الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية

 (الكتاب الحادي والثلاثون: كتاب الجهاد والسير)

(3/431)


(31 - كتاب الجهاد والسير)
( [الفصل الأول: أحكام الجهاد] )
( [فضل الجهاد والترغيب فيه] :)
(الجهاد) (1) ؛ قد ورد في فضله والترغيب فيه من الكتاب والسنة ما هو معروف، وقد أفرد ذلك بالتأليف جماعة من أهل العلم، وحررت فيه كتاب " العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة "، وهو أجمع ما جمع في ذلك في هذا القطر والعصر.
وقد أمر الله بالجهاد بالأنفس والأموال، وأوجب على عباده أن ينفروا إليه، وحرم عليهم التثاقل عنه.
وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
" لغدوة (2) أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها "، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أنس.
__________
(1) • (فائدة) : قال شيخ الإسلام في " الاختيارات " (ص 184) : " والجهاد: منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة؛ فيجب بغاية ما يمكنه، ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم ". (ن)
(2) الغدوة: المرة من الغدو، وكذلك الروحة: المرة من الرواح. (ش)

(3/433)


وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الجنة تحت ظلال السيوف "، كما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي موسى، وابن أبي أوفى.
وثبت في " صحيح البخاري "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من اغبرت قدماه في سبيل الله؛ حرمه الله على النار ".
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها "، كما في " الصحيحين " من حديث سهل بن سعد.
وأخرج أهل " السنن " (1) - وصححه الترمذي - من حديث معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من قاتل في سبيل الله فواق (2) ناقة؛ وجبت له الجنة ".
فناهيك بعمل يوجب الله لصاحبه الجنة، ويحرمه على النار، ويكون مجرد الغدو إليه أو الرواح منه خيرا من الدنيا وما فيها.
( [متى يكون الجهاد فرض عين؟ ومتى يكون فرض كفاية؟] :)
(فرض كفاية) ؛ لما أخرجه أبو داود، عن ابن عباس قال: " {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} ، و {ما كان لأهل المدينة} إلى قوله: {يعملون} :
__________
(1) • رواه أبو داود (1 / 399) ، والترمذي (3 / 15) ؛ من طريقين عن مالك بن يخامر، عن معاذ؛ فهو إسناد صحيح.
وله شاهد عن أبي هريرة؛ أخرجه الترمذي (3 / 14) ، وقال: " حديث حسن ". (ن)
(2) بفتح الفاء وضمها: وهو ما بين الحلبتين من الراحة. (ش)

(3/434)


نسختها الآية التي تليها: {وما كان المؤمنون} "، وقد حسنه ابن حجر (1) .
قال الطبري: يجوز أن يكون {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} خاصا، والمراد به من استنفره النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع، قال ابن حجر: والذي يظهر لي أنها مخصوصة وليست بمنسوخة، وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري؛ كما روى ذلك الطبري عنهما.
ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية: أنه كان صلى الله عليه وسلم يغزو تارة بنفسه، وتارة يرسل غيره ويكتفي ببعض المسلمين، وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة، والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله.
وإلى كونه فرض كفاية ذهب الجمهور.
وقال الماوردي: إنه كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم.
وقال السهيلي: كان عينا على الأنصار.
وقال ابن المسيب: إنه فرض عين.
وقال قوم: إنه كان فرض عين في زمن الصحابة.
أقول: الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة: أكثر من أن تكتب
__________
(1) • وهو كما قال الحافظ - رحمه الله -؛ وإنما لم يصححه مع أن رجاله كلهم ثقات؛ لأن أحدهم - وهو علي بن الحسين بن واقد - في حفظه ضعف.
وقد أشار الحافظ إلى هذا في ترجمته من " التقريب "؛ فقال: " صدوق يهم "، والحديث في " السنن " (2 / 392) . (ن)

(3/435)


ههنا، ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف، وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر، ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله - سبحانه - من لم ينفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله - عز وجل -: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} ، فتحمل هذه الآية على أنه قد قام بالجهاد من المسلمين من يكفي، وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد.
وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن، فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ.
وأما غزو الكفار، ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام، أو تسليم الجزية، أو القتل؛ فهو معلوم من الضرورة الدينية؛ ولأجله بعث الله - تعالى - رسله وأنزل كتبه، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله - سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤونه.
وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام، ولا لبعضها.
وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة؛ فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال؛ مع ظهور القدرة عليهم، والتمكن من حربهم، وقصدهم إلى ديارهم (1) .
وأما غزو البغاة إلى ديارهم - فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل
__________
(1) وهي شروط معتبرة قوية.

(3/436)


الإسلام؛ إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم - فذلك واجب دفعا لضررهم، وإن كان ضررهم لا يتعدى؛ فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام، والدخول فيما دخل فيه سائر المسلمين، ولا شك أن ذلك معصية عظيمة.
لكن إذا كانوا مع هذا مسلّمين للواجبات، غير ممتنعين من تأدية ما يجب تأديته عليهم؛ تركوا وشأنهم؛ مع تكرير الموعظة لهم، وإقامة الحجة عليهم.
وأما إذا امتنعوا من ذلك؛ فقد تظاهروا بالبغي، وجاهروا بالمعصية، وقد قال الله - عز وجل -: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة.
وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده الماتن لذلك.
( [لا يشترط السلطان العادل لوجوب الجهاد] :)
(مع كل بر وفاجر) ؛ لأن الأدلة الدالة على وجوب الجهاد - من الكتاب والسنة - وعلى فضيلته والترغيب فيه وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلا.
بل هذه فريضة من فرائض الدين، أوجبها الله - تعالى - على عباده المسلمين؛ من غير تقييد بزمن أو مكان أو شخص، أو عدل أو جور.
فتخصيص وجوب الجهاد بكون السلطان عادلا ليس عليه أثارة من علم، وقد يبلي الرجل الفاجر في الجهاد ما لا يبليه البار العادل، وقد ورد بهذا الشرع؛ كما هو معروف.

(3/437)


وأخرج أحمد في " المسند " - من رواية ابنه عبد الله (1) -، وأبو داود (2) ، وسعيد بن منصور من حديث أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، لا تكفره بذنب، ولا تخرجه عن الإسلام بعمل، والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ".
ولا يعتبر في الجهاد إلا أن يقصد المجاهد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا كما ثبت في حديث أبي موسى في " الصحيحين "، وغيرهما، قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال:
" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله ".
( [في جهاد التطوع: لا بد من إذن الوالدين] :)
(إذا أذن الأبوان) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو، قال: جاء رجل إلى النبي
__________
(1) الأحسن التعبير بأن يقول: وأخرج عبد الله بن أحمد في " زوائد مسند أبيه "؛ لأن أحمد لم يرو عن ابنه ما زاد؛ بل عبد الله روى عن أبيه " المسند "، وروى في أثنائه بعض أحاديث زائدة عن غير أبيه؛ وقد كثر للشارح هذا التعبير؛ وهو خطأ {. (ش)
(2) • ومن طريقه رواه أبو داود (1 / 397) ؛ فكان اللائق بالمؤلف أن يشير لذلك، ولكن أنى له هذا؛ وهو لا ينقل من الأصول؟}
ثم إن إسناده ضعيف؛ فيه يزيد بن أبي نشبة؛ وهو مجهول. (ن)

(3/438)


- صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد، فقال: " أحي والداك؟ "، قال: نعم، قال: " ففيهما فجاهد " (1) .
وفي رواية لأحمد، وأبي داود، وابن ماجه: قال: يا رسول الله {إني جئت أريد الجهاد معك، ولقد أتيت وإن والدي يبكيان؟ قال: " فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ".
وقد أخرج هذا الحديث مسلم من وجه آخر (2) .
وأخرج أبو داود (3) من حديث أبي سعيد، أن رجلا هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن، فقال: " هل لك أحد باليمن؟ "، فقال: أبواي، فقال: " أذنا لك؟ "، فقال: لا، فقال: " ارجع إليهما واستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد؛ وإلا فبرهما "، وصححه ابن حبان.
وأخرج أحمد (4) والنسائي، والبيهقي من حديث معاوية بن جاهمة السلمي: أن جاهمة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله} أردت الغزو، وجئتك أستشيرك،؟ فقال: " هل لك من أم؟ "، قال: نعم، فقال: " الزمها؛ فإن الجنة عند رجليها "، وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا.
__________
(1) • لعله سقط من قلم المؤلف أو الناسخ: " رواه البخاري ومسلم "؛ فقد أخرجاه.
ويشعر بهذا عطفه بقوله: " وفي رواية لأحمد ... ". (ن)
(2) • (8 / 3) ؛ وهو عند مسلم باللفظ الآخر. (ن)
(3) • في " سننه " (1 / 396) ؛ وسنده ضعيف، وإن صححه الحاكم (2 / 104) .
وأما حديث ابن عمرو قبله؛ فصحيح بروايتيه. (ن)
(4) • في " المسند " (3 / 429) ، والنسائي (2 / 54) ، وصححه الحاكم (2 / 104) ، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي (9 / 26) . (ن)

(3/439)


وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد، ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، قالوا: وإذا تعين الجهاد فلا إذن.
ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر (1) ، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عن أفضل الأعمال؟ قال: " الصلاة "، قال: ثم مه؟ قال: " الجهاد "، قال: فإن لي والدين، قال: " آمرك بوالديك خيرا "، فقال: والذي بعثك نبيا؛ لأجاهدن ولأتركنهما، قال: " فأنت أعلم ".
قالوا: وهو محمول على جهاد فرض العين، أي: حيث يتعين على من له أبوان أو أحدهما؛ توفيقا بين الحديثين (2) .
( [الجهاد بإخلاص يكفر الخطايا؛ إلا حقوق الآدميين] :)
(وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا؛ إلا الدين) ؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم، وغيره أن رجلا قال: يا رسول الله {أرأيت إن قتلت في سبيل الله؛ يكفر عن خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) • الصواب: " عمرو " بالواو؛ كذلك ذكره الحافظ في " الفتح " (6 / 106) برواية ابن حبان.
ومن حديثه رواه أحمد في " المسند " رقم (6602) ؛ عن ابن لهيعة: حدثني حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمن حدثه عنه، وابن لهيعة ضعيف. (ن)
(2) ولعل الأحسن في التوفيق بين الحديثين؛ أن يجعل ذلك إلى رأي الإمام أو المكلف، فإن كانت المصلحة تقضي بأحدهما؛ وجب تقديمه.
وقد كان المهاجرون والأنصار يجاهدون، ولم نر في شيء من الروايات أنهم كانوا يلتزمون استئذان الوالدين في كل غزو} (ش)

(3/440)


" نعم؛ وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر؛ إلا الدين؛ فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك ".
وأخرج مثله أحمد (1) والنسائي من حديث أبي هريرة.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" يغفر الله للشهيد كل ذنب؛ إلا الدَّين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك ".
وأخرج الترمذي - وحسنه - من حديث أنس نحوه.
(ولحق به) ؛ أي: بالدين كل (حقوق الآدميين) ؛ من غير فرق بين دم، أو عرض، أو مال؛ إذ لا فرق بينها.
( [بيان حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد] :)
(ولا يستعان فيه) ؛ أي: في الجهاد (بالمشركين؛ إلا لضرورة) ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد الجهاد معه من المشركين:
" ارجع فلن أستعين بمشرك "، فلما أسلم استعان به، وهو في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث أبي هريرة (2) .
__________
(1) • في " المسند " (2 / 308، 330) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم، والنسائي (2 / 61) ؛ بسند آخر حسن. (ن)
(2) • هذا سبق قلم من المؤلف - رحمه الله -؛ وإنما الحديث من رواية عائشة - رضي الله عنها -؛ كذلك هو في " صحيح مسلم " (5 / 200 - 201) ، و " مشكل الآثار " (3 / 236) ، و " المسند " (6 / 67 - 68، 148 - 149) ، و " سنن البيهقي " (9 / 37) . (ن)

(3/441)


وأخرج أحمد، والشافعي، والبيهقي، والطبراني نحوه من حديث حبيب (1) بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، ورجال إسناده ثقات.
وأخرج أحمد، والنسائي، من حديث أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تستضيئوا بنار المشركين "، وفي إسناده أزهر بن راشد، وهو ضعيف، وبقية إسناده ثقات.
وقد أخرج الشافعي (2) من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود يوم خيبر.
وأخرجه أبو داود في " مراسيله " من حديث الزهري.
وأخرجه أيضا الترمذي مرسلا.
وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث ذي مخبر (3) قال:
__________
(1) • كذا، والصواب: خبيب - بالخاء المعجمة مصغرا -؛ كما في " المسند " (3 / 454) ، والبيهقي (9 / 37) .
وقال: " جده خبيب بن يساف له صحبة ".
وأبوه في حكم المجهول عندي؛ لأنه لم يوثقه إلا ابن حبان، وأورده ابن أبي حاتم (2 / 2 / 230) ؛ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. (ن)
(2) • ومن طريقه رواه البيهقي (9 / 53) ، وقال (9 / 37) : " لم أجده إلا من حديث الحسن ابن عمارة؛ وهو ضعيف ".
قلت: ويشهد له أنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود في غزوة أحد إلى أن يقاتلوا معه أبا سفيان؛ كما رواه الطحاوي (3 / 239) .
ثم تبين أن فيه جهالة: " الضعيفة " (6092) . (ن)
(3) بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الباء - ويقال: بميم مفتوحة بدل الباء -؛ وهو ابن أخي النجاشي (ش) .

