السنن والأحكام عن المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام

الفصل السادس بين "أحكام الضياء" و"منتقى الأخبار" للمجد ابن تيمية
لبيان أهمية كتاب "السنن والأحكام" للحافظ الضياء كان لا بد من مقارنته بالكتب المؤلفة في بابه، ولما نظرت إلى هذه الكتب وجدت أن أهم هذه الكتب وأقربها إلى أحكام الضياء ثلاثة كتب (1): "الأحكام الكبرى" للحافظ عبد الحق الإشبيلي، و"منتقى الأخبار" لشيخ الإسلام مجد الدين ابن تيمية، و"الأحكام الكبرى" للحافظ محب الدين الطبري، أما "الأحكام الكبرى" لعبد الحق فقد ذكرت في تقدمتي له 11/ 26 - 35 مميزاته ومنهجه بما أغنى عن إعادته هنا (2)، وأما "منتقى الأخبار" فأفردت للمقارنة بينه وبين "أحكام الضياء" هذا الفصل، وأما "الأحكام الكبرى" للمحب الطبري فسأفرد للمقارنة بينه وبين "أحكام الضياء الفصل التالي إن شاء الله تعالى.
لا شك أن الكتابين من أحسن الكتب المصنفة في هذا الفن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (3) لما سُئل عن كتاب "الإمام" لابن دقيق العيد: "ما عمل أحد مثله، ولا الحافظ الضياء ولا جدي أبو البركات" فقرنهما معًا.
مؤلف "منتقى الأخبار" هو الحافظ عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم
__________
(1) أعني الكتب التي وقفت عليها، وانظر لمعرفتها تقدمتي للأحكام الكبرى لعبد الحق (1/ 14 - 25).
(2) وانظر مقارنة بين "الأحكام الكبرى" لعبد الحق و"الأحكام الوسطى" له في تقدمتي للأحكام الكبرى (1/ 47 - 53).
(3) "الطالع السعيد" (ص576).

(مقدمة/170)


ابن تيمية الحراني (1) (590 - 652 هـ) قال ابن رجب (2): الفقيه الإمام المقرئ المحدث المفسر الأصولي النحوي، مجد الدين أبو البركات، شيخ الإسلام، وفقيه الوقت، وأحد الأعلام.
المؤلفان الضياء المقدسي والمجد ابن تيمية من أعلام العصر من الحنابلة، وقد تعاصرا أزيد من خمسين سنة، والضياء أشهرهما في الحديث، والمجد أشهرهما في الفقه؛ لذا جاء "أحكام الضياء" أكثرهما فوائد حديثية، وجاء "المنتقى" أكثرهما فوائد فقهية.
الكتابان بينهما كثير من أوجه الشبه، بحيث أنه يصعب المقارنة الدقيقة بينهما، خصوصًا وأني لم أقف على طبعة للمنتقى دقيقة الترقيم -أو قريبة من الدقة- سواءً للأحاديث أم للأبواب، وكذلك لم أقف على دراسة علمية للمنتقى يمكن الاعتماد عليها في هذا الباب لذلك سأكتفي في هذه المقارنة إلى إشارات سريعة، عسى الله أن ييسر لي كتابة مقارنة مفصلة بينهما فيما بعد بإذنه تعالى.
الكتابان يتشابهان إلى حدٍّ كبير فترتيبهما على ترتيب كتب الفقه الحنبلي، بل يتشابهان إلى حد كبيرٍ في الأحاديث خصوصًا في الكتب الصغيرة حيث تقل الأحاديث والأبواب فيقل الفارق بينهما، وكلما زاد حجم الكتاب وزادت أحاديثه كلما زاد يتميز كتاب الحافظ الضياء.
لا يمكن القطع باستفادة أحدهما من الآخر أو عدمها؛ لم أستطع تحديد أي الكتابين ألف أولاً، فعلى الرغم من كون الحافظ الضياء مات قبل المجد بن تيمية بنحو تسع سنين إلا أن هذا لا يعني أنه ألف كتابه أولاً، وقد قال ابن رجب (3) في
__________
(1) ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (23/ 291 - 293) و"ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 249 - 254) وغيرهما وهو جد شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية.
(2) "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 249).
(3) ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 252).

