السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار

كتاب الطهارة
باب النجاسات
...
[ باب النجاسات
هي عشر: ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل أو جلال قبل الاستحالة والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما والكلب والخنزير والكافر وبائن حي ذي دم حلته حياة غالبا والميتة إلا السمك وما لا دم له وما لا تحله الحياة من غير نجس الذات وهذه مغلظة.
وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح وهذه مخففة إلا من نجس الذات وسبيلي ما لا يؤكل.
وفي ماء المكوة والجرح الطري خلاف وما كره أكله كره بوله كالأرنب].

(1/23)


قوله: "ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل"
أقول: حق استصحاب البراءة الأصلية وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك وإن عجز عنه أو جاء بما لا تقوم به الحجة فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة.
وبهذا تعرف أن الاستدلال بمفهوم حديث جابر والبراء بلفظ: "لا بأس ببول ما أكل لحمه" على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه لا تقوم به الحجة فإن في إسناد حديث جابر عمرو بن الحصين العقبلي قال أبو حاتم ذاهب الحديث ليس بشيء وقال أبو زرعة واهي الحديث وقال الأزدي ضعيف جدا يتكلمون فيه وقال الدارقطني متروك.
وفي إسناده أيضا يحيى بن العلاء أبو عمرو البجلي الرازي قال أحمد كذاب يضع الحديث وقال يحيى ليس بثقة وقال ابن عدي أحاديثه موضوعات.
وأما حديث البراء ففي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك الحديث عند جميع أهل النقل وقال ابن حزم في المحلي خبر باطل موضوع.
على أنه قد اختلف على سوار فيه فرواه الدارقطني عنه عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء مرفوعا بلفظ: "ما أكل لحمه فلا بأس بسؤره".
فهو بهذا اللفظ لا يدل على محل النزاع وتعرف أيضا انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة الأبوال والأزبال على العموم لأن غاية ما عولوا عليه حديث: "إنه كان لا يستنزه من بوله" [البخاري "216‘ 218، 1361، 1378، 6052"، مسلم "111/292"، أبو دأود "20"، النسائي "31"، الترمذي "70"، ابن ماجة "347"، أحمد "1/225"]، وحديث "اسنتزهوا من البول".
والأول في الصحيح والثاني صححه ابن خزيمة.
وما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا بلفظ: "اتقوا البول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون.
قالوا والبول في هذه الأحاديث عام ويجاب عنه بأنه مخصص على تقدير العموم ومقيد على تقدير الإطلاق بما ثبت في الصحيح بلفظ "من بوله".
ثم هذا الدليل هو أخص من الدعوى فإنه في البول لا في الزبل.
وبالجملة فكل ما استدل به القائلون بطهارة ما خرج من سبيلي ما يؤكل لحمه يدل على الأصل الذي ذكرناه ولا ينفي طهارة ما خرج من سبيلي غير المأكول.
وتعرف أيضا عدم انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة مني الآدمي فإن حديث "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني" لا تقوم به الحجة أصلا لبلوغه في الضعف إلي حد لا يصلح معه للاحتجاج به وكذا حديث أنه صلى الله عليه وسلم "كان يغسل ثوبه من المني" [البخاري "229"، مسلم "108/286"]. ليس فيه أن ذلك لأجل كونه نجسا فإن مجرد الاستقذار بل مجرد درن الثوب مما يكون سببا لغسله وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم وغيره أنها كانت تفرك

(1/24)


المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله ولم وهو يصلي ولو كان نجسا لنزل عليه الوحي بذلك كما نزل عليه الوحي بنجاسة النعال الذي صلى فيه.
وأما المذى والودى فقد قام الدليل الصحيح على غسلهما فأفاد ذلك بنجاستهما ولكنه أخرج أبو دأوود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وقال الترمذي حسن صحيح عن سهل ابن حنيف قال كنت ألقي من المذى شدة وكنت أكثر الاغتسال منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "إنما يجزيك من ذلك الوضوء" قلت يا رسول الله فكيف بما يصيب ثوبي منه قال: "يكفيك بأن تأخذ كفا من ماء فتنضخ بها ثوبك حيث ترى أنه أصابه".
فدل هذا الحديث على أن مجرد النضخ يكفي في رفع نجاسة المذى ولا يصح أن يقال هنا ما قيل في المني إن سبب غسله كونه مستقذرا لأن مجرد النضخ لا يزيل عين المذى كما يزيله الغسل فظهر بهذا أن نضخه واجب وأنه نجس خفف تطهيره.
قوله: "أو جلال قبل الاستحالة".
أقول: لم يرد دليل يدل على نجاسة بول الجلالة ورجيعها بل الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم هو النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها حتى تحبس كما أخرجه أصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عباس وهو حديث صحيح.
والنهي عن أكل لحمها وشرب لبنها لا يستلزم نجاسة رجيعها وبولها ولا يصح إلحاق ذلك بالقياس على الأكل والشرب لأن الحكم في الأصل تحريم الأكل والشرب وفي الفرع النجاسة وهما مختلفان وليس القياس إلا إثبات مثل حكم الأصل في الفرع.
نعم إن خرج ما جلته بعينه فله حكمه الأصلي لبقاء العين وإن خرج بعد استحالة تلك العين إلي صفة أخرى حتى لم يبق لون ولا ريح ولا طعم فلا وجه للحكم بالنجاسة لا من نص ولا من قياس ولا من رأي صحيح.
قوله: "والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما".
أقول: ليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسك به أما الآية وهو قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90" فليس المراد بالرجس هنا النجس بل الحرام كما يفيده السياق وهكذا في قوله تعالي: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، أي حرام.
وقد أنكر بعض أهل العلم ورود لفظ الرجس بمعنى النجس وجعل ما ورد منه مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" [البخاري"156"]. والركس الرجس مجازا على أن في الآية الأولى ما يمنع من حملها على أن المراد بالرجس النجس وذلك اقتران الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام فإنها طاهرة بالإجماع.
وأما الاستدلال على نجاسة الخمر بحديث أبي ثعلبة الخشنى عند أبي دأود والترمذي

(1/25)


والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برحض آنية أهل الكتاب لما قال له إنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها لحم الخنزير فإن المراد بأمره صلى الله عليه وسلم بالغسل أن يزيلوا منها أثر ما يحرم أكله وشربه ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة كما عرفت.
ولفظ الحديث "إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا"
وفي لفظ الترمذي "أنقوها غسلا وأطبخوا فيها" [الترمذي "1857"].
فهذا يدلك على أن الكلام في الأكل والشرب فيها والطبخ لما يطبخونه فيها تحذير من اختلاط مأكولهم ومشروبهم بمأكول أهل الكتاب ومشروبهم للقطع بتحريم الخمر والخنزير ومما يؤيد ما ذكرناه ما أخرجه أحمد وأبو دأود عن جابر قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم.
وأخرج أحمد عن أنس أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلي خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه. [أحمد "3/210 – 211"].
قوله: "والكلب"
أقول: استدلوا على ذلك بحديث "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" [مسلم "280"، أحمد "4/86"، أبو دأود "74"، النسائي "1/177"، ابن ماجة "365"] الحديث. وهذا حكم مختص بولوغه فقط وليس فيه ما يدل على نجاسة ذاته كلها لحما وعظما ودما وشعرا وعرقا وإلحاق هذه بالقياس على الولوغ بعيد جدا ولا سيما مع حديث ابن عمر عند أبي دأود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي بلفظ كانت الكلاب تبول في المسجد وتقبل وتدبر زمان رسول الله فلم يكونوا يرشون شيئا وأخرجه البخاري بدون لفظ تبول ولكن ذكره الأصيلي في رواية إبراهيم بن معقل عن البخاري بزيادة لفظ تبول وهذا مما يقوي الاقتصار على إفادة حديث الولوغ وذلك لحكمة للشارع لا نعقلها والواجب علينا العمل بما دلت عليه النصوص وإن لم نعقل الحكمة التي وردت لها.
ومما يدل على ما ذكرناه إيجاب التسبيع والتتريب فإنه مخالف لما ورد في غسل سائر النجاسات ومما يؤيد ما ذكرناه من الاختصاص لحكمة لا نعقلها.
قوله: "والخنزير".
أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: {أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ويجاب عنه بما قدمنا من أن المراد بالرجس هنا الحرام كما يفيده سياق الآية والمقصود منها فإنها وردت فيما يحرم أكله لا فيما هو نجس فإن الله سبحانه قال: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. أي حرام. ولا تلازم بين التحريم والنجاسة فقد يكون الشيء حرأما وهو طاهر كما في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النسائ: 23]، ونحو ذلك واستدلوا أيضا بحديث أبي ثعلبة الخشني

(1/26)


المتقدم وفيه الآمر بغسل آنية أهل الكتاب معللا ذلك بأنهم يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر وقد قدمنا أن إيجاب الغسل لإزالة ما يحرم أكله وشربه لا لكونه نجسا فإن ذلك حكم آخر غير مقصود للشارع وعلى تقدير الاحتمال تنزلا فلا ينتهض المحتمل للاحتجاج به على محل النزاع.
قوله: "والكافر"
أقول: استدلوا بقوله تعالي: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وهذا الدليل فيه التصريح بأنهم نجس ولكنه ورد ما يدل على أن هذه النجاسة ليست النجاسة الحسية بل النجاسة الحكمية ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أنزل ثقيف المسجد قيل يا رسول الله أتنزلهم المسجد وهم أنجاس فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاس القوم على أنفسهم". ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يشربوا وتوضؤا من مزادة المشركة.
ومن ذلك أكله صلى الله عليه وسلم لطعام المشركين وتسويغه لوطء المشركات المسبيات قبل إسلامهن وغير ذلك.
وورد في أهل الكتاب خاصة {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ونزل القرآن بحل نكاح نسائهم.
وأما الاستدلال بحديث أبي ثعلبة من أمره صلى الله عليه وسلم بغسل آنيتهم فقد تقدم أن ذلك لأجل أنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها الخنازير وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم وقد أخرج أحمد وابو دأود من حديث جابر قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك عليهم.
قوله: "وبائن من حي ذي دم حلته حياة غالبا".
أقول: استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة". أخرجه أحمد وأبوا دأود والترمذي [أحمد "5/218"، أبودأود "2858"، الترمذي "1480"]، والدارمي والحاكم من حديث أبي واقد مرفوعا وأخرجه ابن ماجه والبزار والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر وأخرجه الطبراني من طرق أخرى عن ابن عمر وفيها عاصم بن عمر وهو ضعيف وأخرجه ابن ماجه والطبراني وابن عدي من حديث تميم الداري وإسناده ضعيف وأخرجه الحاكم عن أبي سعيد قال في البدر المنير هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الأحكام وهو مروي من طرق أربع انتهى.
أقول: وبمجموعها ينتهض الحديث للاحتجاج ولكن غاية ما فيه أن ذلك البائن من الحي هو ميتة أي محرم أكله وأما أنه نجس فليس في الحديث ما يدل على ذلك وسيأتي الحديث على نجاسة الميتة.
واحترز بقوله: "غالبا" عما أبين من السمك والجراد لحديث "أحل لكم ميتتان السمك والجراد" [أحمد "2/97"، ابن ماجة "3314"]، وإذا حلت ميتتهما بجميع أجزائها حل ميتة بعضهما.

(1/27)


قوله: "والميتة"
أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] ويجاب عنه بأن التحريم لا يستلزم النجاسة كما تقدم واستدلوا أيضا بقوله: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 45] وقد قدمنا أن سياق الآية والمقصود منها هو تحريم الأكل وأن الرجس هنا ليس المراد به النجس بل الخبيث الذي لا يحل أكله واستدلوا أيضا بحديث عبد الله بن عكيم عند أحمد وأهل السنن والبخاري في التاريخ والدارقطني والبيهقي وابن حبان مرفوعا: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" [أحمد "4/310، 311"، أبو دأود "4127‘ 4128"، الترمذي "1729"، النسائي "7/174"، ابن ماجة "3623"]، وهو حديث حسن ولم يعل بما يوجب سقوط الاحتجاج به وله شاهد من حديث جابر قال الشيخ الموفق إسناده حسن وشاهد آخر من حديث ابن عمر وفي إسناده عدي بن الفضل وهو ضعيف.
والمنع من الانتفاع بشيء من إهاب الميتة وعصبها يدل على نجاستها ولا ينافي ذلك تخصيص أحاديث طهارة الإهاب بالدبغ فإنه يبني العام على الخاص وهي أحاديث صحيحة وهي تقوي نجاسة مطلق الميتة لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" أبو دأود "2143"، الترمذي "1728"، النسائي "7/173"، ابن ماجة "3609"]، يفيد أنه كان نجسا.
وأما المناقشة من الجلال وغيره بأن نجس العين لا يطهر بالغسل ولا بالدباغ وإنما يطهر بذلك المتنجس والمدعي أن الميتة نجس عين لا متنجسة فهي مناقشة فروعية لم تستند إلا إلي ما قد تقرر في أذهاب بعض المتفقهة من ذلك.
وأي مانع من ذهاب النجاسة العينية بالغسل والدبغ وقد قال صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة: "هلا انتفعتم بإهابها" فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة فقال: "أليس في القرظ ما يطهرها" أو قال: "يطهرها الماء والقرظ" [أبو دأود "4126"، النسائي "7/174 – 175"، أحمد "6/334"]، الحديث.
ومما يؤيد نجاسة الميتة قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا" [البخاري "3/125"]، هو حديث صحيح فإنه يفيد أن ميتة غير المسلم تنجس.
قوله: "إلا السمك وما لا دم له".
أقول: أما السمك فلحديث "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" [أبو دأود "83"، أحمد "2/237، 361"، الترمذي "69"، النسائي "1/50"، ابن ماجة 386، 3246"]، وهو حديث صالح للاحتجاج به وله طرق كثيرة قد صحح الحفاظ بعضها وقد استوفينا الكلام عليه في شرحنا للمنتقي.
ولو كانت ميتة السمك نجسة لكانت حرأما لا حلالا.
ومثل هذا الحديث حديث: "أحل لكم ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وله طرق في أسانيدها مقال وقد روى موقوفا على ابن عمر بإسناد صحيح.
وبالجملة فلا خلاف في أن ميتة السمك حلال طاهرة.