(3/442)


سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ستصالحون الروم صلحا، وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم ".
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين، وذهب آخرون إلى جوازها.
وقد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين في يوم أحد، وانخزل (1) عنه عبد الله بن أبي بأصحابه.
وكذلك استعان بجماعة منهم في يوم حنين.
وقد ثبت في السير أن رجلا يقال له: قزمان، خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وهو مشرك، فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله ليأزر (2) هذا الدين بالرجل الفاجر ".
وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح وهم مشركون.
فيجمع بين الأحاديث؛ بأن الاستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة؛ لا إذا لم تكن ثم ضرورة (3) .
__________
(1) انخزل - بالزاي -؛ أي: انفرد. (ش)
(2) يقال: أزره أزرا، وآزره؛ إذا أعانه.
وقرأ ابن عامر: {فأزره فاستغلظه} ، وقرأ الباقون: {فآزره} . (ش)
(3) • انظر رأي الشافعي في " الأم " (4 / 89) ؛ ففيه تفصيل جيد. (ن)

(3/443)


( [متى تجب على الجيش طاعة الأمير؟] :)
(وتجب على الجيش طاعة أميرهم؛ إلا في معصية الله) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني ".
وعن ابن عباس في قوله - تعالى -: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ؛ قال: " نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ".
أخرجه أحمد (1) ، وأبو داود، وهو في " الصحيحين ".
وفيهما - أيضا - من حديث علي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فعصوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا، ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا! ؟ فقالوا: بلى، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
__________
(1) • في " المسند " رقم (3124) ، و " السنن " (1 / 409) بسند صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجاه وبقية أصحاب " السنن " إلا ابن ماجه.
واعلم أن الآية - وإن كان نزولها في طاعة الأمراء -؛ فهي بعمومها تشمل العلماء أيضا، وهذا اختيار ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 10، 53، 54) ، (2 / 329) ، وابن كثير (1 / 518) . (ن)

(3/444)


" لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا "، وقال:
" لا طاعة في معصية الله؛ إنما الطاعة في المعروف ".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها التصريح بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تجب طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله.
( [على الأمير مشاورة الغزاة والرفق بهم] :)
(وعليه) ؛ أي: على الأمير (مشاورتهم، والرفق بهم، وكفهم عن الحرام) ؛ لدخول ذلك تحت قوله: {وشاورهم في الأمر} ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور الغزاة معه في كل ما ينوبه، ووقع منه ذلك في غير موطن.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان ... ، والقصة مشهورة، وأجاب عليه سعد بن عبادة بقوله: " والذي نفسي بيده؛ لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ".
وأخرج أحمد، والشافعي (1) من حديث أبي هريرة، قال: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" اللهم {من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم؛ فارفق به ".
__________
(1) وهو في " مسند الشافعي " (626) منقطعا.
وليس هو في " مسند أحمد "} وغزاه السيوطي في " الدر المنثور " (2 / 359) لابن أبي حاتم، وعلقه الترمذي (4 / 214) بصيغة التمريض.
وروى أبو الشيخ - نحوه - في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " (763) ؛ عن عائشة؛ بسند ضعيف.

(3/445)


وأخرج مسلم - أيضا - من حديث معقل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجتهد لهم، ولا ينصح لهم؛ إلا لم يدخل الجنة ".
وأخرج أبو داود (1) من حديث جابر، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير، فيرجي الضعيف، ويردف ويدعو لهم ".
وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث سهل بن معاذ، عن أبيه، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضيق الناس الطريق، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى:
" من ضيق منزلا، أو قطع طريقا؛ فلا جهاد له ".
وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وسهل بن معاذ ضعيف (2) .
وقد جاءت الأدلة المفيدة للقطع بوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن
__________
(1) • في: " السنن " (1 / 411) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(2) • قلت: هذا الإطلاق ليس بصواب؛ بل الصواب التفصيل في سهل، وكذا في إسماعيل.
أما الأول؛ فقال الحافظ فيه: " لا بأس به إلا في روايات زبان عنه ".
قلت: وهذه ليست منها.
وأما إسماعيل؛ فهو ثقة في روايته عن الشاميين؛ وهذه منها. فإنه يرويه أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي؛ وهو شامي رملي ثقة، وسائر الرواة ثقات.
فالحديث حسن إن شاء الله تعالى.
وهو في " السنن " (1 / 410) ، و " المسند " (3 / 441) . (ن)

(3/446)


المنكر، وأحق الناس بذلك الأمير.
( [مشروعية التورية إذا أراد غزوا] :)
(ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده) ؛ لحديث كعب بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما.
( [مشروعية الاستطلاع إذا أراد الإمام غزوا] :)
(و) يشرع له (أن يذكي (1) العيون، ويستطلع الأخبار) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب:
" من يأتيني بخبر القوم؟ "، قال الزبير: أنا ... الحديث.
وثبت في " صحيح مسلم "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عينا ينظر عير أبي سفيان.
وثبت أنه بعث من يأتيه بمقدار جيش المشركين يوم بدر، وغيره.
وكان يأمر من يستطلع أخبار العدو، ويقف في المواضع التي بينه وبينهم.
وذلك مدون في الكتب الموضوعة في السيرة والغزوات.
( [مشروعية ترتيب الجيش واتخاذ الرايات] :)
(و) يشرع له أن (يرتب الجيوش، ويتخذ الرايات والألوية) ، وقد وقع منه
__________
(1) • أي: يرسل. (ن)

(3/447)


صلى الله عليه وسلم من ترتيب جيوشه عند ملاقاته للعدو ما هو مشهور، وكان يأمر بعضا يقف في هذا المكان، وآخرين في المكان الآخر، وقال للرماة يوم أحد: إنهم يقفون حيث عينه لهم، ولا يفارقوا ذلك المكان، ولو تخطفه هو ومن معه الطير.
وقد كانت له رايات؛ كما في حديث ابن عباس عند الترمذي (1) ، وأبي داود، قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض.
وأخرج أبو داود من حديث سماك بن حرب، عن رجل من قومه، عن آخر منهم، قال: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، وفي إسناده مجهول.
وأخرج أهل " السنن "، والحاكم، وابن حبان من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض (2) .
وفي حديث الحارث بن حسان: أنه رأى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رايات سودا، أخرجه الترمذي، وابن ماجه، ورجاله رجال الصحيح.
وفي الباب أحاديث.
( [وجوب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال] :)
(وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام، أو
__________
(1) • في " السنن " (3 / 24) ، وقال: " حديث غريب ".
قلت: وسنده حسن، ولم أجده في " أبي داود "؛ وإنما عزاه المباركفوري في " شرح الترمذي " لابن ماجه، والحاكم. (ن)
(2) • قلت: وفيه شريك القاضي؛ وهو ضعيف لسوء حفظه، وكأنه لذلك استغربه الترمذي! وذكر عن البخاري أن متن الحديث خطأ، وأن الصواب: دخل مكة وعليه عمامة سوداء. (ن)

(3/448)


الجزية، أو السيف) ؛ لحديث سليمان بن بريدة، عن أبيه عند مسلم، وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية؛ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال:
" اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين؛ فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام؛ فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك؛ فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها؛ فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء؛ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا؛ فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، وإن أبوا؛ فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ... " الحديث.
وفي الباب أحاديث.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تقديم الدعوة لمن لم تبلغهم الدعوة، ولا تجب لمن قد بلغتهم.
وذهب قوم إلى الوجوب مطلقا.
وقوم إلى عدم الوجوب مطلقا.
( [حكم قتل النساء والشيوخ والأطفال] :)
(ويحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا) ؛ أن يقاتلوا، فيدفعوا بالقتل

(3/449)


(لضرورة) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
وأخرج أبو داود من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا صغيرا، ولا امرأة "، وفي إسناده خالد بن الفرز (1) ، وفيه مقال.
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث رباح (3) بن ربيع؛ أنه قال صلى الله عليه وسلم:
" لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا "، والعسيف: الأجير.
وأخرج أحمد (4) من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع "، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وهو ضعيف، وقد وثقه أحمد.
وأخرج أحمد أيضا، والإسماعيلي في " مستخرجه " من حديث كعب بن
__________
(1) الفرز؛ بكسر الفاء وفتحها وسكون الراء وآخره زاي. (ش)
قلت وهو حسن بالشواهد؛ فانظر " الصحيحة " (701) .
(2) • في " المسند " (3 / 488) ؛ وسنده صحيح، ثم رواه (4 / 178 - 179) . (ن)
(3) اختلف في اسمه؛ هل هو (رباح) بفتح الراء والباء، أو (رياح) بكسر الراء وبالياء المثناة؟ والراجح الثاني؛ وبه جزم البخاري، وابن حبان، والدارقطني، وابن عبد البر، وغيرهم. (ش)
(4) (1 / 300) بسند ضعيف، ولكن له شواهد تحسنه.

(3/450)


مالك (1) ، عن عمه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر؛ نهى عن قتل النساء والصبيان، ورجاله رجال الصحيح (2) .
وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - من حديث سمرة مرفوعا، بلفظ: " اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم (3) ".
وقد قيل: إنه وقع الاتفاق على المنع عن قتل النساء والصبيان؛ إلا إذا كان ذلك لضرورة؛ كأن يتترس بهم المقاتلة أو يقاتلون.
وقد أخرج أبو داود في " المراسيل " عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين، فقال: " من قتل هذه؟ "، فقال رجل: أنا يا رسول الله {غنمتها وأردفتها خلفي، فلما رأت الهزيمة فينا؛ أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني، فقتلتها، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووصله الطبراني في " الكبير " (4) .
__________
(1) كذا في الأصل} وفي " نيل الأوطار ": " ابن كعب بن مالك، عن عمه "؛ وكلاهما مشكل {ولم أستطع العثور على الحديث في " مسند أحمد "، ولم أعرف من (ابن كعب) هذا؟}
فإنه إن كان المراد به أحد أبناء كعب بن مالك الأنصاري السلمي الشاعر - وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم؛ فقد نص ابن حجر في " الإصابة " على أنه ليس له أخ؛ فلا يكون - إذن - لابنه عم {
وإن كان غيره؛ فلا أدري من هو؟} والعلم عند الله!. (ش)
(2) • قلت: وكذا هو في " المجمع " (5 / 315) ، وقال: " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ".
وقد رواه البيهقي في " سننه " (9 / 77) ؛ وسنده صحيح.
وابن كعب لم يسم، وله خمسة أولاد، وكلهم ثقات من رجال الشيخين؛ غير ابنه محمد؛ فمن رجال مسلم. (ن)
(3) الشرخ: الشاب.
قال أحمد بن حنبل: " الشيخ لا يكاد يسلم، والشباب أقرب إلى الإسلام "؛ نقله ابن حجر في " التلخيص " (370) . (ش)
(4) وفي سنده الحجاج بن أرطاة؛ وهو ضعيف، وانظر " التلخيص الحبير " (4 / 12) ، و " المراسيل " (333) .

