السنن
والأحكام عن المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام الفصل السابع بين
"أحكام الضياء" و"الأحكام الكبرى" للمحب الطبري
للمقارنة بين الكتابين أنقل لك مقدمة كتاب المحب؛ ليتبين لك منهجه، قال
المحب الطبري:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه أتوكل، رب يسر وأعن.
الحمد لله على النعم العميمة والمنن الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، محيي العظام الرميمة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الهادي
إلى الشريعة المستقيمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ذوي المكارم الكريمة،
والأخلاق الوسيمة.
وبعد، فقد وفق الله جل وعلا إلى تجريد أحاديث الأحكام على سبيل الإكثار مع
الأحكام مرتباً لها على ترتيب كتب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في المذهب
-لقرب تناولها، وكثرة التداول لها- وجمعت فيها ما ذكره الإمامان القاضي أبو
محمد عبد الحق المالكي وأبو البركات عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي،
ثم تقربت الكتب الستة "موطأ مالك" رواية يحيى بن يحيى، و"صحيح البخاري"،
و"صحيح مسلم"، و"جامع الترمذي"، و"سنن أبي داود"، و"سنن النسائي" ثم "سنن
الشافعي" -رضي الله عنه- و"مسنده"، و"مختصر سنن الدارقطني" للحافظ المبارك
بن الطفاح (1)، و"سنن سعيد بن منصور"، وكتاب
__________
(1) كذا في "الأصل" الخطي وأظنه المبارك بن الطباخ -بالباء الموحدة، والخاء
المعجمة- وهو المحدث أبو محمد المبارك بن علي بن الحسين بن عبد الله بن
محمد الطباخ نزيل مكة=
(مقدمة/177)
"التقاسيم والأنواع" لأبي حاتم محمد بن
حبان البستي -وهو كتاب جليل القدر عظيم الخطر، جم الفوائد، غريب المقاصد،
وهو معدود في الصحاح، قال شيخنا أبو عمر وعثمان بن عبد الرحمن الحافظ
المعروف بابن الصلاح في كتاب "معرفة أنواع علوم الحديث": ويقرب من ذلك في
الحكم صحيح أبي حاتم بن حبان البستي -رحمه الله- لوصفه بالصحيح -وكتاب
"تجريد الصحاح" لرزين، وكتاب "جامع الأصول" لابن الأثير، و"جامع المسانيد"
للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي ترتيب أبي بكر الحلاوي، و"فوائد أبي القاسم
تمام بن محمد الرازي"، و"مسند أبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي"، وكتاب
"الطب" لأبي نعيم الحافظ، وكتاب "معرفة الصحابة" لعلي بن الأثير، وكتاب
"تاريخ مكة" لأبي الوليد الأزرقي، وغير ذلك من الكتب والأجزاء المشهورة،
يُعرف ذلك بالتقري عند عزي كل حديث إلى كتابه، فزدت من ذلك على ما ذكراه
أضعافًا كثيرة وعزيت كل حديث إلى أصله المخرج منه تقصيًا عن عهدته.
فإذا قلت: أخرجاه. فهو ما خرجه الشيخان البخاري ومسلم. وإذا قلت: أخرجه
السبعة. فالمراد الشيخان وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه،
وإذا قلت: أخرجه الخمسة. فالمراد من سوى الشيخين ممن ذكرناه، وإذا قلت:
أخرجه الأربعة. فالمراد من سوى ابن ماجه من الخمسة، وإذا قلت: أخرجه
الثلاثة: فالمراد من سوى أحمد من الأربعة، وما كان من سنن ابن ماجه فهو
منتزع من كتاب "أحكام الحنبلي" أو من "مختصر السنن" للحافظ عبد العظيم
المنذري أو كان من "مسند أحمد" أو من "سنن الأثرم" فهو من "أحكام الحنبلي"
أيضًا أو من "جامع المسانيد" المتقدم ذكره.
__________
=المكرمة، توفي في سنة خمس وسبعين وخمسمائة. ترجمته في "ذيل طبقات
الحنابلة" (2/ 346) وغيره.
(مقدمة/178)
وما كان من "مسند البزار" أو من "مسند ابن
أبي شيبة" أو من "سنن الطحاوي" فهو من "أحكام عبد الحق" أو من "كتاب
الرقائق" له.
وما كان غير ذلك فما كان من الكتب الستة فهو منتزع إما من كتابه -وهو
الأكثر فيها سوى "الموطأ" و"سنن ابن ماجه"- أو من "شرح السنة" للبغوي أو من
"مختصر السنن" للحافظ المنذري أو من "السنن والآثار" للبيهقي أو من كتابي
الأحكام المتقدم ذكرهما أو من أحدهما.
وما كان من غيرها فهو منتزع من كتابه إلا ما كان من "مسند الشافعي" فقد
يكون منتزعًا منه وهو الأكثر، وقد يكون من أحكام الحنبلي أو من "السنن
والآثار" للبيهقي.
