الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية

 (الكتاب الثامن: كتاب النكاح)

(2/131)


(8 - كتاب النكاح)
( [الفصل الأول: أحكام الزواج] )
( [تعريف النكاح] :)
قال الزمخشري في " الكشاف ":
" النكاح: الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق له، ونظيره تسمية الخمر إثما؛ لأنها سبب في اقتراف الإثم ". انتهى.
ولا ينافي هذا كثرة ورود النكاح في القرآن بمعنى العقد؛ حتى قال في " الكشاف ":
" إنه لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد؛ لأن الكثرة ليست من خواص الحقيقة، ولا مخرجة للمجاز عن كونه مجازا، كما تقرر في موضعه ".
على أن دعوى الكلية التي ذكرها صاحب " الكشاف " ممنوعة؛ فإن قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} لا يصح أن يراد به العقد؛ كما دل عليه الدليل من السنة، وذهب إليه جماهير الأمة، وكذلك ما ورد في كتاب الله من ألفاظ النكاح للمملوكات لا يكون إلا للوطء؛ إذ لا عقد هناك.

(2/133)


وبالجملة؛ فمعنى النكاح حقيقة: الوطء، ومجازا: العقد؛ كما صرح به الزمخشري، وهو أقعد بمعرفة اللغة من غيره؛ لا سيما التمييز بين المعاني الحقيقية والمجازية؛ فإنه المرجوع إليه في ذلك دون غيره ممن صارت مؤلفاتهم الآن متداولة بين أهل هذه العصور؛ كما لا يخفى على فطن.
( [لمن يشرع الزواج؟] )
(يشرع لمن استطاع الباءة) : لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء (1) ".
والمراد بالباءة: النكاح.
والأحاديث الواردة في الترغيب في النكاح كثيرة.
وقال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} .
__________
(1) الباءة: الجماع؛ يعني: من استطاع منكم الجماع؛ لقدرته على مؤنه - وهي مؤن النكاح -؛ فليتزوج.
والوجاء - بكسر الواو -: الوجء؛ وهو أن ترض أنثيا الفحل رضا شديدا يذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي؛ قاله في " اللسان ". (ش)

(2/134)


( [على من يجب الزواج؟] :)
(ويجب على من خشي الوقوع في المعصية) ؛ لأن اجتناب الحرام واجب، وإذا لم يتم الاجتناب إلا بالنكاح كان واجبا.
وعلى ذلك تحمل الأحاديث المقتضية لوجوب النكاح؛ كحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما، أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلي ولا أنام، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
" ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ ! لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
وأخرج ابن ماجة، والترمذي من حديث الحسن، عن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل.
قال الترمذي: إنه حسن غريب.
قال: وروى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن، عن سعد ابن هشام، عن عائشة.
ويقال: كلا الحديثين صحيح. انتهى.
وفي سماع الحسن عن سمرة مقال معروف.
وأخرج النهي عن التبتل: أحمد، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أنس.

(2/135)


وأخرج ابن ماجة من حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" النكاح من سنتي؛ فمن لم يعمل بسنتي فليس مني ".
( [التبتل حرام] :)
(والتبتل غير جائز) : لما تقدم.
وقد رد صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون.
وكانت المانوية والمترهبة من النصارى يتقربون إلى الله بترك النكاح، وهذا باطل؛ لأن طريقة الأنبياء - عليهم السلام - التي ارتضاها الله تعالى للناس: هي إصلاح الطبيعة، ودفع اعوجاجها، لا سلخها عن مقتضياتها.
(إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه) ؛ لما ثبت في الكتاب العزيز من النهي عن مضارة النساء، والأمر بمعاشرتهن بالمعروف، فمن لا يستطيع ذلك؛ لم يجز له أن يدخل في أمر يوقعه في حرام.
وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في العزبة والعزلة.
( [الأحكام الخمسة تعتري الزواج] :)
أقول: الحاصل أن من كان محتاجا إلى النكاح، أو كان فعله له أولى من تركه من دون احتياج؛ فلا ريب أن أقل الأحوال أن يكون في حقه مندوبا؛ للأدلة الواردة فيها.
ومن لم يكن محتاجا إليه، ولا كان فعله أولى له - كالحصور والعنين -؛

(2/136)


فقد يكون في حقه مكروها؛ إذا كان يخشى الاشتغال عن الطاعات؛ من طلب العلم أو غيره مما يحتاج إليه أهله، أو كانت المرأة تتضرر بترك الجماع من دون أن تقدم على المعصية، وأما إذا كان في غنية، بحيث لا يشتغل عن الطاعات، وكانت المرأة لا تتضرر بترك الجماع، ولا يحصل له بالنكاح نفع فيما يرجع إلى الباءة؛ فالظاهر أنه مباح، وإن لم يأت من الأدلة ما يقتضي هذه التفاصيل، فثم أدلة أخرى تقتضيها، وقواعد كلية؛ ولو قيل: إنه لا يكون في تلك الصورة مباحا؛ بل مكروها - لما ورد في العزبة والعزلة آخر الزمان -؛ لم يكن بعيدا من الصواب.
( [الصفات التي ينبغي توفرها في الزوجة] :)
(وينبغي أن تكون المرأة ودودا) ، لأن تواد الزوجين به تتم المصلحة المنزلية، وكثرة النسل بها تتم المصلحة المدنية والملية.
وود المرأة لزوجها دال على صحة مزاجها، وقوة طبيعتها، مانع لها من أن يطمح بصرها إلى غيره، باعث على تجملها بالامتشاط وغير ذلك، وفيه تحصين فرجه ونظره.
(ولودا) ؛ لحديث أنس عند أحمد (1) وابن حبان - وصححه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة ".
وأخرج نحوه أحمد من حديث ابن عمر، وفي إسناده جرير بن عبد الله
__________
(1) • في " المسند " (3 / 158 - 245) ؛ وسنده حسن. (ن)

(2/137)


العامري، وقد وثق، وفيه ضعف.
وأخرج نحوه أبو داود (1) ، والنسائي، وابن حبان، من حديث معقل بن يسار.
(بكرا) : لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
" تزوجت بكرا أم ثيبا؟ "، قال: ثيبا. قال: " فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك؟ ! ".
(ذات جمال) ؛ فإن الطبيعة البشرية راغبة في الجمال، وكثير من الناس تغلب عليهم الطبيعة.
والجمال وما يشبهه من الشباب مقصد من غلب عليه حجاب الطبيعة.
(وحسب) ؛ يعني: مفاخر آباء المرأة؛ فإن التزوج في الأشراف شرف وجاه.
(ودين) ؛ أي: عفة عن المعاصي، وبعدها عن الريب، وتقربها إلى بارئها بالطاعات.
والدين مقصد من تهذب بالفطرة؛ فأحب أن تعاونه امرأته في دينه، ورغب في صحبة أهل الخير.
(ومال) ؛ بأن يرغب في المال، ويرجى مواساتها معه في مالها، وأن يكون أولاده أغنياء؛ لما يجدون من قبل أمهم.
__________
(1) • وكذا الحاكم (2 / 162) - وصححه -، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)

(2/138)


والمال والجاه مقصد من غلب عليه حجاب الرسم.
ووجهه ما في " الصحيحين "، من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك ".
وفي " صحيح مسلم " وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن المرأة تنكح على دينها، ومالها، وجمالها؛ فعليك بذات الدين تربت يداك ".
قال في " الحجة ":
" قال صلى الله عليه وسلم: " خير النساء اللاتي ركبن الإبل؛ نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده " (1) .
أقول: يستحب أن تكون المرأة من كورة وقبيلة؛ عادات نسائها صالحة؛ فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، وعادات القوم ورسومهم غالبة على الإنسان، وبمنزلة الأمر المجبول هو عليه.
وبين أن نساء قريش خير النساء؛ من جهة أنهن أحنى إنسان على ولد في صغره، وأرعاه على الزوج في ماله ورقيقه، ونحو ذلك.
وهذان من أعظم مقاصد النكاح، وبهما انتظام تدبير المنزل، وإن أنت فتشت حال الناس اليوم في بلادنا، وبلاد ما وراء النهر وغيرها؛ لم تجد أرسخ
__________
(1) • متفق عليه؛ وقد خرجته في " معجم الحديث ". (ن)

(2/139)


قدما في الأخلاق الصالحة، ولا أشد لزوما لها من نساء قريش ". انتهى.
( [إلى من تخطب المرأة الكبيرة؟] )
(وتخطب الكبيرة إلى نفسها) ؛ لما في " صحيح مسلم " (1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أم سلمة يخطبها.
( [ما هو المعتبر من الكبيرة إذا خطبت إلى نفسها؟] :)
(والمعتبر حصول الرضا منها) ؛ لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره:
" الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها ".
وفي " الصحيحين " وغيرهما، من حديث أبي هريرة، وعائشة نحوه.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والدارقطني، من حديث ابن عباس: أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: ورجال إسناده ثقات (2) .
وروي نحوه من حديث جابر؛ أخرجه النسائي (3) ، ومن حديث عائشة؛
__________
(1) قلت: ليس في " صحيح مسلم " قصة الإرسال؛ وإنما فيه قصة أخرى متعلقة بأم سلمة.
(2) • قلت: وهو كما قال الحافظ؛ فإن رجاله كلهم ثقات؛ لكن أعله الدارقطني وغيره بالإرسال؛ فانظر " سننه " (ص 387 - 388) ، والبيهقي (7 / 117) .
ورد ذلك ابن القيم برواية جماعة له موصولا؛ وهو الصواب؛ انظر " المسند " (رقم 2469) . (ن)
(3) • لم أجده عنده من حديث جابر؛ فلعله في " سننه الكبرى ".
وقد أخرجاه عنه؛ الدارقطني (387) ، والبيهقي (7 / 117) بإسناد رجاله ثقات - أيضا -؛ عن عطاء عنه، ولكنهما قالا: " الصحيح عن عطاء "؛ مرسلا ". (ن)

(2/140)


أخرجه أيضا النسائي (1) .
وأخرج ابن ماجة (2) عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال:
جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته؛ قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء؛ ورجاله رجال الصحيح.
وأخرجه أحمد، والنسائي، من حديث ابن بريدة، عن عائشة (3) .
قال في " الحجة البالغة ":
" أقول: لا يجوز أيضا أن يحكم الأولياء فقط؛ لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها، ولأن حار العقد وقاره راجعان إليها، والاستئمار طلب أن
__________
(1) • (2 / 78) ؛ وكذلك أخرجه الدارقطني، والبيهقي؛ وقال: " مرسل، لم يسمع ابن بريدة من عائشة ". (ن)
(2) • (1 / 577) من طريق هناد بن السري: ثنا وكيع، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة عن أبيه.
وقول الشارح تبعا للشوكاني: " رجاله رجال الصحيح "؛ صحيح.
وأما قول صاحب " الزوائد ": " إسناده صحيح، وقد رواه غير المصنف من حديث عائشة "؛ قلت: فهذا غير صحيح؛ لأنه معل، والصحيح أنه من مسند عائشة.
كذلك رواه أحمد (7 / 137) : ثنا وكيع ... به؛ إلا أنه قال: عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة. وكذلك أخرجه الدارقطني (ص 386) من طريق محمد بن الحجاج الضبي: نا وكيع ... به، ثم رواه من طريق جماعة عن كهمس ... به:
فالحديث حديث عائشة؛ وهو منقطع كما سبق. (ن)
(3) • قلت: هذا إعادة بدون كبير فائدة؛ فقد تقدم الحديث قبل سطور برواية النسائي وحده. (ن)

(2/141)


تكون هي الآمرة صريحا، والاستئذان طلب أن تأذن ولا تمنع، وأدناه السكوت.
وإنما المراد استئذان البكر البالغة دون الصغيرة، كيف ولا رأي لها؟ ! قد زوج أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين ". انتهى.
( [هل الكفاءة في الزواج معتبرة؟] :)
(لمن كان كفأ) ؛ لحديث علي عند الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم (1) إذا وجدت لها كفؤا " (2) .
ولكن ليس في هذا الحديث ما يدل على اعتبار الكفاءة في النسب؛ بل يحمل على أن المرأة إذا وجدت لها كفؤا ترضى خلقه ودينه؛ كما سيأتي.
وأخرج الحاكم، من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" العرب أكفاء بعضهم لبعض؛ قبيلة لقبيلة، وحي لحي، ورجل لرجل؛ إلا حائك، أو حجام ".
وفي إسناده رجل مجهول، وقال أبو حاتم: إنه كذب، لا أصل له، وذكر الحفاظ أنه موضوع، وقد أوضح الكلام عليه الماتن في كتابه - في
__________
(1) هي التي لا زوج لها. (ش)
(2) • هذا حديث ضعيف؛ كما بينته في " معجم الحديث "؛ فلا حجة فيه لو كان ظاهر الدلالة. (ن)

(2/142)


الموضوعات - الذي سماه " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ".
ولكن رواه البزار في " مسنده " من طريق أخرى عن معاذ بن جبل رفعه: " العرب بعضها أكفاء لبعض "؛ وفيه سليمان بن أبي الجون (1) .
ويغني عن ذلك ما في " الصحيحين " وغيرهما، من حديث أبي هريرة:
" خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام؛ إذا فقهوا ".
ولكن ليس فيه دلالة على المطلوب؛ لأن إثبات كون البعض خيرا من بعض لا يستلزم أن الأدنى غير كفؤ للأعلى.
وهكذا حديث: " إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم " (2) :
فإن هذا الاصطفاء لا يدل على أن الأدنى غير كفؤ للأعلى.
وأخرج الترمذي، من حديث أبي حاتم المزني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه؛ فأنكحوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير "، قالوا: يا رسول الله {وإن كان فيه؟} قال: " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " - ثلاث مرات -؛ وقد حسنه الترمذي، وقال: " هذا حديث حسن غريب ".
__________
(1) • قلت: ولم أعرفه، وسيأتي (ص 178) التصريح بأن سنده ضعيف. (ن)
(2) • وتمامه: " واصطفاني من بني هاشم ": رواه مسلم (7 / 58) (ن) .

(2/143)


ونقل المناوي عن البخاري أنه لم يعده محفوظا، وعده أبو داود في المراسيل، وأعله ابن القطان بالإرسال، وضعف راويه، وأبو حاتم المزني له صحبة، ولا يعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث (1) .
وأخرج الدارقطني، عن عمر، أنه قال: لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء ".
( [بيان اعتبار الكفاءة في النكاح] :)
أقول: استدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه ابن ماجة بإسناد رجاله رجال الصحيح، من حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه: أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته؟ ! قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس إلى الآباء من أمر النساء شيء.
وأخرجه أحمد، والنسائي، من حديث ابن بريدة عن عائشة (2) .
ومحل الحجة منه قولها: ليرفع بي خسيسته؛ فإن ذلك مشعر بأنه غير كفؤ لها.
ولا يخفى أن هذا إنما هو من كلامها، وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها؛
__________
(1) • قلت: لكن له شاهد من حديث أبي هريرة؛ فالحديث حسن عندي، وقد تكلمت عليه، وخرجته في " معجم الحديث "، وسيذكر الشارح قريبا الشاهد المشار إليه (ن)
(2) • قلت: وهذا هو الصواب؛ وهو منقطع، والذي قبله وهم من بعض رواته؛ كما بينا آنفا. (ن)

(2/144)


لكون رضاها معتبرا، فإذا لم ترض لم يصح النكاح؛ سواء كان المعقود له كفؤا أو غير كفؤ.
أيضا هو زوجها بابن أخيه؛ وابن عم المرأة كفؤ لها.
واستدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه أحمد، والنسائي - وصححه -، وابن حبان، والحاكم (1) ، من حديث بريدة مرفوعا: " إن أحساب أهل الدنيا الذين (2) يذهبون إليه المال ".
وبما أخرجه أحمد، والترمذي - وصححه هو والحاكم (3) - من حديث سمرة مرفوعا: " الحسب المال، والكرم التقوى ".
ويحتمل أن يكون المراد: أن هذا هو الذي يعتبره أهل الدنيا - كما صرح به في حديث بريدة -، وأن هذا حكاية عن صنيعهم واغترارهم بالمال، وعدم اعتدادهم بالدين، فيكون في حكم التوبيخ لهم والتقريع.
وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - زوج مولاه زيد بن حارثة
__________
(1) • أخرجه (2 / 163) من طريق الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه؛ مرفوعا، وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي.
وأقول: الحسين - هذا - إنما أخرج له البخاري تعليقا؛ فالحديث على شرط مسلم وحده، وهو في " المسند " (5 / 353) ، و " النسائي " (2 / 71) ، و " البيهقي " (7 / 135) بنحوه. (ن)
(2) • كذا في " المسند " بصيغة الجمع، وفي " النسائي "، و " المستدرك ": " الذي "؛ على الإفراد؛ (ن)
(3) • ووافقه الذهبي، وأخطأوا جميعا؛ فإن للحديث علتين: عنعنة الحسن عن سمرة، وتفرد سلام بن أبي مطيع به عن قتادة، وروايته عنه ضعيفة.
وقد خرجت الحديث، وتكلمت عليه في " المعجم "؛ فليراجع. (ن)

(2/145)


بزينب بنت جحش القرشية، وزوج أسامة بن زيد بفاطمة بنت قيس القرشية، وزوج عبد الرحمن بن عوف بلالا بأخته.
وأخرج أبو داود: أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا بني بياضة {أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه ".
أخرجه أيضا الحاكم، وحسنه (1) ابن حجر في " التلخيص ".
وأخرج البخاري، والنسائي، وأبو داود، عن عائشة: أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم - تبنى سالما، وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى امرأة من الأنصار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه؛ فزوجوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض ".
أخرجه الترمذي، من حديث أبي هريرة.
قال في " الحجة البالغة ":
" أقول: ليس في هذا الحديث أن الكفاءة غير معتبرة، كيف وهي مما جبل عليه طوائف الناس، وكاد يكون القدح فيها أشد من القتل؟} والناس على مراتبهم، والشرائع لا تهمل مثل ذلك، ولذلك قال عمر: لأمنعن النساء إلا من أكفائهن؛ ولكنه أراد أن لا يتبع أحد محقرات الأمور نحو قلة المال،
__________
(1) • وهو كما قال؛ انظر " سنن أبي داود " (1 / 327) ، و " المستدرك " (2 / 164) . (ن)

(2/146)


ورثاثة الحال، ودمامة الجمال، أو يكون ابن أم ولد، ونحو ذلك من الأسباب بعد أن يرضى دينه وخلقه؛ فإن أعظم مقاصد تدبير المنزل: الاصطحاب في خلق حسن، وأن يكون ذلك الاصطحاب سببا لصلاح الدين ".
وقال في " المسوى " في باب الكفاءة.
" قال الله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} ، وقال تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون} .
قلت: هذه الآيات تدل على تفاوت مراتب الناس، وأن ذلك أمر ثابت فيهم، ولم يرده الله تعالى، فكان تقريرا.
ثم اختلفوا في تحديد المعاني التي يقع بها التفاوت، فذهب أكثرهم إلى أنها أربعة: الدين، والحرية، والنسب، والصناعة، والمراد من الدين: الإسلام والعدالة.
واعتبر الشافعي السلامة من العيوب المثبتة للخيار أيضا، ومعنى اعتبار الكفاءة عند أبي حنيفة: أن المرأة إذا زوجت نفسها من غير الكفؤ؛ فللأولياء أن يفرقوا بينهما.
وعند الشافعي: أن أحد الأولياء المستوين إذا زوجها برضاها نم غير كفؤ؛ لم يصح، وفي قول: يصح.
وله الفسخ إذا زوج الأب بكرا صغيرة أو بالغة بغير رضاها، وفيه القولان أيضا ". انتهى.

