الدرر
البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية (الكتاب الثالث والعشرون: كتاب اللقطة)
(3/203)
(23 - كتاب
اللقطة)
( [ما يفعل من وجد لقطة] :)
(من وجد لقطة فليعرف عفاصها) : وهو الوعاء الذي تكون فيه من جلد، أو خرقة،
أو غير ذلك؛ من العفص: وهو الثني والعطف، وبه سمي الجلد الذي يكون على رأس
القارورة (1) .
(ووكاءها) وهو الخيط الذي يشد به الوعاء، قيل: فائدة المعرفة: أنه لو
ادعاها أحد ووصفها دفعها إليه.
وقيل: أن لا تختلط بماله اختلاطا لا يمكن معه التمييز إذا جاء مالكها.
في " شرح السنة ":
" قال الشافعي: إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن، ووقع في نفسه
أنه صادق؛ فله أن يعطيه، ولا أجبره عليه إلا ببينة؛ لأنه قد يصيب الصفة بأن
يسمع الملتقط يصفها. وفي " الهداية ": فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن
يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك في القضاء ". انتهى (2) .
__________
(1) • يعني: سمي عصافا؛ كما صرح في " النهاية ".
ولعله سقط من قلم المؤلف. (ن)
(2) • قلت: وهذا خلاف ظاهر قوله [صلى الله عليه وسلم] الآتي: " فهو أحق بها
"، وقوله: " فأعطها إياه ".
قال الخطابي: " إن صحت هذه اللفظة؛ لم يجز مخالفتها ". =
(3/205)
( [كيف تسلم
اللقطة إلى صاحبها؟] :)
(فإن جاء صاحبها دفعها إليه) ؛ لحديث عياض بن حمار، قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -:
" من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل، أو ليحفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء صاحبها؛
فلا يكتم؛ فهو أحق بها، وإن لم يجيء صاحبها، فهو مال الله يؤتيه من يشاء "،
أخرجه أحمد (1) ، وابن ماجه، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان.
وفي " الصحيحين " من حديث زيد بن خالد، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن لقطة الذهب والورق؟ فقال: " اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة،
فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر
فأدها إليه ".
وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: " ما لك ولها؟ ! دعها؛ فإن معها حذاءها
وسقاءها؛ ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها ".
وسأله عن الشاة؟ فقال: " خذها؛ فإنما هي لك، أو لأخيك (2) ، أو للذئب ".
وفي لفظ لمسلم: " فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها ووكاءها؛
__________
= قال الحافظ (5 / 59) : " قلت: قد صحت، فتعين المصير إليها "؛ يعني: من
حديث أبيّ الآتي. (ن)
(1) • في " المسند " (4 / 162، 266) ، وأبو داود (1 / 270) ، وسنده صحيح.
(ن)
(2) • قال الحافظ: (5 / 62) : " والمراد به ما هو أعم من صاحبها، أو من
ملتقط آخر ".
قلت: بل المراد صاحبها؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعا؛
بلفظ: " لك، أو لأخيك، أو للذئب؛ احبس على أخيك ضالته ".
وسنده حسن؛ أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (4 / 135) (ن) .
(3/206)
فأعطها إياه؛ وإلا فهي لك ".
وفي " مسلم "، وغيره (1) من حديث أبي بن كعب: أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: " عرفها؛ فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها؛ فأعطها
إياه؛ وإلا فاستمتع بها ".
فدل ما ذكرناه على أنه إذا جاء صاحبها دفعها إليه.
وفي " إعلام الموقعين ":
" قال: يا رسول الله! فاللقطة يجدها في سبيل العامرة؟ قال: " عرفها حولا؛
فإن وجدت باغيها فأدها إليه؛ وإلا فهي لك " قال: ما يوجد في الخراب؟ قال: "
فيه وفي الركاز الخمس ". ذكره أحمد، وأهل السنن ".
قال ابن القيم: " والإفتاء بما فيه متعين وإن خالفه من خالفه، فإنه لم
يعارضه ما يوجب تركه ". انتهى.
( [متى يجوز له صرف اللقطة؟] :)
(وإلا عرف بها حولا، وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه، ويضمن مع مجيء
صاحبها) ؛ يعني: إن جاء صاحبها بعد ذلك عرفها له، إن كان قد أتلفها،
وأرجعها بعينها إن كانت باقية؛ كما يفيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "
فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ".
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب التعريف بعد الحول.
__________
(1) ك " البخاري " (5 / 59) . (ن)
(3/207)
وقد ورد في لفظ للبخاري - من حديث أبيّ -
ما يدل على أن التعريف يجب بعد الحول، ولفظه: قال: وجدت صرة فيها مائة
دينار، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " عرفها حولا "، فعرفتها،
فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته ثانيا، فقال: " عرفها حولا "، فلم أجد، ثم
أتيته ثالثا، فقال: " احفظ وعاءها وعددها ووكاءها؛ فإن جاء صاحبها؛ وإلا
فاستمتع بها "، فاستمتعت بها، فلقيته - بعد - بمكة (1) .
وقد وقع الاختلاف بين الحفاظ في هذه الرواية:
فعن بعضهم: أن الزيادة على العام غلط؛ كما جزم بذلك ابن حزم.
قال ابن الجوزي: والذي يظهر لي أن سلمة أخطأ فيها، ثم ثبت واستمر على عام
واحد.