(3/451)


قلت: قال الشافعي: النهي عن قتل نسائهم وصبيانهم إنما هو في حال التمييز والتفرد، وأما البينات فيجوز، وإن كان فيه إصابة ذراريهم ونسائهم.
( [المثلة حرام] :)
(والمثلة) ؛ لما تقدم قريبا في حديث سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن جده، وفيه: " ولا تمثلوا ".
وأخرج نحو ذلك أحمد، وابن ماجه من حديث صفوان بن عسال.
وأحاديث النهي عن المثلة كثيرة.
( [حكم الحرق بالنار للمحارب والمتاع والمال] :)
(والإحراق بالنار) ؛ لحديث أبي هريرة عند البخاري، وغيره، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال:
" إن وجدتم فلانا وفلانا - لرجلين - فاحرقوهما بالنار "، ثم قال حين أردنا الخروج:
" إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما ".
وأما تحريق الشجر والأصنام والمتاع؛ فقد ثبت الإذن بذلك عن الشارع؛ إذا كان فيه مصلحة.
( [حكم الفرار من الزحف] :)
(و) يحرم (الفرار من الزحف إلا إلى فئة) ، وقد نطق بذلك القرآن

(3/452)


الكريم؛ قال الله - تعالى -: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله} .
وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما: أن الفرار من الزحف هو من السبع الموبقات.
ولا خلاف في ذلك في الجملة، وإن اختلفوا في مسوغات الفرار.
وقد جوز الله - تعالى - الفرار إلى الفئة.
وأما التحرف للقتال؛ فهو وإن كان فيه تولية الدبر؛ لكنه ليس بفرار على الحقيقة.
قال في " المسوى ":
" قوله: {متحرفا لقتال} : هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة، أو من سفل إلى علو، أو من مكان منكشف إلى مستتر، ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال.
قوله: {أو متحيزا} ؛ أي: يصير إلى حيز فئة من المسلمين؛ يستنجدهم ويقاتل معهم.
وبالجملة؛ يجب ثبات المسلمين يوم الزحف في مقابلة زحفهم من الكفار، والفرار حينئذ كبيرة.
( [حكم تبييت العدو ليلا] :)
(ويجوز تبييت الكفار) ؛ لحديث الصعب بن جثامة في " الصحيحين "،

(3/453)


وغيرهما، أن رسول - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون، فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ ثم (1) قال: " هم منهم ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث سلمة ابن الأكوع، قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق، وكان أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والبيات: هو الغارة بالليل.
قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل، وأن يبيتوا، وكرهه بعضهم، قال أحمد وإسحاق: لا بأس به؛ أن يبيت العدو ليلا.
( [الكذب في الحرب جائز] :)
(والكذب في الحرب) ؛ لما ثبت عند مسلم (3) ، وغيره من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف؛ قال: يا رسول الله! فأذن لي فأقول، قال: " قد فعلت "؛ يعني: يأذن له بأن يخدعه بمقال ولو كان كذبا؛ كما وقع منه في هذه القصة، وهي أيضا في " البخاري ".
__________
(1) • لعل حرف: " ثم " مقحم؛ فإنه لا معنى له؛ وليس هو في رواية البخاري (4 / 61) .
ومسلم (5 / 144) .
وفي رواية له: " فقال ". (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 46) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم.
وقد أخرجه في " صحيحه " (5 / 150) نحوه. (ن)
(3) • في " صحيحيه " (4 / 184 - 185) ، وفي " البخاري " (6 / 119 - 120) . (ن)

(3/454)


وأخرج مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة، قالت: لم أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص في شيء من الكذب - مما يقول الناس - إلا في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
وهذا الكذب المذكور هنا: هو التعريض والتلويح بوجه من الوجوه؛ ليخرج عن الكذب الصراح؛ كما قاله جماعة من أهل العلم (1) .
( [الخداع في الحرب جائز] :)
(والخداع) في الحرب؛ لما في " الصحيحين " من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الحرب خدعة (2) ".
وفيهما من حديث أبي هريرة، قال: سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرب خدعة.
قال النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن؛ إلا أن يكون فيه نقض عهد.
__________
(1) • كذا قال! والظاهر خلافه؛ وهو الذي رجحه النووي، فقال: " الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى "، وقال ابن العربي: " الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه "؛ ذكره في " الفتح " (6 / 121) . (ن)
(2) بفتح الخاء وإسكان الدال؛ وهي أفصح الروايات وأصحها؛ كما قال ابن الأثير. (ش)

(3/455)


( [الفصل الثاني: أحكام الغنائم] )
( [كيف تقسم الغنيمة على الجيش والمصارف الأخرى؟] :)
(وما غنمه الجيش كان لهم أربعة أخماسه، وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه) ؛ لقوله - تعالى -: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى (2) واليتامى والمساكين} .
قلت: اتفق أهل العلم على أن الغنيمة تخمس؛ فالخمس للأصناف التي ذكرت في القرآن، وأربعة أخماسها للغانمين.
وقوله - تعالى -: {فأن لله خمسه} : ذهب عامة أهل العلم إلى أن ذكر الله - تعالى - فيه للتبرك به، وإضافة هذا المال إليه لشرفه، ثم بعد ما أضاف جميع الخمس إلى نفسه بين مصارفها.
واختلفوا في سهم ذوي القربى:
قال أبو حنيفة: إنما يعطون لفقرهم.
وقال الشافعي: لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالميراث، غير أنه أعطى القريب والبعيد من ذوي القربى، ولا يفضل عنده فقير على غني، ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهما، ومن ذلك ما ورد في القرآن في الفيء والغنيمة.
__________
(2) • أي: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، عند جمهور العلماء.
وفي ذلك حديث صحيح عن جبير بن مطعم: أنه صلى الله عليه وسلم قسم يوم خيبر لبني عبد المطلب وبني هاشم؛ رواه أبو داود (2 / 31) . (ن)

(3/456)


وأخرج أبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن عبسة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، فلما سلم؛ أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: " ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا؛ إلا الخمس، والخمس مردود فيكم ".
وأخرج نحوه أحمد، والنسائي، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت، وحسنه ابن حجر.
وأخرج نحوه - أيضا - أحمد، وأبو داود، والنسائي، ومالك، والشافعي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وحسنه أيضا ابن حجر.
وروي نحو ذلك أيضا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية.
( [كيف توزع الغنيمة بين الفارس والراجل؟] :)
(ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم، والراجل سهما) ؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث.
منها حديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما، وله ألفاظ فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، وللراجل سهما.
وفيهما معنى ذلك من حديث أنس، ومن حديث عروة البارقي.
ومنها حديث الزبير بنحو ذلك عند أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
وحديث أبي رهم عند الدارقطني، وأبي يعلى، والطبراني.
وحديث أبي هريرة عند الترمذي، والنسائي.

(3/457)


وحديث جرير عند مسلم، وغيره.
وحديث عتبة بن عبد عند أبي داود.
وحديث جابر، وأسماء بنت يزيد عند أحمد.
وفي الباب أحاديث.
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفارس يأخذ له ولفرسه سهمين، والراجل سهما؛ وتمسكوا بحديث مجمع بن جارية عند أحمد، وأبي داود (1) ، وقال: قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة؛ فيهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهما.
وهذا الحديث في إسناده ضعف.
قال أبو داود: إن فيه وهما، وإنه قال: ثلثمائة فارس! وإنهم كانوا مائتين.
( [يتساوى القوي والضعيف من أفراد الجيش] :)
(ويستوي في ذلك القوي والضعيف، ومن قاتل ومن لم يقاتل) ؛ لحديث
__________
(1) • في " السنن " (1 / 429 - 430) ، (2 / 40) ، وكذا الحاكم (2 / 131) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي.
قلت: وفيه يعقوب بن مجمع بن يزيد؛ لم يوثقه غير ابن حبان، وفي " التقريب "؛ أنه مقبول؛ يعني: عند المتابعة. (ن)

(3/458)


ابن عباس عند أبي داود (1) والحاكم، وصححه أبو الفتح (2) في " الاقتراح " على شرط البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بالسوي بعد وقوع الخصام بين من قاتل ومن لم يقاتل، ونزول قوله - تعالى -: {يسألونك عن الأنفال} .
وأخرج نحوه أحمد برجال الصحيح من حديث عبادة بن الصامت.
وأخرج أحمد من حديث سعد بن مالك، قال: قلت: يا رسول الله {الرجل يكون حامية القوم؛ ويكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال:
" ثكلتك أمك ابن أم سعد} وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ {".
وأخرجه البخاري أيضا، والنسائي عن مصعب بن سعد، قال: رأى سعد أن له فضلا على من دونه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟} ".
وأخرج نحوه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -.
قال في " الحجة البالغة ":
" ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش - كالبريد والطليعة والجاسوس - يسهم
__________
(1) • في " السنن " (1 / 430) ، والحاكم (2 / 131 - 132) ، وقال: " صحيح؛ فقد احتج البخاري بعكرمة، واحتج مسلم بداود بن أبي هند ".
قلت: وهو كما قال، وقول الذهبي: " قلت: هو على شرط البخاري "؛ خطأ؛ لأن البخاري لم يحتج بداود. (ن)
(2) • هو الإمام ابن دقيق العيد؛ واسمه: محمد بن علي بن وهب القشيري الصعيدي. (ن)

(3/459)


له؛ وإن لم يحضر الواقعة؛ كما كان لعثمان يوم بدر ".
( [تنفيل بعض الجيش جائز بحسب المصلحة] :)
(ويجوز تنفيل بعض الجيش) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل؛ جمعهما له.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي - وعزاه المنذري في " مختصر السنن " إلى مسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفا.
وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.
وحكى بعض أهل العلم الإجماع عليه.
واختلف العلماء؛ هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس؟
وقد ورد في تنفيل السرية حديث حبيب بن مسلمة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، وصححه ابن الجارود، وابن حبان، والحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته (1) .
وأخرج نحوه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت.
__________
(1) انظر " صحيح ابن ماجه " (2302) .

(3/460)


وأخرج أحمد وأبو داود، وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا نفل إلا بعد الخمس ".
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك كله.
وفيهما: أنه نفل بعض السرايا بعيرا بعيرا.
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ":
" وعندي: إن رأى الإمام أن يزيد لركبان الإبل، أو للرماة شيئا، أو يفضل العراب على البراذين (1) لشيء دون السهم؛ فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي، ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله.
وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الباب ".
( [للإمام صفي وسهم] :)
(وللإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش) ؛ لحديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عند أبي داود والنسائي، وسكت عنه أبو داود (2) ، والمنذري قال: كنا
__________
(1) العراب: الخيل العربية، والبراذين: التركية.
(2) • في " سننه " (2 / 36) ؛ وسنده إلى الرجل صحيح على شرطهما. (ن)

(3/461)


بالمربد (1) ؛ إذ دخل رجل معه قطعة أديم، فقرأناها، فإذا فيها:
" من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش (2) :
إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأديتم الخمس من المغنم، وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسهم الصفي؛ فأنتم آمنون بأمان الله ورسوله ".
فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله، وسمى الرجل النمر ابن تولب.
وأخرج أبو داود (3) عن الشعبي - مرسلا - قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي؛ إن شاء عبدا، وإن شاء أمة، فرسا؛ يختاره قبل الخمس.
وأخرج أبو داود أيضا من حديث ابن عون (4) مرسلا نحوه.
__________
(1) بكسر الميم وإسكان الراء وفتح الباء: محلة بالبصرة من أشهر محالها وأطيبها. (ش)
(2) بضم الهمزة وفتح القاف وإسكان الياء وآخره شين معجمة.
(3) • في " السنن " (2 / 35) ؛ وسنده - على إرساله - صحيح على شرطهما. (ن)
(4) • هو عبد الله بن عون بن أرطبان: ثقة ثبت؛ وليس الحديث من مرسله، كما ذكر المصنف؛ بل هو من روايته عن محمد - وهو وابن سيرين - مرسلا؛ كذلك رواه أبو داود (2 / 35) بسند صحيح، ثم قال:
كان يضرب له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد، والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء.
وصححه الحافظ (7 / 386) ، وجعله تفسيرا للصفي. (ن)

(3/462)