(1/28)


وأما ما لا دم له فقد استدلوا على ذلك بحديث "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء" [البخاري "3142، 5335"، أبو دأود "3844"، ابن ماجة "3505"، أحمد "2/229 – 230"]، وهو في اصحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي من حديث أبي سعيد وأخرجه الدرامي من حديث أنس وأخرجه أيضا البزاز والطبراني في الأوسط من حديثه.
ولكن لا يخفاك أنه لا ملازمة بين جواز شرب ما وقع فيه الذباب وبين طهارته فقد يكون ذلك لعدم الاستقذار وقد يكون لتعذر الاحتراز من وقوعه في الأشربة لكثرة وجوده فالظاهر أن له حكم سائر الحيوانات في ميتته ولا ينافي ذلك تخصيصه بالتخفيف في شرب ما وقع فيه فإن ذلك تخصيص لما ورد في عموم الميتة على تقدير ورود أنه لا يحل شرب ما وقعت فيه الميتة على العموم ولكنه لم يرد ذلك إلا خصوصا لا عموما.
قوله: "وما لا تحله الحياة"
أقول: إذا تقرر بالدليل نجاسة مجموع الميتة فتخصيص بعض ما هو منها والحكم عليه بالطهارة محتاج إلي دليل ومجرد كونها لا تحله الحياة لا يصلح لذلك لأن الحكم بنجاسة الميتة يشمله وقد استدل في ضوء النهار على طهارته بالاتفاق فإن صح ذلك كان دليلا مخصصا عند من يرى حجية الإجماع ولكن الخلاف في المسألة معروف.
وممن قال بنجاسة ما لا تحله الحياة المرتضى وأبو العباس.
قوله: "وهذه مغلظة"
أقول: الوصف لبعض النجاسات بالتغليظ ولبعضها بالتخفيف هو مجرد اصطلاح لا يرجع إلي دليل والواجب اتباع الدليل في إزالة عين النجاسة فما ورد فيه الغسل حتى لا يبقى منه لون ولا ريح ولا طعم كان ذلك هو تطهيره وما ورد فيه الصب أو الرش أو الحت أو المسح على الأرض أو مجرد المشي في أرض طاهرة كان ذلك هو تطهيره.
وقد ثبت في السنة أن النعل الذي يصيبه القذر يطهر بالمسح وهو من المغلظة اصطلاحا وكذلك ورد في الثوب إذا أصابه القذر عند المشي على أرض قذرة أنه يطهره المرور على أرض طاهرة.
والحاصل أن الشارع الذي عرفنا كيفية تطهير النجاسات هو الذي عرفنا كون هذه العين نجسة أو متنجسة والواجب علينا اتباع قوله: وامتثال أمره وطرح الشكوك الشيطانية والتوهمات الفاسدة فإن ذلك مع كونه مخالفة للشريعة السمحة السهلة هو أيضا غلو في الدين وقد ورد النهي عنه وهو أيضا إفراط ودين الله إنما يؤخذ عن الله وعن رسوله.
فليكن هذا منك على ذكر فإنه يخلصك من أمور شديدة وقعت في كتب الفروع.
قوله: "وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة".
أقول: قد عرفناك في أول كتاب الطهارة أن الأصل في جميع الأشياء هو الطهارة وأنه لا

(1/29)


ينقل عن ذلك إلا ناقل صحيح صالح للاحتجاج به 1 غير معارض بما يرجح عليه أو يسأويه فإن وجدنا ذلك فبها ونعمت وإن لم نجد ذلك كذلك وجب علينا الوقوف في موقف المنع ونقول لمدعي النجاسة هذه الدعوى تتضمن أن الله سبحانه أوجب على عباده واجبا هو غسل هذه العين التي تزعم أنها نجسة وأنه يمنع وجودها صحة الصلاة بها فهات الدليل على ذلك.
فإن قال حديث عمار: "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني".
قلنا هذا لم يثبت من وجه صحيح ولا حسن ولا بلغ إلي أدنى درجة من الدرجات الموجبة للاحتجاج به والعمل عليه فكيف يثبت به هذا الحكم الذي تعم به البلوى وهو لا يصلح لإثبات أخف حكم على فرد من أفراد العباد؟.
فإن قال: قد ورد أنه ينقض الوضوء كما سيأتي.
قلنا: فهل ورد أنه لا ينقض الوضوء إلا ما هو نجس؟.
فإن قلت: نعم فأنت لا تجد إليه سبيلا وإن قلت قد قال بعض أهل الفروع إن النقض فرع التنجيس.
قلنا فهل هذا القول من هذا البعض حجة على أحد من عباد الله؟.
فإن قلت نعم فقد جئت بما لم يقل به أحد من أهل الإسلام وإن قلت لا قلنا فما لك والاحتجاج بما لم يحتج به أحد على أحد؟.
قوله: "ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية"
أقول: الكلام على هذا كالكلام على الذي قبله وليس في الحكم بنجاسة اللبن على العموم ولا على الخصوص أثارة من علم ولا هو مما تستقذره الطباع لا من المأكول ولا من غيره ولا قام إجماع على نجاسته.
وبالجملة فالتسرع إلي تشريع الأحكام وإلزام عباد الله بها هو من التقول على الله بما لم يقل وقد ورد أنه من أشد الناس عذابا.
وقد قدمنا الكلام على تلك الأشياء التي زعموا أنها نجس ذات فارجع إليه.
قوله: "والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح" إلي آخر الفصل:
أقول: لم يصح في كون كل الدم نجسا شيء من السنة وأما الاستدلال بما في الكتاب العزيز من قوله سبحانه: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، فقد قدمنا أن الآية مسوقة للتحريم كما هو مصرح به فيها والحكم بالرجسية هو باعتبار التحريم والحرام رجس ولا يكون بمعنى النجس إلا بدليل كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" فإن الركس والرجس معناهما واحد.
ومن زعم بأن الرجس بمعنى النجس لغة متمسكا بما في الصحاح وغيرها من كتب اللغة

(1/30)


أن الرجس القذر فقد استدل بما هو أعم من المتنازع فيه فإن القذر يشمل كل ما يستقذر والحرام مستقذر شرعا والأعيان الطاهرة إذا كانت منتنة أو متغيرة مستقذرة طبعا.
وعلى كل حال فالآية لم تسق لبيان الطهارة والنجاسة بل لبيان ما يحل ويحرم {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145].
وإذا تقرر لك هذا وعلمت به أن الأصل طهارة الدم لعدم وجود دليل ناهض يدل على نجاسته فاعلم أنه قد انتهض الدليل على نجاسة دم الحيض لا لقوله سبحانه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222]، فإن ذلك ليس بلازم للنجاسة فليس كل أذى نجس بل بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر بغسله وبقرصه وبحته وبحكه وتشديده في ذلك بما يفيد أن يكون إزالته على وجه لا يبقى له اثر فأفاد ذلك أنه نجس فيكون هذا النوع من أنواع الدم نجسا ولا يصح قياس غيره عليه لأنه من قياس المخفف على المغلظ.
وبهذا تعرف أنه لا حاجة إلي الكلام عن استثناء ما استثناه المصنف رحمه الله من تلك الدماء.
[ فصل: والمتنجس أما متعذر الغسل فرجس وأما ممكنه فتطهير الخفية بالماء ثلاثا ولو صقيلا والمرئية حتى تزول واثنتين بعدها أو بعد استعمال الحاد المعتاد.
وأما شاقة فالبهائم ونحوها والأطفال بالجفاف ما لم تبق عين.
والأفواه بالريق ليلة والأجواف بالإستحالة والآبار بالنضوب وبنزح الكثير حتى يزول تغيره إن كان وإلا فطاهر في الأصح والقليل إلي القرار والملتبس إليه أو إلي أن يغلب الماء النازح مع زوال التغير فيهما فتطهر الجوانب المداخلة وما صاده الماء من الأرشية والأرض الرخوة كالبئر].
قوله: "فصل والمتنجس أما متعذر الغسل فرجس".
أقول: كان الأولى أن يقال فنجس لأن الرجس يطلق على معاني الحرام والقذر والعذاب والنجس وليس مقصود المصنف هنا إلا النجس والمراد من الكلام أن ما تعذر تطهيره فحكمه حكم نجس العين في تحريمه وعدم جواز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الفأرة: "وإن كان مائعا فلا تقربوه" [البخاري "5538"، أحمد "6/329"، أبو دأود "3841"، الترمذي 1798"، النسائي "7/178"]، فإن النهي عن قربانه يدل على عدم جواز الانتفاع به بوجه من وجوه الانتفاع.
وغير الفأرة مما هو في حكمها من الحيوانات مثلها وغير السمن من المائعات مما لا

(1/31)


يمكن تطهيره مثله ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر مرفوعا اطرحوها وما حولها وكلوه إن كان جامدا قالوا يا رسول الله فإن كان مائعا قال انتفعوا به.
وفي إسناده عبد الجبار بن عمر قال ابن سعد ثقة وضعفه جماعة وهو لا يصلح لمعارضة حديث وإن كان مائعا فلا تقربوه فإنه أرجح من هذا الحديث وجانب الحظر مقدم على جانب الإباحة.
قوله: "وأما ممكنة فتطهير الخفية بالماء ثلاثا".
أقول: أعلم أن التعبد ورد بإزالة النجاسة ورفع أثرها ومحو عينها أما على جهة الاستقصاء وعدم بقاء شيء من العين أو اللون كما ورد في دم الحيض من حديث ام قيس بنت محصن الثابت عند أحمد وأبي دأود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: "حكيه واغسليه بماء وسدر" وهو حديث صحيح وكما في حديث التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب فإنه قد يولغ في محو أثر اللعاب هذه المبالغة ودع عنك الاختلاف في العلة التي وقع ذلك لأجلها فإنه أمر وراء ما تعبدنا به وقد تعبدنا بأن نصنع هذا الصنع في دم الحيض ولعاب الكلب سواء عقلنا العلة وفهمناها أم لا فإن هذا هو الواجب علينا بل يجب علينا اتباع ما أمر به الشارع وإن كان مبنيا على الشك والاحتياط كما في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". [مسلم "87/278"، الترمذي "24"، النسائي "1، 161" أحمد "2/241، 382، 265، 284، 455"، ابن ماجة "393"].
فإذا قال المتفقه الذي لم يتعقل الحجة كما ينبغي إن الأصل الطهارة وعدم وقوع النجاسة في اليد بمجرد النوم قلنا هذا حكم شرعه لنا من شرع لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج فدع عنك الرجوع إلي الأصل فإن ذلك مع ورود الدليل لا يغني من الحق شيئا. نعم لو لم يرد الدليل لكان الرجوع إلي الأصل هو الحكم الذي توجبه البراءة الأصلية حتى ينقل عنها ناقل صحيح.
وأما لا على جهة الاستقصاء وذلك كحديث صب الذنوب من الماء على بول من بال في المسجد وحديث الرش من بول الغلام وهو في الصحيحين وغيرهما وكما في حديث النعل إذا رأى به قذرا ثم الأمر بالصلاة فيه وهو حديث صحيح وأحاديث إن الأرض التي فيها القذر يطهرها المروربأرض لا قذر فيها وحديث رش المذي بكف من ماء وحديث ابن عمر عند أبي دأود مرفوعا في غسل الثوب من البول مرة واحدة وفي إسناده عبد الله ابن عصيم والرأوي عنه ايوب ابن جابر أبو سليمان اليماني وقد تكلم في كل واحد منهما.
ونحو ذلك مما ورد في الحت أو الحك أو المسح أو القرص أو الإماطة وكل ذلك شريعة واردة عن الصادق المصدوق لا تحل المخالفة لشيء مما ورد عنه بل الواجب علينا الاقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم في كون هذا الشيء طاهرا وهذا الشيء نجسا والاقتداء بما ورد عنه في كيفية رفع

(1/32)


يمكن تطهيره مثله ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر مرفوعا اطرحوها وما حولها وكلوه إن كان جامدا قالوا يا رسول الله فإن كان مائعا قال انتفعوا به.
وفي إسناده عبد الجبار بن عمر قال ابن سعد ثقة وضعفه جماعة وهو لا يصلح لمعارضة حديث وإن كان مائعا فلا تقربوه فإنه أرجح من هذا الحديث وجانب الحظر مقدم على جانب الإباحة.
قوله: "وأما ممكنة فتطهير الخفية بالماء ثلاثا".
أقول: أعلم أن التعبد ورد بإزالة النجاسة ورفع أثرها ومحو عينها أما على جهة الاستقصاء وعدم بقاء شيء من العين أو اللون كما ورد في دم الحيض من حديث ام قيس بنت محصن الثابت عند أحمد وأبي دأود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: "حكيه واغسليه بماء وسدر" وهو حديث صحيح وكما في حديث التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب فإنه قد يولغ في محو أثر اللعاب هذه المبالغة ودع عنك الاختلاف في العلة التي وقع ذلك لأجلها فإنه أمر وراء ما تعبدنا به وقد تعبدنا بأن نصنع هذا الصنع في دم الحيض ولعاب الكلب سواء عقلنا العلة وفهمناها أم لا فإن هذا هو الواجب علينا بل يجب علينا اتباع ما أمر به الشارع وإن كان مبنيا على الشك والاحتياط كما في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". [مسلم "87/278"، الترمذي "24"، النسائي "1، 161" أحمد "2/241، 382، 265، 284، 455"، ابن ماجة "393"].
فإذا قال المتفقه الذي لم يتعقل الحجة كما ينبغي إن الأصل الطهارة وعدم وقوع النجاسة في اليد بمجرد النوم قلنا هذا حكم شرعه لنا من شرع لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج فدع عنك الرجوع إلي الأصل فإن ذلك مع ورود الدليل لا يغني من الحق شيئا. نعم لو لم يرد الدليل لكان الرجوع إلي الأصل هو الحكم الذي توجبه البراءة الأصلية حتى ينقل عنها ناقل صحيح.
وأما لا على جهة الاستقصاء وذلك كحديث صب الذنوب من الماء على بول من بال في المسجد وحديث الرش من بول الغلام وهو في الصحيحين وغيرهما وكما في حديث النعل إذا رأى به قذرا ثم الأمر بالصلاة فيه وهو حديث صحيح وأحاديث إن الأرض التي فيها القذر يطهرها المروربأرض لا قذر فيها وحديث رش المذي بكف من ماء وحديث ابن عمر عند أبي دأود مرفوعا في غسل الثوب من البول مرة واحدة وفي إسناده عبد الله ابن عصيم والرأوي عنه ايوب ابن جابر أبو سليمان اليماني وقد تكلم في كل واحد منهما.
ونحو ذلك مما ورد في الحت أو الحك أو المسح أو القرص أو الإماطة وكل ذلك شريعة واردة عن الصادق المصدوق لا تحل المخالفة لشيء مما ورد عنه بل الواجب علينا الاقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم في كون هذا الشيء طاهرا وهذا الشيء نجسا والاقتداء بما ورد عنه في كيفية رفع

(1/33)


الصحابة في عصر النبوة وبعده أنهم تعرضوا لتطهير ذلك مما يقع فيه من النجاسة أو تحرزوا من المباشرة لذلك.
وقد كان الصبيان يتصلون بهم وهم في صلاتهم كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل الصبية على ظهره وهو يصلي فإذا سجد وضعها وكذلك كان يحمل الحسن والحسين حال الصلاة وهما في سن الصغر.
وبالجملة فالشريعة سمحة سهلة وليس لنا أن نفتح على أنفسنا ابوابا قد سكت عنها الشارع فإن ذلك عفو كما ثبت ذلك بالشرع.
ومن هذا التعرض لطهارة الأفواه والأجواف فإن ذلك من التنطع والغلو في دين الله والتقول على الشرع بما ليس فيه.
نعم إن أراد بطهارة الأجواف طهارة الجلالة فقد ثبت ذلك في الشريعة أخرج أحمد وأهل السنن والحاكم وابن حيان من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب لبنها حتى تحبس.
قوله: "والآبار بالنضوب وبنزع الكثير" الخ.
أقول: أرض الابار لها حكم سائر الأرض في طهارتها ونجاستها فلا وجه للتنصيص عليها فمن قال إنها تطهر بالنضوب قال به في أرض البئر ومن قال لا بد من صب الماء عليها قال به في أرض البئر ومن فرق بين الأرض الرخوة والصلبة كما سيأتي قال به في أرض البئر.
وإن كان التنصيص على أرض البئر لكونه يتعذر تطهيرها ويشق فإن كان ذلك لأجل ما فيها من الماء فطهارة الماء بكونه مستبحرا أو غير متغير اللون والريح والطعم يوجب طهارة أرض البئر وإن كان التعذر لغير ذلك فقد تقدم حكم متعذر الغسل.
وأما قوله: "وبنزح الكثير حتى يزول تغيره" فإن كان كلأما مستأنفا في طهارة ما ينجس من ماء الآبار فكان الأولى أن يأتي بعباة مشعرة بذلك فإنه لا يفهم من عبارته إلا العطف على النضوب.
ثم اعلم أنه لا وجه لقوله بنزح الكثير وكان حذف لفظ الكثير أولى لأن الماء لا ينجس إلا إذا وقع فيه ما يغير ريحه أو لونه أو طعمه كما في الحديث الوارد من طرق بلفظ: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء" أخرجه أحمد وأهل السنن وغيرهم من حديث أبي سعيد وأخرجه غيرهم من حديث غيره وقد صححه جماعة من الأئمة ومجموع ما ورد في ذلك صالح للاحتجاج به ولا شك ولا شبهة ولا يقدح في مجموع الطرق ما قيل في بعضها من الكلام الذي لا يوجب سقوط الاحتجاج.
وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وتكلمنا على كل طريق على انفرادها وذكرنا ما قاله الحفاظ في ذلك.