وما كان من شرح غريب فهو من "نهاية الغريب" للمبارك بن الأثير أو من "صحاح
الجوهري" أو من "المعلم بفوائد مسلم" للمازري أو من "شرح السنة" للبغوي أو
من "الإكمال" للقاضي عياض أو من "مشكل الصحيحين" لابن الجوزي أو من "مختصر
السنن" للمنذري.
وما كان من بيان أسماء الصحابة وأحوالهم فهو من "أسد الغابة" لعلي بن
الأثير وكتاب "الاستيعاب" لابن عبد البر.
وما كان من فقه أو خلاف للعلماء فهو من "معالم السنن" للخطابي أو من "شرح
السنة" للبغوي أو من "المعلم" للمازري أو من "إكمال" عياض أو من "مشكل
الصحيحين" لابن الجوزي أو من "مختصر السنن" للمنذري أو من كتب الفقه.
وما كان من الرقائق فهو إما من "شرح السنة" للبغوي أو من كتاب عبد الحق في
الرقائق.
وقد استوعبنا ما فيه ونبهنا في آخر الكتاب على كل باب منه حيث ذكرناه
(مقدمة/179)
من كتابنا.
فإن قيل: قد أكثرت في كتابك هذا من ذكر الأحاديث المطولة المشتملة على حُكم
وغيره، وقد كان يمكنك الاقتصار على ذكر ما تضمن الحكم منها؛ فيلطف حجم
الكتاب ويقرب تناول المقصود منه، فإنك إنما وضعته لتجريد الأحكام لا غير؟
قلنا: الجواب من وجوهٍ:
الأول: امتثالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نضر الله امرءًا سمع منَّا
شيئًا فبلغه كما سمعه".
الثاني: أنه قد يكون في غضون الحديث الطويل أحكام لا تظهر للجامع أو السامع
في بادئ النظر، وإنما تستخرج بالفكر والتدبر، فذكرنا الحديث برمته احتياطًا
رجاء أن يظهر للناظر فيه على التأني والفكر ما لا يظهر للجامع أو للسامع في
حالته الراهنة.
الثالث: أن في الوقوف على الحديث بكماله فوائد جمة: معرفة سبب الحكم
واستزادة علم بقصتة معجبة ينشرح الصدر بالوقوف عليها، ولفظة غريبة ننبه على
معناها، وإشكال نحله ونكشف مشكله، ومخالفة حديث آخر توهم التضاد فنجمع
بينهما بقدر الإمكان، إلى غير ذلك من الفوائد المشتبهة للفرائد، واللَّه
أسأل أن ينفع بن مؤلفه وطالبه وقارئه وكاتبه بمنِّه وطوله وقدرته وحوله.
انتهى.
وهذه إشارة سريعة إلى بعض نقاط المقارنة بينهما:
أحكام الضياء اسمه "السنن والأحكام عن المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام"
وأحكام المحب اسمه "غاية الأحكام لأحاديث الأحكام" أو"نهاية الإحكام في جمع
أحاديث الأحكام" وكلا الاسمين ثابت في المجلد الأول من
(مقدمة/180)
النسخة الخطية للكتاب، ويقال له: "الأحكام
الكبرى" أيضًا.
مؤلف "غاية الإحكام لأحاديث الأحكام" هو الحافظ أبو العباس أحمد بن عبد
الله بن محمد محب الدين الطبري الشافعي (1) (615 - 694 هـ).
قال الذهبي (2): أحمد بن عبد الله بن محمد الحافظ المفتي شيخ الحرم محب
الدين أبي العباس الطبري ثم المكي الشافعي، مصنف "الأحكام الكبرى" كان
عالمًا عاملاً جليل القدر عارفًا بالآثار، ومن نظر في "أحكامه" عرف محله من
العلم والفقه، عاش ثمانين سنة. اهـ.
كتاب الحافظ الضياء ألف أولاً، لكن الحافظ المحب الطبري لم يقف عليه فيما
يبدو لي، والله أعلم.
بدأ الضياء كتابه بمقدمة وجيزة بيَّن فيها السبب الداعي إلى تأليف كتابه،
وبعض كتب الأصول التي انتقى منها الأحاديث وأشار إلى بعض الخطوط العريضة في
منهجه، وبدأ المحب كتابه بمقدمة متوسطة بيَّن فيها الخطوط العريضة في
منهجه، وبعض كتب الأصول التي اعتمدها، وبعض الكتب الوسيطة التي ينقل منها،
وغير ذلك كما تقدم.
جعل الضياء كتابه مقتصرًا على الأحكام الفقهية فقط؛ فبدأه بكتاب الطهارة،
ثم الصلاة ثم الزكاة ... إلخ، بينما جعل المحب كتابه جامعًا في الحديث؛
فبدأه بكتاب الإيمان، ثم العلم، ثم الطهارة، وذكر فيه الرقائق وغيرها مما
لم يذكره الضياء.
__________
(1) ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" (4/ 1474 - 1475) و"المعجم المختص" (22 - 23
رقم 20)، و"طبقات الشافعية الكبرى" (8/ 18)، و "شذرات الذهب" (5/ 425 -
426) وغيرها.
