الدرر
البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية (الكتاب العاشر: كتاب البيوع)
(2/343)
(10 - كتاب
البيوع)
(1 - أنواع البيوع المحرمة)
( [المعتبر في صحيح البيع: رضا الطرفين] :)
(المعتبر فيه مجرد التراضي) ، وحقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى.
والمراد هنا: أمارته كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به.
وعلى هذا أهل العلم.
(ولو بإشارة) ، وينعقد بالكناية (من قادر على النطق) ؛ لكونه لم يرد ما يدل
على ما اعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها،
ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: بعت منك، وبعتك؛ فإنا لا ننكر أن
البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء،
وقد قال الله - تعالى -: {تجارة عن تراض} ، فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو
المناط.
ولا بد من الدلالة عليه بلفظ، أو إشارة، أو كناية بأي لفظ وقع، وعلى أي صفة
كان، وبأي إشارة مفيدة حصل، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل مال
امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه "، فإذا وجدت طيبة
(2/345)
النفس مع التراضي؛ فلا يعتبر غير ذلك.
أقول: هذا غاية ما يستفاد من الأدلة؛ أعني: أن المعتبر في البيع هو مجرد
التراضي، والمشعر بالرضا لا ينحصر فيما ذكروه من الألفاظ المخصوصة المقيدة
بقيود، بل ما أشعر بالرضا ولو بكناية، أو إشارة، أو معاطاة من دون لفظ ولا
ما في معناه؛ فإن البيع عند وجود المشعر بمطلق الرضا بيع صحيح، وعلى مدعي
الاختصاص الدليل.
ولا ينفعه في المقام مثل حديث: " إذا بعت "، وحكاية مبايعته - صلى الله
عليه وسلم - للأعرابي، وما أشبه ذلك؛ لأنا لا نمنع من إشعار لفظ: (بعت)
ونحوه بالرضا، وإنما نمنع دعوى التخصيص ببعض الأفراد التي لا تستفاد إلا من
صيغ مخصوصة، ومن ههنا يلوح لك أن قولهم: (لا ربا في المعاطاة) باطل، وهكذا
أخواته.
والحاصل: أنا لم نجد في الكتاب والسنة بعد ذكر مطلق البيع إلا قيد الرضا،
والأمور المشعرة به أعم من الألفاظ التي اصطلح عليها الفقهاء، فيندرج تحت
الرضا كل ما دل عليه؛ ولو إشارة من قادر، وكتابة من حاضر (1) .
( [أنواع البيوع المحرمة] :)
(1 -[بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام] :)
(ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)
؛ لحديث جابر في
__________
(1) • وقد أشبع القول في هذه المسألة ابن تيمية في " الفتاوى " (3 / 267 -
274 - خاتمة " إبطال التحليل ") . (ن)
(2/346)
" الصحيحين " وغيرهما: أنه سمع النبي - صلى
الله عليه وسلم - يقول: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام
".
(2 -[بيع الكلب والسنور] :)
(والكلب والسنور) ؛ لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي مسعود؛ قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب.
وفيهما (1) أيضا من حديث أبي جحيفة نحوه.
وفي " صحيح مسلم " (2) ، وغيره من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - نهى عن ثمن الكلب والسنور.
وأخرج النسائي بإسناد رجاله ثقات؛ قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- عن ثمن الكلب؛ إلا كلب صيد (3) .
__________
(1) لم يخرجه مسلم من حديث أبي جحيفة؛ بل حديث أبي جحيفة من أفراد البخاري؛
وانظر " المسند الجامع " (15 / 713) .
(2) • و " المسند " (3 / 286، 297، 339) . (ن)
(3) • قلت: أخرجه النسائي (2 / 231) ، والبيهقي (6 / 6) ؛ من طريق أبي
الزبير، عن جابر ... مرفوعا به، وهو على شرط مسلم، لكن أبو الزبير مدلس،
وقد عنعنه؛ وقد قال النسائي عقبه: " هذا منكر ".
وأعله البيهقي بأن قوله: " إلا كلب صيد " لم يرد في الأحاديث الصحيحة، قال:
" وإنما الاستثناء في الأحاديث الصحاح؛ في النهي عن الاقتناء ".
ثم الحديث رواه أحمد أيضا (3 / 317) .
وله شاهد من حديث أبي هريرة؛ رواه الترمذي (2 / 251) ، وقال: " لا يصح من
هذا الوجه ".
قلت: رواه البيهقي (6 / 6) من وجه آخر، عن أبي هريرة، وضعفه.
وله شاهد آخر من حديث ابن عمر، وسنده ضعيف أيضا، كما قال الحافظ.
فلعل هذا الاستثناء يقوى بهذه الطرق والشواهد، ثم خرجته في " الصحيحة "
(2971) . (ن)
(2/347)
قال في " المسوى ":
" اختلفوا في بيع الكلب؛ فقال الشافعي: حرام، وقال أبو حنيفة: جائز، ويضمن
متلفه ".
(3 -[بيع الدم] :)
(والدم (1)) ؛ لحديث أبي جحيفة في " الصحيحين "، قال: إن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - حرم ثمن الدم.
4 - ( [عسب الفحل] :)
(وعسب الفحل) : وهو ماء الفحل؛ يكريه صاحبه؛ لينزي به:
لما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
ثمن عسب الفحل.
ومثله في " صحيح مسلم " من حديث جابر.
وفي الباب أحاديث.
ورخص (2) في الكرامة؛ وهي ما يعطى على عسب الفحل؛ من غير شرط شيء عليه؛ كذا
في " الحجة البالغة ".
__________
(1) • وهو حرام إجماعا - أعني: بيع الدم،
وأخذ ثمنه -: " الفتح " (5 / 338) . (ن)
قلت: انظر التعليق (1) من الصفحة السابقة.
(2) • يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه حديث؛ رواه الترمذي (2 / 256) - وحسنه -؛ وسنده صحيح على شرط البخاري.
(ن)
(2/348)
(5 -[بيع
المحرم] :)
(وكل حرام) : لما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث جابر: قيل: يا رسول
الله {أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح
بها الناس؟ فقال: " لا، هو حرام "، ثم قال:
" قاتل الله اليهود} إن الله لما حرم شحومها؛ جملوه (1) ثم باعوه؛ وأكلوا
ثمنه ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود من حديث ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال:
" لعن الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم؛ فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله
إذا حرم على قوم أكل شيء؛ حرم عليهم ثمنه ".
قال ابن القيم في " الإعلام ":
" وفي قوله: " حرام " قولان:
أحدهما: أن هذه الأفعال حرام.
والثاني: أن البيع حرام؛ وإن كان المشتري يشتريه لذلك.
__________
(1) بفتح الجيم والميم المخففة؛ أي: أذابوه، والجميل: الشحم المذاب. (ش)
(2) • في " المسند " (رقم 2221) ، 2678) .
وله فيه (رقم 2980، 3373) حديث آخر في الخمر؛ بلفظ: " إن الذي حرم شربها
حرم بيعها ". (ن)
(2/349)
والقولان مبنيان على أن السؤال؛ هل وقع عن
البيع لهذا الانتفاع المذكور؟ أو عن الانتفاع المذكور؟ والأول اختاره
شيخنا، وهو الأظهر (1) ؛ لأنه لم يخبرهم أولا عن تحريم هذا الانتفاع حتى
يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع، فأخبروه أنهم
يبتاعونه لهذا الانتفاع، فلم يرخص لهم في البيع، ولم ينههم عن الانتفاع
المذكور، ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة، والله - تعالى - أعلم ".
انتهى.
قلت: والأقرب إلى السنة ما ذهب إليه الماتن.
(6 -[بيع فضل الماء] :)
(وفضل الماء) (2) ؛ لحديث إياس بن عبد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع فضل الماء؛ رواه أحمد (3) ، وأبو
داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -.
وقال القشيري: هو على شرط الشيخين.
ولحديث جابر عند مسلم، وأحمد، وابن ماجه بنحوه.
__________
(1) • بل هو الحق؛ لأن حديث جابر عند أحمد بلفظ: قال رجل: يا رسول الله!
فما ترى في بيع شحوم الميتة؛ فإنها تدهن بها السفن ... الحديث.
وسنده صحيح؛ وانظر " الفتح " (4 / 337) . (ن)
(2) • معناه: ما فضل عن حاجته، وعن حاجة عياله وماشيته وزرعه: " معالم
السنن " (5 / 122) . (ن)
(3) • في " المسند " (3 / 417) ؛ وزاد في آخره: قال: والناس يبيعون ماء
الفرات، فنهاهم - يعني: إياس بن عبد -.
وسنده صحيح. (ن)
(2/350)
وقد ورد مقيدا في " الصحيحين " من حديث أبي
هريرة مرفوعا بلفظ: " لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ ".
وفي لفظ: " لا يباع فضل الماء ليمنع به الكلأ "؛ وهو في " مسلم ".
(7 -[بيع الغرر] :)
(وما فيه غرر كالسمك في الماء) ، وهو استتار عاقبة الشيء، وتردده بين جهتين
ممكنتين؛ كبيع الطير في الهواء، والسمك في الماء؛ لحديث أبي هريرة عند
مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع الغرر.
وأخرج أحمد من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تشتروا السمك في الماء؛ فإنه غرر " (1) .
وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد رجح البيهقي وقفه، ولكنه داخل في بيع
الغرر.
قال في " المسوى ":
" قال مالك: ومن الغرر والمخاطرة: أن يعمد الرجل قد ضلت دابته، أو أبق
غلامه، وثمن شيء من ذلك خمسون دينارا، فيقول رجل: أنا آخذه منك بعشرين
دينارا؛ فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون دينارا، وإن لم يجده ذهب
البائع من المبتاع بعشرين دينار.
__________
(1) حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف الجامع " لشيخنا
(2/351)
قال مالك: وفي ذلك أيضا عيب آخر؛ أن تلك
الضالة إن وجدت؛ لم يدر زادت أم نقصت، أم ما حدث بها من العيوب؟ {وهذا أعظم
المخاطرة.
قال مالك: والأمر عندنا: أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث
من النساء والدواب؛ لأنه لا يدري أيخرج أم لا يخرج؟} فإن خرج لم يدر أيكون
حسنا، أم قبيحا، أم تاما، أم ناقصا، أم ذكرا، أم أنثى؟ ! وذلك كله يتفاضل؛
إن كان على كذا فقيمته كذا، وإن كذا فقيمته كذا ". انتهى (1) .
(8 -[بيع حبل الحبلة] :)
(وحبل الحبلة (2)) : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ كما في " مسلم "،
وغيره من حديث ابن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع حبل الحبلة؛ أخرجه مالك.
__________
(1) • قال النووي: " النهي عن بيع الغرر أصل من أصول البيع، فيدخل تحته
مسائل كثيرة جدا، ويستثنى من بيع الغرر أمران: أحدهما: ما يدخل في المبيع
تبعا، فلو أفرد لم يصح بيعه، والثاني: ما يتسامح بمثله؛ إما لحقارته، أو
للمشقة في تمييزه وتعيينه.
فمن الأول: بيع أساس الدار، والدابة التي في ضرعها لبن، والحامل، ومن
الثاني: الجبة المحشوة، والشرب من السقاء ".
قال: " وما اختلف العلماء فيه مبني على اختلافهم في كونه حقيرا، أو يشق
تمييزه، أو تعيينه، فيكون الغرر فيه كالمعدوم، فيصح البيع، وبالعكس ": "
الفتح " (4 / 284) .
وقد فصل ابن تيمية القول فيما يجوز من الغرر في فصل عقده في " القواعد
النورانية " (ص 115 - 137) ، فراجعه؛ فإنه نفيس جدا. (ن) .
(2) • " بالتحريك: مصدر سمي به المحمول؛ كما سمي بالحمل، وإنما دخلت عليه
التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه، فالحبل الأول يراد به ما في بطون النوق
من الحمل، والثاني حبل الذي في بطون النوق، وإنما نهي عنه لمعنيين: أحدهما:
أنه غرر وبيع شيء لم يخلق بعد، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في
بطن الناقة - على تقدير أن تكون أنثى، فهو بيع نتاج النتاج ": نهاية. (ن)
(2/352)
وفي " الصحيحين ": كان أهل الجاهلية
يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة - وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في
بطنها، ثم تحمل التي نتجت -؛ فنهاهم عن ذلك.
وقد قيل: إنه بيع ولد الناقة الحامل في الحال.
وقيل: بيع ولد ولدها؛ كما في الرواية.
وقد ورد النهي عن شراء ما في بطون الأنعام؛ كما في حديث أبي سعيد عند أحمد،
وابن ماجه، والبزار، والدارقطني، وفي إسناده شهر بن حوشب، وفيه ضعف.
وروى مالك؛ عن سعيد بن المسيب، أنه قال:
لا ربا في الحيوان، وإنما نهي من الحيوان عن ثلاثة: عن المضامين،
والملاقيح، وحبل الحبلة؛ فالمضامين ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح ما في
ظهور الجمال.
قلت: وعليه أهل العلم.
قال محمد: هذه البيوع كلها مكروهة، ولا ينبغي مباشرتها؛ لأنها غرر عندنا.
وفي " المنهاج ":
" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حبل الحبلة - وهو نتاج النتاج؛ بأن
يبيع نتاج
(2/353)
النتاج أو بثمن إلى نتاج النتاج -، وعن
الملاقيح - وهي ما في البطون -، والمضامين - وهي ما في أصلاب الفحول - ".
(9 -[بيع المنابذة] :)
(والمنابذة) : أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه؛ على
غير تأمل، ويقول كل واحد منهما: هذا بهذا؛ فهذا الذي نهي عنه.
(10 -[بيع الملامسة] :)
(والملامسة) : أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره، ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه
ليلا ولا يعلم ما فيه؛ لحديث أبي سعيد في " الصحيحين "؛ قال: نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة في البيع.
وأخرج نحوه مالك في " الموطإ " من حديث أبي هريرة، وفسرهما بما تقدم.
ولفظ الماتن: الملامسة: لمس ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه،
والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر
ولا تراض؛ كذا في الرواية.
وفي الباب عن أنس عند البخاري.
قلت: وعليه أهل العلم.
قال [في] " المحلى ": " والبطلان فيهما لعدم الرؤية، أو عدم الصيغة (1) ،
__________
(1) قوله: " أو عدم الصيغة "؛ أي: بعت واشتريت. اه. (ش)
(2/354)
أو الشرط الفاسد؛ أي: لا خيار له إذا رآه
"؛ كذا في " المسوى ".
(11 -[بيع المجهول] :)
(وما في الضرع، والعبد الآبق، والمغانم حتى تقسم، والثمر حتى يصلح، والصوف
في الظهر، والسمن في اللبن) ؛ لحديث أبي سعيد - المتقدم - في النهي عن شراء
ما في بطون الأنعام؛ فإن فيه النهي عن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد
الآبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم.
وقد ورد النهي عن بيع المغانم حتى تقسم؛ من حديث ابن عباس عند النسائي، ومن
حديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود.
وقد ورد النهي عن بيع الثمر حتى يُطعم (1) ، والصوف على الظهر، واللبن في
الضرع، والسمن في اللبن؛ من حديث ابن عباس أيضا عند الدارقطني، والبيهقي؛
وفي إسناده عمر بن فروخ، وقد وثقه يحيى بن معين وغيره.
وأحاديث النهي عن بيع الغرر تشد من عضد جميع ما في هذه الروايات؛ لأن الغرر
يصدق على جميع هذه الصور.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها؛ نهى البائع والمبتاع.
وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي هريرة.
__________
(1) أي: يكون لها طعام؛ كما في " النهاية ".
(2/355)
وفي " الصحيحين " من حديث أنس نحوه.
قال مالك:
" الأمر عندنا في بيع البطيخ، والقثاء، والخربز (1) ، والخربز: أن بيعه -
إذا بدا صلاحه - حلال جائز، ثم يكون للمشتري ما ينبت حتى ينقطع ثمره ويهلك.
وليس في ذلك وقت مؤقت، وذلك أن وقته معروف، وربما دخلته العاهة، فقطعت
ثمرته قبل أن يأتي ذلك الوقت، فإذا دخلته العاهة بجائحة تبلغ الثلث فصاعدا؛
كان ذلك موضوعا عن الذي ابتاعه ".
(12 -[بيع المحاقلة] :)
(والمحاقلة) : بيع الزرع بكيل من الطعام معلوم.
قال مالك: المحاقلة كراء الأرض بالحنطة.
وقال في " المسوى ":
" المحاقلة: بيع الزرع بعد اشتداد الحب نقيا ".
(13 -[بيع المزابنة] :)
(والمزابنة) : بيع ثمر النخل بأوساق من التمر.
وقال مالك:
__________
(1) الخربز - بكسر الخاء والباء وبينهما راء ساكنة -: البطيخ؛ وأصل الكلمة
فارسي. (ش)
(2/356)
" المزابنة: اشتراء التمر بالتمر في رؤوس
النخل ".
وقال في " المسوى ":
" المزابنة: بيع الثمر على الشجر بجنسه على الأرض.
قال مالك: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، وتفسير
المزابنة: أن كل شيء من الجزاف الذي لا يُعلم كيله، ولا وزنه، ولا عدده؛
ابتيع بشيء مسمى من الكيل، والوزن، والعدد.
وذلك أن يقول الرجل للرجل؛ يكون له الطعام المصبر الذي لا يعلم كيله من
الحنطة والتمر، أو ما أشبه ذلك من الأطعمة، أو يكون للرجل السلعة من الخبط،
أو النوى، أو القضب، أو العصفر، أو الكرسف، أو الكتان، أو القز، أو ما أشبه
ذلك من السلع، لا يعلم كيل شيء من ذلك، ولا وزنه، ولا عدده، فيقول الرجل
لرب تلك السلعة: كِل سلعتك هذه، أو مر من يكيلها، أو زن من ذلك ما يوزن، أو
اعدد منها ما كان يعد؛ فما نقص من كذا وكذا صاعا - لتسمية يسميها -، أو وزن
كذا وكذا رطلا، أو عدد كذا وكذا؛ فما نقص من ذلك؛ فعلي غرمه حتى أوفيك تلك
التسمية، فما زاد على تلك التسمية فهو لي؛ أضمن ما نقص من ذلك على أن يكون
لي ما زاد.
فليس ذلك بيعا؛ ولكنه المخاطرة، والغرر والقمار يدخل هذا؛ لأنه لم يشتر منه
شيئا بشيء أخرجه، ولكن ضمن له ما سمى من ذلك الكيل أو الوزن أو العدد؛ على
أن يكون له ما زاد على ذلك، فإن نقصت تلك السلعة
(2/357)
من تلك التسمية؛ أخذ من مال صاحبه ما نقص
بغير ثمن أعطاه إياه، وإن زادت تلك السلعة على تلك التسمية؛ أخذ الرجل من
مال رب السلعة مالا بغير ثمن ولا هبة، طيبة بها نفسه؛ فهذا يشبه القمار.
وما كان مثل هذا من الأشياء؛ فذلك يدخله.
قلت في " شرح السنة ": والعمل على هذا عند عامة أهل العلم.
والعلة في النهي: أن المساواة بينهما شرط، وما على الشجر لا يحرز بكيل ولا
وزن، وإنما يكون تقديره بالخرص، وهو حدس وظن لا يؤمن فيه من التفاوت.
فأما إذا باع بجنس آخر من الثمار على الأرض أو على الشجر؛ يجوز؛ لأن
المماثلة بينهما غير شرط، والتقابض شرط في المجلس، وقبض ما على الأرض
بالنقل، وقبض ما على الشجر بالتخلية.
أقول: ومعنى هذا الكلام: أن سبب التحريم هو شبه الربا، ومعنى قول مالك؛ أن
سبب التحريم معنى القمار، وكلا الأمرين صحيح ". انتهى.
(14 -[بيع المعاومة] :)
(والمعاومة) : بيع ثمر النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد، والجميع بيع غرر
وجهالة.
(15 -[بيع المخاضرة] :)
(والمخاضرة) : بيع الثمرة خضراء قبل بدو صلاحها.
(2/358)
دليل ذلك: حديث أنس عند البخاري، قال: نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمخاضرة، والمنابذة،
والملامسة، والمزابنة.
وفي " الصحيحين " من حديث جابر، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
المحاقلة، والمزابنة، والمعاومة.
وفي الباب أحاديث.
(16 -[بيع العربون] :)
(والعربون) : هو أن يعطي المشتري البائع درهما أو نحوه قبل البيع؛ على أنه
إذا ترك الشراء كان الدرهم للبائع بغير شيء؛ لما أخرجه أحمد، والنسائي،
وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهى النبي صلى الله
عليه وسلم عن بيع العربون.
ولا يعارض هذا ما أخرجه عبد الرزاق في " مسنده " عن زيد بن أسلم: أنه سئل
النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان (1) في البيع؟ فأحله؛ لأن في إسناده
إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف؛ وأيضا الحديث مرسل.
قال في " المسوى ":
" قال مالك: وذلك فيما نرى - والله تعالى أعلم -: أن يشتري الرجل العبد، أو
الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشتراه منه، أو تكارى
__________
(1) العربون والعربان؛ بضم العين فيهما. (ش)
قلت: والحديث الوارد في النهي عن العربان: ضعفه شيخنا في " ضعيف الجامع "
(6073) ، وغيره.
وقد وقفت للحديث على طرق؛ لم أفرغ لنقدها ودراستها.
(2/359)
منه: أعطيتك دينارا، أو درهما، أو أقل، أو
أكثر من ذلك؛ على أني إن أخذت السلعة، أو ركبت ما تكاريت منك؛ فالذي أعطيتك
من ثمن السلعة، أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة، أو كراء
الدابة؛ فما أعطيتك فهو لك بغير شيء.
قلت: وعليه أهل العلم.
في " المنهاج ": ولا يصح بيع العربون؛ بأن يشتري ويعطيه دراهم لتكون من
الثمن إن رضي السلعة؛ وإلا فهي هبة.
قال [في] " المحلى " (1) : وعدم صحته لاشتماله على شرط الرد، والهبة إن لم
يرض السلعة ". انتهى.
(17 -[بيع العصير إلى من يتخذه خمرا] :)
(والعصير إلى من يتخذه خمرا) ؛ لحديث: " لُعن بائع الخمر، وشاربها،
ومشتريها، وعاصرها "؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه، ورجاله ثقات؛ من حديث أنس.
وأخرج نحوه أحمد، وابن ماجه، وأبو داود؛ وفي إسناده عبد الرحمن ابن عبد
الله الغافقي (2) ، وقد قيل: إنه غير معروف. وقيل: إنه معروف، وهو
__________
(1) أي: قال ابن حزم في " المحلى ". (ش)
(2) • قلت: لكنه عند أبي داود مقرون بأبي علقمة - مولاهم -، وهو ثقة من
رجال مسلم، وبقية رجال الحديث ثقات رجال مسلم، فالحديث صحيح الإسناد، فلا
يضر رواية الغافقي له، بل يقويه؛ لأنه متابعة.
وقد أشار لهذا الحافظ؛ حيث قال في ترجمته من " التقريب ": " مقبول ".
وقد قال ابن تيمية: " إنه حديث جيد؛ وهو من رواية ابن عمر ". (ن)
(2/360)
من أمراء الأندلس؛ وصحح الحديث ابن السكن.
وأخرج الطبراني في " الأوسط "، عن بريدة، مرفوعا:
" من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه؛ من يهودي، أو نصراني، أو ممن يتخذه
خمرا؛ فقد تقحم النار على بصيرة "؛ وإسناده حسن، كما قال الحافظ (1) .
وأخرجه أيضا البيهقي، وزاد: " أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرا ".
ويؤيده حديث أبي أمامة عند الترمذي (2) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:
" لا تبيعوا القينات المغنيات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة
فيهن، وثمنهن حرام ".
وفي الباب أحاديث.
وأخرج مالك، عن ابن عمر: أن رجالا من أهل العراق قالوا له: يا أبا عبد
الرحمن {إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب؛ فنعصره خمرا فنبيعها؟ فقال عبد
الله بن عمر: إني أشهد الله عليكم وملائكته، ومن سمع من الجن والإنس؛ أني
لا آمركم أن تبيعوها، ولا تبتاعوها، ولا تعصروها، ولا تسقوها؛ فإنها رجس من
عمل الشيطان.
__________
(1) • وفيه نظر؛ فقد قال الهيثمي بعد أن عزاه ل " الأوسط " (4 / 90) : "
وفيه عبد الكريم بن عبد الكريم، قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب ".
ولعل الحافظ حسنه اعتمادا على توثيق ابن حبان لعبد الكريم هذا، كما نقله في
" اللسان "، ولا يخفى أن توثيق ابن حبان وحده متكلم فيه، كما بينه الحافظ
في مقدمة " لسانه "} (ن)
(2) ولا يصح. (ن)
(2/361)
قلت: وعليه أهل العلم.
(18 -[بيع المعدوم بالمعدوم] :)
(والكالئ بالكالئ) أي: المعدوم بالمعدوم؛ لحديث ابن عمر عند الدارقطني،
والحاكم - وصححه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ
بالكالئ.
ولكنه اعترض على الحاكم بأنه وهم في تصحيحه؛ لأن في إسناده موسى بن عبيدة،
وهو ضعيف (1) .
ولكنه قد رواه الشافعي، بلفظ: " نهى عن الدَّين بالدَّين ".
ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج: أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الكالئ بالكالئ؛ دين بدين؛ وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي (2)
، وهو ضعيف، وقد قال أحمد فيه: لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا
الحديث عن غيره.
وقال: " ليس في هذا أيضا حديث يصح، ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع
دين بدين ". انتهى.
يعني: روي الإجماع على معنى الحديث، فشد ذلك من عضده؛ لأنه صار متلقى
بالقبول، ويؤيده النهي عن بيع الملاقيح، والمضامين، وحبل الحبلة؛
__________
(1) • قلت: والصواب أن يقال: وهم الحاكم في إسناده؛ فإنه قال: " موسى بن
عقبة "، وهذا ثقة، ولكن قد خطأه تلميذه البيهقي في " السنن " (5 / 290) ،
وقال: " إنما هو موسى بن عبيدة ". (ن)
(2) • " الربذي ": نسبة إلى (الربذة) ؛ مدفن أبي ذر الغفاري قرب المدينة،
كما في " القاموس ". (ن)
(2/362)
لأن العلة في ذلك هي كونه بيع معدوم.
وتقويه أيضا الأحاديث الواردة في اشتراط التقابض؛ كحديث: " إذا كان يدا بيد
"، وهو في " الصحيح "، وحديث: " ما لم تتفرقا وبينكما شيء ".
(19 -[بيع السلعة قبل قبضها] :)
(وما اشتراه قبل قبضه) ؛ لحديث جابر عند مسلم، وغيره، قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -:
" إذا ابتعت طعاما؛ فلا تبعه حتى تستوفيه ".
وأخرج مسلم - أيضا - وغيره، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع
السلع حتى تستوفى.
وأخرج أحمد من حديث حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "
إذا اشتريت شيئا؛ فلا تبعه حتى تقبضه "؛ وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي
(1) .
وأخرج أبو داود (2) ، والدارقطني، والحاكم، وابن حبان - وصححاه - من
__________
(1) وثقه ابن حبان، وكذبه التبوذكي. (ش)
• قلت: وابن حبان تناقض فيه؛ فإنه ذكره في " الضعفاء " أيضا؛ وقال: " لا
يحل ذكره إلا بالقدح "، ولذلك جزم الحافظ في " التقريب " بضعفه.
لكن الحديث صحيح؛ فإن له شاهدا من حديث ابن عباس؛ أخرجه أبو داود (2 / 104)
؛ وسنده صحيح.
ثم رأيت حديث حكيم في " البيهقي " (5 / 313) ؛ من طريق أخرى - وحسنه -. (ن)
(2) • في " السنن " (2 / 104) ، و " المستدرك " (2 / 40) ، والبيهقي أيضا
(5 / 314) ؛ ورجالهم ثقات؛ لكن فيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه.
لكن تابعه جرير بن حازم عند الدارقطني (294) ؛ فثبت الحديث. (ن)
(2/363)
حديث زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع؛ حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
وفي الباب أحاديث، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وفي " الحجة البالغة ":
" قيل: مخصوص بالطعام؛ لأنه أكثر الأموال تعاورا وحاجة، ولا ينتفع به إلا
بإهلاكه، فإذا لم يستوفه؛ فربما تصرف فيه البائع، فيكون قضية في قضية.
وقيل: يجري في المنقول؛ لأنه مظنة أن يتغير ويتعيب، فتحصل الخصومة في
الخصومة.
وقال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله.
وهو الأقيس بما ذكرنا في العلة ". انتهى.
قال في " المسوى ":
" قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا - الذي لا اختلاف فيه -: أنه من اشترى
طعاما؛ برا، أو شعيرا، أو سلتا، أو ذرة، أو دخنا، أو شيئا من الحبوب
القطنية، أو شيئا مما يشبه القطنية مما تجب فيه الزكاة، أو شيئا من الأدم
كلها: الزيت، والسمن، والعسل، والخل، والجبن، واللبن، والشبرق، وما أشبه
ذلك من الأدم؛ فإن المبتاع لا يبيع شيئا من ذلك؛ حتى يقبضه ويستوفيه ".
(2/364)
وفي " شرح السنة ":
" اتفق أهل العلم على أن من ابتاع طعاما؛ لا يجوز له بيعه قبل القبض،
واختلفوا فيما سواه:
فقال الشافعي، ومحمد: لا فرق بين الطعام، والسلع، والعقار في أن بيع شيء
منها لا يجوز قبل القبض.
قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يجوز بيع العقار قبل القبض، ولا يجوز بيع
المنقول.
وقال مالك: ما عدا المطعوم؛ يجوز بيعه قبل القبض.
قلت: كان الأمراء يكتبون للناس بأرزاقهم وعطياتهم كتبا، وكان الناس يبيعون
ما فيها قبل أن يقبضوها، ويعطون المشتري الصك ليمضي به ويقبضه؛ فذلك بيع
الصكوك ". انتهى.
(20 -[بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان]
:)
(والطعام حتى يجري فيه الصاعان) ؛ لحديث عثمان عند أحمد، والبخاري (1) : أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
__________
(1) • إطلاق العزو إليه يفيد أنه أخرجه موصولا؛ وليس كذلك؛ فإنما أخرجه (4
/ 274) معلقا.
وقد وصله أحمد رقم (444) ، وابن ماجه، والبيهقي (5 / 315) ، وسنده صحيح،
وإن كان فيه ابن لهيعة؛ فقد رواه عنه عبد الله بن يزيد المقري، وابن
المبارك، والليث بن سعد.
وله طريق أخرى عن عثمان عند الدارقطني، والبيهقي.
وقد أشار الحافظ إلى تقوية الحديث؛ فراجع " الفتح ". (ن)
(2/365)
" إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل ".
وأخرج ابن ماجه (1) ، والدارقطني، والبيهقي، من حديث جابر، قال: نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع،
وصاع المشتري؛ وفي إسناده ابن أبي ليلى.
وفي الباب عن أبي هريرة بإسناد حسن (2) ، وعن غيره بأسانيد فيها مقال.
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
(21 -[بيع الثنيا] :)
(ولا يصح الاستثناء في البيع) ؛ مثل أن يبيع عشرة أفراق إلا شيئا؛ لأن فيه
جهالة مفضية إلى المنازعة، والمفسد هو المفضي إلى المنازعة.
(إلا إذا كان معلوما) ؛ لحديث جابر عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى
__________
(1) • (2 / 27) . (ن)
(2) • كذلك قال الحافظ في " الفتح " (4 / 279) .
لكن قال الهيثمي في " المجمع " (4 / 99) : " رواه البزار؛ وفيه مسلم بن أبي
مسلم الجرمي؛ ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
قلت: مسلم - هذا - له ترجمة في " تاريخ بغداد " (13 / 100) ؛ وقال: " وكان
ثقة "، وأورده ابن حبان في " الثقات "؛ وقال: " ربما أخطأ "؛ كما نقله
الحافظ في " اللسان "؛ وذكر له حديثا برواية البيهقي؛ وقال: " إنه غير قوي
"، فقال الحافظ: " قلت: وليس في إسناده من ينظر فيه؛ غير مسلم هذا ".
قلت: فهذا يدل على أن الحافظ أحفظ للرجال من شيخه الهيثمي.
وهذا الحديث رواه البيهقي أيضا (5 / 316) ، وذكر له شاهدا مرسلا؛ وقال: "
إنه قوي بطرقه ". (ن)
(2/366)
عن بيع الثنيا.
وزاد النسائي، والترمذي، وابن حبان - وصححاه -: " إلا أن تعلم " (1) .
والمراد: أن يبيع شيئا ويستثني منه شيئا مجهولا - لا إذا كان معلوما -؛
فيصح.
(ومنه) ؛ أي: من الثنيا المعلومة (استثناء) جابر (ظهر المبيع) ؛ أي: جمله
إلى المدينة؛ بعد أن باعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في " الصحيحين
"، وغيرهما من حديثه.
قال النووي في " شرح مسلم ":
" الثنيا المبطلة للبيع: قوله: بعتك هذه الصبرة إلا بعضها، أو هذه الأشجار
إلا بعضها؛ فلا يصح البيع؛ لأن المستثنى مجهول.
ولو قال: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة، أو إلا ربعها، أو الصبرة إلا
ثلثها، أو بعتك بألف إلا درهما: صح البيع باتفاق العلماء.
ولو باع الصبرة إلا صاعا منها؛ فالبيع باطل عند الشافعي.
وصحح مالك أن يستثني منها ما لا يزيد على ثلثها، وإذا باع ثمرة نخلات
واستثنى عشرة آصع للبائع؛ فمذهب الشافعي، وأبي حنيفة، والعلماء كافة: بطلان
البيع.
__________
(1) وصحح الزيادة الإمام النووي في " شرح صحيح مسلم ".
(2/367)
وقال مالك، وجماعة من علماء المدينة: يجوز
ذلك؛ ما لم يزد على قدر ثلث الثمرة ".
(22 -[البيع المفرق بين المحارم] :)
(ولا يجوز التفريق بين المحارم) ؛ لحديث أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول:
" من فرق بين والدة وولدها؛ فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ".
أخرجه أحمد، والترمذي، والدارقطني، والحاكم وصححه.
وحديث علي: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين؛ فبعتهما
وفرقت بينهما، فذكرت ذلك له؛ فقال: " أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا
جميعا ".
أخرجه أحمد، وقد صححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم
(1) .
وحديث أبي موسى، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد
وولده، وبين الأخ وأخيه (2) .
أخرجه ابن ماجه، والدارقطني، ولا بأس بإسناده.
وحديث علي: أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن
ذلك،
__________
(1) حديث صحيح بطرقه؛ انظر " غوث المكدود " (575) .
(2) ضعفه شيخنا في " أحاديث البيوع ".
(2/368)
وردّ البيع (1) .
أخرجه أبو داود، والدارقطني، والحاكم - وصححه -؛ وقد أعل بالانقطاع.
وفي الباب أحاديث.
وقد قيل: إنه مجمع على ذلك؛ وفيه نظر.
أقول: الاختلاف في هذه المسألة - أعني: بيع أمهات الأولاد بين الصحابة -
أشهر من نار على علم، وروي عن علي - كرم الله وجهه - الموافقة لعمر ومن معه
في عدم جواز بيعهن، ثم صح عنه القول بجواز البيع.
وقد ذكر الماتن في " شرح المنتقى " متمسكات الجميع، فليرجع إليه.
والعجب ممن يزعم أن تحريم البيع قطعي.
وأما المدبر؛ فقد دلت الأدلة الصحيحة على جواز بيعه للحاجة؛ كالدَّين،
والإعواز عن النفقة، ونحوهما.
(23 -[بيع الحاضر للباد] )
(ولا أن يبيع حاضر لباد) (2) ؛ لحديث ابن عمر، قال: نهى النبي صلى الله
عليه وسلم أن
__________
(1) يشهد له ما قبله من الأحاديث.
(2) • أي: سواء كان بأجرة أم لا؛ كما صرح في " النيل " (9 / 140) ؛ قال:
" وكما لا يجوز أن يبيع الحاضر للباد؛ كذلك لا يجوز أن يشتري له، وبه قال
ابن سيرين والنخعي "، وراجع تمام كلامه فيه. (ن)
(2/369)
يبيع حاضر لباد؛ أخرجه البخاري.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا
يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ".
وفي " الصحيحين " من حديث أنس، قال: نهينا أن يبيع حاضر لباد؛ وإن كان أخاه
لأبيه وأمه.
قلت: وعليه أهل العلم.
وفي " المنهاج ":
" بيع حاضر لباد؛ بأن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه؛ ليبيعه بسعر يومه،
فيقول بلديّ: اتركه عندي لأبيعه على التدريج ".
وفي " الوقاية ":
" كره بيع الحاضر للبادي؛ طمعا في الثمن الغالي زمان القحط ". انتهى.
(24 -[بيع النجش] :)
(والتناجش) : وهو الزيادة في ثمن السلعة عن مواطأة؛ لرفع ثمنها.
وعن ابن عمر عند مالك، قال: النجش: أن تعطيه في السلعة أكثر من ثمنها، وليس
في نفسك اشتراء، فيقتدي بك غيرك.