(2/147)


أقول: قوله صلى الله عليه وسلم: " من ترضون دينه وخلقه "؛ فيه دليل على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق.
وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين: مالك.
ونقل عن عمر وابن مسعود، ومن التابعين عن محمد بن سيرين، وعمر ابن عبد العزيز، ويدل عليه قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .
واعتبر الكفاءة في النسب: الجمهور.
وقال أبو حنيفة: قريش أكفاء بعضهم بعضا، والعرب كذلك.
وليس أحد من العرب كفؤا لقريش، كما ليس أحد من غير العرب كفؤا للعرب؛ وهو وجه للشافعية.
قال في " الفتح ": " والصحيح تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم، ومن عدا هؤلاء أكفاء بعضهم لبعض ".
قال الشافعي: " ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث ".
وأما ما أخرجه البزار، من حديث معاذ رفعه:
" العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض "؛ فإسناده ضعيف.
قال في " الفتح ": " واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه؛ فلا تحل المسلمة لكافر ". انتهى.

(2/148)


وأعلى الصنائع المعتبرة في الكفاءة في النكاح على الإطلاق: العلم؛ لحديث: " العلماء ورثة الأنبياء ".
أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، من حديث أبي الدرداء، وضعفه الدارقطني في " العلل "، قال المنذري: " هو مضطرب الإسناد ".
وقد ذكر البخاري في " صحيحه " بغير إسناد (1) .
والقرآن الكريم شاهد على ما ذكرناه.
فمن ذلك قوله - تعالى -: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ، وقوله - تعالى -: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ، وقوله - تعالى - {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتكاثرة، منها حديث: " خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " - وقد تقدم -.
وبالجملة: إذا تقرر لك هذا؛ عرفت أن المعتبر هو الكفاءة في الدين والخلق، لا في النسب.
لكن؛ لما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن حسب أهل الدنيا المال، وأخبر صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في " الصحيح " عنه - أن في أمته ثلاثا من أمر الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة؛ كان تزوج غير الكفؤ في النسب والمال من أصعب ما ينزل بمن لم يؤمن بالله واليوم الآخر.
__________
(1) • لكنه حسن؛ كما بينته في " التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب ". (ن)

(2/149)


قال الماتن - رحمه الله -: " ومن هذا القبيل؛ استثناء الفاطمية من قوله: (ويغتفر برضا الأعلى والولي) ، وجعل بنات فاطمة - رضي الله عنها - أعلى قدرا وأعظم شرفا من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلبه ".
فيا عجبا كل العجب من هذه التعصبات الغريبة، والتصلبات على أمر الجاهلية، وإذا لم يتركها من عرف أنها من أمور الجاهلية من أهل العلم؛ فكيف يتركها من لم يعرف ذلك؟ !
والخير كل الخير في الإنصاف والانقياد لما جاء به الشرع؛ ولهذا أخرج الحاكم في " المستدرك " - وصححه (1) - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ".
فهذا نص في محل الخلاف.
انظر أمهات العبرة الطاهرة، الذين هم قدوة السادة وأسوة القادة في كل خير ودين، من كن؟
فأم أبي العترة الإمام زين العابدين علي بن الحسين: شهريانو بنت يزدجرد ابن شهريار بن شيرويه بن خسروبرويز بن هرمز بن نوشيروان - ملك الفرس -.
وأم الإمام موسى الكاظم أم ولد؛ اسمها حميدة.
وأم الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم أم ولد أيضا؛ اسمها تكتم.
__________
(1) • ورده الذهبي فأصاب؛ لكن للحديث طريق أخرى حسنة، أوردتها في " الروض النضير "؛ فانظر (رقم 651) ؛ وقد رواه الطيالسي (رقم 378) . (ن)

(2/150)


وأم الإمام علي بن محمد بن علي المذكور الملقب بالجواد والتقي أم ولد؛ اسمها خيزران، وقيل: ريحانة.
وأم الإمام علي بن محمد الملقب بالهادي والعسكري أم ولد، اسمها سمانة.
وأم الإمام حسن بن علي الملقب بالزكي والخالص والعسكري أم ولد؛ اسمها سوسن.
وأم الإمام محمد بن حسن الملقب بالحجة والقائم والمهدي أم ولد؛ اسمها نرجس.
وهكذا كان شأن التزوج في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعرج أحد منهم على الكفاءة في النسب، وإنما أخذ بذلك الجهلة من الأمة، لا سيما أهل القرى والقصبات من نسل العترة والصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -.
وأكثرهم خائضون في الباطل، عاطلون عن حلي العلم الموصل إلى الحق؛ وكان أمر الله قدرا مقدورا.
( [إلى من تخطب الصغيرة؟] :)
(و) تخطب (الصغيرة إلى وليها) ؛ لما في " صحيح البخاري " وغيره، عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر (1) .
__________
(1) • فائدة: وينبغي أن لا يزوج صغيرته - ولو بالغة - من رجل يكبرها في السن كثيرا، بل ينبغي أن يلاحظ تقاربهما في السن؛ لما روى النسائي (2 / 70) بسند صحيح عن بريدة بن الحصيب، قال: خطب أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها صغيرة "، فخطبها علي، فزوجها منه.
قال السندي: " فيه أن الموافقة في السن أو المقاربة مرعية؛ لكونها أقرب إلى الألفة، نعم؛ قد يترك ذلك لما هو أعلى منه، كما في تزويج عائشة - رضي الله عنها - ". (ن)

(2/151)


(ورضا البكر صمتها) ؛ لما تقدم من الأحاديث الصحيحة.
( [متى تحرم الخطبة] :)
(1 -[في العدة] :)
(وتحرم الخطبة في العدة) ؛ لحديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها ثلاثا، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا حللت فآذنيني "؛ فآذنته (1) الحديث، وهو في " صحيح مسلم " وغيره.
وأخرج البخاري (2) ، عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فيما عرضتم به من خطبة النساء} ، قال: يقول: إني أريد التزويج، ولوددت أنه ييسر (3) لي امرأة صالحة.
وأخرج الدارقطني، عن محمد بن علي الباقر - عليهما السلام -: أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة، فقال: " لقد علمت أني رسول الله، وخيرته من خلقه، وموضعي من قومي "؛ وكانت تلك خطبته ".
والحديث منقطع.
__________
(1) • ليس في الحديث دلالة ظاهرة على ما ذكره الشارح؛ وإنما في قوله: " فآذنيني "؛ جواز التعريض بخطبة البائن.
ولعل الشارح أخذ ذلك من مفهوم هذا القول؛ فإن له أن يقول: لم تكن الخطبة محرمة لما عرض صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. (ن)
(2) • في (النكاح) (6 / 131 - طبع إستانبول) . (ن)
(3) • في " البخاري ": " تيسر ". (ن)

(2/152)


قال في " الفتح ": " واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم: من مات عنها زوجها، واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن، وكذا من وقف نكاحها، وأما الرجعية فقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها.
والحاصل؛ أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح في الأولى، وحرام في الأخيرة، ومختلف فيه في البائن ".
(2 -[الخطبة على الخطبة] :)
(و) الخطبة (على الخطبة) ؛ لحديث عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن أخو المؤمن؛ فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، حتى يذر "؛ وهو في " صحيح مسلم "، وغيره.
وأخرج البخاري، وغيره، من حديث أبي هريرة: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه؛ حتى ينكح أو يترك ".
وأخرج أيضا، من حديث ابن عمر: " لا يخطب الرجل على خطبة الرجل؛ حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له ".
وقد ذهب إلى تحريم ذلك الجمهور.
( [جواز النظر إلى المخطوبة] :)
(ويجوز) له (النظر إلى المخطوبة) ؛ لحديث المغيرة عند أحمد، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي، والدارمي، وابن حبان - وصححه -: أنه خطب امرأة

(2/153)


فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يودم (1) بينكما "، فأتى أبويها، فأخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك، فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر؛ وإلا فإني أنشدك (2) ؛ كأنها عظمت ذلك عليه، فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر من موافقتها؛ ذكره أحمد، وأهل " السنن " (3) .
__________
(1) أي: تحصل الموافقة والملاءمة بينكما. (ش)
(2) أي: أقسم عليك بالله. (ش)
(3) • هذا تكرار بدون فائدة {وهو في " المسند " (4 / 244 - 246) - والسياق له -، و " النسائي " (2 / 73) ، و " الترمذي " (2 / 169) ، و " الدارمي " (2 / 134) ، و " ابن ماجه " (1 / 575) ، و " البيهقي " - أيضا - (7 / 84 - 85) ؛ من طريق بكر بن عبد الله المزني، عن المغيرة؛ وليس عند النسائي، والترمذي، والدارمي قصة إتيانه أبويها؛ وإسناده عند الجميع صحيح على شرطهما؛ وحسنه الترمذي فقصر}
وله طريق أخرى عند ابن ماجه، والبيهقي؛ من حديث أنس: أن المغيرة أراد ...
وصححه الحاكم على شرطهما (2 / 165) ، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
واعلم أنهم اختلفوا فيما يجوز له أن ينظر منها:
فالأكثرون - كما قال النووي - على أنه الوجه والكفان فقط.
وخالفهم ابن حزم؛ فقال في " المحلى " (10 / 30 - 31) : إنه ما ظهر منها وما بطن؛ واحتج بحديث جابر؛ مرفوعا: " إذا خطب أحدكم امرأة؛ فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها؛ فليفعل "؛ قال جابر: فخطبت جارية؛ فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها؛ فتزوجتها.
أخرجه أبو داود (1 / 325) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي؛ وفيه ابن إسحاق؛ وقد عنعن؛ لكن صرح بسماعه عند أحمد (3 / 360) ؛ فزالت شبهة تدليسه.
وفي الباب عن محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - نحو حديث جابر وقصته.
والحديث؛ إن لم يدل على ما ذهب إليه ابن حزم؛ فمما لا شك فيه أنه يدل على قدر زائد على ما ذهب إليه الأكثرون؛ والله أعلم. (ن)

(2/154)


وأخرج مسلم، من حديث أبي هريرة، قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنظرت إليها؟ "، قال: لا، قال: " فاذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئا ".
وفي الباب أحاديث.
( [الولي شرط لصحة النكاح] :)
(ولا نكاح إلا بولي) ؛ لحديث أبي موسى عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" لا نكاح إلا بولي ".
وحديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان، والحاكم، وأبي عوانة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها؛ فلها المهر بما استحل من فرجها؛ فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ".
وفي الباب أحاديث.
قال الحاكم: " وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ عائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش "، ثم سرد تمام ثلاثين صحابيا.
أقول: الأدلة الدالة على اعتبار الولي - وأنه لا يكون العاقد سواه، وأن العقد من المرأة لنفسها بدون إذن وليها باطل -؛ قد رويت من طريق جماعة

(2/155)


من الصحابة، فيها الصحيح والحسن وما دونهما، فاعتباره متحتم.
وعقد غيره مع عدم عضله باطل بنص الحديث، لا فاسد؛ على تسليم أن الفساد واسطة بين الصحة والبطلان.
ولا يعارض هذه الأحاديث حديث: " الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن "، ونحوه كحديث: " ليس للولي مع الثيب أمره، واليتيمة تستأمر " (1) ؛ لأن المراد أنها أحق بنفسها في تعيين من تريد نكاحه إن كانت ثيبا، والبكر يمنعها الحياء من التعيين، فلا بد من استئذانها، وليس المراد أن الثيب تزوج نفسها، أو توكل من يزوجها مع وجود الولي؛ فعقد النكاح أمر آخر.
وبهذا تعلم أن لا وجه لما ذهبت إليه الظاهرية؛ من اعتبار الولي في البكر دون الثيب.
والولي عند الجمهور هو الأقرب من العصبة (2) ، وروي عن أبي حنيفة: أن ذوي الأرحام من الأولياء.
( [من هو الولي؟] :)
أقول: الذي ينبغي التعويل عليه عندي هو أن يقال: " إن الأولياء هم
__________
(1) قلت: هو حديث ضعيف؛ انظر تضعيفه في " الصحيحة " (تحت الحديث 1216) وفي " ضعيف الجامع ".
(2) • في " النهاية ": " العصبة: الأقارب من جهة الأب؛ لأنهم يعصبونه، ويعتصب بهم؛ أي: يحيطون به، ويشتد بهم ". (ن)

(2/156)


قرابة المرأة الأدنى فالأدنى، الذين يلحقهم الغضاضة إذا تزوجت بغير كفء، وكان المزوج لها غيرهم.
وهذا المعنى لا يختص بالعصبات؛ بل قد يوجد في ذوي السهام؛ كالأخ لأم، وذوي الأرحام؛ كابن البنت، وربما كانت الغضاضة معهما أشد منها مع بني الأعمام ونحوهم.
فلا وجه لتخصيص ولاية النكاح بالعصبات، كما أنه لا وجه لتخصيصها بمن يرث، ومن زعم ذلك فعليه الدليل، أو النقل بأن معنى الولي في النكاح - شرعا أو لغة - هو هذا.
وأما ولاية السلطان فثابتة بحديث: " إذا تشاجر الأولياء فالسلطان ولي من لا ولي لها "؛ فهذا الحديث، وإن كان فيه مقال (1) ؛ فهو لا يسقط به عن رتبة الاستدلال؛ وهو يدل على حكمين:
الأول: أن تشاجر الأولياء يوجب بطلان ولايتهم، ويصيرهم كالمعدومين.
الثاني: أنهم إذا عدموا كانت الولاية للسلطان (2) .
__________
(1) • وهو أنه من رواية سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ مرفوعا باللفظ المتقدم قبل صفحتين، فقيل: إن الزهري أنكره، فروى أحمد (6 / 47) : ثنا إسماعيل: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني سليمان بن موسى ... به، قال ابن جريج: فلقيت الزهري، فسألته عن هذا الحديث؟ فلم يعرفه، قال: وكان سليمان بن موسى وكان، فأثنى عليه، وقد رد المحققون المقال المذكور؛ بأن سليمان هذا ثقة بشهادة الزهري نفسه، فجائز أنه حدث سليمان بهذا الحديث، ثم نسيه، كما وقع ذلك لغيره، فلا يجوز رد الحديث بنسيانه مع حفظ سليمان له عنه، لا سيما ولم يتفرد به عنه، فراجع " نصب الراية " (2 / 184 - 187، 188 - 189) . (ن)
(2) • والمراد به هنا القاضي؛ لأن إليه أمر الفروج والأحكام، كما قال أحمد في " المسند " عقب الحديث. (ن)

(2/157)


وإذا تحرر لك ما ذكرناه في الأولياء؛ فاعلم أن من غاب منهم عند حضور الكفء ورضا المكلفة به - ولو في محل قريب، إذا كان خارجا عن بلد المرأة ومن يريد نكاحها -؛ فهو كالمعدوم، والسلطان ولي من لا ولي له، اللهم إلا أن ترضى المرأة ومن يريد الزواج بالانتظار لقدوم الغائب، فذلك حق لهما، وإن طالت المدة.
وأما مع عدم الرضا فلا وجه لإيجاب الانتظار، ولا سيما مع حديث: " ثلاث لا يؤخرن إذا حانت - منها -: الأيم إذا حضر كفؤها "، كما أخرجه الترمذي والحاكم؛ وجميع ما ذكر من تلك التقديرات بالشهر وما دونه؛ ليس على شيء منها أثارة من علم.
ومع ذلك؛ فالقول بأن غيبة الولي الموجبة لبطلان حقه هي الغيبة التي يجوز الحكم معها على الغائب؛ هو قول مناسب إذا صح الدليل على أنه لا يجوز الحكم على الغائب؛ إلا إذا كان في مسافة القصر؛ فإن لم يصح دليل على ذلك؛ فالواجب الرجوع إلى ما ذكرناه.
فإن قلت: إذا كان ولي النكاح هو أعم من العصبات كما ذكرته؛ فما وجهه؟ قلت: وجهه أنا وجدنا الولاية قد أطلقت في كتاب الله - تعالى - على ما هو أعم من القرابة: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} ، ووجدناها قد أطلقت في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو أخص من ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: " السلطان ولي من لا ولي له ".
ولا ريب أنه لم يكن المراد في الحديث ما في الآية؛ وإلا لزم أنه لا