(1/34)


وقد زيد في بعض الطرق زيادة بلفظ: "إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه" وهذه الزيادة وإن كان قد ضعفها كثير من الحفاظ لكنه قد وقع الاجماع على العمل بما دلت عليه فصارت من المتلقي بالقبول.
وإذا تقرر لك هذا فالماء الذي في البئر ونحوها إن لم يتغير بوقوع النجاسة فيه فهو طاهر لا يحتاج إلي نزح أصلا وإن كان قد تغير لبعض أوصافه أو كلها فالواجب النزح حتى يزول تغيره سواء كان حصول زوال التغير بنزح القليل أو الكثير بل لو زال التغير بغير نزح لكان ذلك موجبا لطهارته لأنه عند ذلك يصير طهورا ويعود عليه الحكم الذي كان له قبل تغيره وسواء كان الماء الذي في البئر قليلا أو كثيرا فإنه إذا زال تغيره صار طاهرا.
وأما الحكم بأنه ينزح القليل والملتبس إلي القرار أو إلي أن يغلب الماء النازح فليس ذلك إلا مجرد رأي ليس عليه اثارة من علم.
[ فصل ويطهر النجس والمتنجس به بالاستحالة إلا ما يحكم بطهارته كالخمر خلا والمياه القليلة المتنجسة باجتماعها حتى كثرت وزال تغيرها إن كان قبل وبالمكاثرة وهي ورود أربعة أضعافها عليها أو ورودها عليها فيصير مجأورا ثالثا إن زال التغير وإلا فأول وبجريها حال المجأورة وفي الراكد الفائض وجهان].
قوله: فصل "ويطهر النجس والمتنجس به بالاستحالة إلي ما يحكم بطهارته كالخمر خلا".
أقول: إذا استحال ما هو محكوم بنجاسته إلي شيء غير الشيء الذي كان محكوما عليه بالنجاسة كالعذرة تستحيل ترابا أو الخمر يستحيل خلا فقد ذهب ما كان محكوما بنجاسته ولم يبق الاسم الذي كان محكوما عليه بالنجاسة ولا الصفة التي وقع الحكم لأجلها وصار كأنه شيء آخر وله حكم آخر.
وبهذا تعرف أن الحق قول من قال بان الاستحالة مطهرة ولا حكم لما وقع من المناقشة في ذلك كما في ضوء النهار وغيره.
أما حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب لبنها فذلك يقيد التحريم للأكل والشرب ولا يعترض به على كون الاستحالة مطهرة بأن يقال إن النجاسة التي أكلتها الجلالة إذا صارت لبنا فقد استحالت فكيف وقع النهي عن شرب اللبن لأنا نقول هذا حكم وارد في تحريم الشرب للبن الجلالة لا في نجاسة لبنها ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة فليست النجاسة فرع التحريم كما يقوله بعض أهل الفروع.
قوله: "والمياه القليلة المتنجسة باجتماعها" الخ.

(1/35)


أقول: قد قدمنا لك أن الماء طاهر مطهر لا ينجسه إلا ما غير بعض أوصافه من غير فرق بين قليل وكثير.
فهذه المياه القليلة لا تنجس بمجرد وقوع النجاسة فيها إلا أن يتغير بعض أوصافها على ما هو المذهب الحق والقول الراجح فإن تغيرت حال قلتها صارت متنجسة فإن زال ذلك التغير عند اجتماعها صارت طاهرة بزوال التغير وسواء كانت حال اجتماعها مستبحرة أم لا فليس المقصود الذي هو مناط الطهارة إلا زوال التغير فاحفظ هذا فإن أردت مزيد التحقيق فارجع إلي ما حررناه في سائر مصنفاتنا فإنك تقف فيها على ما لا تحتاج إلي غيره.
وأما تحديد المكاثرة لورود أربعة اضعافها عليها أو ورودها عليها فليس ذلك إلا مجرد رأي بحت ليس عليه إثارة من علم.
قوله: "ويجريها حال المجأورة"
أقول: لم يثبت ما يدل على أن جري الماء يوجب طهارته بل إن كان مع جريه قد تغير بعض أوصافه فهو متنجس لبقاء ما هو سبب النجاسة كما تقدم.
وأما النهي عن البول في الماء الدائم فليس تخصيص الدائم إلا لكون تأثير ما وقع فيه من النجاسات أكثر من تأثيرها فيما ليس بدائم.
وهذا الكلام في الراكد أسفله الفائض أعلاه الاعتبار بزوال التغير ولا اعتبار بفيض أعلاه كما أنه لا اعتبار بمجرد الجري مع بقاء التغير.

(1/36)


[ باب المياه
فصل إنما ينجس منها مجأور النجاسة وما غيرته مطلقا أو وقعت فيه قليلا وهو ما ظن استعمالها باستعماله أو التبس أو متغيرا بطاهر وإن كثر حتى يصلح وما عدا هذه فطاهر].
قوله: باب المياه فصل "إنما ينجس منها مجأور النجاسة"
أقول: هذا رأي بحت ليس عليه أثارة من علم وما ورد في حديث الفأرة إذا وقعت في السمن فإنها تلقى وما حولها إذا كان جامدا فليس ذلك لأجل النجاسة بل لأجل الاستخباث وعدم جواز الأكل.
ثم هذا الحكم فيما كان جامد إلا فيما كان مائعا وقد عرفناك غير مرة أنه لا ينجس من المياه إلا ما غيرته النجاسة بنص "خلق الماء طهورا إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه".

(1/36)


وهذه الزيادة قد اتفق الحفاظ على ضعفها وإن وردت من طريق ولكنهم اتفقوا على العمل بها كما نقل ذلك غير واحد من الأئمة والفقهاء وكان العمل بها متعينا من الإجماع على العمل بها لأنها تصير بذلك من المتلقى بالقبول وما كان كذلك فهو مما يجب العمل به كما تقرر في الأصول.
فالحاصل أنه لا اعتبار بالمجأورة ولا هي مما يوجب الحكم بالنجاسة إلا إذا غيرت فما تغيرت أحد أوصافه كان نجسا سواء كان قريبا من النجاسة أو بعيدا.
قوله: "أووقعت فيه قليلا"
أقول: ليس مجرد وقوع النجاسة في القليل مقتضيا لصيرورته نجسا ولا ثبت ما يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام بل المعتبر أن تؤثر فيه النجاسة تغيرا فإن حصل ذلك فقد ضعف عن حمل النجاسة وصار متنجسا وإن لم يحصل ذلك فلا تؤثر النجاسة الواقعة فيه شيئا ويكون حكمه الحكم الذي كان له قبل وقوعها فيه وهو الطهارة فاعرف هذا.
قوله: "وهو ما ظن استعمالها باستعماله"
أقول: إن كان الظن هو ظن العقلاء المتشرعين فهو لا يكون إلا عند تأثير النجاسة في الماء بجرمها أو لونها أو طعمها أو ريحها وهذا لا يخالف ما قررناه بأنه لا ينجس إلا ما غيرته النجاسة.
وإن كان هذا الظن هو ظن أهل الشكوك والوسوسة في الطهارة فلم يقل بذلك أحد من المسلمين أجمعين فلا مخالفة بين هذا القول والقول بأنه لا ينجس من الماء إلا ما غيرته النجاسة.
وأما حديث القلتين فغاية ما فيه أن ما بلغ مقدار القلتين لا يحمل الخبث فكان هذا المقدار لا يؤثر فيه الخبث في غالب الحالات فإن تغير بعض أوصافه كان نجسا بالإجماع الثابت من طرق متعددة.
وبتلك الزيادة التي وقع الإجماع على العمل بها في حديث: "خلق الماء طهورا" فيكون إطلاق حديث القلتين مقيدا بذلك حملا للمطلق على المقيد.
وأما ما كان دون القلتين فلم يقل الشارع إنه يحمل الخبث قطعا وبتا بل مفهوم حديث القلتين يدل على أن ما دونهما قد يحمل الخبث وقد لا يحمله فإذا حمله فلا يكون ذلك إلا بتغير بعض أوصافه فيقيد مفهوم حديث القلتين بحديث التغير المجمع على قبوله والعمل به كما قيد منطوقه بذلك:
وبهذا تعرف أنه لا مخالفة بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة وأن الجمع بينها بما ذكرناه.
وأما الاستدلال بمثل حديث "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك" [النسائي "8/327"]، "واستفت قلبك" [أحمد "4/227 – 228"]، فليس فيهما إلا الإرشاد إلي الورع والتوقف عند الاشتباه وتوقي

(1/37)


المشتبهات وليس ما نحن بصدده من ذلك القبيل لورود الشريعة الواضحة الطاهرة في شأنه وليس في مخالفتها بمجرد الشكوك والوسوسة إلا الإثم على فاعل ذلك.
قوله: "أو متغيرا بطاهر".
أقول: تغير الماء بالطاهر لا تأثير له في أن وقوع النجاسة فيه وهو كذلك يصيره متنجسا ولا ورد ما يدل على هذا لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح فلا يخرج عن كونه طاهرا إلا بتغير بعض أوصافه كما قررنا ذلك في كثير من هذه المسائل المتقدمة نعم إذا تغير بذلك الطاهر حتى خرج عن اسم الماء المطلق بأن يطلق عليه اسم خاص كماء الورد ونحوه فهو طاهر في نفسه غير مطهر كما سيأتي.
[ فصل وإنما يرفع الحدث مباح طاهر لم يشبه مستعمل لقربة مثله فصاعدا فإن التبس الأغلب غلب الأصل ثم الحظر ولا غير بعض أوصافه مما زج إلا مطهر أو سمك متوالد فيه لا دم له أو أصله أو مقره أو ممره.
ويرفع النجس ولو مغصوبا والأصل فيما التبس مغيره الطهارة ويترك ما التبس بغصب أو متنجس إلا أن تزيد آنية الطاهر فيتحرى ويعتبر المخالف الانتهاء قيل ولو عامدا].
قوله: "فصل: وإنما يرفع الحدث مباح طاهر لم يشبه مستعمل"
أقول: أما اشتراط كونه مباحا فلأن ملك الغير الذي لم يأذن الشرع باستعماله يكون مغصوبا وذلك ينافي التقرب به لأن بتلك القربة وهي الوضوء وما يترتب عليه يؤجر عليها الفاعل وغصب مال الغير يعاقب عليه الغاصب له والطاعة والمعصية لا يجتمعان.
وقد يقال إنه يؤجر عليه من وجه ويعاقب عليه من وجه آخر.
ويجاب عن ذلك بان الوجه الذي استحق به الأجر هو استعمال ذلك الماء وبهذا الاستعمال كان استهلاك ما هو ملك للغير.
وعلى كل حال فقد ثبت النهي عن أكل مال الغير واستهلأكله والانتفاع به والنهي يقتضي الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق إذا كان النهي لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه الملازم له لا الخارج عنه.
وأما المنع من التطهر بالماء الذي شيب بمستعمل فلا وجه له إذا لم يخرج بالاستعمال عن الماء المطلق.

(1/38)


والحاصل أن الماء طاهر مطهر فمن ادعى خروجه عن كونه طاهرا أو مطهرا لم يقبل منه ذلك إلا بدليل وهذا الأصل هو مجمع عليه فالرجوع إليه متحتم حتى ينقل عنه ناقل صحيح صالح للاحتجاج به ولا يصلح للاحتجاج ما ورد في أمور خاصة لم يصرح فيها بأن السبب هو الاستعمال كحديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم فإنه لم يرد البيان من الشارع بأن سبب النهي أن يصير مستعملا والمستعمل غير مطهر.
وغاية ما يمكن أن يستخرج منه أن علة النهي هي أنه يفسد الماء بذلك لكونه دائما غير جار ويؤيد ذلك أنه ورد النهي عن البول في الماء الدائم كما ورد النهي عن الاغتسال فيه بل ورد النهي عن الجمع بينهما في حديث واحد فلا يصلح ذلك دليلا بمحل النزاع.
وهكذا حديث "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده"، فإنه لا دلالة فيه على محل النزاع لأن النهي عن إدخال اليد في الإناء والأمر بغسلها قبل ذلك إنما هو لخشية أن تكون قد تلوثت بنجاسة حال النوم.
والكلام هنا إنما هو في المستعمل لقربة لا في تطهير النجاسات.
ولو قدرنا ورود دليل فيه رائحة دلالة لكان غاية ما فيه هو تخصيص ذلك الأصل المصحوب بالبراءة فيجب الاقتصار على محل النص ولكنه لم يرد ما هو بهذه المنزلة قط.
وأما ما ذكره من قوله: "ولا غير بعض أوصافه مما زج" فالتحقيق أن ذلك الممازج إن خرج به اسم الماء المطلق كما يقال ماء ورد ونحوه فليس هذا الماء هو الماء الذي خلقه الله طهورا وإن لم يخرج عن اسم الماء المطلق فهو طهور وإن تغير بعض أوصافه فإن ذلك لا يضره ولا يخرجه عن كونه طهورا ولا فرق بين أن يكون ما تغير به مطهرا أو غير مطهر أو بما هو من حيواناته أو بمفرده أو بممره أو بغير ذلك.
هذا يغنيك عن هذه المسائل التي ذكرها المصنف يرحمه الله وذكرها غيره من المفرعين فإنها مبنية على غير أساس.
قوله: "ويترك ما التبس بغصب أو متنجس".
أقول: هذا صواب فإنه بعد أن يعلم أن أحد المائين متنجس ثم يلتبس بالطاهر أو يعلم أن أحدهما مغصوب ثم يلتبس بالمباح لا يجوز له أن يتطهر بأحدهما قبل أن يرتفع اللبس لأنه متعبد برفع حدثه بما هو صالح للرفع مجزىء للرافع ومع اللبس لم يفعل ما هو مأمور به لجواز أن يتطهر بما يجزىء التطهر به والتحري إذا أمكن به أن يتعين ما يجزىء مما لا يجزىء فهو مقدم على الترك وليس من شرطه زيادة آنية الطاهر بل يجب عليه أن يقدم التحري مطلقا وإلا وجب عليه ترك الجميع وعدل إلي التيمم إذا لم يجد ماء آخر محكوما بطهارته غير ملتبس بنجس أو غصب.
ووما يرشد إلي ما ذكرناه قول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". [البخاري "6858"، مسلم "1337"].