وأخرج أحمد، والترمذي (1) - وحسنه - من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر.
وأخرج أبو داود (2) من حديث - عائشة -، قالت: كانت صفية من الصفي.
وأخرج أبو داود أيضا من حديث أنس نحوه.
ويعارضه ما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أنس - أيضا - قال: صارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: إنه اشتراها منه بسبعة أرؤس.
( [ما جاء في الرضخ من الغنيمة لمن حضر] :)
(ويرضخ من الغنيمة لمن حضر) ؛ لحديث ابن عباس عند مسلم، وغيره: أنه سأله سائل عن المرأة والعبد؛ هل كان لهما سهم معلوم إذا حضرا البأس؟ فأجاب: أنه لم يكن لهما سهم معلوم؛ إلا أن يحذيا (3) من غنائم القوم.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 382 - 383) ، وكذا الحاكم (2 / 129) ؛ وصححه، ووافقه الذهبي؛ وفيه نظر؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفي حفظه ضعف، والظاهر أنه حسن الحديث. (ن)
(2) • في " السنن " (2 / 35) ؛ وسنده صحيح، وكذا حديث أنس الذي بعده صحيح، وحديث عائشة صححه ابن حبان، والحاكم كما في " الفتح " (7 / 386) .
وهذا الحديث يفصله حديث أنس الآتي في " الصحيحين "، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصطفها لنفسه مباشرة؛ بل بعد ما أعطاها لدحية، ثم استرجعها منه بسبعة أرؤس؛ تعويضا له، كما بينه الحافظ في " الفتح " (7 / 379) . (ن)
(3) حذاه حذوا: أعطاه، وأحذيته من الغنيمة: أعطيته منها.
والحذوة - بكسر الحاء وضمها مع إسكان الذال فيها -: العطية. (ش)

(3/463)


وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء؛ فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم (1) ؛ فلم يضرب لهن ".
وأخرج أبو داود (2) ، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - من حديث عمير مولى آبي اللحم: أنه شهد خيبر مع مواليه، فأمر له صلى الله عليه وسلم بشيء من خرثي (3) المتاع.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث حشرج بن زياد، عن جدته، أم أبيه: أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر سادسة ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إلينا، فجئنا، فرأينا فيه الغضب، فقال: " مع من خرجتن؟ {وبإذن من خرجتن؟} "، فقلنا: يا رسول الله {خرجنا نغزل الشعر، ونعين في سبيل الله، ومعنا دواء للجرحى، ونناول السهم ونسقي السويق، فقال: " قمن فانصرفن (4) ، حتى إذا فتح الله عليه خيبر؛ أسهم لنا كما أسهم للرجال، قال: فقلت لها: يا جدة} وما كان ذلك؟ قالت: تمرا.
وفي إسناده رجل مجهول، وهو حشرج.
__________
(1) في الأصل: " وأما السهم "؛ وصححناه من " صحيح مسلم " (5 / 197) ، و " نيل الأوطار " (8 / 113) .
وفي رواية الترمذي (1 / 294) : " يسهم " بالياء؛ مضارع (أسهم) . (ش)
(2) • في " السنن " (1 / 429) ؛ من طريق أحمد؛ وهو في " المسند " (5 / 223) و " الدارمي " (2 / 226) ؛ وسنده صحيح. (ن)
(3) الخرثي - بضم الخاء المعجمة، وإسكان الراء، وكسر الثاء، وتشديد الياء -: أردأ المتاع والغنائم؛ وهي سقط المتاع. (ش)
(4) لفظ الحديث كله هنا هو لفظ أبي داود (3 / 26) ؛ إلا قوله: " فانصرفن "؛ فإنه ليس فيه؛ بل هو في رواية " مسند أحمد بن حنبل " (5 / 271) . (ش)

(3/464)


وقال الخطابي " إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة.
وأخرج الترمذي عن الأوزاعي - مرسلا - قال: أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر.
وحديث حشرج - كما عرفت - ضعيف، وهذا مرسل؛ فلا ينتهضان لمعارضة ما تقدم.
وقد حمل الإسهام هنا على الرضخ جمعا بين الأحاديث.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك: فذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم للنساء والصبيان؛ بل يرضخ لهم فقط إن رأى الإمام ذلك.
( [للإمام إيثار المؤلفين] :)
(ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا) ؛ لحديث أنس في " البخاري "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم في أشراف قريش تأليفا لهم، وترك الأنصار والمهاجرين.
وهكذا ثبت في " الصحيح " من حديث ابن مسعود وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب.
والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير بطولها.
والمراد بأشراف قريش: أكابر مسلمة الفتح؛ كأبي سفيان بن حرب،

(3/465)


وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية.
( [المالك أحق بماله إذا رده الكفار] :)
(وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين؛ كان لمالكه) ؛ لحديث عمران بن حصين عند مسلم، وغيره: أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيبت، فركبتها امرأة من المسلمين، ورجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت نذرت أن تنحرها إن نجاها الله عليها - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد ".
وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عمر: أنه ذهب فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليهم المسلمون، فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبق عبد له، فلحق بأرض الروم، وظهر عليه المسلمون، فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لأبي داود: أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم.
وقد ذهب الشافعي، وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئا من أموال المسلمين، ولصاحبه أخذه قبل الغنيمة وبعدها.
وروي عن علي، والزهري، وعمرو بن دينار، والحسن: أنه لا يرد أصلا، ويختص به أهل المغانم.

(3/466)


وروي عن عمر، وسليمان بن ربيعة، وعطاء، والليث، ومالك، وأحمد، وآخرين: إن وجده صاحبه قبل القسمة؛ فهو أحق به، وإن وجده بعد القسمة؛ فلا يأخذه إلا بالقيمة.
وقد روي عن ابن عباس الدارقطني مثل هذا التفصيل مرفوعا، وإسناده ضعيف جدا.
وروي عن الفقهاء السبعة.
قال في " المسوى ":
" وعليه أكثر أهل العلم في الجملة، ولهم في التفاصيل اختلاف ".
( [بيان تحريم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل تقسيمها] :)
(ويحرم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة إلا الطعام والعلف) ؛ لحديث رويفع بن ثابت عند أحمد (1) ، وأبي داود، والدارمي، والطحاوي، وابن حبان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتناول مغنما حتى يقسم، ولا يلبس ثوبا من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه رده فيه، ولا أن يركب دابة
__________
(1) • في " المسند " (4 / 108، 108 - 109) ، وأبو داود (1 / 424) ، والدارمي (2 / 226 - 227 - 230) بإسناد رجاله كلهم ثقات، وابن إسحاق إنما يخشى تدليسه، وقد صرح بالتحديث في رواية لأحمد؛ فالحديث حسن الإسناد.
وقد توبع عند البيهقي (9 / 62) . (ن)

(3/467)


من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه "، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف.
وقال ابن حجر: إن رجال إسناده ثقات، وقال أيضا: إن إسناده حسن.
وأخرج البخاري من حديث ابن عمر، قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه.
زاد أبو داود (1) : فلم يؤخذ منهما الخمس، وصحح هذه الزيادة ابن حبان.
وأخرج أبو داود (1) ، والبيهقي - وصححه من حديث ابن عمر - أيضا -: أن جيشا غنموا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما وعسلا؛ فلم يأخذوا منهم الخمس.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عبد الله بن مغفل، قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسما.
وأخرج أبو داود (2) ، والحاكم، والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى، قال: أصبنا طعاما يوم خيبر، وكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينطلق.
__________
(1) • في " سننه " (1 / 423) ؛ وسنده صحيح على شرط البخاري.
وهو في البيهقي (9 / 59) . (ن)
(2) • في " سننه " (1 / 423) ، والحاكم (2 / 126) ، وقال: " صحيح على شرط البخاري "، ووافقه الذهبي، فأصابا. (ن)

(3/468)


وأخرج أبو داود (1) من حديث القاسم مولى عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا، وأخرجتنا مملوءة منه، وقد تكلم في القاسم غير واحد.
وقد ذهب إلى جواز الانتفاع بالطعام والعلف للدواب بغير قسمة الجمهور؛ سواء أذن الإمام أو لم يأذن.
وقال الزهري: لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره.
وقال سليمان بن موسى: يأخذ؛ إلا أن ينهى الإمام.
قال مالك في " الموطأ ":
" لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم ما وجدوا من ذلك كله؛ قبل أن تقع في المقاسم ".
وقال أيضا: " أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام؛ يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو؛ كما يأكلون من الطعام ".
وقال: " ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم؛ أضر ذلك بالجيوش ".
__________
(1) • في " سننه " (1 / 424) ، وكذا البيهقي (9 / 61) ؛ من طريق ابن حرشف الأزدي، عن القاسم ... به، وابن حرشف هذا مجهول، كما في " التقريب "؛ فهو علة الحديث، ليس القاسم كما فعل الشارح. (ن)

(3/469)


قال: " فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله؛ على وجه المعروف والحاجة إليه، ولا أرى أن يدخر ذلك شيئا يرجع به إلى أهله ".
قلت: وعليه أهل العلم.
( [بيان تحريم الغلول وما جاء في الترهيب منه] :)
(ويحرم الغلول) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما في قصة العبد الذي أصابه سهم، فقال الصحابة: هنيئا له الشهادة يا رسول الله {فقال:
" كلا والذي نفس محمد بيده؛ إن الشملة لتلتهب عليه نارا؛ أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم "، قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال: يا رسول الله} أصبت هذا يوم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شراك من نار، أو شراكان من نار ".
وأخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم خيبر؛ قتل نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلا؛ إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ".
وأخرج البخاري، وغيره من حديث ابن عمر، قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة (1) ، فمات، فقال
__________
(1) اختلف في ضبطه: فقيل: بفتح الكافين، وقيل بكسرهما.
وقال النووي: إنما اختلف في كافه الأولى، وأما الثانية فهي مكسورة اتفاقا. (ش)

(3/470)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو في النار "، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها، وقد قال الله - سبحانه -: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} .
وثبت في " البخاري "، وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس، على رقبته شاة ... " الحديث.
وقد نقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر.
وقد ورد في تحريق متاع الغال ما أخرجه أبو داود، والحاكم، والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال، وضربوه، وفي إسناده زهير بن محمد الخراساني (1) .
__________
(1) زهير ثقة؛ وإنما أنكروا عليه بعض أحاديث؛ وقد روى له الجماعة كلهم؛ وإنما شك في هذا الحديث البيهقي؛ فقد ظن أن زهيرا هنا غير زهير بن محمد الخراساني التميمي، وزعم أنه مجهول.
ولكن الحديث ثابت عن الخراساني؛ انظر " عون المعبود " (3 / 23) ، و " الجوهر النقي في الرد على البيهقي " (ج 2: ص 202) . (ش)
• قلت: بل أنكروا عليه ما كان من رواية أهل الشام عنه، قال البخاري: ما روى عنه أهل الشام؛ فإنه مناكير، وقال أحمد نحوه.
قلت: وهذا الحديث من رواية الوليد بن مسلم الدمشقي عنه؛ فهذا يقتضي الحكم على الحديث بالضعف؛ لا سيما وقد اختلف على الوليد فيه: فرواه الوليد بن عتبة، وعبد الوهاب بن نجدة: ثنا الوليد، عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، قوله.
فهذا موقوف على عمرو.
قال الحافظ في " الفتح " (6 / 141) : " وهو الراجح ". (ن)

(3/471)


وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم، والبيهقي من حديث عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا وجدتم الغال قد غل؛ فأحرقوا متاعه واضربوه "، وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة؛ تكلم فيه غير واحد (1) .
( [يجوز للإمام أن يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسرى] :)
(ومن جملة الغنيمة: الأسرى) ؛ ولا خلاف في ذلك.
(ويجوز القتل أو الفداء أو المن) ؛ لقوله - تعالى -: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} ، وقوله - تعالى -: {فإما منا بعد وإما فداء} .
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل للأسرى، وأخذ الفداء منهم، والمن عليهم؛ ثبوتا متواترا في وقائع:
ففي يوم بدر قتل بعضهم، وأخذ الفداء من غالبهم.
وأخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: " لو كان مطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى؛ لتركتهم له ".
__________
(1) وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وقال البخاري: هو باطل ليس بشيء.
وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد، وهذا حديث لم يتابع عليه؛ ولا أصل لهذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
انظر: " المستدرك " (ج 2: 137) ، و " عون المعبود " (ج 3: 21) . (ش)

(3/472)


وفي " مسلم " من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الثمانين النفر، الذين هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتقهم، فأنزل الله - عز وجل -: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} الآية.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الإمام يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسارى؛ فيقتل، أو يأخذ الفداء، أو يمن.
وقال الزهري، ومجاهد، وطائفة: لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا.
وعن الحسن، وعطاء: لا يقتل الأسير؛ بل يتخير بين المن والفداء.
وعن مالك: لا يجوز المن بغير فداء.
وعن الحنفية: لا يجوز المن أصلا؛ لا بفداء ولا بغيره.
( [الفصل الثالث: أحكام الأسير والجاسوس والهدنة] )
( [بيان جواز استرقاق الكفار من عرب أو عجم] :)
(ويجوز استرقاق العرب) ؛ لأن الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرقاق الكفار؛ من غير فرق بين عربي وعجمي، وذكر وأنثى، ولم يقم دليل يصلح للتمسك قط في تخصيص أسر العرب بعدم جواز استرقاقهم؛ بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين.