(2/158)


ولاية للسلطان إلا عند عدم المؤمنين، وهو باطل؛ لأنه أحدهم؛ بل له مزية عليهم لا توجد في أفرادهم.
وإذا ثبت أنه لم يكن المراد بالولي في الحديث الأولياء المذكورين في الآية؛ فليس بعض من يصدق عليه اسم الإيمان أولى من بعض إلا بالقرابة؛ [فتبين أن المراد القرابة] (1) ؛ ولا ريب أن بعض القرابة أولى من بعض.
وهذه الأولوية ليست باعتبار استحقاق نصيب من المال، أو استحقاق التصرف فيه حتى يكون كالميراث أو كولاية الصغير؛ بل باعتبار أمر آخر؛ وهو ما يجده القريب من الغضاضة التي هي العار اللاصق به، وهذا لا يختص بالعصبات كما بينا؛ بل يوجد في غيرهم، ولا شك أن بعض القرابة أدخل في هذا الأمر من بعض.
فالآباء والأبناء أولى من غيرهم، ثم الإخوة لأبوين، ثم الإخوة لأب أو لأم، ثم أولاد البنين وأولاد البنات، ثم أولاد الإخوة وأولاد الأخوات، ثم الأعمام والأخوال، ثم هكذا من بعد هؤلاء.
ومن زعم الاختصاص بالبعض دون البعض؛ فليأتنا بحجة، وإن لم يكن بيده إلا مجرد أقوال من تقدمه؛ فلسنا ممن يعول على ذلك؛ وبالله التوفيق.
قال في " الحجة ":
" وفي اشتراط الولي في النكاح تنويه أمرهم.
واستبداد النساء بالنكاح وقاحة منهن؛ منشؤها قلة الحياء، واقتضاب على
__________
(1) • صح. (ن)

(2/159)


الأولياء، وعدم اكتراث بهم.
وأيضا؛ يجب أن يميز النكاح من السفاح بالتشهير؛ وأحق التشهير أن يحضر أولياؤها، ولا يجوز أن يحكم في النكاح النساء خاصة؛ لنقصان عقلهن، وسوء فكرهن؛ فكثيرا ما لا يهتدين للمصلحة.
ولعدم حماية الحسب منهن غالبا؛ فربما رغبن في غير الكفء، وفي ذلك عار على قومها، فوجب أن يجعل للأولياء شيء من هذا الباب؛ لتسد المفسدة.
وأيضا فإن (1) السنة الفاشية في الناس من قبل - ضرورة -؛ أنهن عوان (2) بأيديهم، وهو قوله - تعالى -: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} ". انتهى.
قال الشافعي:
" لا ينعقد نكاح امرأة إلا بعبارة الولي القريب، فإن لم يكن؛ فبعبارة الولي البعيد، فإن لم يكن؛ فبعبارة السلطان، فإن زوجت نفسها أو غيرها بإذن الولي أو بغير إذنه؛ بطل ولم يتوقف ".
__________
(1) • في العبارة شيء! ثم رجعت إلى الأصل المنقول عنه، وهو كتاب " حجة الله البالغة " (2 / 127) ، فتبين أن فيها سقطا نحو سطر، والصواب هكذا: " فإن السنة الفاشية في الناس من قبل - ضرورة جبلية -؛ أن يكون الرجال قوامين على النساء، ويكون بيدهم الحل والعقد، وعليهم النفقات، وإنما النساء عوان بأيديهم ... ". (ن)
(2) العوان من النساء هي التي قد كان لها زوج؛ وقيل: الثيب. (ش)
• قلت: هذا التفسير هنا خطأ بيّن؛ فإنه مبني على أن " عوان "؛ مفرد " عون "؛ وليس كذلك؛ بل هو جمع " عانية " - وهي الأسيرة -؛ والجمع: عوان وعانيات، وهو المراد هنا. (ن)

(2/160)


وتأويل قوله: " لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها ": لا يزوجها إلا وكيل الولي، ويفهم تزويجها بنفسه بالأولى.
وقال أبو حنيفة: ينعقد نكاح المرأة الحرة العاقلة البالغة برضاها - وإن لم يعقد عليها ولي - بكرا كانت أو ثيبا.
وتأويل الحديث: أنه يكره لها ذلك؛ خشية أن تقصر في رعاية الكفاءة وغيرها، أو تنسب إلى الوقاحة.
أو تأويله: إن للولي حق الاعتراض في غير الكفء.
فمعنى قوله: " لا تنكح "؛ أي: لا تستقل بنكاحها إلا بإذنه؛ لأن له حق الاعتراض في غير الكفء.
وقال محمد: ينعقد موقوفا على إذنه؛ كذا في " المسوى ".
( [الشاهدان شرط لصحة النكاح] :)
(وشاهدين) ؛ لحديث عمران بن حصين عند البيهقي، والدارقطني في " العلل "، وأحمد في رواية ابنه عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ".
وفي إسناده عبد الله بن محرر، وهو متروك.
وأخرج الدارقطني، والبيهقي، من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فإن

(2/161)


تشاجروا؛ فالسلطان ولي من لا ولي له " (1) .
وإسناده ضعيف.
وأخرج الترمذي، من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة " (2) .
وصحح الترمذي وقفه.
وهذه الأحاديث - وما ورد في معناها - يقوي بعضها بعضا؛ وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
قال في " شرح السنة ": " أكثر أهل العلم على أن النكاح لا ينعقد إلا ببينة، ولا ينعقد حتى يكون الشهود حضورا حالة العقد، واختلفوا في صفة الشهود؛ قال الشافعي: لا ينعقد إلا بمشهد رجلين عدلين، وقال أبو حنيفة: ينعقد برجل وامرأتين، وبفاسقين ". كذا في " المسوى ".
وفي " الموطإ " في باب: " لا يحل نكاح السر ": " مالك: عن أبي الزبير المكي، أن عمر بن الخطاب أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة؛ فقال: هذا نكاح السر ولا أجيزه، ولو كنت تقدمت فيه لرجمت ".
( [متى تبطل ولاية الولي؟] :)
(إلا أن يكون) الولي (عاضلا أو غير مسلم) ؛ لقوله - تعالى -: {فلا
__________
(1) انظره - مصححا - بطرقه في " إرواء الغليل " (6 / 243 / رقم 1840) لشيخنا.
(2) هو حديث ضعيف؛ وانظر " إرواء الغليل " (1862) .

(2/162)


تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} ، ولتزوجه - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بنت أبي سفيان من غير وليها؛ لما كان كافرا حال العقد.
( [جواز التوكيل لعقد النكاح] :)
(ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يوكل لعقد النكاح؛ ولو واحدا) ؛ لحديث عقبة بن عامر عند أبي داود (1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: " أترضى أن أزوجك فلانة؟ "، قال: نعم، وقال للمرأة: " أترضين أن أزوجك فلانا؟ "، قالت: نعم؛ فزوج أحدهما صاحبه ... الحديث.
وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم: الأوزاعي، وربيعة، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أصحابه، والليث، وأبو ثور.
وحكى في " البحر " عن الشافعي، وزفر: أنه لا يجوز.
وقال في " الفتح ": وعن مالك: لو قالت المرأة لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه أو ممن اختار؛ لزمها ذلك،؛ ولو لم تعلم عين الزوج.
وقال الشافعي: يزوجه السلطان، أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه، ووافقه زفر.
وأما استحباب النثار؛ فأقول: لم يصح في ذلك شيء؛ كما أوضحه في " النيل "، و " السيل "، ولا بأس بنثر شيء من المأكولات، فهو من جملة
__________
(1) • (1 / 330) ، وكذا البيهقي (7 / 232) ؛ وسندهما صحيح. (ن)

(2/163)


الإطعام المندوب؛ إنما الشأن في الحكم بمشروعية انتهابه مع ورود الأحاديث الصحيحة بالنهي عن النهبى؛ والظاهر أن هذا نوع منها، ولم يرد ما يدل على التخصيص؛ لا من وجه صحيح، ولا حسن، بل ولا ضعيف ينجبر.
وأما إجابة الوليمة؛ فأحاديث الأمر بالإجابة صحيحة؛ ولم يأت ما يقتضي صرفها عن الوجوب.
نعم؛ الولائم المشوبة بالمنكرات - مع عدم القدرة على التغيير - لا يجوز حضورها؛ كما يدل عليه حديث النهي عن الجلوس على المائدة التي تدار عليها الخمر، وسائر المعاصي تقاس على ذلك.
( [الفصل الثاني: الأنكحة المحرمة] )
(1 -[حكم نكاح المتعة] )
(ونكاح المتعة) (1) ؛ قال في " الحجة ":
" رخص فيها - صلى الله عليه وسلم - أياما، ثم نهى عنها ".
أما الترخيص أولا؛ فلمكان حاجة تدعو إليه؛ كما ذكره ابن عباس فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله، أشار ابن عباس أنها لم تكن يومئذ استئجارا على مجرد البضع؛ بل كان ذلك مغمورا في ضمن حاجات؛ من باب تدبير المنزل (2) ، كيف
__________
(1) هو نكاح إلى أجل مؤقت؛ كيومين، أو ثلاثة، أو شهر أو غير ذلك. (ش)
(2) • يشير إلى ما أخرجه الترمذي (2 / 187) ؛ من طريق موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس، قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام؛ كان الرجل يقدم بلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أن يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شيأه، حتى إذا نزلت الآية: {إلا على =

(2/164)


والاستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية، ووقاحة يمجها الباطن السليم؟ {
وأما النهي عنها؛ فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات، وأيضا ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب؛ لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه، ويكون الأمر بيدها، فلا يدري ماذا تصنع؟}
وضبط العمدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأبيد في غاية العسر؛ فما ظنك بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع؟ ! فإن أكثر الراغبين في النكاح؛ إنما غالب داعيتهم قضاء شهوة الفرج.
وأيضا؛ فإن من الأمر الذي يتميز به النكاح من السفاح: التوطين على المعاونة الدائمة، وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس ". انتهى.
في " شرح السنة ": اتفق العلماء على تحريم المتعة؛ وهو كالإجماع بين المسلمين.
( [الأدلة على نسخ نكاح المتعة] :)
(منسوخ) ؛ فإنه لا خلاف أنه قد كان ثابتا في الشريعة؛ كما صرح بذلك القرآن: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن (1) } ؛ ولما في " الصحيحين "
__________
= أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} ؛ قال ابن عباس: فكل فرج سواهما؛ فهو حرام.
قلت: لكن موسى بن عبيدة ضعيف؛ كما في " التقريب "، وغيره، وانظر " الاعتبار " للحازمي. (ن)
(1) • هذا على قول الجمهور أن المراد بالآية المتعة، وحملها آخرون على النكاح المشروع، قالوا: الاستمتاع: التلذذ، والأجور: المهور، وسمي المهر أجرا؛ لأنه أجر الاستمتاع؛ انظر القرطبي (4 / 129) . (ن)

(2/165)


من حديث ابن مسعود، قال: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا - بعد - أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ".
وفي الباب أحاديث.
وثبت النسخ من حديث جماعة:
فأخرج مسلم، وغيره من حديث سبرة الجهني: أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء؛ قال: فلم يخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ من حديثه: وأن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة.
وأخرج الترمذي (1) ، عن ابن عباس: إنما كانت المتعة في أول الإسلام؛ حتى نزلت هذه الآية: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} .
وفي " الصحيحين "، من حديث علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، والخلاف طويل، وقد استوفاه الماتن في " نيل الأوطار ".
__________
(1) • في (النكاح) (2 / 187) ، وسكت عليه، وهو ظاهر الضعف؛ لأن مداره على موسى ابن عبيدة، وهو ضعيف، ومن طريقه أخرجه البيهقي (7 / 205 - 206) ، والحازمي في " الاعتبار " (ص 140) بنحوه، ثم قال: " هذا إسناد صحيح؛ لولا موسى بن عبيدة ".
وسيعيد المصنف الحديث بزيادة في آخره عن ابن عباس، وهو هو؛ فتنبه! (ن)

(2/166)


ورواية من روى تحريمها إلى يوم القيامة هي الحجة في هذا الباب.
وهذا نهي مؤبد وقع في آخر موطن من المواطن التي سافر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعقبه موته بعد أربعة أشهر، فوجب المصير إليه.
ولا يعارضه ما روي عن بعض الصحابة؛ أنهم ثبتوا على المتعة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته إلى آخر أيام عمر؛ كما زعمه صاحب " ضوء النهار "؛ فإن من علم النسخ المؤبد حجة على من لم يعلم، واستمرار من استمر عليها؛ إنما كان لعدم علمه بالناسخ.
وأما ما صار يهول به جماعة من المتأخرين؛ من أن تحليل المتعة قطعي، وحديث تحريمها على التأبيد ظني، والظني لا ينسخ القطعي، حتى قال المقبلي: إن الجمهور لم يجدوا جوابا على هذا؛ فيقال: إن كان كون التحليل قطعيا لكونه منصوصا عليه في الكتاب العزيز -؛ فذلك وإن كان قطعي المتن؛ فليس بقطعي الدلالة؛ لأمرين:
أحدهما: أنه يمكن حمله على الاستمتاع بالنكاح الصحيح.
الثاني: أنه عموم؛ وهو ظني الدلالة (1) .
على أنه قد روى الترمذي، عن ابن عباس، أنه قال: إنما كانت المتعة حتى نزلت هذه الآية: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} ؛ قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام.
__________
(1) • ونحوه قول الشوكاني (6 / 118) : " إن النسخ بذلك الظني؛ إنما هو لاستمرار الحل، لا لنفس الحل، والاستمرار ظني لا قطعي ". (ن)

(2/167)


وهذا يدل على التحريم بالقرآن فيكون ما هو قطعي المتن ناسخا لما هو قطعي المتن، وإن كان التحليل قطعيا - لكونه قد وقع الإجماع من الجميع عليه في أول الأمر -؛ فيقال: وقد وقع الإجماع أيضا على التحريم في الجملة عند الجميع، وإنما الخلاف في التأبيد هل وقع أم لا؟ وكون هذا التأبيد ظنيا؛ لا يستلزم ظنية التحريم الذي وقع النسخ به.
فالحاصل؛ أن الناسخ للتحليل المجمع عليه هو التحريم المجمع عليه المقيد بقيد ظني، وهو التأبيد، فالناسخ والمنسوخ قطعيان.
هذا على التسليم أن ناسخ القطعي لا يكون إلا قطعيا؛ كما قرره جمهور أهل الأصول، وإن كنت لا أوافقهم على ذلك.
(2 -[نكاح التحليل حرام] :)
(والتحليل حرام) ؛ لحديث ابن مسعود عند أحمد، والنسائي، والترمذي، - وصححه -، قال:
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له.
وصححه أيضا ابن القطان، وابن دقيق العيد.
وله طريق أخرى؛ أخرجها عبد الرزاق، وطريق ثالثة؛ أخرجها إسحاق في " مسنده ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه ابن السكن، من حديث علي مثله.