(2) "المعجم المختص بالمحدثين" (ص 22).
(مقدمة/181)
رتب الضياء كتابه على ترتيب كتب الفقه
الحنبلي، ورتب المحب كتابه على ترتيب كتب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في مذهب
الشافعي.
قسم الضياء كتابه إلى كتب فقهية، وربما قسم بعض الكتب إلى كتب فرعية، وقسم
الكتب إلى أبواب، وقسم المحب كتابه إلى كتب، وربما قسم بعض الكتب إلى
أبواب، وقسم الأبواب إلى أذكار، فمثلاً كتاب الطهارة، ذكر فيه باب المياه،
ثم قسم باب المياه إلى: ذكر ماء البحر، ذكر ماء البئر والماء المتغير، ذكر
ماء الثلج، ذكر المياة التي من الجنة، ذكر ما لا يحمل الخبث من الماء وتنجس
سؤر السباغ ... إلخ.
اقتصر الحافظ الضياء على ذكر الأحاديث والكلام عليها تصحيحًا وتضعيفًا، غير
متوسع في الشروح والتعليقات، ولم يذكر الأحكام الفقهية واختلاف العلماء
فيها، بينما توسع الحافظ المحب في الشروح والتعليقات، وترجم للصحابة
الرواة، وذكر الأحكام الفقهية واختلاف العلماء فيها، فمثلاً حديث أبي مالك
الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الطهور شطر الإيمان،
والحمد للَّه تملأ الميزان ... " هو أول حديث ذكره المحب في كتاب الطهارة
واستغرق الكلام عليه ورقة كاملة، وحديث عمر بن الخطاب أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لكل امرئ ما نوى ... " هو
أول حديث ذكره المحب في فرائض الوضوء، واستغرق الكلام عليه أكثر من ورقة،
فبهذا طال كتاب المحب جدًا.
قال الحافظ الذهبي (1) في ترجمة المحب: "وعمل الأحكام الكبرى" في ست
__________
(1) "سير أعلام النبلاء" (17/ 178) من طبعة دار الفكر، وهذا الجزء ساقط من
طبعة دار الرسالة.
(مقدمة/182)
مجلدات، تعب عليه، وأتى فيه بكل مليحة".
اهـ. وقال ابن الملقن (1): "أحكام الحافظ محب الدين الطبري -نزيل مكة،
شرفها الله تعالى- وهو أبسطها وأطولها".
اتفق الحافظان الضياء والمحب في إيرادهما بعض الأحاديث الغرائب التي لا
توجد في الكتب المشهورة مسندة بأسانيدهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم
-، أما الضياء فسأفرد لما أسنده من الأحاديث فهرسًا خاصًا في آخر الكتاب
-إن شاء الله تعالى- وأما المحب فقد أسند -على سبيل المثال- حديثين في كتاب
الطهارة.
توسع الحافظ الضياء في الكلام على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا وعلى الرواة
توثيقًا وتجريحًا، مع أن كتابه منتقى نظيف الأسانيد، في حين قلَّ كلام
الحافظ المحب على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا وعلى الرواة توثيقًا وتجريحًا
مع أن كتابه جامع فيه الغث والسمين؛ لذلك قال الحافظ ابن كثير في ترجمة
المحب من "طبقات الفقهاء الشافعيين" (2/ 939): "مصنف الأحكام" المبسوطة،
أجاد فيه وأفاد، وأكثر وأطنب، وجمع الصحيح والحسن، ولكن ربما أورد الأحاديث
الضعيفة، ولا ينبه على ضعفها" وقال اليافعي (2): "جمع فيه الصحاح والحسان،
لكن ربما أورد الأحاديث المضعفة ولم يُبين".
إبعاد النُّجعة والوهم في العزو نادرًا في كتاب الحافظ الضياء، أما كتاب
الحافظ المحب فقد عابه بذلك بعض أهل العلم قال الناجي في "عجالة الإملاء"
(ص 47): "ومن وقف على ما في "الأحكام" للمحب الطبري من الأوهام في العزو
المتكرر إلى الصحيحين أو أحدهما وغيره رأى غاية العجب". ولعل سبب
__________
(1) "البدر المنير" (1/ 282).
(2) نقله المباركافوري في مقدمة "تحفة الأحوذي" (1/ 271).
(مقدمة/183)
ذلك هو اعتماد الوسائط في العزو، والله
أعلم.
وعلى كل فقد أثنى على كتاب المحب أهل العلم، وقد تقدم ثناء الذهبي وابن
كثير، وقال السبكي (1) في ترجمة المحب: "وصنف التصانيف الجيدة، منها في
الحديث "الأحكام" الكتاب المشهور المبسوط، دل على فضل كبير". ولعلنا نراه
مطبوعًا قريبًا إن شاء الله تعالى.
__________
(1) "طبقات الشافعية الكبرى" (8/ 9).
(مقدمة/184)
|