(3/473)


منها: حديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أنها كانت عند عائشة سبية من بني تميم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتقيها؛ فإنها من ولد إسماعيل ".
وأخرج البخاري، وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين جاء وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين؛ إما السبي، وإما المال ... " الحديث.
وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر: أن جويرية بنت الحارث - من سبي بني المصطلق - كاتبت عن نفسها، ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يقضي كتابتها، فلما تزوجها؛ قال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأرسلوا ما بأيديهم من السبي.
وأخرجه أحمد من حديث عائشة.
وقد ذهب إلى جواز استرقاق العرب: الجمهور.
وحكى في " البحر " عن الحنفية: أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام، أو السيف، واستدل بقوله - تعالى - {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} الآية.
ولا يخفى أنه لا دليل في الآية على المطلوب، ولو سلم ذلك؛ كان ما وقع منه صلى الله عليه وسلم مخصصا لذلك، وقد صرح القرآن الكريم بالتخيير بين المن

(3/474)


والفداء، فقال: {فإما منا بعد وإما فداء} ، ولم يفرق بين عربي وعجمي.
واستدلوا أيضا بما أخرجه الشافعي، والبيهقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: " لو كان الاسترقاق جائزا على العرب؛ لكان اليوم؛ إنما هو أسرى "، وفي إسناده الواقدي، وهو ضعيف جدا.
ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض، وهو أشد ضعفا من الواقدي.
وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفدية من ذكور العرب في بدر، وهو فرع الاسترقاق.
أقول: فقد سبى صلى الله عليه وسلم جماعة من بني تميم، وأمر عائشة أن تعتق منهم كما تقدم.
وبالغ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: " من فعل كذا؛ فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل "، وقال لأهل مكة: " اذهبوا فأنتم الطلقاء " (1) .
والحاصل: أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة؛ من التخيير في كل مشرك بين القتل، والمن، والفداء، والاسترقاق، فمن ادعى تخصيص نوع منهم، أو فرد من أفرادهم؛ فهو مطالب بالدليل.
__________
(1) • هذا الحديث مشهور في السيرة، ولم أقف له على إسناد صحيح.
وإنما رواه ابن إسحاق بسند معضل، كما تبين من مراجعة " تاريخ ابن كثير " (4 / 300 - 301) . (ن)

(3/475)


وأما أسر نساء العرب؛ فالأمر أظهر من أن يذكر، والوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث: " الصحيحين "، وغيرهما، وفي كتب السير جميعها.
( [حكم قتل الجاسوس] :)
(وقتل الجاسوس) ، لحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره؛ قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين وهو في سفر، فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اطلبوه فاقتلوه "، فسبقتهم إليه فقتلته، فنفلني سلبه.
وهو متفق على قتل الجاسوس الحربي.
وأما المعاهد والذمي؛ فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك.
وأخرج أحمد (1) ، وأبو داود عن فرات بن حيان: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، وكان عينا لأبي سفيان، وحليفا لرجل من الأنصار، فمر بحلقة من
__________
(1) • في " المسند " (4 / 336) ؛ من طريق بشر بن السري، وأبو داود (1 / 413) ، وكذا البيهقي (9 / 147) ؛ من طريق محمد بن محبب - كلاهما -، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن فرات.
قلت: وهذا سند ظاهر الصحة إلا أن أبا إسحاق - وهو عمرو بن عبد الله السبيعي - مدلس، وقد عنعن؛ ففي صحة الحديث عندي وقفة، والله أعلم.
ورواه الحافظ أبو العباس بن عقدة؛ من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق. . به، ولفظه أتم؛ فراجعه إن شئت في " الإصابة " (3 / 196) . (ن)
• قلت: والظاهر أنه اشتبه عليه ب " محمد بن مجيب "، وهذا متروك؛ بخلاف الأول؛ فإنه ثقة اتفاقا. (ن)

(3/476)


الأنصار، فقال: إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! إنه يقول: إنه مسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم؛ منهم فرات بن حيان "، وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب، ولا يحتج بحديثه (1) ، وهو يرويه عن سفيان.
ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري، وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم (2) .
ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الأزرق العباداني، وهو ثقة (3)
( [بيان أن الحربي إذا أسلم طوعا أحرز أمواله] :)
(وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه، أحرز أمواله) ؛ لحديث صخر ابن عيلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أسلم الرجل؛ فهو أحق بأرضه وماله ".
__________
(1) أبو همام ثقة: وثقه أبو حاتم وأبو داود والحاكم والبغوي.
وإنما زعم ذلك المنذري. (ش)
(2) رواية بشر؛ رواه أحمد في " مسنده " عن علي بن المديني، عن بشر: (ج 4: 336) ؛ وإسناده صحيح جدا. (ش)
(3) • لم يتعرض المؤلف لمسألة قتل الجاسوس المسلم؛ وقد اختلف العلماء فيها: فذهب مالك إلى أنه يقتل.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل.
والفريقان احتجوا بقصة حاطب بن أبي بلتعة - في كتابته إلى أهل مكة: أن محمدا يريد أن يغزوكم -، وهي في " الصحيحين "؛ وقد قرر ابن القيم في " الزاد " (2 / 238) ، وجه استدلال الفريقين ثم قال:
" والصحيح: أن قتله راجع إلى رأي الإمام؛ فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان إبقاؤه أصلح استبقاه، والله أعلم ". (ن)

(3/477)


أخرجه أحمد، وأبو داود، ورجاله ثقات (1) .
وفي لفظ: " إن القوم إذا أسلموا؛ أحرزوا أموالهم ودماءهم ".
وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة - مرفوعا -:
" من أسلم على شيء فهو له ".
وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة.
قال البيهقي: " وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة - مرسلا - ".
وقد أخرجه عن عروة - مرسلا - سعيد بن منصور برجال ثقات: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة، فأسلم ثعلبة وأسد بن سعيه (2) ، فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار.
ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: " فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا بحقها ".
__________
(1) • كذا قال! وهو عند أبي داود (2 / 49) ؛ من طريق أبان بن عبد الله بن أبي حازم، قال: حدثني عثمان بن أبي حازم، عن أبيه، عن جده.
وعثمان، ووالده أبو حازم لا يعرفان؛ وإن وثق الأول ابن حبان.
لكن رواه أحمد (4 / 310) ؛ عن أبان: حدثني عمومتي، عن جدهم صخر بن علية ... به.
فهذه طريق أخرى تقوي الأولى، والله أعلم. (ن)
(2) (أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين؛ ويروى: (أسد) بالتكبير؛ ورواه ابن إسحاق في " السيرة ": (أسيد) بالتصغير؛ وخطأه الذهبي في " المشتبه ".
و (سعيه) : بفتح السين وإسكان العين وفتح الياء المثناة وآخره هاء؛ وقيل: (سعنة) بالنون؛ وهو خطأ.
وثعلبة: أخو أسيد؛ فصواب العبارة: " فأسلم ثعلبة، وأسيد ابنا سعيه "؛ كما هو ظاهر. (ش)

(3/478)


وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا؛ كانت جميع أمواله في ملكه، ولا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو دار الإسلام.
( [بيان أن عبد الكافر إذا أسلم ثبتت له الحرية] :)
(وإذا أسلم عبد الكافر صار حرا) ؛ لحديث ابن عباس عند أحمد (1) ، وابن أبي شيبة، قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين.
وأخرجه أيضا سعيد بن منصور - مرسلا -.
وقصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في " صحيح البخاري ".
ورواها أبو داود عن الشعبي، عن رجل من ثقيف، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة، وكان مملوكنا، فأسلم قبلنا، فقال: " لا؛ هو طليق الله، ثم طليق رسوله ".
وأخرج أبو داود، والترمذي - وصححه - من حديث علي، قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني: يوم الحديبية - قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم، فقالوا: والله يا محمد {ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هربا من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله} ردهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
__________
(1) • في " المسند " (رقم 1959، 2111، 3267، 3415) ؛ وفيه الحجاج؛ وهو ابن أرطاة؛ مدلس وقد عنعن! (ن)

(3/479)


" ما أراكم تنتهون يا معشر قريش {حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا "، وأبى أن يردهم، وقال: " هم عتقاء الله عز وجل " (1) .
وأخرج أحمد عن أبي سعد الأعسم، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد؛ إذا جاء فأسلم، ثم جاء مولاه فأسلم: أنه حر، وإذا جاء المولى، ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه: فهو أحق به، وهو مرسل (2) .
( [حكم الأرض المغنومة مفوض إلى الإمام يفعل فيها ما فيه المصلحة] :)
(والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام، فيفعل الأصلح من قسمتها، أو تركها مشتركة بين الغانمين، أو بين جميع المسلمين) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين، وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين، وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس.
كما أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث بشير بن يسار، عن رجال من الصحابة.
وأخرج نحوه - أيضا - أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة.
وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأراضي مشتركة بين جميع المسلمين}
__________
(1) • " سنن أبي داود " (1 / 423) ، وكذا البيهقي؛ عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، وأحمد (رقم 1335) ؛ عن شريك - كلاهما -، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن علي.
وهذا سند صحيح إن شاء الله. (ن)
(2) لم أره في " المسند " {وليس هو من مظانه} ! وهو في " مصنف ابن أبي شيبة " (10 / 164) و " سنن سعيد بن منصور " (2 / 313) بسند ضعيف مرسل.

(3/480)


يقسمون خراجها بينهم.
وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وعمل عليه الخلفاء الراشدون.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" أيما قرية أتيتموها، فأقمتم فيها، فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله؛ فإن خمسها لله ورسوله، ثم هي لكم ".
أقول: قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين - من خراج، ومعاملة، وجزية، وصلح، وغير ذلك - ينبغي تفويض قسمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النصح لرعيته، ويبذل جهده في مصالحهم، فيقسم بينهم ما يقوم بكفايتهم، ويدخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها، ولا يلزمه في ذلك سلوك طريق معينة سلكها السلف الصالح؛ فإن الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
فإن رأى الصلاح في تقسيم ما حصل في بيت المال في كل عام؛ فعل، وإن رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر، أو الأسبوع، أو اليوم؛ فعل.
ثم إذا فاض من بيت مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم، وما يدخر لدفع ما ينوبهم؛ جعل ذلك في مناجزة الكفرة، وفتح ديارهم، وتكثير جهات المسلمين، وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح؛ فإن تقوية جيوش المسلمين هي الأصل الأصيل في دفع المفاسد، وجلب المصالح.