وفي " الصحيحين "، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع
حاضر لباد، وأن يتناجشوا
(2/370)
وفيهما من حديث ابن عمر، قال: نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن النجش.
وأخرجه مالك أيضا.
قلت: وعليه أهل العلم.
وفي " المنهاج ": " ومن المنهي عنه: النجش؛ بأن يزيد في الثمن لا لرغبة؛ بل
ليخدع غيره فيشتريها ".
وفي " الوقاية ": " كره النجش ".
(25 -[بيع المسلم على المسلم] :)
(والبيع على البيع) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد، والنسائي، أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ".
وهو في " الصحيحين " أيضا بنحو ذلك.
وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا: " لا يبيع الرجل على بيع أخيه ".
وقد ورد أن: " من باع من رجلين؛ فهو للأول منهما " (1) .
أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه -، وصححه أبو زرعة،
وأبو حاتم، والحاكم.
وفي " الموطإ " من حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
لا يبع
__________
(1) حديث ضعيف؛ كما في " الإرواء " (1853) .
(2/371)
بعضكم على بعض ".
قلت: وعليه الشافعي.
وفي " المنهاج ":
" ومن المنهي عنه: البيع على بيع غيره قبل لزومه؛ بأن يأمر المشتري بالفسخ
ليبيعه مثله، والشراء على الشراء؛ بأن يأمر البائع بالفسخ ليشتريه بأكثر ".
وفي " شرح السنة ":
" عند الحنفية: المراد بالبيع على بيع أخيه: هو السوم؛ لأن عنده؛ خيار
المكان لا يثبت بالبيع، فلا يتصور بعد التواجب بيع الغير عليه ".
(26 -[الشراء من الركبان] :)
(وتلقي الركبان) ؛ بأن يتلقى طائفة يحملون متاعا إلى البلد، فيشتريه منهم
قبل قدومهم ومعرفتهم بالسعر، وله الخيار إذا عرف الغبن؛ كذا في " المنهاج
"؛ لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن
يُتلقى الجلب، فإن تلقاه إنسان فابتاعه؛ فصاحب السلعة فيها بالخيار؛ إذا
ورد السوق.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن مسعود، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
تلقي البيوع.
وفيهما أيضا نحو ذلك من حديث ابن عمر، وابن عباس.
(2/372)
وفي " الموطإ " من حديث أبي هريرة، أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تلقوا الركبان للبيع، ولا يبع بعضكم
على بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم ".
قلت: وعليه أهل العلم.
( [احتكار الطعام حرام] :)
(والاحتكار) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد (1) ، والحاكم، وابن أبي شيبة،
والبزار، وأبي يعلى مرفوعا: " من احتكر الطعام أربعين ليلة؛ فقد برئ من
الله وبرئ الله منه ". وفي إسناده أصبغ بن زيد، وفيه مقال (2) .
وأخرج مسلم (3) ، وغيره من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا: " لا يحتكر إلا
خاطئ ".
__________
(1) • رقم (4880) . (ن)
(2) • وقال الذهبي في " التلخيص " (2 / 12) : " فيه لين ". (ن)
قلت: وحديثه - هذا - موضوع؛ كما في " الضعيفة " (858 - 859) .
ومال شيخنا في " غاية المرام " (رقم 324) إلى ضعفه فحسب؛ لا إلى وضعه.
(3) • في " صحيحه " (5 / 56) ، وفي لفظ له: " من احتكر فهو خاطئ ".
وقد ذكره المنذري في " الترغيب " (3 / 26) بزيادة: " طعاما "، ثم عزاه
لمسلم، وأبي داود، والترمذي، وصححه ابن حبان، وابن ماجه، قال: ولفظهما،
قال: " لا يحتكر إلا خاطئ ".
وفيه وهمان:
الأول: أن اللفظ الثاني رواية لمسلم أيضا، وهو رواية أبي داود (2 / 98) ،
وليست عنده الأولى.
الوهم الثاني: أن الزيادة المذكورة ليست عند مسلم ولا عند أحمد ممن خرج
الحديث، وهو عند ابن ماجه (2 / 7) ، والترمذي (2 / 253) ، والبيهقي (6 / 29
- 30) ، و " المسند " (3 / 453، 6 / 400) . (ن)
(2/373)
وأخرج نحوه أحمد، والحاكم من حديث أبي
هريرة (1) .
قلت: وعليه أهل العلم.
قال النووي في " شرح مسلم ":
" قال أصحابنا: الاحتكار المحرم: هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن
يشتري الطعام في وقت الغلاء، ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه.
فأما إذا اشتراه، أو جاء من قرية وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت
الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في الوقت؛ فليس باحتكار، ولا
تحريم فيه.
وأما غير الأقوات؛ فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال؛ هذا تفصيل مذهبنا ".
وفي " الهداية ":
" يكره الاحتكار في أقوات الآدمي والبهائم؛ إذا كان ذلك في بلد يضر
الاحتكار بأهله، ومن احتكر غلة ضيعته أو جلبه من بلد آخر؛ فليس بمحتكر ".
أقول: الحق: أن الأحاديث المطلقة في تحريم الاحتكار مقيدة بالطعام (2) ،
__________
(1) • قلت: ولفظه في " المستدرك " (2 / 12) ، وعند البيهقي (6 / 30) : " من
احتكر يريد أن يغالي بها على المسلمين؛ فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله "؛
سكت عليه، وتعقبه الذهبي بأن فيه إبراهيم بن إسحاق العسيلي، كان يسرق
الحديث، والمنذري (3 / 28) بأن فيه مقالا.
ثم إن عزوه ل " المسند " فيه نظر؛ فإني لم أجده عنده، ولم ينسبه إليه
المنذري، ولا الحافظ في " القول المسدد " (ص 21) . (ن)
(2) • قلت: فيه نظر؛ فإن الأحاديث التي فيها قيد الطعام لا يصح فيها شيء؛
مثل حديث ابن عمر المتقدم، وحديث أبيه عمر - المذكور في " الترغيب " (3 /
26 - 27) -؛ فإنه ضعيف، مجهول، كما بينته فما علقته عليه.
وعلى فرض صحة شيء منها؛ فقد أجاب الشوكاني بأن لفظ الطعام في بعض الروايات
لا يصلح
(2/374)
فلا يصح ما قيل من تحريم احتكار قوت
البهائم؛ والقياس له على قوت الآدمي قياس مع الفارق.
ولا يكون الاحتكار محرما إلا إذا كان لقصد أن يغلي ذلك على المسلمين - كما
ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد والحاكم -؛ فاعتبار هذا القيد لا بد منه،
فمن لم يقصد ذلك؛ لم يحرم عليه الاحتكار.
وظاهره: أن القاصد باحتكاره غلاء الأسعار على المسلمين داخل تحت النهي
والوعيد؛ سواء كان بالمسلمين حاجة أم لا؛ لأن هذا القصد بمجرده كاف.
أما إجبار المحتكر على البيع فجائز - إن لم يكن واجبا -؛ لأنه من باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان على كل مكلف.
( [التسعير جائز عند الحاجة] :)
(والتسعير) ؛ لحديث أنس عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه،
والدارمي، والبزار، وأبي يعلى: أن السعر غلا على عهد رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! سعر لنا؛ فقال: " إن الله هو المسعر
القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى الله، وليس أحد منكم يطالبني
بمظلمة في دم ولا مال "؛ وصححه ابن حبان، والترمذي.
__________
لتقييد بقية الروايات المطلقة؛ بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي
يطلق عليها المطلق؛ وذلك لأن نفي الحكم عن غير الطعام؛ إنما هو لمفهوم
اللقب؛ وهو غير معمول به عن الجمهور، وما كان كذلك؛ لا يصلح للتقييد، على
ما تقرر في الأصول.
وهذا هو التحقيق الحقيق بالقبول؛ فراجع كلامه في " النيل " (5 / 188) . (ن)
(2/375)
وفي الباب أحاديث.
وفي " الهداية ":
" ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس؛ فإن كان أرباب الطعام يتحكمون،
ويتعدون في القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا
بالتسعير؛ فحينئذ لا بأس به؛ بمشورة من أهل الرأي والبصر ". انتهى.
( [وضع الجوائح] :)
(ويجب وضع الجوائح) ؛ الجائحة: الآفة
التي تهلك الثمار والأموال؛ لحديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وضع الجوائح؛ أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود.
وأخرجه أيضا مسلم بلفظ: أمر بوضع الجوائح.
وفي لفظ لمسلم، وغيره: " إن كنت بعت من أخيك ثمرا، فأصابتها جائحة؛ فلا يحل
لك أن تأخذ منه شيئا؛ بم تأخذ مال أخيك؟ ! ".
وفي الباب عن عائشة في " الصحيحين ".
وعن أنس فيهما أيضا.
وقد ذهب إلى ذلك: الشافعي، وأبو حنيفة، والليث، وسائر الكوفيين.
قلت: وهو عند أبي حنيفة على الاستحباب، وعند الشافعي في القديم
(2/376)
على الوجوب، وفي الجديد على الاستحباب.
( [لا يصح سلف وبيع] :)
(ولا يحل سلف وبيع) ؛ قال مالك:
" وتفسير ذلك: أن يقول الرجل للرجل: آخذ سلعتك بكذا وكذا؛ على أن تسلفني
كذا وكذا، فإن عقدا بيعهما على هذا؛ فهو غير جائز، فإن ترك الذي اشترط
السلف ما اشترط منه؛ كان ذلك البيع جائزا ".
قلت: وعليه أهل العلم.
وفي " شرح السنة ":
" هو أن يقول: أبيعك هذا الثوب بعشرة دراهم؛ على أن تقرضني عشرة دراهم؛
والمراد بالسلف هنا القرض، فهذا فاسد؛ لأنه جعل العشرة وفق القرض ثمنا
للثوب، فإذا بطل الشرط سقط بعض الثمن، وصار ما يبقى من المبيع بمقابلة
الباقي مجهولا " (1) .
قال الماتن: قال مالك (2) : هو - أي: السلف هنا - أن تقرض قرضا، ثم تبايعه
عليه بيعا يزداد عليه، وهو فاسد؛ لأنه إنما تقرضه على أن تحابيه في الثمن.
__________
(1) • لعل الأولى في التعليل قول ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 149) :
" فلأنه إذا أقرضه مئة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمئة؛ فقد جعل هذا
البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع
لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك ".
وهذا التعليل إنما يتمشى على تفسير السلف بما قاله مالك؛ كما لا يخفى! (ن)
(2) • في " النيل " (5 / 152) أنه أحمد لا مالك. (ن)
(2/377)
وقد يكون السلف بمعنى السلم، وذلك مثل أن
تقول: أبيعك عبدي هذا بألف؛ على أن تسلفني ماله في كذا وكذا.
( [لا يصح شرطان في بيع] :)
(ولا شرطان في بيع) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو، أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا
بيع ما ليس عندك ".
أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وكذلك صححه ابن
خزيمة، والحاكم.
والشرطان في بيع؛ أن يقول: بعتك هذا بألف إن كان نقدا، وبألفين إن كان
نسيئة (1) .
وقيل: هو أن يقول: بعتك ثوبي بكذا؛ وعلي قصارته وخياطته.
وفي " الحجة البالغة ":
" ومعنى الشرطين: أن يشترط حقوق البيع، ويشترط شيئا خارجا منها؛ مثل أن
يهبه كذا، أو يشفع له إلى فلان، أو إن احتاج إلى بيعه لم
__________
(1) • وفسره ابن القيم بأن يبيعه السلعة بعشرة إلى أجل؛ على أن يشتريها منه
نقدا بأقل منها، وهو بيع العينة الآتي في الكتاب.
وبهذا أيضا فسر حديث أبي هريرة الآتي قريبا: " من باع بيعتين في بيعة؛ فله
أوكسهما أو الربا "، وحمل أحد الشرطين على العقد نفسه؛ لأنهما تشارطا على
الوفاء به فهو مشروط ... الخ كلامه؛ فراجعه في " التهذيب " (5 / 144) . (ن)
(2/378)
يبع إلا منه، ونحو ذلك.
فهذان شرطان في صفقة واحدة ".
( [لا يصح بيعتان في بيعة] :)
(ولا بيعتان في بيعة) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، والنسائي، وأبي داود،
والترمذي - وصححه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة.
ولفظ أبي داود: " من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما أو الربا ".
وأخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود؛ قال: نهى النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن صفقتين في صفقة.
قال سماك: هو الرجل يبيع البيع؛ فيقول: بنسء كذا؛ وبنقد كذا.
ورجاله رجال الصحيح.
وما ذكره سماك: هو معنى البيعتين في بيعة، وقد تقدم تفسير الشرطين في بيعة
بمثل هذا؛ وليس بصحيح؛ بل المراد بالشرطين في بيعة: أن البيع واحد شرط فيه
شرطان، وهنا البيع بيعان.
قلت: وفي " شرح السنة ": " فسروا البيعتين في بيعة على وجهين:
أحدهما: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدا؛ أو بعشرين نسيئة إلى سنة، فهو
فاسد عند أكثر أهل العلم.
(2/379)
فإذا باعه على أحد الأمرين في المجلس؛ فهو
صحيح لا خلاف فيه.
والآخر: أن يقول: بعتك عبدي هذا بعشرين ديناراً؛ على أن تبيعني جاريتك؛
فهذا فاسد؛ لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارا، وشرط بيع الجارية، وذلك شرط
لا يلزم، وإذا لم يلزم ذلك؛ بطل بعض الثمن، فيصير ما بقي من المبيع في
مقابلة الباقي مجهولا.
أما إذا جمع بين شيئين في صفقة واحدة؛ بأن باع دارا وعبدا بثمن واحد؛ فهو
جائز، وليس من باب البيعتين في بيعة، إنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين ".
وأما بيع الشيء بأكثر من سعر يومه مؤجلا (1) ؛ فأقول: الزيادة على سعر يوم
البيع ليست من الربا في ورد ولا صدر؛ لأن الربا زيادة أحد المتساويين على
الآخر، ولا تساوي بين الشيء وثمنه مع اختلاف جنسهما، فلا يصح أن يكون تحريم
هذه الصورة لكونها ربا.
فإن قيل: إن تحريمها لكون الزيادة في مقابل التنفيس بالأجل فقط؛ فلا يخفى
أن تحريم مثل ذلك مفتقر إلى دليل، والمسألة محتملة للبسط، وقد أفردها
الماتن برسالة مستقلة سماها " شفاء العلل " في حكم الزيادة لأجل الأجل ".
ولكن يمكن الاستدلال لهذا المنع بما أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي -
وصححه - (2) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) • وأفتى السيد رشيد رضا في " المنار " (27 / 584) بأنه جائز وليس من
الربا المحرم، والله أعلم. (ن)
(2) • وكذا الحاكم (2 / 45) . (ن)
(2/380)
-: " من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما
أو الربا ".
وبما أخرجه أحمد، والبزار، والطبراني في " الكبير "، و " الأوسط " عن سماك،
عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: نهى النبي صلى الله
عليه وسلم عن صفقتين في صفقة.
قال سماك: هو الرجل يبيع المبيع، فيقول: هو بنساء كذا؛ وهو بنقد كذا.
قال في " مجمع الزوائد ": " رجال أحمد ثقات ".
فهذان الحديثان قد دلا على أن الزيادة لأجل النساء ممنوعة، ولهذا قال: "
فله أوكسهما أو الربا ".
والأعيان التي هي غير ربوية داخلة في عموم الحديثين.
وقد ذهب الجمهور إلى جواز بيع الشيء بأكثر من بيع يومه لأجل النساء،
ونازعوا في دلالة الحديثين المذكورين على محل النزاع.
(وربح ما لم يضمن) ؛ لما تقدم في دليل: " لا يحل سلف وبيع "، وهو أن يبيع
شيئا لم يدخل في ضمانه؛ كالبيع قبل القبض.
( [لا يصح بيع ما ليس عند البائع] :)
(وبيع ما ليس عند البائع) ؛ لحديث حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله!
يأتيني الرجل؛ فيسألني عن البيع ليس عندي؛ أبيعه منه ثم أبتاعه
(2/381)
من السوق؟ فقال: " لا تبع ما ليس عندك ".
أخرجه أحمد، وأهل " السنن " (1) - وصححه الترمذي - وابن ماجه -.
والمراد بقوله: " ما ليس عندك ": أي: ما ليس في ملكك وقدرتك.
وفي معنى بيع ما ليس عنده: أن يبيع مال غيره بغير إذنه؛ لأنه غرر؛ لا يدري
هل يجيزه غيره أو لا؟ وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الفضولي، ويكون موقوفا على إجازة المالك.
وبيع القطوط - عند أهل العلم -؛ لا يجوز؛ حتى تصل إلى من كتبت له فيملك، ثم
يبيع.
والقط: الصك؛ ومنه قوله - تعالى -: {عجل لنا قطنا} .
( [جواز خيار الشرط] :)
(ويجوز بشرط عدم الخداع) ؛ لحديث ابن عمر (2) في " الصحيحين "، قال: ذكر
رجل (3) لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُخدع في البيوع؟ فقال: " من
بايعت؛ فقل: لا خلابة ".
__________
(1) • منهم أبو داود (2 / 105) ، وابن ماجه (2 / 16) ، ولم يصححه كما أوهم
المصنف، وإن كان الحديث عندهم صحيحا على شرط الشيخين. (ن)
(2) • له شاهد من حديث أنس عند الحاكم (4 / 101) ، وابن حبان، وأصحاب "
السنن "، وغيرهم؛ وهو مخرج في " أحاديث البيوع ". (ن)
(3) • هو حبان بن منقذ، كما في رواية للدارقطني (ص 311) . (ن)
(2/382)
وفي الباب أحاديث.
والخلابة: الخديعة، وظاهره أن من قال بذلك ثبت له الخيار؛ سواء غبن أو لم
يغبن (1) .
( [ثبوت خيار المجلس] :)
(والخيار في المجلس ثابت ما لم يتفرقا) ؛ لحديث حكيم بن حزام في " الصحيحين
"، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ".
وفيهما أيضا نحوه من حديث ابن عمر.
وأيضا في " الموطإ " من حديث ابن عمر بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: " المتبايعان؛ كل واحد منهما بالخيار على صاحبه؛ ما لم يتفرقا؛
إلا بيع الخيار ".
وفي الباب أحاديث.
وقد ذهب إلى إثبات خيار المجلس جماعة من الصحابة؛ منهم: علي
__________
(1) • قلت: هذا غير ظاهر، وإنما الظاهر من الحديث الخيار مع الغبن، وإنما
يدل لما استظهره المؤلف حديث آخر بلفظ: " إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم
أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال؛ إن رضيت فأمسك، وإن سخطت
فارددها على صاحبها "؛ أخرجه ابن ماجه (2 / 61) ، والدارقطني (ص 312) ؛ من
طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان ... مرسلا، وقد صرح ابن إسحاق
بالتحديث عند الدارقطني؛ فإنما علة الحديث الإرسال.
وقد رواه ابن إسحاق أيضا، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، ولكنه قد عنعنه، وقد
صرح بالتحديث في رواية، لكن ليس فيها قوله: " ثم أنت في كل سلعة ... "؛
رواه الدارقطني، لكنها عند البيهقي بسند حسن؛ فانظر " الصحيحة " (2874) ،
فثبت الحديث والحمد لله، وقد ثبته المؤلف فيما يأتي. (ن)
(2/383)
وأبو برزة الأسلمي، وابن عمر، وابن عباس،
وأبو هريرة، وغيرهم.
ومن التابعين: شريح، والشعبي، وطاوس، وعطاء، وابن أبي مليكة؛ نقل ذلك عنهم
البخاري.
ونقل ابن المنذر القول به أيضا: عن سعيد بن المسيب، والزهري، وابن أبي ذئب
من أهل المدينة، وعن الحسن البصري، والأوزاعي، وابن جريج، وغيرهم.
وبالغ ابن حزم فقال: لا يعرف لهم مخالف من التابعين؛ إلا النخعي وحده.
وحكاه صاحب " البحر " أيضا عن الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
وذهب الحنفية والمالكية وغيرهم إلى أنها إذا وجبت الصفقة؛ فلا خيار (1) .
والحق: القول الأول.
__________
(1) • قلت: وحمل هؤلاء التفرق في الحديث على التفرق بالأقوال، وهذا يبطله
بعض ألفاظ الحديث مثل: " ... ما لم يتفرقا، فكانا جميعا ... "؛ أخرجه أحمد
رقم (6006) ، والشيخان، و: " من اشترى بيعا، فوجب له؛ فهو بالخيار ما لم
يفارقه صاحبه؛ إن شاء أخذ وإن شاء فارقه، فلا خيار له "؛ رواه الدارقطني
(290) ، والحاكم (2 / 14) - وصححه، وافقه الذهبي؛ وهو كما قالا -، ورواه
البيهقي أيضا (5 / 270) من حديث ابن عمر وابن عباس معا، وأخرجه الدارقطني
(310) ، وعنه البيهقي (/ 271 5) من حديث ابن عمر، بلفظ: " حتى يتفرقا من
مكانهما. . ".
وهذا ما فهمه رواة الحديث من الصحابة؛ فروى الطحاوي (2 / 202 - 203) عن أبي
برزة: أنهم اختصموا إليه في رجل باع جارية - وفي رواية: فرسا -، فنام معها
البائع، فلما أصبح قال: لا أرضاها، فقال أبو برزة: إن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "؛ وكانا في خباء شعر؛ وسنده
صحيح.
وقال ابن عمر: كنا إذا تبايعنا؛ [كان] كل واحد منا بالخيار؛ ما لم يتفرق
المتبايعان، قال: فتبايعت أنا وعثمان، فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر،
قال: فلما بعته طفقت أنكص القهقرى؛ خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن
أفارقه؛ أخرجه الدارقطني (291) ، والبخاري نحوه. (ن)
(2/384)
(2 - باب الربا)
( [حكمه] :)
قال الله - تعالى -: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله
البيع وحرم الربا} ، وقال: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} ، وقال: {وذروا
ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}
.
واتفق أهل العلم أن الربا من الكبائر، وأنه إذا وقع هذا العقد فهو باطل،
ولا يجب إلا رد رأس المال، وإن كان ذو عسرة فحكمه
الإنظار إلى الميسرة.
أقول: هذا الحكم يستفاد من كتاب الله - تعالى -، قال - عز وجل -: {وإن تبتم
فلكم رؤوس أموالكم} ، ومفهوم الشرط يدل على جواز أخذ مال المربي مع عدم
التوبة، ويستدل بهذه الآية أيضا على جواز أخذ ما ربح المربي من الربا، وهو
ما زاد على رأس ماله؛ سواء تاب أو لم يتب.
فالحاصل: أن يجوز أخذ جميع ماله: الربح ورأس المال؛ مع عدم التوبة، ويجوز
أخذ الربح فقط معها.
( [أصول الربويات] :)
(يحرم بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير
(2/385)
بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح،
إلا مثلا بمثل يدا بيد) ، فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا
كان يدا بيد، والستة الأجناس المذكورة هي المنصوص عليها في الأحاديث.
كحديث أبي سعيد بلفظ: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير
بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح: مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو
ازداد فقد أربى (1) ؛ الآخذ والمعطي فيه سواء ".
وهو في " الصحيح "، وسائر الأحاديث في " الصحيحين "، وغيرهما هكذا؛ ليس
فيها إلا ذكر الستة الأجناس.
وفي " الحجة البالغة ":
" وتفطن الفقهاء أن الربا المحرم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها،
وأن الحكم متعد منها إلى كل ملحق بشيء منها ".
__________
(1) • زاد البيهقي (5 / 286) في رواية: " وكل ما يكال أو يوزن "، وفيه حبان
بن عبيد الله العدوي أبو زهير؛ قال البيهقي عقب الحديث: " تكلموا فيه "،
وتعقبه ابن التركماني بنقول عن الأئمة في توثيقه؛ فإن الحاكم أخرجه، وقال:
" صحيح الإسناد "؛ ولم أجده الآن في " المستدرك "؛ ثم وجدته (2 / 42 - 43)
.
ويشهد له حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
استعمل رجلا على خيبر، فجائهم بتمر جنيب، فقال: " أكل تمر خيبر هكذا؟ "،
قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، أو الصاعين بالثلاثة، فقال: " لا
تفعل، بع الجميع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا "، وقال في الميزان مثل
ذلك؛ رواه البخاري، وكذا الطحاوي في " المشكل " (2 / 122) ، والبيهقي (5 /
585) .
وقال ابن تيمية في " المنتقى ": " وهو حجة في جريان الربا في الموزونات
كلها؛ لأنه قوله: " في الميزان "؛ أي: في الموزون؛ وإلا فنفس الميزان من
أموال الربا ".
ويشهد له أيضا حديث عبادة، وأنس الآتي في الكتاب، ويأتي بيان ما فيه. (ن)
(2/386)
في " شرح السنة ":
" اتفق العلماء على أن الربا يجري في هذه الأشياء الستة التي نص الحديث
عليها.
وذهب عامتهم إلى أن حكم الربا غير مقصور عليها بأعيانها؛ إنما ثبت لأوصاف
فيها، ويتعدى إلى كل ما يوجد فيه تلك الأوصاف.
وذهبوا إلى أن الربا ثبت في الدراهم والدنانير بوصف؛ وفي الأشياء الأربعة
بوصف آخر.
ثم اختلفوا في ذلك الوصف؛ فقال الشافعي: ثبت في الدراهم والدنانير بوصف
النقدية، وقال أبو حنيفة: بعلة الوزن، حتى إن الربا يجري في الحديد والنحاس
والقطن.
وقال الشافعي في القديم: ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الطعم مع الكيل
والوزن؛ كما قال سعيد بن المسيب.
وفي الجديد: ثبت فيها بوصف الطعم فقط، وأثبت في جميع الأشياء المطعومة مثل
الثمار، والفواكه، والبقول، والأدوية.
وإنما قال ذلك في الجديد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " الطعام بالطعام مثلا
بمثل "؛ علق الحكم باسم الطعام، فدل على أن مأخذ الاشتقاق علة.
وقال أبو حنيفة: ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الكيل؛ حتى إن الربا يجري في
الجص والنورة ".
(2/387)
وسيأتي ما يدفع ذلك كله.
( [بيان ما يلحق بأصول الربويات] :)
(وفي إلحاق غيرها بها خلاف) ؛ هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة غيرها، فيكون
حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء؛ مع الاتفاق في الجنس، أو تحريم
النساء فقط؛ مع الاختلاف في الجنس والاتفاق في العلة؟
فقالت الظاهرية: إنه لا يلحق بها غيرها.
ورجحه في " سبل السلام " (1) ؛ وقال:
" قد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميناها: (القول المجتبى) ".
انتهى.
وتفصيل ذلك في " مسك الختام ".
وذهب من عداهم إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة، واختلفوا في العلة ما
هي؟ فقيل: الاتفاق في الجنس والطعم، وقيل: الجنس والتقدير بالكيل والوزن
والاقتيات، وقيل: الجنس ووجوب الزكاة، وقيل: الجنس والتقدير بالكيل والوزن.
وقد يستدل لمن قال بالإلحاق بما أخرجه الدارقطني (2) ، والبزار، عن
__________
(1) • وكذا المقبلي في " العلم الشامخ " (ص 715) . (ن)
(2) • في " سننه " (ص 296) ؛ من طريق أبي بكر بن عياش، عن الربيع بن صبيح،
عن الحسن، عن عبادة، وأنس ... به، ثم قال: " لم يروه غير أبي بكر، عن
الربيع هكذا، وخالفه جماعة؛ فرووه
(2/388)
الحسن؛ من حديث عبادة وأنس، أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل
ذلك؛ فإذا اختلف النوعان فلا بأس به ".
قد أشار إلى هذا الحديث صاحب " التلخيص " ولم يتكلم عليه، وفي إسناده
الربيع بن صبيح؛ وثقه أبو زرعة وغيره، وضعفه جماعة، قال أحمد: لا بأس به،
وقال يحيى بن معين - في رواية عنه -: ضعيف، وفي أخرى: ليس به بأس، وربما
دلس، وقال ابن سعد والنسائي: ضعيف، وقال أبو زرعة: شيخ صالح، وقال أبو
حاتم: رجل صالح. انتهى.
ولا يلزم من وصفه بالصلاح أن يكون ثقة في الحديث (1) ، وقال في " التقريب
": " صدوق سيئ الحفظ ".
__________
عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة، وأنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛
بلفظ غير هذا اللفظ ".
قلت: وأبو بكر بن عياش ثقة؛ إلا أنه لما كبر ساء حفظه؛ كما في " التقريب "؛
فلا يحتج به عند المخالفة، ومثله الربيع بن صبيح؛ فإنه صدوق سيئ الحفظ،
وللحديث علة أخرى، وهي عنعنة الحسن - وهو البصري -؛ فقد كان مدلسا على
جلالته، ولفظ البزار كما في " المجمع " (4 / 115) : " الذهب بالذهب مثلا
بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل "؛ وهذا كما ترى يخالف لفظ الدارقطني،
ويوافق لفظ الحديث الصحيح المتقدم الذي لا دليل فيه على الإلحاق المذكور،
فعزوه لفظ الدارقطني تبعا للشوكاني (5 / 164) للبزار لا يخفى ما فيه!
لكن يشهد للحديث حديث أبي سعيد في رواية البيهقي، وسندها حسن على أقل
الدرجات، كما تقدم بيانه قريبا؛ مع ما يشهد له من حديث أبي سعيد وأبي هريرة
معا، الذي ذكرته آنفا. (ن)
(1) • قلت: الظاهر أن المحدثين لا يريدون بهذه اللفظة: " صالح " المعنى
المتبادر منها فقط؛ بل يريدون أنه صالح في الرواية أيضا، ألا ترى أن الذهبي
ذكر في مقدمة " الميزان " أن من العبارات التي تقال في الرواة المقبولين: "
صويلح " - هكذا مصغرا - فمن قيل فيه: " صالح " - مكبرا - فهو بالقبول أحرى،
أقول هذا تحريرا للمراد من هذه اللفظة؛ وإلا فالربيع - هذا - قد عرفت ضعفه
من قبل حفظه، لكن الحديث حسن أو صحيح لغيره. (ن)
(2/389)
ولا يخفاك أن الحجة لا تقوم بمثل هذا
الحديث؛ لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم؛ فإنه حكم بالربا الذي هو من أعظم
معاصي الله - سبحانه وتعالى - على غير الأجناس التي نص عليها رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وذلك يستلزم الحكم على فاعله بأنه مرتكب لهذه المعصية التي
هي من الكبائر ومن القطعيات الشرعية.
ومع هذا؛ فإن هذا الإلحاق قد ذهب إليه الجمع الجم والسواد الأعظم، ولم
يخالف في ذلك إلا الظاهرية فقط.
وهذا الحديث - كما يدل على إلحاق غير الستة بها -؛ كذلك يدل على أن العلة
الاتفاق في الكيل والوزن؛ مع اتحاد الجنس.
ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس: حديث ابن عمر في "
الصحيحين "، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع
الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا،
وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام؛ نهى عن ذلك كله.
وفي لفظ لمسلم: وعن كل ثمر بخرصه.
فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب (1) ؛ ورواية مسلم تدل
على أعم من ذلك.
ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في " الموطإ "، عن سعيد بن
__________
(1) • هذه الدلالة غير ظاهرة؛ بل المراد من النهي ما فيه من الغرر، كما سبق
في الكتاب عن مالك.
نعم؛ بيع ثمر النخل بالتمر كيلا فيه الأمران؛ الغرر والربا؛ فتأمل!
وبالجملة؛ فلا دليل في الحديث على الإلحاق المذكور. (ن)
(2/390)
المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن بيع اللحم بالحيوان.
وأخرجه أيضا الشافعي، وأبو داود في " المراسيل "، ووصله الدارقطني في "
الغريب عن مالك "، عن الزهري، عن سهل بن سعد، وحكم بضعفه، وصوب الرواية
المرسلة، وتبعه ابن عبد البر.
وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار، وفي إسناده ثابت بن زهير، وهو ضعيف.
وأخرجه أيضا من رواية أبي أمية بن يعلى عن نافع أيضا، وأبو أمية ضعيف.
وله شاهد أقوى منه؛ من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم (1) ، والبيهقي،
وابن خزيمة.
ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة، عند الترمذي في رخصة
العرايا؛ وفيه: وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمر بخرصه (2) .
ومما يدل على أن المعتبر الاتفاق في الوزن: حديث أبي سعيد عند أحمد، ومسلم،
بلفظ: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق؛ إلا
__________
(1) • في " المستدرك " (2 / 35) ، و " البيهقي " (5 / 288) ؛ وأعله بالخلاف
في سماع الحسن من سمرة.
وسيأتي لفظ الحديث في الكتاب، ويأتي تحقيق القول فيه هناك؛ إن شاء الله
تعالى. (ن)
(2) • هذا في الدلالة؛ مثل حديث ابن عمر في " الصحيحين "، وقد ذكرنا آنفا
ما فيها. (ن)
(2/391)
وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء ".
وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي من حديث أبي هريرة: " الذهب بالذهب وزنا بوزن
مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل ".
وعند مسلم، والنسائي، وأبي داود، من حديث فضالة بن عبيد، عن النبي صلى الله
عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب؛ إلا وزنا بوزن ".
ومما ورد في اعتبار الكيل: حديث ابن عمر المتقدم وفيه: " وإن كان كرما أن
تبيعه بزبيب كيلا "، وما سيأتي قريبا من النهي عن بيع الصبرة لا يعلم
كيلها.
أقول: أما اختلاف مثبتي القياس في علة الربا؛ فليس على شيء من هذه الأقوال
حجة نيرة، إنما هي مجرد تظننات وتخمينات؛ انضمت إليها دعاوى طويلة بلا
طائل.
هذا يقول: العلة التي ذهب إليها ساقه إلى القول بها مسلك من مسالك العلة
كتخريج المناط.
والآخر يقول: ساقه إلى ما ذهب إليه مسلك آخر كالسبر والتقسيم.
ونحن لا نمنع كون هذه المسالك تثبت بمثلها الأحكام الشرعية؛ بل نمنع اندراج
ما زعموه علة في هذا المقام تحت شيء منها، فما أحسن الاقتصار على نصوص
الشريعة؛ وعدم التكليف بمجاوزتها، والتوسع في تكليفات العباد بما هو تكليف
محض.
(2/392)
ولسنا ممن يقول بنفي القياس؛ لكنا نقول
بمنع التعبد به فيما عدا العلة المنصوصة، وما كان طريق ثبوته فحوى الخطاب.
وليس ما ذكروه ههنا من هذا القبيل؛ فليكن هذا المبحث على ذكر منك؛ تنتفع به
في مسائل كثيرة.
قال الماتن - رحمه الله - في كتابه " السيل الجرار ":
" ولا يخفاك أن ذكره صلى الله عليه وسلم للكيل والوزن في الأحاديث؛ لبيان
ما يتحصل به التساوي في الأجناس المنصوص عليها، فكيف كان هذا الذكر سببا
لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في
الأحاديث؟ {وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك؟} وأي مناط استفيد منها؛ مع العلم
أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي؛ كما قال: " مثلا بمثل سواء بسواء "؟ {
وأما الاتفاق في الجنس والطعم كما قال الشافعي، واستدلوا على ذلك بما ثبت
في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث معمر بن عبد الله، قال: كنت أسمع النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: " الطعام بالطعام مثلا بمثل "، وكان طعامنا يومئذ
الشعير؛ فأقول: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الطعام؛ فكان ماذا؟} وأي دليل
على أنه أراد بهذا الذكر الإلحاق؟ {وأي فهم يسبق إلى كون ذلك هو العلة
المعدية حتى تركب عليها القناطر وتبنى عليها القصور؟} ويقال: هذا دليل على
أن كل ما له طعم كان بيعه بما له طعم متفاضلا ربا! مع أن أول ما يدفع هذا
الاستدلال الذهب والفضة؛ اللذان هما أول منصوص عليه في الأحاديث المصرحة
بذكر الأجناس التي تحرم فيها الربا.
(2/393)
ومما يدفع القولين جميعا: أنه قد ثبت في
الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العدد؛ كما في حديث عثمان عند
مسلم بلفظ: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين "، وفي رواية من حديث أبي سعيد:
" ولا درهمين بدرهم "، ولا يعتبر العدد أحد من أهل هذين القولين، ولا من
غيرهم.
وقد وافقت المالكية الشافعي في الطعم، وزادت عليه الادخار والاقتيات؛
فوسعوا الدائرة بما ليس بشيء.
والحاصل (1) : أنه لم يرد دليل تقوم به الحجة على إلحاق ما عدا الأجناس
المنصوص عليها بها ".
( [لا ربا مع اختلاف الأجناس] :)
(فإن اختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يدا بيد) ؛ لما ثبت في " الصحيحين
" من حديث عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الذهب
بالذهب (2) ، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر،
والملح بالملح؛ مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف؛
فبيعوا كيف شئتم؛ إذا كان يدا بيد ".
__________
(1) • قلت: قد ذكرنا فيما تقدم حديثين تقوم الحجة بكل منهما إذا انفرد،
فكيف إذا اجتمعا؟ !
