الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية

 (الكتاب العشرون: كتاب الصلح)

(3/175)


(20 - كتاب الصلح)
( [مشروعية الصلح] :)
(هو جائز بين المسلمين) ؛ لقوله - تعالى -: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} .
( [متى يحرم الصلح؟] :)
(إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا) ؛ لحديث عمرو بن عوف عند أبي داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم، وابن حبان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" الصلح جائز بين المسلمين؛ إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما "، وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، وهو ضعيف جدا؛ وقد صحح الحديث الترمذي! فلم يصب.
وقد اعتذر له ابن حجر، فقال: كأنه اعتبر بكثرة طرقه؛ وذلك لأنه رواه أبو داود، والحاكم من طريق كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة؛ قال الحاكم: " على شرطهما (1) ".
__________
(1) • ليس هذا في نسختنا من " المستدرك "، وقد أخرجه في موضعين منه (4 / 101) ، (2 / 49) ؛ بل سكت عليه، وقال الذهبي في أحد الموضعين: " لم يصححه، وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره "، وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ ".
قلت: فمثله حسن الحديث، لا سيما إذا كان لحديثه شواهد كهذا؛ وإن كان غالبها ضعيفا جدا؛ وانظر " الدارقطني " (300) . (ن)

(3/177)


وصححه ابن حبان، وحسنه الترمذي.
وأخرجه أيضا الحاكم من حديث أنس، ومن حديث عائشة.
[وكذلك] أخرجه الدارقطني.
( [دليل جواز الصلح عن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول] :)
(ويجوز عن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول) ؛ لحديث أم سلمة عند أحمد (1) ، وأبي داود، وابن ماجه، قالت: جاء رجلان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في مواريث بينهما قد درست؛ ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن (2) بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار؛ يأتي بها إسطاما (3) في عنقه يوم القيامة "، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما (4) ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه "، وفي إسناد هذا الحديث أسامة بن زيد بن أسلم المدني، وفيه مقال، ولكن أصل الحديث في " الصحيحين ".
__________
(1) • في " المسند " (6 / 320) ، وأبو داود (2 / 115) ؛ بسند حسن. (ن)
(2) في " النهاية ": " أراد أن بعضكم يكون أعرف بالحجة، وأفطن لها من غيره ". (ش)
(3) الإسطام والسطام - بكسر أولهما -: الحديدة التي تحرك بها النار، وتسعر؛ أي: اقطع له ما يسعر به النار على نفسه؛ قاله ابن الأثير. (ش)
(4) توخى الحق: قصده وتعمد فعله.
والمعنى: اذهبا فاقصدا الحق فيما تصنعانه من القسمة، واقترعا ليظهر سهم كل واحد منكما، وليأخذ ما تخرجه القرعة من القسمة. (ش)

(3/178)


وقد استدل به على جواز الصلح، والإبراء من المجهول.
وأخرج البخاري من حديث جابر: أن أباه قُتل يوم أحد شهيداً وعليه دَين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال: " سنغدو عليك "، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل، ودعا في ثمرها بالبركة، فجددتها (1) ، فقضيتها، وبقي لنا من ثمرها.
وفيه جواز الصلح عن معلوم بمجهول.
أقول: إسقاط الشيء فرع العلم به، فمن جهل ما يريد إسقاطه؛ فإما أن يعلمه بوجه من الوجوه، أو يجهله من جميع الوجوه، فإن علمه بوجه من الوجوه على صورة تتميز عنده بعض تميز - بحيث يغلب في ظنه أنه من الجنس الفلاني، وأن مقداره لا يجاوز كذا - فهذا يصح إسقاطه.
وإن كان مجهولا من جميع الوجوه - بحيث لا يعرف جنسه، ولا مقداره كيفا ولا كما - فهذا لا يصح إسقاطه؛ لأنه قد يكون على صفة لو علم بها لم تطب نفسه بالإسقاط.
( [دليل جواز الصلح في حد القتل] :)
(وعن الدم كالمال بأقل من الدية أو أكثر) ؛ لكون اللازم في الدم مع عدم القصاص هو المال، فهو صلح بمال عن مال يدخل تحت عموم قوله - تعالى -:
__________
(1) جده جدا - من باب قتل -: قطعه، فهو جديد؛ فعيل بمعنى مفعول.
والجداد - بفتح الجيم وكسرها -: صرام النخل؛ وهو قطع ثمرتها. (ش)

(3/179)


{أو إصلاح بين الناس} ، وتحت قوله صلى الله عليه وسلم: " الصلح جائز ".
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي وحسنه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل متعمدا دُفع إلى أولياء المقتول؛ فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة (1) وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وذلك عقل العمد، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك تشديد العقل "، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وفيه مقال (2) .
( [دليل جواز الصلح عن إنكار وسكوت] :)
(ولو عن إنكار) ؛ لعموم الأدلة، واندراج الصلح عن إنكار تحتها، ولم يأت من منعه ببرهان.
وقد ذهب إلى جوازه الجمهور، وحكى في " البحر " عن الشافعي، وابن أبي ليلى أنه لا يصح الصلح عن إنكار.
وقد ثبت في " الصحيح " عن كعب في قصة المتخاصمين في المسجد في
__________
(1) • هو من الإبل: ما دخل في السنة الرابعة إلى آخرها، والجذعة من الإبل: ما دخل في السنة الخامسة، والخلفة: الحامل من النوق: " نهاية ". (ن)
(2) • هذا خطأ فاحش؛ يدل على أن المصنف كان لا يرجع في تخريج الأحاديث إلى الأصول!
ذلك لأن هذا الحديث ليس فيه ابن جدعان - هذا - عند مخرجيه: أحمد (رقم 6717) ، والترمذي (2 / 304) وابن ماجه (2 / 137) ؛ بل هو عندهم من طرق؛ عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب ... به؛ وحسنه الترمذي فأصاب.
وقد تابعه محمد بن إسحاق، عن عمرو ... عند أحمد (رقم 7033) . (ن)

(3/180)


دين، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدَّين أن يضع شطر دينه، ويتعجل الباقي، وهو دليل على جواز الصلح مع الخصام، ووضع البعض واستيفاء البعض.
قال في " الحجة البالغة ": ومنه وضع جزء من الدين؛ كقصة ابن أبي حدرد (1) ، وهذا الحديث أحد الأصول في باب المعاملات.
أقول: الظاهر أنها تجوز المصالحة عن إنكار؛ نحو أن يدعي رجل على آخر مائة دينار، فينكره في جميعها، فيصالحه على النصف من ذلك المقدار؛ لأن مناط الصلح التراضي، والمنكر قد رضي بأنه يكون عليه بعض ما أنكره، وأي مقتض يمنع هذا؟ !
وإن كان مثل حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه "، فهذا قد سلم بعضا مما أنكره طيبة به نفسه، وإن كان غير ذلك فما هو؟
ثم حديث كعب المتقدم المشتمل على وقوع التنازع بين الرجلين؛ إن كان التنازع بينهما في المقدار؛ فهو أيضا صلح عن إنكار، وقد جوزه الشارع.
وإن كان التنازع بينهما في التعجيل والتأجيل؛ فهو أيضا صلح عن إنكار؛ لأن منكر الأجل قد صولح، على أن يتعجل البعض من دينه، ويسقط الباقي إلى مقابل دعوى صاحبه للأجل.
__________
(1) ستأتي في كتاب القضاء، في الكلام على جواز الشفاعة من القاضي للإصلاح بين الخصمين. (ش)

(3/181)