(1/39)


قوله: "ويعتبر المخالف الانتهاء قيل ولو عامدا".
أقول: لا يسقط ما أوجبه الله على العبد أو جعله شرطا لما أوجبه عليه إلا باليقين فإذا انكشف أنه فعل ما لا يجزىء أو ما لا يصلح لتأدية ما هو شرط فالاعتبار بذلك ولا اعتبار بما ظنه مجزئا في الابتداء فانكشف أنه غير مجزئ.
ثم إذا تعمد مثلا الإقدام على ما لا يجزئ فانكشف أنه مجزئ فالاعتبار بذلك الانكشاف ولا ينافي ذلك كونه قد صار عاصيا بالإقدام على ما لا يجزئ فإنه عصى بنفس الاعتقاد وأطاع باستعمال ما هو صالح لتأدية تلك الطاعة.
وبهذا يظهر لك أن الحق ما قاله صاحب هذا القيل ولا فرق بين هذه المسألة وبين سائر المسائل الشرعية فالاعتبار فيها جميعا بالانتهاء ولا اعتبار بالابتداء.
[ فصل ولا يرتفع يقين الطهارة والنجاسة بيقين أو خبر عدل أو ظن مقارب. قيل والأحكام ضروب ضرب لا يعمل فيه إلا بالعلم وضرب به أو المقارب له وضرب بأيها أو الغالب وضرب بأيها والمطلق وضرب يستصحب فيه الحال وضرب عكسه وستأتي[.
قوله: فصل: "ولا يرتفع يقين الطهارة والنجاسة إلا بيقين".
أقول: لا شك أن تيقن طهارة شيء أو نجاسته كان الواجب البقاء على ما قد تيقنه وعدم الانتقال عنه إلا بناقل صحيح واليقين هو أعظم موجبات الانتقال من اليقين الأول لأنه قد ارتفع بمثله ثم إذا ورد في الشرع ما يدل على أنه يجوز الانتقال عن ذلك اليقين بما لا يفيد إلا الظن كخبر العدل والعدلين كان ذلك ناقلا بدليله وإن كان دون اليقين الحاصل لذلك الشخص وقد دلت الأدلة على وجوب قبول خبر العدل فيما هو أعظم من هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذين انحرفوا في صلاتهم إلي جهة القبلة لما سمعوا قائلا يقول وهم في صلاتهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى إلي جهة القبلة وترك استقبال بيت المقدس وقد كان استقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس معلوما عندهم بيقين وهذا الحديث صحيح.
وينبغي أن يقال هنا ولا يرتفع أصالة الطهارة إلا بناقل شرعي قد دل الدليل على صلاحيته للنقل وكون الأصل الطهارة مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف ثم ليس من الورع أن يسأل من عرف أن الأصل الطهارة عن وجود ما ينقل عنها بل يقف على ذلك الأصل حتى يبلغ إليه الناقل.
ومما يقوي لك هذا الذي ذكرناه ويؤيده ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(1/40)


سأل صاحب المقراة قائلا يا صاحب المقراة هل ترد السباع هذه المقراة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب المقراة لا تخبره فإنه متكلف".
قوله: "قيل والأحكام ضروب"
أقول: أراد المصنف رحمه الله أن يتعرض ها هنا لاختلاف الأحكام باعتبار المسوغات للعمل بها وجعلها ضروبا أربعة كما تراه قاصدا لتعريف طالب هذا العلم بهذه الجملة التي ستأتي مفصلة في أبوابها من هذا الكتاب.
وسنتكلم إن شاء الله على كل فرد من أفرادها في بابه الخاص فإن الكلام عليها هنا يحتاج إلي بسط طويل يخرجنا عن المقصود ولكنا نعرفك ها هنا بقضية كلية تفيدك في كل باب وهي أن الشيء إذا كان حكمه معلوما بالرجوع إلي ما هو الأصل فيه فلا يجوز الانتقال عن ذلك الأصل إلا بسموغ جعله الشارع صالحا للانتقال فإن اعتبر الشارع في ذلك المسوغ العلم فلا يصلح للنقل إلا العلم وإن اعتبر الظن كان الظن صالحا لذلك والاعتبار بما يصدق عليه مسمى الظن وأما تقسيم الظن إلي هذه الأقسام فهو مما لا يدل عليه دليل ولا ثبت في شأنه ما يصلح للتعويل عليه والرجوع إليه.
ولا شك أن الظن في نفسه يكون قويا في بعض الأحوال وضعيفا في بعض آخر بحسب قوة ما أفاده وضعفه ولكن المصير في كونه ظنا أن يكون تجويزا راجحا على مقابله وبذلك يمتاز عن الشك.
فما ورد فيه تجويز العمل بالظن أو إيجابه كفى فيه ما يصدق عليه أنه ظن.
وأما كونه لا يجوز العمل به في بعض المواضع إلا بشرط أن يكون مقاربا للعلم ويجوز العمل به في بعض آخر وإن لم يكن كذلك فهذا لم يرد ما يدل عليه.
ثم وصفه للظن بالغالب إن أراد أنه غالب بما قابله فهو لا يكون ظنا إلا بذلك لأنه إذا سأواه ولم يغلبه فهو الشك وإن أراد بالغالب مرتبة من مراتب الظن فلم يكن ذلك إلا مجرد اصطلاح لم تدل عليه لغة العرب ولا وافق اصطلاح أهل الأصول وإن كان معلوما بالدليل كان الدليل الوارد على خلاف ما دل عليه ذلك الدليل أما ناسخا إن تأخر عنه تاريخا أو مقيدا لاطلاقه أو مخصصا لعمومه إن كان أحدهما مطلقا والآخر مقيدا أو أحدهما عأما والآخر خاصا ولا يصار إلي التعارض مع إمكان الجمع بوجه مقبول معتبر.
فهكذا ينبغي ان يكون الكلام في هذا المقام وأما قوله: "وضرب يستصحب فيه الحال وضرب عكسه" فاستصحاب الحال متعين عند من قال بدليل الاستصحاب والكلام في ذلك معروف في الأصول.
ولا ريب أنا إذا علمنا وجود الشيء مثلا أو وجود صفة من صفاته قائمة به فليس لنا أن ننتقل عن ذلك إلا بما يفيد أنه قد صار ذلك الشيء غير موجود أو صارت تلك الصفة التي كانت قائمة به غير قائمة به.
لكنه إذا ورد الدليل الدال على عدم العمل بالاستصحاب كما في حديث: "لا حتى يختلف

(1/41)


الصاعان" [ابن ماجة "2228"، أي صاع البائع وصاع المشتري فإن هذا الحديث قد دل على أنه لا يجوز لنا أن نبيع شيئا علمنا مقدار كيله أو وزنه حتى نعيد كيله أو وزنه ولا يعمل باستصحاب الحال وأنه باق على ذلك الكيل أو الوزن الذي وقع عند أن اشتراه من أراد أن يبيعه الآن.

(1/42)


[ باب ندب لقاضي الحاجة التواري
والبعد عن الناس مطلقا وعن المسجد إلا في الملك والمتخذ لذلك والتعوذ وتنحية ما فيه ذكر الله تعالي وتقديم اليسرى دخولا واعتمادها واليمنى خروجا والاستتار حتى يهوي مطلقا واتقاء الملاعن والحجر والصلب والتهوية والكلام ونظر الفرج والأذى وبصقة والأكل والشرب واستقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما وإطالة القعود.
ويجوز في خراب لا مالك له أو عرف ورضاه ويعمل في المجهول بالعري.
وبعده الحمد والاستجمار ويلزم التيمم إن لم يستنج ويجزيه جماد طاهر منق لا حرمة له ويحرم ضدها غالبا مباح لا يضر ولا بعد استعماله ويجزي ضدها].
قوله: "باب ندب لقاضي الحاجة التواري".
أقول: إطلاق ندبية بعض هذه الأمور مع ورود بعضها بلفظ الأمر بفعله وبعضها بلفظ النهي عن تركه ليس كما ينبغي إلا أن يوجد ما يصرف عن لمعنى الحقيقي للأمر والنهي وهو وجوب الفعل للمأمور به وتحريم الفعل للمنهي عنه.
فالتواري عن الناس حال قضاء الحاجة ورد فيه الأمر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى الغائط فليستتر" [أبو دأود "35"، أحمد "2/371"]، أخرجه أبو دأود وغيره وقال في البدر المنير بعد أن ساق اختلاف الحفاظ فيه والحق أنه حديث صحيح وقد صححه جماعة منهم ابن حبان والحاكم والنووي في شرح مسلم انتهى وحسنه الحافظ في الفتح ولفظه في سنن أبي دأود "من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أكل فما تخلل فليلفظ ومن لاك بلسانه فليبتلع من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم". [أبو دأود "35"]، انتهى.
واقتران الثلاثة الأمور بقوله "من فعل فقد أحسن" إلخ دليل واضح على الندب فقط وعدم اقتران الرابع منها يدل على أن الأمر بذلك فيه على حقيقته وأنه لم يرد ما يصرفه عن الوجوب.
قوله: "والبعد عن الناس".

(1/42)


أقول: لم يصح في هذا إلا مجرد الفعل منه صلى الله عليه وسلم فكان للقول بندبيته فقط وجه وأما ما ورد في حديث جابر عن أبي دأود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. [أبو دأود "2"، ابن ماجة "335"].
وفي لفظ ابن ماجه لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يرى
وهذا ليس إلا حكاية لفعله صلى الله عليه وسلم وليس فيه ما يفيد أنه من قوله صلى الله عليه وسلم كما وهم صاحب ضوء النهار.
وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عبد الملك الكوفي نزيل مكة وهو صدوق كثير الوهم وقال البخاري يكتب حديثه وقال أبو حاتم ليس بالقوي.
قوله: "واعتمادها".
أقول: لم يرد في هذا شيء يثبت به حكم الندب وما ورد في ذلك فليس بصحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف وإثبات الأحكام الشرعية بما لا تقوم به الحجة لا يجوز.
وأما تقديم اليسرى دخولا واليمنى خروجا فله وجه لكون التيامن فيما هو شريف والتياسر فيما هو غير شريف وقد ورد ما يدل عليه في الجملة.
قوله: "والاستتار حتى يهوي مطلقا".
أقول: أصل ستر العورة الوجوب فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة كما يكون عند خروج الحاجة فالاستتار قبل حالة الخروج واجب فيكشف عورته حال الانحطاط لخروج الخارج لا حال كونه قائما ولا حال كونه ماشيا إلي قضاء الحاجة.
قوله: "واتقاء الملاعن".
أقول: الحق أن اتقاء الملاعن واجب وقضاء الحاجة فيها حرام لحديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم وغيره بلفظ: "اتقوا اللاعنين" قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طرق الناس أو في ظلهم". [مسلم "269"، أحمد "2/372"، أبو دأود "25"].
ولحديث معاذ مرفوعا عند أبي دأود وابن ماجه "اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل". [أبو دأود "26"، ابن ماجة "328"]. وقد حسن إسناده ابن حجر وزارد ابن حبان في حديث أبي هريرة "وأفنيتهم" وزاد ابن الجارود "ومجالسهم"
وأخرج الحاكم والطبراني في الأوسط: "من سل سخيمته على طريق عامرة من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وفي إسناده محمد بن عمر الأنصاري ضعفه ابن معين ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات كما قال في مجمع الزوائد وهو من مشايخ عبد الرحمن بن مهدي.
وأخرج ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا: "إياكم والتعريس على جواد الطريق والصلاة عليها فإنها مأوى الحيات والسباع وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن" [ابن ماجة "329"]، وإسناده حسن.

(1/43)


وأخرج الطبراني في الكبير من حديث حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" وإسناده حسن.
وهذه الأحاديث تفيد وجوب الترك وتحريم الفعل لا شك في ذلك فلا وجه للقول بأنه متدوب.
قوله: "والجحر"
أقول: قد ثبت النهي عن البول فيها كما في حديث عبد الله بن سرجس عند أبي دأود والنسائي والحاكم والبيهقي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في جحر" [أبو دأود "29"، النسائي "1/33"]، وإسناده صحيح وكل رجاله ثقات.
وأما قول الصحأبي لما سئل عن سبب ذلك فقال كان يقال إنها مساكن الجن فهذا لم يرفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم ولو قدرنا رفعه لم يصلح ذلك لصرف النهي عن حقيقته لأن كونها مساكن الجن مما يؤكد التحريم.
قوله: "والصلب والتهوية به".
أقول: إن كان البول في الصلب أو التهوية به مما يتأثر عنه عود شيء منه إلي البائل فتجنب ذلك واجب لأن التلوث به حرام وما يتسبب عنه الحرام حرام.
قوله: "وقائما"
أقول: المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبول قاعدا كما في حديث عائشة عند أحمد ومسلم والترمذي والنسائي قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول إلا قاعدا" [الترمذي "12"، النسائي "29"]، وفي رواية عنها عند أبي عوانة في صحيحه والحاكم قالت: "ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما منذ أنزل عليه القرآن".
وأخرج ابن ماجه والحاكم وعبد الرزاق وصححه السيوطي عن عمر قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما فقال: "يا عمر لا تبل قائما" فما بلت قائما بعد. [ابن ماجة "305"].
وأخرج ابن ماجه والبيهقي من حديث جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما. [ابن ماجة 309"] وفي إسناده عدي بن الفضل وفيه ضعف.
وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم مال إلي سباطة قومه فبال عليها قائما وعلل ذلك أنه كان لجرح مأبضه.
ولم يثبت ذلك من وجه يصلح للعمل به وقد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لما نهى عنه نهيا عأما يكون مخصصا له وإن كان النهي خاصا بالأمة فلا يعارضه فعله صلى الله عليه وسلم بل يكون خاصا به والحاصل أن البول من قيام إذا لم يكن محرما فهو مكروه كراهة شديدة وأما إذا كان يتأثر منه ترشرش البائل بشيء من بوله فهو حرام لأنه يتسبب عنه الحرام كما تقدم.
قوله: "والكلام".

