الدرر
البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية (الكتاب الحادي عشر: كتاب الأيمان)
(2/539)
(11 - كتاب
الأيمان)
( [ما تنعقد به اليمين] :)
(الحلف إنما يكون باسم) من أسماء (الله تعالى) ؛ وهو ظاهر، (أو صفة له) من
صفات ذاته؛ لحلفه - صلى الله عليه وسلم - ب " مقلب القلوب "؛ كما في حديث
ابن عمر في " صحيح البخاري "، وغيره، وقال: كان أكثر ما كان النبي صلى الله
عليه وسلم يحلف: " لا ومقلب القلوب ".
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زيد
بن حارثة: " وأيم الله؛ إن كان لخليقا للإمارة ".
وهكذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحلف بقوله: " والذي نفسي بيده "، وهو
في " الصحيح "
وحكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبرئيل - عليه السلام -، أنه قال: "
وعزتك؛ لا يسمع بها أحد إلا دخلها "؛ يعني: الجنة، وهو في " الصحيح " أيضا.
والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
( [الحلف بغير الله وصفاته: حرام] :)
(ويحرم بغير ذلك) ؛ أي: بغير اسم الله - تعالى - وصفاته؛ فإن أهل
(2/541)
الجاهلية كانوا يعتقدون في أناس أن أسماءهم
مباركة معظمة، وكانوا يعتقدون أن الحلف بأسمائهم على الكذب يستوجب حرما في
ماله وأهله، فلا يقدمون على ذلك.
ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء الشركاء بزعمهم، فنهوا عن ذلك؛ كما في
حديث ابن عمر - عند مسلم، وغيره -: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر
وهو يحلف بأبيه، فقال: " إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا؛
فليحلف بالله أو ليصمت ".
وفي لفظ: " ومن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ".
وفي حديث أبي هريرة - عند أبي داود (1) والنسائي، وابن حبان، والبيهقي -،
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحلفوا إلا بالله، ولا
تحلفوا إلا وأنتم صادقون ".
وأخرج أبو داود (2) ، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه -، عن النبي صلى
الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد كفر "، وفي لفظ: " فقد أشرك ".
__________
(1) • عزاه إليه غير واحد، وقيده الحافظ (11 / 448) ، فقال: " في رواية ابن
داسة "؛ وسكت الحافظ على إسناده.
وقد أخرجه النسائي (2 / 139) ، والبيهقي (10 / 29) بإسناد صحيح على شرطهما.
(ن)
(2) • لينظر؛ فإني لم أجده عنده.
وهو عند الترمذي (2 / 371) ، والحاكم (4 / 297) ، والبيهقي - أيضا - (10 /
29) ، وأحمد (رقم 4904، 5222، 5256، 5346، 5375) ؛ من طريق سعد بن عبيدة،
عن ابن عمر؛ مرفوعا؛ وقال الترمذي: " حديث حسن "، والحاكم: " صحيح على شرط
الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
وأعله البيهقي بأن ابن عبيدة لم يسمعه من ابن عمر؛ بينهما رجل كندي، ثم ساق
سنده بذلك، وهو إعلال صحيح؛ لكنه لا يسقط به الحديث؛ لثبوت سماع ابن عبيدة
إياه عن ابن عمر في حادثة أخرى غير قصة الكندي؛ كما أخرجه أحمد بالرقمين
(5222، 5256) ؛ وسنده صحيح متصل. (ن)
(2/542)
وهو عند أحمد من هذا الوجه.
وفي لفظ للترمذي، والحاكم: " فقد كفر وأشرك ".
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ":
" وقد فسره بعض المحدثين على معنى التغليظ والتهديد، ولا أقول بذلك، وإنما
المراد عندي اليمين المنعقدة، واليمين الغموس باسم غير الله - تعالى - على
اعتقاد ما ذكرنا ".
وقال في " المسوى ":
" قال الشافعي: من حلف بغير الله؛ فهو يمين مكروهة، وأخشى أن يكون معصية.
فإن قيل: أليس قد أقسم الله ببعض مخلوقاته فقال: {والسماء ذات البروج} ،
{والشمس وضحاها} ؟ {أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث
الأعرابي؟} : " أفلح - وأبيه - إن صدق "؟ !