وقد أفادا أن العلة هي الوزن والكيل؛ وفيها كفاية، وإلى هذا ذهب شيخ
الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات "، فقال (ص 75) :
" والعلة في تحريم ربا الفضل؛ الكيل أو الوزن مع الطعم؛ وهو رواية عن أحمد
". (ن)
(2) • فائدة: قال في " الفتح " (4 / 302) : " ويدخل في الذهب جميع أصنافه؛
من مضروب ومنقوش، وجيد ورديء، وصحيح ومكسر، وحلي، وتبر خالص ومغشوش.
ونقل النووي - تبعا لغيره في ذلك - الإجماع ". (ن)
(2/394)
وفي الباب أحاديث.
( [لا يجوز بيع الشيء بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة] :)
(ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي) ؛ لما وقع في الأحاديث
الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم: " مثلا بمثل، سواء بسواء، وزنا بوزن
"؛ فإن هذا يدل على أنه لا يجوز بيع الشيء
بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة والمساواة، ومما يدل على ذلك حديث
جابر عند مسلم، وغيره، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
الصبرة من التمر - لا يعلم كيلها - بالكيل المسمى من التمر "؛ فإن هذا يدل
على أنه لا يجوز البيع إلا بعد العلم.
(وإن صحبه غيره) ؛ أي: لا تأثير لمصاحبة شيء آخر لأحد المثلين؛ لحديث فضالة
بن عبيد عند مسلم وغيره؛ قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا؛
فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " لا تباع حتى تفصل ".
وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف؛ منهم عمر بن الخطاب، وقال به الشافعي،
وأحمد، وإسحاق.
وذهب جماعة منهم الحنفية إلى جواز التفاضل؛ مع مصاحبة شيء آخر إذا كانت
الزيادة مساوية لما قابلها (1) .
__________
(1) • أو كانت أكثر من الذهب الذي في الشيء، كما نقله الخطابي في " المعالم
" (5 / 23) عن قول أبي حنيفة، وهو: " إن كان الثمن أكثر مما فيه من الذهب
جاز، وإن كان مثله أو أقل منه لم يجز ".
وقد نقل عنه اشتراط الأكثرية التركماني في " الجوهر النقي " (5 / 292) .
وهذا خلاف ما نقله الشارح عن الحنفية؛ فليحقق! (ن)
(2/395)
( [لا يجوز بيع
الشيء من المطعوم بجنسه أحدهما رطب والآخر يابس] :)
(ولا يبيع الرطب بما كان يابسا) ؛ لحديث ابن عمر المتقدم في النهي عن أن
يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب
كيلا، وكذلك حديث رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة - المتقدمان -.
وفي " الموطإ " (1) حديث سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل
عن اشتراء التمر بالرطب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب
إذا يبس؟ "، فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك.
قلت: وعليه الشافعي.
وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شيء من المطعوم بجنسه؛ أحدهما رطب
والآخر يابس؛ مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، وبيع اللحم الرطب
بالقديد، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وصاحبا أبي
حنيفة.
وجوزه أبو حنيفة (2) وحده، ورده بالمتشابه من قوله - تعالى -: {وأحل
__________
(1) • (2 / 128) ، وعنه البيهقي (5 / 294) ؛ وسنده صحيح، رجاله رجال
الشيخين غير زيد أبي عياش - وهو ابن عياش -، وهو صدوق؛ كما في " التقريب ".
وأخرجه أصحاب " السنن " - وصححه الترمذي، ثم الخطابي، ثم المنذري -؛ كما
بينه في " مختصر السنن " (5 / 33 - 35) .
وهو في " المستدرك " (2 / 38 - 43) . (ن)
(2) • وخالفه صاحبه الإمام محمد؛ فأخذ بالحديث؛ كما صرح به في " الموطإ "
(ص 331) . (ن)
(2/396)
الله البيع وحرم الربا} ، وبالمتشابه من
قياس في غاية الفساد، وهو قولهم: الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين؛ وإما أن
يكون جنسا واحدا، وعلى التقديرين؛ فلا يمنع بيع أحدهما بالآخر.
قال ابن القيم:
" وإذا نظرت إلى هذا القياس؛ رأيته مصادما للسنة أعظم مصادمة، ومع أنه فاسد
في نفسه - بل هما جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعا بنية -؛ فهو أزيد
أجزاء من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتميزها، ولا يمكن أن يجعل في مقابلة
تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال؛ إذ هو ظن وحسبان، فكان
المنع من بيع أحدهما بالآخر محض القياس، لو لم تأت به سنة، وحتى لو لم يكن
ربا، ولا القياس يقتضيه؛ لكان أصلا قائما بنفسه يجب التسليم والانقياد له،
كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة ". انتهى.
( [رخص صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا]
:)
(إلا لأهل العرايا) ؛ لحديث زيد بن ثابت عند البخاري، وغيره: أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا؛ أن تباع بخرصها كيلا.
وفي لفظ (1) في " الصحيح ": رخص في العرية يأخذها أهل البيت (2)
__________
(1) • هذا يوهم أنه من حديث زيد بن ثابت؛ وليس كذلك؛ وإنما هو من حديث سهل
بن أبي حثمة؛ كما في " البخاري " (4 / 309) . (ن)
(2) • الظاهر أنه الذي أعراها، ويحتمل أن يراد بالأهل من قصد إليه الشراء،
كما في " الفتح " (4 / 312) وغيره.
وعلى الأول؛ فهو دليل لقول مالك الآتي تفسير العرية، ولكنه لا ينفي أن يكون
غير هذه الصورة عرية؛ انظر " الفتح ". (ن)
(2/397)
بخرصها تمرا يأكلونها رطبا.
وأخرج أحمد (1) ، والشافعي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم من حديث
جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول - حين أذن لأهل
العرايا أن يبيعوها بخرصها -: " الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة ... ".
وفي الباب أحاديث.
والمراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للفقراء الذين لا نخل لهم أن
يشتروا من أهل النخل رطبا يأكلونه في شجرة بخرصه تمرا.
والعرايا: جمع عرية، وهي في الأصل: عطية ثمر النخل دون الرقبة.
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور، ومن خالف فالأحاديث ترد عليه.
قلت: العرية: فعيلة بمعنى مفعولة؛ من عراه يعروه إذا قصده، وهي عقد مقصود.
أو: بمعنى فاعلة من عري يعرى إذا خلع ثوبه كأنها عريت (2) ، وهي:
__________
(1) • في " المسند " (3 / 360) ؛ وسنده حسن؛ فقد صرح عنده ابن إسحاق
بالتحديث.
وأخرجه البيهقي (5 / 311) من طريق الحاكم وغيره؛ ولم أره في " البيوع " من
" المستدرك "؛ والله أعلم.
وأخرجه الطحاوي (2 / 213) ؛ وزاد في رواية: وقال: " في كل عشرة أقناء قنو؛
يوضع في المسجد للمساكين "، وكذلك رواه أبو يعلى؛ كما في " المجمع " (4 /
103) . (ن)
(2) • قلت: كذا في " النهاية " لابن الأثير، وزاد: " كأنها عريت من جملة
التحريم فعريت - أي: خرجت - ".
وقد ذكر أن في تفسير العرية اختلافا، ثم ذكر قولا في معنى ما في الكتاب من
المراد، ثم لم يذكر غيره، فكأنه اعتمده.
واعلم أن للعرية صورا كثيرة، ذكرها الحافظ في " الفتح " (4 / 311) ، ويدور
غالبها على أن البائع هو صاحب النخل، أو الذي وهبت له ثمرها، وهذا قد
يبيعها المالك رقبتها أو لغيره.
(2/398)
بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض، والعنب
في الشجر بزبيب فيما دون خمسة أوسق.
وقال محمد (1) : وبهذا نأخذ.
ولفظ البخاري في: (باب تفسير العرايا) (2) : " قال مالك: العرية: أن يعري
الرجل الرجل النخلة، ثم يتأذى بدخوله عليه، فرخص له أن يشتريها منه بتمر.
وقال ابن إدريس (3) : العرية: لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد، ولا
تكون بالجزاف.
ومما يقويه قول ابن أبي حثمة بالأوسق الموسقة.
وقال ابن إسحاق: في حديثه عن نافع عن ابن عمر: كانت العرايا؛ أن يعري الرجل
الرجل في ماله النخلة والنخلتين.
وقال يزيد (4) : عن سفيان بن حسين: العرايا: نخل كانت توهب
__________
ويشهد للأول تفسير بعض الصحابة؛ ففي " المسند " (5 / 365) عن بشر بن يسار،
عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رخص صلى الله عليه
وسلم في العرية، قال: والعرية: النخلة أو النخلتان يشتريهما الرجل، بخرصهما
من الثمر فيضمنهما؛ فرخص في ذلك.
وسنده صحيح على شرطهما.
ويشهد للآخر حديث زيد بن ثابت، قال: رخص في العرايا من النخلة والنخلتين
توهبان للرجل.
رواه الطحاوي (2 / 215) بسند صحيح، ومسلم، والبيهقي (5 / 310) بنحوه. (ن)
(1) • في " موطإه " (ص 327) . (ن)
(2) • (3 / 310 - " فتح الباري ") . (ن)
(3) • هو الإمام الشافعي؛ فيما رجحه الحافظ. (ن)
(4) • تابعه محمد بن يزيد؛ وهو الواسطي؛ عند أحمد (5 / 192) . (ن)
(2/399)
للمساكين؛ فلا يستطيعون أن ينتظروا بها،
رخص لهم أن يبيعوها بما شاؤوا من التمر ". انتهى.
أقول: العرايا؛ أصلها أن العرب كانت تطوع على من لا ثمر له؛ كما يتطوع صاحب
الشاة أو الإبل بالمنيحة، وهي عطية اللبن دون الرقبة.
قال الجوهري في " الصحاح ":
" العرية: هي النخلة التي يعريها صاحبها رجلا محتاجا؛ بأن يجعل له ثمرها
عاما؛ من عراه إذا قصده ". انتهى.
فرخص صلى الله عليه وسلم لمن لا نخل لهم أن يشتري الرطب على النخل بخرصها
تمرا؛ كما وقع في " الصحيحين " وغيرهما من حديث زيد بن ثابت.
وفي لفظ في " الصحيحين " من حديثه: رخص في العرايا يأخذها أهل البيت بخرصها
تمرا؛ يأكلونها رطبا.
وفي لفظ لهما من حديثه: ولم يرخص في غير ذلك.
فهذا جائز، والذي أخبرنا بتحريم الربا، ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا
في العرايا، والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة، ومن منع ذلك؛ فقد تعرض لرد
الخاص بالعام، ولرد الرخصة بالعزيمة، ولرد السنة بمجرد الرأي، وهكذا من منع
من البيع وجوز الهبة؛ كما روي عن أبي حنيفة - رحمه الله -، ولكن هذه الرخصة
مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة؛ كما وقع في حديث
جابر عند الشافعي، وأحمد، وصححه
(2/400)
ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (1) ؛ فلا
يجوز الشراء بزيادة على ذلك.
( [لا يجوز بيع اللحم بالحيوان] :)
(ولا بيع اللحم بالحيوان) ؛ لما تقدم (2) قريبا من حديث سعيد بن المسيب عند
مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم.
وقال سعيد (3) : من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين.
وقال: نهى عن بيع الحيوان باللحم.
وقال أبو الزناد: كل من أدركت من أهل العلم ينهون عن بيع الحيوان باللحم؛
أي: من جنسه، وكذا بغير جنسه من مأكول وغيره.
وفي " شرح السنة ":
" ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى تحريمه، وإليه ذهب الشافعي ".
وحديث ابن المسيب وإن كان مرسلا؛ لكن يتقوى بعمل الصحابة، واستحسن الشافعي
مرسل ابن المسيب، وذهب جماعة إلى إباحته، واختارها المزني إذ لم يثبت
الحديث، وكان فيه قول متقدم ممن يكون بقوله اختلاف، ولأن الحيوان ليس بمال
الربا؛ بدليل أنه يجوز بيع حيوان بحيوانين، فبيع اللحم
__________
(1) • ونحوه من حديث أبي هريرة عند البخاري (4 / 308) . (ن)
(2) • (ص 419) ؛ وقد ذكر له هناك طرقا وشواهد؛ تبعا للشوكاني في " النيل "
(5 / 173) ، وقال هذا عقبها: " ولا يخفى أن الحديث ينتهض للاحتجاج بمجموع
طرقه ". (ن)
(3) • يعني: ابن المسيب؛ كما في " الموطإ " (337) لمحمد. (ن)
(2/401)
بالحيوان بيع مال الربا بما لا ربا فيه،
فيجوز ذلك في القياس؛ إلا أن يثبت الحديث فنأخذ به وندع القياس ".
وقال محمد في " الموطإ ": " وبهذا نأخذ؛ من باع لحما من لحم الغنم بشاة
حية؛ لا يدري اللحم أكثر أو ما في الشاة أكثر؟ فالبيع فاسد مكروه، ولا
ينبغي، وهذا مثل المزابنة والمحاقلة.
وكذا بيع الزيتون بالزيت، ودهن السمسم بالسمسم ".
أقول: والأحسن عندي أن معنى الحديث: أن يقول للقصاب: كم يخرج من هذه الشاة؟
فيقول القصاب: عشرون رطلا، فيقول: خذ هذه الشاة بعشرين رطلا من اللحم؛ إن
خرج أكثر فلك، أو أقل فعليك.
وهذا نوع من القمار، ورجع الحديث إلى القياس.
( [يجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه]
:)
(ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه) ؛ لحديث جابر عند أحمد، وأهل "
السنن " - وصححه الترمذي -؛ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا
بعبدين.
وأخرجه أيضا مسلم في " صحيحه ".
وأخرج أيضا مسلم، وغيره من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى
صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي.
(2/402)
وأخرج أحمد (1) ، وأبو داود من حديث ابن
عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبعث جيشاً على إبل كانت عنده،
قال فحملت الناس عليها حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس، قال: فقلت: يا
رسول الله! الإبل قد نفذت، وبقيت بقية من الناس لا ظهر لهم، فقال لي: "
ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها؛ حتى ينفذ هذا البعث "،
قال: وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها؛ حتى
نفذت ذلك البعث، فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) • في " المسند " رقم (6593) ، وأبو داود (2 / 87) ، وكذا الطحاوي (2 /
229) ، والحاكم (2 / 56) ، والبيهقي (5 / 287) ؛ من طريق ابن إسحاق.
لكن قد صرح بالتحديث في رواية لأحمد رقم (7025) ، فقال: حدثني أبو سفيان
الحرشي - وكان ثقة فيما ذكر أهل بلاده -، عن مسلم بن جبير - مولى ثقيف؛
وكان مسلم رجلا يؤخذ عنه وقد أدرك وسمع -، عن عمرو بن حريش الزبيدي، عن عبد
الله بن عمرو بن العاص.
فهو سند حسن.
وأخرجه الدارقطني (ص 318) ، وله عنده طريق أخرى عن ابن جريج، أن عمرو بن
شعيب أخبره، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وهذا سند صحيح؛ كما قال البيهقي (5 / 287) ؛ وهو الذي قواه الحافظ في "
الفتح " (4 / 332) ؛ ليس إسناد ابن إسحاق كما يوهمه صنيع الشارح.
والحديث حسنه ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 31) .
ونقل عن الإمام مالك - رضي الله عنه -، أنه كان يحمله على اختلاف المنافع
والأغراض؛ فإن الذي كان يأخذه ابن عمرو إنما هو للجهاد، والذي جعله عوضه هو
من إبل الصدقة؛ قد يكون مع بني المخاض، ومن حواشي الإبل ونحوها.
وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أقوال العلماء في هذه المسألة وحققها،
وذكر أن أعدل الأقوال؛ أنه لا يجوز الجمع بين النسيئة والتفاضل؛ بل إن وجد
أحدهما حرم الآخر، وهو قول مالك.
لكن الجنس عنده مقيد باتفاق الأغراض والمنافع؛ فيجوز بيع البعير البختي
بالبعيرين من الحمولة، ومن حاشية إبله إلى أجل لاختلاف المنافع. (ن)
(2/403)
وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال، وقوى
في " الفتح " إسناده.
وأخرج أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي -، وابن الجارود من حديث سمرة
قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (1) .
وهو من رواية الحسن عن سمرة، ولم يسمع منه (2) .
وقد جمع الشافعي بين الحديثين؛ بأن المراد به النسيئة من الطرفين؛ فيكون
ذلك من بيع الكالئ بالكالئ؛ لا من طرف واحد؛ فيجوز.
وفي " الموطإ " (3) : أن علي بن أبي طالب باع جملا له - يدعى عصيفر -
بعشرين بعيرا إلى أجل، وأن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة
مضمونة عليه؛ يوفيها صاحبها بالربذة.
وسئل ابن شهاب عن بيع الحيوان اثنين بواحد إلى أجل؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال الشافعي: يجوز سواء كان الجنس واحدا أو مختلفا، مأكول اللحم أو غير
مأكول اللحم، سواء باع واحدا بواحد أو باثنين.
__________
(1) في سماعه منه خلاف طويل، ورجح كثير من أئمة الحديث أنه سمع منه، ورجح
بعضهم أنه لم يسمع منه إلا حديثا؛ وهو حديث العقيقة. (ش)
(2) • هذا وإن كان منقطعا؛ فهو صحيح؛ لوروده عن جماعة من الصحابة؛ منهم:
ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وابن عمر؛ من طرق يقوي بعضها بعضا؛ أخرجها
الطحاوي (2 / 229) .
وانظر " الجوهر النقي " (5 / 288 - 290) ، و " تهذيب السنن " (5 / 27) ،
والفتح (5 / 44) . (ن)
(3) • (2 / 148 - 149) ؛ وهو السائل لابن شهاب.
وسنده إلى علي بن أبي طالب منقطع، وإلى ابن عمر صحيح. (ن)
(2/404)
وقال أبو حنيفة: لا يجوز.
وفي بيع الحيوان بالحيوان نسيئة خلاف.
( [لا يجوز بيع العينة] :)
(ولا يجوز بيع العينة) لحديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر،
وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء؛ فلا يرفعه حتى يراجعوا
دينهم ".
أخرجه أحمد (1) وأبو داود، والطبراني، وابن القطان - وصححه -، وقال الحافظ:
" رجاله ثقات ".
والمراد بالعينة - بكسر العين المهملة -: بيع التاجر سلعته بثمن إلى أجل؛
ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن.
ويدل على المنع من ذلك: ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن امرأته: أنها دخلت
على عائشة، فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين {إني بعت
غلاما من زيد بن أرقم بثمان مئة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بست مئة نقدا؟
فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت وبئسما شريت} إن جهاده مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد بطل؛ إلا أن يتوب.
__________
(1) • في " المسند " (رقم 4825، 5007، 2562) - بإسنادين؛ أحدهما صحيح عند
ابن القطان -، وأبو داود (2 / 100) بإسناد ثالث - حسنه شيخ الإسلام في "
الفتاوى " (3 / 32 - 278) -.
ورواه الدولابي في " الكنى " (2 / 65) ، والبيهقي (5 / 316) . (ن)
(2/405)
أخرجه الدارقطني (1) ، وفي إسناده الغالية
بنت أيفع.
وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح، وقرر كلامه ابن كثير في " إرشاده ".
وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وجوز ذلك
الشافعي، وأصحابه.
وقد ورد النهي عن العينة من طرق؛ عقد لها البيهقي في " سننه " بابا.
أقول: أما بيع أئمة الجور وشراؤهم - على وجه التجارة مع رعاياهم -؛ فهذه
المسألة قد عمت وطمت وكادت تطبق الأرض، وقد رأينا في كتب التواريخ حكايات
عن ملوك مصر من الجراكسة، وذلك من أشدها وأعظمها جرما: أنهم إذا أرادوا بيع
شيء لهم؛ أكرهوا التجار على شرائه بأضعاف ثمنه، وإذا أراد أحد منهم
الامتناع ضربوه ضربا مبرحا، وأخذوا ماله كرها.
ومن ذلك: أنهم يمنعون الناس من الشراء من أحد من التجار؛ حتى ينفق ما
يريدون بيعه من أموالهم، فيرتفع ثمنه لأجل ذلك، وينفق سريعا.
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" وفي الديار اليمنية من هذا القبيل أنواع: منها: أنهم يرسمون صرف القرش
بمقدار محدود من الضربة التي يضربونها من الفضة المغشوشة بالنحاس المغلوبة
بالغش؛ على وجه لا تكون الفضة الخالصة إلا مقدار نصف الفضة التي في القرش،
ثم إن الرعايا لا تمتثل هذا الرسم، بل يتعاملون في المصارفة
__________
(1) • في " السنن " (ص 310 - 311) ، وكذا البيهقي (5 / 330 - 331) . (ن)
(2/406)
بزيادة على ذلك إلى مقدار الثلث أو الربع
من ذلك الرسم، فإذا كان النقد خارجا من مال الدولة إلى غيرهم من الأجناد
ونحوهم؛ كان على ذلك الرسم الناقص، وإذا كان النقد داخلا إلى أموال الدولة
من الرعايا؛ لم يقبلوا منهم إلا القروش الفرانسة، أو الصرف الزائد الذي
يتعامل به الرعية فيما بينهم، فيأخذون ثلث أموال الرعية أو ربعها ظلما،
وإذا تزايد صرف القروش بين الرعايا؛ أمر الأمراء بكسر السكة، ويضربون ضربة
أخرى مثل المكسورة في الخالص والغش، أو أكثر منها غشا، ثم يمنعون التعامل
بتلك الضربة الأولى، فيبيعونها الرعايا وزنا من الدولة، فيأتي ثمن القفلة
(1) منها بنصف قفلة من الضربة الأخرى، وقد يزيد قليلا، أو ينقص قليلا، ثم
يأخذون تلك السكة الأولى ويضربونها على تلك الضربة الأخرى، ويدفعونها إلى
الرعايا بصرف قد رسموه، فيأكلون بهذه الذريعة نصف أموال العباد، أو قريبا
من ذلك، والرعايا لا يقدرون على الاستمرار على الرسم الذي يرسمونه لهم في
صرف القروش من تلك الضربة؛ لأنهم يحتاجون إلى القروش الفرانسة في كثير من
الحالات؛ لكونه لا ينفق لهم في المعاملة لتجار سائر الأرض إلا هي.
ومن الأنواع التي يأكلون بها أموال الرعايا أكلا ظاهرا، ويتجرون فيها
اتجارا بينا: أنهم يجعلون ضرائب على الباعة في الأسواق؛ يجبرونهم على
تسليمها؛ شاءوا أم أبوا، ثم يأذنون لهم بالزيادة في الأسعار، فيبيعون بما
شاءوا ويصنعون بالناس ما أرادوا، وليس عليهم إلا الوفاء بالضرائب، فإذا
استغاث مستغيث بالناس من زيادة الأسعار، أو أراد منكر أن ينكر على الباعة
ما يفعلونه؛ قالوا: هذه الزيادات للدولة؛ فيلقمون المنكر والمستغيث حجرا.
__________
(1) • " القفلة: الوازن من الدراهم ": " قاموس ". (ن)
(2/407)
وكم أعدد لك من هذه الأحبولات الشيطانية،
التي هي السحت بلا شك ولا شبهة، نسأل الله أن يصلح الجميع ". انتهى.
ومن هذا القبيل: أنواع المكوس على أهل الدور والتجارات والضرائب المتنوعة
التي لا تكاد تنحصر على الرعايا في الأشياء المختلفة، وكل ذلك من جهة
الدول، ولا شكوى في ذلك من الكفرة الفجرة الذين استولوا على أكثر البلاد
الإسلامية؛ بل من ملوك الإسلام وولاة المسلمين المدعين للتدين بالدين
المحمدي، والله - سبحانه وتعالى - يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وانظر في كتابنا " إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة "؛ يتضح عليك الحق
في هذا الباب من الباطل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" اعلم أن باب المصارفة قد صار في هذه الأزمنة؛ بحيث لا يتمكن من الخلوص عن
الدخول به في الربا البحت أحد؛ كما عرفناك فيما سبق ".
ثم إن الناس يحتاجون إلى التعامل بهذه الضربة في تصرفاتهم، ويضطرون إلى
المصارفة بها إلى القرش الفرنجي بذلك المقدار المرسوم لهم، فيبيعون الفضة
بالفضة مع العلم بالتفاضل، وهذا ربا بحت.
والعارف منهم يستروح إلى حيل قد رآها في كتب الفروع التي لا يرجع غالبها
إلى دليل، وهي لا تغني من الحق شيئا.
وها نحن نعرفك بغالب ما يظنونه من الحيل مخلصا لهم من ورطة الربا.
(2/408)
فمن ذلك: أن بعض المتفقهة - الذين لا
يعرفون لعلوم الاجتهاد رسما - قد أفتاهم بأنه لا ربا في المعاطاة، وأن
الصرف الذي يفعله الناس الآن هو معاطاة لعدم وقوع العقد، وهذا المقصر لا
يدري بأن أدلة الكتاب والسنة مصرحة بتحريم الربا من غير نظر إلى عقد؛ بل لم
يعتبر الله في البيع إلا مجرد الرضا.
ومن ذلك: ما قاله أيضا بعض المصنفين في الفروع؛ أن الغش في كل واحد من
البدلين يكون مقابلا للفضة في الآخر، وهذا لا يرضى به عاقل قط، وكيف يرضى
العاقل أن يبيع تسع أواقي فضة بأوقية نحاس؟ ! فإن كان مراد هذا القائل أن
ذلك مخلص عن الربا - سواء رضي كل واحد من المتبايعين بالبدل أم لم يرض -؛
فهذا جهل لا علم.
ومن ذلك: أن الغش في كل واحد من البدلين يكون جريرة مسوغة للصرف، وهذا يرده
حديث القلادة؛ فإنه قد انضم إلى الفضة غيرها، ولم يجعل النبي - صلى الله
عليه وسلم - ذلك مسوغا للبيع، بل أمر بالفصل والتمييز بين الفضتين.
وقد ذكروا غير هذه الأمور؛ مما هو من السقوط بمكان لا يخفى على من له أدنى
فطنة.
فإن قلت: فهل من مخلص من هذه الورطة التي وقع الناس فيها؟
قلت: نعم؛ ثم مخلص أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما قاله
لمن اشترى تمرا جيدا بتمر رديء؛ أحد التمرين جمع والآخر جنيب، وأخبره أنه
(2/409)
اشترى الصاع الجيد بصاعين من الرديء، فقال
له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن ذلك ربا "، فسأل رسول الله: كيف
يصنع؟ فقال: إنه يبيع التمر الرديء بالدراهم ثم يشتري بها التمر الجيد:
فهذه وسيلة شرعية ومعاملة نبوية، فمن أراد أن يصرف الدراهم المغشوشة
بالقروش الفرنجية؛ فليشتر صاحب الدراهم - مثلا - بمقدار صرف القرش سلعة من
صاحب القرش، ثم يبيعها منه بالقرش، ولا مخلص من ذلك إلا هذه الصورة.
ومن ظن أن ثم مخلصا في غيرها؛ فهو مخادع بنفسه بما هو صريح الربا المتوعد
عليه بحرب من الله ورسوله.
وعلى الضارب لتلك الدراهم المغشوشة نصيبه من الإثم؛ لأنه حمل الناس على
الربا، وألجأهم إلى الدخول فيه، وسن لهم هذه السنة الملعونة لقصد الحطام،
وأكل أموال الناس بالباطل.
ولو كان ممتثلا لما أمر الله به من الرفق بالرعية، والعدل في القضية؛ لكان
له بضرب الفضة الخالصة عن الغش مندوحة، وأقل أحوال المسلم أن يكون في رعاية
مصالح الرعية؛ كالفرنج، فيجعل ضربته كضربتهم، حتى يرتفع الربا في المصارفة
". انتهى.
(2/410)
(3 - باب
الخيارات)
( [يجب على البائع بيان العيب] :)
(يجب على من باع ذا عيب أن يبينه؛ وإلا ثبت للمشتري الخيار) ؛ لحديث عقبة
بن عامر عند ابن ماجه (1) ، والدارقطني، والحاكم، والطبراني - قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب؛ إلا بينه ".
وقد حسن إسناده الحافظ في " الفتح ".
وأخرج نحوه أحمد (2) ، وابن ماجه، والحاكم في " المستدرك " من حديث واثلة
مرفوعا، وفي إسناده أبو جعفر الرازي، وأبو سباع، والأول مختلف فيه، والثاني
مجهول.
__________
(1) • في " السنن " (2 / 31) ، وفي " المستدرك " (2 / 8) ؛ وقال: " صحيح
على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط مسلم وحده؛ لأن
تابعيّه - عبد الرحمن بن شماسة؛ لم يخرج له البخاري. (ن)
(2) • في " المسند " (3 / 471) ، و " المستدرك " (2 / 9 - 10) ؛ وقال: "
صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي؛ مع أنه قال في أبي سباع ما ذكره الشارح.
لكن صنيعه يوهم أن ابن ماجه رواه من طريقه أيضا؛ وليس كذلك؛ فهو عنده (2 /
31 - 32) من طريق آخر عن واثلة، ولكنه ضعيف أيضا؛ من أجل معاوية بن يحيى -
وهو الصدفي -؛ يرويه عنه بقية بن الوليد بالعنعنة. (ن)
(2/411)
وأخرج ابن ماجه (1) ، والترمذي، والنسائي،
وابن الجارود، والبخاري تعليقا من حديث العداء بن خالد قال: كتب لي النبي -
صلى الله عليه وسلم -:
" هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله؛ اشترى منه عبدا
- أو أمة - (2) ؛ لا داء (3) ، ولا غائلة، ولا خبثة (4) - بكسر الخاء -؛
بيع المسلم المسلم ".
ويؤيد هذه الأحاديث: حديث: " من غشنا فليس منا "؛ وهو في " صحيح مسلم "،
وغيره (5) من حديث أبي هريرة.
فدلت هذه الأحاديث على أن من باع ذا عيب ولم يبينه؛ فقد باع بيعا لا يحل
شرعا، فيكون المشتري بالخيار؛ إن رضيه فقد أثم البائع وصح البيع؛
__________
(1) • في " سننه " (2 / 32 - 33) ، وكذا الطحاوي في " المشكل " (2 / 233 -
234) ؛ ورجاله ثقات؛ غير عباد بن ليث الكرابيسي؛ فهو مختلف فيه، وقد ذكر
ابن عدي أنه تفرد بهذا الحديث.
وتعقبه الحافظ في " التهذيب " بقوله: " بل رواه غيره؛ أوضحت ذلك في " تغليق
التعليق " ... ".
قلت: فهو حديث ثابت. (ن)
(2) • شك من الراوي عن العداء؛ كما صرحت بذلك رواية الطحاوي. (ن)
(3) • أي: لا مرض.
ولا غائلة؛ يعني: الأخلاق المذمومة من الإباق والسرقات، ونحو ذلك، التي
يغتال بها من سواه ومن ذلك قيل: قتل فلان فلانا قتل غيلة: " الطحاوي ". (ن)
(4) • في " النهاية ": " أراد بالخبثة الحرام، كما عبر عن الحلال بالطيب،
والخبثة نوع من أنواع الخبيث، أراد أنه عبد رقيق؛ لا أنه من قوم لا يحل
بينهم، كمن أعطى عهدا وأمانا، أو من هو حر في الأصل ". (ن)
(5) • واستدركه الحاكم (2 / 8 - 9) على مسلم؛ فوهم!
وعلمي أن مسلما أخرجه في " الإيمان ". (ن)
(2/412)
لوجود المناط الشرعي وهو التراضي، وإن لم
يرضه كان له رده؛ لأن العلم بالعيب كشف عن عدم الرضا الواقع حال العقد؛ فلم
يوجد المناط الشرعي، ولما ورد في رد المعيب؛ وسيأتي.
( [الدخل والمنفعة بضمان الأصل] :)
(والخراج بالضمان) ؛ لحديث عائشة - عند أحمد (1) ، وأهل " السنن "،
والشافعي - وصححه الترمذي -، وابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، وابن
القطان، وابن خزيمة -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الخراج
بالضمان.
وفي رواية: أن رجلا ابتاع غلاما، فاستغله، ثم وجد به عيبا، فرده بالعيب،
فقال البائع: غلة عبدي! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الغلة
بالضمان ".
والمراد بالخراج: الدخل والمنفعة؛ أي: يملك المشتري الخراج الحاصل من
المبيع بضمان الأصل الذي عليه؛ أي: بسببه.
قال مالك - في الرجل يشتري العبد؛ فيؤاجره بالإجارة العظيمة أو القليلة، ثم
يجد به عيبا؛ يرد منه -:
" إنه يرده بذلك العيب، وتكون له إجارته وغلته، وذلك الأمر الذي
__________
(1) • في " المسند " (6 / 80، 116، 161، 208، 237) ، و " المستدرك " (2 /
14 - 15) - وصححه - ووافقه الذهبي؛ وصححه الترمذي أيضا (2 / 260) .
وأحد سنديه صحيح. (ن)
(2/413)
كانت عليه الجماعة ببلدنا، وذلك لو أن رجلا
ابتاع عبدا، فبنى له دارا قيمة بنيانها ثمن العبد أضعافا، ثم يوجد به عيب
يرد منه؛ رده، ولا يحسب للعبد عليه إجارة فيما عمل له ذلك؛ فكذلك تكون له
إجارته إذا آجره من غيره لأنه ضامن له ".
قلت: وعليه أهل العلم.
( [من حق المشتري الرد إذا تبين له الغرر]
:)
(وللمشتري الرد بالغرر) ؛ لأن المشتري إنما رضي بالمبيع عند العقد قبل علمه
بالغرر، فإذا تبين له الغرر؛ كشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي.
( [التصرية حرام تثبت الخيار للمشتري]
:)
(ومنه) ؛ أي: من ذلك الغرر (المصرّاة، فيردها وصاعا من تمر) ؛ فإنه ثبت
الخيار فيها بوجود الغرر الكائن بالتصرية، وهو حبس اللبن في الضروع؛ ليخيل
للمشتري غزارته فيغتر.
وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال: " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك؛ فهو بخير النظرين
بعد أن يحلبها؛ إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر ".
وفي رواية مسلم، وغيره: " من اشترى مصراة؛ فهو منها بالخيار ثلاثة أيام (1)
؛
__________
(1) • الظاهر أنها تبتدئ منذ الحلبة الثانية؛ فإنه - حينئذ - يظهر كونها
مصراة. (ن)
(2/414)
إن شاء أمسكها؛ وإن شاء ردها ورد معها صاعا
من تمر لا سمراء (1) ".
قلت: وعليه الشافعي.
وفي " المنهاج ": " التصرية حرام؛ تثبت الخيار على الفور.
وقيل: يمتد ثلاثة أيام؛ فإن رد بعد تلف اللبن (2) ؛ رد معها صاع تمر.
وقيل: يكفي صاع قوت.
والأصح: أن الصاع لا يختلف بكثرة اللبن ".
وفي " شرح السنة ".
" قال أبو حنيفة: لا خيار له بسبب التصرية، وليس له ردها بالعيب بعد ما
حلبها.
وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف: يردها ويرد معها قيمة اللبن ".
قال في " الحجة البالغة ":
" واعتذر بعض من لم يوفق للعمل بهذا الحديث بضرب قاعدة من عند نفسه؛ فقال:
كل حديث لا يرويه إلا غير فقيه، [إذا] (3) انسد باب الرأي فيه؛ يترك العمل
به.
__________
(1) • الحنطة؛ سميت بها؛ لكون لونها السمرة. (ن)
(2) قوله: " تلف اللبن "؛ أي: حلبه، وعبر به عنه؛ لأنه بمجرد حلبه يسري
إليه التلف. اه من " ابن حجر على المنهاج ". (ش)
(3) • زيادة لا بد منها. (ن)
(2/415)
وهذه القاعدة - على ما فيها -: لا تنطبق
على صورتنا هذه؛ لأنه أخرجه البخاري (1) عن ابن مسعود أيضا، وناهيك به
{ولأنه بمنزلة سائر المقادير الشرعية يدرك العقل حسن تقدير ما فيه، ولا
يستقل بمعرفة حكمه هذا القدر خاصة؛ اللهم إلا عقول الراسخين في العلم ".
انتهى.
قال ابن القيم:
" ومنها رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس،
وزعمهم أن هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل، فيقال: الأصول كتاب الله وسنة
رسوله وإجماع الأمة والقياس الصحيح والموافق للكتاب والسنة.
فالحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه؟} هذا من أبطل
الباطل، والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله - تعالى -،
وكلام رسوله، وما عداهما فمردود إليهما.
فالسنة أصل قائم بنفسه، والقياس فرع؛ فكيف يرد الأصل بالفرع؟ !
قال الإمام أحمد: إنما القياس أن يقيس على أصل، فأما أن يجيء إلى
__________
(1) • في " صحيحه " (4 / 293) موقوفا عليه، وكذلك أخرجه أحمد في " مسنده "
رقم (4096) ؛ وقد روي مرفوعا؛ لكنه خطأ كما بينه الحافظ في " الفتح ".