وجمع بعضهم بأن الزيادة على العام محمولة على مزيد الورع.
والكلام في ذلك يطول.
والمراد بقوله في الحديث: " ولتكن وديعة عندك ": أنه يجب ردها، فتجوز بذكر
الوديعة عن وجوب الرد؛ لعوضها بعد الاستنفاق بها.
قال في " المسوى ":
__________
(1) • تنبيه: قوله: فلقيته - بعد - بمكة؛ ليس من كلام أبيّ؛ بل من كلام
شعبة، والضمير يعود إلى شيخه سلمة بن كهيل، وتمامه في " الصحيحين ": فقال:
لا أدري ثلاثة أحوال، أو حولا واحدا؟ !
وفي رواية لمسلم (5 / 136) قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: " عرفها
عاما واحدا " (ن) .
(3/208)
" قوله: " عرف سنة " عليه الشافعي وأبو
حنيفة.
وخص منه الحقير؛ لحديث علي: أنه التقط دينارا في عهد النبي صلى الله
عليه وسلم ولم يعرفه (1) .
وفي " المنهاج ":
" والأصح أن الحقير لا يعرف سنة؛ بل زمنا يظن أن صاحبه يعرض عنه غالبا
".
وفي " الوقاية ": " عرفت مدة لا تطلب بعدها ".
( [المبالغة في تعريف لقطة مكة] :)
(ولقطة مكة) المكرمة زادها الله شرفا (أشد تعريفا من غيرها) ؛ لما ثبت
في " الصحيح ": " أنها لا تحل لقطة مكة إلا لمعرف ".
مع أن التعريف لا بد منه في لقطة مكة وغيرها؛ فحمل ذلك على المبالغة في
التعريف؛ لأن الحاج قد يرجع إلى بلده ولا يعود، فاحتاج الملتقط لها إلى
المبالغة في التعريف، وقد قيل غير ذلك.
__________
(1) • رواه أبو داود (1 / 271) بسند حسن؛ كما في " التلخيص الحبير " (ص
261 - طبع الهند) .
وأعله البيهقي بالاضطراب.
وفي رواية عنده: فأمره أن يعرفه؛ وفي سنده انقطاع؛ انظر " الجوهر النقي
" (6 / 187 - 188) . (ن)
(3/209)
( [هل يجوز له
أن ينتفع بالشيء الحقير من اللقطة؟] :)
(ولا بأس بأن ينتفع الملتقط بالشيء الحقير - كالعصا والسوط ونحوهما -
بعد التعريف به ثلاثا) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث جابر، قال:
رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه
يلتقطه الرجل ينتفع به.
وفي إسناده المغيرة بن زياد، وفيه مقال، وقد وثقه وكيع، وابن معين،
وابن عدي (1) .
وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة
في الطريق فقال: " لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ".
وقد أخرج أحمد، والطبراني، والبيهقي من حديث يعلى بن مرة مرفوعا:
" من التقط لقطة يسيرة؛ حبلا أو درهما أو شبه ذلك؛ فليعرفها ثلاثة
أيام، فإن كان فوق ذلك؛ فليعرفه ستة أيام ".
زاد الطبراني: " فإن جاء صاحبها؛ وإلا فليتصدق بها ".
وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى، وهو ضعيف.
__________
(1) • قلت: وشيخه فيه عند أبي داود (1 / 272) أبو الزبير، وقد عنعنه.
ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي (6 / 195) ؛ وقال: " في رفع هذا الحديث
شك، وفي إسناده ضعف ". (ن)
(3/210)
وأخرج عبد الرزاق من حديث أبي سعيد: أن
عليا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدينار وجده في السوق؟ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " عرفه ثلاثا "، ففعل، فلم يجد أحدا يعرفه،
فقال: " كله " (1) .
وأما إذا كان الشيء مأكولا؛ فلا يجب التعريف به؛ بل يجوز أكله في
الحال؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في التمرة.
( [ما يلتقط من الدواب] :)
(وتلتقط ضالة الدواب إلا الإبل) ؛ للحديث المتقدم عن زيد بن خالد،
وإلحاق سائر الدواب بالشاة؛ لكونها مثلها في معنى قوله صلى الله عليه
وسلم: " هي لك أو لأخيك أو للذئب ".
ولا يخرج من ذلك إلا الإبل؛ كما صرح به صلى الله عليه وسلم، ومما يفيد
ذلك ما أخرجه مسلم من حديث زيد بن خالد: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " لا يأوي (2) الضالة إلا ضال ما لم يعرفها "؛ فإن الضالة تصدق
على الشاة وغيرها، وقد قيد ذلك بالتعريف؛ فدل على جواز الالتقاط، وخرجت
الإبل بالحديث الآخر.
في " المنهاج ":
" والحيوان الممتنع من صغار السباع بقوة؛ أو بعدو أو طيران؛ إن وجد
بمفازة فللقاضي التقاطه، ويحرم التقاطه للتملك، وإن وجد بقرية فالأصح
جواز التقاطه للتملك، وما لا يمتنع منها - كشاة - يجوز التقاطه في
القرية والمفازة، ولا فرق عند أبي حنيفة بين أن يكون بهيمة أو غيرها.
__________
(1) • وفي سنده انقطاع؛ فانظر " الجوهر النقي " (6 / 187) ، و "
التلخيص ". (ن)
(2) • في " اللسان ": " أويت الإبل؛ بمعنى آويتها ". (ن)
(3/211)
|