيبة نفسه بأن يكون حجه له؛
__________
(1) • قلت: ولا سيما إذا كان المحجوج عنه مقصرا في حياته؛ أعني أنه استطاع
أن يحج، ولم يحج. (ن)
(2) • قلت: هذا الحديث قد اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه، والحق؛ أنه صحيح
لطرقه وشواهده؛ وقد جمعتها في رسالة. (ن)
(2/124)
للقرابة بينهما؛ إذ من البعيد أن يفعل ذلك
لغير من بينه وبينه قرابة؛ ثم ليس في الحديث أن شبرمة هذا قد كان مات إذ
ذاك.
وأما ما رواه الثعلبي في " تفسيره " بلفظ: " من أوصى بحجة؛ كانت أربع حجج،
وحجة للذي كتبها "؛ فمع كونه غير مرفوع؛ لا يدرى كيف إسناده؟ والثعلبي ليس
من أهل الرواية، فقد روى في " تفسيره " الموضوعات.
وقد أخرج البيهقي مثل ما ذكره عن جابر مرفوعا، كما ذكره صاحب التخريج؛
فينظر في سنده؛ فما أظنه يصح (1) .
والحاصل: أن هذا البحث طويل الذيول، متشعب الحجج والنقول، فمن رام العثور
على الصواب؛ فعليه ب " الفتح الرباني فتاوى الشوكاني "، و " دليل الطالب
على أرجح المطالب "؛ لهذا العبد الضعيف.
وليس مقصودنا هنا إلا التنبيه على الحق الحقيق بالقبول؛ وإن أباه أكثر
العقول.
وحديث: " فدين الله أحق أن يقضى "؛ ليس المراد به دفع الأجرة لمن
__________
(1) • قلت: قد أصاب - رحمه الله -؛ فإنه عند البيهقي (5 / 180) من طريق أبي
معشر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر؛ بلفظ آخر؛ وقال: " أبو معشر - هذا -؛
نجيح السندي: مدني ضعيف ".
وفيه علة أخرى؛ من أجلها أورده ابن الجوزي في " الموضوعات "، ولكنها في
الحقيقة ليست بعلة؛ انظر كلامنا على الحديث: " إن الله يدخل بالحجة
الواحدة. . " في كتابي " معجم الحديث ".
وقد رواه البيهقي من حديث أنس أيضا، ولفظه أقرب إلى لفظ الثعلبي، وصرح بضعف
إسناده؛ وقد أوردته في الكتاب المشار إليه، فأغنى عن إعادته. (ن)
(2/125)
يحج، بل المراد أن الحج عن الوالد يصح من
الولد؛ كما يصح منه قضاء الدين.
ولا يرد على هذا أن اللفظ عام والاعتبار به؛ لأنا نقول: العموم ليس هو إلا
باعتبار فعل فريضة الحج، لا باعتبار دفع المال لمن يحج؛ فهذا لم يرد به
دليل، فعرفت بهذا أن ما يوصي به الميت من أجرة من يحج عنه؛ يكون خارجا من
ثلثه المأذون به له.
وأما من قال بوجوب الوصية على من لم يحج؛ فكان قياس قوله؛ أن تكون الأجرة
الموصى بها من رأس المال؛ لأن وجوب الوصية فرع وجوب الأجرة في مال الموصي،
ولا فرق بين وجوب مثل الأجرة من ماله، وبين وجوب مثل الزكاة.
وأما ما يذكرونه من الفرق بين ما يتعلق بالمال ابتداء وانتهاء، وبين ما
يتعلق بالبدن ابتداء وبالمال انتهاء: فشيء لا مستند له، ولا معول عليه.
(2/126)
(2 - باب
العمرة المفردة)
وقد تقدمت صفتها.
( [يحرم للعمرة من الميقات] :)
(يحرم لها من الميقات) ، أي: كالتنعيم؛ لأن الإحرام لها كالإحرام للحج، وقد
تقدمت الأدلة في ذكر المواقيت؛ فإنها للحج والعمرة.
( [من كان في مكة يحرم للعمرة من الحل]
:)
(ومن كان في مكة خرج إلى الحل) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج عائشة إلى
التنعيم، فتحرم للعمرة منه.
(ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر) ، ولا خلاف في ذلك.
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في " الصحيحين " وغيرهما من حديث جماعة
من الصحابة: أنه أمر من لم يكن معه هدي بالطواف، والسعي، والحلق أو
التقصير، فمن فعل ذلك؛ فقد حل الحل كله؛ فواقعوا النساء بعد ذلك.
(2/127)
( [العمرة
مشروعة في جميع أيام السنة] :)
(وهي مشروعة) :
في " العالمكيرية ": العمرة عندنا سنة، وليست بواجبة.
وللشافعي قولان: أظهرهما أنها فرض، والثاني: سنة.
أقول: ولم يأت من قال بوجوبها بدليل ينتهض للوجوب، بل كل ما روي في ذلك
متكلم عليه، مع أنه معارض بأحاديث أوردها من قال بعدم الوجوب مصرحة بذلك،
وهي لا تخلو عن مقال.
والواجب العمل على البراءة الأصلية، حتى يرد ناقل ينقل عنها، ولم يأت إلا
ما يفيد مطلق المشروعية، لا المقيدة بالوجوب.
فالحق ما قاله من ذهب إلى عدم الوجوب.
(في جميع السنة) : لحديث عائشة عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم
اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال.
وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر
في ذي القعدة؛ إلا التي اعتمر مع حجته.
ومن ذلك عمرة عائشة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن
يعمرها من التنعيم؛ فإن ذلك كان مع حجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد
كان أهل الجاهلية يحرمون العمرة في أيام الحج، فرد عليهم النبي صلى الله
عليه وسلم واعتمر، وأمر بالعمرة فيها.
(2/128)
وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن
عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عمرة في رمضان تعدل حجة ".
أقول: ثبت اعتماره صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج، بل روي أن عمَرَه كلها
كانت في أشهر الحج، وإنما فعل ذلك لقصد الرد على المشركين؛ فإنهم كانوا
يرونها في أشهر الحج من أفجر الفجور.
وأما تعليل بعض الفقهاء للكراهة بأن العمرة تشغل عن أعمال الحج: فليست
أعمال الحج بمستغرقة لشوال والقعدة وبعض الحجة؛ بل هي في بعض أيام ذي
الحجة؛ فما بال من ذهب إلى كراهة العمرة في أشهر الحج، وخالف هدي محمد صلى
الله عليه وسلم؟ !
والحاصل: أن هذا ونحوه صنيع من لا يدري بالمدارك؛ خفيها وجليها، والله
المستعان.
ومن أراد الاطلاع على تفصيل أحكام الحج والعمرة على الوجه الثابت المأثور:
فليرجع إلى منسكنا " رحلة الصديق إلى البيت العتيق "، وإلى كتابنا " مسك
الختام شرح بلوغ المرام ".
(2/129)
|