وقد أخرجه أحمد أيضا (4 / 314) من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم؛ وسنده إليه صحيح على شرط الشيخين موقوفا ومرفوعا؛ وروي من حديث ابن
عمر من وجهين عنه، ومن حديث أنس، وعمرو بن عوف المزني.
وقال ابن عبد البر: " إنه حديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل "؛ كما
في " الفتح ". (ن)
(2/416)
أصل فيهدمه ثم يقيس؛ فعلى أي يقيس؟ {
وقد تقدم بيان موافقة حديث المصراة للقياس، وإبطال قول من زعم أنه خلاف
القياس، وأنه ليس في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح.
وأما القياس الباطل؛ فالشريعة كلها مخالفة له.
ويا لله العجب} كيف وافق الوضوء - بالنبيذ المشتد - الأصول حتى قبل؛ وخالف
خبر المصراة الأصول حتى رد؟ ! ". انتهى.
والحاصل: أنه لم يرد ما يعارض حديث المصراة، ولم تصح الرواية بلفظ: " طعام
أو بر "؛ بل الذي صح: الصاع من التمر.
وللحنفية أجوبة عن الحديث كثيرة، ليس على شيء منها أثارة من علم، وقد
استوفاها الماتن في " شرح المنتقى "، ودفعها جميعها، ولا نؤثر على نصر
الشارع شيئا، بل نقول: إذا تنازع بائع المصراة ومشتريها في قيمة اللبن
المستهلك، وردّ المشتري صاعا من تمر؛ وجب على البائع قبوله، ولا يجاب إلى
غيره ولو كان المثل موجودا.
نعم؛ إذا عدم التمر كان الواجب الرجوع إلى قيمته.
وكذلك إذا تراضى البائع والمشتري على قيمة أخرى؛ كان الرضا له حكمه.
وتمام هذا البحث في شرحنا ل " بلوغ المرام "؛ فليرجع إليه.
(أو ما يتراضيان عليه) ؛ لأن حق الآدمي مفوض إليه، فإذا رضي بأخذ
(2/417)
عوض عنه؛ جاز ذلك؛ كما لو رضي بإسقاطه أو
أخذ بعضه.
( [من خدع في بيعه فله الخيار] :)
(ويثبت الخيار لمن خدع) ؛ فإن كان مع شرط عدم الخداع؛ فلا ريب في ذلك (لما
تقدم من حديث ابن عمر: أن رجلا كان يُخدع في البيوع، فقال له رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: " من بايعت فقل: لا خلابة "، وهو في " الصحيحين "، و
" الموطأ "، وزاد فيه:
فكان الرجل إذا بايع يقول: لا خلابة.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لحبان بن منقذ الذي كان يخدع في
البيوع خيار ثلاثة أيام؛ كما في حديث ابن عمر في رواية منه، وكذلك في حديث
غيره، وأما إذا لم يشترط؛ فالبيع الذي وقع ليس هو بيع المسلم إلى المسلم؛
بل هو مشتمل على الخبث والخداع والغائلة، فللمخدوع الخيار لكونه كذلك،
ولكون الخداع كشفا عن عدم الرضا المحقق، الذي هو المناط؛ كما تقدم تقريره.
قلت: اختلفوا في تفسير هذا الحديث؛ فقال المحلي: " لا خلابة ": عبارة عن
اشتراط الخيار ثلاثة أيام.
وفي رواية البيهقي، وابن ماجه: " ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث
ليال ".
وقال محمد: نرى أن هذا كان لذلك الرجل خاصة؛ يريد أنه خيار الغبن، وليس
بمطرد.
(2/418)
وفي " شرح السنة ":
" عند أحمد: الخبر عام في حق كافة الناس، إذا ذكر هذه الكلمة في البيع؛ كان
له الرد إذا ظهر في بيعه الغبن، وسبيله سبيل من باع واشترى بشرط الخيار ".
في " المنهاج ": " لهما ولأحدهما شرط الخيار؛ وإنما يجوز في مدة معلومة،
ولا تزيد على ثلاثة أيام ".
( [من باع قبل وصول السوق فله الخيار]
:)
(أو باع قبل وصول السوق) ؛ لحديث أبي هريرة عند مسلم، وغيره قال: نهى النبي
صلى الله عليه وسلم أن يُتلقى الجلب؛ فإن تلقاه إنسان فابتاعه؛ فصاحب
السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق (1) .
وتلقي الجلب: هو أن يقدم ركب بتجارة، فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد
ويعرفوا السعر، فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد، وهذا مظنة ضرر للبائع؛
لأنه إن نزل بالسوق كان أغلى له، ولذلك كان له الخيار إذا عثر على الضرر.
( [البيعان بالخيار إذا وقع البيع على صورة
محرمة] :)
(ولكل من المتبايعين - بيعا منهيا عنه - الرد) ؛ كتلك الصور المتقدمة؛
ووجهه: أن النهي إن كان مقتضيا للفساد المرادف للبطلان - كما تقرر في
__________
(1) • هذا اللفظ ليس لمسلم (5 / 5) . (ن)
(2/419)
الأصول -؛ فوجود العقد كعدمه، وهو غير لازم
لواحد منهما، فالرد بالخيار هو بمعنى الرد لما هو غير لازم، وإن كان النهي
غير مقتض للفساد؛ فوقوع العقد على صورة من تلك الصور؛ إن رضيه كل واحد
منهما؛ فقد حصل المناط الشرعي وهو الرضا، وإن لم يحصل الرضا منهما، أو من
أحدهما لوقوعه على وجه يخالف الشرع؛ فقد فقد المناط.
( [من اشترى شيئا ولم يره فله رده إذا رآه]
:)
(ومن اشترى شيئا لم يره؛ فله رده إذا رآه) ؛ لحديث أبي هريرة مرفوعا:
" من اشترى ما لم يره؛ فله الخيار إذا رآه ".
أخرجه الدارقطني، والبيهقي (1) ، وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي، وهو
ضعيف (2) ولكنهما أخرجا عن مكحول مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه؛
وفي إسناده - أيضا - أبو بكر بن أبي مريم (3) ؛ وهو ضعيف (2) ، ومثل هذا لا
تقوم به الحجة.
ولكن الخيار في الغالب يمكن الاستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر؛ فإن ما
لم يقف الإنسان على حقيقته لا يخلو عن نوع غرر؛ سواء كان بعناية
__________
(1) • في " سننه الكبرى " (5 / 268) ، والدارقطني (ص 290) ؛ وقال: " عمر بن
إبراهيم؛ يقال له: الكردي، يضع الأحاديث، وهذا باطل لا يصح، لم يروه غيره،
وإنما يروى عن ابن سيرين موقوفا من قوله ".
وأخرجه قبله من مرسل مكحول، ثم قال: " هذا مرسل، وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف
". (ن)
(2) وقال الدارقطني: " كذاب خبيث "، وقال الخطيب: " غير ثقة ". (ش)
(3) وقال أبو زرعة: " ضعيف منكر الحديث ". (ش)
(2/420)
البائع أم لا، وأيضا لا بد من حصول المناط
الشرعي وهو التراضي، فإذا لم يرض المشتري بالمبيع عند رؤيته؛ فقد فقد الرضا
وعدم المصحح.
( [من اشترى شيئا بخيار فله رده] :)
(وله رد ما اشتراه بخيار) ، وذلك نحو أن يشتري شيئا على أن له فيه الخيار
مدة معلومة؛ لما ورد في الأحاديث الصحيحة الواردة في خيار المجلس بلفظ: "
كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا؛ إلا بيع الخيار "، وفي لفظ: " إلا أن
يكون صفقة خيار "، وهما في " الصحيحين "، وفيهما ألفاظ بهذا المعنى، ولكنه
قد اختلف في تفسير بيع الخيار، فقيل هذا، وقيل غيره.
ويؤيد ثبوت خيار الشرط ما تقدم من حديث من كان يخدع في البيوع: أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال له: " إذا بايعت فقل: لا خلابة "، وفي بعض
الروايات: " ولك الخيار ثلاثة أيام "، وقد تقدم ذلك.
( [القول للبائع إذا اختلف البيعان] :)
(وإذا اختلف البيعان؛ فالقول ما يقوله البائع) ؛ لحديث ابن مسعود - عند
أحمد (1) ، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وصححه
الحاكم، وابن السكن - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) • في " المسند " (رقم 4442 - 4447) ، والدارقطني (ص 297 - 298) ،
والبيهقي (5 / 331 - 334) ؛ من طرق عن ابن مسعود، وحسن بعضها البيهقي؛ ثم
قال:
" وقد روي من أوجه بأسانيد مراسيل؛ إذا جمع بينها صار الحديث بذلك قويا ".
ونقل الزيلعي (4 / 107) نحوه عن ابن الجوزي في " التحقيق ".
وكذلك قواه ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 162) . (ن)
(2/421)
" إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة؛
فالقول ما يقول صاحب السلعة؛ أو يترادان ".
وفي لفظ: " والمبيع قائم بعينه ".
وفي لفظ: " إذا اختلف البيعان والمبيع مستهلك؛ فالقول قول البائع ".
وفي لفظ: " ولا بينة لأحدهما ".
وفي الباب روايات كثيرة؛ قد استوفاها المصنف في " نيل الأوطار ".
وحاصلها يفيد أن القول قول البائع، وقد قيل: إن هذا الحديث مخصص لأحاديث أن
على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين، وسيأتي.
وقيل: بينهما عموم وخصوص من وجه، فظاهر حديث: " القول ما يقول البائع ": أن
القول قوله؛ سواء كان مدعيا أو مدعى عليه، وظاهر حديث: " على المدعي البينة
وعلى المنكر اليمين ": أن القول قول المنكر مع يمينه؛ سواء كان بائعا أو
غير بائع.
وقد تقرر أنه إذا تعارض عمومان - كما نحن بصدده -؛ وجب المصير إلى الترجيح
إن أمكن؛ والترجيح ههنا ممكن، فإن حديث: " على المدعي البينة وعلى المنكر
اليمين " أصح من حديث: " فالقول قول البائع "؛ ومقتضى هذا الترجيح: أن
القول لا يكون قول البائع؛ إلا إذا كان منكرا غير مدع؛ من غير فرق بين
المبيع الباقي والتالف، ولكنه يرشد إلى الجمع ما رواه أحمد (1) في
__________
(1) الصواب: عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند "؛ لأنه روى في أثناء "
مسند " أبيه - أحمد بن
(2/422)
" زوائد المسند "، والدارمي، والطبراني من
حديث ابن مسعود الذي فيه: " فالقول ما يقول البائع " بزيادة: " والسلعة
قائمة "؛ ولكن في إسناد هذه الزيادة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو
ضعيف لسوء حفظه، فلا يصلح للجمع بين الحديثين بها.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك اختلافا طويلا.
قال مالك:
" الأمر عندنا في الرجل يشتري السلعة، فيختلفان في الثمن؛ فيقول البائع:
بعتكها بعشرة دنانير، ويقول المبتاع: ابتعتها منك بخمسة دنانير: أنه يقال
للبائع: إن شئت فأعطها المشتري بما قال، وإن شئت فاحلف بالله ما بعت سلعتك
إلا بما قلت.
فإن حلف قيل للمشتري: إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع، وإما أن تحلف
بالله ما اشتريتها إلا بما قلت، فإن حلف بريء منها، وذلك أن كل واحد منهما
مدع على صاحبه ".
وفي " شرح السنة ":
" ولا فرق عند الشافعي بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة؛ في أنهما
__________
حنبل - أحاديث لم يروها عن أبيه؛ بل عن شيوخ آخرين. (ش)
• قلت: والظاهر أنه سقط من الكتاب من بعض النساخ: " عبد الله بن "؛
لدليلين:
الأول: أن مثل هذا لا يخفى على الشارح.
الثاني: أن جل عمدته في هذا " الشرح " على " نيل الأوطار "، وقد وقع فيه (5
/ 190) عزو هذه الزيادة على الصواب! (ن)
(2/423)
يتحالفان ويرد قيمة السلعة، وإليه رجع محمد
بن الحسن.
وذهب أبو حنيفة إلى أنهما لا يتحالفان بعد هلاك السلعة عند المشتري، بل
القول قول المشتري مع يمينه.
فإذا اختلفا في الأجل أو الخيار أو الرهن أو الضمين؛ فهو عند الشافعي
كالاختلاف في الثمن يتحالفان، وقال أبو حنيفة: القول قول من ينفيها (1) ،
ولا تحالف عنده إلا عند اختلاف الثمن ".
وفي " الحجة البالغة ":
" القول قول صاحب المال؛ لكن المبتاع بالخيار؛ لأن البيع مبناه على التراضي
" (2) .
__________
(1) قوله: " ينفيها "؛ أي: الأجل والخيار وغيرها. (ش)
(2) لا نرى تعارضا بين حديث: " على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين "،
وبين إثبات اليمين للبائع إذا اختلفا في القيمة؛ فإن السلعة ملك البائع
بيقين، والمشتري يدعي أنه ملكها بثمن ادعاه، والبائع ينكر هذا ويتمسك بأصل
بقائها في ملكه، وبأنها لم تخرج منه إلا بثمن أكثر مما قاله المشتري،
فالمشتري في الحقيقة هو المدعي، وهو الناقل عن الأصل المتيقن؛ فعليه
البينة، والبائع منكر دعوى المشتري ومتمسك بالأصل، فالقول قوله؛ مع يمينه
إذا لم تكن بينة، وهذا هو الموافق للقواعد الصحيحة والقياس الجلي،
والأحاديث تؤيده. (ش)
(2/424)
(4 - باب السلم)
( [شروط السلم] :)
(1 -[أن يكون الثمن نقدا] :)
(هو) نوع مخصوص من أنواع البيع؛ فلا يجوز أن يكون المالان مؤجلين؛ لأن ذلك
هو بيع الكالئ بالكالئ، وقد تقدم المنع منه؛ فلا بد أن يكون رأس المال
مدفوعا عند العقد.
(2 -[أن يقبض الثمن في المجلس] :)
(أن يسلم رأس المال في مجلس العقد) ، وقد وقع الاتفاق على أنه يشترط فيه ما
يشترط في البيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس، وقد شرط في السلم جماعة
من أهل العلم شروطا لم يدل عليها دليل.
(3 -[أن يكون البيع معلوما كيلا أو وزنا إلى
أجل معلوم] :)
(على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوما إلى أجل معلوم) ؛ لما ثبت في "
الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: " من أسلف؛ فليسلف في
كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ".
(2/425)
وأخرج أحمد، والبخاري من حديث عبد الرحمن
بن أبزى، وعبد الله ابن أبي أوفى، قالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط (1) من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة
والشعير والزيت إلى أجل مسمى؛ قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قال: ما كنا
نسألهم عن ذلك.
وفي لفظ لأحمد، وأهل " السنن " - إلا الترمذي -: وما نراه عندهم.
في " شرح السنة ":
" السلف له معنيان في المعاملات: أحدهما: القرض؛ والثاني: السلم.
ومعناه عند الشافعي: لو كان مؤجلا اشترط معرفة الأجل، ولو كان مكيلا أو
موزونا؛ اشترط معرفة الكيل أو الوزن، وفهم معرفة الجنس والوصف بالأولى ".
وفي " الوقاية ":
" يصح فيما يعلم قدره وصفته؛ لا فيما لا يعلم قدره وصفته كالحيوان، وشروطه
بيان جنسه ونوعه وصفته، وقدره معلوما، وأجله معلوما، وأقله شهر ".
وفي " الحجة البالغة ":
" قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة
والسنتين
__________
(1) • هم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم، واختلطت أنسابهم، وفسدت
ألسنتهم، ويقال لهم: (النبط) : " فتح " (4 / 341) . (ن)
(2/426)
والثلاث، فقال: " من أسلف في شيء؛ فليسلف
في كيل ووزن إلى أجل معلوم "، وذلك لترتفع المناقشة بقدر الإمكان، وقاسوا
عليها الأوصاف التي يبين بها الشيء من غير تضييق، ومبنى القرض على التبرع
من أول الأمر، وفيه معنى الإعارة، فلذلك جازت النسيئة وحرم الفضل ". انتهى.
( [شروط لم يدل عليها دليل] :)
أقول: أما اعتبار الجنس والصفة؛ فليس في الحديث ما يدل عليه، وكذلك اشتراط
تعيين المكان ليس في الحديث ما يدل عليه، وإنما اعتبر تعيين هذه الأمور
لرفع التشاجر من بعد.
ولا يخفى أن الرجوع إلى النوع المعهود، أو الصفة المعهودة، أو إلى الأوسط
من ذلك يرفع التشاجر، وكذلك يرفع التشاجر في تعيين المكان إلى الأصل، وهو
عدم وجوب الإيصال على المسلم إليه، والرجوع إلى البلدة التي هي وطنه، أو
بلد إقامته؛ يرفع ذلك أيضا.
فالحاصل: أن شروط السلم تعيين الجنس المسلم فيه؛ وكونه معلوما بكيل أو وزن،
وكونه إلى أجل معلوم، فهذه ثلاثة شروط، ولم يدل الدليل على اشتراط غيرها.
( [إذا عجز البائع عن تسليم المبيع وأقاله
المبتاع فله ما دفع إليه] :)
(ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله) ؛ لحديث ابن عمر - عند الدارقطني -،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(2/427)
" من أسلف شيئا؛ فلا يشترط على صاحبه غير
قضائه " (1) .
وفي لفظ: " من أسلف في شيء؛ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله ".
قال مالك:
" الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى، فحل الأجل، فلم
يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاع منه فأقاله؛ فإنه لا ينبغي له أن
يأخذ إلا ورقه أو ذهبه، أو الثمن الذي دفع إليه بعينه ".
( [لا يتصرف المبتاع بالمبيع إلا بعد تسلمه]
:)
(ولا يتصرف فيه قبل قبضه) ؛ لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أسلم في شيء؛ فلا يصرفه إلى غيره ".
وفي إسناده عطية بن سعيد العوفي، وفيه مقال.
__________
(1) • قلت: ولكن هذا الحديث إسناده ضعيف؛ كما قال الحافظ (4 / 343) ، وقد
تبع الشارح الماتن في السكوت عليه في " النيل " (5 / 193) ، وليس بحسن؛
فإنه عند الدارقطني (ص 308) ؛ من طريق عطية بن بقية، حدثني أبي: حدثني
لوذان بن سليمان ... بسنده عن ابن عمر.
وعطية هذا؛ قال ابن حبان: " يخطئ ويغرب ".
ولوذان؛ قال ابن عدي: " مجهول، وما رواه لا يتابع عليه ".
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة - وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه
-؛ وقد ذهب إلى الجواز مالك وأحمد؛ بشرط أن لا يربح فيه، بل يكون بقدر قيمة
دين المسلم.
ورجح هذا الإمام ابن القيم في " تهذيب السنن "، وانتصر له بما لا يستغنى عن
الاطلاع عليه؛ فراجعه؛ فإنه نفيس (5 / 111 - 117) . (ن)
(2/428)
والمعنى: أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا
لشيء قبل قبضه (1) ، ولا يجوز بيعه قبل القبض.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك.
قال مالك:
" لا يشتري منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن
الذي دفع إليه، أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه؛ فهو بيع الطعام
قبل أن يستوفى ".
قلت: وعليه أهل العلم.
في " الوقاية ":
" ولم يجز التصرف في رأس المال والمسلم فيه؛ كالشركة والتولية قبل قبضه ".
وفي " المنهاج ":
" ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، ولا الاعتياض عنه " (1) .
__________
(1) • قلت: الظاهر جوازه؛ لأنه الأصل، والحديث المذكور ضعيف؛ فلا حجة فيه؛
على أنه لو صح لم يتناول محل النزاع، كما قال ابن القيم؛ لأنه لم يصرف
المسلم فيه غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره، فأين المسلم فيه من رأس
المسلم؟
وهذا اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم،
قال:
" وهو الصحيح؛ فإن هذا عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عليه؛ كسائر
الديون من القرض وغيره - قال -؛ وهو مذهب الشافعي "؛ انظر " التهذيب " (4 /
117 - 118) . (ن)
(2/429)
(5 - باب القرض)
( [يجب على المقترض إرجاع ما اقترضه] :)
(يجب إرجاع مثله) ؛ لأنه إذا وقع التعاطي على أن يكون القضاء زائدا على أصل
الدين؛ فذلك هو الربا، بل قد ورد ما يدل على أن مجرد الهدية من المستقرض
للمقرض ربا؛ كما أخرجه البخاري (1) عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قدمت
المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا
كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت (2) ؛ فلا
تأخذنه فإنه ربا.
( [يجوز الإحسان من المقترض للمقرض بدون شرط]
:)
(ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطا) ؛ لحديث جابر في "
الصحيحين "، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي عليه دين؛ فقضاني
وزادني.
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة، قال: كان لرجل على
__________
(1) • في (المناقب) (7 / 103) ، قال الحافظ تعليقا على قوله: فإنه ربا:
" يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام؛ وإلا فالفقهاء على أنه إنما
يكون ربا إذا اشترطه؛ نعم؛ الورع تركه! ".
قلت: لكن ابن سلام لم يتفرد بهذا؛ فقد روى البيهقي (5 / 349) نحوه عن أبي
بن كعب بسند صحيح؛ فالوجه ما يأتي. (ن)
(2) • هو " الفصفصة؛ وهي الرطبة من علف الدواب "، فإذا جف، فهو قضب: "
نهاية ". (ن)
(2/430)
النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل،
فجاء يتقاضاه، فقال: " أعطوه "، فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقها،
فقال: " أعطوه "، فقال: أوفيتني أوفاك الله! فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: " إن خيركم أحسنكم قضاء ".
وأخرج نحوه مسلم، وغيره من حديث أبي رافع.
وهذا الحديثان - كما يدلان على جواز أن يكون القضاء أفضل -؛ يدلان على أنه
يصح قرض الحيوان، وإليه ذهب الجمهور.
ومنع من ذلك الكوفيون (1) .
( [يحرم أي نفع يجره القرض للمقرض] :)
(ولا يجوز أن يجر القرض نفعا للمقرض) (2) ؛ لحديث أنس - عند ابن ماجه -:
أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه، أو حمله على الدابة؛
فلا يركبها ولا يقبله؛ إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ".
وفي إسناده يحيى بن إسحاق الهنائي، وهو مجهول، وفي إسناده أيضا
__________
(1) • واحتجوا بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وقد تقدم.
قال الحافظ (5 / 44) : " وادعى الطحاوي أنه ناسخ لحديث الباب (يعني: حديث
أبي هريرة) ؛ وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الحديثين
ممكن، فقد جمع بينهما الشافعي وجماعة؛ بحمل النهي على ما إذا كان نسيئة من
الجانبين، ويتعين المصير إلى ذلك؛ فإن الجمع بين الحديثين أولى من إلغاء
أحدهما باتفاق، وإذا كان ذلك المراد من الحديث؛ بقيت الدلالة على جواز
استقراض الحيوان والسلم فيه ". (ن)
(2) • يعني: قبل الوفاء. (ن)
(2/431)
عتبة بن حميد الضبي، وقد ضعفه أحمد،
والراوي عنه إسماعيل بن عياش، وهو أيضا ضعيف (1) .
وقد أخرج البخاري في " التاريخ "؛ من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، قال:
" إذا أقرض فلا يأخذ هدية " (2) .
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود، وأبي كعب، وعبد الله بن سلام، وابن عباس في "
السنن الكبرى " موقوفا عليهم:
إن كل قرض جر منفعة؛ فهو وجه من وجوه الربا ".
وأخرج البيهقي أيضا نحو ذلك في " المعرفة " عن فضالة بن عبيد؛ موقوفا عليه.
وقد تقدم ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن سلام (3) .
__________
(1) • وهذا هو الحق؛ أن الحديث ضعيف، وقد أخطأ شيخ الإسلام؛ حيث حسنه في "
الفتاوى " (3 / 127 - 128) .
وقد رددت عليه، وبينت ضعف الحديث من وجوه خمسة في " معجم الحديث "؛ فلا
يغتر أيضا بتحسين السيوطي له، وتصحيح العزيزي { (ن)
(2) • لعله الحديث الأول، اختصره بعض الرواة؛ وإلا فليراجع سنده} (ن)
(3) • قال ابن تيمية - بعد ذكر حديث أنس المتقدم، وهذا الأثر وغيره -: "
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه - المقرض عن قبول هدية المقترض
قبل الوفاء؛ لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء، وإن كان لم يشرط ذلك
ولم يتكلم به؛ فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة، وألف مؤخرة، وهذا
ربا، ولهذا جاز أن يزيده عند الوفاء، ويهدي له بعد ذلك؛ لزوال معنى الربا
". (ن)
(2/432)
وقد أخرجه الحارث بن أبي أسامة من حديث
علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة.
وفي رواية: " كل قرض جر منفعة فهو ربا ".
وفي إسناده سوار بن مصعب، وهو متروك.
وما في الباب من الأحاديث (1) والآثار؛ يشهد بعضها لبعض.
__________
(1) • أما حديث أنس الأول؛ فضعيف كما سبق.
وأما الآخر؛ فإن كان من طريق آخر فينظر فيه؛ فإن صح وجب حمل الحديث والآثار
على ما قبل الوفاء؛ توفيقا بينها وبين حديث أبي هريرة وما في معناه؛ فتأمل!
(ن)
(2/433)
(6 - باب
الشفعة)
والأصل فيها دفع الضرر عن الجيران والشركاء.
( [ما سبب الشفعة؟] :)
(سببها الاشتراك في شيء ولو منقولا) ؛ لعموم الأحاديث الواردة في ذلك؛
كحديث جابر في " البخاري "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى
بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق (1) ؛ فلا شفعة.
وأخرجه أيضا بنحو هذا اللفظ أهل " السنن ".
وحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قسمت
الدار وحدت؛ فلا شفعة فيها ".
أخرجه أبو داود، وابن ماجه، بإسناد رجاله ثقات (2) .
وأخرج مسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم من حديث جابر: أن النبي صلى الله
عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم.
وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: " الشفعة في كل شيء "،
__________
(1) • أي: بينت مصارف الطرق وشوارعها؛ كأنه من التصرف والتصريف: " فتح " (4
/ 345) . (ن)
(2) وقد صححه شيخنا في الصحيحة " (1385) .
(2/434)
ورجاله ثقات؛ إلا أنه أعل بالإرسال (1) .
وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس به (2) .
( [القسمة تبطل الشفعة] :)
(فإذا وقعت القسمة فلا شفعة) ؛ لما في هذه الأحاديث من التصريح بأنها في
الشيء الذي لم يقسم، ثم فسر القسمة بقوله: " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق؛
فلا شفعة ".
فالأحاديث الواردة في مطلق شفعة الجار - كأحاديث: " الجار أحق بسقبه (3) "،
وهي ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما -؛ مقيدة بعدم القسمة؛ لأن الجار - كما
يصدق على الملاصق -؛ يصدق على المخالط.
وأما تقييد شفعة الجار باتحاد الطريق - كما في حديث جابر عند أحمد،
__________
(1) • قال البيهقي (6 / 109) : " والصواب مرسل "؛ ثم ساقه بإسناد آخر عن
ابن عباس؛ وضعفه.
(2) • هذا اختصار مخل {فالذي في " الفتح " - وعنه نقله الشوكاني (5 / 281)
، ثم الشارح -: " بإسناد لا بأس برواته "}
وفرق بين هذا وبين ما ذكره الشارح؛ فإنه أوهم أن إسناده لا بأس به، والحافظ
صرح بأنه لا بأس في رواته، وهذا لا يستلزم نفي البأس عن السند؛ كما لا يخفى
على المدقق؛ فإنه مع ثقة رواته؛ قد يكون فيه علة لا تمنع البأس عنه، وهذا
هو الواقع في سند هذا الحديث؛ فإنه مع ثقة رجاله؛ فإن فيه عنعنة ابن جريج؛
فتأمل! (ن)
(3) • السقب - بفتح القاف -: القرب، وفيه لغتان: السين والصاد.
قال في " النهاية ": " ويحتمل أن يكون أراد أنه أحق بالبر والمعونة بسبب
قربه من جاره ".
وهذا الاحتمال أظهر عندي في معنى الحديث. (ش)
(2/435)
وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -،
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الجار أحق بشفعة جاره؛ ينتظر بها إن
كان غائبا؛ إذا كان طريقهما واحدا " -؛ فهذا الحديث يؤيد ما قلناه من أنه
لا شفعة إلا للخليط؛ لأن الطريق إذا كانت واحدة؛ فالخلطة كائنة فيها، ولم
تقع القسمة الموجبة لبطلان الشفعة؛ لعدم تصريف الطرق.
فالحق: أن سبب الشفعة هو واحد فقط، وهو الشركة قبل القسمة؛ والخلطة الكائنة
بين الشريكين في المشترك بينهما، أو في طريقه، أو في مجاريه، أو منبعه، فما
قيل من أن من أسبابها الاشتراك في الطريق، والاشتراك في قرار النهر أو
مجاري الماء؛ هو راجع إلى السبب الذي ذكرناه؛ لأن الاشتراك في طريق الشيء،
أو في سواقيه؛ هو اشتراك في بعض ذلك الشيء.
والحاصل: أن هذه الأحاديث مخصصة لذلك العموم؛ لأن الظاهر من قوله: " فلا
شفعة "؛ أن القسمة مانعة من ثبوت الشفعة؛ سواء كانت القسمة بين المشتري
والشفيع، أو متقدمة؛ كما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي.
وقد حقق الماتن المقام في رسالة مستقلة؛ أورد فيها جميع ما ورد في الشفعة
من الأدلة، وجمع بينها جمعا نفيسا، فليرجع إليها (1) .
__________
(1) • قلت: لكن يعكر على حصر السبب بالشركة فقط؛ حديث الشريد بن سويد، قال:
قلت: يا رسول الله! أرض - ليس فيها لأحد قسم ولا شرك إلا الجوار - بيعت؟
قال: " الجار أحق بسقبه "؛ أخرجه الطحاوي (2 / 267) بسند صحيح.
وقد جمع بينه وبين الأحاديث المتقدمة: الشوكاني (5 / 282) بتقييده بحديث
جابر المتقدم بلفظ: " إذا كان طريقهما واحدا "؛ قال: " فإنه يدل على أن
الجوار لا يكون مقتضيا للشفعة؛ إلا مع اتحاد الطريق لا بمجرده ".
وهذا أعدل الأقوال؛ كما قال ابن القيم في " التهذيب " (5 / 167) . (ن)
(2/436)
وقد حكى في " البحر " عن علي، وعثمان،
وعمر، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، وربيعة
ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وعبيد الله بن الحسن،
والإمامية: أن الشفعة لا تثبت إلا بالخلطة.
وحكي عن أبي حنيفة، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن سيرين: أن
الشفعة تثبت بالجوار، واستدلوا بالأحاديث الواردة في شفعة الجار.
قال في " شرح السنة ":
" اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة للشريك في الربع (1) المنقسم؛ إذا باع
أحد الشركاء نصيبه قبل القسمة؛ فللباقين أخذه بالشفعة بمثل الثمن الذي وقع
عليه البيع، وإن باع بشيء متقوم من ثوب أو عبد؛ فليأخذ بقيمته.
واختلفوا في ثبوت الشفعة للجار:
قال الشافعي: لا شفعة للجار.
وذهب أبو حنيفة إلى ثبوت الشفعة للجار.
وفي " المنهاج ": " وكل ما لو قسم بطلت منفعته - كحمام ورحى -؛ لا شفعة فيه
في الأصح (2) ".
__________
(1) • هو المنزل ودار الإقامة، وربع القوم محلتهم، والرباع جمعه. (ن)
(2) • الظاهر أن الصواب؛ له حق الشفعة في هذه الصورة أيضا، بل هو أولى؛ لأن
دخول شريك جديد مع الشريك القديم مدعاة لإيجاد خلاف بينهما؛ الأمر الذي تضع
الشريعة الذرائع في سبيله، وهذا يقتضي إبقاء حق الشفعة له؛ فتأمل! (ن)
(2/437)
وفي " الموطإ ": عن عثمان بن عفان: لا شفعة
في بئر ولا نخل (1) .
قال في " الحجة البالغة ": " أرى أن الشفعة شفعتان: شفعة يجب على المالك أن
يعرضها على الشفيع، فيما بينه وبين الله، وأن يؤثره على غيره، ولا يجبر
عليها في القضاء، وهي للجار الذي ليس بشريك.
وشفعة يجبر عليها في القضاء، وهي للجار الشريك فقط، وهذا وجه الجمع بين
الأحاديث المختلفة في الباب ". انتهى.
والحق ما قدمناه.
( [بيان أنه لا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن
شريكه] :)
(ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه) ؛ لحديث جابر عند مسلم وغيره: أن
النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم - ربعة أو حائط
-؛ لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باعه
ولم يؤذنه؛ فهو أحق به.
( [لا تبطل الشفعة بالتراخي] :)
(ولا تبطل بالتراخي) ؛ لما في الأحاديث الواردة في الشفعة من الإطلاق.
وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ: " لا شفعة لغائب
__________
(1) لفظ " الموطإ ": " لا شفعة في بئر ولا في فحل النخل "، وبين صاحب "
النهاية " سببه؛ بأنه كان للقوم نخيل، ولهم فحل يلقحون منه نخيلهم، فلا
شفعة فيه؛ لأنه لا يمكن قسمته.
وهذا خلاف ظاهر ما فهمه الشارح هنا. (ش)
(2/438)
ولا لصغير، والشفعة كحل العقال ": ففي
إسناده محمد بن عبد الرحمن البيلماني، وهو ضعيف جدا، وقال ابن حبان: لا أصل
للحديث، وقال أبو زرعة: منكر، وقال البيهقي: ليس بثابت، ولا يصح تأييد هذا
الحديث الباطل بما روي من قول شريح؛ فإنه لا حجة في ذلك.
على أن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاثة أحكام: نفي شفعة الغائب، ونفي شفعة
الصغير، واعتبار الفور، وقد هُجر ظاهره في الحكمين الأولين، فكان ذلك مفيدا
لترك الاحتجاج به في الحكم الثالث، على فرض أنه غير باطل.
والحاصل: أنه ليس في اشتراط الفورية ما يصلح متمسكا كما لا يخفى على عارف،
وقد ثبتت الشفعة بتلك الأحاديث الصحيحة، فتقييد الثبوت بقيد لا دليل عليه
مستلزم لإبطال ما يستفاد من أحاديث الثبوت من الإطلاق بدون حجة؛ وذلك باطل.
فالحق: أن الشفعة لا تبطل بالتراخي؛ لأن دفع الضرر الذي شرعت لأجله لا يختص
بوقت دون وقت.
وما قيل من أن إثباتها مع التراخي يستلزم الإضرار بالمشتري - لأن ملكه يكون
معلقا -: ممنوع، والسند أن ملكه مستقر يتصرف به كيف يشاء، غاية ما هناك أن
للشفيع حقا؛ متى طلبه وجب، وليس ذلك من التعليق في شيء، ولا إضرار في ذلك
بحال (1) .
__________
(1) كلا؛ بل الضرر واقع على المشتري؛ فإن توقع طلب الشريك الشفعة يفوت عليه
كثيرا من المقاصد، وإذا أراد أن يبيع باع بالبخس؛ لخوف المشتري الجديد أن
يخرج من ملكه بالشفعة.
والحق: أن تقدير أن هذا الحق للشريك موكول إلى الحاكم؛ لأنه مما لا نص فيه،
فإذا حد له أجلا؛ وجب الوقوف عنده. (ش)
(2/439)
(7 - باب
الإجارة)
( [الأدلة على مشروعية الإجارة] :)
قال الله - تعالى في قصة موسى وشعيب - عليهما السلام - {قالت إحداهما يا
أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} ، وقال - تعالى: {وإن أردتم
أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} .
في هذه الآية مشروعية الإجارة مطلقا، ومشروعية الإجارة بتسليم نفسه للخدمة،
وعليه أهل العلم، وتدل أيضا على أنه إن أطلق الخدمة؛ فهي محمولة على
المتعارف، ولا يضرها الجهالة في الجملة؛ لأن الإرضاع والرعي لا يضبتان حق
الضبط.
(تجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي) ؛ لإطلاق الأدلة الواردة في ذلك؛
كحديث أبي سعيد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير
حتى يبين له أجره.
أخرجه أحمد (1) ؛ ورجال إسناده رجال الصحيح.
__________
(1) • في " المسند " (3 / 59، 68، 71) ، وكذا البيهقي (6 / 120) ؛ من طريق
إبراهيم، عن أبي سعيد مرفوعا؛ وقال البيهقي: " وهو مرسل بين إبراهيم - وهو
النخعي - وأبي سعيد ".
قلت: فلم يفد أن رجاله رجال الصحيح!
وهو عند النسائي (2 / 147) موقوف من هذا الوجه. (ن)
قلت: قد انفصل شيخنا إلى تضعيفه في " الإرواء " (1490) .
(2/440)
وأخرجه أيضا البيهقي، وعبد الرزاق، وإسحاق
في " مسنده "، وأبو داود في " المراسيل "، والنسائي في (المزارعة) ؛ غير
مرفوع (1) .
ولفظ بعضهم: " من استأجر أجيرا؛ فليسم له أجرته ".
ولإطلاق حديث أبي هريرة - عند البخاري، وأحمد، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " يقول الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه
خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا؛
فاستوفى منه ولم يوفه أجره " (2) .
وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم دليلا عند هجرته إلى المدينة؛ كما في
" البخاري " وغيره.
وثبت في حديث أبي هريرة عند البخاري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "
ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم "، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: " نعم؛ كنت
أرعاها على قراريط لأهل مكة ".
وأخرج أحمد (3) ، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث سويد بن قيس،
قال: جلبت أنا ومخرمة (4) العبدي بزا من هجر، فأتينا به مكة،
__________
(1) • ورجحه بعضهم. (ن)
(2) انظر الكلام عن هذا الحديث في " إرواء الغليل " (1489) لشيخنا.
(3) • في " المسند " (4 / 352) ، وأبو داود (2 / 84) ، والنسائي (2 / 226)
، والترمذي (2 / 268) ، وابن ماجه (2 / 25) ، والحاكم (2 / 30 - 31) ،
والبيهقي (6 / 32 - 33) .
وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)
(4) • كذا وقع عند بعض المخرجين، وعند بعضهم " مخرقة " بالفاء ".
ونقل ابن التركماني عن ابن الصلاح أنه الصواب. (ن)
(2/441)
فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي،
فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجر، فقال له: " زن وأرجح ".
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر قدر أجرته؛ بل أعطاه ما يعتاده في مثل
ذلك، وقد كان الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - يؤجرون أنفسهم في عصره صلى
الله عليه وسلم، ويعملون الأعمال المختلفة، حتى إن عليا آجر نفسه من امرأة
على أن ينزع لها كل ذنوب بتمرة، فنزع ستة عشر ذنوبا، حتى مجلت (1) يداه،
فعدت له ست عشرة تمرة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأكل معه
منها؛ أخرجه أحمد (2) من حديث علي بإسناد جيد.
وأخرجه أيضا ابن ماجه، وصححه ابن السكن.
وأخرجه البيهقي (3) ، وابن ماجه من حديث ابن عباس: أن عليا آجر نفسه من
يهودي؛ يسقي له كل دلو بتمرة.
__________
(1) " مجلت يده: إذا ثخن جلدها، وظهر فيها ما يشبه البثر؛ من العمل في
الأشياء الصلبة الخشنة "؛ قاله ابن الأثير. (ش)
(2) • لم أجده الآن، وقد ساق إسناده الزيلعي (4 / 133) ؛ وهو من طريق مجاهد
عن علي، ثم نقل عن " التنقيح " أنه منقطع بين مجاهد وعلي، قال أبو زرعة: "
مجاهد عن علي مرسل ".
قلت: وقد أخرجه البيهقي (6 / 119) بسند صحيح عن مجاهد، قال: خرج علينا علي
معتجرا ببرد ... فذكر الحديث، فهذا فيه سماعه منه.
لكن قال الدوري: " قيل لابن معين: يروى عن مجاهد أنه قال: خرج علينا علي؟
فقال: ليس بشيء " انظر " التهذيب ". (ن)
(3) • في " سننه الكبرى " (6 / 119) ، وابن ماجه (2 / 85) ، وفيه حنش؛
واسمه: حسين بن قيس، وهو ضعيف.
لكن له عند ابن ماجه شواهد. (ن)
(2/442)
وأما المانع الشرعي؛ فهو مثل الصور التي
سيأتي ذكرها.
( [مشروعية تقدير الأجرة عند الاستئجار]
:)
(وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار) ؛ لحديث أبي سعيد المتقدم.
( [إذا لم تقدر الأجرة عند الاستئجار فله أجرة
مثيله] :)
(فإن لم تكن) أجرته (كذلك) ؛ أي: معلومة (استحق الأجير مقدار عمله عند أهل
ذلك العمل) ؛ لحديث سويد بن قيس السابق، ولكون ذلك هو الأقرب إلى العدل.
وأما أجرة القسام فأقول: القسام أجير كسائر الأجراء، يستحق أجرته ممن عمل
له، فإن كانت مسماة لم يستحق سواها، وإن كانت غير مسماة كانت له [أجرة] (1)
مثله على حسب العمل، ولكنه لا يُجعل له من الأجرة ما يُجعل لمن يزاول
الأعمال الوضيعة؛ لأن مرجع صناعة القسمة إلى العلم، وهو أشرف صناعة دينا
ودنيا، ولا يجعل له ما يجعل للقسامين في هذا العصر من الأجرة؛ التي تكاد
تبلغ إلى مقدار نصيب بعض المقتسمين، فإن ذلك من الظلم البحت، بل يسلك به
مسلكا وسطا، وتكون الأجرة على مقدار الأنصباء، فيكون على كل واحد من
الشركاء بمقدار نصيبه.
وأما ما يروى عن بعض أهل العلم؛ أن أجرة القسام تكون نصف عشر التركة، أو
ربع عشرها؛ فمجازفة لا ترجع إلى دليل؛ بل إعانة لظلمة القسامين على أكل
أموال الناس بالباطل، ولقد تفاحش كثير من الحكام
__________
(1) • زيادة لا بد منها. (ن)
(2/443)
ونوابهم في هذا الأمر، وصنعوا صنيع من لا
يخشى تبعة في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة!
مع أن من كان منهم يأخذ مقررا من بيت المال؛ لا يستحق على القسمة شيئا من
الأجرة؛ لأنه قد صار مستغرق المنافع، فكما أنه لا يأخذ أجرة على قضائه؛
كذلك لا يأخذ أجرة على القسمة؛ لأن الكل من مصالح المسلمين؛ التي أخذ نصيبا
من بيت المال في مقابلة القيام بها بحسب طاقته.
( [كسب الحجام مكروه وأجرة الكاهن والزانية
حرام] :)
(وقد ورد النهي عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن) ؛ لحديث أبي
هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن
الكلب.
أخرجه أحمد (1) برجال الصحيح.
وأخرجه أيضا الطبراني في " الأوسط ".
ومثله من حديث رافع بن خديج عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، والترمذي -
وصححه -، وهو أيضا في " صحيح مسلم " (2) .
وفي " الصحيحين "، وغيرهما، عن أبي مسعود البدري، قال: نهى النبي
__________
(1) • في " المسند " (2 / 299، 332، 347، 415، 500) من طرق عن أبي هريرة.
وروى بعضها الطحاوي بلفظ: " إن من السحت كسب الحجام "؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) • (5 / 35) ؛ ولفظه: " ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام
خبيث "، وفي رواية له: " شر الكسب ... " فذكرها.
واللفظان في " المسند " (4 / 140، 141، 3 / 465) (ن) .
(2/444)
صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر
البغي، وحلوان الكاهن.
(وعسب الفحل) ، وقد تقدم الكلام على ثمن الكلب، وعلى عسب الفحل في البيع.
والمراد بمهر البغي: ما تأخذه الزانية على الزنا، والمراد بحلوان الكاهن:
عطية الكاهن لأجل كهانته، والحلوان بضم الحاء المهملة: مصدر حلوته إذا
أعطيته.
وقد استدل بما تقدم بعض أهل الحديث، فقال: إنه يحرم كسب الحجام، وقد ورد في
معنى ما تقدم أحاديث، وفي بعضها التصريح (1) بأنه خبيث وأنه سحت.
وذهب الجمهور إلى أنه حلال لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي
صلى الله عليه وسلم احتجم؛ حجمه أبو طيبة، وأعطاه صاعين من طعام، وكلم
مواليه فخففوا عنه (2) .
وفيهما أيضا من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم؛ وأعطى
الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه (3) .
والأولى الجمع بين الأحاديث؛ بأن كسب الحجام مكروه غير حرام؛ إرشادا منه
صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأمور، ويؤيد ذلك حديث محيصة بن مسعود - عند
أحمد،
__________
(1) • انظر التعليق المتقدم (رقم 2) في الصفحة السابقة. (ن)
(2) • يعني: من خراجه؛ كما صرح في رواية البخاري (4 / 258) . (ن)
(3) • " مصنف ابن أبي شيبة " (6 / 268) . (ن)
(2/445)
وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه بإسناد
رجاله ثقات (4) -: أنه كان له غلام حجام، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم
عن كسبه، فقال له: ألا أطعمه أيتاما لي؟ قال: " لا "، قال: أفلا أتصدق به؟
قال: " لا "، فرخص له أن يعلفه ناضحه.
فلو كان حراما بحتا؛ لم يرخص له أن يعلفه ناضحه، ويستفاد منه أن إعطاءه صلى
الله عليه وسلم الحجام لا يستلزم أن يأكله أهله، حتى لا تتعارض الأحاديث،
فقد يكون مكروها لهم، ويكون وصفه بالسحت والخبث مبالغة في التنفير.
وقد يمكن الجمع؛ بأن المنع عن مثل ما منع منه محيصة، والإذن بمثل ما أذن له
ورخص له فيه (1) .
__________
(4) كذا قال الحافظ في " الفتح " (4 / 363) ، وهو كما قال؛ فإنه عند أحمد
(5 / 435) ، وأبي داود (2 / 96) ، والترمذي (2 / 257) - وحسنه -؛ ثلاثتهم،
عن مالك، عن الزهري، عن ابن محيصة، عن أبيه: أنه استأذن رسول الله في إجارة
الحجام؟ فنهاه عنها، فلم يزل يسأل ويستأذن، حتى أمره أن " اعلفه ناضحك
ورقيقك "؛ وسنده صحيح.
وهو في " الموطإ " (3 / 141) ، لكن وقع في سنده ومتنه خطأ.
ورواه ابن ماجه (2 / 11) ، وأحمد أيضا من طرق أخرى عن الزهري ... به؛ دون
قوله: " ورقيقك "؛ وهي زيادة ثابتة؛ لأن مالكا حجة، سيما وقد تابعه عليها
عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عند الطحاوي (2 / 272) ، وهو ثقة من رجال
البخاري.
وللحديث في " المسند " طريقان آخران؛ في كل منهما رجل مجهول، واللفظ الذي
في الكتاب لهما؛ فما أحسن المصنف؛ إذ اختاره وأعرض عن اللفظ الصحيح { (ن)
(1) • قلت: وهذا هو الصواب الذي يقتضيه حديث محيصة، ولا ينهض معارضته
بأحاديث إعطائه صلى الله عليه وسلم الأجرة للحجام؛ لأن الإعطاء غير الأخذ
في بعض الأحوال؛ ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي السائل وهو غير
مستحق للسؤال، ثم يقول: " إنما تكون تحت إبطه نارا "؟}
قال الحافظ في " الفتح ": " وذهب أحمد وجماعة إلى التفريق بين الحر والعبد؛
فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة، ويحرم عليه الإنفاق على نفسه منها، ويجوز
الإنفاق على الرقيق والدواب منها، وأباحوها للعبد مطلقا، وعمدتهم حديث
محيصة ".
وهذا هو الحق، وكيف يصح حمل النهي على التنزيه؛ مع التصريح بأن كسب الحجام
سحت كما تقدم؟ ! (ن)
(2/446)
( [نهى صلى
الله عليه وسلم عن أجر المؤذن] :)
(وأجر المؤذن) ؛ لحديث عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لعثمان بن أبي العاص: " واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا "، وفي لفظ: "
لا تتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا "، والحديث في " الصحيح " (1) .
( [نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز
الطحان] :)
(وقفيز الطحان) ؛ لحديث أبي سعيد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن قفيز الطحان.
أخرجه الدارقطني، والبيهقي؛ وفي إسناده هشام أبو كليب (2) ؛ قيل: لا يعرف،
وقد أورده ابن حبان في " الثقات "، ووثقه مغلطاي.
وقفيز الطحان: هو أن يطحن الطعام بجزء منه.
وقيل: المنهي عنه طحن الصبرة (3) - لا يعلم قدرها - بجزء منها.
__________
(1) ولكن؛ هل هذا يدل على كراهة أخذ المؤذن الأجر؟ لا أظن ذلك؛ بل يدل على
أن على الإمام أن يبحث عمن لا يأخذ الأجر؛ ليكون أكثر ثوابا.
وأما أخذ المؤذن الأجر؛ فلم يرد فيه نهي، ويكون بمفهوم هذا الحديث خلاف
الأولى؛ والأصل في الأشياء الإباحة، وما سكت الله عنه فهو عفو؛ كما في
الحديث الصحيح. (ش)
• هذا وهم؛ فليس هو في " الصحيح "؛ وإن كان سنده صحيحا؛ انظر " نيل الأوطار
" (2 / 49) .
وعزوه لحديث عبادة خطأ آخر؛ نشأ من عبارة المجد في " المنتقى " (5 / 242 -
بشرح الشوكاني) ؛ فراجعه.
والحديث رواه الطحاوي أيضا (2 / 270) . (ن)
(2) • قال الذهبي في ترجمته - وقد ساق له هذا الحديث -: " هذا منكر، وراويه
لا يعرف ".
وتوثيق ابن حبان لا يعتمد في مثل هذا. (ن)
(3) هي الطعام المجتمع كالكومة (ش) .
(2/447)
( [جواز
الاستئجار على تلاوة القرآن] :)
(ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن (1)) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري،
وغيره (2) : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم
لديغ، أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق، فإن في
الماء رجلا لديغا أو سليما؟ فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء،
فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا؟
{حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله} أخذ على كتاب الله أجرا! فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ".
وفي لفظ من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أصبتم؛
اقتسموا واضربوا لي معكم سهما "، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث
في " الصحيحين " بألفاظ.
وفي حديث خارجة بن الصلت، عن عمه؛ في رقية المجنون بفاتحة الكتاب: أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " خذها؛ فلعمري؛ من أكل برقية باطل؛ فقد أكلت
برقية حق ".
أخرجه أحمد (3) ، وأبو داود، والنسائي.
__________
(1) • لو قال: على تلاوة القرآن على اللديغ ونحوه؛ لكان أدق؛ فإنه الذي يدل
عليه الحديث، ولتخرج به التلاوة للاستماع إليها، والتلاوة للتذكير
والتبليغ. (ن)
(2) • كالطحاوي (2 / 269) ، والدارقطني (ص 315 - 316) ، والبيهقي (6 / 134)
؛ من طرق عن عبيد الله بن الأخنس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس - وصححه
الدارقطني -.
وهو في (الطب) من " البخاري " (10 / 163) . (ن)
(3) • في " المسند " (5 / 210 - 211) ؛ وسنده حسن.
وسكت عليه المنذري في " مختصره " (5 / 368) . (ن)
(2/448)
( [عدم جواز
أخذ الأجر على تعليم القرآن] :)
(لا على تعليمه) ، لحديث أبي بن كعب، قال: علمت رجلا القرآن، فأهدى لي
قوسا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " إن أخذتها أخذت قوسا من
نار "؛ فرددتها.
أخرجه ابن ماجه، والبيهقي، وقد أعل بالانقطاع، وتعقب، وأعل أيضا بجهالة بعض
رواته، وتعقب (1) .
وله شاهد عند الطبراني من حديث الطفيل بن عمرو الدوسي، قال: أقرأني أبي بن
كعب القرآن، فأهديت إليه قوسا، فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد
تقلدها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تقلدها من جهنم ".
وعلى هذا يحمل حديث عبد الرحمن بن شبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا
تستكثروا به "؛ أخرجه أحمد (2) برجال الصحيح.
وأخرجه أيضا البزار، وله شواهد (3) .
__________
(1) • انظر تحقيقه في " نيل الأوطار " (5 / 243) . (ن)
(2) • في " المسند " (1 / 428، 444) ؛ من طريق يحيى بن أبي كثير. عن زيد بن
سلام، عن جده عن أبي راشد الحبراني، عن ابن شبل؛ ورجاله ثقات، كما قال
الهيثمي (4 / 95، 7 / 168) .
وأبو راشد هذا؛ ليس من رجال الصحيح، ثم إن يحيى ابن أبي كثير مدلس، وقد
عنعنه.
فقول الحافظ في " الفتح " (9 / 82) : " وسنده قوي "؛ غير قوي، فلعله قواه
لشواهده التي أشار إليها الشارح.
ثم وجدت الحديث أخرجه الطحاوي (2 / 10) ، وقد صرح يحيى بالتحديث عنده في
إحدى رواياته؛ فصح بذلك الحديث، والحمد لله على توفيقه! (ن)
(3) • انظر " سنن أبي داود " (1 / 132) ، و " المجمع " (7 / 167 - 168) و "
الحاكم " (2 / 41) . (ن)
(2/449)
وحديث عمران بن حصين، أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: " اقرؤوا القرآن، واسألوا الله به؛ فإن من بعدكم قوما
يقرؤون القرآن يسألون الناس به "؛ أخرجه أحمد، والترمذي - وحسنه -.
وفي الباب أحاديث.
ووجه المنع من أخذ الأجرة على تعليمه: أن ذلك من تبليغ الأحكام الشرعية؛
وهو واجب، وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، وأصحابه، وأبو حنيفة، وبه قال
عطاء، والضحاك، والزهري، وإسحاق، وعبد الله بن شقيق.
هذا؛ وقد مال الماتن في " حاشية الشفاء " إلى أن الجمع مقدم على الترجيح؛
قال:
" لأن حديث: " أحق ما أخذتم عليه أجرا القرآن " عام يصدق على التعليم، وأخذ
الأجرة على التلاوة لمن طلب من القارئ ذلك، وأخذ الأجرة على الرقية، وأخذ
ما يدفع إلى القارئ من العطاء لأجل كونه قارئا، ونحو ذلك؛ فيخص من هذا
العموم تعليم المكلف، ويبقى ما عداه داخلا تحت العموم، وبعض أفراد العام
فيه أدلة خاصة تدل على جوازه؛ كما دل العام على ذلك.
فمن تلك الأفراد: " أخذ الأجرة على الرقية، وتعليم المرأة في مقابلة مهرها؛
فهكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام.
والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن، ولا سيما لما لا مدخل له فيما نحن
بصدده؛ كما زعمه المصنف، والمقبلي.
(2/450)
وبهذا تعلم أن ما ساقه في أدلة القائلين
بجواز أخذ الأجرة على التعليم من حديث الرقية؛ لا دلالة فيه على المطلوب ".
( [جواز كراء العين مدة معلومة بأجرة معلومة]
:)
(و) يجوز (أن يكري العين مدة معلومة بأجرة معلومة) ؛ لما ورد من إكراء
الأراضي في عصره - صلى الله عليه وسلم -، كحديث رافع بن خديج في " الصحيحين
"، قال: كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه،
فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما بالورق فلم ينهنا.
وفي لفظ مسلم، وغيره: فأما شيء معلوم مضمون؛ فلا بأس به.
وسائر الأعيان لها حكم الأرض.
وفي " شرح السنة ":
" ذهب عامة أهل العلم إلى جواز كراء الأرض بالدراهم والدنانير وغيرها من
صنوف الأموال؛ سواء كان مما تنبت الأرض أولا تنبت؛ إذا كان معلوما بالعيان
أو بالوصف، كما يجوز إجارة غير الأراضي من العبيد والدواب وغيرها، وجملته:
أن ما جاز بيعه جاز أن يجعل أجرة ".
قال محمد: لا بأس بكراء الأرض بالذهب والورق، وبالحنطة كيلا معلوما؛ وضربا
معلوما، ما لم يشترط ذلك مما يخرج منها، فإن اشترط مما يخرج منها كيلا
معلوما؛ فلا خير فيه، وهو قول أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا.
(2/451)
( [جواز كراء
الأرض بأجرة معلومة] :)
(ومن ذلك الأرض لا بشطر ما يخرج منها) ؛ لأن أحاديث: أن النبي صلى الله
عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من تمر أو زرع - وإن كانت ثابتة في "
الصحيحين " وغيرهما -؛ فهي منسوخة بمثل حديث رافع - المتقدم -، (1) وما ورد
في معناه.
وفي المسألة مذاهب متنوعة، وأدلة مختلفة، واجتهادات مضطربة، قد أوضحها
الماتن في " شرح المنتقى "، وفي رسالة مستقلة، وذكرتها في " مسك الختام ".
ومن أصرح أحاديث النهي: حديث جابر - عند مسلم وغيره -، قال: كنا نخابر (2)
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصيب من القصري (3) ومن كذا ومن
كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كانت له أرض؛ فليزرعها أو
ليحرثها أخاه؛ وإلا فليدعها ".
__________
(1) • قلت: حديث رافع لا يدل على النسخ مطلقا؛ لأنه وارد فيمن أكرى أرضا
على أن له ما يخرج من قطعة معينة منها، ولا يخفى ما في هذه المعاملة من
الغرر؛ بخلاف المزارعة على قسم مسمى مما يخرج من جميعها، فهذا مما لا غرر
فيه البتة، فكيف ينسخ هذا بما فيه غرر؟
وما الفرق بين إيجار الأرض بأجرة معلومة من النقدين، أو مما يخرج منها
جميعها؟ ! (ن)
(2) • قد جاء بيان هذه المخابرة في رواية عن رافع بن خديج، قال: إنما كان
الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات،
وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك
هذا، ولم يكن للناس كرى إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون؛ فلا
بأس به؛ رواه مسلم وغيره. (ن)
(3) قوله: " القصري ": قال النووي في " شرح مسلم ": " هو بقاف مكسورة، ثم
صاد مهملة ساكنة، ثم راء مكسورة، ثم ياء مشددة؛ على وزن (القبطي) ؛ هكذا
ضبطناه، وكذا ضبطه الجمهور؛ وهو المشهور.
قال القاضي: هكذا رويناه عن أكثرهم.
وعن الطبري: بفتح القاف والراء مقصور.
وعن ابن الخزاعي: ضم القاف مقصور.
قال: والصواب الأول، وهو ما بقي من الحب في السنبل بعد الدياس ". اه.
(2/452)
وفي حديث سعد بن أبي وقاص: أنه نهاهم أن
يكروا بذلك، وقال: " أكروا بالذهب والفضة "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود،
والنسائي، ورجاله ثقات (1) .
وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة نحو حديث جابر.
وفي " الحجة البالغة ":
" اختلف الرواة في حديث رافع اختلافا فاحشا، وكان زيادة وجوه التابعين
يتعاملون بالمزارعة، ويدل على الجواز حديث معاملة أهل خيبر.
وأحاديث النهي عنها محمولة على الإجارة بما على الماذيانات، أو قطعة معينة،
وهو قول رافع (2) ، أو على التنزيه والإرشاد، وهو قول ابن عباس (3) ،
__________
(1) • كذا {وقد نقل هذا الشوكاني (5 / 236) عن الحافظ؛ لكن مع الاستثناء
الآتي: " إلا أن محمد بن عكرمة المخزومي لم يرو عنه إلا إبراهيم بن سعد ".
وكذا قال الذهبي في " الميزان "، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وقال في "
التقريب ": " مقبول ". (ن)
(2) • انظر التعليق المتقدم (رقم 1) من الصفحة السابقة. (ن)
(3) • قال المجد ابن تيمية: " وما ورد من النهي المطلق عن المخابرة
والمزارعة؛ يحمل على ما فيه مفسدة، كما بينته هذه الأحاديث، أو يحمل على
اجتنابها ندبا واستحبابا؛ فقد جاء ما يدل على ذلك: فروى عمرو بن دينار،
قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة؛ فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عنها؟ فقال: إن أعلمهم - يعني: ابن عباس - أخبرني؛ أن النبي صلى
الله عليه وسلم لم ينه عنها، وقال: " لأن يمنح أحدكم أخاه؛ خير له من أن
يأخذ خراجا معلوما "؛ رواه أحمد، والبخاري ".
قال الشوكاني في " النيل " (5 / 237) : " وهذا كلام حسن، ولا بد من المصير
إليه للجمع بين الأحاديث المختلفة، وهذا الذي رجحناه فيما سلف ".
قلت: يعني (ص 234 - 235) من " النيل "، وقد صرح هناك بأنه لا سبيل إلى جعل
ما فعله صلى الله عليه وسلم في خيبر منسوخا؛ لموته وهو مستمر على ذلك،
وتقريره لجماعة من الصحابة عليه.
وهذا هو الحق، ومنه يتبين لك أن قوله في " المتن ": " ... لا بشطر ما يخرج
منها "؛ غير صواب؛ فتأمل} (ن)
(2/453)
أو على مصلحة خاصة بذلك الوقت من جهة كثرة
مناقشتهم في هذه المعاملة حينئذ، وهو قول زيد - رضي الله تعالى عنه -،
والله - تعالى - أعلم ".
" والمزارعة: أن يكون الأرض والبذر لواحد، والعمل والبقر من الآخر،
والمخابرة: أن يكون الأرض لواحد، والبذر والبقر والعمل من الآخر، ونوع آخر
يكون العمل من أحدهما والباقي من الآخر ". انتهى.
( [بيان أن من أفسد ما استؤجر عليه أو تلف ما
استأجره ضمن] :)
(ومن أفسد ما استؤجر عليه، أو أتلف ما استأجره ضمن) ؛ لمثل حديث (1) : "
على اليد ما أخذت حتى تؤديه ".
أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم - وصححه -، وهو من
حديث الحسن عن سمرة؛ وفي سماعه منه كلام مشهور.
والمراد: أن على اليد ضمان ما أخذت حتى تؤديه.
وأخرج أبو داود (2) ، والنسائي، وابن ماجه، والبزار من حديث عمرو ابن شعيب،
عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
__________
(1) • سيأتي. (ن)
(2) • في (الديات) (2 / 257 - 258) ، والدارقطني أيضا (ص 370، 516) ؛ من
طريق الوليد ابن مسلم: ثنا ابن جريج، عن عمرو ... به.
وقال أبو داود: " هذا لم يروه إلا الوليد، لا ندري هو صحيح أم لا؟ ".
قلت: والوليد يدلس تدليس التسوية؛ فلعله أسقط الواسطة بين ابن جريج وعمرو؛
على أن ابن جريج مدلس أيضا؛ وقد عنعنه. (ن)
وانظر " الصحيحة " (635) .
(2/454)
" من تطبب ولم يعلم منه طب؛ فهو ضامن ".
وقد أخرجه النسائي مسندا منقطعا.
ويؤيده حديث عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: حدثني بعض الوفد الذين
قدموا على أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أيما طبيب تطبب على قوم؛ لا يعرف له تطبب قبل ذلك، فأعنت (1) ؛ فهو ضامن
"؛ أخرجه أبو داود.
فالمتطبب إنما ضمن؛ لكونه أقدم على بدن المريض غير عالم بما يعلم به أهل
هذه الصناعة، فكان ضامنا.
وهكذا من استؤجر على عمل معين، فأقدم على العمل فيها غير عالم بالصناعة،
وأفسدها لتعاطيه؛ ضمن.
وهكذا من استأجر دابة ليركب عليها إلى مكان، فسار بها سيرا غير معتاد،
فهلكت، أو ترك علفها، فماتت؛ فإنه ضامن.
__________
(1) أي: أضر المريض وأفسده.
والعنت: الفساد والغلط والخطأ، والإعنات: إدخال الضرر والإفساد. (ش)
(2/455)
(8 - باب
الإحياء والإقطاع)
( [من أحيا أرضا ميتة فهي له] :)
(من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره؛ فهو أحق بها، وتكون ملكا له) ؛
لحديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
من أحيا أرضا ميتة فهي له ".
أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، وصححه الترمذي.
وفي لفظ: " من أحاط حائطا على أرض؛ فهي له "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والطبراني، والبيهقي، وصححه ابن الجارود من حديث
الحسن، عن سمرة؛ مرفوعا:
" من أحاط حائطا على أرض فهي له " (1) .
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والنسائي من
__________
(1) صحيح؛ انظر " الإرواء " (1554) .
(2) • لم أجده عنده في مسند سعيد بن زيد، وهو عند أبي داود (2 / 50) بسند
صحيح.
وقد أعله بالانقطاع؛ وليس بشيء. (ن)
(2/456)
حديث سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
" من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق (1) ظالم حق " (2) .
وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
" من عمر أرضا ليست لأحد؛ فهو أحق بها ".
وأخرج أبو داود من حديث أسمر بن مضرس، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم
فبايعته، فقال: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم؛ فهو له "؛ فخرج الناس
يتعادون يتخاطون؛ أي: يجعلون في الأرض خطوطا علامة لما سبقوا إليه.
وصححه الضياء في " المختارة " (3) .
في " شرح السنة ":
" من أحيا مواتا - لم يجر عليه ملك أحد في الإسلام - يملكه، وإن لم يأذن
السلطان؛ وبه قال الشافعي.
وذهب بعضهم إلى أنه يحتاج إلى إذن السلطان، وهو قول أبي حنيفة، وخالفه
صاحباه.
__________
(1) • أحد عروق الشجرة، أي: لذي عرق. (ن)
(2) • قال في " النهاية ": " هو أن يجيء الرجل إلى أرض، قد أحياها رجل
قبله، فيغرس فيها غرسا غصبا؛ ليستوجب به الأرض ". (ن)
(3) • رواه (1 / 58) بإسناد أبي داود (2 / 50) ، وفيه مجهولون كما بينته في
" معجم الحديث "؛ ولهذا قال المنذري في " مختصره " (4 / 264) : " غريب ".
(ن)
(2/457)
وقوله: " ليس لعرق ظالم حق "؛ هو أن يغتصب
أرض الغير، فيغرس فيها أو يزرع؛ فلا حق له، ويقلع غراسه وزرعه ".
وفي " المنهاج ":
" ولو سبق رجل إلى موضع من رباط مسبل - أي: وقف -، أو فقيه إلى مدرسة، أو
صوفي إلى (خانقاه) ؛ لم يزعج منه، ولم يبطل حقه بخروجه لشراء حاجة ونحوه ".
انتهى.
في " الحجة البالغة ":
" الأرض كلها بمنزلة مسجد أو رباط جعل وقفا على أبناء السبيل، وهم شركاء
فيه، فيقدم الأسبق فالأسبق.
ومعنى الملك في حق الآدمي: كونه أحق بالانتفاع من غيره ". انتهى.
( [الأدلة على جواز إقطاع الإمام بعض رعيته
لمصلحة] :)
(ويجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة شيئا من الأرض الميتة أو المعادن
أو المياه) ؛ لما في " الصحيحين " من حديث أسماء بنت أبي بكر: من أنها كانت
تنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أحمد، وأبو داود، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع
الزبير حضر (1) فرسه، وأجرى الفرس حتى قام (2) ، ثم
__________
(1) الحضر - بضم الحاء وإسكان الضاد -: العدو. (ش)
(2) • أي: وقف؛ يعني: الفرس؛ يذكر ويؤنث. (ن)
(2/458)
رمى بسوطه فقال: " أقطعوه حيث بلغ السوط "؛
وفي إسناده عبد الله بن عمر ابن حفص؛ وفيه مقال خفيف (1) .
وأقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - وائل بن حجر أرضا بحضرموت؛ كما أخرجه
الترمذي، وأبو داود، وابن حبان، والبيهقي، والطبراني، والمنذري (2) ؛
بإسناد حسن، وصححه الترمذي.
وأخرج أحمد (3) من حديث عروة بن الزبير أن عبد الرحمن بن عوف قال: أقطعيني
النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا.
وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس، قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم
الأنصار ليقطع لهم البحرين، فقالوا: يا رسول الله {إن فعلت فاكتب لإخواننا
من قريش بمثلها، فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إنكم
ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا حتى تلقوني ".
وأخرج أحمد (4) ، وأبو داود من حديث ابن عباس قال: أقطع النبي صلى الله
عليه وسلم
__________
(1) • بل هو ضعيف كما في " التقريب ". (ن)
(2) • لا أدري ما وجه هذا؟} فليس من شأن المنذري تخريج الأحاديث - بالمعنى
المشهور -، ولم يتكلم على سنده في " مختصر أبي داود " (4 / 258) !
والحديث رواه البيهقي أيضا (6 / 144) ؛ وعنده قصة دخول وائل على معاوية لما
استخلف، وسنده صحيح. (ن)
(3) • رقم (1670) ؛ ورجاله ثقات رجال مسلم؛ إلا أن ظاهره الانقطاع بين عروة
وعبد الرحمن. (ن)
(4) • رقم (2788) ، وأبو داود (2 / 48) ، والبيهقي (6 / 151) ؛ وإسناده
حسن؛ بخلاف حديث عمرو بن عوف المزني؛ فإن سنده عندهم ضعيف جدا. (ن)
(2/459)
بلال بن الحرث المزني معادن القبلية
جلسيّها وغوريّها (1) ".
وأخرجاه أيضا من حديث عمرو بن عوف المزني.
وأخرج الترمذي، وأبو داود، والنسائي - وصححه ابن حبان، وحسنه (2) الترمذي -
من حديث أبيض بن حمال: أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ استقطعه
الملح، فقطع له، فلما أن ولى؛ قال رجل من المجلس: أتدري ما أقطعت له؟ إنما
أقطعته الماء العد (3) ، قال: فانتزعه منه.
وفي الباب غير ذلك.
قال في " المنهاج ": " المعدن الظاهر - وهو ما يخرج بلا علاج -؛ لا يُملك
بالإحياء، ولا يثبت فيه اختصاص بتحجر ولا إقطاع.
والمعدن الباطن - وهو ما لا يخرج إلا بعلاج؛ كذهب وفضة وحديد ونحاس -؛ لا
يُملك بالحفر والعمل؛ في الأظهر ".
قال المحلي: " والثاني يُملك بذلك، وللسلطان إقطاعه على الملك، وكذا على
عدمه في الأظهر، ولا يقطع إلا قدرا يتأتى في العمل عليه ".
__________
(1) القبلية - بفتح القاف والباء -: ناحية من ساحل البحر.
وجلسيها وغوريها - بفتح فسكون فيهما -: نسبة إلى جلس وغور: بمعنى المرتفع
والمنخفض؛ أي: إعطاء ما ارتفع منها وما انخفض. (ش)
(2) • وفيه نظر؛ فإنه عنده (2 / 300) ، وكذا أبي داود (2 / 48) ؛ من طريق
سمي بن قيس، عن شمير بن عبد الدار، عن أبيض؛ والأول مجهول، وشمير مقبول،
كما في " التقريب ".
لكن رواه أبو داود، والدارمي (2 / 268) بإسناد آخر عن أبيض.
فالحديث حسن - إن شاء الله تعالى -. (ن)
(3) العد - بكسر العين -: الدائم الذي لا انقطاع له؛ مثل ماء العين وماء
البئر. (ش)
(2/460)
قال في " الحجة البالغة ":
" ولا شك أن المعدن الظاهر الذي لا يحتاج إلى كثير عمل: إقطاعه لواحد من
المسلمين؛ إضرار بهم وتضييق عليهم ". انتهى.
(2/461)
(9 - باب
الشركة)
( [بيان أن الناس شركاء في الماء والنار والكلإ]
:)
(الناس شركاء في الماء والنار والكلإ) ؛ لحديث أبي خداش (1) ، عن بعض أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلإ والنار " (2) .
أخرجه أحمد، وأبو داود.
وقد رواه أبو نعيم في " الصحابة " في ترجمة أبي خداش (1) ، ولم يذكر الرجل،
وقد سئل أبو حاتم عنه؟ فقال: أبو خداش لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم،
قال ابن حجر: رجاله ثقات.
وقد أخرج الحديث ابن ماجه (3) عن ابن عباس، وفي إسناده عبد الله ابن خداش،
وهو متروك، وقد صححه ابن السكن.
__________
(1) • اسمه حبان بن زيد الشرعبي، وهو تابعي لا صحابي؛ كما حققه الحافظ في "
الإصابة ". (ن)
(2) • في " السنن " (2 / 102) ؛ وإسناده صحيح، وجهالة الصحابي لا تضر. (ن)
(3) • في " سننه " (2 / 91 - 92) .
وحديث أبي هريرة عنده صحيح الإسناد كما قال الحافظ، وسبقه البوصيري. (ن)
(2/462)
وأخرج ابن ماجه أيضا من حديث أبي هريرة، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يُمنع الماء والنار والكلأ " (1) ؛ قال
ابن حجر: إسناده صحيح.
وأخرج الخطيب من حديث عمر نحو ما في الباب، وزاد: " والملح "، وفيه عبد
الحكيم بن ميسرة.
ورواه الطبراني بسند حسن، عن زيد بن جبير، عن ابن عمر.
وله عنده طريق أخرى.
وأخرجه أبو داود من حديث بهيسة، عن أبيها.
وأخرجه ابن ماجه من حديث عائشة، أنها قالت: يا رسول الله! ما الشيء الذي لا
يحل منعه؟ قال: " الملح والماء والنار "، وإسناده ضعيف.
وأخرجه الطبراني، عن أنس بلفظ: " خصلتان لا يحل منعهما: الماء والنار " (2)
.
وأخرجه العقيلي في " الضعفاء " من حديث عبد الله بن سرجس.
وأحاديث الباب تنتهض بمجموعها.
وقد خصص الحديث بما وقع من الإجماع على أن الماء المحرز في الجرار ملك.
__________
(1) • نصه عند ابن ماجه: " ثلاث لا يمنعن ... ". (ن)
(2) ضعيف بهذا اللفظ؛ " ضعيف الجامع ".
(2/463)
قال في " الحجة ":
" يتأكد استحباب المواساة في هذه فيما كان مملوكا.
وما ليس بمملوك أمره ظاهر ". انتهى.