فالجواب يكون بوجهين:
أحدهما: أن فيه إضمارا معناه: ورب السماء، ورب الشمس، ورب أبيه، ونحو ذلك
حيثما وقع.
وثانيهما - وهو الأصح -: أن النهي إنما وقع عما كان على قصد التعظيم
للمحلوف باسمه، كالحلف بالله يقصد بذكره التعظيم؛ دون ما كانت العرب
تستعمله؛ تؤكد به كلامها؛ من غير ذلك التعظيم.
(2/543)
أقول: الحلف باسم غير الله - تعالى - على
اعتقاد تعظيمه - بحيث يكون الحنث مع ذكر اسمه موجبا عنده للعقوبة في الدنيا
والآخرة -: شرك.
وبغير هذا التعظيم: مكروه لأجل المشابهة؛ مثل ما ذكروا من التفصيل في النهي
عن القول ب (مطرنا بنوء كذا وكذا) ". انتهى.
وفي حديث " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " من حلف باللات والعزى؛ فليقل: لا
إله إلا الله "، ولا ريب أن الإنسان إنما يحلف بما هو عظيم عنده، ولهذا أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالف أن يحلف بالله أو يصمت.
فمن حلف باللات والعزى؛ كان معظما لهما، ومن عظمهما كفر، ومن كفر لم يرجع
إلى الإسلام إلا بكلمة الإسلام؛ وهي: لا إله إلا الله.
( [لا حنث على من حلف واستثنى] :)
(ومن حلف فقال: إن شاء الله؛ فقد استثنى، ولا حنث عليه) ؛ لحديث أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف فقال: إن شاء الله؛ لم
يحنث "؛ أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، وابن حبان.
ولفظ ابن ماجه: " فله ثنياه ".
ولفظ النسائي: " فقد استثنى ".
وأخرجه الحاكم (1) ، وقد صححه ابن حبان.
__________
(1) • في " المستدرك " (4 / 303) ؛ بلفظ ابن ماجه؛ وقال: " صحيح الإسناد "،
ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا.
وهو عنده من حديث ابن عمر، لا من حديث أبي هريرة؛ كما يوهم صنيع المصنف!
وكذلك رواه النسائي (2 / 141، 145) عن ابن عمر، ولم أره عنده من حديث أبي
هريرة. (ن)
(2/544)
وأخرج أبو داود، عن عكرمة: أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " والله لأغزون قريشا "، ثم قال: " إن شاء الله "، ثم
قال: " والله لأغزون قريشا "، ثم قال: " إن شاء الله "، ثم قال: والله
لأغزون قريشا "، ثم سكت، ثم قال: " إن شاء الله "، ثم لم يغزهم.
قال أبو داود: إنه قد أسنده غير واحد عن ابن عباس (1) ، وقد رواه البيهقي
موصولا ومرسلا.
ويؤيد أحاديث الباب ما في " الصحيحين ": " أن سليمان بن داود قال: لأطوفن
الليلة على سبعين امرأة " ... الحديث؛ وفيه: فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: " لو قال: إن شاء الله؛ لم يحنث ".
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وادعى ابن العربي الإجماع على ذلك، فقال: " أجمع المسلمون على أن قوله: إن
شاء الله؛ يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا ".
وفي " الموطإ " عن ابن عمر: من قال: والله، ثم قال: إن شاء الله، ثم لم
يفعل الذي حلف عليه؛ لم يحنث.
قال مالك: أحسن ما سمعت في الثنيا: أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه، وما كان
من ذلك نسقا يتبع بعضه بعضا قبل أن يسكت؛ فإذا سكت وقطع كلامه؛ فلا ثنيا
له.
__________
(1) • هذا اختصار مخل لكلام أبي داود؛ يوهم خلاف قصده؛ فإنه قال (2 / 78) :
" وقد أسند هذا الحديث غير واحد عن شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس
".
قلت: والمسند والمرسل؛ مداره على شريك - وهو القاضي -؛ وهو سيئ الحفظ.
ومن طريقه أخرجه البيهقي (10 / 47) ؛ وأشار لتضعيفه. (ن)
(2/545)
قلت: وعلى هذا أهل العلم؛ أن الاستثناء إذا
كان موصولا باليمين؛ فلا حنث عليه.