(2/168)


وأخرج ابن ماجه، والحاكم، من حديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ "، قالوا بلى يا رسول الله! قال: هو " المحلل؛ لعن الله المحلل والمحلل له ".
وفي إسناده يحيى بن عثمان، وهو ضعيف، وقد أعل بالإرسال (1) .
وأخرج أحمد، والبيهقي، والبزار، وابن أبي حاتم، والترمذي في " العلل "، من حديث أبي هريرة نحوه، وحسنه البخاري (2) .
__________
(1) • يعني الانقطاع بين الليث بن سعد ومشرح بن هاعان؛ والحق أن الحديث حسن الإسناد؛ كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في " إبطال التحليل " (3 / 155 - 156 - من " الفتاوى ") ، وأجاب عما أعل به الحديث جوابا شافيا، ونقله عنه تلميذه في " إعلام الموقعين " (3 / 56 - 58) .
والحديث عند ابن ماجه (1 / 597) ، و " المستدرك " (2 / 198 - 199) ، عن يحيى بن عثمان ابن صالح: ثنا أبي، قال: سمعت الليث بن سعد يقول: قال [لي] أبو مصعب مشرح بن هاعان، عن عقبة ... به.
وزيادة (لي) عند ابن ماجه؛ فهي ترد الانقطاع المزعوم فيه، ويؤيد ذلك أن الحاكم رواه من طريق أبي صالح - وهو كاتب الليث - ثنا الليث بن سعد، قال: سمعت مشرح بن هاعان ... به.
ففيه التصريح بسماع الليث من مشرح.
وفيه أن يحيى بن عثمان لم يتفرد به؛ ولذلك فقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وهذا يدلنا على أن المصنف عندما يتكلم على الأحاديث لا يراجع أصولها ومصادرها الأساسية؛ وإنما ينقل ذلك عن بعض المتأخرين؛ وإلا فلو راجع تلك الأصول؛ لما أعله بضعف يحيى؛ مع أنه ورد من غير طريقه، ولا بالانقطاع؛ مع التصريح بالسماع في بعض طرقه.
ثم الحديث عند الدارقطني (ص 395) ؛ من طريق أبي صالح، وعند البيهقي (7 / 280) ؛ طريق الحاكم؛ ورواه من طريق محمد بن إسحاق: أبنا عثمان بن صالح ... به.
فهذه متابعة تامة ليحيى بن عثمان.
(2) • وقال شيخ الإسلام: " إسناده جيد "؛ وتبعه ابن القيم، وهو كما قالا. (ن)

(2/169)


وأخرج الحاكم، والطبراني في " الأوسط "، من حديث عمر (1) : أنهم كانوا يعدون التحليل سفاحا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال في " تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ": " رواه ابن ماجه بإسناد رجاله موثقون ".
وصح عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما.
رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، في " مصنفيهما "، وابن المنذر في " الأوسط ".
وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عمر، أنه سئل عن ذلك؟ فقال: كلاهما زان.
والكلام في ذلك عن الصحابة والتابعين طويل، قد أطال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الكلام عليه، وأفرده مصنفا سماه: " بيان الدليل على إبطال التحليل ". انتهى.
أقول: حديث لعن المحلل مروي من طريق جماعة من الصحابة بأسانيد بعضها صحيح، وبعضها حسن.
واللعن لا يكون إلا على أمر غير جائز في الشريعة المطهرة،؛ بل على
__________
(1) • كذا! وتبع فيه الشوكاني في " النيل " (6 / 119) ؛ وهو وهم منهما؛ وإنما الأثر عن ابن عمر، لا عن أبيه، كذلك هو في " المستدرك " (2 / 198) ، والطبراني كما في " المجمع " (4 / 267) ، وقال: " ورجاله رجال الصحيح "، وقال الحاكم: " صحيح عن شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
وعزوه لابن ماجه أظنه خطأ؛ فليراجع. (ن)

(2/170)


ذنب هو من أشد الذنوب.
فالتحليل غير جائز في الشرع، ولو كان جائزا لم يلعن فاعله والراضي به، وإذا كان لعن الفاعل لا يدل على تحريم فعله؛ لم تبق صيغة تدل على التحريم قط، وإذا كان هذا الفعل حراما غير جائز في الشريعة؛ فليس هو النكاح الذي ذكره الله في قوله: {حتى تنكح زوجا غيره} ، كما أنه لو قال: لعن الله بائع الخمر؛ لم يلزم من لفظ (بائع) أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله: {وأحل الله البيع} ؛ والأمر ظاهر.
قال ابن القيم:
" ونكاح المحلل لم يبح في ملة من الملل قط، ولم يفعله أحد من الصحابة، ولا أفتى به واحد منهم ... ، ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس: كم من حرة مصونة، أنشب فيها المحلل مخالب إرادته؟ ! فصارت له بعد الطلاق من الأخدان، وكان بعلها منفردا بوطئها؛ فإذا هو والمحلل ببركة التحليل شريكان، فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء، [وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء] (1) ، ولولا التحليل؛ لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القنا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها ".
وأما هذه الأزمان التي شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل،
__________
(1) • التصحيح من " الإعلام " (3 / 55) .
وقوله: " وأما في هذه الأزمان " إلى قوله: " الفعل الدون "؛ هو في الصفحة (53) منه، وله عنده تتمة، أشار إليها المصنف بقوله: إلى غير ذلك، لكن قوله بعده: انتهى؛ أوهم أن ذلك القول من تمام كلام ابن القيم؛ وليس منه، والله أعلم. (ن)

(2/171)


وقبح ما يرتكبه المحللون؛ مما هو رمد؛ بل عمى في عين الدين، وشجى في حلوق المؤمنين؛ من قبائح تشمت أعداء الدين به، وتمنع كثيرا ممن يريد الدخول فيه بسببه؛ بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، وغيرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وزعم أنه قد طيبها للتحليل، فيالله العجب {أي طيب أعارها هذا التيس الملعون؟ وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون؟} "؛ إلى غير ذلك. انتهى.
وقد أطال - رحمه الله تعالى - في تخريج أحاديث التحليل في " إعلام الموقعين " إطالة حسنة؛ فليراجع.
( [3 - نكاح الشغار حرام] :)
(وكذلك الشغار) ؛ لثبوت النهي عنه؛ كما في حديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار.
وأخرج مسلم، من حديث أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار، والشغار أن يقول الرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي.
وأخرج مسلم أيضا، من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا شغار في الإسلام ".

(2/172)


وفي الباب أحاديث.
قال ابن عبد البر:
" أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته؛ والجمهور على البطلان " (1) .
قال الشافعي: هذا النكاح باطل كنكاح المتعة.
وقال أبو حنيفة: جائز؛ ولكل واحدة منهما مهر مثلها ". انتهى.
أقول: النهي عن الشغار ثابت بالأحاديث الصحيحة من طرق جماعة من الصحابة.
وعلى كل حال؛ فكون الشغار من مفسدات العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول؛ لأن النهي عن الشغار يقتضي قبحه، أو تحريمه، أو فساده؛ على اختلاف الأقوال، وإذا اقتضى ذلك وجب على كل واحد من الزوجين توفير المهر لزوجته بما استحل من فرجها، فهو بمنزلة فساد التسمية، وفسادها لا يستلزم فساد عقد النكاح، والمهر ليس بشرط للعقد، فالحكم بأن الشغار يفسد العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول، ولا موافق لقواعد الفروع.
ولو فرض أن النهي عن النكاح الذي فيه شغار؛ لم يكن ذلك مقتضيا
__________
(1) • قلت: ويؤيده ما روى ابن إسحاق: ثني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: أن العباس بن عبد الله بن العباس، أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه أبو داود (1 / 324) ، وأحمد (4 / 94) ؛ وإسناده حسن. (ن)

(2/173)


لفساد العقد؛ لأن النهي ليس لذات العقد ولا لوصفه؛ بل لأمر خارج عنه، وقد تقرر في الأصول أن ذلك لا يوجب الفساد.
( [الوفاء بشرط المرأة واجب ما لم يحل حراما أو يحرم حلالا] :)
(ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة) ؛ لحديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.
قلت: هو قول أكثر أهل العلم، وقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحق الشروط ... " الخ خاص في شرط المهر، إذا سمى لها مالا في الذمة - أو عينا -؛ عليه أن يوفيها ما ضمن لها، وفي الحقوق الواجبة التي هي مقتضى العقد.
وأما ما سوى ذلك؛ مثل أن يشترط في العقد للمرأة أن لا يخرجها من دارها، ولا ينقلها من بلدها، أو لا ينكح عليها؛ أو نحو ذلك، فلا يلزمه الوفاء به، وله إخراجها، ونقلها، وأن ينكح عليها؛ إلا أن يكون في ذلك يمين، فيلزمه اليمين؛ كذا في " المسوى ".
أقول: الوفاء بمطلق الشروط مشروع، قال - تعالى -: {أوفوا بالعقود} .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون عند شروطهم؛

(2/174)


إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا "؛ وهو حديث حسن (1) .
ولكن هذا المخصص المتصل - أعني قوله: " إلا شرطا ... " الخ - يدل على أن ما كان من الشروط بهذه الصفة؛ لا يجب الوفاء به.
وكما يخصص عموم أول الحديث كذلك يخصص عموم الآية، ويؤيد هذا المخصص الحديث المتفق عليه بلفظ:
" كل شرط ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله؛ فهو باطل " (2) .
ولا يعارض هذا حديث: " أحق الشروط ... " الخ وهو متفق عليه.
ووجه عدم المعارضة: أن عموم هذا الحديث مخصص بما قبله من الحديثين الدالين على أن الشروط التي تحلل الحرام أو تحرم الحلال - مما ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله -؛ لا يجب الوفاء بها؛ سواء كانت في نكاح أو غيره؛ لا كما قاله الجلال في " ضوء النهار " (3) .
__________
(1) • قلت: نظرا لطرقه وشواهده؛ وقد ذكرها شيخ الإسلام في " الفتاوى " (3 / 333) ، وقال: إنه يشد بعضها بعضا.
وانظر " المناوي على الجامع "، و " سنن البيهقي " (7 / 249) . (ن)
(2) لفظ: " ... ولا سنة رسوله ... "؛ ليس بمحفوظ في الحديث.
(3) • وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب، حتى يكون المشترط مناقضا للشرع، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا، ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما، وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها؛ فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط؛ ما لم يكن كذلك؛ كذا في " الفتاوى " (3 / 333) . (ن)

(2/175)


(إلا أن يحل حراما أو يحرم حلالا) ؛ فلا يحل الوفاء به؛ كما ورد بذلك الدليل؛ وقد ثبت النهي عن اشتراط أمور؛ كحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو يبيع على بيعة أخيه، " ولا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكتفىء ما في صحفتها أو إنائها؛ فإنما رزقها على الله ".
وأخرج أحمد؛ من حديث عبد الله بن عمر (1) ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا يحل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى ".
(4 -[نكاح الزانية أو المشركة حرام والعكس] :)
(ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة) ؛ لقوله - تعالى -: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (2) .
__________
(1) • كذا بدون الواو، وفي " المنتقى " (6 / 122 - بشرح " النيل ") ؛ بإثبات الواو وفتح العين، وهو الصواب؛ فإن أحمد أخرج الحديث في " مسند ابن عمرو " (رقم 6647) ، وقال المعلق عليه - أحمد شاكر -: " إسناده صحيح "! مع أن فيه عبد الله بن لهيعة، وهو سيىء الحفظ. (ن)
قلت: ولعل ما قبله يشهد له بالجملة.
(2) • ومعنى الآية؛ أن الزاني المعروف بالزنى لا ترتضيه زوجا لها إلا زانية أو مشركة في نظر الشرع، وكذلك القول في الزانية، وبيان ذلك ما في " إغاثة اللهفان " (1 / 66) :
" أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه؛ والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان؛ انتفت الإباحة المشروطة، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه، أو لا يلزم، فإن لم يلزمه؛ فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه؛ لم يصح النكاح؛ فيكون زانيا ". (ن)

(2/176)


ولما أخرجه أحمد بإسناد - رجاله ثقات (1) -، والطبراني في " الكبير "، و " الأوسط " من حديث عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة - يقال لها: أم مهزول - كانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه، فقرأ عليه - صلى الله عليه وسلم -: " {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} .
وأخرج أبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه (2) - من حديث ابن عمر: أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي - يقال لها: عناق -، وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال: فسكت عني، فنزلت الآية: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} ، فدعاني فقرأها علي، وقال: " لا تنكحها ".
وأخرج أحمد، وأبو داود (3) بإسناد (4) رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله ".
قال ابن القيم:
__________
(1) • كذا قال الهيثمي (7 / 73 - 74) ؛ وفيه نظر؛ فإنه في " المسند " (رقم 6480، 7099) : عن سليمان التيمي: ثنا الحضرمي، عن القاسم بن محمد، عنه.
والحضرمي هذا مجهول، وليس هو الحضرمي بن لاحق؛ وهذا ثقة؛ والظاهر أنه لم يفرق بينهما، وقد فرق البخاري وغيره؛ فراجع التعليق على " المسند ". (ن)
(2) • وهو كما قال. (ن)
(3) • والحاكم. (ن)
(4) • صحيح. (ن)

(2/177)


" أخذ بهذه الفتاوى التي لا معارض لها: الإمام أحمد ومن وافقه، وهي من محاسن مذهبه؛ فإنه لم يجوز أن ينكح الرجل زوجا تحبه، ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا، قد ذكرناها في موضع آخر ". انتهى.
وأخرج ابن ماجه، والترمذي - وصححه - من حديث عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله وأثنى عليه وذكر، ووعظ، ثم قال:
" استوصوا في النساء خيرا؛ فإنما هن عندكم عوان، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك؛ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ".
وأخرج أبو داود، والنسائي، من حديث ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس؟ قال: " غربها "، قال: أخاف أن تتبعها نفسي؟ قال: " فاستمتع بها ".
قال المنذري: ورجال إسناده محتج بهم في " الصحيحين ".
قال ابن القيم:
" عورض - بهذا الحديث المتشابه - الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزوج (1) البغايا، واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه:
فقالت طائفة: المراد باللامس: ملتمس الصدقة، لا ملتمس الفاحشة.
__________
(1) في الأصل: " تجويز "، وهو خطأ. (ش)

(2/178)


وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر، وإنما المانع ورود العقد على الزانية؛ فهذا هو الحرام.
وقالت طائفة: بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فإنه لما أمر بمفارقتها خاف أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها؛ إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح.
وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت (1) .
وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية، وإنما فيه أنها لا تمنع من يمسها، أو يضع يده عليها، أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك، ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى، ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة، فأمره بفراقها تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه؛ فلما أخبره بأن نفسه تتبعها وأنه لا صبر له عنها؛ رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك.
__________
(1) • والحق أنه حديث صحيح ثابت؛ فإن له طريقين:
أحدهما صحيح عن ابن عباس؛ أخرجه النسائي (2 / 72) ؛ من طريق حماد بن سلمة، وغيره، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير. وعبد الكريم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس - عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه - ... فذكر الحديث، ثم قال النسائي: " ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه؛ وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم ".
قلت: هذا تعليل ماش على القواعد، لكن لا يلزم من ضعف هذا الطريق أن يكون الحديث في نفسه ضعيفا؛ لاحتمال أن يكون له طريق أخرى، والواقع كذلك.
فقد أخرجه أبو داود (1 / 320) ؛ من طريق عكرمة، عن ابن عباس؛ وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح.
وله شاهد من حديث جابر؛ أخرجه الطبراني في " الأوسط " بإسناد؛ قال الهيثمي (4 / 335) : " رجاله رجال الصحيح ". (ن)

(2/179)


والله - تعالى - أعلم ". انتهى.
وفي " المسوى ":
" أقول: الظاهر عندي أن مبنى اختلافهم هذا اختلافهم في مرجع {ذلك} في قوله: {حرم ذلك} ؛ فقال أحمد: مرجعه نكاح الزانية والمشركة، وقال غيره: مرجعه الزنا والشرك، والمراد على هذا: أن العادة قاضية بأن الزانية لا يرغب فيها إلا زان أو مشرك، والزنا والشرك حرام على المؤمنين، فنكاحها لا يليق بحال المؤمنين. ولا يقولون: إن الحديث ناسخ؛ بل يقولون: إنه مبين لتأويل الآية، ومع ذلك فلا يخلو عن بعد ".
في " الكافي في مذهب أحمد ": " الزانية يحرم نكاحها كالمعتدة ".
وأما غير أحمد فقولهم؛ جواز نكاح الفاجرة؛ وإن كان الاختيار غير ذلك؛ لحديث: " لا ترد يد لامس ".
قال الواحدي؛ عن أبي عبيد: مذهب مجاهد: أن التحريم لم يكن إلا على جماعة خاصة من فقراء المهاجرين؛ أرادوا نكاح البغايا لينفقن عليهم، ومذهب سعيد: أن التحريم كان عاما ثم نسخته الرخصة؛ وأورد أبو عبيد على هذا الحديث أنه خلاف الكتاب والسنة المشهورة؛ لأن الله - تعالى - إنما أذن في نكاح المحصنات خاصة، ثم أنزل في القاذف آية اللعان، وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التفريق بينهما، فلا يجتمعان أبدا، فكيف يأمر بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها؟ !
والحديث مرسل، فإن ثبت؛ فتأويله أن الرجل وصف امرأته بالخرق

(2/180)


وضعف الرأي، وتضييع ماله؛ فهي لا تمنعه من طالب، ولا تحفظه من سارق، وهذا أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأحرى بحديثه.
أقول: في الاستدلال بحديث: " لا ترد يد لامس " نظر من وجهين:
أحدهما: أن هذا ليس رميا لها بالزنا البتة؛ بل رمي بقلة الاحتياط في أمر الملامسة، فيحتمل حينئذ أن لا تتورع من اللمس الحرام، وتتورع من حقيقة الزنا المفضي إلى الحد، والمقتضي للحبل الموجب للفضيحة الشديدة، وكم من امرأة لا تتورع من النظر واللمس المحرمين، وتتورع من موجب الحد وسبب الحبل خوفا من الفضيحة، فلما لم يصرح بالزنا؛ لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه الفراق (1) .
وثانيهما: أن حالة الابتداء تفارق حالة البقاء في أكثر المسائل، كالمحرم لا يبتدىء بالنكاح في حالة إحرامه، ولا يضره البقاء، فإذا جوز النبي صلى الله عليه وسلم إمساكها في حالة بقاء النكاح؛ من أين لكم أنه يجوز ابتداء النكاح؟ ! ". انتهى.
(والعكس) ؛ وإنما قال ب (العكس) ؛ لأن هذا الحكم لا يختص بالرجل دون المرأة؛ كما تفيد ذلك الآية الكريمة: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} .
أقول: هذا هو الظاهر من الآية الكريمة، ودعوى أن سبب نزول الآية فيمن سأله صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن ينكح عناقا - وكانت مشركة -: مدفوعة بأن
__________
(1) هذا هو الوجه الصحيح في فهم الحديث؛ وما عداه غير قوي. (ش)

(2/181)


الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لا سيما والآية الكريمة قد تضمنت نكاح الزانية على حدة، ونكاح المشركة على حدة.
وأما حديث: " إن امرأتي لا ترد يد لامس "؛ فالظاهر أنه كناية عن كونها زانية؛ لا كما قال المقبلي: إن المراد أنها ليست نفورا من الريبة؛ لا أنها زانية، ثم استبعد أن يقول له صلى الله عليه وسلم: " استمتع بها "؛ وقد عرف أنها زانية، وأن ذلك مناف لأخلاقه الشريفة (1) .
وأقول: هذا التأويل خلاف الظاهر، والاستبعاد لا يجوز إثبات الأحكام الشرعية أو نفيها بمجرده، فالأولى التعويل على شيء آخر؛ هو أن الحديث قد اختلف في وصله وإرساله؛ بل قال النسائي: إنه ليس بثابت (2) .
وهكذا لا وجه لحمل الحديث على مجرد التهمة؛ فإن الرجل لم يقل: إنه يتهم أنها لا ترد يد لامس، أو يشك، أو يظن؛ بل قال ذلك جزما.
( [المحرمات من النساء] :)
(ومن صرح القرآن بتحريمه) ؛ وهو ظاهر؛ لقوله - تعالى -: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم
__________
(1) بل إن ما قاله المقبلي هو الصحيح؛ ولو كان رميا لها بالزنا؛ لأوجب عليه الحد أو اللعان. (ش)
(2) • قلت: قد عرفت أن الاختلاف وعدم الثبوت؛ إنما هو وارد على طريق ابن عمير، وأما الطريق الأخرى؛ فلا اختلاف فيها؛ بل هو صحيح، فالتعويل على ما نقله الشارح عن المقبلي، وإن رده هو؛ فرده مردود عليه. (ن)