(3/481)


ومن أعظم موجبات تكثير بيت المال، وتوسيع دائرته العدل في الرعية، وعدم الجور عليهم، والقبول من محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم.
وهذا معلوم بالاستقراء في جميع دول الإسلام والكفر، فما عدل ملك في رعيته؛ إلا ونال بعدله أضعاف أضعاف ما يناله الجائر بجوره، مع ما في العدل من السلامة من انتقام الرب - عز وجل - في هذه الدار، أو في دار الآخرة؛ فإنها جرت عادة الله - سبحانه - بمحق نظام الظلم، وخراب بنيانه، وهدم أساسه حتى صارت دول الظلمة من أعظم العبر للمعتبرين؛ فإنه لا بد أن يحل بهم من نكال الله وسخطه ما يعرفه من له فطنة واعتبار وتفكر، ومن نظر في تواريخ الدول؛ رأى من هذا ما يقضي منه العجب.
فالحاصل: أن الظالم ممن خسر الدنيا والآخرة:
أما خسران الآخرة؛ فواضح معلوم من هذه الشريعة بالضرورة.
وأما خسران الدنيا؛ فهو وإن تم له منها نصيب نزر فهو على كدر وتخوف، ونغص وتحيل، ووحشة من رعيته، فلا يزال متوقعا لزوال ملكه في كل وقت بسبب ما قد فعله بهم، وهم مع ذلك على بغضه، وهو منطو على بغضهم، وينضم إلى ذلك كله تناقص الأمر، وخراب البلاد، وهلاك الرعية، وفقر أغنيائهم، ففي كل عام هو في نقص؛ مع ما جرت به عادة الله - عز وجل - من قصم الظلمة وهلاكهم في أيسر مدة.
فأقل الملوك مدة أشدهم بطشا وأكثرهم ظلما، وهذا هو الغالب، وما

(3/482)


خالفه فنادر.
فأين حال هؤلاء الظلمة في الدين والدنيا من حال الملوك العادلين بالرعية، المحبوبين عندهم، الممتعين بلذة العدل؛ مع لذة العيش الصافي عن كدر المخاوف؛ التي لا يأمن الظلمة هجومها عليهم في كل وقت؟ !
ولو لم يكن من ذلك كله إلا الأمن من عقاب الله وانتقامه؛ بل الرجاء في ثوابه وجزيل إفضاله، وما وعد به العادلين في الآخرة؛ مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ لكان مغنيا.
( [بيان أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا] :)
(ومن أمنه أحد المسلمين؛ صار آمنا) ؛ لحديث علي عند أحمد (1) وأبي داود، والنسائي، والحاكم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:
" ذمة المسلمين واحدة؛ يسعى بها أدناهم ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - مرفوعا - بلفظ:
" يد المسلمين على من سواهم؛ تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم،
__________
(1) • في " المسند " (رقم 615، 959، 991، 993، 1037، 1297) ؛ بأسانيد أكثرها صحيح.
وأخرج أحدها الحاكم (2 / 141) ؛ من طريق أحمد، وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي. (ن)

(3/483)


ويرد عليهم أقصاهم (1) ، وهم يد على من سواهم ".
وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " من حديث ابن عمر مطولا.
وأخرجه ابن ماجه من حديث - معقل بن يسار - مختصرا - بلفظ:
" المسلمون يد على من سواهم؛ تتكافأ دماؤهم ".
وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة - مختصرا - أيضا -.
وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة - أيضا - بلفظ:
" إن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وهو في " الصحيحين " من حديث علي.
وأخرجه البخاري من حديث أنس.
وفي الباب أحاديث.
وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا.
قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة ". انتهى.
__________
(1) • " أي: أبعدهم؛ وذلك في الغزو إذا دخل العسكر أرض الحرب، فوجه الإمام منه السرايا، فما غنمت من شيء أخذت منه ما سمي لها، ورد ما بقي على العسكر؛ لأنهم - وإن لم يشهدوا الغنيمة -؛ درء للسرايا وظهر يرجعون إليهم ": " نهاية " (ن) .

(3/484)


وأما العبد؛ فأجاز أمانه الجمهور.
وأما الصبي؛ فقال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز ". انتهى.
وأما المجنون؛ فلا يصح أمانه بلا خلاف.
قلت: إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين؛ إذا أمن واحدا أو اثنين.
فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم؛ فلا يصح إلا من الإمام؛ على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة، كعقد الذمة، ولو جعل ذلك لآحاد الناس؛ صار ذريعة إلى إبطال الجهاد.
( [بيان أن الرسول كالمؤمِّن] :)
(والرسول كالمؤمن) ؛ لحديث ابن مسعود عند أحمد (1) ، وأبي داود والنسائي، والحاكم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرسولَي مسيلمة: " لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهما: " والله؛ لولا أن
__________
(1) • في " المسند " (3708، 3761، 3837، 3855) ؛ بأسانيد بعضها حسن، وله طريقان آخران عنده (3642، 3851) بنحوه؛ فالحديث صحيح.
(2) • " في المسند " (3 / 487 - 488) بسند حسن. (ن)
وأخرجه الحاكم أيضا (2 / 143) ، وقال: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو حسن فقط! (ن)

(3/485)


الرسل لا تقتل؛ لضربت أعناقكما ".
وقد أخرج أحمد (1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان - وصححه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي رافع لما بعثته قريش إليه، فقال: يا رسول الله {لا أرجع إليهم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن - يعني: الإسلام -؛ فارجع ".
( [توسيط القول في جواز مهادنة الكفار] :)
(وتجوز مهادنة الكفار) وملوكهم وقبائلهم؛ إذا اجتهد الإمام وذوو الرأي من المسلمين، فعرفوا نفع المسلمين في ذلك، ولم يخافوا من الكفار مكيدة.
(ولو بشرط، وإلى أجل أكثره عشر سنين) ؛ لحديث أنس عند مسلم، وغيره: أن قريشا صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فاشترطوا عليه: أن من جاء منكم لا نرده عليكم، ومن جاء منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله} أنكتب (2) هذا؟ قال: " نعم؛ إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ".
وهو في " البخاري "، وغيره من حديث المسور بن مخرمة، ومروان
__________
(1) • في " المسند " (6 / 8) ، وأبو داود (1 / 433 - 434) ، وكذا الحاكم (3 / 598) - وسكت عليه هو والذهبي -؛ وسنده صحيح.
وهو عند النسائي في (السير) من " سننه الكبرى ". (ن)
(2) بالنون كما في " صحيح مسلم " طبع الآستانة. (ش)

(3/486)


- مطولا -، وفيه: أن مدة الصلح بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنين.
وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما، وفعله صلى الله عليه وسلم قد دل على جواز ذلك، ولم يثبت ما يقتضي نسخه.
( [بيان قدر مدة الصلح مع الكفار] :)
وأما قدر مدة الصلح؛ فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين؛ لأن الله - سبحانه - قد أمرنا بمقاتلة الكفار في كتابه العزيز، فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها، ولكنه لما وقع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها، ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل، وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب.
وقد قيل: إنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: لا تجوز مجاوز سنتين.
( [تفصيل القول في جواز تأبيد المهادنة بالجزية] :)
(ويجوز تأبيد المهادنة بالجزية) ؛ لما تقدم من أمره - صلى الله عليه وسلم - بدعاء الكفار إلى إحدى ثلاث خصال؛ منها الجزية.
وحديث عمرو بن عوف الأنصاري - في " الصحيحين "، وغيرهما -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو صالح أهل البحرين، أمر

(3/487)


عليهم العلاء ابن الحضرمي.
وأخرج أبو عبيد (1) ، عن الزهري - مرسلا - قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين، وكانوا مجوسا.
وأخرج أبو داود (2) من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالدا إلى أكيدر دومة (3) ، فأخذوه فأتوا به، فحقن دمه، وصالح على الجزية.
وأخرج أبو عبيد في كتاب " الأموال "، عن الزهري: أن أول من أعطى الجزية أهل نجران، وكانوا نصارى.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن؛ على كل حالم دينارا كل سنة، أو قيمته من المعافري (4) ، يعني: أهل الذمة منهم؛ رواه الشافعي في " مسنده " عن عمر بن عبد العزيز، وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود.
وأخرج البخاري، وغيره من حديث المغيرة بن شعبة: أنه قال لعامل كسرى: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية.
__________
(1) في " الأموال " (203) ، وابن زنجويه (642) ؛ وعبد الرزاق في " المصنف " (10 / 326) ، وهو ضعيف لإرساله!
(2) • في " سننه " (2 / 44) ، ورجاله ثقات؛ لكن محمد بن إسحاق مدلس؛ وقد عنعنه.
وسكت عنه المنذري في " مختصره " (4 / 249) . (ن)
(3) • وهو رجل من العرب؛ يقال: هو من غسان؛ قاله الخطابي في " المعالم ". (ن)
(4) • ثياب تكون باليمن، كما صرح به بعض الرواة في آخر حديث معاذ - المشار إليه فيما يأتي في الكتاب -؛ وهو عند أبي داود (2 / 44) بسند صحيح. (ن)

(3/488)


وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح، قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير؛ وأهل اليمن عليهم دينار؟ {قال: جعل ذلك من قبيل اليسار.
وقد وقع الاتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم؛ من اليهود، والنصارى، والمجوس.
قال مالك والأوزاعي وفقهاء الشام: إنها تقبل من جميع الكفار؛ من العرب وغيرهم (1) .
وقال الشافعي: إن الجزية تقبل من أهل الكتاب؛ عربا كانوا أو عجما، ويلحق بهم المجوس في ذلك.
وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط؛ بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد (2) ، والترمذي - وحسنه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريش؛ أنه يريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، ويؤدي إليهم بها العجم الجزية؛ يعني: كلمة الشهادة.
__________
(1) • وهذا الذي رجحه ابن تيمية، حتى ولو كانوا مشركين غير أهل كتاب؛ انظر رسالته: " قاعدة في قتال الكافر ". (ن)
(2) • في " المسند " (رقم 2008، 3419) ، والترمذي (4 / 172 - 173) ، وكذا الحاكم (2 / 432) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي - كلهم -؛ من طريق يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عنه وقال الترمذي: " حسن صحيح ".
كذا قالوا} ويحيى - هذا - في اسمه اختلاف؛ ولم يوثقه غير ابن حبان، والذهبي يقول فيه: " تفرد عنه الأعمش "؛ فهو في حكم المجهول، ولهذا قال الحافظ: إنه مقبول، يعني: عند المتابعة وإلا فلين الحديث.
فالحديث في نقدي ضعيف، والله أعلم. (ن)

(3/489)


وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب؛ ولا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان بن بريدة - المتقدم -: " وإذا لقيت عدوك من المشركين؛ فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - "، وفيها الجزية.
قال في " المسوى " - في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب -:
" قال - تعالى -: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} .
قلت: عليه أهل العلم في الجملة.
وقال الشافعي: الجزية على الأديان لا على الأنساب؛ فتؤخذ من أهل الكتاب؛ عربا كانوا أو عجما، ولا تؤخذ من أهل الأوثان.
والمجوس لهم شبهة كتاب.
وقال أبو حنيفة: لا يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف.
وفي حديث ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين، وأن عمر بن الخطاب أخذها من البربر (1) .
وفي حديث جعفر بن علي بن محمد، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ ! فقال عبد الرحمن بن
__________
(1) • " البربر: جيل، الجمع: البرابرة، وهم بالغرب، وأمة أخرى بين الحبوش والزنج ": " قاموس ". (ن)

(3/490)


عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (1) .
قلت: وعليه أهل العلم.
قال مالك: مضت السنة: أن لا جزية على نساء أهل الكتاب (2) ، ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم.
قلت: وعليه أهل العلم.
( [بيان مقدار الجزية] :)
وأما قدرها: فضرب عمر بن الخطاب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورق: أربعين درهما؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.
قلت: قد صح (3) من حديث معاذ؛ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل حالم دينار أو عدله معافريا.
فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر:
__________
(1) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1248) .
وللحديث طريقان - يحتملان التحسين -؛ كما في " نصب الراية " (3 / 172) ، و " تحفة الطالب " (237) ، و " تنقيح التحقيق " (3 / 364، 460) .
(2) • لحديث معاذ المشار إليه آنفا، والآتي لفظه قريبا؛ فإن قوله: " من كل حالم " خاص بالرجل؛ لأن " الحالم "؛ عبارة عن الرجل، كما قال الخطابي في " المعالم " (4 / 249) . (ن)
(3) " صحيح ابن خزيمة " (2268) .