( [بيان توزيع الماء بين المستحقين] :)
وإذا تشاجر المستحقون للماء كان الأحق به الأعلى فالأعلى، يمسكه إلى
الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن
النبي صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور (1) : أن يمسك حتى يبلغ
الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل؛ أخرجه أبو داود (2) ، وابن ماجه.
قال ابن حجر في " الفتح ": " وإسناده حسن ".
وأخرجه الحاكم في " المستدرك ". من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وأعله
الدارقطني بالوقف.
وأخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث ثعلبة بن مالك.
وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " من حديث أبي حاتم القرظي، عن أبيه، عن جده.
وأخرج ابن ماجه، والبيهقي، والطبراني من حديث عبادة: أن النبي صلى الله
عليه وسلم
__________
(1) هو واد بالمدينة. (ش) .
(2) • في (الأقضية) (2 / 123) ، وابن ماجه (2 / 95) . (ن)
(2/464)
قضى في شرب النخل من السيل: أن الأعلى يشرب
قبل الأسفل، ويترك الماء إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه،
وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء.
وأحاديث الباب صالحة للاحتجاج بها.
قال في " المنهاج ":
" والمياه المباحة - من الأودية والعيون والسيول والأمطار -؛ يستوي الناس
فيها، فإن أراد الناس سقي أرضهم منها فضاق؛ سقى الأعلى فالأعلى، وحبس كل
واحد الماء حتى يبلغ الكعبين.
وقال محمد: بهذا نأخذ؛ لأنه كان كذلك الصلح بينهم، ولكل قوم ما اصطلحوا
وأسلموا عليه من عيونهم وسيولهم وأنهارهم وشربهم ".
( [لا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ]
:)
(ولا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين
"، وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تمنعوا فضل الماء
لتمنعوا به الكلأ ".
وفي لفظ مسلم: " لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ ".
وفي لفظ للبخاري: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ ".
وفي الباب أحاديث.
(2/465)
وفي لفظ لأحمد: " ولا يمنع فضل ماء بعد أن
يستغنى عنه "، وهو أن يتغلب رجل على عين أو واد؛ فلا يدع أحدا يسقي منه
ماشية إلا بالأجر؛ فإنه يفضي إلى بيع الكلإ المباح؛ يعني: يصير المرعى من
ذلك بإزاء مال، وهذا باطل؛ لأن الماء والكلأ مباحان.
وقيل: يحرم بيع الماء الفاضل عن حاجته لمن أراد الشرب أو سقي الدواب.
وأما ماء البئر؛ فلا يُمنع من أراد شربه أو سقي بهائمه؛ كما في " الموطإ "
من حديث عمرة بنت عبد الرحمن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا
يمنع نقع بئر "؛ أي: فضل مائها.
قلت: وعليه أهل العلم.
في " المنهاج ":
" وحافر بئر بموات للارتفاق أولى بمائها حتى يرتحل.
والمحفورة - أي في أرض موات للتملك، أو في ملك يتملك ماءها في الأصح، وسواء
ملكه أم لا -: لا يلزمه بذل ما فضل عن حاجته لزرع، ويجب لماشية.
قال المحلي: في المحفورة للارتفاق - وقبل ارتحاله -؛ ليس له منع ما فضل عنه
عن محتاج إليه للشرب؛ إذا استسقى بدلو نفسه، ولا منع مواشيه، وله منع غيره
لسقي الزرع.
(2/466)
قال محمد: وبهذا نأخذ؛ أيما رجل كانت له
بئر؛ فليس له أن يمنع الناس منها؛ أن يستقوا منها بشفاههم.
أما لزرعهم ونخلهم؛ فله أن يمنع ذلك، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا
".
( [يصح للإمام أن يحمي بقعة موات لرعي دواب
المسلمين] :)
(وللإمام أن يحمي بعض المواضع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة) ؛ لحديث
ابن عمر عند أحمد (1) ، وابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع
(2) للخيل؛ خيل المسلمين.
وأخرج أحمد (3) ، وأبو داود، والحاكم من حديث الصعب بن جثامة (4) ؛ وزاد: "
لا حمى إلا لله ورسوله ".
__________
(1) • في " المسند " (رقم 5655، 6438، 6464) ؛ وفيه عبد الله بن عمر
العمري، وهو ضعيف، كما في " الفتح ". (ن)
(2) موضع على عشرين فرسخا من المدينة، وهو بالنون. (ش)
(3) • في " المسند " (4 / 71، 73) ، وأبو داود (2 / 52) ، والبيهقي أيضا (6
/ 146) .
ورجاله ثقات؛ إلا أن عبد الرحمن بن الحارث - وهو ابن عبد الله بن عباس -؛
فيه كلام من قبل حفظه.
ومن طريقه أخرجه الحاكم (2 / 61) - وصححه ووافقه الذهبي -؛ وفيه نظر؛ فقد
رواه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب.
وقد رواه جماعة من الثقات الحفاظ عن الزهري، لم يذكروا فيه: " حمى النقيع
"، بل روى هذا يونس عن الزهري من قوله بلاغا:
كذلك أخرجه البخاري، وأبو داود، والبيهقي - في رواية لهما -.
وكذلك قال البخاري في رواية عبد الرحمن بن الحارث: " هذا وهم "؛ نقله
البيهقي. (ن)
(4) لعله سقط هنا لفظ: " مثله ". (ش)
(2/467)
وهذه الزيادة في " صحيح البخاري "؛ (1)
وفيه (2) : أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى شرف (3)
والربذة.
قلت: وعليه الشافعي.
في " المنهاج ":
" والأظهر أن للإمام أن يحمي بقعة موات لرعي نعم جزية، وصدقة وضالة، وضعيف
من النجعة، ولا يحمي لغير ذلك ". انتهى.
لأن الحمى تضييق على الناس، وظلم عليهم، وإضرار لهم.
( [جواز الاشتراك في النقود والتجارات]
:)
(ويجوز الاشتراك في النقود والتجارات، ويقسم الربح على ما تراضيا عليه) ؛
لحديث السائب بن أبي السائب، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي
في الجاهلية، فكنت خير شريك؛ لا تداريني (4) ولا تماريني.
__________
(1) • وفي " ابن حبان " أيضا (1 / 304 - 305) . (ن)
(2) • هذا يوهم أنه عند البخاري من حديث الصعب؛ وليس كذلك؛ وإنما هو عنده
عن الزهري بلاغا.
وكذلك أخرجه غيره، فانظر " صحيح أبي داود "، والذي بعده. (ن)
(3) • " شرف " - بفتح الشين المعجمة وفتح الراء؛ ولفظ البخاري: " الشرف "
بالتعريف -؛ وهو والربذة موضعان بين مكة والمدينة.
ورواه بعضهم: " سرف " - بفتح السين المهملة وكسر الراء -، وهو موضع بقرب
مكة، ولا يدخل عليه الألف واللام. (ش)
(4) • من المدارأة، أي: لا يشاغب ولا يخالف؛ قال في " النهاية ": " وهو
مهموز، وروي في الحديث غير مهموز؛ ليزاوج " يماري ".
فأما المداراة في حسن الخلق والصحبة؛ فغير مهموز، وقد يهمز ". (ن)
(2/468)
أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي،
والحاكم - وصححه (1) -.
وفي لفظ لأبي داود، وابن ماجه: أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله
عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: مرحبا بأخي وشريكي؛ لا تداري
ولا تماري.
وله طرق غير هذه.
وأخرج البخاري عن أبي المنهال: أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا
شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما
أن " ما كان يدا بيده فخذوه، وما كان نسيئة فردوه ".
وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، عن ابن مسعود قال: اشتركت أنا وعمار
وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء؛
وفيه انقطاع (2) .
وأخرج أحمد (3) ، وأبو داود، عن رويفع بن ثابت، قال: إن كان أحدنا في زمن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو (4) أخيه؛ على أن له النصف مما
يغنم ولنا النصف، وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح (5) .
__________
(1) • ووافقه الذهبي، وهو كما قالا؛ انظر " المستدرك " (2 / 61) ، و "
البيهقي " (6 / 78) . (ن)
(2) • لأنه من رواية أبي عبيدة، عن ابن مسعود؛ ولم يسمع منه.
وكذلك أخرجه البيهقي، (6 / 79) ، والدارقطني (303) . (ن)
(3) • في " المسند " (4 / 108) ؛ وسنده ضعيف؛ فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف،
وتابعيه شيبان بن أمية؛ مجهول. (ن)
(4) النضو - بكسر النون وإسكان الضاد -: هو المهزول من الإبل. (ش)
(5) النصل: حديدة السهم.
والريش: هو الذي يكون على السهم.
والقدح - بكسر القاف وإسكان الدال -: السهم قبل أن يراش وينصل. (ش)
(2/469)
وأخرجه الدارقطني، والبيهقي.
( [جواز المضاربة ما لم تشتمل على حرام]
:)
(وتجوز المضاربة) ، وهو في لغة أهل المدينة: القراض، والضرب بمعنى السفر،
والمضاربة المعاملة على السفر، وأيضا الضرب بمعنى الشركة، والمضاربة
المعاملة على الشركة.
اتفق أهل العلم على جواز المضاربة، ولا تجوز إلا على الدراهم والدنانير،
وهو أن يعطي شيئا منها لرجل ليعمل ويتجر، فما يحصل من الربح يكون بينهما
مناصفة، أو أثلاثا؛ على ما يتشارطان.
(ما لم تشتمل على ما لا يحل) ؛ لما روي عن حكيم بن حزام: أنه كان يشترط على
الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة يضرب له به: أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا
تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك؛ فقد ضمنت مالي.
وقد قيل: إنه لم يصح في المضاربة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما
فعلها الصحابة: منهم حكيم المذكور، ومنهم علي كما رواه عبد الرزاق، ومنهم
ابن مسعود كما رواه الشافعي، ومنهم العباس كما رواه البيهقي، ومنهم جابر
كما رواه البيهقي أيضا، ومنهم أبو موسى وابن عمر كما رواه في " الموطإ "،
والشافعي، والدارقطني، ومنهم عمر كما رواه الشافعي، ومنهم عثمان كما رواه
البيهقي.
وقد روي في ذلك من المرفوع ما أخرجه ابن ماجه من حديث صهيب،
(2/470)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت
لا للبيع "؛ ولكن في إسناده مجهولان.
أقول: قد صرح جماعة من الحفاظ بأنه لم يثبت في هذا الباب - أعني: المضاربة
- شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل جميع ما فيه آثار عن
الصحابة، وقد وقع إجماع من بعدهم على جواز هذه المعاملة؛ كما حكى ذلك غير
واحد.
وصرح الحافظ ابن حجر بأنها كانت ثابتة في عصر النبوة، فقال:
" والذي نقطع به؛ أنها كانت ثابتة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ يعلم
بها وأقرها، ولولا ذلك لما جازت البتة ". انتهى.
ولا يخفاك أن عدم الجواز الذي ذكره - على فرض عدم ثبوتها في أيام النبوة -
مبني على أن الأصل عدم جواز كل معاملة لم يثبت فيها دليل، وهو غير مسلم؛ بل
الأصل الجواز؛ ما لم تكن على وجه يستلزم ما لا يحل شرعا.
وعندي أن المضاربة داخلة تحت قول الله: {وأحل الله البيع} ، وتحت قوله -
تعالى -: {تجارة عن تراض} ؛ بل كل ما دل على جواز البيع، وعلى جواز
الإجارة، وعلى جواز الوكالة؛ دل عليها.
وبيان ذلك: ان المالك للنقد إذا دفعه إلى آخر، ووكله بالشراء له بنقده
(2/471)
ما رآه، ووكله أيضا ببيعه، وجعل له أجرة
على تولي البيع وتولي الشراء، وهي ما سماه له من الربح؛ فجواز البيع
والشراء داخل تحت أدلة البيع والشراء، وجواز التوكيل بهما داخل تحت أدلة
الوكالة، وجواز جعل جزء من الربح للوكيل داخل تحت أدلة الإجارة؛ فعرفت بهذا
أن القراض غير خال من دليل يدل عليه العموم؛ بل الذي لم يثبت هو الدليل
الذي يدل عليه بخصوصه، فلا وجه لما قاله الحافظ ابن حجر: أنها لو لم تثبت
هذه المعاملة بخصوصها في عصر النبوة لما جازت البتة (1) .
واعلم أن هذه الأسامي التي وقعت في كتب الفروع - لأنواع من الشركة
كالمفاوضة (2) والعنان والوجوه والأبدان - لم تكن أسماء شرعية ولا لغوية؛
بل اصطلاحات حادثة متجددة، ولا مانع للرجلين أن يخلطا ماليهما ويتجرا؛ كما
هو معنى المفاوضة المصطلح عليها؛ لأن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء؛ ما
لم يستلزم ذلك التصرف محرما مما ورد الشرع بتحريمه.
__________
(1) كيف هذا؛ والأجرة إذا كانت مجهولة كانت غير جائزة؟ {
والمضاربة إذا ربح الشريك فيها معينا كانت غير جائزة أيضا؛ فإنها تكون
ربا؟}
فلا يأتي ما قاسه الشارح وأراد به الرد على الحافظ ابن حجر. (ش)
(2) • شركة المفاوضة: هي أن يفوض كل واحد من الشريكين إلى صاحبه التصرف في
ماله؛ مع غيبته وحضوره؛ كذا في " بداية المجتهد " (2 / 210) .
وشركة العنان: هي أن تكون في شيء خاص دون سائر مالهما.
أو هو أن يكونا سواء في الشركة؛ لأن عنان الدابة طاقتان متساويتان: " قاموس
".
وشركة الوجوه: هي الشركة على الذمم؛ من غير صنعة ولا مال، وهي جائزة عند
أبي حنيفة، باطلة عند مالك والشافعي؛ كما في " البداية " (2 / 211) .
وشركة الأبدان: هي الاشتراك في صنعة، وهي جائزة عند أبي حنيفة ومالك، وإن
اختلفت الصنعة عند الأول. (ن)
(2/472)
وإنما الشأن في اشتراط استواء المالين
وكونهما نقدا واشتراط العقد، فهذا لم يرد ما يدل على اعتباره؛ بل مجرد
التراضي بجمع المالين والاتجار بهما كاف، وكذلك لا مانع من أن يشترك
الرجلان في شراء شيء؛ بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب منه بقدر نصيبه من
الثمن؛ كما هو معنى شركة العنان اصطلاحا، وقد كانت هذه الشركة ثابتة في
أيام النبوة، ودخل فيها جماعة من الصحابة، فكانوا يشتركون في شراء شيء من
الأشياء، ويدفع كل واحد منهم نصيبا من قيمته، ويتولى الشراء أحدهما أو
كلاهما.
وأما اشتراط العقد والخلط؛ فلم يرد ما يدل على اعتباره.
وكذلك لا بأس أن يوكل أحد الرجلين الآخر أن يستدين له مالا، ويتجر فيه؛
ويشتركا في الربح؛ كما هو معنى شركة الوجوه اصطلاحا، ولكن لا وجه لما ذكروه
من الشروط.
وكذلك لا بأس بأن يوكل أحد الرجلين الآخر في أن يعمل عنه عملا استؤجر عليه؛
كما هو معنى شركة الأبدان اصطلاحا، ولا معنى لاشتراط شروط في ذلك.
والحاصل: أن جميع هذه الأنواع يكفي في الدخول فيها مجرد التراضي؛ لأن ما
كان منها من التصرف في الملك؛ فمناطه التراضي، ولا يتحتم اعتبار غيره، وما
كان منها من باب الوكالة أو الإجارة؛ فيكفي فيه ما يكفي فيهما.
فما هذه الأنواع التي نوعوها والشروط التي اشترطوها؟ {وأي دليل عقل أو نقل
ألجأهم إلى ذلك؟} فإن الأمر أيسر من هذا التهويل والتطويل؛ لأن
(2/473)
حاصل ما يستفاد من شركة المفاوضة والعنان
والوجوه: أنه يجوز للرجل أن يشترك هو وآخر في شراء شيء وبيعه، ويكون الربح
بينهما على مقدار نصيب كل واحد منهما من الثمن، وهذا شيء واحد واضح المعنى،
يفهمه العامي فضلا عن العالم، ويفتي بجوازه المقصر فضلا عن الكامل، وهو أعم
من أن يستوي ما يدفعه كل واحد منهما من الثمن أو يختلف، وأعم من أن يكون
المدفوع نقدا أو عرضا، وأعم من أن يكون ما اتجرا به جميع مال كل واحد منهما
أو بعضه، وأعم من أن يكون المتولي للبيع والشراء أحدهما أو كل واحد منهما.
وهب أنهم جعلوا لكل قسم من هذه الأقسام - التي هي في الأصل شيء واحد - اسما
يخصه؛ فلا مشاحة في الاصطلاحات؛ لكن ما معنى اعتبارهم لتلك العبارات،
وتكلفهم لتلك الشروط، وتطويل المسافة على طالب العلم، وإتعابه بتدوين ما لا
طائل تحته؟ {
وأنت لو سألت حراثا أو بقالا عن جواز الاشتراك في شراء الشيء وفي ربحه؛ لم
يصعب عليه أن يقول: نعم.
ولو قلت له: هل يجوز العنان أو الوجوه أو الأبدان؛ لحار في فهم معاني هذه
الألفاظ}
بل قد شاهدنا كثيرا من المتبحرين في علم الفروع؛ يلتبس عليه كثير من تفاصيل
هذه الأنواع، ويتلعثم إن أراد تمييز بعضها من بعض، اللهم! إلا أن يكون قريب
عهد بحفظ مختصر من مختصرات الفقه؛ فربما يسهل عليه ما يهتدي به إلى ذلك.
(2/474)
وليس المجتهد من وسع دائرة الآراء العاطلة
عن الدليل، وقبل كل ما يقف عليه من قال وقيل؛ فإن ذلك هو دأب أسراء
التقليد؛ بل المجتهد من قرر الصواب وأبطل الباطل، وفحص في كل مسألة عن وجوه
الدلائل، ولم يحل بينه وبين الصدع بالحق مخالفة من يخالفه ممن يعظم في صدور
المقصرين، فالحق لا يعرف بالرجال.
ولهذا المقصد؛ سلكنا في هذه الأبحاث مسالك لا يعرف قدرها إلا من صفى فهمه
عن التعصبات، وأخلص ذهنه عن الاعتقادات المألوفات، والله المستعان.
( [بيان عرض الطريق إذا اختلف الشركاء]
)
(وإذا تشاجر الشركاء في عرض الطريق كان سبعة أذرع) ؛ لحديث أبي هريرة في "
الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اختلفتم في
الطريق؛ فاجعلوه سبعة أذرع ".
وأخرج معناه عبد الله بن أحمد في " المسند " (1) ، والطبراني من حديث عبادة
بن الصامت.
وأخرجه أيضا عبد الرزاق من حديث ابن عباس (2) .
وأخرجه أيضا ابن عدي من حديث أنس.
__________
(1) • (5 / 326 - 327) ؛ وسنده ضعيف لانقطاعه وجهالة أحد رواته.
وكذا أخرجه البيهقي (6 / 155) . (ن)
(2) • وأخرجه أيضا أحمد (رقم 2098) ، وابن ماجه (2 / 57) ، من طريق سفيان،
عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ وهذا سند صحيح.
وله في " المسند " طرق أخرى فيها ضعف، ويأتي قريبا بعضها. (ن)
(2/475)
( [النهي عن
منع الجار جاره أن يغرز خشبة في جداره] :)
(ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) ؛ لحديث أبي هريرة في "
الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يمنع جار جاره
أن يغرز خشبه في جداره ".
وروى نحوه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي عن جماعة من الصحابة.
( [بيان أنه لا ضرر ولا ضرار بين الشركاء]
:)
(ولا ضرر ولا ضرار بين الشركاء) ؛ لحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار؛ وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره، وإذا
اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع ".
أخرجه أحمد (1) ، وابن ماجه، والبيهقي، والطبراني، وعبد الرزاق.
قال ابن كثير:
" أما حديث: " لا ضرر ولا ضرار "؛ فرواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت (2) ،
وروي من حديث ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وهو حديث مشهور ". انتهى.
__________
(1) • في " المسند " (رقم 2867) - بهذا التمام -، وابن ماجة (2 / 57) -
مفرقا بأسانيد -، والبيهقي (6 / 69) دون قوله: " لا ضرر ولا ضرار ".
وهذه الجملة فيها - عند أحمد وابن ماجه - جابر الجعفي؛ وهو ضعيف، لكن
الحديث قوي لطرقه المذكورة في الكتاب. (ن)
(2) • وأخرجه عبد الله بن أحمد (5 / 326 - 327) ، والبيهقي (6 / 157) ؛ من
طريق إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عنه.
وهذا سند ضعيف؛ للجهالة والانقطاع، قال الحافظ في ترجمة إسحاق هذا من "
التقريب ": " أرسل عن عبادة، وهو مجهول الحال ".
وذهل عن هذا الشيخ أحمد شاكر، فصحح سنده في تعليقه على " المسند " (4 /
311) ! (ن)
(2/476)
فحديث ابن عباس هو المذكور في الباب، وحديث
عبادة أخرجه أيضا البيهقي، وحديث أبي سعيد أخرجه ابن ماجه (1) ،
والدارقطني، والحاكم، والبيهقي.
وقد رواه - من حديث ثعلبة بن مالك القرظي -: الطبراني في " الكبير "، وأبو
نعيم.
( [بيان عقوبة من ضار شريكه] :)
(ومن ضار شريكه كان للإمام عقوبته بقلع شجره أو بيع داره) ؛ لحديث سمرة بن
جندب: أنه كانت له عضد (2) من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل
أهله، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل ويشق عليه، فطلب إليه
أن يناقله؛ فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فطلب إليه
النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: "
فهبه لي؛ ولك كذا وكذا "؛ أمر أرغبه فيه، فأبى، فقال: " أنت مضار "؛ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: " اذهب فاقلع نخله ".
__________
(1) • ليس هو عند ابن ماجه.
وهو عند الدارقطني (ص 321، 522) ، والحاكم (2 / 57 - 56) ، والبيهقي (6 /
69) ؛ وقال: " تفرد به عثمان بن محمد - يعني: ابن عثمان بن ربيعة -، عن
الدراوردي "؛ فتعقبه ابن التركماني بقوله: " بل تابعه عبد الملك بن معاذ؛
أخرجه أبو عمر في كتابيه " التمهيد "، و " الاستذكار " {".
قلت: وعبد الملك - هذا - لا يعرف، كما قال ابن القطان، والذهبي.
ومتابعه - عثمان بن محمد -؛ ضعفه الدارقطني، وعبد الحق.
ومع هذا؛ فالحاكم يقول في سند هذا الحديث: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه
الذهبي} (ن)
(2) العضد من النخل: الطريقة منه؛ قال ابن الأثير: " وقيل: إنما هو عضيد من
نخل، وإذا صار للنخلة جذع يتناول منه فهو عضيد ". (ش)
• وقال الخطابي (5 / 239) : " يريد نخلا لم تتسق ولم تطل ". (ن)
(2/477)
وهو من رواية جعفر بن محمد، عن أبيه (1) ،
عن سمرة، ولم يسمع منه.
وقد روى المحب الطبري في " أحاديث الأحكام " عن واسع بن حبان، قال: كان
لأبي لبابة عذق (2) في حائط رجل، فكلمه ... ثم ذكر نحو قصة سمرة.
__________
(1) • هذا خطأ، والصواب: من رواية أبي جعفر محمد بن علي عن سمرة:
كذلك أخرجه أبو داود (2 / 123) ، والبيهقي (6 / 157) . (ن)
(2) العذق - بفتح العين وإسكان الذال -: النخلة. (ش)
(2/478)
(10 - باب
الرهن)
( [دليل مشروعية الرهن] :)
(يجوز رهن ما يملكه الراهن في دين عليه) .
الرهن جائز بالإجماع؛ وقد نطق به الكتاب العزيز، وتقييده بالسفر خرج مخرج
الغالب، كما ذهب إليه الجمهور.
وقال مجاهد والضحاك والظاهرية: لا يشرع إلا في السفر.
وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا له عند يهودي بالمدينة، وأخذ منه
شعيرا لأهله؛ كما أخرجه البخاري، وغيره من حديث أنس، وهو في " الصحيحين "
من حديث عائشة، وأخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث ابن
عباس، وصححه الترمذي، وصاحب " الاقتراح ".
وفي ذلك دليل على مشروعية الرهن في الحضر؛ كما قال الجمهور.
( [ينتفع بالمرهون إذا كان دابة تركب أو بهيمة
تحلب] :)
(والظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون) ؛ لما أخرجه البخاري، وغيره من
حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: " الظهر يركب
بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي
يركب ويشرب النفقة ".
(2/479)
وللحديث ألفاظ.
والمراد: أن المرتهن ينتفع بالرهن وينفق عليه، وقد ذهب إلى ذلك أحمد وإسحاق
والليث والحسن وغيرهم.
قال ابن القيم:
" وأخذ أحمد وغيره من أئمة الحديث بهذه الفتوى، وهو الصواب ".
وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء: لا ينتفع المرتهن من الرهن
بشيء؛ بل الفوائد للراهن والمؤن عليه، قالوا: والحديث ورد على خلاف القياس.
ويجاب بأن هذا القياس فاسد الاعتبار، مبني على شفا جرف هار، ولا يصح
الاحتجاج به؛ لما ورد من النهي عن أن تحلب ماشية الرجل بغير إذنه - كما في
" البخاري " وغيره -؛ لأن العام لا يرد به الخاص؛ بل يبنى عليه.
وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين ":
" وهذا الحكم من أحسن الأحكام وأعدلها، ولا يصلح للراهنين غيره، وما عداه
ففساده ظاهر.
فإن الراهن قد يغيب، ويتعذر على المرتهن مطالبته بالنفقة التي تحفظ الرهن،
ويشق عليه؛ أو يتعذر رفعه إلى الحاكم وإثبات الرهن إثبات غيبة الراهن.
وإثبات أن قدر النفقة عليه قدر حلبه وركوبه، وطلبه منه الحكم له بذلك
(2/480)
في هذا؛ من العسر والحرج والمشقة ما ينافي
الحنيفية السمحة، فشرع الشارع الحكيم القيم بمصالح العباد.
وللمرتهن أن يشرب لبن الرهن ويركب ظهره - وعليه نفقته -، وهذا محض القياس
لو لم تأت به السنة الصحيحة ". انتهى.
ثم أطال في تخريج هذا القياس إلى ما لا يسعه هذا القرطاس.
( [لا يستحق المرتهن الرهن إذا لم يفكه الراهن]
:)
(ولا يغلق (1) الرهن بما فيه) ؛ لحديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه
وسلم، قال:
" لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه؛ له غنمه وعليه غرمه ".
أخرجه الشافعي (2) والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وابن حبان في
__________
(1) قال ابن الأثير: " يقال: غلق - بكسر اللام - الرهن يغلق - بفتحها -
غلوقا: إذا بقي في يد المرتهن، لا يقدر راهنه على تخليصه، والمعنى: أنه لا
يستحقه المرتهن إذا لم يستفكه صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية: أن الراهن
إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين؛ ملك المرتهن الرهن؛ فأبطله الإسلام ".
(ش)
(2) • الشافعي (2 / 189 - 190) ، والدارقطني (ص 302 - 303) ، والحاكم (2 /
51 - 52) ، والبيهقي (6 / 39) ؛ من طرق عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن
أبي هريرة.
وقال الدارقطني: " إسناده حسن متصل ".
وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
ولا يعله أنه جاء مرسلا؛ لما ذكره الشارح، لا سيما والذين رووه موصولا
جماعة ثقات، وتوهينهم ليس بالأمر اليسير.
وله شاهد من حديث عطاء، وسليمان بن موسى - معا - مرسلا؛ أخرجه الطحاوي (2 /
253) دون قوله: " من صاحبه ... ".
وقد نقل الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 320) أن قوله: " له غنمه ... . "؛
من كلام سعيد، وأيده الزيلعي؛ فيراجع! (ن)
(2/481)
" صحيحه "، وحسن الدارقطني إسناده.
وقال الحافظ ابن حجر في " بلوغ المرام ": أن رجاله ثقات؛ إلا أن المحفوظ
عند أبي داود وغيره إرساله.
وأخرجه ابن ماجه من طريق أخرى (1) ، والرفع زيادة، وقد خرجت من مخرج مقبول.
والمراد بالغلاق هنا: استحقاق المرتهن له؛ حيث لم يفكه الراهن في الوقت
المشروط.
وروى عبد الرزاق عن معمر؛ أنه فسر غلاق الرهن؛ بما إذا قال الرجل: إن لم
آتك بمالك فالرهن لك، قال: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا،
إنما هلك من رب الرهن؛ له غنمه وعليه غرمه.
وقد روي أن المرتهن في الجاهلية كان يتملك الرهن؛ إذا لم يؤد الراهن إليه
ما يستحقه في الوقت المضروب، فأبطله الشارع.
والغنم والغرم - هنا - هو أعم مما تقدم؛ من أن الظهر يركب بنفقة المرهون،
واللبن يشرب.
قال في " الحجة البالغة ":
" ومبنى الرهن على الاستيثاق، وهو بالقبض؛ فلذلك اشترط فيه.
ولا اختلاف عندي بين حديث: " لا يغلق الرهن "؛ وحديث: " الظهر
__________
(1) • هذا خطأ؛ فإنما أخرجه ابن ماجة (2 / 84) من الطريق السابق عن أبي
هريرة. (ن)
(2/482)
يركب " ... الخ؛ لأن الأول هو الوظيفة.
لكن إذا امتنع الراهن من النفقة عليه، وخيف الهلاك، وأحياه المرتهن؛ فعند
ذلك ينتفع به بقدر ما يراه الناس عدلا ". انتهى.
قلت: وعليه أهل العلم.
قال محمد: وبهذا نأخذ.
وتفسير قوله: " لا يغلق الرهن ": أن الرجل كان يرهن الرهن - أي: المرهون
عند الرجل -؛ فيقول: إن جئتك بمالك إلى كذا وكذا؛ وإلا فالرهن لك بمالك،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يغلق الرهن، ولا يكون للمرتهن
بماله "، وكذلك نقول، وهو قول أبي حنيفة، وكذلك فسره مالك بن أنس.
وفي " شرح السنة ":
" معناه لا يستغلق بحيث لا يعود إلى الراهن، بل متى أدى الحق المرهون به؛
افتك وعاد إلى الراهن.
وروى الشافعي هذا الحديث مع زيادة، ولفظه: " لا يغلق الرهن من صاحبه الذي
رهنه؛ له غنمه وعليه غرمه ".
قال الشافعي: غنمه زيادته، وغرمه هلاكه.
وفيه دليل على أنه إذا هلك في يد المرتهن؛ يكون من ضمان الراهن، ولا يسقط
بهلاكه شيء من حق المرتهن، وعليه الشافعي.
(2/483)
وقال أبو حنيفة: قيمته إن كانت قدر الحق؛
يسقط بهلاكه الحق، وإن كانت أقل من الحق؛ يسقط بقدره، وإن كان أكثر من
الحق؛ يسقط الحق.
وعند الشافعي: دوام القبض ليس بشرط في الرهن، فيستعمل الدابة المرهونة
بالنهار، وترد إلى المرتهن بالليل، ولا يسافر عليها.
ولم يجوزه أبو حنيفة ".
أقول: الحق أن الرهن إذا تلف في يد المرتهن - بدون جنايته ولا تفريطه -؛
فهو غير مضمون عليه.
وإن كان بجنايته أو تفريطه؛ ضمنه للجناية عليه، أو التفريط؛ لا لكونه
مستحقا حبسه؛ فإن الحبس للرهن بمجرده ليس بسبب للضمان.
والمدارك الشرعية واضحة المنار.
(2/484)
(11 - باب
الوديعة والعارية)
( [دليل مشروعية العارية] :)
أقول: العارية من مكارم الأخلاق ومحاسن الطاعات وأفضل الصلات؛ لأنها إباحة
المالك لمنافع ملكه لمن له إليه حاجة، ولا ريب أن هذا الفعل داخل تحت نصوص
الكتاب والسنة؛ فإن فيهما من الترغيب في ذلك ما لا يحيط به الحصر، ومن جملة
ذلك قوله - تعالى -: {وتعانوا على البر والتقوى} ، وقوله: {ويمنعون
الماعون} .
والحاصل: أن العارية - في لسان العرب والشرع - هي: إباحة المنافع بلا عوض،
فما وجد فيه هذا المعنى كان من العارية؛ وما لا فلا.
( [تأدية الأمانة إلى صاحبها واجب] :)
(تجب على الوديع (1) والمستعير تأدية الأمانة إلى من ائتمنه، ولا يخون من
خانه) : لقوله - تعالى -: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} ،
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من
خانك "؛ أخرجه أبو داود، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه -
__________
(1) لم أجد وجها لاستعمال هذا الحرف في المعنى المراد هنا. (ش)
(2/485)
من حديث أبي هريرة، وفي إسناده طلق بن
غنام، عن شريك (1) .
وقد استشهد له الحاكم بحديث أبي التياح، عن أنس، وفي إسناده أيوب بن سويد،
وهو مختلف فيه، وقد تفرد به؛ كما قال الطبراني.
وأخرجه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " من حديث أبي بن كعب، وفي إسناده
من لا يعرف.
وأخرجه أيضا الدارقطني (2) عنه.
وأخرجه البيهقي، والطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف.
وأخرجه الدارقطني، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم من حديث أنس.
وأخرجه أحمد، وأبو داود، والبيهقي عن رجل من الصحابة؛ وفي إسناده مجهول غير
الصحابي.
( [بيان أنه لا ضمان على مؤتمن] :)
(ولا ضمان عليه إذا تلفت) العين المستعارة أو المستودعة (بدون جنايته
__________
(1) • هذا يوهم أنهم أخرجوه عن شريك وحده، وهو ضعيف الحفظ كما هو معروف؛
وليس الأمر كما أوهم؛ بل رووه جميعا؛ أبو داود (2 / 108) ، والترمذي (2 /
252) ، والحاكم (2 / 46) ، والدارمي - أيضا - (2 / 264) ، والطحاوي في "
المشكل " (2 / 338) ، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " (ص 30) ؛ من طريق
شريك، وقيس بن الربيع - معا -؛ عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
فالإسناد بهذه المتابعة حسن، وقد قواه من ذكر المؤلف، وصححه الذهبي في "
التلخيص "، ولا شك في صحة الحديث إذا نظر إلى شواهده المذكورة، ولهذا قواه
السخاوي، والشوكاني، وغيرهما. (ن)
(2) • في " سننه " (ص 313) . (ن)
(2/486)
وخيانته) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضمان على مؤتمن "؛ أخرجه
الدارقطني (1) ؛ وفي إسناده ضعف.
وقد وقع الإجماع على أن الوديع لا يضمن؛ إلا لجناية منه على العين (2) ؛
لما أخرجه الدارقطني في الحديث السابق من طريق أخرى بلفظ:
" ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا المستودع غير المغل ضمان ".
والمغل: هو الخائن، والجاني خائن.
وأما المستعير؛ فقد ذهب إلى أنه لا يضمن - إلا لجناية أو خيانة -: الحنفية
والمالكية، وحكى في " الفتح " عن الجمهور: أن المستعير يضمنها إذا تلفت في
يده؛ إلا إذا كان التلف على الوجه المأذون فيه.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم (3) - وصححه - من
حديث الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " على اليد
__________
(1) • (ص 306) ، ومن طريقه البيهقي (6 / 289) ؛ من طريق محمد بن عبد الرحمن
الحجبي، عن عمرو بن شعيب ... به.
ومحمد هذا ترجمه ابن أبي حاتم (3 / 2 / 323) ، ولم يذكر فيه جرحا ولا
تعديلا؛ فهو مجهول؛ وكأنه لذلك قال البيهقي: " إسناده ضعيف ".
لكن لم يتفرد به: فأخرجه الدارقطني من طريق عبيدة بن حسان، وابن ماجه (2 /
73) من طريق المثنى، والبيهقي تعليقا، والخلعي موصولا (20 / 50 / 2) ؛ من
طريق ابن لهيعة، كلهم، عن عمرو بن شعيب ... .
فهذه طرق يشد بعضها بعضا؛ فالحديث في نقدي حسن، والله أعلم. (ن)
(2) • معناه عند أبي عبيد: هو الرجل؛ يكون لك عليه المال، فيجحدك ولا
يعطيك، ثم يصير له عليك المال؛ فلا بأس أن تأخذ منه الذي أخذ منك، وتعطيه
الباقي.
رواه الخرائطي بسند صحيح، وبه فسره الطحاوي. (ن)
(3) • (2 / 47) ، والدارمي (2 / 264) . (ن)
(2/487)
ما أخذت حتى تؤديه "؛ وفي سماع الحسن عن
سمرة مقال مشهور.
وأخرج أحمد، وأبو داود (1) ، والنسائي، والحاكم (2) من حديث صفوان بن أمية:
أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا، فقال: أغصبا يا
محمد؟ ! قال: " بل عارية مضمونة ".
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" وجميع هذه الأسباب داخلة تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " على اليد ما
أخذت حتى تؤدي "؛ إن كان المراد على اليد ضمان ما أخذت، ولكن الظاهر أن
المراد: على اليد حفظ ما أخذت حتى تؤديه، وذلك إنما يكون في الباقي، وليس
فيه دليل على ضمان التالف (3) ".