(مقدمة/171)


ترجمة المجد بن تيمية: "المنتقى من أحاديث الأحكام" وهو الكتاب المشهور، انتقاه من الأحكام الكبرى، ويقال: إن القاضي بهاء الدين بن شداد هو الذي طلب منه ذلك بحلب. اهـ. والقاضي بهاء الدين بن شداد مات سنة 632 هـ فالله أعلم أيهما ألف أولاً، وهل استفاد أحدهما من الآخر أم لا.
كلاهما بدأ كتابه بمقدمة وجيزة، وهذه مقدمة المجد لكتابه قال (1):
"الحمد للَّه الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديرًا، وصلى الله على محمد النبي الأمي المرسل كافة للناس بشيرًا ونذيرًا، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
هذا كتاب يشتمل على جملة من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء أهل الإسلام عليها، انتقيتها من صحيحي البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وجامع أبي عيسى الترمذي وكتاب السنن لأبي عبد الرحمن النسائي، وكتاب السنن لأبي داود السجستاني وكتاب السنن لابن ماجه القزويني، واستغنيت بالعزو إلى هذه المسانيد عن الإطالة بذكر الأسانيد.
والعلامة لما رواه البخاري ومسلم: أخرجاه، ولبقيتهم: رواه الخمسة، ولهم سبعتهم: رواه الجماعة، ولأحمد مع البخاري ومسلم: متفق عليه، وفيما سوى ذلك أسمي من رواه منهم، ولم أخرج فيما عزوته عن كتبهم إلا في مواضع يسيرة، وذكرت ضمن ذلك شيئًا يسيرًا من آثار الصحابة -رضي الله عنهم- ورتبت الأحاديث في هذا الكتاب على ترتيب فقهاء أهل زماننا لتسهل على مبتغيها، وترجمت لها أبوابًا ببعض ما دلت عليه من الفوائد، ونسأل الله أن يوفقنا للصواب ويعصمنا من كل خطأ وزلل إنه جواد كريم". اهـ.
__________
(1) "المنتقى" مع شرحه "نيل الأوطار" (1/ 5 - 12).

(مقدمة/172)


أما الحافظ الضياء فإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما لم يذكر له راويًا غيرهما لأن المقصود صحة الأخبار -كما قال في مقدمة كتابه- لكن قد يعزوه إلى غير الصحيحين لفائدة زائدة، واللَّه أعلم.
ألف الحافظ الضياء كتابه فخرج أحاديث على "أطراف المسانيد" فجاء عزوه للأحاديث دقيقًا جدًّا، في حين أن الحافظ المجد بن تيمية تجد عليها استدراكات كثيرة خصوصًا في عزوه لأحاديث السنن، فتجد الشوكاني في أحاديث كثيرة يقول: ورواه غير المذكورين فلان وفلان أيضًا، ولا يتأتى هذا في كتاب الحافظ الضياء إلا في مواضع قليلة.
الحافظ الضياء اهتم بألفاظ الأحاديث فساقها بنصها، وبيَّن لفظ من هو، وربما ذكر عدة ألفاظ للحديث الواحد زيادة في الفائدة، أما الحافظ المجد بن تيمية فإنه عمد إلى الحديث فأخرجه من كتب كثيرة وعزاه لها، ولم يذكر إلا لفظًا واحدًا، ولم يبَيِّن لفظ من هو، ولا من انفرد به، وقلما يجيء الحديث الواحد في كتب كثيرة إلا باختلاف في لفظ أو معنى أو زيادة أو نقصان، ولم يبين هو شيئًا من ذلك إلا في النزر اليسير (1)؛ لذلك جاء كتاب الحافظ الضياء أدق وأكثر فائدة.
كتاب الحافظ المجد بن تيمية "المنتقى" قال الشوكاني (2): وقد ذكر جماعة من أئمة فن الحديث أن هذا الكتاب من أحسن الكتب المصنفة في الفن لولا عدم تعرض مؤلفه -رحمه الله- للكلام على التصحيح والتحسين والتضعيف في
__________
(1) مقتبس من انتقاد الحافظ عبد الحق الإشبيلي في كتابه "الأحكام الوسطى" (1/ 68 - 69) لكتاب أبي القاسم الزيدوني في الأحكام.
(2) "نيل الأوطار" (1/ 13).

(مقدمة/173)