(3/491)


فقال الشافعي: أقل الجزية دينار على كل بالغ في كل سنة، ويستحب للإمام المماسكة ليزداد، ولا يجوز أن ينقص من دينار، وأن الدينار مقبول من الغني والمتوسط والفقير.
وتأول أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين، وحديث معاذ على الفقراء؛ لأن أهل اليمن أكثرهم فقراء، فقال: على كل موسر أربعة دنانير، وعلى كل متوسط ديناران، وعلى كل فقير دينار.
وعن عمر بن عبد العزيز: من مر بك من أهل الذمة؛ فخذ بما يديرون به من التجارات؛ من كل عشرين دينار؛ فما نقص فبحساب ذلك؛ حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت ثلث دينار؛ فدعها ولا تأخذ منها شيئا، واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول.
قلت: عليه أبو حنيفة.
وقال الشافعي: الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور: هو ما صولحوا وقت عقد الذمة (1) .
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون.
قلت: عليه أبو حنيفة.
__________
(1) • لعل الأقرب إلى الصواب؛ أن يقال أن لا حد في الجزية يرجع إليه، فيقدرها ولي الأمر بحسب المصلحة.
وبهذا قال ابن تيمية في رسالته المذكورة آنفا (ص 145) . (ن)

(3/492)


وقال الشافعي: لا تسقط بالإسلام ولا بالموت؛ لأنه دين حل عليه كسائر الديون ". انتهى.
( [بيان منع المشركين وأهل الذمة من توطن جزيرة العرب] :)
(ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من (1) جزيرة العرب) ؛ لحديث ابن عباس - في " الصحيحين "، وغيرهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته بثلاث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم "، ونسيت الثالثة - والشك (2) من سليمان الأحول -.
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عمر: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب،؛ حتى لا أدع فيها إلا مسلما ".
وأخرج أحمد من حديث عائشة: أن آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن قال: " لا يترك بجزيرة العرب دينان ":
وهو من رواية ابن إسحاق؛ قال: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عنها (3) .
__________
(1) سكن: يتعدى بنفسه وبالباء وب (في) .
وأما ب (من) ؛ فلم أره، ولا أظنه صحيحا؛ بل هو استعمال ينبو عن كلام الفصحاء. (ش)
(2) • والصواب: والنسيان. (ن)
(3) • وسنده حسن (ن) .

(3/493)


والأدلة - هذه - قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب؛ سواء كان ذميا أو غير ذمي، وقيل: إنما يمنعون من الحجاز فقط؛ استدلالا بما أخرجه أحمد (1) ، والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح، قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ".
وهذا لا يصلح لتخصيص العام؛ لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح.
وقد حكى ابن حجر في " فتح الباري " عن الجمهور: أن الذي يمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة؛ قال: وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها؛ لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة (2) .
وعن الحنفية: يجوز مطلقا؛ إلا المسجد الحرام.
وعن مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة.
وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلا؛ إلا بإذن الإمام.
أقول: الأحاديث مصرحة بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وذكر الحجاز هو من التنصيص على بعض أفراد العام لا من تخصيصه؛ لأنه قد
__________
(1) • في " المسند " (رقم 1691، 1694، 1699) ، وسنده صحيح. (ن)
(2) • في " القاموس ": " وجزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا، ومن جدة إلى أطراف ريف العراق عرضا ".
قال: " والحجاز: مكة، والمدينة، والطائف، ومخاليفها؛ لأنها حجزت بين نجد وتهامة ".

(3/494)


تقرر في الأصول: أن مفاهيم اللقب لا يجوز العمل بها إجماعا؛ إلا عند الدقاق.
ولفظ الحجاز يدل على أن غيره من مواضع الجزيرة يخالفه بمفهوم لقبه؛ هذا هو الصواب الذي ينبغي التعويل عليه.
وقد جمع المغربي - مؤلف شرح " بلوغ المرام " - رسالة رجح فيها التخصيص، وقد دفعها الماتن - رحمه الله - بأبحاث، ليس هذا موضع ذكرها.
قال في " المسوى " - في باب لا يدخل المسجد الحرام كافر -:
" قال الله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} ".
قلت: قوله {فلا يقربوا المسجد الحرام} : معناه المسجد الحرام وما حوله من الحرم (1) ؛ يدل عليه قوله - تعالى -: {وإن خفتم عيلة} ، وعليه أهل العلم؛ قالوا: لا يجوز لكافر أن يدخل الحرم بحال؛ سواء كان ذميا أو لم يكن، وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام، وهو في الحرم؛ فلا يأذن في دخوله بل يخرج الإمام إليه، أو يبعث من يسمع رسالته.
قلت: قد صح في غير حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل الكفار في مسجده.
__________
(1) • ويؤيده أمره صلى الله عليه وسلم عليا قبيل حجة الوداع أن ينادي في المشركين: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك؛ فإن هذا يستلزم الوقوف بعرفة والمزدلفة وغيرهما (ن) .

(3/495)


من ذلك: ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد:
فقال الشافعي: لا يدخلون المسجد إلا بإذن مسلم.
وقال آخرون: يجوز له الدخول ولو بغير إذن، وتأويل الآية على قولهم: أنهم أخيفوا بالجزية.
أقول: لا ريب أن مواطن العبادة المعدة للمسلمين ينبغي تنزيهها من أدران المشركين؛ فهم الذين لا يتطهرون من جنابة، ولا يغتسلون من نجاسة، فإن كان تلويثهم لمساجد المسلمين بالنجاسات، او استهزاؤهم بالعبادة مظنونا؛ فذلك مفسدة، وكل مفسدة ممنوعة؛ ما لم يعارضها مظنة إسلام من دخل منهم المسجد؛ لما يسمعه ويراه من المسلمين؛ فإن تلك المفسدة مغتفرة بجنب هذه المصلحة التي لا يقدر قدرها.
وأما إذا كان تلويثهم المسجد غير مظنون؛ فلا وجه للمنع؛ ولا سيما قد تقرر أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل كثيرا من وفود المشركين مسجده الشريف، وهو أفضل من غيره من المساجد؛ غير المسجد الحرام ".
ثم قال في " المسوى ":
" قال مالك: قال ابن شهاب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى يهود خيبر.
قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران، وفدك.
فأما يهود خيبر؛ فخرجوا منها، ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شيء.

(3/496)


وأما يهود فدك؛ فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض، فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف الثمر، ونصف الأرض قيمته؛ من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب، ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها.
قلت: عليه أهل العلم، قالوا: الحجاز؛ يجوز للكافر دخولها بالإذن، ولا يقيم بها أكثر من مقام السفر؛ فإن عمر - رضي الله تعالى عنه - لما أجلاهم؛ أجل - لمن يقدم منهم تاجرا - ثلاثا ". انتهى.
( [الفصل الرابع: حكم قتال البغاة] )
( [بيان وجوب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق] :)
(ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق) ؛ لقوله - تعالى -: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، فأوجب الله - سبحانه - قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله، ولا فرق بين أن يكون البغي من بعض المسلمين على إمامهم، أو على طائفة منهم.
قال في " المسوى ":
" قال الواحدي والبغوي وغيرهما: نزلت هذه الآية في ضرب كان بينهم بالجريد والأيدي والنعال، فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم (1) .
__________
(1) • وثبت هذا في " صحيح البخاري " (5 / 327 - 328) ، و " مسلم ". (ن)

(3/497)


والظاهر: أنها في قتال ومضاربة يكون في الغضب بين المسلمين؛ حيث يكون حكم الله - تعالى - معلوما؛ لقوله - تعالى -: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، وليست في البغاة؛ وهم الذين لهم منعة وشبهة، فنصّبوا رئيسا وخرجوا على الإمام العدل؛ إذ ليس هناك قاطع يطلب منهم الفيء إليه؛ بل كل فرقة منهما تدعي أن ما ذهبت إليه هو الحق الموافق لكتاب الله.
وإنما يستفاد حكم البغاة من آثار علي - رضي الله تعالى عنه - حين قاتل أهل البصرة وأهل الشام وأهل النهروان، وهذا أحسن ما فهمت في هذه الآية، والعلم عند الله تعالى ". انتهى.
أقول: اعلم أن هذا الفصل مستفاد من اجتهادات الصحابة - رضي الله عنهم - وأكثر من روي عنه في ذلك؛ علي - كرم الله وجهه -، ولم يثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ إلا حديث ابن مسعود الآتي، وقد ضعفه جماعة من المسلمين (1) ، وقد أجمع المسلمون على بعض الأحكام؛ كعدم جواز سبي البغاة.
والحاصل: أن أصل دم المسلم وماله العصمة، ولم يأذن الله - عز وجل - بسوى قتال الطائفة الباغية حتى تفيء، فيجب الاقتصار على هذا، ويكون الجائز قتال من لم يحصل منه الفيء؛ وإن كان جريحا أو منهزما؛ من غير فرق بين من له فئة ومن لا فئة له؛ ما دام مصرا على بغيه.
وأما المال؛ فلا يجوز أخذ شيء منه.
هذا ما عندي في ذلك، فإن ثبت ما يخالفه؛ فالثابت شرعا أولى بالاتباع.
__________
(1) • لعله: العلماء! (ن)

(3/498)


( [بيان حكم قتل أسير البغاة وغنيمة أموالهم والإجهاز على جريحهم] )
(ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا يجاز (1) على جريحهم، ولا تغنم أموالهم) : لما أخرجه الحاكم، والبيهقي، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود: " يا ابن أم عبد! ما حكم من بغى من أمتي؟ "، قال: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم ".
وفي لفظ: " ولا يذفف (2) على جريحهم، ولا يغنم منهم "؛ سكت عنه الحاكم.
وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ.
وقال البيهقي: ضعيف.
وقال صاحب " بلوغ المرام ": إن الحاكم صححه فوهم؛ لأن في إسناده كوثر بن حكيم، وهو متروك (3) .
وصح عن علي من طرق نحوه - موقوفا -.
__________
(1) • وكذا في النسخة البولاقية؛ وفي " الدراري المضيئة " للشوكاني - نفسه -.
وهي لغة صحيحة؛ قال في " القاموس ": " وأجزت على الجريح: اجهزت ". (ن)
(2) • تذفيف الجريح: الإجهاز عليه، وتحرير قتله. (ن)
(3) وكذلك قال الذهبي في " مختصر المستدرك "؛ انظر " المستدرك " (ج 2: ص 155) . (ش)
قلت: وتفصيله في " الإرواء " (2462) .

(3/499)


والصحيح: أنه نادى بذلك منادي علي يوم صفين، ولم يثبت الرفع.
وأخرج ابن أبي شيبة، والحاكم، والبيهقي من طريق عبد خير، عن علي بلفظ: نادى منادي علي يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم.
وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم، قال: صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتلن مدبر، ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن.
وأخرج أحمد - في رواية الأثرم، واحتج به -، عن الزهري، قال: هاجت الفتنة - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون -؛ فأجمعوا: أن لا يقاد أحد، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن؛ إلا ما وجد بعينه.
وأخرج البيهقي عن أبي أمامة، قال: شهدت صفين؛ فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون موليا، ولا يسلبون قتيلا.
وأخرج البيهقي، عن علي، أنه قال يوم الجمل: إن ظفرتم على القوم؛ فلا تطلبوا مدبرا، ولا تجيزوا على جريح، وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه، وما سوى ذلك؛ فهو لورثتهم ".
قال البيهقي: هذا منقطع.
والصحيح أنه لم يأخذ شيئا، ولم يسلب قتيلا.
ويؤيد جميع هذه الآثار: أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة؛

(3/500)


فلا يحل شيء منها إلا بدليل شرعي.
والمراد بالإجازة على الجريح، والإجهاز، والتذفيف: أن يتمم قتله ويسرع فيه.
( [بيان أنه لا قصاص في أيام الفتنة] :)
وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود؛ يدل على أنه لا قصاص في أيام الفتنة، وقد أخرج هذا الأثر - عن الزهري - البيهقي؛ بلفظ:
هاجت الفتنة الأولى، فأدركت - يعني: الفتنة - رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد معه بدرا، وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة؛ لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل، ولا حد في سبي امرأة سبيت، ولا يرى عليها حد، ولا بينها وبين زوجها ملاعنة، ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد، ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر، ويرى أن يرثها زوجها الأول ". انتهى.
قال في " البحر ": ولا يجوز سبيهم، ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعا؛ لبقائهم على الملة.
وحكى عن النفس الزكية، والحنفية، والشافعية: أنه لا يغنم منهم شيء.
( [بيان حكم من حارب عليا رضي الله عنه] :)
أقول: وأما الكلام فيمن حارب عليا - كرم الله وجهه -؛ فلا شك ولا

(3/501)