( [لا يجوز منع الماعون] :)
(ولا يجوز منع الماعون: كالدلو والقدر) ؛ لحديث ابن مسعود، قال: كنا نعد
الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية؛ الدلو والقدر.
أخرجه أبو داود (4) ، وحسنه المنذري.
وروي عن ابن مسعود، وابن عباس: أنهما فسرا قوله - تعالى -:
__________
(1) • (2 / 111) . (ن)
(2) • والبيهقي وقواه، وله عند الحاكم (3 / 49) شاهد عن جابر. (ن)
(3) بل الظاهر من الحديث - ومن باقي الأحاديث -؛ أن على المستعير أن يؤدي
ما استعاره، وأنه ضامن إلى أن تبرأ ذمته بالأداء؛ لأنه جعل الغاية الأداء،
وما زعمه الشارح من تقدير أن على اليد حفظ ما أخذت؛ لا دليل عليه. (ش)
(4) • (1 / 263) ؛ من طريق عاصم بن أبي النجود، عن شقيق، عن ابن مسعود.
وهذا سند حسن. (ن)
(2/488)
{ويمنعون الماعون} : أنه متاع البيت الذي
يتعاطاه الناس بينهم؛ من الفأس والدلو والحبل والقدر، وما أشبه ذلك.
وعن عائشة: الماعون: الماء والنار والملح.
وقيل: الماعون: الزكاة.
( [أمثلة على ما لا يجوز منع عاريته] :
(وإطراق الفحل، وحلب المواشي لمن يحتاج ذلك، والحمل عليها في سبيل الله) ؛
لما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "
ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها؛ إلا أقعد لها يوم القيامة
بقاع قرقر (1) ، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها "، قلنا:
يا رسول الله! وما حقها؟ قال: " إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها وحلبها
على الماء، وحمل عليها في سبيل الله ".
والمراد بإطراق فحلها: عاريته من يحتاج أن يطرق به على ماشيته.
والمراد بمنحتها: أن يعطي المحتاج لينتفع بحلبها ثم يردها.
وأما الحمل عليها في سبيل الله؛ فإذا طلب ذلك من لا ماشية له من صاحب
المواشي التي فيها زيادة على حاجته.
__________
(1) • هو المكان المستوي: " نهاية ". (ن)
(2/489)
(12 - باب
الغصب)
( [الأدلة على تحريم الغصب] :)
(يأثم الغاصب) ؛ لأنه أكل مال غيره بالباطل، أو استولى عليه عدوانا، وقد
قال الله - تعالى -: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، وقال صلى الله
عليه وسلم: " لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه ".
أخرجه الدارقطني (1) من طرق عن أنس مرفوعا؛ وفي أسانيدها ضعف.
وأخرجه أحمد (2) ، والدارقطني من حديث أبي حرة الرقاشي، عن عمه؛ وفي إسناده
علي بن زيد بن جدعان؛ وهو متكلم عليه.
وأخرجه الحاكم (3) من حديث ابن عباس.
__________
(1) • في " سننه " (ص 299 - 300) ؛ وفي الطريق الأولى داود بن الزبرقان؛
وهو متروك، وفي الطريق الأخرى من لم أعرفهم. (ن)
(2) • في " المسند " (5 / 72) ، وسنده حسن بالنظر لشواهده؛ ورواه البيهقي
(6 / 100) . (ن)
(3) • لينظر، وقد أخرجه البيهقي (6 / 96 - 97) ؛ من طريق الحاكم وغيره، من
طريق عكرمة، عن ابن عباس، وسنده حسن.
وهو عند الدارقطني (ص 299) ؛ من طريق مقسم، عن ابن عباس؛ وفيه محمد بن عبيد
الله - وهو العرزمي -؛ متروك.
ورواه البيهقي من حديث ابن عمر؛ وفيه موسى بن عبيدة؛ ضعيف.
لكن الحديث صحيح؛ لما تقدم من الشواهد، ولحديث أبي حميد الآتي (ن) .
(2/490)
وأخرجه الدارقطني عنه من طريق أخرى.
وأخرجه البيهقي (1) ، وابن حبان، والحاكم في " صحيحيهما " من حديث أبي حميد
الساعدي.
وقد أخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والترمذي - وحسنه - من حديث السائب بن
يزيد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا، ولا لاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه
فليردها عليه ".
وحديث: " إنما أموالكم ودماؤكم عليكم حرام "؛ وهو ثابت في " الصحيحين "،
وغيرهما.
وهو مجمع على تحريم الغصب عند كافة المسلمين، ومجمع على وجوب رد المغصوب
إذا كان باقيا، وعلى تسليم عوضه إن كان تالفا.
( [ماذا يجب على الغاصب؟] :)
(ويجب عليه رد ما أخذ، ولا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه) ؛ كما
تقدم دليله.
( [بيان حكم من زرع أو غرس في أرض غيره بالقوة]
:)
(وليس لعرق ظالم حق، ومن زرع في أرض قوم بغير إذنهم؛ فليس له من
__________
(1) • في " السنن الكبرى " (6 / 100) ، والطحاوي أيضا؛ وسنده صحيح، كما
بينته في " معجم الحديث ". (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 221) ، وأبو داود (2 / 314) ، والترمذي (3 / 206)
، والبيهقي أيضا (6 / 100) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم. (ن)
(2/491)
الزرع شيء، ومن غرس في أرض غيره غرسا رفعه)
؛ لحديث رافع بن خديج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من زرع في أرض
قوم بغير إذنهم؛ فليس له من الزرع شيء، وله نفقته (1) ".
أخرجه أحمد (2) ، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والبيهقي، والطبراني،
وابن أبي شيبة، والطيالسي، وأبو يعلى، وحسنه البخاري (3) .
وأخرج أبو داود، والدارقطني (4) من حديث عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: " من أحيا أرضا فهي له، وليس لعرق ظالم حق ".
قال: ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث: أن رجلين اختصما إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض
بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب
أصولها بالفؤوس، وإنها لنخل عم (5) ".
__________
(1) • قال الشوكاني: " والمراد به: ما أنفقه الغاصب على الزرع من المؤنة في
الحرث، والسقي، وقيمة البذر وغير ذلك، وقيل: المراد بالنفقة قيمة الزرع،
فتقدر قيمته ويسلمها المالك.
والظاهر الأول ". (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 141) ، وكذا الطحاوي في " المشكل " (3 / 280) ؛
وفيه شريك القاضي، وهو سيئ الحفظ، لكن تابعه قيس بن الربيع؛ عند البيهقي (6
/ 136) .
فالحديث حسن، ويشهد له حديث أرض ظهير الآتي. (ن)
(3) هذا حديث صحيح، وضعفه بعضهم بشريك، وزعم أنه انفرد به، ولكن تابعه عليه
قيس بن الربيع، وضعفهما إنما هو من قبل حفظهما، فاتفاقهما على روايته مؤذن
بصحته. (ش)
(4) • في " سننه " (2 / 5) ، وكذا البيهقي (6 / 99) ؛ وفيه ابن إسحاق، وهو
مدلس، وقد عنعنه. (ن)
(5) العم - بضم العين -: جمع عميمة؛ وهي النخلة الطويلة التامة في طولها
والتفافها.
وقيل: هي القديمة. (ش)
(2/492)
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه
-، والنسائي، وأخرجه البخاري تعليقا من حديث سعيد بن زيد، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق "
(1) .
أقول: الحق الحقيق بالقبول: أن الزرع لمالك الأرض، وعليه للغاصب ما أنفقه
على الزرع (2) ؛ كما ثبت ذلك عند أهل " السنن "، ولفظه في رواية:
أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة، فرأى زرعا في أرض ظهير، فقال: " ما
أحسن زرع ظهير {" قيل: ليس لظهير، قال: " أليست أرض ظهير؟} "، قالوا: بلى،
ولكنه زرع (3) فلان، قال: " فخذوا زرعكم، وردوا عليه النفقة " ... الحديث
(4) .
( [الانتفاع بالمغصوب حرام] :)
(ولا يحل الانتفاع بالمغصوب) ؛ لما تقدم من الأدلة القاضية بأنه لا يحل مال
الغير - لا عينا ولا انتفاعا -، وقد ورد في غصب الأرض - التي لا ثمرة
لغصبها إلا الانتفاع بها بالزرع ونحوه - أحاديث:
__________
(1) • حديث صحيح، وقد سبق الكلام عليه. (ن)
(2) • وهو مذهب أحمد وإسحاق؛ كما نقله الترمذي (2 / 291) . (ن)
(3) • وفي رواية الطحاوي: " أزرع فلانا "؛ ونحوه عند النسائي. (ن)
(4) • أخرجه أبو داود (2 / 92) ، والنسائي (2 / 149) ، والطحاوي (3 / 281)
؛ من حديث رافع بن خديج؛ وسنده صحيح، رجاله كلهم ثقات.
وأعله البيهقي (6 / 136 - 137) بعلة غريبة، فقال: " أبو جعفر الخطمي -
يعني: أحد رواته - لم أر البخاري ولا مسلما احتجا به في حديث "! (ن)
(2/493)
منها: عن عائشة في " الصحيحين " وغيرهما،
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ظلم شبرا من الأرض؛ طوقه الله من
سبع أرضين ".
وفيهما أيضا من حديث سعيد بن زيد نحوه.
وفي " البخاري " وغيره من حديث ابن عمر نحوه أيضا.
وفي " مسلم " من حديث أبي هريرة نحوه أيضا.
( [إذا أتلف المغصوب فعلى الغاصب قيمته أو مثله]
:)
(ومن أتلفه فعليه مثله أو قيمته) ؛ لحديث عائشة: أنها لما كسرت إناء صفية
الذي أهدت فيه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال لها: " إناء كإناء؛ وطعام
كطعام ".
أخرجه أحمد، وأبو داود (1) ، والنسائي، وحسنه الحافظ في " الفتح ".
وأخرج البخاري، وغيره من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام،
فضربت بيدها؛ فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام وقال: " كلوا "، ودفع
القصعة الصحيحة للرسول، وحبس المكسورة.
ولفظ الترمذي؛ قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاما في
__________
(1) • في " سننه " (2 / 112 - 113) ، والبيهقي أيضا (6 / 96) ؛ من طريق
فليت، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة؛ وقال البيهقي: " فليت العامري، وجسرة
فيهما نظر ".
قلت: لكن يشهد له حديث أنس عند الترمذي (2 / 287) ، وقال: " حديث حسن صحيح
"؛ وترى لفظه في الكتاب. (ن)
(2/494)
قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما
فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " طعام بطعام وإناء بإناء ".
وقد استدل بذلك من قال: إن القيمي يضمن بمثله، ولا يضمن بالقيمة؛ إلا عند
عدم المثل، وهو الشافعي والكوفيون.
وقال مالك: إن القيمي يضمن بقيمته مطلقا.
قيل: لا خلاف في أن المثلي يضمن بمثله، ولكنه قد ورد في حديث المصراة -
الثابت في " الصحيح " - ردها وصاعا من تمر.
واللبن مثلي.
والبحث مستوفى في مواطنه.
(2/495)
(13 - باب
العتق)
( [أحادث ترغب في العتق] :)
الترغيب في العتق قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة؛
كحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "
من أعتق رقبة مسلمة؛ أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار؛ حتى فرجه بفرجه
".
وأخرج الترمذي (1) - وصححه - من حديث أبي أمامة وغيره من الصحابة عن النبي
صلى الله عليه وسلم، قال: " أيما امرئ مسلم أعتق أمرأ مسلما؛ كان فكاكه من
النار؛ يجزي كل عضو منه عضوا منه، وأيما امريء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين؛
كانتا فكاكه من النار؛ يجزي كل عضو منهما عضوا منه ".
وفي لفظ (2) :
" أيما امرأة مسلمة؛ أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار؛ يجزي كل عضو
من أعضائها عضوا من أعضائها "؛ وإسناده صحيح.
__________
(1) • (2 / 375) ؛ وإسناده حسن.
وله شاهد من حديث كعب بن مرة - أو مرة بن كعب - مرفوعا؛ أخرجه أبو داود (5
/ 165) ، والبيهقي (10 / 272) ، وأحمد (4 / 235) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) • لا داعي لهذا؛ فإن اللفظ المذكور هو تمام الحديث عند الترمذي. (ن)
(2/496)
وفي الباب أحاديث.
( [بيان أن أفضل الرقاب أنفسها عند أهلها]
:)
(أفضل الرقاب أنفسها) ؛ لما في " الصحيحين " من حديث أبي ذر، قال: قلت: يا
رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله
"، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: " أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنا ".
( [جواز العتق بشرط الخدمة] :)
(ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها) ؛ لحديث سفينة أبي عبد الرحمن، قال:
أعتقتني أم سلمة، وشرطت علي أن أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش.
أخرجه أحمد (1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وقال: لا بأس بإسناده.
وأخرجه الحاكم، وفي إسناده سعيد بن جهمان أبو حفص الأسلمي، وقد وثقه ابن
معين وغيره، وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه.
ووجه الحجة من هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا
__________
(1) • في " المسند " (5 / 221) ، وأبو داود (2 / 161) ، وابن ماجه (2 /
107) ، وكذا الحاكم (3 / 606) ، وزاد أبو داود:
فقلت: إن لم تشترطي علي؛ ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت.
وسنده حسن، وصححه الحاكم (2 / 214) ، ووافقه الذهبي. (ن)
(2/497)
يخفى عليه مثل ذلك.
وقد قيل: إن تعليق العتق بشرط الخدمة يصح إجماعا.
( [الأدلة الدالة على أن من ملك رحمه عتق عليه]
:)
(ومن ملك رحمه عتق عليه) ؛ لحديث سمرة - عند أحمد (1) ، وأبي داود،
والترمذي، وابن ماجه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ملك ذا
رحم محرم فهو حر ".
ولفظ أحمد: " فهو عتيق "؛ وهو من رواية الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه مقال
مشهور، وقال علي بن المديني: هو حديث منكر، وقال البخاري: لا يصح.
وأخرج النسائي، والترمذي، والحاكم من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر "، وهو من رواية ضمرة، عن
الثوري، عن عبد الله بن دينار، عنه؛ قال النسائي: حديث منكر، ولا نعلم أحدا
رواه عن سفيان غير ضمرة، وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة بن ربيعة على هذا
الحديث.
__________
(1) • في " المسند " (5 / 15، 18، 20) ، وأبو داود (3 / 164) ، والترمذي (2
/ 290 - 291) ، وابن ماجه (2 / 107) ؛ وهو منقطع كما بينه الشارح.
وأخرجه الحاكم (2 / 214) من هذا الوجه، وقال: " حديث صحيح "، ووافقه الذهبي
{
لكن يشهد له حديث ابن عمر الذي بعده، وقد أخرجه الحاكم، وابن ماجه،
والترمذي معلقا، وقال: " وهو حديث خطأ عند أهل الحديث "، وذكر نحوه
البيهقي، (10 / 289) .
ورده ابن التركماني في " الجوهر النقي "؛ بما خلاصته أن ضمرة ثقة، ولا يجوز
توهيمه بدون حجة، وهو الصواب} (ن)
(2/498)
لكنه قد وثقه يحيى بن معين وغيره، وحديثه
في " الصحيحين "، وقد صحح حديثه - هذا - ابن حزم، وعبد الحق، وابن القطان.
وأخرج أبو داود، والنسائي عن عمر بن الخطاب موقوفا مثل حديث سمرة؛ وهو من
رواية قتادة عنه؛ ولم يسمع منه.
أقول: الحاصل أن جميع الأخبار الواردة في عتق ذي الرحم لا تخلو عن مقال،
ولكنها تنتهض بمجموعها للاستدلال.
ولا يعارضها حديث أبي هريرة - الآتي - عند مسلم.
وقد ذهب إلى أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه: أكثر أهل العلم من الصحابة
والتابعين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد.
وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إنه يعتق عليه الأولاد والآباء
والأمهات، ولا يعتق عليه غيرهم من قرابته، وزاد مالك: الإخوة.
ولا ينافي ما ذكرناه حديث أبي هريرة - عند مسلم وغيره - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " لا يجزي ولد عن والده؛ إلا أن يجده مملوكا؛ فيشتريه
فيعتقه ":
لأن إيقاع العتق تأكيدا لا ينافي وقوعه بالملك.
وزاد في " حاشية الشفاء ": " لأن الإعتاق ههنا - وإن كان ظاهرا في الإنشاء
بعد الشراء -؛ فهو لا يستلزم أن الشراء بنفسه لا يكون سببا ". انتهى.
(2/499)
وقد تمسك بحديث أبي هريرة: الظاهرية،
فقالوا: لا يعتق أحد على أحد (1)
( [بيان كفارة من أهان مملوكه] :)
(ومن مثّل (2) بمملوكه فعليه أن يعتقه) ؛ لحديث ابن عمر - عند مسلم، وغيره
- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لطم مملوكه أو ضربه؛
فكفارته أن يعتقه ".
وفي " مسلم " أيضا؛ عن سويد بن مقرن، قال: كنا - بني مقرن - على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أعتقوها "، وفي رواية (3) : " إذا
استغنوا عنها فليخلوا سبيلها ".
وفي " مسلم " أيضا من حديث أبي مسعود البدري، قال: كنت أضرب غلاما بالسوط،
فسمعت صوتا من خلفي ... إلى أن قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " إن الله أقدر منك على هذا الغلام "، وفيه: قلت: يا رسول الله! هو
حر لوجه الله، فقال: " لو لم تفعل للفحتك النار - أو لمستك النار - ".
__________
(1) • هذا يوهم أنه مذهب ابن حزم أيضا؛ باعتبار أنه في مقدمة الظاهرية،
والواقع أنه قد خالفهم ههنا؛ فقال في " المحلى " (8 / 200) :
" ومن ملك ذا رحم محرمة؛ فهو حر ساعة يملكه ... ". (ن)
(2) • الأولى التعبير بقوله: " لطم "؛ لأنه منصوص عليه في الحديث الصحيح
الآتي، ولأن التمثيل يدخل فيه بالأولوية. (ن)
(3) • يعني: لمسلم (5 / 90 - 91) ؛ وهي رواية لأحمد (3 / 447 - 448، 5 /
444) .
(2/500)
(وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم) ؛ لحديث
عمرو بن شعيب؛ عن أبيه، عن جده؛ في المملوك الذي جب سيده مذاكيره، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " علي بالرجل "، فلم يقدر عليه، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: " اذهب؛ فأنت حر "؛ أخرجه أبو داود (1) ، وابن ماجه، وقد
أخرجه أحمد؛ وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وهو ثقة، ولكنه مدلس، وبقية رجال
أحمد ثقات، وأخرجه أيضا الطبراني.
وقد حكى في " البحر " عن علي، والشافعية، والحنفية: أنه لا يُعتق العبد
بمجرد المثلة، بل يؤمر السيد بالعتق؛ فإن تمرد؛ فالحاكم.
وقال مالك والليث وداود والأوزاعي: بل يعتق بمجردها.
قال النووي في " شرح مسلم ": " إنه أجمع العلماء على أن ذلك العتق ليس
واجبا، وإنما هو مندوب؛ رجاء الكفارة وإزالة إثم اللطم.
وذكر من أدلتهم: إذنه صلى الله عليه وسلم بأن يستخدموها كما تقدم.
ودعوى الإجماع غير صحيحة، وإذنه صلى الله عليه وسلم بالاستخدام لا يدل على
عدم الوجوب؛ بل الأمر قد دل على الوجوب، والإذن بالاستخدام دل على كونه
وجوبا متراخيا إلى وقت الاستغناء عنها ". انتهى (2) .
__________
(1) • في " سننه " (2 / 246 - 247) ، وابن ماجه (2 / 151) ؛ من طريق سوار
أبي حمزة، عن عمرو بن شعيب ... به.
وأحمد رقم (7096) ؛ من طريق الحجاج، عن عمرو ...
وقد تابعه ابن جريج عند أحمد أيضا رقم (6710) ؛ وكلاهما مدلس، ولم يصرحا
بالسماع.
فالعهدة على رواية سوار؛ وهي حسنة - إن شاء الله -. (ن)
(2) • يعني: أن الأوامر المتقدمة مقيدة بالاستغناء، فإذا وجد وجب العتق؛
وإلا فلا. (ن)
(2/501)
( [بيان حكم من
أعتق عبدا له فيه شركاء] :)
(ومن أعتق شركا له في عبد؛ ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم؛ وإلا عتق نصيبه
فقط واستُسعي العبد) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " من أعتق شركا له في عبد؛ وكان له مال يبلغ ثمن
العبد؛ قوم عليه العبد قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد؛
وإلا فقد عتق عليه ما عتق "، زاد الدارقطني: " ورقّ ما بقي " (1) .
وأخرج أحمد (2) ، والنسائي، وابن ماجه من حديث أبي المليح، عن أبيه: أن
رجلا من قومه أعتق شقصا له من مملوك، فرُفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فجعل خلاصه عليه في ماله، وقال: " ليس لله شريك ".
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
أنه قال: " من أعتق شقيصا من مملوك؛ فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له
مال؛ قُوّم المملوك قيمة عدل؛ ثم استُسعي في نصيب الذي لم يعتق؛ غير مشقوق
عليه ".
ولا تنافي بين هذا وبين حديث ابن عمر؛ بل الجمع ممكن؛ وهو أن من
__________
(1) • في إسناده إسماعيل بن مرزوق الكعبي - وليس بالمشهور -، عن يحيى بن
أيوب - وفي حفظه شيء -؛ كذا في " الفتح " (5 / 119) . (ن)
(2) • في " المسند " (5 / 74 - 75) ، ولم أجده عند النسائي وابن ماجه، ولم
يعزه النابلسي في " الذخائر " (رقم 98) إلا لأبي داود؛ وهو عنده (2 / 161)
، والبيهقي أيضا (10 / 273 - 274) ؛ أخرجوه كلهم من طريق قتادة، عن أبي
المليح ... به.
وفي رواية للبيهقي: " أعتق ثلث غلامه "؛ فهذا يدل على أن الغلام كله كان
للذي أعتق بعضه، فلا دلالة فيه على المطلوب.
وسند الحديث صحيح، وقد رواه أحمد أيضا، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛
مرفوعا. (ن)
(2/502)
أعتق شركا له في عبد ولا مال له؛ لم يعتق
إلا نصيبه، ويبقى نصيب شريكه مملوكا، فإن اختار العبد أن يستسعي لما بقي
استُسعي؛ وإلا كان بعضه حرا وبعضه عبدا.
وأخرج أحمد (1) من حديث إسماعيل بن أمية، عن أبيه، عن جده، قال: كان لهم
غلام - يقال له: طهمان أو ذكوان -، فأعتق جده نصفه، فجاء العبد إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تعتق في عتقك، وترق
في رقك "؛ قال: فكان يخدم سيده حتى مات؛ ورجاله ثقات.
وأخرجه الطبراني.
قال في " المسوى ": " قلت: عليه الشافعي: أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك
بينه وبين غيره، وهو موسر بقيمة نصيب الشريك؛ يعتق عليه، ويكون ولاؤه كله
للمعتق، وإن كان معسرا عتق نصيبه، ونصيب الشريك رقيق لا يكلف إعتاقه، ولا
يستسعى العبد في فكه.
قوله: " فأعطى شركاءه حصصهم "؛ يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه لا يعتق نصيب الشريك بنفس اللفظ ما لم يؤد إليه قيمته، وقال به
الشافعي في القديم.
__________
(1) • في " المسند " (3 / 412) ومن طريقه البيهقي (10 / 274) ؛ وهو مرسل؛
لأن جد إسماعيل بن أمية؛ هو عمرو بن سعيد بن العاص؛ وليس له صحبة؛ كما قال
البيهقي.
وقال الحافظ في " التقريب ": " تابعي ... ووهم من زعم أن له صحبة؛ وإنما
لأبيه رؤية، وكان عمرو مسرفا على نفسه ". (ن)
(2/503)
وثانيهما: أنه يعتق كله عليه بنفس الإعتاق،
ولا يتوقف على أداء القيمة، وذلك لأن إعطاء القيمة والعتق حكمان لمن أعتق
شركا له في عبد؛ يردان عليه جميعا، وقال به الشافعي في الجديد.
وقال أبو حنيفة: إن كان المعتق موسرا فالذي لم يعتق بالخيار؛ إن شاء أعتق
نصيبه، وإن شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه، فإذا أدى عتق، فكان الولاء
بينها، وإن شاء ضمن المعتق قيمة نصيبه، ثم شريكه بعد ما ضمن رجع على العبد
استسعاه، فإذا أداه عتق؛ وولاؤه كله له.
وقال صاحباه: لا يعتق نصيب الشريك بنفس الإعتاق؛ بل يُستسعى العبد، فإذا
أدى قيمة النصف الآخر عتق كله، والولاء بينهما، ومأخذ قولهم حديث أبي هريرة
مرفوعا: " من أعتق شقيصا في عبد؛ عتق كله إن كان له مال؛ وإلا يُستسعى غير
مشقوق عليه "؛ رواه الشيخان.
قوله: " غير مشقوق عليه "؛ أي: لا يستغلى عليه في الثمن، وتأويل هذا الحديث
على قول الشافعي: إن معنى " يستسعى ": يستخدم لسيده الذي لم يعتق إن كان
معسرا، ومعنى " غير مشقوق عليه ": أنه لا يحمل من الخدمة فوق ما يلزمه؛
إنما يطالبه بقدر ما له فيه من الرق ". انتهى.
( [بيان أن الولاء لمن أعتق] :)
(ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق) : لحديث عائشة في " الصحيحين "،
وغيرهما: أنها جاءت إليها بريرة تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من
كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أن أقضي عنك
كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا، وقالوا: إن
شاءت أن
(2/504)
تحتسب عليك فلتفعل؛ ويكون لنا ولاؤك؛ فذكرت
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " ابتاعي فأعتقي؛ فإنما الولاء لمن أعتق "، ثم قام فقال: " ما بال
أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى؟ ! من اشترط شرطا ليس في كتاب
الله؛ فليس له، وإن شرط مئة مرة، شرط الله أحق وأوثق ".
وللحديث طرق وألفاظ.
قال ابن القيم رحمه الله:
" قال شيخنا: الحديث على ظاهره، ولم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -
باشتراط الولاء تصحيحا لهذا الشرط، ولا إباحة له، ولكن عقوبة لمشترطه؛ إذ
أبى أن يبيع جارية للعتق إلا باشتراط ما يخالف حكم الله - تعالى - وشرعه،
فأمرها أن تدخل تحت شرطهم الباطل؛ ليظهر به حكم الله ورسوله في أن الشروط
الباطلة لا تغير شرعه، وأن من شرط ما يخالف دينه؛ لم يجبر أن يوفي له
بشرطه.
ولا يبطل من البيع به؛ وإن عرف فساد الشرط، وشرطه إلغاء اشتراطه ولم يعتبر،
والله تعالى أعلم ".
قلت: وعليه أهل العلم: أن من أعتق عبدا يثبت له عليه الولاء ويرثه به، ولا
يثبت الولاء بالحلف والموالاة، وبأن يسلم رجل على يدي رجل؛ لأن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أضاف الولاء إلى المعتق ب (الألف واللام) ، فأوجب ذلك
قطعه عن غيره، كما يقال: الدار لزيد، فيه إيجاب الملك فيها لزيد وقطعها عن
غيره، وعليه الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يثبت الولاء بعقد المولاة.
(2/505)
( [جواز بيع المدبر للحاجة] :)
(ويجوز التدبير، فيعتق بموت مالكه، وإذا احتاج المالك جاز له بيعه) ؛ لحديث
جابر في " الصحيحين "، وغيرهما: أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر، فاحتاج،
فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " من يشتريه مني؟ "، فاشتراه
نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه.
وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر - مرفوعا وموقوفا - بلفظ: " المدبر من الثلث
".
ورواه الدارقطني مرفوعا بلفظ: " المدبر لا يباع ولا يوهب، وهو حر من الثلث
"، وفي إسناده عبيدة بن حسان (1) ، وهو منكر الحديث.
وقد ذهب إلى جواز بيع المدبر للحاجة:
الشافعي، وأهل الحديث، ونقله البيهقي في " المعرفة " عن أكثر الفقهاء.
وحكى النووي عن الجمهور: أنه لا يجوز بيع المدبر مطلقا، وبه قال أبو حنيفة،
وتعقبه الشافعي بما روي عن جابر، وتقدم.
وأجيب باحتمال أن يكون تدبيره مقيدا بشرط أو زمان.
ورد بأن اسم التدبير إذا أطلق؛ فيفهم منه التدبير المطلق لا غير.
واتفقوا على جواز وطء المدبرة.
ومن أجاز بيعه قال: يباع في الجناية.
أقول: قد دل الحديث على جواز البيع للحاجة، وليس فيه دلالة على
__________
(1) عبيدة - بفتح العين -؛ قال ابن حبان: " يروي الموضوعات عن الثقات ".
(ش)
(2/506)
عدم جوازه مع عدمها، ولم يرد ما يدل على
ذلك إلا ما لا يحتج بمثله.
فالقائل بالجواز واقف في موقف المنع، وعلى مدعي عدمه بيان المانع، فإن قال
المانع: العتق؛ قلنا: الناجز، وأما المشروط بشرط لم يقع؛ فممنوع كونه
مانعا.
( [بيان جواز مكاتبة المملوك على مال يؤديه]
:)
(ويجوز مكاتبة المملوك على مال يؤديه) ؛ لقوله - تعالى - {فكاتبوهم} الآية.
وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية، فقرر ذلك الإسلام، ولا أعرف خلافا في
مشروعيتها.
قلت: وعليه أبو حنيفة.
وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في العبد - بدلالة الكتاب - الاكتساب مع
الأمانة، فأحب أن لا يمتنع من كتابته إذا كان هكذا.
( [متى يصير المكاتب حرا؟] :)
(فيصير عند الوفاء حرا، ويعتق منه بقدر ما سلم) ؛ لحديث ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم، قال: " يودى (1) المكاتب بحصة ما أدى دية الحر، وما
بقي دية العبد "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي (2) .
وأخرج أحمد، وأبو داود، نحوه من حديث علي (2) .
__________
(1) أي: إذا قُتل خطأ كانت ديته بهذه الصفة، فالوجه عدم همز الواو، وكانت
في الأصل مهموزة، وهو خطأ. (ش)
(2) • وإسناده صحيح، وقد تكلمت عليه في " الروض النضير في ترتيب معجم
الطبراني الصغير " (رقم 473) . (ن)
(2/507)
وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وذهب آخرون
إلى أن حكم المكاتب حكم العبد حتى يوفي مال الكتابة.
واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: " أيما عبد كوتب بمئة أوقية، فأداها إلا عشر أوقيات؛ فهو رقيق "؛
رواه أحمد (1) ، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم - وصححه -.
وفي لفظ لأبي داود: " المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم ".
ولا يعارض هذا ما تقدم.
فالجمع ممكن؛ بحمل هذا على ما لا يمكن تبعضه من الأحكام، وفي حديث أم سلمة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما
يؤدي؛ فلتحتجب منه "، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه
- (2) .
فأثبت له ههنا حكم الحر؛ لأن العبد يجوز له أن ينظر إلى مولاته؛ لقوله -
تعالى -: {أو ما ملكت أيمانهن} .
قال في " المسوى ":
" المكاتب عبد ما بقي عليه شيء، وعليه أكثر أهل العلم، فلا يرث من
__________
(1) • في " المسند " (رقم 6666، 6726، 6923، 6949) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) • وفي " سنده " - عنده (2 / 250) ، وأبي داود (2 / 160) - نبهان -
مكاتب أم سلمة -؛ وليس بمعروف العدالة، وفي " التقريب ": أنه مقبول؛ يعني:
عند المتابعة؛ وهي مفقودة.
فالحديث لا يصح. (ن)
(2/508)
قريبه شيئا، وإذا أصاب حدا ضرب حد العبد ".
( [بيان مصير المكاتب إذا عجز عن تسليم المال]
:)
(وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة عاد في الرق) ؛ لكون المالك لم يعتقه إلا
بعوض، وإذا لم يحصل العوض لم يحصل العتق، وقد اشترت عائشة بريرة بعد أن
كاتبها أهلها؛ كما تقدم.
( [يحرم بيع الأمة التي ولدت له] :)
(ومن استولد أمته لم يحل له بيعها) ؛ لحديث ابن عباس، عن النبي صلى الله
عليه وسلم: " من وطئ أمته فولدت له؛ فهي معتقة عن دبر منه ".
أخرجه أحمد (1) ، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، وفي إسناده الحسين ابن عبد
الله الهاشمي، وهو ضعيف.
وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس، قال: ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: " أعتقها ولدها " (2) .
وأخرجه أيضا الدارقطني، وفي إسناده الحسين بن عبد الله، وهو ضعيف؛ كما
تقدم.
وأخرج الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عباس أيضا: " أم الولد
__________
(1) • في " المسند " (رقم 2759، 2912) ، والدارقطني (ص 479) . (ن)
قلت: وقد ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1771) .
(2) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1772) .
(2/509)
حرة؛ وإن كان سقطا "، وإسناده ضعيف (1) .
وأخرج البيهقي من حديث ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لأم إبراهيم: " أعتقك ولدك "؛ وهو معضل.
وقال ابن حزم: صح هذا بسند رواته ثقات عن ابن عباس.
وأخرج الدارقطني (2) عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى
عن بيع أمهات الأولاد، وقا ل: " لا يُبعن، ولا يوهبن، ولا يورثن، يستمتع
بها السيد ما دام حيا، وإذا مات فهي حرة ".
وقد أخرجه مالك في " الموطإ "، والدارقطني أيضا من قول ابن عمر (3) ،
وأخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا.
وهذه الأحاديث - وإن كان في أسانيدها ما تقدم -؛ فهي تنتهض للاحتجاج بها،
وقد أخذ بها الجمهور.
وذهب من عداهم إلى الجواز، وتمسكوا بحديث جابر، قال: كنا نبيع سرارينا
أمهات أولادنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) • لأن فيه إبراهيم بن يوسف الحضرمي، والحكم بن أبان، وفيهما ضعف.
قال الحافظ في " التلخيص ": " والصحيح أنه من قول عمر ". (ن)
(2) • في " السنن " (ص 481) ؛ بسندين عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛
وسنده صحيح.
لكن ذكر البيهقي (10 / 343) أن رفعه وهم لا يحل ذكره، وأن الصواب وقفه على
عمر؛ كذلك رواه الجماعة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: نهى عمر
(ن)
(3) • قلت: الصواب من قول عمر؛ من رواية ابنه عنه، كما تقدم آنفا.
وكذلك هو عند مالك (3 / 5) ، والدارقطني. (ن)
(2/510)
- وأبي بكر، فلما كان عمر؛ نهانا فانتهينا
"، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي (1) .
وأخرجه أيضا أحمد، وابن حبان والحاكم.
وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك.
والخلاف في المسألة - بين الصحابة فمن بعدهم - معروف مشهور.
( [تعتق الأمة بموت الذي استولدها] :)
(وعتقت بموته) ؛ أي: سيدها الذي استولدها؛ لقوله في الحديث المتقدم: " فهي
معتقة عن دبر منه "؛ أي: في دبر حياته.
(أو بتخييره) ؛ أي: تخيير مستولدها (2) (لعتقها) ؛ لأن إيقاع العتق يوجب
عتق من لم يوجب لعتقه سبب.
فمن قد وجد له سبب عتقه أولى بذلك، ولا سيما بعد قوله - صلى الله عليه وسلم
-: " أعتقها ولدها "؛ فإنه يدل على أنه قد وقع العتق بالولادة، ولكن بقي
للسيد حق يوجب عليها بعض ما يجب على المملوك حتى يموت، فإذا نجز العتق؛ فقد
رضي بإسقاط ذلك الحق.
__________
(1) • في " سننه " (10 / 347 - 348) بإسنادين صحيحين، عن جابر.
والدارقطني (ص 481) بأحدهما. (ن)
(2) كذا في الأصل، والصواب: " أو بتنجيزه؛ أي: تنجيز مستولدها ". (ش)
(2/511)
(14 - باب
الوقف)
( [تعريف الوقف] :)
قال في " الحجة البالغة ":
" وهو من التبرعات، كان أهل الجاهلية لا يعرفونه، فاستنبطه النبي صلى الله
عليه وسلم لمصالح لا توجد في سائر الصدقات؛ فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل
الله مالا كثيرا ثم يفنى، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، وتجيء أقوام
آخرون من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء
حبسا للفقراء وابن السبيل، يُصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله على ملك الواقف
". انتهى.
( [الأدلة على مشروعية الوقف] :)
(من حبّس ملكه في سبيل الله صار محبّسا) ؛ قد ذهب إلى مشروعيتة الوقف
ولزومه جمهور العلماء.
قال الترمذي: " لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز
وقف الأرضين ".
وجاء عن شريح أنه أنكره.
(2/512)
وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع
أصحابه؛ إلا زفر.
وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف، أنه قال: لو بلغ أبا حنيفة - يعني: الدليل -؛
لقال به.
وقال القرطبي: راد الوقف مخالف للإجماع، فلا يلتفت إليه.