(2/182)


وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) {ثم قال} (وأحل لكم ما وراء ذلكم} .
(1 -[المحرمات من النسب] :)
قال في " المسوى ": " اتفقت الأمة على أنه يحرم على الرجل أصوله، وفصوله، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده؛ فالأصول هي: الأمهات، والجدات وإن علون، والفصول هي: البنات، وبنات الأولاد، وإن سفلن؛ وفصول أول الأصول هي: الأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، وإن سفلن، وأول فصل من كل أصل بعده هي: العمات، والخالات، وإن علت درجتهن ". انتهى.
(2 -[المحرمات من الرضاع] :)
(والرضاع كالنسب) ؛ لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم ".
وفي لفظ: " من النسب ".
وفيهما أيضا، من حديث عائشة مرفوعا:
" يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ".
وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - من حديث علي، قال: قال

(2/183)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب ".
قال أهل العلم: والمحرمات من الرضاع سبع: الأم، والأخت - بنص القرآن -، والبنت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت؛ لأن هؤلاء يحرمن من النسب، فيحرمن من الرضاع، وقد وقع الخلاف: هل يحرم من الرضاع ما يحرم من الصهار؟
وقد حقق الكلام في ذلك ابن القيم في " الهدي ".
قال في " المسوى ":
" اتفقت الأمة على أن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم المنكوحة على آباء الناكح وإن علوا، وعلى أبنائه، وأبناء أولاده من النسب والرضاع جميعا وإن سفلوا؛ تحريما مؤبدا بمجرد العقد.
ويحرم على الناكح أمهات المنكوحة، وجداتها من الرضاع والنسب جميعا؛ تحريما مؤبدا بمجرد العقد.
فإن دخل بالمنكوحة حرمت عليه بناتها، وبنات أولادها من النسب والرضاع جميعا.
وإن فارقها قبل أن يدخل بها؛ جاز له نكاح بناتها.
واتفقوا على أن حرمة الرضاع كحرمة النسب في المناكح، فإذا أرضعت المرأة رضيعا؛ يحرم على الرضيع وعلى أولاده من أقارب المرضعة: كل من يحرم على ولدها من النسب، ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع، ولا على

(2/184)


أخيه، ولا تحرم عليك أم أختك إذا لم تكن أمك ولا زوجة أبيك.
ويتصور هذا في الرضاع، ولا يتصور في النسب؛ ليس لك أم أخت إلا وهي أم لك أو زوجة لأبيك.
وكذلك لا تحرم عليك أم نافلتك (1) إذا لم تكن ابنتك أو زوجة ابنك.
ولا جدة ولدك إذا لم تكن أمك أو أم زوجتك، ولا أخت ولدك إذا لم تكن ابنتك أو ربيبتك.
وحرمة الرضاع تكون بالرجال كما تكون بالنساء، وهو قول أكثر أهل العلم ". انتهى.
( [من المحرمات مؤقتا] :)
(1 -[الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها] :)
(والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما؛ قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها.
وفي لفظ لهما: نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
وفي الباب أحاديث.
وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن عامة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك.
__________
(1) • ولد الولد. (ن)

(2/185)


وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم.
وقد حكى الإجماع أيضا الشافعي، والقرطبي، وابن عبد البر.
قلت: اتفقت الأمة على أنه يحرم عليه أن يجمع بين الأختين، وبين العمة وبنت أخيها، وبين الخالة وبنت أختها؛ من النسب والرضاع جميعا.
وجملته: أن كل امرأتين من أهل النسب - لو قدرت إحداهما ذكرا حرمت الأخرى عليه -؛ فالجمع بينهما حرام.
ولا بأس بالجمع بين المرأة وزوجة أبيها أو زوجة ابنها؛ لأنه لا نسب بينهما؛ كذا في " المسوى ".
(2 -[الزيادة على الأربع للحر] :)
(و) يحرم (ما زاد على العدد المباح للحر والعبد) ؛ لحديث قيس بن الحارث، قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة؛ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: " اختر منهن أربعا "؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة.
وقال ابن عبد البر: ليس له إلا حديث واحد (1) ، ولم يأت من وجه صحيح (2) ، ويؤيده ما سيأتي فيمن أسلم وعنده أكثر من أربع.
__________
(1) ظاهر صنيع الشارح يوهم أن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ ليس له إلا حديث واحد، وهو خطأ شنيع؛ فإن محمدا هذا من أكثر الرواة حديثا، واختلفوا فيه، والغالب على حديثه الضعف.
وأما كلمة ابن عبد البر؛ فإنها في الصحابي؛ وهو الحارث بن قيس - أو قيس بن الحارث -.
وقال البغوي: لا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا. (ش)
(2) انظر - لزاما - " الإرواء " (1883 - 1885) ؛ فهو فيه مصحح بعض رواياته لا كلها.

(2/186)


وأما الاستدلال بقوله - تعالى -: {مثنى وثلاث ورباع} ؛ ففيه ما أوضحه الماتن في " شرح المنتقى "، وفي " حاشية الشفاء "، وقد قيل: إنه لا خلاف في تحريم الزيادة على الأربع، وفيه نظر كما أوضحه هنالك.
أقول: قال الماتن - رحمه الله تعالى - في كتابه " السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ":
" أما الاستدلال على تحريم الخامسة، وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله - عز وجل -: {مثنى وثلاث ورباع} ؛ فغير صحيح؛ كما أوضحته في شرحي ل " المنتقى "، ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث، وحديث غيلان الثقفي، وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه؛ وإن كان في كل أحد منها مقال؛ لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه.
وقد حكى الإجماع صاحب " فتح الباري "، والمهدي في " البحر "، والنقل عن الظاهرية لم يصح؛ فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم.
وأيضا قد ذكرت في تفسيري الذي سميته " فتح القدير " تصحيح بعض هذه الأحاديث، وأطلت المقال في ذلك، فليرجع إليه ". انتهى.
وقال في " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ":
" حديث قيس بن الحارث - وفي رواية: الحارث بن قيس -؛ في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة؛ قال أبو القاسم البغوي: ولا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا، وقال أبو عمر

(2/187)


النمري (1) : ليس له إلا حديث واحد، ولم يأت به من وجه صحيح.
وفي معنى هذا الحديث: حديث غيلان الثقفي؛ وهو عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر؛ قال: أسلم غيلان الثقفي، وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح.
وحكى الحاكم عن مسلم: أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة.
قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة.
وقد أخذ ابن حبان، والحاكم، والبيهقي بظاهر الحكم، وأخرجوه من طرق عن معمر؛ من حديث أهل الكوفة، وأهل خراسان، وأهل اليمامة، عنه.
قال الحافظ: " ولا يفيد ذلك شيئا؛ فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة، وعلى تقدير أنهم سمعوا بغيرها؛ فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب؛ لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء؛ وهم فيها، اتفق على ذلك أهل العلم به؛ كابن المديني، والبخاري، وابن أبي حاتم، ويعقوب بن شيبة، وغيرهم.
وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه، وأعله بتفرد معمر في وصله، وتحديثه به في غير بلده.
__________
(1) هو ابن عبد البر، وقد ظهر من هذا خطأ الشارح في تعبيره فيما مضى. (ش)

(2/188)


وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة.
وقد أطال الدارقطني في " العلل " تخريج طرقه.
ورواه ابن عيينة، ومالك، عن الزهري مرسلا؛ ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك.
وقد وافق معمرا على وصله: بحر بن كنيز (1) السقاء، عن الزهري، ولكنه ضعيف.
وكذا وصله يحيى بن سلام، عن مالك، ويحيى ضعيف (2) ".
وفي الباب: عن نوفل بن معاوية عند الشافعي: أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمسك أربعا وفارق الأخرى "، وفي إسناده رجل مجهول؛ لأن الشافعي قال: حدثنا بعض أصحابنا، عن أبي الزناد، عن عبد المجيد بن سهل، عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية، قال: أسلمت ... . فذكره (3) .
__________
(1) في الأصل: (بحر كنيز) ، وهو خطأ.
و (كنيز) بنون وزاي مصغرا، وضبطه عبد الغني بفتح الكاف، وبحر هذا ضعيف جدا، مات سنة 160. (ش)
(2) • قلت: لقد أطال العلماء - رحمهم الله - الكلام على حديث معمر هذا، ونسبوه كما رأيت إلى الوهم، حيث رواه موصولا، وأنا أرى أن لا طائل تحت ذلك؛ لأن الحديث قد ورد من غير طريقه موصولا بسند صحيح عن ابن عمر؛ أخرجه الدارقطني (404) ، والبيهقي (7 / 183) ؛ من طريق سيف بن عبيد الله الجرمي: ثنا سرار بن مجشر، عن أيوب، عن نافع، وسالم، عن ابن عمر ... به.
وهذا سند صحيح لا مطعن فيه، وبه قامت الحجة على تحريم الزيادة على الأربع. (ن)
(3) ضعفه الشيخ في " الإرواء " (1884) .

(2/189)


وفي الباب أيضا عن عروة بن مسعود، وصفوان بن أمية عند البيهقي.
وقوله: " اختر منهن أربعا "؛ استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع.
وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا، ولعل وجهه قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} ، ومجموع ذلك - لا باعتبار ما فيه من العدل - تسع، وحكي ذلك عن ابن الصباغ، والعمراني، وبعض الشيعة، وحكي أيضا عن القاسم بن إبراهيم، وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه، وحكاه صاحب " البحر " عن الظاهرية، وقوم مجاهيل.
وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال، وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول.
قالوا: ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفى فيه بمثل ذلك، ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بين تسع، أو إحدى عشرة، وقد قال - تعالى -: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} .
وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع؛ فهو محل النزاع؛ ولم يقم عليه دليل.
وأما قوله - تعالى - {مثنى وثلاث ورباع} ؛ ف (الواو) فيه للجمع لا للتخيير، وأيضا لفظ: {مثنى} معدول به عن اثنين اثنين، وهو يدل على

(2/190)


تناول ما كان متصفا من الأعداد بصفة الاثنينية؛ وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلا ما فوق الألوف؛ فإنك تقول: جاءني القوم مثنى؛ أي: اثنين اثنين، وهكذا ثلاث ورباع، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد.
فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا.
وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد؛ إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها؛ فإنه لا شك أنه يصح لغة وعرفا أن يقول الرجل لألف رجل عنده: جاءني هؤلاء اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة؛ فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير؛ سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير؛ لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم، فكأن الله سبحانه قال لكل فرد من الناس: انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع؛ ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة، وهي بمجردها كافية في الحل، حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها.
وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة - كما صرح به الخطابي -؛ فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل، وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع؛ كما صرح بذلك في " البحر " (1)
__________
(1) • وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " إبطال التحليل " (ج 3 ص 216 من " الفتاوى ") : " أجمع الصحابة على تحريم الجمع بين أكثر من أربع نسوة، كما رواه عبيدة السلماني وغيره ". (ن)

(2/191)


وقال في " الفتح ":
" اتفق العلماء على أن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن ".
وقد ذكر الحافظ في " الفتح "، و " التلخيص " الحكمة في تكثير نسائه - صلى الله عليه وسلم -؛ فليراجع ذلك ". انتهى.
وقال في تفسيره " فتح القدير ":
" وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم - أو هذا المال الذي في البدرة - درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة.
وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه، أما لو كان مطلقا - كما يقال: اقتسموا الدراهم، ويراد بها ما كسبوه -؛ فليس المعنى هكذا، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول.
على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا: اقتسموه مثنى وثلاث ورباع، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين، وبعضه ثلاثة ثلاثة، وبعضه أربعة أربعة؛ كان هذا هو المعنى العربي.
ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى - وهم مئة ألف -؛ كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين، وهكذا: جاءني القوم ثلاث ورباع، والخطاب

(2/192)


للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد؛ كما في قوله - تعالى -: {اقتلوا المشركين} ، {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ، ونحوها.
ومعنى قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} : لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، هذا ما تقتضي لغة العرب، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه.
ويؤيد هذا قوله - تعالى - في آخر الآية: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} ؛ فإنه وإن كان خطابا للجميع؛ فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد؛ فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن.
وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة، وكأنه قال: انكحوا مجموع هذا العدد المذكور؛ فهذا جهل بالمعنى العربي، ولو قال: انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا؛ كان هذا القول له وجه، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) ؛ لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني.
وأخرج الشافعي، وابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، عن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" اختر منهن ".
وفي لفظ: " أمسك منهن أربعا، وفارق سائرهن ".

(2/193)


وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق.
وعن نوفل بن معاوية الديلي، قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أمسك أربعا، وفارق الأخرى "، أخرجه الشافعي في " مسنده " (1) .
وأخرج ابن ماجه، والنحاس في " ناسخه "، عن قيس بن الحارث الأسدي قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " اختر منهن أربعا، وخل سائرهن "، ففعلت.
وهذه شواهد للحديث الأول؛ كما قال البيهقي.
( [بيان الخلاف في عدد نساء المملوك] :)
وعن الحكم، قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين ". انتهى كلامه.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين؛ رواه الدارقطني.
قال الماتن - رحمه الله - في " نيل الأوطار ":
" قد تمسك بهذا من قال: إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين؛ وهو مروي عن علي، وزيد بن علي، والناصر، والحنفية، والشافعية.
ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته،
__________
(1) تقدم بيان ضعفه؛ فليعلم!

(2/194)


نعم؛ لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلا عند القائلين بحجية الإجماع؛ ولكنه قد روي عن أبي الدرداء، ومجاهد، وربيعة، وأبي ثور، والقاسم بن محمد، وسالم: أنه يجوز له أن ينكح أربعا كالحر.
حكى ذلك عنهم صاحب " البحر ".
فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله - تعالى -: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ، والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم؛ إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة؛ كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما ". انتهى.
ويوضح ذلك ما حرره الماتن - رحمه الله تعالى - في " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام "؛ عبارته هكذا:
" الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب - وصار كالمجمع عليه عندهم -: أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثرا يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة؛ كانت صيغة العدل المفردة في قوة تلك الأعداد، فإن كان مجيء القوم مثلا اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة - وكانوا ألوفا مؤلفة -، فقلت: جاءني القوم مثنى؛ أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين، حتى تكاملوا، فإن قلت: مثنى، وثلاث، ورباع؛ أفاد ذلك: أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين، وتارة ثلاثة ثلاثة، وتارة أربعة أربعة، فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء؛ لا مقدار عدد جميع القوم، فإنه لا يستفاد منها أصلا، بل غاية ما يستفاد منها: أن عددهم متكثر تكثرا تشق الإحاطة به.
ومثل هذا إذا قلت: نكحت النساء مثنى؛ فإن معناه: نكحتهن اثنتين اثنتين، وليس فيه دليل على أن كل دفعة من الدفعات لم يدل في نكاحه إلا

(2/195)


بعد خروج الأولى، كما أنه لا دليل - في قولك: جاءني القوم مثنى - أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك؛ إلا وقد فارقك الاثنان الأولان.
إذا تقرر هذا؛ فقوله - تعالى -: {مثنى وثلاث ورباع} ؛ يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات، وليس في هذه تعرض لمقدار عددهن؛ بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين؛ كما قدمنا في مجيء القوم، وليس فيه أيضا دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى، ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا؛ فهذا مقام الاستفادة منه، فليتفضل بها علينا، وابن عباس إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع؛ فهو فرد من أفراد الأمة.
وأما القعقعة بدعوى الإجماع من المصنف وأمثاله، فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة، وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية (1) ، وابن الصباغ، والعمراني، والقاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول، وجماعة من
__________
(1) • قلت: ويجاب عن هذا؛ بأن هذا الخلاف لا يعتد به؛ لأنه طرأ بعد الإجماع، فقد نقله - كما تقدم منا - عبيدة السلماني - وهو من كبار التابعين -؛ بل إنه أدرك عصر النبوة؛ فإنه أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، ولم يلقه، ولذلك قال الذهبي في " التذكرة " (1 / 47) : " كاد أن يكون صحابيا؛ أسلم زمن فتح مكة باليمن، وأخذ عنه علي، وابن مسعود، قال الشعبي: كان يوازي شريحا في القضاء ".
فمثل هذا الإمام إذا نقل إجماع أهل عصره - لا سيما وهم الصحابة، ومعرفة إجماعهم من المعاصر أيسر بكثير من معرفة إجماع غيرهم من معاصرهم لتفرقهم -؛ تطمئن النفس لصحته، ويؤيده أننا لم نعلم أن أحدا منهم - أعني: الصحابة - وغيرهم من السلف الصالح نقل تزوجه بأكثر من أربع؛ فتأمل. (ن)

(2/196)


الشيعة، وثلة من محققي المتأخرين، وخالفه أيضا القرآن الكريم كما بيناه، وخالفه أيضا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما صح تواترا من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات: {وما آتاكم الرسول فخذوه} ، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} ؟ !
ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل، والبراءة الأصلية مستصحبة؛ لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير.
وأما حديث أمره - صلى الله عليه وسلم - لغيلان لما أسلم وتحته عشرة نسوة؛ بأن يختار منهن أربعا، ويفارق سائرهن؛ كما أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان؛ فهو وإن كان له طرق؛ فقد قال ابن عبد البر: كلها معلولة؛ وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى.
ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني، والفعل المصطفوي الذي مات صلى الله عليه وسلم عليه، والبراءة الأصلية.
ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة، أو جاءنا بدليل في معناه؛ فجزاه الله خيرا؛ فليس بين أحد وبين الحق عداوة، وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه؛ لا سيما في مقامات التحرير والتقرير؛ كما نفعله في كثير من الأبحاث، وإذا حاك في صدره شيء؛ فليكن تورعه في العمل؛ لا في تقرير الصواب.
فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك لقيل وقال، ولا