(1/44)


أقول: حديث أبي سعيد عند أبي دأود مرفوعا "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان" [أبو دأود "15"، أحمد "3/36"، ابن ماجة "342"]، فهذا النهي يدل على تحريم كشف العورة والتحدث حال قضاء الحاجة ولا سيما مع زيادة الحديث وهي قوله: "فإن الله يمقت على ذلك".
فإن المقت من الله عز وجل من أعظم الأدلة على التحريم وكون في إسناده هلال بن عياض أو عياض بن هلال وقد ضعفه بعضهم لا يقدح في الاستدلال به على التحريم فإنه قد ذكره ابن حبان في الثقات.
قوله: "ونظر الفرج والأذى وبصقه".
أقول: نظر الفرج داخل تحت الأحاديث المانعة من نظر العورة كحديث عوراتنا يا رسول الله ما نأتي منها وما نذر؟ فقال: "إن استطعت ألا يراها أحد فافعل" فقال: الرجل يكون خاليا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أن يستحيا منه" [البخاري "1/385"، أحمد "3/87"، أبو دأود "4017"، ابن ماجة "1920"، الترمذي "2769"]، وهو حديث صحيح.
وقوله: ألا يراها أحد يشمل نظر الرجل إلي عورة نفسه ولا يخص من ذلك ما دعت إليه الحاجة.
وأما كراهة نظر الأذى وبصقه فهذا من أعجب ما يسمعه السامع من تسأهل أهل الفروع في إثبات الأحكام الشرعية بما لا دليل عليه فإن كان سبب ذكر ذلك هنا لكون النفس تستكرهه وتنفر عنه فليس موضوع الكتاب المكروهات النفسية بل المكروهات الشرعية ومثل ذلك الحكم بكراهة الأكل والشرب.
قوله: "والانتفاع باليمنى".
أقول: الأحاديث مصرحة بالنهي عن ذلك والنهي حقيقة في التحريم كما عرفت ولم يرد ما يقتضي صرف ذلك عن معناه الحقيقي.
قوله: "واستقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما"
أقول: أما استقبال القبلة واستدبارها فالنهي عن ذلك ثابت عن جماعة من الصحابة رووا النهي عن استقبالها واستدبارها مرفوعا إلي النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هذه الأحاديث في الصحيحين وبعضها في غيرهما.
وحقيقة النهي التحريم ولا يصرف ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فقد عرفناك أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة إلا أن يدل دليل على أنه أراد الاقتداء به في ذلك وإلا كان فعله خاصا به وهذه المسألة مقررة في الأصول محررة أبلغ تحرير وذلك هو الحق كما لا يخفى على منصف ولو قدرنا أن مثل هذا الفعل قد قام ما يدل على التأسي به فيه لكان ذلك خاصا بالعمران فإنه رآه وهو في بيت حفصة كذلك بين لبنتين.
وأما بيت المقدس فلم يكن فيه إلا حديث معقل بن أبي معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تستقبل القبلتين ببول أو غائط أخرجه أبو دأود وفي إسناده أبو زيد الرأوي له عن معقل وهو

(1/45)


مجهول فلا تقوم به حجة ولم يرد في بيت المقدس غيره وقد نقل الخطأبي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس وقيل إنه خاص بأهل المدينة ومن هو على سمتهم لأن استقبال بيت المقدس يستلزم استدبارهم للكعبة.
وأما ما قيل من أن بيت المقدس يكون له حكم الكعبة بالقياس فهذا القياس من أبطل الباطلات لأنه إن كان الجامع الشرف لزم ذلك في كل محل شريف وإن تفأوت الشرف ويدخل في ذلك دخولا أوليا مسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء ونحوهما وإن كان ذلك بجامع أن بيت المقدس قد كان قبلة قبل استقبال الكعبة فقد نسخ ذلك وإن كان ذلك لكونه تستقبله اليهود فقد تقرر في الشريعة الأمر بمخالفتهم وأن ذلك شريعة ثابتة وسنة قائمة.
وأما استقبال القمرين فهذا من غرائب أهل الفروع فإنه لم يدل على ذلك دليل لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف وما روي في ذلك فهو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رواية الكذأبين وإن كان ذلك بالقياس على القبلة فقد اتسع الخرق على الراقع ويقال لهذا القائس ما هكذا تورد يا سعد الإبل وأعجب من هذا إلحاق النجوم النيرات بالقمرين فإن الأصل باطل فكيف بالفرع وكان ينبغي لهذا القائس أن يلحق السماء فإن لها شرفا عظيما لكونها مستقر الملائكة ثم يلحق الأرض لأنها مكان العبادات والطاعات ومستقر عباد الله الصالحين فحينئذ يضيق على قاضي الحاجة الأرض بما رحبت ويحتاج أن يخرج عن هذا العالم عند قضاء الحاجة.
وسبحان الله ما يفعل التسأهل في إثبات أحكام الله من الأمور التي يبكي لها تارة ويضحك منها أخرى.
قوله: "وإطالة القعود".
أقول: هذا إن كان مرجعه الشرع كما هو شأن من يتكلم في الأحكام الشرعية فلا شرع وإن كان مرجعه الطب فليس هذا الكتاب مدونا لذلك ومما يضحك منه التمسك بما روي عن لقمان الحكيم أنه يورث الباسور.
فيا لله العجب ممن لا يتحاشى عن تدوين مثل هذا الكلام في كتب الهداية.
ولقد أبعد النجعة من اعتمد في مثل هذه المسألة الشرعية على لقمان الحكيم.
قوله: "ويجوز في خراب لا مالك له".
أقول: إذا لم يكن له مالك فلا حاجة إلي بيان الجواز فإنه جائز بلا شك ولا شبهة. ولو أردنا أن نعدد الأمكنة التي يجوز قضاء الحاجة فيها لطال ذلك وإنما ينبغي الاقتصار على ذكر ما لا يجوز فيه فيعرف بذلك
أنه جائز فيما عداه كما يفعله المصنفون في مثل هذه الفنون.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه ومن بعدهم يقضون الحاجة في المواطن المملوكة للغير من غير استئذان إذا كانت خالية ولم يكن وقت سقوط ثمارها وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وقضى حاجته فيه.
قوله: "وندب بعده الحمد".

(1/46)


أقول: هذا مندوب كما قال ووجهه ما أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بإسناد صالح قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى" [ابن ماجة "301"، وأخرج نحوه النسائي وابن السني من حديث أبي ذر وإسناده صحيح.
وينبغي أن يضم إلي الحمد الاستغفار لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" [أحمد "6/155"، أبو دأود "30"، الترمذي "7"، ابن ماجة "300"]، وصححه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم.
قوله: "والاستجمار".
أقول: ظاهر الأحاديث أنه واجب لاجتماع الأمر به والنهي عن تركه وظاهرها أنه يكفي ولا يحتاج بعد ذلك إلي أن يستنجي بالماء بل مجرد فعل الاستجمار بالأحجار مطهر وإن لم يذهب الأثر إذ قد فعل ما أمر به من استعمال ثلاثة أحجار.
فإن عدل عن الاستجمار إلي الاستنجاء بالماء فهو أطيب وأطهر وإن جمع بينهما فقد فعل الأتم الأكمل
وأما الأيتار بأحجار الاستجمار فليس ذلك إلا سنة لما في حديث "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج".
قوله: "ويلزم المتيم إن لم يستنج"
أقول: وكذلك يلزم غير المتيم لأن رفع أثر النجاسة واجب وهي نجاسة معلومة بالضرورة الدينية وقد جعل الشارع الاستجمار بالأحجار كافيا في رفعها فإذا لم ترتفع بالأحجار وجب رفعها بالماء وإذا لم ترتفع بالماء وجب رفعها بالأحجار.
قوله: "ويجزئه جماد جامد" إلي آخر الباب.
أقول: المعنى الذي وقع لأجله الأمر بالاستجمار هو قطع أثر النجاسة ورفع عينها باستعمال ما أمر به الشارع فما نهى الشارع عن الاستجمار به كان غير مجزىء وما لم ينه عنه إن كان لا حرمة له ولا يضر استعماله فهو مجزئ.
وأما الحكم على بعض أضداد هذه الأمور بالإجزاء وعلى بعضها بعدمه والحكم علي بعض أضدادها بالتحريم وعلي بعضها بعدمه، فليس كما ينبغي.

(1/47)


[ باب الوضوء
شروطه التكليف والإسلام وطهارة البدن عن موجب الغسل ونجاسة توجبه]
قوله: "شروطه التكليف والإسلام".

(1/47)


أقول: الشرط ما يؤثر عدمه في عدم المشروط كما صرح به أهل أصول الفقه وقد يكون شرطا للطلب وهو المعبر عنه في الفروع شرط الأداء.
وقد يكون شرطا للمطلوب وهو المعبر عنه في الفروع بشرط الصحة وشرط الوجوب والشرط الأول هو الذي يقولون فيه تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب والثاني هو الذي يقولون فيه ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه وهو الذي يعبر عنه أهل الأصول بمقدمة الواجب.
إذا عرفت هذا فالتكليف شرط الطلب أي لا يطلب فعل الوضوء إلا من مكلف وتحصيل هذا الشرط لا يجب لأنه ليس في وسع العبد ذلك والإسلام شرط للصحة أي لا يصلح الوضوء إلا من مسلم ويجب على من لم يكن مسلما تحصيل هذا الشرط بالإسلام ولا يصح منه قبل ذلك وإن كان مكلفا به بمعنى انه يعاقب على تركه لتفريطه في تحصيل شرط ما هو واجب عليه فاعرف هذا فهو واضح ظاهر ومجرد التشكيك في مثله على المقصرين والقعقعة عليهم وصوغ عبارات تبعد عن أذهانهم ليس من دأب من قصد نشر العلم ونفع عباد الله بما يؤلفه لهم ويدونه لقصد إرشادهم.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن رفع قلم التكليف عن غيرالمكلفين لا ينافي ثبوت الأجر لهم بما عملوه من خير لأن معنى رفع التكليف أنهم غير مكلفين بالأمور الشرعية وليس معناه أنهم لا يؤجرون في شيء مما يفعلونه من القربات وهكذا لا ينافي أمرهم بالصلاة وضربهم على تركها رفع التكليف عنهم فإن ذلك من باب التأديب لهم والتعويد لطبائعهم والتمرين لما يشق عليهم إذا تركوا فعله قبل وجوبه عليهم.
فإن قلت قد زعمت أن الكفار مخاطبون بتحصيل شرط صحة ما شرعه الله لعباده مكلفون بذلك معاقبون على تركه فهل من دليل يدل على ذلك؟.
قلت الكثير الطيب من الكتاب والسنة ولو لم يكن من ذلك إلا قوله سبحانه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 42 – 45]، وقوله سبحانه: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7]. وقوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33، 34].
قوله: "وطهارة البدن عن موجب الغسل".
أقول: لم يدل على هذا الاشتراط دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح بل الثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقدم الوضوء حتى لا يبقى منه إلا غسل الرجلين ثم يفيض الماء على بدنه ثم يغسل رجليه بعد الفراغ من غسل بدنه ثم يصلي ولا يحدث بعد ذلك وضوءا.
هذا معلوم من فعله صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته ولم يثبت ما روي أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم تقديم الغسل على الوضوء لا من وجه صحيح ولا من وجه حسن.
قوله: "ونجاسة توجبه"
أقول: لا وجه لهذا الاشتراط لأن خروج النجاسة التي توجب الوضوء لا يلزم منه وجوب

(1/48)


غسلها أو شرطيته قبل الوضوء فإن الناقض للوضوء إنما هو مجرد خروجها وقد خرجت قبل أن يشرع في هذا الوضوء الذي جعل غسلها شرطا لصحته نعم إذا كانت النجاسة في الفرجين أو أحدهما فتقديم غسلها متعين لأن لمس الفرج من نواقض الوضوء إذا كان باليد أما إذا كان غسلها بشيء غير اليد فلا بأس بأن يتوضأ ثم يزيل النجاسة من فرجيه أو أحدهما.
ولا شك أن رفع هذه النجاسة واجب ولكن النزاع في وجوب تقديم رفعها على الوضوء في كون رفعها شرطا للوضوء لا يصح إلا به وهذا وإن لم تقبله أذهان أهل التقليد فليس علينا إلا أيضاح الحق وإبطال ما لم يقم عليه دليل.
[ فصل:
"وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير ومقارنة أوله بنيته للصلاة أما عموما فيصلي ما يشاء أو خصوصا فلا يتعداه ولو رفع الحدث إلا النفل فيتبع الفرض والنفل ويدخلها الشرط والتفريق وتشريك النجس أو غيره والصرف لا الرفض والتخيير والمضمضة والاستنشاق بالدلك والمج مع إزالة الخلالة والاستنثار وغسل الوجه مستكملا مع تخليل اصول الشعر ثم غسل اليدين مع المرفقين وما حإذاهما من يد زائدة وما بقي من المقطوع إلي العضد ثم مسح كل الرأس والأذنين فلا يجزىء الغسل ثم غسل القدمين مع الكعبين والترتيب وتخليل الأصابع والأظفار والشجج]".
قوله: "فصل وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة".
أقول: جعل الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء لم يثبت عن عالم من علماء الإسلام قط لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من تابعيهم ولا من أهل المذاهب الأربعة ولا من الأئمة من أهل البيت.
وذكر المصنف له في كتابه هذا قد تبع فيه من تقدمه من المصنفين في الفروع من أهل هذه الديار وكلهم يجعل ذلك مذهبا للهادي وهو أجل قدرا من أن يقول به وليس في كتبه حرف من ذلك قط.
ولا أظن هذه المقالة إلا صادرة من بعض الموسوسين في الطهارة وأهل العلم بأسرهم بريئون عنها كما أن الشريعة المطهرة بريئة عنها وليس في الكتاب ولا في السنة حرف يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ومن استدل لهما بما ورد في الاستنجاء بالماء فهو لا يدري كيف الاستدلال فإن النزاع ليس هو في رفع النجاسة من الفرجين بل في غسلهما للوضوء بعد زالة النجاسة كما ذكره المصنف هنا وذكره غيره.

(1/49)


وقد قدمنا لك أن الاستجمار بالأحجار يكفي كما دلت عليه الأدلة ودين الله غير محتاج إلي أن يبلغ شكوك أهل الشكوك في الطهارة إلي إثبات عضو زائد للوضوء الذي شرعه الله.
وقد كان شكهم مرتفعا بما جزموا به من إيجاب رفع نجاستيهما بالماء وعدم الاكتفاء بالأحجار فما بالهم لم يقنعوا بذلك بل أوجبوا غسلا آخر بعد رفع النجاسة وجعلوا هذا الغسل فرضا على عباد الله وجزموا بأن الفرجين عضوين من أعضاء الوضوء وأن من ترك غسلهما للوضوء بعد غسل النجاسة فهو كمن ترك غسل أحد أعضاء الوضوء المذكورة في القرآن فيا لله العجب.
قوله: "والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير"
أقول: حديث "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" [أحمد "2/418"، أبو دأود "101"، ابن ماجة "399"]، وقد روي من طرق عن جماعة من الصحابة أبي هريرة وأبي سعيد وسعيد بن زيد وعائشة وسهل بن سعد وأبي عبيدة وأم سبرة وكذلك روي من طريق علي وأنس وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها.
قال أبو بكر بن أبي شيبة ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وقال ابن كثير في الأرشاد طرقه يشد بعضها بعضا فهو حديث حسن أو صحيح.
وقال ابن حجر الظاهر أن مجموع الأحاديث تحدث منها قوة فتدل على أن له أصلا وهذه الصيغة أعني قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" - إن كان النفي فيها متوجها إلي الذات كما هو الحقيقة دل ذلك على انتفاء الوضوء بانتفاء التسمية والمراد انتفاء الذات الشرعية.
وإن كان متوجها إلي الصحة كما هو المجاز الأقرب إلي الحقيقة لأن نفي الصحة يستلزم نفي الذات دل على عدم صحة وضوء من لم يسم.
وإن كان متوجها إلي الكمال الذي هو أبعد المجازين من الحقيقة لأنه لا يدل على نفي الذات ولا على نفي صحتها دل ذلك على صحة الوضوء لكن لا على جهة الكمال.
فالواجب الحمل على المعنى الحقيقي فإن قامت قرينة تصرف عنه وجب الحمل على المجاز القريب من الذات وهو الصحة فإن وجدت قرينة تدل على الصحة كان النفي متوجها إلي الكمال.
فاعرف هذا واستعمله فيما يرد عليك تنتفع به.
وقد جعل صاحب ضوء النهار هذا النفي متوجها إلي الكمال قال قالوا حديث: "من ذكر الله أول وضوئه طهر جسده كله ومن لم يذكره لم يطهر منه إلا مواضع الوضوء" أخرجه رزين من حديث أبي هريرة انتهى.
ولا يخفاك أن هذه النسبة في التخريج إلي رزين ليست كما ينبغي فرزين رجل أراد أن يجمع بين الأمهات الست في مصنف مستقل ثم وجدت في مصنفه أحاديث لم يكن لها في الأمهات أصل ولا وجدت في شيء منها ثم تصدى للجمع بين الأمهات ابن الأثير في كتابه الذي