ومما يدل على صحته ولزومه؛ حديث أبي هريرة - عند مسلم، وغيره -، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله؛ إلا من ثلاثة
أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ".
وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر: أن عمر أصاب أرضا بخيبر، فقال:
يا رسول الله! أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه؛ فما تأمرني؟
فقال: " إن شئت حبّست أصلها، وتصدقت بها "، فتصدق بها عمر - على أن لا تباع
ولا توهب ولا تورث - في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضعيف وابن السبيل؛
لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم؛ غير متمول.
وأخرج النسائي، والترمذي - وحسنه -، والبخاري - تعليقا - من حديث عثمان: أن
النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة؛ وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة،
فقال: " من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين؛ بخير له
منها في الجنة؟ "، فاشتريتها من صلب مالي.
وفي " الصحيحين ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أما خالد؛ فقد حبس
أدرعه
(2/513)
وأعتده (1) في سبيل الله ".
( [للواقف أن يجعل غلات الموقوف لمن شاء]
:)
(وله أن يجعل غلاته لأي مصرف شاء مما فيه قربة) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
لعمر في الحديث السابق: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها "، فإطلاق الصدقة
يشعر بأن للواقف أن يتصدق بها كيف شاء؛ فيما فيه قربة.
وقد فعل عمر ذلك، فتصدق بها على الفقراء وذوي القربى والرقاب والضعيف وابن
السبيل؛ كما تقدم.
والحاصل: أن الوقف الذي جاءت به الشريعة - ورغب فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وفعله أصحابه -؛ هو الذي يُتقرب به إلى الله - عز وجل -، حتى
يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابها، فلا يصح أن يكون
مصرفه غير قربة؛ لأن ذلك خلاف موضوع الوقف المشروع؛ لكن القربة توجد في كل
ما أثبت فيه الشرع أجرا لفاعله؛ كائنا ما كان.
فمن وقف - مثلا - على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة؛ كان وقفه
صحيحا؛ لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة: " أن في كل كبد رطبة أجرا ".
ومثل هذا: لو وقف على من يخرج القذارة من المسجد، أو يرفع ما يؤذي المسلمين
في طريقهم؛ كان ذلك وقفا صحيحا؛ لورود الأدلة الدالة على
__________
(1) الأعتد - بضم التاء وبكسرها -: جمع قلة للعتاد، وهو ما أعده الرجل من
السلاح، والدواب، وآلة الحرب. (ش)
(2/514)
ثبوت الأجر لفاعل ذلك.
فقس على هذا غيره مما هو مساو له في ثبوت الأجر لفاعله، وما هو آكد منه في
استحقاق الثواب.
( [جواز الأكل من وقفه وأن يجعل نفسه عليه]
:)
(وللمتولي عليه أن يأكل منه بالمعروف) ؛ لما تقدم في وقف عمر الذي قرره
النبي صلى الله عليه وسلم.
(وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين) ؛ لما تقدم في حديث عثمان
من قوله صلى الله عليه وسلم: " فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين ".
( [بطلان وقف من أراد مضارة لوارثه] :)
(ومن وقف شيئا مضارة لوارثه كان وقفه باطلا) ؛ لأن ذلك مما لم يأذن به الله
- سبحانه -؛ بل لم يأذن إلا بما كان صدقة جارية ينتفع بها صاحبها؛ لا بما
كان إثما جاريا وعقابا مستمرا.
وقد نهى الله - تعالى - عن الضرار في كتابه العزيز عموما وخصوصا، ونهى عنه
النبي صلى الله عليه وسلم عموما؛ كحديث: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " -
وقد تقدم -، وخصوصا؛ كما في ضرار الجار، وضرار الوصية، ونحوهما.
والحاصل: أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومخالفة
فرائض الله - عز وجل -: فهي باطلة من أصلها؛ لا تنعقد بحال.
وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا
(2/515)
لم يرد التقرب إلى الله - تعالى -؛ بل أراد
المخالفة لأحكام الله - عز وجل -، والمعاندة لما شرعه لعباده، وجعل هذا
الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني، فليكن هذا منك على ذُكر؛
فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة {
وهكذا وقف من لا يحمله على الوقف؛ إلا محبة بقاء المال في ذريته وعدم خروجه
عن أملاكهم، فيقفه على ذريته؛ فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله - عز
وجل -؛ وهو انتقال الملك بالميراث، وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف فيه كيف
يشاء، وليس أمر غنى الورثة أو فقرهم إلى هذا الواقف؛ بل هو إلى الله - عز
وجل -.
وقد توجد القربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرا؛ بحسب اختلاف الأشخاص.
فعلى الناظر أن يمعن النظر في الأسباب المقتضية لذلك.
ومن هذا النادر: أن يقف على من تمسك بالصلاح من ذريته، أو اشتغل بطلب
العلم؛ فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خالصا، والقربة متحققة،
والأعمال بالنيات، ولكن تفويض الأمر إلى ما حكم الله به بين عباده وارتضاه
لهم؛ أولى وأحق.
( [بيان حكم المال الموقوف الذي يوضع في مكان
لا يستفاد منه] :)
(ومن وضع مالا في مسجد أو مشهد (1) لا ينتفع به أحد؛ جاز صرفه في
__________
(1) • هو محضر الناس؛ كما في " القاموس ".
وليس يريد المؤلف به المعنى المتعارف عليه؛ وهو المكان الذي دفن فيه أحد
الصالحين؛ فإن هذا غير مشروع} (ن)
(2/516)
أهل الحاجات ومصالح المسلمين، ومن ذلك ما
يوضع في الكعبة وفي مسجده - صلى الله عليه وسلم -) ؛ لحديث عائشة - في "
صحيح مسلم " وغيره -، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "
لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال: بكفر -؛ لأنفقت كنز الكعبة في
سبيل الله ".
فهذا يدل على جواز إنفاق ما في الكعبة إذا زال المانع، وهو حداثة عهد الناس
بالكفر، وقد زال ذلك، واستقر أمر الإسلام، وثبت قدمه في أيام الصحابة؛ فضلا
عن زمان من بعدهم.
وإذا كان هذا هو الحكم في الأموال التي في الكعبة؛ فالأموال التي في غيرها
من المساجد أولى بذلك؛ بفحوى الخطاب.
فمن وقف على مسجده - صلى الله عليه وسلم -، أو على الكعبة، أو على سائر
المساجد شيئا يبقى فيها لا ينتفع به أحد؛ فهو ليس بمتقرب ولا واقف ولا
متصدق؛ بل كانز يدخل تحت قوله - تعالى -: {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا
ينفقونها في سبيل الله} الآية.
ولا يعارض هذا ما روى أحمد، والبخاري، عن أبي وائل، قال: جلست إلى شيبة في
هذا المسجد، فقال: جلس إلي عمر في مجلسك هذا، فقال: لقد هممت أن لا أدع
فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال:
لم؟ {قلت: لم يفعله صاحباك، فقال: هما المرآن يُقتدى بهما "}
لأن هذا - من عمر ومن شيبة بن عثمان بن طلحة - اقتداء بما وقع من
(2/517)
النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؛ وقد
أبان حديث عائشة السبب الذي لأجله ترك صلى الله عليه وسلم ذلك.
أقول: وفي " حاشية الشفاء ":
" وأما أموال المساجد؛ فإن كانت كالأموال التي يقفها الواقفون عليها؛ ليحصل
من غلاتها ما يحتاج إليه من عمارة ونحوها، وما يقوم بمن يحييها بالصلاة
والتلاوة وتدريس العلوم؛ فلا شك أن هذا من أعظم القرب، ولا يحل لمسلم أن
يأخذ منه شيئا.
وإن كان ذلك من الأمور التي لمجرد الزخرفة - التي هي من علامات القيامة، أو
للمباهاة والمكاثرة -؛ فهو من إضاعة المال؛ بل من وضعه في معاصي الله؛
فيكون أخذه وصرفه في مصالح المسلمين من باب القيام بواجبين:
أحدهما: النهي عن المنكر.
والثاني: توقي إضاعة المال المنهي عنها بالدليل الصحيح.
وأما وضع الحلي في الكعبة، والدراهم والدنانير والجواهر النفيسة؛ فلا
أستبعد أن يكون فاعله من الكانزين الذين قال الله - عز وجل - فيهم: {يوم
يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم
لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} ، ولا أرى على من أخذها - ليصرفها في مصالح
المؤمنين؛ أو يدفع بها مفاسدهم بأسا، ولم يرد - ما يدل على المنع ". انتهى.
(2/518)
وقد أوضح الماتن الكلام فيها في " شرح
المنتقى "، فليراجع.
( [تحريم الوقف على القبور لتزيينها أو زخرفتها] :)
(والوقف على القبور - لرفع سمكها، أو تزيينها، أو فعل ما يجلب على زائرها
فتنة - باطل) ؛ لأن رفعها قد ورد النهي عنه؛ كما في حديث علي: أنه أمره صلى
الله عليه وسلم أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه، ولا تمثالا إلا طمسه.
وهو في " مسلم " وغيره.
وكذلك تزيينها، وأشد من ذلك ما يجلب الفتنة على زائرها؛ كوضع الستور
الفائقة، والأحجار النفيسة، ونحو ذلك؛ فإن هذا مما يوجب أن يعظم صاحب ذلك
القبر في صدر زائره من العوام، فيعتقد فيه ما لا يجوز.
وهكذا إذا وقف للنحر عند القبور ونحوه مما فيه مخالفة لما جاء عن الشارع.
أما إذا وقف على إطعام من يفد إلى ذلك القبر، أو نحو ذلك؛ فهذا هو وقف على
الوافد لا على القبر (1) ، وما صنع الواقف بوقفه على القبر إلا ما يعرضه
للإثم؛ فقد يكون ذلك سببا للاعتقادات الفاسدة.
وبالجملة: فالوقف على القبور مفسدة عظيمة ومنكر كبير؛ إلا أن يقف على القبر
- مثلا - لإصلاح ما انهدم من عمارته؛ التي لا إشراف فيها ولا رفع ولا تزيين
__________
(1) • كأنه يقول أن لا شيء في هذا! والصواب أن يقال بمنعه؛ سدا للذريعة.
(ن)
(2/519)
فقد يكون لهذا وجه صحة؛ وإن كان غير القبر
أحوج إلى ذلك؛ كما قال الصديق - رضي الله تعالى عنه -: الحي أولى بالجديد
من الأكفان؛ أو كما قال.
(2/520)
(15 - باب
الهدايا)
( [فائدة الهدية] :)
جمع هدية؛ قال في " الحجة البالغة ":
" إنما يبتغى بها إقامة الألفة فيما بين الناس، ولا يتم هذا المقصود إلا
بأن يرد إليه مثله؛ فإن الهدية تحبب المهدي إلى المهدى له؛ من غير عكس.
وأيضا؛ فإن اليد العليا خير من اليد السفلى، ولمن أعطى الطول على من أخذ،
فإن عجز فليشكره، وليظهر نعمته؛ فإن الثناء أول اعتداد بنعمته وإضمار
لمحبته، وأنه يفعل في إيراث الحب ما تفعل الهدية، ومن كتم فقد خالف عليه ما
أراده، وناقض مصلحة الائتلاف، وغمط حقه.
ومن أظهر ما ليس في الحقيقة؛ فلذلك كذب ". انتهى.
( [دليل مشروعية الهدية] :)
(يشرع قبولها ومكافأة فاعلها) ؛ لحديث أبي هريرة - عند البخاري -، عن النبي
صلى الله عليه وسلم، قال: " لو دعيت إلى كراع (1) أو ذراع؛ لأجبت، ولو أهدي
إلي ذراع أو كراع؛ لقبلت ".
__________
(1) • هو ما دون الركبة من الساق: " نهاية ". (ن)
(2/521)
وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - نحوه من
حديث أنس.
وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية، قالت: قلت يا رسول الله {تكره رد
اللطف؟ قال: " ما أقبحه} لو أهدي إلي كراع لقبلته " (1) .
وأخرج أحمد (2) برجال الصحيح؛ من حديث خالد بن عدي، أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
" من جاءه من أخيه معروف - من غير إشراف ولا مسألة -؛ فليقبله ولا يرده؛
فإنما هو رزق ساقه الله إليه ".
وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم
يقبل الهدية، ويثيب عليها.
والأحاديث في قبول الهدية والمكافأة عليها كثيرة، وذلك معلوم منه صلى الله
عليه وسلم.
( [جواز تبادل الهدايا بين المسلم والكافر]
:)
(وتجوز بين المسلم والكافر) : لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا
الكفار، ويهدي لهم، كما أخرجه أحمد (3) ، والترمذي، والبزار من حديث علي،
__________
(1) ضعفه الهيثمي في " المجمع " (4 / 1499) ؛ ولعل ما قبله يشهد له.
(2) • في " المسند " (4 / 220 - 221) ؛ وسنده صحيح على شرطهما، وانظر
تعليقي على " الترغيب " (2 / 16) . (ن)
قلت: وأصله في " صحيح مسلم " (1045) بنحوه؛ من حديث عمر بن الخطاب.
(3) • في " المسند " (رقم 747، 1234) ، والترمذي (2 / 388) من طريق ثوير بن
أبي فاختة، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -؛ وقال الترمذي: " حديث حسن
غريب ".
كذا قال! وثوير متفق على تضعيفه؛ بل قال الثوري فيه: " ركن من أركان الكذب
". (ن)
(2/522)
قال: أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فقبل منه، وأهدى له قيصر؛ فقبل منه، وأهدت له الملوك؛ فقبل منها.
وأخرج أبو داود (1) من حديث بلال: أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم
عظيم فدك.
وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن أكيدر دومة أهدى لرسول الله صلى الله
عليه وسلم جبة سندس.
وأخرج أبو داود (2) من حديثه: أن ملك الروم أهدى إلى النبي صلى الله عليه
وسلم مستقة (3) سندس؛ فلبسها.
وفيهما أيضا من حديث علي: أن أكيدر دومة الجندل (4) أهدى إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه عليا، فقال: " شققه خمرا بين الفواطم (5)
".
وأخرج البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر، قال: أتتني أمي راغبة
__________
(1) • في " السنن " (2 / 46 - 47) ، وكذا البيهقي (6 / 80 - 81) ؛ وإسناده
صحيح. (ن)
(2) • قلت: هو في " سننه " (2 / 174 - 175) ؛ من طريق علي بن زيد، عن أنس.
وعلي هذا: هو ابن جدعان؛ وفيه ضعف. (ن)
(3) بضم الميم وإسكان السين المهملة وفتح التاء - ويجوز أيضا فتح الميم -:
هي فراء طوال الأكمام، جمعها (مساتق) ، وأصل الكلمة فارسي، ووقع في الأصل
بالشين المعجمة، وهو خطأ. (ش)
(4) دومة الجندل - بفتح الدال وضمها -: حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب
جبل طيئ.
وأكيدر - بالتصغير -: اسم ملكها، وكان نصرانيا فأسلم، وأقره النبي صلى الله
عليه وسلم على ما في يده، ثم نقض الصلح، فأجلاه عمر.
وقيل: إنه قتل في عهد أبي بكر؛ قتله خالد بن الوليد، وهو صحيح. (ش)
(5) • أراد بهن: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - زوجة علي -،
وفاطمة بنت أسد - أمه -، وفاطمة بنت حمزة - عمه -: " نهاية ". (ن)
(2/523)
في عهد قريش وهي مشركة، فسألت النبي صلى
الله عليه وسلم أصلها؟ قال: " نعم "، قال ابن عيينة (1) : فأنزل الله فيها:
{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} .
وقد أخرج أحمد، والطبراني من حديث أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال لها: " إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي
إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة؛ فإن ردت إلي فهي لك "؛ وفي إسناده
مسلم بن خالد الزنجي؛ وثقه يحيى ابن معين وغيره، وضعفه جماعة (2) .
والأحاديث في قبوله - صلى الله عليه وسلم - لهدايا الكفار كثيرة جدا.
وأما ما أخرجه أحمد (3) ، وأبو داود، والترمذي، وابن خزيمة - وصححاه - من
حديث عياض بن حمار: أنه أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية، أو ناقة،
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أسلمت؟ ". قال: لا، قال: " إني قد
نهيت عن زبد المشركين ".
__________
(1) • هو أحد رواة هذا الحديث.
وسبب نزول الآية معضل، وقد جاء موصولا في " المسند " (4 / 4) ، عن ابن
الزبير؛ وفيه ضعف. (ن)
(2) • وفي " الفتح " (5 / 169) : " وإسناده حسن "؛ كذا قال! وانظر "
الإرواء " (6 / 62) . (ن)
(3) • في " المسند " (4 / 162) من طريق الحسن بن عياض - وإسناده صحيح إن
كان الحسن سمعه من عياض -، وأبو داود (2 / 47) ، والترمذي (2 / 389) ؛ من
طريق عمران القطان، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عياض؛
وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
قلت: وإسناده حسن. (ن)
(2/524)
وأخرج موسى بن عقبة في " المغازي " عن عبد
الرحمن بن كعب بن مالك: أن عامر بن مالك - الذي يقال له: ملاعب الأسنة -
قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهدى له؛ فقال: " إني لا أقبل هدية
مشرك " (1) .
قال في " الفتح " (2) : " رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل، قال الخطابي: يشبه أن
يكون هذا الحديث منسوخا ".
وقيل: إنما رد ذلك إليهم لقصد الإغاظة؛ أو لئلا يميل إليهم، ولا يجوز الميل
إلى المشركين.
وأما قبوله لهدية من تقدم ذكره؛ فهو لكونهم قد صاروا من أهل الكتاب.
وقيل: إن الرد في حق من يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول في حق من
يرجى بذلك تأنيسه وتأليفه.
ويمكن أن يكون النهي لمجرد الكراهة التي لا تنافي الجواز؛ جمعا بين الأدلة.
وزبد المشركين: هو بفتح الزاي، وسكون الموحدة، بعدها دال مهملة.
قال في " الفتح ": " هو الرفد ". انتهى.
( [الرجوع بالهدية حرام] :)
(ويحرم الرجوع فيها) ؛ لكون الهدية هي هبة - لغة وشرعا -، وقد ورد
__________
(1) صححه شيخنا في " الصحيحة " (1727) ، وانظر (1707) .
(2) • (5 / 175) . (ن)
(2/525)
في ذلك حديث ابن عباس - عند البخاري، وغيره
-، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العائد في هبته كالعائد يعود في
قيئه "؛ وهو في " مسلم " أيضا.
وفي لفظ للبخاري: " ليس لنا مثل السوء ".
وأخرج أحمد (1) ، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم - من
حديث ابن عمر، وابن عباس، رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها؛ إلا الوالد فيما يعطي ولده،
ومثل الرجل يعطي العطية ثم يرجع فيها؛ كمثل الكلب؛ أكل حتى إذا شبع قاء، ثم
رجع في قيئه ".
وقد دل قوله: " لا يحل " على تحريم الرجوع من غير نظر إلى التمثيل الذي وقع
الخلاف فيه؛ هل يدل على الكراهة أو التحريم؟ !
وقد ذهب إلى التحريم جمهور العلماء؛ إلا هبة الوالد لولده؛ كذا قال في "
الفتح ".
( [تجب التسوية بالهدايا بين الأولاد]
:)
(وتجب التسوية بين الأولاد) ؛ لحديث جابر - عند مسلم وغيره -، قال: قالت
امرأة بشير: انحل ابني غلاما وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها
غلامي، فقال: " له
__________
(1) • في " المسند " (رقم 2119، 4810) ؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن طاوس،
عنهما؛ وسنده صحيح؛ وكذلك رواه أبو داود (2 / 109) . (ن)
(2/526)
إخوة؟ "، قال: نعم، قال: " فكلهم أعطيت مثل
ما أعطيته؟ "، قال: لا، قال: " فليس يصلح هذا؛ وإني لا أشهد إلا على حق ".
وفي لفظ لأحمد من حديث النعمان بن بشير: " لا تشهدني على جور؛ إن لبنيك
عليك من الحق أن تعدل بينهم " (1) .
وفي " الصحيحين " من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " أكل
ولدك نحلته مثل هذا؟ "، فقال: لا، فقال: " فأرجعه ".
وفي لفظ لمسلم من حديثه: " اتقوا الله واعدلوا في أولادكم "، فرجع أبي في
تلك الصدقة.
وكذا في " البخاري "؛ ولكنه بلفظ: " العطية ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديثه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "
اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم ".
وأخرج الطبراني، والبيهقي (2) ، وسعيد بن منصور من حديث ابن عباس؛ بلفظ: "
سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء "، وفي
إسناده سعيد بن يوسف؛ وفيه ضعف، وقد حسن في " الفتح " إسناده.
__________
(1) ضعيف بهذا اللفظ؛ وانظر " غاية المرام " رقم (274) .
(2) • أخرجه (6 / 177) ؛ من طريق سعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن عياش، عن
سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وسعيد بن يوسف؛ قال الحافظ في " التقريب ": " ضعيف ". (ن)
(2/527)
وهذه الأحاديث تدل على وجوب التسوية، وأن
التفضيل باطل جور يجب على فاعله استرجاعه، وبه قال طاوس، والثوري، وأحمد،
وإسحاق، وبعض المالكية.
وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة فقط، وأجابوا عن الأحاديث بما لا ينبغي
الالتفات إليه.
والحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتسوية بين الأولاد، وقد
تولى الله - سبحانه - كيفية ذلك في محكم كتابه، وسمى التفضيل جورا، فمن زعم
أنه يجوز التفضيل لسبب من الأسباب - كالبر ونحوه -؛ فعليه الدليل، ولا
ينفعه المجيء بما هو أعم من هذا الحديث المقتضي للأمر بالتسوية.
والمقام محتمل للتطويل والبسط، وقد جمع الماتن - رحمه الله - فيه رسالة
مستقلة، وذكر في " شرح المنتقى " ما أجاب به القائلون بعدم وجوب التسوية،
وهي وجوه عشرة، وأجاب عن كل واحد منها.
وأوضحت المقام أيضا في كتابي: " دليل الطالب على أرجح المطالب "، فليراجع.
قال ابن القيم - في حديث نعمان بن بشير المتقدم -:
" هذا الحديث هو من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه، وقامت به
السماوات والأرض، وأثبتت عليه الشريعة، فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس
على وجه الأرض، وهو محكم الدلالة غاية الإحكام، فرد بالمتشابه من قوله: "
كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين "، فكونه أحق به
(2/528)
يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء، وبقياس
متشابه على إعطاء الأجانب.
ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم، والقياس لا يقاوم هذا
المحكم المبين غاية البيان ". انتهى.
وفي " شرح السنة ": " ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن تفضيل بعض الأولاد على
بعض في النحل مكروه، ولو فعل نفذ.
وقد فضل أبو بكر عائشة بجداد (1) عشرين وسقا؛ نحلها إياه دون سائر أولاده.
وفي الحديث دليل على أن الوالد إذا وهب لولده شيئا؛ جاز له الرجوع فيه،
وكذلك الأمهات والأجداد.
وأما غير الوالدين؛ فلا رجوع لهم فيما وهبوا وسلموا؛ لقول النبي - صلى الله
عليه وسلم: " العائد في هبته كالعائد في قيئه ".
وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا رجوع له فيما وهب لولده ".
( [متى يحرم قبول الهدايا ومتى يكره ردها؟]
:)
(والرد لغير مانع شرعي مكروه) ؛ لما قدمنا في أول البحث من الأدلة، فإن كان
ثم مانع شرعي من قبول الهدية؛ لم يحل قبولها، وذلك كالهدايا
__________
(1) • بالفتح والكسر: صرام النخل؛ وهو قطع ثمرتها: " نهاية ". (ن)
(2/529)
لأهل الولايات؛ توصلا إلى أن يميلوا مع
المهدي؛ فإن ذلك رشوة، وستأتي الأدلة الدالة على تحريمها.
وقد ورد في هدايا الأمراء ما يفيد أنها لا تحل، وسيأتي الكلام على طرق حديث
هدايا الأمراء في (كتاب القضاء) .
والعلة أنها تؤول إلى الرشوة: إما في الحكم؛ أو في شيء مما يجب قيام
الأمراء به.
ومن ذلك: الهدية إلى من يعلم المهدي القرآن، وقد تقدم الدليل على ذلك في
الإجارات.
وهكذا حلوان الكاهن، ومهر البغي، ونحوهما.
ومن ذلك: الهدية لمن يقضي للمهدي حاجة؛ لحديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم، قال: " من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقبلها؛ فقد
أتى بابا عظيما من أبواب الربا ".
أخرجه أبو داود (1) من طريق القاسم بن عبد الرحمن الأموي - مولاهم -
الشامي؛ وفيه مقال.
وبالجملة: فكل مانع شرعي - قام الدليل على ما نعيته من قبول الهدايا -؛ له
حكم ما ذكرناه.
__________
(1) • في " السنن " (2 / 109) ، وكذا أحمد (5 / 261) ؛ ورجال الأول كلهم
ثقات، رجال مسلم غير القاسم، وهو حسن الحديث. (ن)
(2/530)
(16 - باب
الهبات)
( [متى تكون الهبة بحكم الهدية؟] :)
(إن كانت بغير عوض؛ فلها حكم الهدية في جميع ما سلف) ؛ لكون الهدية هبة لغة
وشرعا، والفرق بينهما إنما هو اصطلاح جديد.
فإذا كانت الهبة بغير عوض؛ كانت المكافأة عليها مشروعة، وتجوز للكافر ومنه،
ولا يحل الرجوع فيها.
وتجب التسوية بين الأولاد، ويكره الرد بغير مانع شرعي.
( [متى تكون الهبة بيعا] :)
(وإن كانت بعوض؛ فهي بيع، ولها حكمه) ؛ لأن المعتبر في التبايع إنما هو
التراضي والتعاوض، وهما حاصلان في الهبة بعوض؛ إذا كان ذلك واقعا عند
التواهب، وأما إذا كان في الموهوب له مكافأة - غير مرادة للواهب عند الهبة
- فهي كالهدية.
وبالجملة؛ فتنطبق - على الهبة بغير عوض - الأدلة المتقدمة في الهدية،
وتنطبق - على الهبة بعوض - الأدلة المتقدمة في البيع، وقد تقدمت؛ فلا حاجة
إلى إيرادها ههنا.
(2/531)
( [ما هي
العمرى؟] :)
(والعمرى) : بضم العين المهملة، وسكون الميم مع القصر - عند الأكثر -؛ وهي
مأخوذة من العمر، وهو الحياة؛ سميت بذلك؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يعطي
الرجل الرجل الدار، ويقول له: أعمرتك إياها؛ أي: أبحتها لك مدة عمرك
وحياتك، فقيل لها: عمرى؛ لذلك.
( [ما هي الرقبى؟] :)
(والرقبى) : بوزن العمرى: مأخوذة من المراقبة؛ لأن كل واحد منهما يرقب
الآخر؛ متى يموت لترجع إليه؟ وكذا ورثته يقومون مقامه، هذا أصلهما لغة.
( [بيان أن العمرى والرقبى يوجبان الملك للمعمَر والمرقب ولعقبه أبدا] :)
(توجبان الملك للمعمر والمرقب ولعقبه من بعده؛ لا رجوع فيهما) ؛ لحديث أبي
هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العمرى
ميراث لأهلها - أو قال: جائزة - ".
وفيهما من حديث جابر، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن
وهبت له.
وفي لفظ لمسلم: " فمن أُعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا وميتا ولعقبه ".
(2/532)
وفي لفظ لأحمد (1) ، ومسلم (2) ، وأبي
داود: إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن يقول: هي
لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت؛ فإنها ترجع إلى صاحبها.
ولكن قد قيل: إن ذلك من كلام أبي سلمة مدرج (3) في حديث جابر؛ فلا تقوم
بهذه الرواية الحجة، ولا تصلح لتقييد الأحاديث المطلقة؛ كالحديثين
المتقدمين.
وحديث زيد بن ثابت - عند أحمد (4) ، وأبي داود، وابن ماجه، وابن
__________
(1) • (3 / 136) . (ن)
(2) • (5 / 68) . (ن)
(3) • فيه نظر، ولا أعلم أحدا سبقه إلى هذا، وغالب الظن أنه اختلط عليه
الأمر بحديث آخر فيه زيادة في آخره، مال الحافظ إلى أنها مدرجة!
ونص هذا الحديث عن جابر أيضا: " أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه، فقال:
قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد؛ فإنها لمن أعطيها، وإنها لا ترجع إلى
صاحبها؛ من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث "؛ أخرجه مسلم (5 / 67 -
68) ، وأحمد (3 / 399) ؛ من طريق ابن جريج: أخبرني ابن شهاب، عن أبي سلمة
بن عبد الرحمن، عن جابر؛ مرفوعا.
وهكذا أخرجه مالك في " الموطإ " (2 / 225) - ومن طريقه مسلم -، عن ابن شهاب
... به.
ثم أخرجه مسلم؛ من طريق الليث، عن ابن شهاب ... به، دون قوله في آخره: " من
أجل ... "؛ وبين في رواية أخرى؛ من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهري أن هذه
الزيادة من قول أبي سلمة؛ قال الحافظ في " الفتح " (5 / 182) : " وقد
أوضحته في كتاب " المدرج " ... ".
فتبين أن المدرج في حديث جابر؛ إنما هو التعليل، وأما أصل الحديث بجميع
رواياته؛ فصحيح لا علة فيها.
وهي جميعها تتفق مع الرواية التي ذكرها الشارح؛ وإنما الفرق؛ أن تلك تدل -
بطريق المفهوم - على ما دلت عليه في رواية الشارح - بطريق المنطوق -؛ فتأمل
(ن)
(4) • في " المسند " (5 / 189) ، والبيهقي (6 / 175) ؛ بسند صحيح. (ن)
(2/533)
حبان - قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " من أعمر عمرى؛ فهي لمعمره حياته ومماته، لا ترقبوا؛ من أرقب شيئا
فهو سبيل الميراث ".
وأخرج أحمد، والنسائي (1) من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " لا تعمروا ولا ترقبوا؛ فمن أعمر شيئا أو أرقبه؛ فهو له حياته
ومماته "؛ ورجال إسناده ثقات.
وورد في محل النزاع ما أخرجه النسائي (2) من حديث جابر بلفظ: أن النبي صلى
الله عليه وسلم قضى بالعمرى - أن يهب الرجل - الرجل ولعقبه - الهبة،
ويستثني إن حدث بك حدث ولعقبك؛ فهي إلي وإلى عقبي -؛ أنها لمن أعطاها
ولعقبه.
وهكذا ما أخرجه أحمد من حديث جابر: أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من
نخيل حياتها، فماتت، فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء، قال: فأبى،
فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقسمها بينهم ميراثا؛ ورجاله رجال
الصحيح (3) .
وقد أخرجه - أيضا - أبو داود.
__________
(1) • (3 / 294) . (ن)
قلت: وصححه شيخنا في " الإرواء " (1609) .
(2) • في " السنن " (2 / 137) ، والبيهقي (6 / 172) ؛ بسند صحيح. (ن)
(3) • قلت: وهو صحيح، وقد ساق إسناده في " نصب الراية " (4 / 128) .
وهو عند أبي داود (2 / 11) من طريق أخرى عن جابر؛ ورجاله ثقات؛ إلا أن حبيب
بن أبي ثابت مدلس، وقد عنعنه؛ ومن طريقه أخرجه البيهقي (6 / 174) . (ن)
(2/534)
فهذا وما قبله؛ يفيد أنها تكون للوارث وإن
لم يذكر؛ بل ذكر الموروث؛ بل وإن استثنى وقال: إن حدث بك حدث فهي إلي؛ فإن
ذلك لا يفيد، بل يكون للمعمر والمرقب ولورثته من بعده.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من الشافعية.
وذهب الجمهور إلى أنه إذا قال: هي لك ما عشت؛ فإذا مت رجعت إلي؛ فهي عاريّة
مؤقتة، ترجع إلى المعمر عند موت المعمر، وتمسكوا برواية جابر المتقدمة.
وقد قدمنا ما قيل فيها من الإدراج (1) .
ثم اعلم أن الهبة تصح بمجرد الإيجاب، ولا تفتقر إلى قبول، ولكنها تبطل
بالرد، ومن زعم أنها لا تتم إلا بالقبول احتاج إلى الدليل.
ولا حجة لمن اشترط القبض في الهبة (2) ، ومن كان له صبر على الفاقة وقلة
ذات اليد، فلا بأس بالتصدق بأكثر ماله أو بكله، ومن كان يتكفف الناس إذا
احتاج؛ لم يحل له أن يتصدق بجميع ماله ولا بأكثره، وهذا هو وجه الجمع بين
الأحاديث الدالة على أن مجاوزة الثلث غير مشروعة، وبين
__________
(1) • قلت: قد بينت آنفا أن لا إدراج؛ فلم يتم الجواب.
والصواب أن يقال: إن رواية جابر ليست مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
وإنما هي من قوله، وقد عارضه حديثه الآخر عند أحمد وغيره، وهو المرفوع إليه
صلى الله عليه وسلم؛ فهو مقدم على الموقوف؛ كما لا يخفى! (ن)
(2) • وأما حديث: " لا تجوز الهبة إلا مقبوضة "؛ فلا أصل له؛ كما أشار لذلك
في " نصب الراية " (4 / 121) . (ن)
(2/535)
الأدلة التي دلت على مشروعية التصدق بزيادة
على الثلث.
وأما رجوع الوالد في هبة الولد؛ فيستدل على ذلك بما أخرجه أهل السنن، وصححه
الترمذي من حديث ابن عمر، وابن عباس قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها؛ إلا الوالد فيما يعطي ولده ".
وظاهر الحديث تحريم الرجوع في الهبة مطلقا؛ إلا ما تقدم تخصيصه؛ إلا أن يصح
ما أخرجه الحاكم (1) من حديث الحسن، عن سمرة - مرفوعا - بلفظ: " إذا كانت
الهبة لذي رحم محرم، لم يرجع "؛ ورواه الدارقطني (2) من حديث ابن عباس؛ قال
ابن الجوزي: وهما ضعيفان، وقال الحافظ: في إسناد الثاني ضعف.
فإذا انتهضا للاحتجاج؛ كانا مخصصين لذي الرحم من العموم، وكذلك إذا صح حديث
أبي هريرة الذي رواه ابن حزم (3) مرفوعا بلفظ: " الواهب أحق
__________
(1) • ضعفه البيهقي (6 / 181) ، وراجع " إعلام الموقعين " (2 / 399) . (ن)
(2) • قلت: إنما روى الدارقطني (ص 307) عن ابن عباس حديثا آخر؛ لفظه: " من
وهب هبة فارتجع بها؛ فهو أحق بها ما لم يثب عليها، ولكنه كالكلب يعود في
قيئه ".
وفي سنده كذاب ومتروك. (ن)
(3) • في " المحلى " (10 / 130) ؛ من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن
عمرو بن دينار، عن أبي هريرة؛ مرفوعا.
ثم ضعفه ابن حزم بالانقطاع بين عمرو وأبي هريرة، وضعف إبراهيم هذا.
وبالجملة؛ فالحديث ضعيف من جميع طرقه، فلا يصلح للتخصيص. (ن)
(2/536)
بهبته ما لم يثب فيها (4) ".
وأخرج الطبراني في " الكبير " عن ابن عباس مرفوعا: " من وهب هبة؛ فهو أحق
بها حتى يثاب عليها " (5) ، وقد ضعف حديث أبي هريرة: ابن الجوزي، وصححه
الحاكم (6) من قول عمر.
فإن صح الحديثان أو أحدهما؛ كانا مخصصين للهبة التي لم يثب عليها، فيجوز
الرجوع فيها.
وأما حديث " الصحيحين " بلفظ: " العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه ".
وزاد البخاري: " ليس لنا مثل السوء "، وثبت بلفظ: " لا يحل " كما في حديث
ابن عمر، وابن عباس، والرواية التي فيها: " كالكلب يعود في قيئه "؛ ليست
إلا المبالغة في الزجر.
وليس المراد بالحديث إلا تمثيل فعل الراجع في الهبة بالكلب العائد في قيئه،
وهذه صورة في غاية الشناعة والفظاعة.
وليس المراد بيان ما يجوز للكلب من الرجوع في قيئه، وليس في الشرع
__________
(4) • أعله الدارقطني والبيهقي بالوقف. (ن)
(5) • فيه ابن أبي ليلى؛ وهو ضعيف لسوء حفظه. (ن)
(6) • الذي صححه من قول عمر؛ إنما هو البيهقي والدارقطني.
والحاكم صححه مرفوعا عن ابن عمر.
وتعقب بأن الصواب وقفه على عمر. (ن)
(2/537)
ما يدل على ألفاظ مخصوصة، ولا على مجلس،
ولا على قبض.
ومن زعم أن في الشريعة ما يدل على شيء من ذلك؛ فهو مطالب بالدليل، والفرق
بين الحقوق والأملاك - وجعل كل واحد منهما مختصا بشيء مما تحت يد الثابت
عليه -؛ إنما هو مجرد اصطلاح من بعض أهل الفروع.
وإذا عرفت ذلك هان عليك الخطب، ولم تحتج إلى الاشتغال بما في ذلك من
التفاريع والتفاصيل.
(2/538)
|