أقول: ثم اعلم أن اعتبار الأعراف في الأيمان لا بد منه؛ فإن الحالف عند
حلفه من شيء - أو على شيء - لا يخطر بباله غير العرف الذي غلب عليه في
محاوراته، فلو فرض أن عرفه فيما حلف عليه مخالف لاسمه اللغوي أو الشرعي؛
كان العرف مقدما:
أما إذا كان ممن لا يعرف الشرع أو اللغة فظاهر، وأما إذا كان ممن يعرفها
فكذلك أيضا؛ لأن خطور المعنى العرفي أسبق من خطور غيره بالبال؛ إلا أن
يقول: أردت ذلك؛ فإنه يقبل منه؛ إن كان لا يتعلق بالمعنى العرفي حق للغير.
( [يكفر عن يمينه من حلف على شيء فرأى غيره
خيرا منه] :)
(ومن حلف على شيء؛ فرأى غيره خيرا منه؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن
يمينه) ؛ لما ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عبد الرحمن ابن سمرة،
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا حلفت على يمين؛ فرأيت
غيرها خيرا منها؛ فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك ".
وفي لفظ: " فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير ".
وفي لفظ للنسائي، وأبي داود (1) : " فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير ".
__________
(1) • في " سننه " (2 / 141) ، وكذا أحمد (5 / 63) ؛ من طريق جرير بن حازم،
قال: سمعت الحسن، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سمرة ... به.
وأخرجه أبو داود (2 / 77) ، ومن طريق البيهقي (10 / 73) ؛ عن قتادة، عن
الحسن ... به،
(2/546)
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عدي بن حاتم،
ومن حديث أبي هريرة نحوه.
وفي " الصحيحين " من حديث أبي موسى: " لا أحلف على يمين؛ فأرى غيرها خيرا
منها؛ إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني ".
وفي الباب أحاديث.
قلت: قال الله - تعالى -: {واحفظوا أيمانكم} ، واختلفوا في وجه الجمع بينه
وبين حديث أبي هريرة:
فقال أبو حنيفة: قوله - تعالى - مخصوص بما إذا كان المحلوف عليه معصية؛ إذ
من المعلوم أن الله - تعالى - لا يأمر بمعصية؛ فمن حلف على معصية - كترك
الكلام مع أبيه -؛ حنث وكفّر.
__________
وهذا سند صحيح.
وقد أخرجه أبو عوانة في " صحيحه "، كأبي داود - كما في " الفتح " (11 /
515) -.
وله شاهد من حديث عائشة مرفوعا؛ أخرجه الحاكم (4 / 301) ، وقال: " صحيح على
شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط البخاري وحده؛ لأن أبا
الأشعث - واسمه أحمد بن المقدام -، وشيخه محمد بن عبد الرحمن الطفاوي؛ لم
يخرج لهما مسلم شيئا.
وله شاهد آخر عن أم سلمة، أخرجه الطبراني في " الكبير "، ورجاله ثقات؛ إلا
أن عبد الله بن حسن لم يسمع من أم سلمة، كما في " المجمع " (4 / 185) .
وهذه الطرق تدفع احتمال خطأ هذه الرواية.
وقد قال الحافظ في " بلوغ المرام ": " إن إسناد أبي داود والنسائي صحيح ".
وفيها رد على أبي حنيفة ومن تابعه؛ فإنهم قالوا: لا تجزئ الكفارة قبل
الحنث، والحديث يدل على استحباب تقديمها؛ إن لم يدل على الوجوب.
وقد ذهب إلى خلاف قول أبي حنيفة؛ الجمهور؛ ومعهم قول أربعة عشر صحابيا، كما
في " الفتح " (11 / 514) ، وانظر " نيل الأوطار " (8 / 199) . (ن)
(2/547)
وقال الشافعي: مخصوص بما إذا حلف على
معصية، أو حلف على ترك مندوب، أو فعل مكروه؛ لقوله - تعالى -: {ولا تجعلوا
الله عرضة لأيمانكم أن تبروا} ؛ أي: مانعا لكم عن البر.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير "؛
فقال أبو حنيفة:
لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث، فمعناه: فليقصد أداء الكفارة كقوله:
{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} .