(2/197)


سيما في مثل مواطن تجبن عنها كثير من الرجال؛ فإنك لا تسأل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد؛ بل عن الذي يرتضيه المعبود؛ و (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل) ، و (من ورد البحر استقل السواقيا) ". انتهى.
واندفع بهذا ما في " المسوى " من قوله:
" قلت: اتفقت الأمة على أن الحر يجوز له أن ينكح أربع حرائر، ولا يجوز له أن ينكح أكثر من أربع.
قال الشافعي: انتهى الله - تعالى - بالحرائر إلى أربع؛ تحريما لأن يجمع أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم بين أكثر من أربع.
وأما العبد؛ فأكثر الأمة على أنه لا ينكح أكثر من امرأتين، وفي الآية ما يدل على أنها في الأحرار وهو قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} ، وملك اليمين لا يكون إلا للأحرار ". انتهى.
وأما العدد الذي يحل للعبد؛ فقد حكى البيهقي، وابن أبي شيبة، أنه أجمع الصحابة على أنه لا ينكح العبد أكثر من اثنتين، وكذلك حكى إجماع الصحابة الشافعي.
وروى الدارقطني، عن عمر أنه قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين.
وسيأتي ما ورد في طلاق الأمة والعدة - في باب العدة -، فمن قال بأن إجماع الصحابة حجة كفاه إجماعهم، ومن لم يقل بحجية إجماعهم؛ أجاز

(2/198)


للعبد ما يجوز للحر من العدد (1) ، وقد أوضح الماتن حكم الإجماع في أول " حاشية الشفاء ".
( [حكم زواج العبد بغير إذن سيده] :)
(وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده؛ فنكاحه باطل) (2) ؛ لحديث جابر عند أحمد (3) ، وأبي داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من تزوج بغير إذن سيده؛ فهو عاهر ".
وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديث ابن عمر.
قال الترمذي: " لا يصح؛ إنما هو عن جابر ".
__________
(1) • وفي " الموطإ " (2 / 74) عن مالك: " أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول: ينكح العبد أربع نسوة، قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك، والعبد مخالف للمحلل؛ إن أذن له سيده ثبت نكاحه، وإن لم يأذن له سيده فرق بينهما ". (ن)
(2) • باتفاق المسلمين إذا لم يجزه السيد، فإن أجازه بعد العقد صح في مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين، ولم يصح في مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى؛ كذا في " الفتاوى " لابن تيمية (2 / 90) . (ن)
(3) • في " المسند " (7 / 300، 377، 382) ، وأبو داود (1 / 325) ، والترمذي (2 / 182) ، وقال: " حسن صحيح "، والدارمي أيضا (2 / 152) ، والحاكم (2 / 194) ، والطيالسي (رقم 1675) ، والبيهقي (7 / 127) ؛ من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر؛ وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو حسن؛ لأن ابن عقيل فيه كلام من قبل حفظه.
ورواه ابن ماجه (1 / 604) ؛ من طريق القاسم بن عبد الواحد، عنه، عن ابن عمر؛ وهو خطأ كما أشار إليه الترمذي؛ إنما هو عن جابر، وهكذا على الصواب هو في " المسند "، و " المستدرك " من هذا الوجه. (ن)

(2/199)


وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر أيضا، وفي إسناده مندل بن علي؛ وهو ضعيف (1) .
وقد ذهب إلى عدم صحة عقد العبد بغير إذن مولاه: الجمهور.
وقال مالك: إن العقد نافذ، ولسيده فسخه.
وورد بأن العاهر الزاني، والزنا باطل، وفي رواية من حديث جابر بلفظ: " باطل ".
( [حكم الأمة في الزواج إذا عتقت] :)
(وإذا عتقت الأمة ملكت أمر نفسها، وخيرت في زوجها) ؛ لحديث عائشة في " صحيح مسلم " وغيره: أن بريرة خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها عبدا.
وكذا في " صحيح البخاري " من حديث ابن عباس.
وفي حديث آخر لعائشة عند أحمد، وأهل " السنن ": أن زوج بريرة كان حرا.
(2)
وقد اختلفت الروايات في ذلك (3)
__________
(1) • أخطأ الشارح - رحمه الله -؛ فإنما هذا في " سنن ابن ماجه "، وكذا " البيهقي "، و " الدارمي " أيضا.
وأما أبو داود؛ فأخرجه من طريق أخرى ليس فيها مطعون فيها؛ بل إسناده صحيح، رجاله كلهم رجال الصحيح.
وقول أبي داود عقبه: " والحديث ضعيف، وهو موقوف، وهو قول ابن عمر - رضي الله عنه - "؛ فمما لا يلتفت إليه؛ لأنه خلاف القواعد، ثم إن هذا الحديث: " فنكاحه باطل "؛ ليس في حديث جابر كما ظن الشارح. (ن)
(2) هذه الرواية شاذة؛ كما بينه شيخنا في " الإرواء " (1873) ؛ والمحفوظ أنه كان عبدا.
(3) • ورجح الحافظ أنه كان عبدا. فانظر " الفتح ". (ن)

(2/200)


وقد اختلف أهل العلم في ثبوت الخيار إذا كان الزوج حرا:
فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت، وجعلوا العلة في الفسخ عدم الكفاءة، وقد وقع في بعض الروايات:: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: " ملكت نفسك؛ فاختاري " (1) ؛ فإن هذا يفيد أنه لا فرق بين الحر والعبد.
والحاصل: أن الاختلاف في كون زوجها حرا أو عبدا لا يقدح في ذلك؛ لأن ملكها لأمر نفسها يقتضي عدم الفرق.
ولكن دعوى أن تمكينها لزوجها بعد علمها بالعتق، وثبوت الخيار، مبطل لخيارها؛ لا دليل عليها (2) ، وتركه صلى الله عليه وسلم لاستفصال بريرة أو زوجها عن ذلك: يفيد أنه غير مبطل، ولو كان مبطلا لم يتركه.
( [حكم فسخ النكاح بالعيب] :)
(ويجوز فسخ النكاح بالعيب) ؛ لحديث كعب بن زيد - أو زيد بن كعب - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها، ووضع ثوبه، وقعد على الفراش؛ أبصر بكشحها بياضا، فانحاز عن الفراش، ثم قال: " خذي عليك ثيابك "؛ ولم يأخذ مما آتاها شيئا.
أخرجه أحمد، وسعيد بن منصور، وابن عدي، والبيهقي.
__________
(1) • لم أقف على هذه الرواية الآن، وقد نقلها ابن التركماني في " الجوهر النقي " (7 / 224) عن " التمهيد " بلفظ: " روي في بعض الآثار ... "؛ فكأنه أشار لضعفه. (ن)
(2) • قد جاء في ذلك حديث مرفوع - عن عائشة -؛ بإسنادين ضعيفين؛ انظر " البيهقي " (7 / 225) . (ن)

(2/201)


وأخرجه - من حديث كعب بن عجرة - الحاكم في " المستدرك ".
وأخرجه أبو نعيم في " الطب "، والبيهقي، من حديث ابن عمر، وفي الحديث اضطراب (1) .
وروى مالك في " الموطإ "، والدارقطني، وسعيد بن منصور، والشافعي، وابن أبي شيبة، عن عمر، أنه قال: أيما امرأة غُر بها رجل - بها جنون أو جذام أو برص -؛ فلها مهرها بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غره؛ ورجال إسناده ثقات.
وفي الباب عن علي عند سعيد بن منصور.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن النكاح يفسخ بالعيوب، وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك.
وروي عن علي، وعمر، وابن عباس، أنها لا ترد النساء إلا بالعيوب الثلاثة المذكورة، والرابع: الداء في الفرج.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة ترد بكل عيب ترد به الجارية في البيع، ورجحه ابن القيم، واحتج له في " الهدي " بالقياس على البيع.
وذهب البعض إلى أن المرأة ترد الزوج بتلك الثلاثة، وبالجب، والعنة (2) .
__________
(1) وفي إسناده جميل بن زيد؛ وهو ضعيف.
ولا دلالة فيه على الفسخ؛ لاحتمال أن يكون طلقها وكنى عن الطلاق بقوله: " خذي عليك ثيابك ". (ش)
• لأنه من طريق جميل بن زيد، قال - مرة -: عن زيد بن كعب: قال كعب.
ومرة قال: عن ابن عمر؛ أخرجه البيهقي (7 / 257) ، وقال: " قال البخاري: لم يصح حديثه ".
وهو في " المستدرك " (4 / 34) من الوجه الأول، وضعفه الذهبي. (ن)
(2) الجب: قطع الذكر.
والعنة: ارتخاؤه دائما؛ فلا يصل إلى النساء. (ش)

(2/202)


والخلاف في هذا البحث طويل.
أقول: اعلم أن الذي ثبت بالضرورة الدينية؛ أن عقد النكاح لازم، تثبت به أحكام الزوجية؛ من جواز الوطء، ووجوب النفقة ونحوها، وثبوت الميراث، وسائر الأحكام، وثبت بالضرورة الدينية أن يكون الخروج منه بالطلاق والموت.
فمن زعم أنه يجوز الخروج من النكاح بسبب من الأسباب؛ فعليه الدليل الصحيح المقتضي للانتقال عن ثبوته بالضرورة الدينية.
وما ذكروه من العيوب؛ لم يأت في الفسخ بها حجة نيرة، ولم يثبت شيء منها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " الحقي بأهلك " (1) ؛ فالصيغة صيغة طلاق (2) ؛ وعلى فرض الاحتمال؛ فالواجب الحمل على المتيقن دون ما سواه، وكذلك الفسخ بالعنة لم يرد به دليل صحيح، والأصل البقاء على النكاح حتى يأتي ما يوجب الانتقال عنه.
ومن أعجب ما يتعجب منه: تخصيص بعض العيوب بذلك دون بعض؛
__________
(1) هذا اللفظ؛ رواية في حديث كعب بن زيد في قصة الغفارية. (ش)
(2) • قلت: هو كذلك، ولكن ما الذي حمل الشارح على حشر هذا اللفظ في هذا البحث؛ مع أنه لم يسبق لحديثه ذكر؟ ! نعم؛ يوهم صنيعه أن هذا اللفظ له علاقة بحديث كعب بن زيد المتقدم، وقد اغتر به المعلق على الكتاب، فجزم بأنه رواية في حديث كعب بن زيد في قصة الغفارية، وهذا خطأ واضح منهما؛ فإن هذا اللفظ إنما ورد في حديث آخر بقصة أخرى صحيحة:
قالت عائشة: إن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها؛ قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: " لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك "؛ رواه البخاري (9 / 292) ، والحاكم (4 / 35) . (ن)

(2/203)


لا لمجرد دليل (1) ، فسبحان الله وبحمده!
( [حكم أنكحة الكفار إذا أسلموا] :)
(ويقر من أنكحة الكفار إذا أسلموا ما يوافق الشرع) ؛ لحديث الضحاك بن فيروز، عن أبيه، عند أحمد (2) ، وأهل " السنن "، والشافعي، والدارقطني، والبيهقي - وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان -، قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أطلق إحداهما (3) .
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والشافعي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -، عن ابن عمر، قال: أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا.
__________
(1) كلا؛ بل الدليل قائم؛ وهو النهي عن المضارة وعن الغش، وهذه العيوب مما لا يرجى برؤها وزوالها، فما لم يعلم بها أحد الزوجين؛ فهو بالخيار عند العلم بها. (ش)
(2) • في " المسند " (4 / 232) . (ن)
(3) • وأعله البخاري، والعقيلي.
وقال ابن القيم في " تهذيب السنن " (3 / 158) - تعليقا على إسناد أبي داود -:
" هذا الحديث يرويه أبو وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه؛ قال البخاري: في إسناده هذا الحديث نظر، ووجه قوله؛ أن أبا وهب، والضحاك مجهول حالهما؛ وفيه يحيى بن أيوب؛ ضعيف ".
قلت: أما يحيى بن أيوب؛ فقد توبع عليه؛ عند الترمذي وغيره.
فعلته من أبي وهب، والضحاك؛ وقد قال الحافظ في ترجمة كل منهما في " التقريب ": " مقبول "؛ يعني عند المتابعة؛ وما وجدت لهما متابعا. (ن)

(2/204)


وقد أعل الحديث بأن الثابت منه إنما هو قول عمر؛ كما قال البخاري.
قال ابن القيم:
" السنة الصحيحة الصريحة المحكمة فيمن أسلم وتحته أختان؛ أنه يخير في إمساك من شاء منهما وترك الأخرى، وردت بأنه خلاف الأصول، وقالوا: قياس الأصول يقتضي أنه إن نكح واحدة بعد واحدة فنكاح الثانية هو المردود، ونكاح الأولى هو الصحيح من غير تخيير، وإن نكحهما معا فنكاحهما باطل ولا يخير، وكذلك حديث من أسلم على عشر نسوة، وربما أولوا التخيير بتخييره في ابتداء العقد على من شاء من المنكوحات ".
ولفظ الحديث يأبى هذا التأويل أشد الإباء؛ فإنه قال: " أمسك أربعا وفارق سائرهن "؛ رواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن غيلان أسلم ... فذكره.
وحديث فيروز المتقدم؛ فهذان الحديثان هما الأصول التي يرد ما خالفهما من القياس، أما أن تعقد قاعدة، وتقول: هذا هو الأصل، ثم ترد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة، فلعمر الله؛ لهدم ألف قاعدة لم يؤصلها الله - تعالى - ورسوله؛ أفرض علينا من رد حديث واحد.
وهذه القاعدة معلومة البطلان من الدين؛ فإن أنكحة الكفار لم يتعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف وقعت؟ وهل صادفت الشروط المعتبرة في الإسلام فتصح؛ أو لم تصادفها فتبطل؟ وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج؛ فإن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرهما، ولو كان

(2/205)


في الجاهلية؛ وقد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك؛ وإن لم يكن الآن ممن يجوز له الاستمرار؛ لم يقر عليه، كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم، أو أختان، أو أكثر من أربع، فهذا هو الأصل الذي أصلته سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما خالفه فلا يلتفت إليه، والله الموفق ". انتهى ملخصا.
( [حكم النكاح إذا أسلم أحد الزوجين] )
(وإذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح وتجب العدة) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، قال:
كان إذا هاجرت المرأة من أهل الحرب؛ لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، وإن جاء زوجها قبل أن تنكح ردت إليه.
وأخرج مالك في " الموطإ "، عن الزهري، أنه قال:
ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله؛ وزوجها كافر مقيم بدار الحرب؛ إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها؛ إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها، وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها.
وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس، قال:
كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه؛ وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن

(2/206)


هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه.
( [حكم نكاح من أسلم وزوجته لم تنقض عدتها] :)
(فإن أسلم ولم تتزوج المرأة كانا على نكاحهما الأول؛ ولو طالت المدة؛ إذا اختارا ذلك) ؛ لحديث ابن عباس عند أحمد، وأبي داود، وصححه الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص - زوجها - بنكاحها الأول بعد سنتين، ولم يحدث شيئا.
وفي لفظ: ولم يحدث صداقا.
وفي لفظ للترمذي (1) : ولم يحدث نكاحا، وقال: " هذا حديث حسن، ليس بإسناده بأس ".
وأخرج الترمذي، وابن ماجه، من حديث ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد؛ وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف.
(وروي بإسناد ضعيف، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ... مثله) (2) .
__________
(1) • وقال (2 / 196) : " ليس بإسناده بأس ".
قلت: وهو حسن، وصححه أحمد كما سنعلقه قريبا. (ن)
(2) • قلت: هذا يوهم أنه إسناد آخر عن ابن عمرو؛ غير الذي عزاه للترمذي، وابن ماجه؛ وليس كذلك؛ فإن الحديث عندهما من طريق الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب ... به.
فهذه الجملة التي بين القوسين تكرار لا معنى له.
ثم الحديث أخرجه أحمد أيضا (رقم 6938) ، وقال عقبه: " هذا حديث ضعيف - أو قال: واه -، ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب؛ إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي؛ والعرزمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الصحيح الذي روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول ". (ن)

(2/207)


قال الترمذي: " في إسناده مقال "؛ وقال الإمام أحمد: " هذا حديث ضعيف، والصحيح: أنه أقرهما على النكاح الأول ".
وقال الدارقطني: " هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول ".
وقال الترمذي في كتاب " العلل " له: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمرو ابن شعيب ".
قال ابن القيم:
" فكيف يجعل هذا الحديث الضعيف أصلا ترد به السنة الصحيحة المعلومة وتجعل خلاف الأصول؟ ! ". انتهى.
وقد ذهب إلى ما دل عليه حديث ابن عباس جماعة من الصحابة، ومن بعدهم؛ لا كما نقله ابن عبد البر من الإجماع؛ على أنه لا يبقى العقد بعد انقضاء العدة، ولا مانع من جعل حديث ابن عباس - وما ورد في معناه - مخصصا لما ورد من أن العدة إذا انقضت فقد ذهب العقد؛ ولم تحل للزوج إلا بعقد جديد.
قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ".
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يفرق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه؛ بل متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله ما لم تتزوج، هذه سنته المعلومة.