(1/50)


سماه جامع الأصول وذكر تلك الأحاديث التي زادها رزين معزوة إليه فأجاد وأفاد.
فما هو معزو إليه فالمراد أنه ليس في الأمهات التي تعرض رزين للجمع بينها.
وقد قدح فيه بعض أهل العلم ولعمري إن ذلك قادح فادح وهو وإن كان من علماء الإسلام ولكنه فعل ما لا يفعله الثقات.
إذا عرفت هذا فاعلم أن عزو الجلال للحديث إليه لا طائل تحته فليس رزين ممن يخرج الأحاديث وفي الأحاديث التي زادها تهمة ظاهرة فليس فيما ينقل عنه وينسب إليه حجة أصلا.
فإن قلت فهل أخرج هذا الحديث الذي عزاه إلي رزين أحد من المخرجين للأحاديث قلت أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعيفان مرداس بن محمد ومحمد بن ابان وأخرجه الدارقطني والبيهقي أيضا من حديث ابن مسعود وفي إسناده يحيى بن هاشم السمسار وهو متروك وأخرجاه أيضا من حديث ابن عمر وفيه أبو بكر الداهري وهو متروك.
قال البيهقي بعد إخراجه وهذا أيضا ضعيف أبو بكر الداهري غير ثقة عند أهل العلم بالحديث ولا يخفاك أن هذه الطرق لا تقوم بها حجة اصلا ولا يصح أن يكون من الحسن لغيره لأنها من طريق المتروكين والضعفاء بمرة فلا يقوى بعضها بعضا.
وقد استدل البيهقي على عدم وجوب التسمية بحديث رفاعة بن رافع بلفظ: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه" الحديث.
واستدل النسائي في المجتبي وابن خزيمة والبيهقي عن استحباب التسمية بحديث أنس قال طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءا فلم يجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحد منكم ماء؟" فوضع يده في الإناء وقال: "توضؤوا باسم الله".
وأصله في الصحيحين بدون هذه الزيادة وأنت خبير بأنه لا دلالة في هذين الحديثين على ما استدلوا بهما عليه لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام.
ومما يؤيد دلالة أحاديث التسمية على الوجوب بل على عدم صحة الوضوء بدونها حديث "كل أمر ذي بال لا يذكر على أوله اسم الله فهو أجذم" لا كما زعم بعضهم أن هذا الحديث يدل على عدم وجوب التسمية في الوضوء.
قوله: "ومقارنة أوله بنيته للصلاة".
أقول: ظاهر حديث "إنما الأعمال بالنيات" [البخاري "6689"، مسلم "155/1907"، أبو دأود "2201"، الترمذي "1647"، النسائي "75" و "3437"]، وحديث "لا عمل إلا بنية" ونحوهما أن النية إذا عدمت عدم الوضوء وما كان هكذا فهو شرط فقول من قال إن النية شرط هو الظاهر.
وأما قولهم: إن الشرط يجب استصحابه في جميع المشروط فالمراد أنه يستمر عليه ولا

(1/51)


يجيء بما يبطله كالوضوء فإنه شرط في الصلاة وليس معنى استصحابه فيها إلا أنه لا يقع منه حدث قبل فراغها فيبطل وضوءه.
وهكذا النية في الوضوء والصلاة وغيرهما ليس المراد باستصحابها في المشروط وهو المنوي إلا مجرد البقاء عليها وعدم صرفها إلي غيره.
فهذا معنى استصحاب الشرط في جميع المشروط.
فإن قلت ما الدليل على أن النية إذا عدمت عدم الوضوء ونحوه من المنويات؟.
قلت لأن هذا التركيب هو الذي يسميه أهل الأصول المقتضي وهو ما لا يتم معناه إلا بتقدير محذوف يتم به الكلام والمقدم تقدير المعنى الحقيقي أي إنما وجود الأعمال أو ثبوتها بالنية أو لا صلاة موجودة أو ثابتة إلا بالنية.
وهذا التقدير يدل على انتفاء ذات الصلاة بانتفاء النية.
لا يقال إن الذات قد وجدت فلا يصح توجه النفي إليها لأنا نقول إن المراد الذات الشرعية وتلك الذات التي وجدت غير شرعية.
وعلى تقدير أن ثم مانعا يمنع من تقدير ما يدل على انتفاء الذات فالواجب تقدير أقرب المجازين إلي الذات كما قدمنا في البحث الذي قبل هذا.
فيقال إنما صحة الأعمال بالنيات أو لا صحة لعمل إلا بنية.
هذا يدل على أن العمل لا يصح بدون نية فقد أثر عدمها في عدم المنوي وذلك هو معنى الشرط ولا يصح ها هنا تقدير الكمال لعدم وجود دليل يدل عليه لكونه مجازا بعيدا.
وأما قوله: "بنيته للصلاة" فاعلم أن الحدث مانع من فعل الصلاة فإذا نوى رفعه فقد ارتفع المانع فيصلي ما شاء من فرض ونفل فلا وجه لقوله بنيته للصلاة ولا لما بعده فإنه إذا قد ارتفع المانع لم يزل المتوضىء متوضئا حتى يعود عليه حكم الحدث فيعود المانع.
وقبل عوده يصلي ما شاء عموما وخصوصا فرضا ونفلا.
ولا وجه أيضا لما ذكره من قوله يدخلها الشرط فإنه إذا ارتفع المانع لم يزل مرتفعا حتى يعود ولا يصح أن يقيده بشرط لأن الوضوء إذا وقع على الصفة المشروعة مع أرادة ذلك الفعل وقصده فقد وقع مطابقا لما وقع به الأمر وذلك هو الوضوء الشرعي الرافع للحدث المانع من الصلاة.
وأما ما ذكره من أنه يدخل النية التفريق أي إيقاعها عند كل عضو فإن كل ذلك بمعنى استحضار العزم الذي وقع منه عند الشروع وهو رفع المانع من الصلاة فلا بأس بذلك وإن كان المراد تكرير العزم عند كل عضو فلا يبعد أن ذلك بدعة.
وأما تشريك النجس فالنجاسة إذا كانت في أعضاء الوضوء وجب تقديم غسلها حتى تزول عينها ولونها وطعمها وعرفها فإذا فرغ من ذلك غسل العضو غسل الوضوء ولا يصح أن يكون الغسل لرفع الحدث والنجس جميعا وبعد زوال النجاسة لا معنى لتشريكها.
وما ذكره من الصرف والرفض والتخيير فهو مبني على ما ذكره من أنه لا بد أن ينوي

(1/52)


الوضوء للصلاة وقد عرفت أنه يكفي مجرد رفع المانع وهو الحدث ولا يصح صرف نفس رفع المانع ولا رفضه ولا التخيير بينه وبين شيء آخر.
قوله: "والمضمضة والاستنشاق"
أقول: القول بالوجوب هو الحق لأن الله سبحانه قد أمر في كتابه العزيز بغسل الوجه ومحل المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه.
وقد ثبت مدأومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في كل وضوء ورواه جميع من روى وضوءه صلى الله عليه وسلم وبين صفته فأفاد ذلك أن غسل الوجه المأمور به في القرآن هو مع المضمضة والاستنشاق.
وأيضا قد ورد الأمر بالاستنشاق والاستنثار في أحاديث صحيحة وأخرج أبو دأود والترمذي من حديث لقيط بن صبرة بلفظ "إذا توضأت فمضمض" [أبو دأود "2366"، النسائي "87"، ابن ماجة "407"، الترمذي "788"]، وإسناده صحيح وقد صححه الترمذي والنووي وغيرهما ولم يأت من أعله بما يقدح فيه.
قوله: "مع تخليل أصول الشعر".
أقول: الأحاديث في تخليل اللحية وقد وردت من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة وفيها الصحيح والحسن والضعيف وقد صحح بعضها الترمذي في جامعه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والدارقطني والحاكم وابن دقيق العبد وابن الصلاح وحسن بعضها البخاري وما دون ذلك ينتهض للاحتجاج به وفي بعضها الحكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع زيادة وهي قوله: "بهذا أمرني ربي" ومجرد الفعل المستمر يدل على أنه بيان لما في القرآن من قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية لأن اللحية والحاجبين والشارب كلها نابتة في الوجه ولم يأت من ضعف أحاديث تخليل اللحية بما يقدح في الاحتجاج وليس ذلك إلا باعتبار بعض الطرق وأما باعتبار الكل فلا وقد قامت الحجة بتصحيح من صححها وتحسين من حسنها كما ذكرنا ومن علم حجة على من لا يعلم وبهذا تعرف أن ما روي عن أحمد بن حنبل من أنه لم يثبت في تخليل اللحية حديث صحيح وأن أحسن شيء فيه حديث شقيق عن عثمان وروي مثله عن ابن أبي حاتم عن أبيه لا يعارض ما ذكرنا عن أولئك الأئمة.
قوله: "ثم غسل اليدين مع المرفقين".
أقول: كلام أهل اللغة والنحو في كون إلي للغاية أو بمعنى مع معروف وقد ذهب إلي كل قول طائفة وذهب قوم إلي التفصيل فقالوا إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها كما في هذه المسألة كانت بمعنى مع وإن لم يكن من جنسه كما في قوله تعالي: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلي اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، كانت للغاية فلا يدخل ما بعدها فيما هو قبلها.
والحق احتمالها للأمرين فإذا ورد ما يدل على أحدهما تعين وإن لم يرد ما يدل على أحدهما كان الكلام في ذلك كالكلام في اللفظ المشترك بين معنيين وقد ورد ها هنا ما يدل على أحد المعنيين وهو أنها بمعنى "مع".

(1/53)


ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ حتى أشرع في العضد وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به".
وفي إسناده القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل وفيه كلام معروف.
وفي رواية للدارقطني من حديث عثمان أنه غسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضوين وأخرج البزار من حديث وائل بن حجر قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثم يديه فغسل حتى جأوز المرفق.
قوله: "وما حإذاهما من يد زائدة"
أقول: لا وجه لاعتبار المحإذاة وليس مجرد المحإذاة للمرفقين مما يوجب أن يكون للمحإذاة من ذلك العضو الزائد حكم الأصل ولا يجب غير غسل اليد الأصلية إلا إذا كان العضو الزائد نابتا في المحل الذي يجب غسله فإنه داخل في مسمى اليد وأما النابت في غير ذلك المحل فليس بداخل في مسمى اليد التي ورد الشرع بغسلها.
وأما ما ذكره من وجوب غسل ما بقي من العضو الذي يجب غسله بعد قطع بعضه فلا شك في ذلك لأن الوجوب الذي كان قبل القطع لا يرتفع بالقطع وإن كان الباقي يسيرا مهما كان مما يجب غسله.
قوله: "ثم مسح كل الرأس"
أقول: وجه إيجاب مسح الكل أن مسمى الرأس حقيقة هو جميعه ولكن محل الحجة ها هنا هو ما يفيده إيقاع المسح على الرأس وهو يوجب المعنى الحقيقي جزءا من أجزائه كما تقول ضربت رأسه وضربت برأسه فإنه يوجد المعنى بهذا التركيب بلإيقاع الضرب على جزء من أجزاء الرأس.
ومن قال إنه لا يكون ضاربا لرأسه حقيقة إلا إذا وقع الضرب على كل جزء من أجزائه فقد جاء بما لا يفهمه أهل اللغة ولا يعرفونه ومثل هذا إذا قال القائل مسحت الحائط ومسحت بالحائط فإن المعنى للمسح يوجد بمسح جزء من أجزاء الحائط ولا ينكر هذا إلا مكابر وبهذا تعرف معنى قوله تعالي: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، ودع عنك ما أطال الناس القول فيه من الكلام في معاني الباء وفي معنى الرأس حقيقة ومجازا فإن ذلك تطويل بلا طائل.
وإذا عرفت الآية الكريمة فاعلم أن السنة المطهرة تعضد ذلك وتقويه فإنه صلى الله عليه وسلم
مسح جميع رأسه واقتصر في بعض الأحوال على مسح بعضه مكملا على العمامة تارة وغير مكمل عليها أخرى فكان ذلك مطابقا لما افاده القرآن ولا شك أن الأحسن والأحوط مسح كل الرأس على الهيئة التي كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما ذكر ذلك أئمة الحديث في كتبهم التي هي دوأوين الإسلام ولكن لم يقم دليل على أن ذلك واجب متعين.
وكيف يقال ذلك وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالفه ودلت الآية على ما هو أوسع منه.

(1/54)


قوله: "والأذنين".
أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسحهما مع مسح رأسه وثبت أنه مسح ظاهرهما وباطنهما كما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن منده.
وأخرج أبو دأود والبزار من حديث تعليم علي بن أبي طالب وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح ظهور أذنيه وإسناده حسن.
ومن ذلك حديث: "الأذنان من الرأس" [أبو دأود "134"، الترمذي "37"، ابن ماجة "444"، أحمد "5/268"]، وهو مروي من طريق ثمانية من الصحابة وفي بعض أسانيدها مقال وهي يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها.
والحاصل أن مسح ظاهرهما وباطنهما هو الهيئة الكاملة كما ذكرنا في مسح كل الرأس.
وأما أن ذلك واجب متعين فلا بل يجزىء ما يصدق عليه مسمى المسح كما قلنا في الرأس.
قوله: "ثم غسل القدمين مع الكعبين"
أقول: قد أطال أهل العلم الكلام على القراءتين في قوله سبحانه: {وَأَرْجُلَكُمْ} ولا شك أن ظاهرهما أنه يجزئ الغسل وحده والمسح وحده وهما قراءتان صحيحتان لكنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح للرجلين قط بل الثابت عنه في جميع الروايات أنه كان يغسل رجليه وثبت عنه ما يدل على أن الغسل لهما متعين كما في حديث أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال بعد فراغه من الوضوء: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" [ابن ماجة "419"، وكان ذلك الوضوء مع غسل الرجلين وقال للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" [ابن ماجة 665]، ثم ذكر له صفة الوضوء وفيه غسل الرجلين وثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال: "ويل للأعقاب من النار" [أحمد "6/81 و 84"، ابن ماجة "451"، مسلم "240]، قال ذلك لما رأى جماعة وأعقابهم تلوح.
ولهذا وقع الإجماع على الغسل قال النووي ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به.
وقال ابن حجر في الفتح إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا علي وابن عباس وأنس وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك.
وبالجملة فاستمراره صلى الله عليه وسلم على الغسل وعدم فعله للمسح أصلا إلا في المسح على الخفين وصدور الوعيد منه على من لم يغسل وتعليمه لمن علمه أنه يغسل رجليه وقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" يدل على أن قراءة الجر منسوخة أو محمولة على وجه من وجوه الإعراب كالجر على الجواز أو محمولة على المسح على الخفين الثابت ثبوتا أوضح من شمس النهار حتى قيل إنه روي من طريق أربعين من الصحابة وقيل من طريق سبعين منهم وقيل من طريق ثمانين منهم.
والكلام في غسل الكعبين هنا كالكلام في غسل المرفقين وقد تقدم فلا نعيده.