وقال الشافعي: يجوز تقديمها على الحنث [إن لم] (1) يكفر بالصوم (2) ، وعلى
قياس هذا؛ كل حق مالي تعلق بشيئين يجوز تقديمه على الشيئين؛ كالزكاة إذا تم
النصاب ولم يتم الحول ".
( [لا يأثم بالحنث من أكره على اليمين]
:)
(ومن أُكره على اليمين؛ فهي غير لازمة، ولا يأثم بالحنث فيها) ؛ لكون فعل
المكره كلا فعل، وقد رفع الله - تعالى - الخطاب به في التكلم بكلمة الكفر،
فقال - تعالى -: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ، ولحديث: " رُفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (3) .
__________
(1) • زيادة لا بد منها. (ن)
(2) • قلت: هذا قياس على استسلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من العباس زكاة
سنتين.
واستثناء الصوم فيه؛ لأنه عبادة محضة، وكان يكون هذا الاستثناء صحيحا؛ لو
لم يصح الحديث بلفظ: " ثم ".
أما وقد صح؛ فهو بعمومه يشمل الصوم أيضا؛ فلا يصح هذا الاستثناء. (ن)
(3) منكر بهذا اللفظ؛ وإنما يصح بلفظ: " إن الله تجاوز لأمتي ... "؛ وانظر
" إرواء الغليل " (82) .
(2/548)
وهو حديث فيه مقال طويل (1) .
وتكليف الحالف بيمينه التي أكره عليها؛ من تكليف ما لا يطاق، وهو باطل
بالأدلة العقلية والنقلية.
( [من علم كذب يمينه فهي غموس] :)
(واليمين الغموس هي التي يعلم الحالف كذبها) ؛ لحديث ابن عمر، قال: جاء
أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! ما الكبائر؟
فذكر الحديث، وفيه: " اليمين الغموس "، وفيه: قلت: وما اليمين الغموس؟ قال:
" التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب "؛ أخرجه البخاري.
قال مالك: " وعقد اليمين: أن يحلف الرجل أن لا يبيع ثوبه بعشرة دنانير، ثم
يبيعه بذلك، أو يحلف ليضربن غلامه، ثم لا يضربه، ونحو هذا؛ فهذا الذي يكفر
صاحبه عن يمينه، وليس في اللغو كفارة.
وأما الذي يحلف على الشيء - وهو يعلم أنه آثم -، ويحلف على الكذب - وهو
يعلم -؛ ليرضي به أحدا، أو ليعتذر به إلى معتذر له، أو ليقطع به مالا؛ فهذا
أعظم من أن يكون فيه كفارة ".
قلت: الغموس هي الحلف على ما يعلم بطلانه؛ لا على ما يظن صدقه؛ فإنه خارج
عن الأقسام الثلاثة، والحلف على الظن لا يجوز؛ لأن الله - سبحانه - قد نهى
عن اتباع الظن - والعمل به - نهيا عاما مخصصا بأمور؛ ليس الحلف منها.
__________
(1) تفصيله في " تلخيص الحبير " للحافظ ابن حجر؛ المطبوع مع " المجموع "
للنووي (ج 4: ص 112) . (ش)
(2/549)
ومن زعم أنه يجوز الحلف على الظن؛ فهو
مطالب بدليل صالح لتخصيص ذلك.
ولا نسلم صدق اسم الاعتقاد على الظن؛ بل هو أخص منه، ولو سلم دخوله تحته
بالمعنى العام؛ فلا نسلم أن الاعتقاد الذي يكون مطابقته صدقا هو ذلك العام،
ولو سلمنا أنه العام؛ فلا نسلم أن كل صدق بهذا المعنى يجوز الحلف عليه؛ بل
الذي يجوز الحلف عليه؛ هو نوع من أنواع الصدق خاص، وهو ما كان معلوما؛ لا
ما كان مظنونا.
ومن زعم غير هذا فعليه الدليل.
( [معنى اللغو في اليمين، وبيان حكمه] :)
(ولا مؤاخذة باللغو) : لقوله - تعالى -: {لا يؤاخذكم الله باللغو في
أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} .