الغالب. قال في "البدر المنير" (1) ما لفظه: "وأحكام الحافظ مجد الدين عبد السلام ابن تيمية المسمى بـ "المنتقى" هو كاسمه وما أحسن لو إطلاقه في كثير من الأحاديث العزو إلى الأئمة دون التحسين والتضعيف، فيقول مثلاً "رواه أحمد" "رواه الدارقطني" "رواه أبو داود" ويكون ضعيفًا، وأشد من ذلك كون الحديث في جامع الترمذي مبينًا ضعفه فيعزوه إليه دون بيان ضعفه، وينبغي للحافظ جمع هذه المواضع وكتبها على حواشي هذا الكتاب أو جمعها في مصنف يستكمل فائدة الكتاب المذكور. انتهى.
أما كتاب الحافظ الضياء "السنن والأحكام" فهو سالم من هذا الانتقاد -في غالب أحاديثه (2) - فقد أكثر من نقل كلام الأئمة على الأحاديث، وتكلم هو على أحاديث كثيرة.
فالعيب الرئيسي لكتاب "المنتقى" هو عدم تعرضه لتصحيح أحاديث كثيرة أو تضعيفها، كما أن العيب الرئيسي لكتاب الحافظ الضياء فهو أنه لم يتم بل مات الضياء قبل إكماله، وإن كان الحافظ شمس الدين بن الكمال قد أتممه -كما سبق- لكن لم أقف على شيء من خبر هذا الكتاب، ولم يذكر عنه شيء في فهارس المكتبات التي وقفت عليها، واللَّه أعلم.
الحافظ الضياء روى في كتابه أحاديث بإسناده هو -بلغت اثنين وأربعين حديثًا- إذ لم تكن هذه الأحاديث في الكتب المشهورة -كما نص على ذلك في مقدمة كتابه- أما كتاب الحافظ المجد فلم يرو فيه -فيما أحسب- ولا حديث بإسناده هو.
__________
(1) "البدر المنير" (1/ 280 - 281).
(2) إذ هناك أحاديث سكت عليها الحافظ الضياء، وبعض هذه الأحاديث تكلم عليها الحافظ المجد في كتابه؛ فلكل فاضل تحرير، وفي كل فائدة، واللَّه أعلم.

(مقدمة/174)


مصادر كتاب الحافظ الضياء أكثر من مصادر كتاب الحافظ المجد بن تيمية، راجع الفصل الرابع من هذا الباب.
كتاب الحافظ الضياء أكبر من ضعف حجم كتاب "المنتقى" وذلك يعود لعدة أمور:
1 - كثرة أحاديث كتاب الحافظ الضياء إذ بلغت نحو (6400) حديث غير المكررات.
2 - تمييز الحافظ الضياء لألفاظ الروايات المختلفة.
3 - كثرة الكلام على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا وعلى الرواة توثيقًا وتجريحًا في كتاب الحافظ الضياء.
4 - إطالة الحافظ الضياء في مواطن عديدة الكلام في توجيه الروايات والجمع بين الروايات المتعارضة الظاهر منها.
كتاب "المنتقى" شرحه غير واحد من أهل العلم، وقد اشتهر في هذه الأعصار شرح علامة القطر اليماني محمد بن علي الشوكاني المسمى بـ "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار".
أما كتاب "أحكام الضياء" فلا أعلم أحدًا قام بشرحه، كل ما وقفت عليه أن الحافظ محمد بن عبد الهادي ألف "الأحكام الكبرى" على ترتيب أحكام الحافظ الضياء، وقد سبقت الإشارة إليه.
كتاب "المنتقى" له نسخ خطية كثيرة، أما كتاب "أحكام الضياء" فلم أعثر له إلا على هذه النسخة الوحيدة، واللَّه أعلم.
كتاب "المنتقى" طبع عدة طبعات منفردًا ومع شرحه "نيل الأوطار" أما كتاب "أحكام الضياء" فها نحن نخرجه لأول مرة، والحمد لله على توفيقه.

(مقدمة/175)


وفي نهاية هذه المقارنة السريعة استمع إلى كلمة رقيقة للعلامة الشوكاني يصف فيها كتاب "المنتقى" ولا يرتاب أحد بعد أن يرى كتاب الحافظ الضياء أنه يشارك المنتقى في فضائله ويفوقه في بعض هذه الفضائل، قال الشوكاني (1): "وبعد، فإنه لما كان الكتاب الموسوم بـ "المنتقى من الأخبار" في الأحكام مما لم ينسج على بديع منواله ولا حرر على شكله ومثاله أحد من الأئمة الأعلام، قد جمع من السنة المطهرة ما لم يجتمع في غيره من الأسفار، وبلغ إلى غاية في الإحاطة بأحاديث الأحكام تتقاصر عنها الدفاتر الكبار، وشمل من دلائل المسائل جملة نافعة تفنى دون الظفر ببعضها طوال الأعمار، وصار مرجعًا لجلة العلماء عند الحاجة إلى طلب الدليل لا سيما في هذه الديار وهذه الأعصار، فإنها تزاحمت على مورده أنظار المجتهدين، وتسابقت على الدخول في أبوابه أقدام الباحثين من المحققين، وغدا ملجأ للنظار يأوون إليه، ومفزعًا للهاربين من رق التقليد يعولون عليه، وكان كثيرًا ما يتردد الناظرون في صحة بعض دلائله، ويتشكك الباحثون في الراجح والمرجوح عند تعارض بعض مستندات مسائله ... ".
رحم الله الحافظين ضياء الدين المقدسي ومجد الدين بن تيمية وجزاهم الله خيرًا على هذين الكتابين القيمين.
__________
(1) "نيل الأوطار" (1/ 2).

(مقدمة/176)