(1/55)


قوله: "والترتيب"
أقول: هذه هيئة واجبة ولا يحسن جعلها من جملة فرائض الوضوء وكذلك قوله فيما بعد "وتخليل الأصابع والأظفار والشجج"، فإن جعل ذلك من جملة الفرائض فيه نوع تسأهل وقد ثبت عن الشارع فعلا وتعليما أنه غسل أعضاء الوضوء مقدما لما قدمه القرآن ومؤخرا لما أخره كذلك ثبت عن الحاكين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم والمعلمين لهم فهذا هو الوضوء الذي شرعه الله لعباده في كتاب.
ومن زعم أنه يجزئ وضوء غير مرتب على ذلك الترتيب فقد خالف الجادة البيضاء والطريقة الواضحة التي لا يزيغ عنها إلا زائغ.
وأما كون الوأو لا تفيد الترتيب فهذا لو لم يرد البيان النبوي وأما بعد وروده دائما مستمرا فلا.
ثم قوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وضوءا مرتبا: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وقوله للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" ثم علمه الوضوء مرتبا على ما في القرآن يدلان دلالة بينة واضحة أن ذلك واجب متعين لا يجوز المخالفة له بحال ولم يصب من قال إن الإشارة بقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" إلي نفس الفعل لا إلى هيئته فإن ذلك دعوى بلا دليل بل الإشارة أي إشارة كانت إلي فعل أي فعل كان إلي الفعل الذي له تلك الهيئة لا إلي الفعل مجردا عنها فإن ذلك مما لا يدل عليه عقل ولا نقل.
[ فصل
"وسننه غسل اليدين أولا والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة وتقديمهما على الوجه والتثليث ومسح الرقبة وندب السواك قبله عرضا والترتيب بين الفرجين والولاء والدعاء وتوليه بنفسه وتجديده بعد كل مباح وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضاء]".
قوله: فصل: "وسننه غسل اليدين أولا".
أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم وحكاه من حكاه من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمهم لوضوئه ومن ذلك ما هو في الصحيحين ومنه ما هو في غيرهما ولا شك في مشروعيته وأما قول من قال بالوجوب فلا وجه له لأن غسل اليدين قبل الوضوء لم يكن مما في القرآن الكريم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرأبي "توضأ كما أمرك الله" يعني في القرآن.
أما حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده" فهو خاص بمن قام من النوم فعلى تقدير دلالته على الوجوب لا يدل

(1/56)


على وجوب غسلها عند كل وضوء بل في هذه الحالة الخاصة بمن قام من النوم.
واعلم أن المشروع غسلهما ثلاثا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عثمان في حكايته لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفرغ الماء على كفيه ثلاث مرات يغسلها وأخرج أحمد والنسائي من حديث أوس بن أوس الثقفي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا أي غسل كفيه ثلاثا.
قوله: "والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة".
أقول: كان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يزيد لفظ ثلاثا فيقول والجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما كان ينبغي له أن يقول وسننه غسل اليدين ثلاثا أولا لما تقدم في غسل اليدين وكذلك هنا لأن الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم هو الجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما في اصحيح البخاري من حديث عبد الله بن زيد في تعليمه لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض واستنشق ثلاث مرات من غرفة واحدة.
والروايات المطلقة عن لفظ ثلاثا ينبغي أن تحمل على هذه الرواية المقيدة بالثلاث فإن قلت قد لا يتسع الكف للجميع بين المضمضة والاستنشاق منه ثلاث مرات.
قلت إذا لم يتمكن المتوضىء من ذلك أما لضيق كفه أو لعدم حفظها لما فيها فذلك مما يسوغ له أن يكرر الغرفات جامعا بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة.
وقد ورد الفصل بين المضمضة والاستنشاق كما في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق وقد أعلوا هذا الحديث بجهالة مصرف والد طلحة ولكنه قد حسن إسناده ابن الصلاح في كلامه على المهذب وقد وثق ابنه طلحة ابن معين وأبو حاتم وكانوا يسمونه سيد القراء.
قوله: "وتقديمها على الوجه".
أقول: هذا هو الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم ومن حكاية الحاكين لوضوئه في الصحيحين وغيرهما ولكنه قد أخرج أحمد وأبو دأود والضياء في المختارة عن المقدام بن معد يكرب أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثلاثا ثم مسح برأسه وأذنيه. [أحمد "4/132"، أبو دأود "121"]، الحديث.
وأخرج الدارقطني عن الربيع وفيه: "ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثا ثم يمضمض ويستنشق ثلاثا" الخ الحديث وهو من طريق شيخ الدارقطني إبراهيم بن حمادة عن العباس ابن يزيد عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ والكلام في عبد الله بن محمد بن عقيل معروف وللحديث طرق وألفاظ مدارها عليه وقد أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجة.
وطريقة الجمع بين هذه الأحاديث أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم أخر المضمضة في هذين الحديثين لبيان الجواز فيكون هذا في حكم المخصص لما تقدم في الترتيب بين أعضاء الوضوء.

(1/57)


قوله: "والتثليث".
أقول: قد ورد في مشروعية التثليث أحاديث كثيرة وورد في إجزاء الوضوء مرة مرة ما أفاد أن الزيادة على المرة مسنونة غير واجبة ولكن الأحاديث الصحيحة الكثيرة أن المسح بالرأس مرة واحدة ولم يثبت في تثليثه ما يصلح للإحتجاج به فالتثليث سنة إلا في مسح الرأس وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقى وذكرت جميع ما ورد في أفراد مسحه وفي تثليثه وتعقبت كل رواية من روايات التثليث فمن أراد الاستيفاء فليرجع إليه.
قوله: "ومسح الرقبة".
أقول: لم يثبت في ذلك شيء يوصف بالصحة أو الحسن وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أحاديث وهي وإن لم تبلغ درجة الاحتجاج بها فقد أفادت أن لذلك أصلا لا كما قال النووي إن مسح الرقبة بدعة وإن حديثه موضوع وقال ابن القيم في الهدى لم يصح عنه في مسح العنق حديث ألبتة انتهى.
وهذا مسلم ولكن لا تشترط الصحة في كل ما يصلح للحجية فإن الحسن مما يصلح للحجية وكذلك الأحاديث التي كل حديث فيها ضعيف وكثرة طرقها يوجب لها القوة فتكون من قسم الحسن لغيره.
قوله: "وندب السواك".
أقول: جعل السواك مندوبا مع جعل ما قبله سننا من غرائب التصنيف وعجائب التأليف فإن الأحاديث الثابتة في السواك قولا وفعلا أوضح من شمس النهار مع كونها في غاية الكثرة والصحة فكيف كان السواك مندوبا وتلك الأمور المتقدمة من أول الفصل إلي هنا مسنونة وما المقتضى لحط رتبة السواك عن رتبتها وهي دونه بمراحل وأكثرها لم يرد فيه إلا مجرد الفعل فقط وسيأتي للمصنف في كتاب الصلاة أن المسنون ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به وإلا فمستحب والمستحب في اصطلاحه يرادف المندوب فكان عليه أن يحكم للسواك بأنه مسنون فقد لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به ولولا قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" [البخاري "2/887"، مسلم "252"، أبو دأود "46"، الترمذي "22"، النسائي "7"، ابن ماجة "287"] لكانت الأوامر الواردة فيه باقية على حقيقتها وأن يحكم لمثل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة بأنه مندوب فقط.
قوله: "والترتيب بين الفرجين".
أقول: قد قدمنا أن عد الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء من غرائب هذه الديار وأهلها ولم يكتف المصنف رحمه الله بذلك حتى أبان لهما هذه الهيئة الترتيبية وحكم لها بالندب.
ويالله العجب من هذه الأباطيل الموضوعة من المصنفات التي يقصد بها مصنوفها إرشاد العباد إلي ما شرعه الله لهم وتسهيل حفظها عليهم فإن هذا من التقول على هذه الشريعة المطهرة بما لم يكن فيها ومن تكليف الأمة المرحومة بما لم يكلفها الله به ولا يحمل القائل بذلك

(1/58)


على تعمد الإتيان بالباطل بل أحسن المحامل له ولأمثاله من المشتغلين بالفروع المصنفين فيها أن يقال إنه لا إلمام لهم بالأدلة الشرعية ولا شغلوا أنفسهم بشيء منها ولهذا نفقت عندهم هذه الأباطيل وراجت على عقولهم هذه الأضاليل ولكن ما لمن كان بهذه المنزلة والتعرض للتصنيف في الأمور الدينية التي لا تؤخذ إلا عن الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة.
قوله: "والولاء".
أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في وضوئه ولا عمن حكى وضوءه من الصحابة أنهم فرقوا بين أعضاء الوضوء وترك الموالاة بينها بل كانوا يغسلون الأول فالأول غير مشتغلين بعمل آخر فيما بين أعضاء الوضوء ولا واقفين بين غسل الأعضاء فالتفريق بدعة مخالفة لما كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهي رد على فاعليها ولا يخلص فاعلها عن كونه مبتدعا ما يتمسك به من فعل صحأبي قد روي عنه ذلك كما أخرجه البيهقي عن ابن عمر أنه توضأ في السوق فغسل يديه ووجهه وذراعيه ثلاثا ثلاثا ثم دخل المسجد فمسح خفيه بعد أن جف وضوؤه وصلى.
قال البيهقي وهذا صحيح عن ابن عمر وقد علقه البخاري في الغسل ولا يخفاك أن فعل الصحأبي لا يقوم به الحجة في أقل حكم من أحكام الشرع فكيف بمثل هذا؟.
وأخرج البيهقي أيضا أن رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فأحسن وضوءك" قال البيهقي رواه مسلم [مسلم "31/243"].
وهذا ليس فيه ما يدل على جواز التفريق بل ظاهر قوله ارجع فأحسن وضوءك أنه يعيد الوضوء من أوله.
وعلى تسليم أنه أراد بقوله فأحسن وضوءك غسل موضع ذلك المتروك من ظهر القدم فليس تكميل غسل العضو كترك غسله كله بعد غسل ما قبله حتى يمضي وقت فإن التفريق إنما يكون هكذا.
ومثل هذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث ابن مسعود أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يغتسل من الجنابة فيخطيء بعض جسده الماء قال: "ليغسل ذلك المكان ثم ليصل" وفي اسناده عاصم بن عبد العزيز وليس بالقوي كما قال النسائي والدارقطني وقال البخاري فيه نظر.
وقد استدل صاحب فتح الباري على جواز التفريق بأن الله أوجب غسل أعضاء الوضوء فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه ويجاب عنه بأن هذا الغسل الذي أوجبه الله قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم ولم يثبت عنه التفريق من فعله الدائم المستمر طول عمره ولا جاء في قوله ما يدل على ذلك بوجه من وجوه الدلالة.
قوله: "والدعاء"
أقول: لم يثبت في ذلك شيء وما روى فهو أما موضوع أو في إسناده كذاب أو متروك

(1/59)


والذي ثبت في الوضوء من الأذكار هو التسمية في أوله وفي آخره "أشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" [مسلم "17/234"، الترمذي 55"، أحمد "4/145" – 146 – 153"، أبو دأود "169"، النسائي "148"، ابن ماجة "470"]، ولم يثبت غير هذا لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف.
قوله: "وتوليه بنفسه"
أقول: الأمر القرآني لكل قائم إلي الصلاة أن يغسل أعضاء وضوئه يدل على أنه يجب على المتوضىء أن يغسل أعضاء وضوئه بنفسه والبيان الواقع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وضوئه وفي تعليمه لغيره يؤيد ذلك ويقويه فمن زعم أنه يجزىء العبد وضوء وضاه غيره فعليه الدليل ولا دليل يدل على ذلك أصلا.
وإذا ألجأت الضرورة فلها حكمها وذلك كالمريض الذي يعجز عن غسل أعضائه أو بعضها والأشل والأقطع ونحو ذلك.
وأما الصب من الغير على يد المتوضىء فذلك ثابت في السنة في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعة من الصحابة.
قوله: "وتجديده بعد كل مباح"
أقول: الأولى مشروعية فعله لكل صلاة من غير نظر إلي فعل المباح أو عدمه فإنه لم يدل دليل على ربط المشروعيه بأن يفعل بعد وضوئه الأول مباحا وقد كان صلى الله عليه وسلم في غالب حالاته يتوضأ لكل صلاة.
ويدل على هذا ما أخرجه الترمذي من حديث بريدة وقال صحيح حسن قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات كلها بوضوء ومسح على خفيه فقال عمر إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال: "عمدا فعلته" وأخرجه أيضا مسلم وأبو دأود والنسائي بنحوه وقال فيه خمس صلوات بوضوء [الترمذي "61"، مسلم "277"، أبو دأود "172"، النسائي "133"].
وأخرج البخاري والترمذي والنسائي من حديث عمر وأنس أنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة وأخرج الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر: "من توضأ على طهر كتبت له عشر حسنات" [الترمذي "59"، ابن ماجة "512"]، وفي إسناده عبد الرحمن الإفريقي وهو ضعيف الحفظ عن أبي غطيف وهو مجهول.
وتأديته صلى الله عليه وسلم للصلوات بوضوء واحد وترغيبه في الوضوء على طهر يدلان على أن الأمر بالوضوء عند القيام إلي الصلاة محمول على الندب أو هو أمر للمحدثين.
وهكذا حديث أبي هريرة عند الدرامي والترمذي وابن ماجة مرفوعا: "لا وضوء إلا من حدث" [الترمذي "74"، ابنماجة 515"]، وفي بعض ألفاظه "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" قال الترمذي حسن صحيح يحمل على أن معناه لا وضوء واجب جمعا بين الأدلة.