وفي " البخاري " (1) عن عائشة، أنها قالت: أنزلت هذه الآية: {لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم} في قول الرجل: لا والله، بلى والله.
وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة،
وجماعة من التابعين.
وأخرج أبو داود (2) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
هو كلام
__________
(1) • (11 / 464) . (ن)
(2) • في " سننه " (2 / 75) ، ومن طريقه البيهقي (10 / 49) ؛ وفيه حسان بن
إبراهيم، وهو ثقة، ولكنه كان يغلط في الشيء ولا يتعمد؛ كما قال ابن عدي
وغيره، وهو يرويه عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عنها.
(2/550)
الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله ".
وأخرجه أيضا البيهقي، وابن حبان.
وصحح الدارقطني الوقف؛ قال أبو داود: رواه غير واحد عن عطاء عن عائشة
موقوفا.
وذهبت الحنفية إلى أن لغو اليمين: أن يحلف على الشيء يظنه، ثم يظهر خلافه،
وبه قال جماعة.
وقيل: أن يحلف وهو غضبان.
والخلاف في ذلك طويل، وتفسير الصحابة الآية الكريمة مقدم على تفسير غيرهم.
قلت: الأيمان ثلاثة أقسام: لغو لا كفارة فيها، ومنعقدة تجب فيها الكفارة إن
حنث، وغموس اختلفوا في كفارتها.
قالت عائشة: لغو اليمين؛ قول الإنسان: لا والله.
وقال مالك: أحسن ما سمعت في هذا: أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن
أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك؛ فهو اللغو.
وذهب الشافعي في تفسير اللغو إلى قول عائشة.
__________
قال أبو داود: " روى هذا الحديث داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ ...
موقوفا على عائشة، وكذلك رواه الزهري، وعبد الملك بن أبي سليمان، ومالك بن
مغول - كلهم -؛ عن عطاء، عن عائشة ... موقوفا ".
قلت: وداود - هذا - ثقة فيه ضعف مثل حسان؛ لكن يرجح روايته - الموقوفة -
هذه المتابعات لإبراهيم الصائغ موقوفا. (ن)
(2/551)
وأبو حنيفة إلى ما حسنه مالك.
أقول: الأولى أن يقال: إن اللغو لما وقعت في كتاب الله عز وجل مقابلة
للمعقودة - وقد تقرر أن تعقيد اليمين قصدها، والمراد عقد القلب بها؛ كما
صرح به صاحب " الكشاف " -؛ فاللغو: هي ما لم يقصد؛ كقول الرجل: لا والله،
وبلى والله؛ في محاوراته من غير قصد لليمين؛ سواء كان في حال اليمين أم لا.
فلو لم يرد في اللغو إلا وقوعها في القرآن مقابلة للمعقودة؛ لكان القول
بأنها ما ذكرناه متعينا، فكيف وقد فسرت عائشة اللغو المذكورة في القرآن بما
قلنا؟ !
( [من حق المسلم على المسلم إبرار قسمه]
:)
(ومن حق المسلم على المسلم إبرار قسمه) : لما ثبت في " الصحيحين " من أمره
صلى الله عليه وسلم بذلك؛ كما في حديث البراء (1) ، وغيره.
وأخرج أحمد من حديث أبي الزاهرية، عن عائشة: أن امرأة أهدت إليها تمرا،
فأكلت بعضه، وبقي بعضه، فقالت: أقسمت عليك؛ إلا أكلت بقيته، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " أبريها؛ فإن الإثم على المحنث "؛ ورجاله رجال الصحيح
(2) .
( [بيان كفارة اليمين في كتاب الله] :)
(وكفارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز) ؛ وهو قوله - تعالى -:
{ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما
تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك
__________
(1) • قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبرار المقسم؛ أخرجه
البخاري (11 / 459) . (ن)
(2) قاله الهيثمي في " المجمع " (4 / 182 - 183) ؛ وإسناده حسن.
(2/552)
كفارة أيمانكم إذا حلفتم} .
قلت: ذهب ابن عمر إلى أن {أو} ههنا للتقسيم؛ لا للتخيير، وتعقبه عامة أهل
العلم بالقياس الجلي على فدية الحلق في الإحرام، فقالوا: يتخير الرجل بين:
أن يطعم عشرة من المساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة؛ فإن عجز عنها صام
ثلاثة أيام.