(2/208)


قال الشافعي: أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران وهي دار خزاعة، وبخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الإسلام، ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام، فأخذت بلحيته، وقالت: اقتلوا الشيخ الضال؛ ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام، وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة، ثم أسلمت بعد انقضاء العدة، واستقرا على النكاح، لأن عدتها لم تنقض حتى أسلمت، وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه.
وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهرب عكرمة إلى اليمن، وهي دار حرب، وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب، ثم رجع صفوان إلى مكة، وهي دار الإسلام، وشهد حنينا وهو كافر، ثم أسلم، فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول، وذلك أنه لم تنقض عدتها.
وقد حفظ أهل العلم بالمغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجل بمكة، فأسلمت، وهاجرت إلى المدينة، فقدم زوجها وهي في العدة، فاستقرا على النكاح ". انتهى.
أقول: إن إسلام المرأة مع بقاء زوجها في الكفر ليس بمنزلة الطلاق؛ إذ لو كان كذلك لم يكن له عليها سبيل بعد انقضاء عدتها إلا برضاها؛ مع تجديد العقد.
فالحاصل: أن المرأة المسلمة إن حاضت بعد إسلامها، ثم طهرت؛ كان لها أن تتزوج بمن شاءت، فإذا تزوجت؛ لم يبق للأول عليها سبيل إذا أسلم،

(2/209)


وإن لم تتزوج كانت تحت عقد زوجها الأول، ولا يعتبر تجديد عقد ولا تراض؛ هذا ما تقتضيه الأدلة، وإن خالف أقوال الناس.
وهكذا الحكم في ارتداد أحد الزوجين؛ فإنه إذا عاد المرتد إلى الإسلام؛ كان حكمه حكم إسلام من كان باقيا على الكفر.
( [الفصل الثالث: أحكام المهر] )
( [دليل وجوب مهر المرأة] :)
(المهر واجب) ؛ وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح، وهو قوله - تعالى -: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} ، فلذلك أبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب المهر كما كان.
ودليل وجوبه: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسوغ نكاحا بدون مهر أصلا.
وفي الكتاب العزيز: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} ، وقوله: {فلا تأخذوا منه شيئا} ، وقال: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} الآية، وقال - تعالى -: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} .
وقد أخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم - وصححه - (1) من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع عليا أن يدخل
__________
(1) • وهو كما قال. (ن)

(2/210)


بفاطمة - عليهما السلام - حتى يعطيها شيئا، ولما قال: ما عندي شيء؛ قال: " فأين درعك الحطمية؟ "؛ فأعطاه إياها.
وحديث سهل بن سعد الآتي قريبا من أعظم الأدلة على وجوب المهر.
( [كراهة المغالاة في المهر] :)
(وتكره المغالاة فيه) : لحديث عائشة عند الطبراني في " الأوسط ": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة "، وفي إسناده ضعف (1) .
وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا "، قال: قد نظرت إليها، قال: " على كم تزوجتها؟ "، قال: على أربع أواق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " على أربع أواق؟ {كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل} ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه "؛ قال: فبعث بعثا إلى بني عبس؛ بعث ذلك الرجل فيهم.
وأخرج أبو داود، والحاكم - وصححه - من حديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خير الصداق أيسره " (2) .
__________
(1) ضعيف بهذا اللفظ؛ وإنما يصح بلفظ آخر؛ كما في " الإرواء " (6 / 348) .
(2) حديث صحيح: " الإرواء " (1924) .

(2/211)


وعن عائشة: أنه كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه؛ اثنتي عشرة أوقية ونشا (1) "؛ أي: نصفا.
وهو في " صحيح مسلم " وغيره.
قال في " الحجة ":
" ولم يضبط النبي صلى الله عليه وسلم المهر بحد لا يزيد ولا ينقص؛ إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة، والرغبات لها مراتب شتى، ولهم في المشاحة طبقات؛ فلا يمكن تحديده عليهم؛ كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص، ولذلك قال: " التمس ولو خاتما من حديد "، غير أنه سن في صداق أزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا.
وقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: لا تغالوا في صدقات النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله؛ لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم (2) ". انتهى.
( [ما يصح به المهر] :)
(ويصح ولو خاتما من حديد أو تعليم قرآن) : لما أخرجه أحمد، وابن
__________
(1) • النش: عشرون درهما؛ وهو نصف أوقية؛ كما يقال للخمسة: نواة: " مختار الصحاح ". (ن)
(2) • أخرجه ابن سعد (8 / 165) ، وأصحاب " السنن "، وغيرهم؛ وسنده صحيح، وانظر الكلام عليه في التعليق على " المسند " (1 / 285 - 286) .
وأما ما وقع في بعض طرق هذا الأثر عن عمر من اعتراض المرأة له وعليه، واحتجاجها بآية: {وآتيتم إحداهن قنطارا} ، ثم رجوعه إلى المنبر وقوله: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له:
فأخرجه البيهقي (7 / 233) ؛ وقال: " هذا منقطع ". (ن)

(2/212)


ماجة، والترمذي (1) - وصححه - من حديث عامر بن ربيعة: أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين؟ ، فقالت: نعم؛ فأجازه ".
وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا - ملء يديه - طعاما كانت له حلالا "، وفي إسناده ضعف.
وأخرج الدارقطني، في حديث لأبي سعيد في المهر، قال: " ولو على سواك من أراك ".
وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله {إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل، فقال: يا رسول الله} زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة {فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل عندك من شيء تصدقها؟ "، قال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا} "، فقال: ما أجد شيئا! قال: " التمس ولو خاتما من حديد "، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل معك من القرآن شيء؟ "، قال: نعم سورة كذا وسورة كذا - لسور سماها -، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " قد زوجتكها بما معك من القرآن ".
__________
(1) • في " سننه " (2 / 182) ، وقال: " حديث حسن صحيح ".
وتعقبوه؛ لأن في سنده - عند الجميع - عاصم بن عبيد الله، قال البيهقي بعد أن أخرجه عنه: " تكلموا فيه، ومع ضعفه روى عنه الأئمة ". (ن)

(2/213)


ولا يعارض ما ذكر حديث: " لا مهر أقل من عشرة دراهم " - عند الدارقطني من حديث جابر -؛ لأن في إسناده مبشر بن عبيد، وحجاج بن أرطاة، وهما ضعيفان.
قال ابن القيم:
" وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النكاح بما قل من مهر، ولو خاتما من حديد - مع موافقتها لعموم القرآن في قوله: {أن تبتغوا بأموالكم} ، وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير - بأثر لا يثبت، وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق.
وأين النكاح من اللصوصية؟ وأين استباحة الفرج به إلى قطع اليد في السرقة؟ !
وقد تقدم مرارا أن أصح الناس قياساً أهل الحديث، وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب؛ كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد؛ كان قياسه أفسد ". انتهى.
أقول: الحاصل؛ أن الأدلة قد دلت على أنه يصح أن يكون المهر قليلا بدون تقييد بمقدار؛ بل ما كان له قيمة صح أن يكون مهرا؛ فإن حديث: " ولو خاتما من حديد "، وكذلك حديث المرأة التي تزوجت بنعلين، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا - ملء يديه - طعاما كانت له حلالا "، وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف أنه تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب؛ يدل على عدم التقييد بحد في جانب

(2/214)


القلة، والأحاديث المذكورة هي في الأمهات:
فالأول: متفق عليه.
والثاني: أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -.
والثالث: أخرجه أحمد، وأبو داود.
والرابع: أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (1) .
فهذه الأحاديث تدل على أنه لا حد للمهر في جانب القلة؛ بل إذا كان له قيمة صح أن يكون مهرا.
وأما في جانب الكثرة؛ فكذلك أيضا لا حد له، ولذلك ذكر الله القنطار، وكانت مهور زوجاته - صلى الله عليه وسلم - لكل واحدة اثنتا عشرة أوقية ونصف؛ عن خمس مئة درهم (2) .
فمن زعم أن المهر لا يكون إلا كذا؛ فعليه الدليل الصحيح.
ولا ريب أن المغالاة في المهور مكروهة كما تقدم.
( [مقدار مهر المرأة المدخول بها والتي لم يحدد صداقها] :)
ومن تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا فلها مهر نسائها إذا دخل بها) ؛
__________
(1) • قلت: لقد أبعد المصنف النجعة؛ فالحديث في " الصحيحين "، وقد عزاه إليهما غير واحد، وانظر " البيهقي " (7 / 236) . (ن)
(2) هكذا الأصل، ولعله: وهي عبارة عن خمس مئة درهم. (ش)

(2/215)


لحديث علقمة عند أحمد، وأهل " السنن "، والحاكم، والبيهقي، (1) وصححه الترمذي، وابن حبان، قال: أتي عبد الله - يعني: ابن مسعود - في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقا، ولم يكن دخل بها؟ قال: فاختلفوا إليه، فقال: أرى لها مثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العدة، فشهد معقل بن سنان الأشجعي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بَرْوع ابنة واشق بمثل ما قضى.
وفي " إعلام الموقعين ": " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقا حتى مات؟ فقضى لها على صداق نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث؛ ذكره أحمد وأهل " السنن " وصححه الترمذي وغيره ".
قال ابن القيم " وهذه فتوى لا معارض لها، فلا سبيل إلى العدول عنها " انتهى.
( [تقديم شيء من المهر قبل الدخول مستحب] :)
(ويستحب تقديم شيء من المهر قبل الدخول) ؛ لحديث ابن عباس المتقدم قريبا.
وأخرج أبو داود، وابن ماجه من حديث عائشة، قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا.
ولا يعارض هذا حديث ابن عباس؛ فإن غاية ما فيه أنه يدل على أن
__________
(1) • في " سننه الكبرى " (7 / 244 - 245) ، وصححه أيضا. (ن)

(2/216)


تقدمه شيء من المهر قبل الدخول غير واجبة، ولا ينفي كونها مستحبة (1) .
( [ما على الزوج] :)
(1 -[المعاشرة بالمعروف] :)
(وعليه إحسان العشرة) ؛ لقوله - تعالى -: {وعاشروهن بالمعروف} .
وفي " الصحيحين " وغيرهما، من حديث أبي هريرة: " إن المرأة كالضلع؛ إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها، فاستوصوا بالنساء ".
وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - من حديثه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم ".
وأخرج الترمذي - وصححه - من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خيركم خيركم لأهله؛ وأنا خيركم لأهلي ".
__________
(1) • قلت: هذا لو صح حديث عائشة؛ فكيف وهو غير صحيح الإسناد؛ لأنه من رواية شريك، عن منصور، عن طلحة، عن خيثمة عنها؛ أخرجه أبو داود (1 / 332) ، وابن ماجه (1 / 614) ، والبيهقي (7 / 253) ؛ وأعله أبو داود بقوله: " إن خيثمة لم يسمع من عائشة ".
وعلته الحقيقية الإرسال؛ فقد رواه سفيان، عن منصور، عن طلحة، عن خيثمة: أن رجلا تزوج ... الحديث؛ وكذلك رواه سعيد، عن طلحة؛ أخرجهما البيهقي.
ولذلك قال ابن عدي: " إن هذا من مناكير شريك "؛ كما في " الجوهر النقي ". (ن)

(2/217)


(2 -[كظم الغيظ والتجاوز عن الخطإ] :)
وقال في " الحجة البالغة ":
" الإنسان إذا أراد استيفاء مقاصد المنزل منها؛ لا بد أن يجاوز عن محقرات الأمور، ويكظم الغيظ فيما يجده خلاف هواه؛ إلا ما يكون من باب الغيرة المحمودة، وتداركا لجور، ونحو ذلك ".
(3 -[النفقة عليها من طعام وسكن وكسوة] :)
والواجب الأصلي هو المعاشرة بالمعروف، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بالرزق والكسوة وحسن المعاملة، ولا يمكن في الشرائع المستندة إلى الوحي أن يعين جنس القوت وقدره مثلا؛ فإنه لا يكاد يتفق أهل الأرض على شيء واحد، ولذلك إنما أمر أمرا مطلقا.
قال في " المسوى ":
" إذا أعسر الزوج بنفقة امرأته؛ فهل يثبت لها حق الخروج من النكاح؟ قال الشافعي: لها الخروج عن النكاح، وقال أبو حنيفة: ليس لها ذلك، وكذلك الخلاف في الإعسار بالصداق إلا أن عند الشافعي في الإعسار بالنفقة: إذا رضيت مرة، ثم بدا لها؛ فلها الخروج؛ وفي الإعسار بالصداق: إذا رضيت مرة سقط حقها ". انتهى.
( [ما يجب على المرأة] :)
(1 -[الطاعة بالمعروف] :)
(وعليها الطاعة) ؛ لقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} .

(2/218)


وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح ".
وأخرج أهل " السنن "، وصححه الترمذي، من حديث عمرو بن الأحوص: " أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر، ووعظ، ثم قال:
" استوصوا بالنساء خيرا؛ فإنما هن عندكم عوان، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك؛ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن؛ فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا؛ فأما حقكم على نسائكم: فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم: أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ".
وفي الباب أحاديث كثيرة.
(2 -[خدمة الزوج في بيته] :)
وأما أن عليها خدمته في بيته أم لا؟ فأقول:
إيجاب ذلك عليها غير ظاهر، ولكن قد كان نساء الصحابة يعملن الأعمال التي تصلح المعيشة؛ بل ويعملن من الأعمال الخارجة عن ذلك ما هو

(2/219)


متبالغ في المشقة، ولم يسمع أن امرأة امتنعت من ذلك، وقالت: هذا ليس علي، أو لست ممن يعمل هذه الأعمال؛ لكوني بمكان من الشرف، أو بمحل من الجمال.
فقد صح في " الصحيحين " وغيرهما: أن الرحى أثرت في يد البتول، والقربة أثرت في نحرها؛ ولا شرف كشرفها - رضي الله عنها وأرضاها -.
فمن زعمت أنه لا يجب عليها إلا تمكين زوجها من الوطء، وأرادت الرجوع بأجرة عملها؛ لم تحل إجابتها إلى ذلك.
إنما الإشكال إذا امتنعت من المباشرة للأعمال ابتداء - قائلة: هذا لا يجب علي -؛ فإجبارها على ذلك يحتاج إلى دليل، فإن صح الأمر منه صلى الله عليه وسلم للبتول بخدمة زوجها؛ كان ذلك صالحا للتمسك به على إجبار الممتنعة (1) .
وأما استدلال القائلين بعدم الوجوب بقوله - تعالى -: {نساؤكم حرث لكم} ، ونحو ذلك؛ فليس مما يفيد المطلوب، وكان يكفيهم أن يقولوا: لم نقف على دليل على الوجوب، ولا يثبت مثل هذا الحكم الشاق بدون ذلك،
__________
(1) • قلت: أوجه الدلالة في الكتاب والسنة غير محصورة بالأمر؛ بل هي كثيرة كما لا يخفى، وقد قام الدليل على وجوب خدمة المرأة لزوجها عند المتفقهين في الكتاب والسنة؛ فالزوج سيد المرأة في كتاب الله - تعالى -؛ وهو قوله: {وألفيا سيدها لدى الباب} ، وهي عانية عنده بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، والعاني: الأسير، ولا يخفى أن مرتبة العبد والأسير خدمة من هما تحت يديه.
وأيضا؛ فقد قال - تعالى -: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ، وليس هو إلا خدمتها إياه، فكما أن على الرجل الإنفاق عليها وكسوتها؛ فعليها خدمته مقابل ذلك، وهذا بين لا يخفى.
ومن شاء تمام هذا البحث؛ فليراجع " الفتاوى " (2 / 234 - 235) لابن تيمية، و " زاد المعاد " (4 / 45 - 46) . (ن)

(2/220)


ومجرد تقريره صلى الله عليه وسلم لنسائه ونساء المسلمين على العمل في بيوت الأزواج؛ غايته الجواز لا الوجوب.
( [العدل بين الزوجات] :)
(ومن كان له زوجان فصاعدا عدل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأهل " السنن "، والدارمي، وابن حبان، والحاكم - وقال: " إسناده على شرط الشيخين "، وصححه الترمذي -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من كانت له امرأتان؛ يميل لإحداهما على الأخرى؛ (1) جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا - أو مائلا - ".
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها؛ كما في " الصحيح ".
وأخرج أهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول:
" اللهم! هذا قسمي فيما أملك؛ فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " (2) .
قال في " الحجة البالغة ":
__________
(1) • وفي لفظ: " فلم يعدل بينهما "؛ رواه الترمذي (2 / 159) .
وهذا اللفظ هو الذي عناه صاحب " الحجة "، بقوله الآتي: " وفيه أن قوله: " فلم يعدل ... " مجمل. . "؛ فليعلم ذلك. (ن)
(2) • حديث ضعيف؛ إلا الشطر الأول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل؛ فصحيح: انظر " الإرواء " (2018) . (ن)

(2/221)


" والظاهر أن ذلك منه صلى الله عليه وسلم كان تبرعا وإحسانا من غير وجوب عليه؛ لقوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} ، وأما في غيره فموضع تأمل واجتهاد، ولكن جمهور الفقهاء أوجبوا القسم واختلفوا في القرعة.
أقول: وفيه أن قوله: " فلم يعدل "؛ مجمل لا يدرى أي عدل أريد به؟ ". انتهى.
أقول: وأما الأمة المعقود عليها عقد نكاح؛ فيصدق عليها أنها زوجة، ويصدق عليها أنها امرأة، فيكون الوعيد الوارد فيمن له زوجتان أو امرأتان شاملا لهما.
فالقول بأن الأمة لا تستحق إلا نصف الحرة في القسمة محتاج إلى دليل، ولم يصح في المرفوع شيء، والموقوف على الصحابة - وكذلك المرسلات -؛ ليس فيها حجة.
( [لا كراهة في الكلام حال الجماع] :)
وأما الكلام حال الجماع؛ فقد استدل بعض أهل العلم على كراهة الكلام حال الجماع بالقياس على كراهته حال قضاء الحاجة، فإن كان ذلك بجامع الاستخباث؛ فباطل؛ فإن حالة الجماع حالة مستلذة، لا حالة مستخبثة، وفي المكالمة - حالته - نوع من إحسان العشرة؛ بل فيه لذة ظاهرة؛ كما قال بعض الشعراء:
(ويعجبني منك حال الجماع ... لين الكلام وضعف النظر