شبهة أن الحق بيده في جميع مواطنه.
أما طلحة والزبير ومن معهم؛ فلأنهم قد كانوا بايعوه، فنكثوا بيعته بغيا عليه، وخرجوا في جيوش من المسلمين، فوجب عليه قتالهم.
وأما قتاله للخوارج؛ فلا ريب في ذلك، والأحاديث المتواترة قد دلت على أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
وأما أهل صفين؛ فبغيهم ظاهر؛ لو لم يكن في ذلك إلا قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: " تقتلك الفئة الباغية "؛ لكان ذلك مفيدا للمطلوب.
ثم ليس معاوية ممن يصلح لمعارضة علي، ولكنه أراد طلب الرياسة والدنيا بين قوم أغتام (1) ؛ لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فخادعهم بأنه طلب بدم عثمان، فنفق ذلك عليهم، وبذلوا بين يديه دماءهم وأموالهم، ونصحوا له؛ حتى كان يقول علي لأهل العراق أنه يود أن يصرف العشرة منهم بواحد من أهل الشام صرف الدراهم بالدينار.
وليس العجب من مثل عوام الشام؛ إنما العجب ممن له بصيرة ودين كبعض الصحابة المائلين إليه، بعض فضلاء التابعين، فليت شعري؛ أي أمر اشتبه عليهم في ذلك الأمر؛ حتى نصروا المبطلين وخذلوا المحقين؛ وقد سمعوا قول الله - تعالى -: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، وسمعوا الأحاديث المتواترة في تحريم عصيان
__________
(1) الغتمة - بضم الغين المعجمة وإسكان التاء -: عجمة في المنطق؛ ورجل أغتم: لا يفصح شيئا. (ش)

(3/502)


الأئمة ما لم يروا كفرا بواحا، وسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار أنه: " تقتله الفئة الباغية "؟ {
ولولا عظيم قدر الصحابة، ورفيع فضل خير القرون؛ لقلت: حب الشرف والمال قد فتن سلف هذه الأمة كما فتن خلفها} اللهم غفرا (1) {}
ثم اعلم أنه قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا كما في الآية المتقدمة، وحديث عمار بن ياسر المتقدم، فالباغي مؤمن يخرج عن طاعة الإمام التي أوجبها الله - تعالى - على عباده، ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين، ودفع مفاسدهم من غير بصيرة، ولا على وجه المناصحة، فإن انضم إلى ذلك المحاربة له والقيام في وجهه؛ فقد تم البغي، وبلغ إلى غايته، وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته؛ لقوله - سبحانه وتعالى -: {فإن بغت إحداهما} الآية.
وليس القعود عن نصرة الحق من الورع؛ بعد قول الله - عز وجل -: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} .
والحاصل: أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس، ولا دخل في الصلح؛ كان
__________
(1) دخل الشارح في مأزق لا قبل له به، ولا قوة لديه فيه {فما له وما للصحابة؟} ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه {والحاضر يرى ما لا يرى الغائب} وهذه الفتن قد تنسي الحليم نفسه، والذكي عقله {فلا ندري عذر من كان مع معاوية من الصحابة - رضي الله عنهم -؟}
وقد غلب على الشارح ما يغلب على الأعجام من التشيع المزري بأهل الأنصاف {
وظهور الحجة، وقيام الأدلة على أن الحق بجانب علي؛ لا يسيغ لنا أن نحكم بالبغي على الصحابة الذين خالفوه؛ فقد تكون لهم أعذار لا نعلمها}
ومآل الجميع إلى مولاهم؛ يحاسبهم ويقضي بينهم يوم الفصل؛ والله أعلم! (ش)

(3/503)


القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به، وأما مع اللبس؛ فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل؛ لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به.
وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريق مخالفة لما يقتضيه الدليل؛ فإنه ما زال المجتهدون هكذا، ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام أن يناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد؛ بل كما ورد في الحديث: أنه يأخذ بيده، ويخلو به ويبذل له النصيحة (1) ، ولا يذل سلطان الله.
ولا يجوز الخروج على الأئمة - وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ -؛ ما أقاموا الصلاة (2) ، ولم يظهر منهم الكفر البواح، والأحاديث الواردة بهذا المعنى متواترة، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله، ويعصيه في معصية الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد ابتلي علي - رضي الله عنه - بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم، وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم -؛ فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول؛ أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة.
وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد؛ فليس أحدهما أولى من الآخر؛ بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما، حتى يجعل الأمر في أحدهما، فإن استمرا على التخالف؛ كان على أهل
__________
(1) انظر " السنة " (1096) لابن أبي عاصم.
(2) • كما في حديث عوف بن مالك في " صحيح مسلم " (6 / 24) .
ونحوه حديث أم سلمة عنده (6 / 23) .
وحديث عوف يأتي. (ن)

(3/504)


الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك.
وأما بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه؛ فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام، أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره، أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته.
فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر.
فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه ولايته، وبايعه أهله؛ كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب، ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار؛ فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدري من قام منهم أو مات.
فالتكليف بالطاعة - والحال هذه -؛ تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد؛ فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب؛ فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر؛ لا يدرون بمن له الولاية في اليمن، وهكذا العكس.
فاعرف هذا؛ فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما يدل عليه

(3/505)


الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته؛ فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن؛ أوضح من شمس النهار.
ومن أنكر هذا؛ فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها، والله المستعان! (1)
( [الفصل الخامس: من أحكام الإمامة] )
( [بيان وجوب طاعة الإمام إلا في معصية الله] :)
(وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله) ؛ باتفاق السلف الصالح؛ لقوله - تعالى -: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ، وللأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة؛ منها:
ما أخرجه البخاري من حديث أنس مرفوعا:
" اسمعوا وأطيعوا؛ وإن استعمل عليكم عبد حبشي؛ كأن رأسه زبيبة (2) ؛ ما أقام فيكم كتاب الله ".
وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني ".
__________
(1) وفي كتابي " مسائل علمية في الدعوة والسياسة الشرعية " - المطبوع بمراجعة شيخنا الألباني - تفصيل جيد لهذه المسألة.
(2) • أي: " حبة عنب سوداء. .، والمراد: وشعر رأسه مقطقط؛ إشارة إلى بشاعة صورته "؛ كذا في " فيض القدير ". (ن)

(3/506)


وفي " الصحيحين " - أيضا - من حديث ابن عمر، عنه صلى الله عليه وسلم:
" على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره؛ إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة ".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا.
( [متى يجوز الخروج على الإمام؟] :)
(ولا يجوز الخروج) بعد ما حصل الاتفاق.
(عليهم ما أقاموا الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا) ؛ لحديث عوف بن مالك - عند مسلم (1) ، وغيره -، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم "، قال: قلنا: يا رسول الله {أفلا ننابذهم عند ذلك؟} قال: " لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة؛ ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية، ولا ينزعن يدا عن طاعة ".
وأخرج مسلم - أيضا -، وغيره من حديث حذيفة بن اليمان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال؛ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان "، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله! إن أدركت ذلك؟
__________
(1) • (6 / 24) . (ن)

(3/507)


قال: " تسمع وتطيع؛ وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك؛ فاسمع وأطع ".
وأخرج مسلم - أيضا -، وغيره من حديث عرفجة الأشجعي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أتاكم - وأمركم جميع على رجل واحد -؛ يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه ".
وفي " الصحيحين " من حديث عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[على السمع والطاعة] (1) في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله؛ " إلا أن تروا كفرا بواحا؛ عندكم فيه من الله برهان ".
والبواح - بالموحدة والمهملة -؛ قال الخطابي: معنى قوله: بواحا: يريد ظاهرا.
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة عنه، صلى الله عليه وسلم: " من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة؛ فميتته جاهلية " (2) .
وأخرج نحوه أيضا عن ابن عمر.
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر:
" من حمل علينا السلاح؛ فليس منا ".
__________
(1) • زيادة لا بد منها. (ن)
(2) • لفظه في " صحيح مسلم " (6 / 21) : " ثم مات؛ مات ميتة جاهلية ". (ن)

(3/508)


وأخرجاه أيضا من حديث أبي موسى.
وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وسلمة بن الأكوع.
والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها.
وقد ذهب إلى ما ذكرناه: جمهور أهل العلم.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة - أو وجوبه -؛ تمسكا بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهي أعم مطلقا من أحاديث الباب، ولا تعارض بين عام وخاص، ويحمل ما وقع من جماعة من أفاضل السلف على اجتهاد منهم، وهم أتقى لله، وأطوع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم من أهل العلم.
قال في " الحجة البالغة ":
" ثم إن استولى من لم يجمع الشروط؛ لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة؛ لأن خلعه لا يتصور غالبا إلا بحروب ومضايقات، وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة.
وبالجملة؛ فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين؛ حل قتاله - بل وجب -؛ وإلا لا؛ وذلك لأنه حينئذ فاتت مصلحة نصبه؛ بل يخاف مفسدته على القوم، فكان قتاله من الجهاد في سبيل الله ". انتهى.
( [بيان وجوب الصبر على جور الأئمة] :)
(ويجب الصبر على جورهم) ؛ لما تقدم من الأحاديث.

(3/509)


وفي " الصحيحين " من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رأى من أميره شيئا يكرهه؛ فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا، فمات؛ فميتته جاهلية ".
وفيهما من حديث أبي هريرة - مرفوعا -: " أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم ".
وأخرج أحمد (1) من حديث أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أبا ذر {كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك بهذا الفيء؟ "؛ قال: والذي بعثك بالحق؛ أضع سيفي على عاتقي، وأضرب حتى ألحقك، قال: " أولا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟} تصبر حتى تلحقني ".
وفي الباب أحاديث كثيرة.
( [بيان وجوب النصيحة للأئمة] )
(وبذل النصيحة لهم) ؛ لما ثبت في " الصحيح " من أن: " الدين النصيحة؛ لله ولرسوله ولأئمة المسلمين " - من حديث تميم الداري بهذا اللفظ -.
والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة، وأحق الناس بها الأئمة.
( [بيان ما يجب على الأئمة نحو رعيتهم] :)
(وعليهم) ؛ أي: على الأئمة (الذب عن المسلمين، وكف يد الظالم،
__________
(1) في " المسند " (5 / 180) ؛ وأبو داود (4759) ، وفي سنده جهالة.

(3/510)


وحفظ ثغورهم، وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال، وتفريق أموال الله في مصارفها، وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف، والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة) ؛ وذلك معلوم من أدلة الكتاب والسنة التي لا يتسع المقام لبسطها.
ولا خلاف في وجوبها جميعا على الإمام، وهذه الأمور هي التي شرع الله - تعالى - نصب الأئمة لها، فمن أخل من الأئمة والسلاطين بشيء منها؛ فهو غير مجتهد لرعيته، ولا ناصح لهم؛ بل غاش خائن.
وقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث معقل بن يسار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد يسترعيه الله رعية؛ يموت - يوم يموت - وهو غاش لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة ".
وفي لفظ لمسلم: " ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجتهد لهم، ولا ينصح لهم؛ إلا لم يدخل الجنة ".
وأخرج مسلم، وغيره من حديث عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم! من ولي من أمر أمتي شيئا، فرفق بهم؛ فارفق به ".
وبالجملة؛ فعلى الإمام والسلطان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالخلفاء الراشدين في جميع ما يأتي ويذر؛ فإنه إن فعل ذلك؛ كان له ما لأئمة العدل من الترغيبات الثابتة في الكتاب والسنة.
وحاصلها: الفوز بنعيم الدنيا والآخرة.

(3/511)


وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(تم الكتاب وربنا محمود ... وله المكارم والعلا والجود)
(وعلى النبي محمد صلواته ... ما ناح قمري وأورق عود)
[انتهى المجلد الثالث من كتاب " التعليقات الرضية على الروضة الندية "، وبه يتم الكتاب؛ والحمد لله الملك الوهاب] . (1)
__________
(1) • فرغنا من قراءته بمناسبة الاعتداء على مصر ليلة السبت (000 / 4 / 77 هـ) .
ثم فرغنا من قراءته كله - حاشا كتاب الوصية - ليلة السبت (29 / 8 / 1379 هـ) . (ن)

(3/512)