وأما قدر الإطعام والكسوة؛ فكان ابن عمر يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين؛
لكل مسكين مد من حنطة - مختصر (1) -.
وقال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين؛ أعطوا
مدا من حنطة بالمد الأصغر، ورأوا ذلك مجزئا عنهم.
قال مالك: " أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة: أنه إن كسا
الرجال كساهم ثوبا ثوبا، وإن كسا النساء كساهن ثوبين ثوبين، درعا وخمارا،
وذلك أدنى ما يجزئ كلا في صلاته ".
قلت: على هذا الشافعي في الإطعام، وقال في الكسوة أولا مثل ما قال مالك، ثم
رجع، وقال: " إن اختار الكسوة؛ فعليه لكل مسكين ثوب واحد من قميص، أو
سراويل، أو مقنعة، أو إزار؛ يصلح لكبير أو صغير؛ لصحة إطلاق الكسوة على كل
ذلك سواء ".
وقال أبو حنيفة: " الإعتاق والإطعام كما مر في الظهار، وأما الكسوة؛ فلكل
واحد ثوب يستر عامة بدنه؛ فلا يجوز السراويل والإزار، ونحوهما ".
__________
(1) أي: الأثر مختصر؛ وانظر " المسوى بشرح الموطأ " (2 / 409)
(2/553)
قال مالك: " فأما التوكيد؛ فهو حلف الإنسان
في الشيء الواحد، يردد فيه الأيمان يمينا بعد يمين؛ كقوله: والله لا أنقصه
من كذا وكذا؛ يحلف بذلك مرارا ثلاثا، أو أكثر من ذلك، قال: فكفارة ذلك
واحدة مثل كفارة اليمين ".
أقول: الذي في القرآن الكريم؛ إطعام عشرة مساكين، ومعناه الحقيقي أن يجعل
لهم طعاما يأكلونه مرة واحدة؛ من غير تقدير بمقدار معين، ولا على صفة
معينة؛ من اجتماعهم، أو كونه في وقت مخصوص؛ بل ما يصدق عليه مسمى إطعام
العشرة - لغة -.
ولا ريب أنه يقال لمن أطعم عشرة - ليلا أو نهارا، مجتمعين أو مفترقين -:
إنه مطعم لذلك القدر.
فما وقع الجزم به من اعتبار إطعام العشرة مرتين؛ لا وجه له.
وأما الظن من حديث كفارة الظهار (1) فغير ظاهر؛ فإنه وقع الاختلاف الطويل
العريض في مقدار العرق (2) من التمر، أو المكتل، وهل الإعانة منه صلى الله
عليه وسلم فقط؟ أو منه ومن المرأة؟
__________
(1) • يعني: حديث المجامع في رمضان، المتقدم في الكتاب؛ وفيه ذكر الكفارة؛
وهي مثل كفارة الظهار، ولذلك سماه المؤلف: " حديث كفارة الظهار ".
أو أنه اشار إلى ما في بعض طرق الحديث أنه ظاهر من امرأته في رمضان، وأنه
وطئها، فأمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة.
لكن الحافظ استظهر أنهما قصتان؛ فراجع " فتح الباري " (4 / 132) . (ن)
(2) • بفتحتين، وهو المكتل؛ كما فسر في نفس الحديث. (ن)
(2/554)
ثم هو مهجور الظاهر؛ فإنه أمر أوس بن
الصامت أن ينفقه على نفسه؛ كما ثبت في " الصحيح " (1) .
[انتهى المجلد الثاني من كتاب " التعليقات الرضية على الروضة الندية "،
ويتلوه: المجلد الثالث - منه -، وأوله: 12 - كتاب النذر]
__________
(1) • ليس في " الصحيح " تسميته الرجل؛ وإنما وقعت تسميته ب " سلمة - أو
سليمان - بن صخر " في قصة المظاهر في رمضان؛ وقد سبقت الإشارة إلى أنها قصة
أخرى، غير قصة المجامع في رمضان؛ وتلك أخرجها ابن أبي شيبة؛ كما في " الفتح
". (ن)
(2/555)
|