(2/222)


وإن كان الجامع شيئا آخر؛ فما هو؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع الملاعبة والمداعبة، ووقت الجماع أولى بذلك من غيره.
( [القرعة بين النساء] :)
(وإذا سافر أقرع بينهن) : دفعا لوحر (1) الصدر؛ لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج سفرا؛ أقرع بين أزواجه؛ فأيتهن خرج سهمها خرج بها.
( [جواز تنازل المرأة عن نوبتها] :)
(وللمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج على إسقاطها) ؛ لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما: أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة (2) .
وفي " الصحيحين " عن عائشة، في تفسير قوله - تعالى -: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} ، قالت: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها؛ فتقول له: أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج غيري، وأنت في حل من النفقة علي والقسم (3) لي.
__________
(1) الوحر - بفتح الواو والحاء -: الغيظ والحقد، وبلابل الصدر ووساوسه، ويقال أيضا: في صدره وحر - بإسكان الحاء -؛ وهو اسم، والمصدر بالفتح. (ش) .
(2) • وقد تواردت الروايات في أن سبب هبتها لنوبتها؛ أنها خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوهبت: انظر " فتح الباري " (9 / 257) . (ن)
(3) تعني عائشة أن هذا نوع من الصلح الجائز الذي تشمله الآية، ولا تريد بذلك حصر الصلح في هذا النوع فقط. (ش)

(2/223)


( [للزوجة الجديدة البكر سبعة أيام وثلاثة للثيب] :)
(ويقيم عند الجديدة البكر سبعا والثيب ثلاثا) ؛ لأن البكر؛ الرغبة فيها أتم، والحاجة إلى تأليف قلبها أكثر، فجعل قدرها السبع، وقدر الثيب الثلاث؛ لحديث أم سلمة عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام.
وفي " الصحيحين " من حديث أنس، قال: " من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا، ثم قسم، وإذا تزوج الثيب؛ أقام عندها ثلاثا، ثم قسم.
وفي الباب أحاديث.
( [حكم العزل] :)
(ولا يجوز العزل) ؛ يشير إلى كراهة العزل من غير تحريم.
قال في " المسوى ":
" اختلف أهل العلم في العزل، فرخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين، وكرهه جمع منهم، ولا شك أن تركه أولى ".
وبالجملة؛ فدليله حديث جذامة بنت وهب الأسدية: أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل؟ فقال: " ذلك الوأد الخفي "؛ أخرجه مسلم، وغيره.

(2/224)


وأخرج أحمد (1) ، وابن ماجه، عن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نعزل عن الحرة إلا بإذنها؛ وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال.
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي (2) من حديث ابن عباس، قال: نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها.
وقد استدل من جوز العزل بحديث جابر في " مسلم "، وغيره، قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل.
وفي رواية: فبلغه ذلك؛ فلم ينهنا.
وغايته أن جابرا لم يعلم بالنهي، وقد علمه غيره.
وأما ما في " الصحيحين "، من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سألوه عن العزل: " ما عليكم أن لا تفعلوا؛ فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة ":
__________
(1) • في " المسند " (رقم 212) ، و " ابن ماجه " (1 / 295) من طريق إسحاق بن عيسى، عن ابن لهيعة؛ وهذا سند ضعيف من أجل ابن لهيعة.
وأخرجه البيهقي (7 / 231) ؛ إلا أنه وقع في اسم الراوي عن ابن لهيعة تحريف. (ن)
قلت: ولكن هذا من صحيح حديث ابن لهيعة؛ إذ إن إسحاق بن عيسى ممن لقي ابن لهيعة قبل احتراق كتبه؛ وعليه فالسند جيد.
وهذا ما انتهى إليه بحث شيخنا في رواية ابن لهيعة؛ وانظر " الصحيحة " (60 / 1158 / تحت الحديث 2971) .
(2) • وهو عنده موقوف؛ فلا حجة فيه. (ن)

(2/225)


فقد قيل: إن معناه النهي، وقيل (1) : إن معناه ليس عليكم أن تتركوا، وغايته الاحتمال، ولا يصلح للاستدلال.
وأخرج أحمد (2) ، والترمذي، والنسائي، بإسناد رجاله ثقات، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العزل -: " أنت تخلقه؟ {أنت ترزقه؟} أقرره قراره؛ فإنما ذلك القدر " (3) .
وأخرج أحمد، ومسلم، من حديث أسامة بن زيد: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) • وقد حكى الأقوال في ذلك الحافظ في " الفتح " (9 / 252) ؛ ومما نقله عن بعضهم في المنع قوله: " لا عليكم أن لا تفعلوا "؛ أي: لا حرج عليكم أن لا تفعلوا؛ ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل، فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل؛ لقال: لا عليكم أن تفعلوا؛ إلا إن ادعي أن (لا) زائدة؛ فيقال: الأصل عدم ذلك.
قلت: وهذا المعنى هو المتبادر، ويؤيده ما أخرج البخاري في (الحج) ، عن عروة، قال: سألت عائشة، فقلت لها: أرأيت قول الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه؛ كانت: (لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما)
فتأمله.
لكن قد يعكر عليه ما أخرجه أحمد (3 / 26 - 47) ؛ من طريق أبي الوداك، عن أبي سعيد في هذا الحديث: " واصنعوا ما بدا لكم؛ فإن قدر الله شيئا كان "؛ وإسناده على شرط مسلم، لكني أرى - والله أعلم - أن قوله: " اصنعوا ما بدا لكم " شاذ؛ لأنه تفرد به مجالد بن سعيد، ويونس بن عمرو أبي إسحاق السبيعي، وفيهما ضعف من قبل الحفظ، وقد خالفهما علي بن أبي طلحة عند مسلم (4 / 159) ، وأبو إسحاق السبيعي عند أحمد (3 / 49 - 59 - 93) ؛ فلم يذكروا هذه الزيادة.
ويؤيده أن الحديث في " الصحيحين "، و " المسند " (3 / 49، 53، 57، 93) ؛ من طرق عن أبي سعيد بدونها؛ فثبت شذوذها؛ وراجع البيهقي (7 / 229) . (ن)
(2) • (3 / 53) . (ن)
(3) حديث ضعيف؛ كما بينه شيخنا في " ظلال الجنة " (رقم 369) .

(2/226)


-: " لم تفعل ذلك؟ "، فقال: أشفق على ولدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان ضارا ضر فارس والروم ".
وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، وتعقب بأن الشافعية تقول: إنه لا حق للمرأة في الجماع.
أقول: وفي حديث أبي سعيد الذي أخرجه أهل " السنن " (1) ، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: زعموا أن العزل هو المؤودة الصغرى؟ فقال:
" كذبت يهود؛ لو أراد الله أن يخلق لم تستطع أن تصرفه ".
وأخرج نحوه النسائي، من حديث أبي هريرة، وجابر.
ويمكن الجمع بحمل الأحاديث القاضية بالمنع على مجرد الكراهة فقط من دون تحريم.
( [حرمة إتيان المرأة في دبرها] :)
(ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأهل " السنن "، والبزار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) • ليس هو عند ابن ماجه، وكذا النسائي في " الصغرى "، وقد عزاه إليه المنذري في " مختصره " (3 / 76) ؛ فلعله في " الكبرى " له.
وقد ذكر فيه أن في صحابي الحديث وتابعيه اختلافا، ولا يتسع المقام لبيان ذلك؛ فراجع " سنن أبي داود "، و " الترمذي " (2 / 193) ، و " البيهقي " (7 / 230) و " المسند " (3 / 33 - 51 - 53) .
لكن يشهد له حديث أبي هريرة، والظاهر أنه في " الكبرى " أيضا للنسائي؛ وهو عند البيهقي أيضا، وليس فيه: " لو أراد ... " وسنده حسن. (ن)

(2/227)


" ملعون من أتى امرأة في دبرها "، وفي إسناده الحارث بن مخلد، لا يعرف حاله (1) .
وأخرج أحمد، والترمذي، وأبو داود، من حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه؛ فقد كفر بما أنزل على محمد "؛ وفي إسناده أبو تميمة عنه، قال البخاري: لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة؛ وقال البزار: هذا حديث منكر.
وفي إسناده أيضا حكيم بن الأثرم (2) ، قال البزار: لا يحتج به، وما تفرد به فليس بشيء.
وأخرج أحمد، وابن ماجه، من حديث خزيمة بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها؛ وفي إسناده عمر (3) بن أحيحة، وهو مجهول.
وفي الباب عن علي بن طلق عند أحمد (4) ، والترمذي، والنسائي، وابن
__________
(1) • " التقريب ". (ن)
(2) • قلت: لفظة (ابن) مقحمة، وإنما هو حكيم الأثرم؛ وهو ثقة كما قال جماعة.
وحديثه هذا صحيح لا علة فيه؛ وإعلال البخاري بما ذكر غير مقبول على قواعد الجمهور؛ كما بينت ذلك في " نقد التاج " قبيل " الصلاة " (رقم 119) . (ن)
(3) • عمرو. (ن)
قلت: وانظر " إرواء الغليل " (7 / 67 - 68) ؛ فقد بين فيه أن (عمرو بن أحيحة) ؛ صحابي، أو تابعي ثقة.
(4) • رقم (655) ، وفيه مسلم بن سلام الحنفي؛ لم يوثقه غير ابن حبان، وفي " التقريب ":

(2/228)


ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تأتوا النساء في أعجازهن - أو قال: في أدبارهن - "؛ ورجال إسناده ثقات.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أحمد (1) ، والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته في دبرها: " هو اللوطية الصغرى ".
وفي الباب أحاديث، وبعضها يقوي بعضا.
وحكي عن بعض أهل العلم الجواز؛ واستدلوا بقوله - تعالى -: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} ؛ والبحث طويل لا يتسع المقام لبسطه.
أقول: كان اليهود يضيقون في هيئة المباشرة من غير حكم سماوي، وكان الأنصار ومن وليهم يأخذون سنتهم، وكانوا يقولون (2) : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فنزلت هذه الآية؛ أي: أقبل وأدبر
__________
" مقبول ".
ومن طريقه الترمذي (2 / 205) ؛ إلا أنه جعله من مسند علي بن طلق - وحسنه -، وكذلك رواه عن ابن طلق النسائي، كما في " الترغيب " (3 / 201) ، والدارمي (1 / 261) .
وأما ابن ماجه؛ فمن حديث خزيمة من طريق أخرى عنه (1 / 594) ، وكذا الدارمي. (ن)
(1) • في " المسند " رقم (6707، 6967، 6968) ؛ من طريق قتادة: ثنا عمرو ... به، وهذا سند حسن.
ومن الغرائب قول المنذري والهيثمي بعد أن نسباه لأحمد والبزار: " ورجالهما رجال الصحيح "؛ نقله المعلق على " المسند "؛ وأقرهما!
وأما النسائي؛ فلم يروه في " الصغرى "؛ فالظاهر أنه في " الكبرى " له. (ن)
(2) • رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وأبو داود. (ن)

(2/229)


ما كان في صمام واحد، وذلك لأنه لا شيء تتعلق به المصلحة المدنية والملية، والإنسان أعرف بمصلحة خاصة نفسه، وإنما كان ذلك من تعمقات اليهود، فكان من حقه أن ينسخ.
قال في " إعلام الموقعين ": " وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة من الأنصار عن وطء المرأة في قبلها من ناحية دبرها؟ فتلا عليها قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} : " صماما واحدا "؛ ذكره أحمد.
وسأله صلى الله عليه وسلم عمر فقال: يا رسول الله {هلكت} قال: وما أهلكك؟ " قال: حولت رحلي البارحة، فلم يرد عليه شيئا، فأوحى الله تعالى إلى رسوله: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} : " أقبل وأدبر؛ واتق الحيضة والدبر "؛ ذكره أحمد (1) ، والترمذي.
وهذا هو الذي أباحه الله تعالى ورسوله، وهو الوطء من الدبر لا في الدبر ". انتهى.
أقول: هذه النصوص المذكورة فيها مقالات لأئمة الحديث، ولكن لها طرق عن جماعة من الصحابة، وهي منتهضة بمجموعها (2) ؛ على فرض أن
__________
(1) • في " المسند " (6 / 305) ، والبيهقي أيضا (7 / 195) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم.
ورواه الترمذي (4 / 75) مختصرا؛ وقال: " حديث حسن صحيح ".
وأما الحديث الذي بعده فهو في " المسند " (رقم 2703) ، و " الترمذي " (4 / 75 - 76) ؛ وقال: " حديث حسن غريب ".
قلت: وفيه يعقوب بن عبد الله القمي، وهو صدوق يهم؛ كما في " التقريب "، ومن طريقه رواه البيهقي (7 / 198) ، وصححه الحافظ في " الفتح " (8 / 153) . (ن)
(2) • ونحوه في " الفتح " (8 / 154) (ن) .

(2/230)


معنى قوله - تعالى -: {أنى شئتم} : أين شئتم.
فإن كل ما في هذه الأحاديث من المقالات لا يبلغ بواحد منها إلى حد السقوط عن درجة الاعتبار، وقد استوفى الماتن - رحمه الله - البحث في " النيل " واستوفاه الجلال في " ضوء النهار "، وساق الأدلة برصانة ومتانة - رحمه الله -.
وأعظم ما يستشكل في المقام: ما صح عن ابن عمر من طرق (1) : أنه قرأ: {نساؤكم حرث لكم} ، فقال: تدري يا نافع! فيم أنزلت هذه الآية؟ قال: لا، قال: في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله سبحانه: {نساؤكم حرث لكم} .
لكنه قد وهمه حبر الأمة ابن عباس في ذلك؛ كما في " سنن أبي داود " (2) .
__________
(1) • ذكرها في " الفتح " (8 / 153) . (ن)
(2) • والبيهقي أيضا (7 / 195) ؛ من طريق محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ وقال البيهقي: " وروا أيضا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق، سمع أبان بن صالح ... فذكره ".
قلت: فإذا ثبت سماع ابن إسحاق منه؛ فالسند حسن.
وخلاصة رواية ابن عباس: أن الآية نزلت في إتيان النساء مقبلات ومدبرات في موضع الولد.
وقد قال ابن القيم في " تهذيب السنن " (3 / 78) :
" وهذا الذي فسر به ابن عباس؛ فسر به ابن عمر، وإنما وهموا عليه، ولم يهم هو "، ثم ذكر من رواية النسائي عن ابن عمر نحو ما ذكرنا عن ابن عباس، واستدل عليه برواية أخرى عنه؛ فراجعه فإنه مهم، ولولا ضيق المجال؛ لنقلت كلامه في ذلك برمته. (ن)

(2/231)


( [الفصل الرابع: الولد للفراش] :)
( [الدليل على أن الولد للفراش] :)
(والولد للفراش) ، وللعاهر الحجر، (ولا عبرة لشبهه بغير صاحبه) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الولد للفراش وللعاهر الحجر ".
وفيهما أيضا من حديث عائشة، قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله {إن ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله} ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبها بينا بعتبة، وقال: " هو لك يا عبد بن زمعة {الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة} ".
( [لمن ولد الأمة الموطوءة من ثلاثة في طهر واحد ملكها كل واحد منهم فيه؟] :)
(وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمة في طهر ملكها كل واحد منهم فيه، فجاءت بولد وادعوه جميعا؛ فيقرع بينهم، ومن استحقه بالقرعة فعليه للآخرين ثلثا الدية) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، من حديث زيد بن أرقم، قال: أتي علي وهو باليمن بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين، وقال: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، ثم سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، فجعل كلما سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا؛ فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي أصابته القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه.

(2/232)


وأخرجه النسائي، وأبو داود موقوفا على علي بإسناد أجود من الأول؛ لأن في الإسناد الأول يحيى بن عبد الله الكندي المعروف بالأجلح، وقد وثقه يحيى بن معين، والعجلي، وضعفه النسائي بما لا يوجب ضعفا (1) .
وقد أخذ بالقرعة مطلقا: مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور، حكى ذلك عنهم ابن رسلان في كتاب العتق من " شرح السنن "، وقد ورد العمل بها في مواضع؛ هذا منها.
أقول: القرعة قد صح الدليل باعتبارها؛ كما أوضحت ذلك في " ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي " وأوضحه الماتن في " شرح المنتقى "، فإذا أعوز الأمر، ولم يمكن التعيين بسبب من الأسباب الراجعة إلى ثبوت الفراش، أو البينة أو نحوهما؛ فإنه يرجع إلى القرعة؛ فقد اعتبرها صلى الله عليه وسلم في الإلحاق مع الاختلاف، واعتبرها في تعيين من يعتق؛ كما في حديث من أوصى بعتق ستة أعبد، فأقرع بينهم وأعتق اثنين وأرق أربعة، بعد أن جزأهم ثلاثة أجزاء، وأعتق الجزء الذي وقعت عليه القرعة، وورد أيضا غير ذلك.
فالحاصل: أن القرعة معتبرة شرعا في غير باب.
__________
(1) • قلت: ولذلك قال الحافظ في " التقريب ": " صدوق "؛ فالإسناد حسن؛ لولا أن فيه عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم؛ وهو في عداد المجهولين.
لكن قد أخرجه أبو داود (1 / 356) من طريق أخرى مرفوعا؛ خلافا لما يوهمه صنيع الشارح.
أخرجه من طريق عبد خير، عن زيد بن أرقم ... باللفظ الذي في الكتاب؛ مع اختلاف يسير؛ وسنده صحيح؛ رجاله كلهم ثقات، وصححه الحاكم (2 / 207) . (ن)

(2/233)