(1/60)


ومثله ما أخرجه أحمد وابن ماجة والطبراني وابن نافع عن السائب بن خباب مرفوعا: "لا وضوء إلا من ريح أو سماع" بأحمد "3/426"، ابن ماجة "56"].
قوله: "وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضائه".
أقول: لا مستند لهذا التشريع العجيب إلا مجرد خيالات مختلة وآراء معتلة فالحكم بالندب لا يجوز إلا بدليل وإلا كان من التقول عن الشارع بما لم يقله.
[ فصل:
ونواقضه ما خرج من السبيلين وإن قل أو ندر أو رجع وزوال العقل بأي وجه إلا خفقتى نوم ولو توالتا أو خفقات متفرقات وفيء نجس ودم أو نحوه سال تحقيقا أو تقديرا من موضع واحد في وقت واحد إلي ما يمكن تطهيره ولو مع الريق وقدر بقطرة والتقاء الختانين ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها وكل معصية كبيرة غير الأصرار أو ورد الأثر بنقضها كالكذب والنميمة وغيبة المسلم وإذاه].
قوله: "فصل: ونواقضه ما خرج من السبيلين".
أقول: أما انتفاضه بالبول والغائط فبالضرورة الدينية وأما ما عداهما فما وقع النص عليه كما في حديث "حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" [البخاري "137"، مسلم "361"، النسائي "160"، ابن ماجة "513"]، وهو في الصحيح من رواية جماعة من الصحابة فهو ناقض بالنص وما لم يقع النص عليه فهو لاحق بالريح أما بفحوى الخطاب أو بلحن الخطاب ولا يحتاج مع هذا إلي الاستدلال على تعميم نقض الخارج بما لم يثبت ففي هذا كفاية وهو يشمل ما قل أو ندر أو رجع.
قوله: "وزوال العقل بأي وجه".
أقول: وجه النقض أن من زوال عقله بنوم أو جنون أو إغماء لم يكن على يقين من بقاء طهارته التي تعتبر في صحة الصلاة ولا سيما وتلك الحالة مظنة لاسترخاء الأعضاء وعدم القدرة على دفع ما ينتقض به الوضوء وقد ثبت في النوم حديث "العين وكاء السه" [أبو دأود "203"، ابن ماجة "477"، أحمد "1/111"]، من رواية علي ومعأوية مرفوعا وقد حسنه جماعة من الحفاظ.
فجعل النوم مظنة للنقض لأنه إذا نامت العين استطلق الوكاء كما في بعض الروايات ثم رتب صلى الله عليه وسلم على هذه المظنة الجزم على من نام بأن يتوضأ فقال: "فمن نام فليتوضأ" كما في بعض الروايات الخارجة من مخرج معمول به.
ولكنها وردت أحاديث قاضية بأنه لا ينتقض الوضوء بالنوم إلا إذا نام مضطجعا وهي تقوى

(1/61)


بعضها بعضا كما أوضحت ذلك في شرحي المنتقى فتكون مفيدة لما ورد في نقض مطلق النوم فلا ينقض إلا نوم المضطجع.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجنون والإغماء أولى بوجود هذه المظنة فيهما فأقل أحوالهما أن يكونا مثل النوم فلا يحتاج إلي إيراد دليل عليهما بخصوصهما.
ومعلوم أنه إذا استطلق الوكاء بالنوم أستطلق بما هو مثله في زوال العقل وذهاب الإحساس فكيف بما هو فوقه.
وبهذا تعرف أنه لا ينقض نوم القاعدة ونحوه ممن لم يكن مضطجعا لا بخفقتين ولا بخفقات متواليات أو متفرقات.
وعلى هذا يحمل ما ورد أن جماعة من الصحابة كانوا ينامون فيوقظون للصلاة فيصلون ولا يتوضئون.
وأما ما ورد في بعض الروايات أنهم كانوا يضعون جنوبهم فهو لا يصلح للتمسك به في معارضة إيجاب الوضوء على نوم من نام مضطجعا ثم الاضطجاع لا يستلزم النوم فقد يضطجع منتظرا للصلاة للاستراحة فيظن من رآه كذلك أنه نائم.
على ان هذا اللفظ أعنى قوله كانوا يضعون جنوبهم لم يثبت من وجه يصلح للاحتجاج به.
قوله: "وقيء نجس"
أقول: قد صح أنه صلى الله عليه وسلم "قاء فتوضأ" [أحمد "6/443"، أبو دأود "2381"، الترمذي "87"]، كما أخرج ذلك أحمد وأهل السنن وهو حديث حسن ويؤيده حديث: "من أصابه قيء أو رعاف أو قلس فلينصرف فليتوضأ" وإعلاله بإسماعيل بن عياش لا يوجب ترك العمل به فإسماعيل إمام قد وثقه جماعة وضعفه آخرون بما لا يوجب سقوط حديثه وترك العمل به ولحديثه هذا شواهد تقوية.
قوله: "ودم أو نحوه" الخ.
أقول: قد عرفناك فيما سلف أن الأصل في الأشياء الطهارة فمن ادعى نجاسة شيء من الأشياء فعليه الدليل فإن جاء بما يصلح للنقل عن هذا الأصل المصحوب بالبراءة الأصلية فذاك وإلا فلا قبول لقوله.
وهكذا من ادعى أنه ينقض الطهارة الصحيحة ناقض فعليه الدليل فإن نهض به فذاك وإلا فقوله رد عليه.
وعرفناك أن الحدث مانع من الصلاة فإذا ارتفع بالوضوء كان مرتفعا حتى يعود ذلك المانع بما يوجب بطلان تلك الطهارة التي ارتفع بها ذلك المانع ولم يأت من قال بأن خروج الدم ناقض بشيء يصلح للتمسك به فإن حديث سلمان أنه رعف فقال له صلى الله عليه وسلم: "أحدث لك وضوءا" وإن أخرجه الطبراني في الكبير ففي إسناده كذاب وضاع وحديث تميم الداري بلفظ:

(1/62)


"الوضوء من كل دم سائل" وإن عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلي الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وحديث أبي هريرة: "ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا" وإن أخرجه الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وأما حديث إسماعيل بن عياش فقد قدمنا في البحث الذي قيل هذا الكلام فيه وذكرنا أنه يؤيد ما ذكرناه من أنه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلا يصلح للاحتجاج به منفردا فكيف إذا عورض بمثل أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل محاجمه أخرجه الدارقطني وفي إسناده صالح بن مقاتل ووالده وسليمان بن دأود وصالح ووالده ضعيفان وسليمان بن دأود مجهول ولكنه رواه المنذري في تخريج المهذب من هذه الطريق وقال إسناده حسن وقال ابن العربي في خلافياته إن الدارقطني رواه بإسناد صحيح هكذا حكى ذلك في البدر المنير وبما أخرجه البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرمى رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته وأخرجه أحمد وأبو دأود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
وقد ثبت في روايات صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب فقال: "من يحرسنا الليلة؟" فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فباتا بفم الشعب فاقتسما الليلة للحراسة وقام الأنصاري يصلي فجاء رجل من العدو فرمى الأنصاري بسهم فأصابه فنزعه واستمر في صلاته ثم رماه بثان فصنع كذلك ثم رماه بثالث فنزعه وركع وسجد وقضى صلاته ثم أيقظ رفيقه فلما رأى ما به من الدماء قال له لم لا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك ولم ينكر عليه الاستمرار في الصلاة بعد خروج الدم ولو كان الدم ناقضا لبين له ولمن معه في تلك الغزوة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وقد كان الصحابة رضى الله عنهم يخوضون المعارك حتى تتلوث أبدانهم وثيابهم بالدم ولم ينقل أنهم كانوا يتوضئون لذلك ولا سمع عنهم أنه ينقض الوضوء.
قوله: "والتقاء الختانين"
أقول: قد ثبت أن هذا من موجبات الغسل بالأدلة الصحيحة كما سيأتي ومعلوم أن موجبات الطهارة الكبرى موجبات للطهارة الصغرى فذكر هذا هنا غفلة شديدة.
قوله: "ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها".
أقول: ليس على هذا أثارة من علم ولا عقل فلا حاجة إلي التطويل في رده وبيان بطلانه.
قوله: "وكل معصية كبيرة غير الإصرار".
أقول: لم يتمسك القائلون بهذا سوى حديث أبي هريرة عند أبي دأود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مسبلا إزاره في الصلاة فأمره بإعادة الوضوء والصلاة وفي إسناده مجهول قيل هو يحيى بن أبي كثير المدني وقيل هو كثير بن جهمان السلمي وقيل غيرهما فلا تقوم به حجة ولا يصح الاستدلال به على نقض وضوء المسبل إزاره فكيف يستدل به على هذه القضية الكلية التي تعم بها البلوى.

(1/63)


فيالله العجب من التسرع إلي إثبات أحكام الله سبحانه بمجرد الخيالات المختلة والشبه المعتلة.
وأما الاستدلال بأن الكبائر محبطة فلا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه ولو سلم لكانت محبطة لكل عمل فعل قبلها من أعمال الخير كائنا ما كان فلا ينعقد لفاعل الكبيرة عمل ولا تثبت له طاعة وهذا باطل بالإجماع وليس مراد القائلين بالإحباط إلا إحباط ثواب الطاعات المترتب على فعلها لا شك في هذا.
قوله: "أو ورد الأثر بنقضها كتعمد الكذب والنميمة".
أقول: لم يرد شيء قط في ذلك لا من وجه صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف فإثبات مثل هذا الحكم الذي تعم به البلوى بلا شيء من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا وجه من وجوه الاستدلال ليس من دأب المتورعين فضلا عن العلماء العاملين.
ومع هذا فإقرار هاتين المعصيتين بالذكر بعد ذكر كل معصية كبيرة ليس على ما ينبغي فإنهما من الكبائر كما دلت على ذلك الأدلة وانطباق حد الكبائر عليهما على اختلاف الاصطلاحات ومثلهما غيبة المسلم.
وأما القهقهة في الصلاة فأشف ما استدلوا به قصة الأعمى التي أخرجها الطبراني في الكبير عن أبي موسى قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذا دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيدوا الوضوء والصلاة وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أبو جعفر الواسطي الدقيقي قد اختلف فيه حتى قال أبو دأود إنه لم يكن بمحكم العقل ورواه البيهقي عن أبي العالية مرسلا وقال أما هذا فحديث مرسل ومراسيل أبي العالية ليست بشيء كان لا يبالي عمن أخذ حديثه ورواه البيهقي أيضا من طرق ثم قال وهذه الروايات كلها راجعة إلي أبي العالية الرياحي قال الشافعي حديث أبي العالية الرياحي رياح وقال ابن عدي وأكثر ما نقم على أبي العالية هذا الحديث وكل ما رواه غيره فإن مدارهم ورجوعهم إلي أبي العالية والحديث له وبه يعرف ومن أجل هذا الحديث تكلموا في أبي العالية وسائر أحاديثه مستقيمة صالحة انتهى.
وقد جزم جماعة من الحفاظ أنه لم يصح في كون الضحك ينقض الوضوء شيء فليس ها هنا ما يصلح لإثبات أقل حكم من أحكام الشرع.
وقد أخرج البيهقي في سننه من طريق الدارقطني عن أبي موسى أنه كان يصلي بالناس فرأوا شيئا فضحك بعض من كان معه فقال أبو موسى من كان ضحك منكم فليعد الصلاة.
قال البيهقي وكذلك رواه أبو نعيم عن سليمان بن المغيرة وليس في شيء منه أنه أمر بالوضوء.
ثم أخرج عن أبي الزناد قال كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إليهم منهم

(1/64)


سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة جلة سواهم يقولون فيمن رعف غسل عنه الدم ولم يتوضأ وفيمن ضحك في الصلاة أعاد صلاته ولم يعد منه وضوءه انتهى.
وهؤلاء الذين ذكرهم هم الفقهاء السبعة المشهورون.
ثم قال وروينا نحو قولهم في الضحك عن الشعبي وعطاء والزهري.
قوله: "قيل ولبس الذكر الحرير".
أقول: هذا قول لم يدل عليه دليل ولا مستند له إلا مجرد القال والقيل والعجب من قائله كيف استحل الجزم به وهكذا مطل الغنى والوديع ثم جعل النصاب لذلك أن يكون فيما يفسق غاصبه فإن كان هذا التقدير لأجل يكون فاعله فاعلا لكبيره فلا وجه لذكره مستقلا فإنه قد دخل في قوله: "وكل معصية كبيرة" فإن كان لأجل كون الفسق من نواقض الوضوء فهو لا يكون إلا بسبب التفسيق وهو فعل الكبيرة عند البعض أو المخالفة لما هو معلوم من ضرورة الدين عند آخرين مع أنه قد وقع الإجماع على أن صلاة الفاسق ووضوءه وسائر عباداته ومعاملاته صحيحة والحكم بانتقاض وضوئه بفسقه مخالف للإجماع ومن قواعد المصنف وأمثاله أنه يفسق من خالف الإجماع.
وإن كان المراد تكثير المسائل على أي صفة رقع وكيفما اتفق فهذا لا يعجز عنه أحد وليس هذا بعلم بل محض إثم.
والحاصل أن هذه المسائل ظلمات بعضها فوق بعض ومسكين مسكين المقلد مإذا جرى عليه من هذه الآراء التي تشعبت طرائقها وخفيت دقائقها وحقائقها اللهم غفرا.
[ فصل:
"ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين فمن لم يتيقن غسل قطعي أعاد في الوقت مطلقا وبعده إن ظن تركه وكذا إن ظن فعله أو شك إلا للأيام الماضية.
فأما الظني ففي الوقت إن ظن تركه ولمستقبله ليس فيها إن شك"].
قوله: "فصل: ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين".
أقول: إذا كان أحد الأمرين متيقنا فكونه لا ينتقل عنه إلا بيقين لا يتم على ما هو الحق من التعبد بأخبار الآحاد المفيدة للظن فإذا كان الرجل مثلا متيقنا أنه قد توضأ فاستصحاب هذا اليقين والعمل عليه هو مجرد دليل ظني لا يقيني فإذا أخبره عدل بأنه شاهده يبول بعد ذلك الوقت الذي تيقن إيقاع الوضوء فيه فهذا الخبر من العدل صالح للانتقال عن ذلك الاستصحاب والعمل

(1/65)


به واجب وهو في الحقيقة انتقال من ظني وهو الاستصحاب بما تيقن وقوعه إلي ظني وهو خبر العدل.
ولم يقع خبر هذا العدل معارضا لنفس ذلك اليقين لإيقاع الوضوء فإنه لم يقل العدل للمتوضىء المتيقن لإيقاع الوضوء أنت لم تتوضأ بل قال قد فعلت بعد الوضوء الذي تيقنته ما يبطله.
وبهذا يظهر لك أن اشتراط اليقين في رفع ما تيقنه أولا ليس على ما ينبغي والاتفاق كائن بالتعبد بالظن في العبادات والمعاملات إلا ما خصه دليل وقد استدلوا على إثبات هذه القاعدة بمثل حديث: "إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره فأشكل عليه أحدث أم لم يحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" [البخاري "137"، مسلم "361"]، وليس في هذا ما يدل على هذه الكلية وغايته أن المصلي عند الشك لا يعمل بما لا يفيد ظنا ولا علما كالحركة التي يحسها في دبره.
فالحاصل أن من يتقن الحدث وجب عليه استصحاب ذلك حتى يحصل ما يوجب الانتقال عنه وهو العلم بأنه قد رفعه أو الظن بأنه قد رفعه وذلك بخبر من يجب قبول خبره ونحوه ومن حصل له تيقن إيقاع الوضوء وجب عليه استصحاب ذلك حتى يتيقن أنه قد احدث أو يظن ذلك بخبر عدل أو نحوه.
وإن شكل عليك هذا الذي قررناه فافرض المسألة في رجل يكثر شكه ويضطرب حاله ويتسارع إليه النسيان فيما يفعله فإنك عند ذلك تستوضح ما استشكلته وتستقرب ما استبعدته.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن هذه التفريعات الواقعة في هذا الفصل لم تستند إلا إلي مجرد الرأي المحض الذي لا يحل العمل به في شيء من أمور الدين وإنما رخص فيه للمجتهد عند عدم الدليل من الكتاب والسنة وذلك رخصة خاصة به لا يجوز لغيره أن يعمل بذلك الرأي الذي حصل له فلا نطول برد ما أورده من هذه التفاصيل المبنية على شفا جرف هار.

(1/66)


[ باب الغسل
فصل:
يوجبه الحيض والنفاس والإمناء لشهوة تيقنهما أو المنى وظن الشهوة لا العكس وتوارى الحشفة في أي فرج].
قوله: "فصل يوجبه الحيض".

(1/66)


أقول: هذا صواب وقد أخطأ من قال يوجبه الطهر فإن السبب الذي لأجله وجب الغسل هو الحيض لا الطهر ومعلوم أن الطهر لا يكون سببا للتطهر ولا يكون للاغتسال من السبب إلا بعد الفراغ منه وكذلك الوضوء سببه الحدث الموجب له ولا يكون إلا بعد وقوعه وهذا ظاهر لا يخفى.
فما وقع في ضوء النهار من التصويب والاستدلال له ليس على الصواب وهكذا تقرير الأمير في حاشيته على ضوء النهار للتصويب والجزم بأنه الحق ليس كما ينبغي فالسبب الذي أوجب الغسل هو الحيض ولكنه لا يمكن التطهر منه إلا بعد انقضائه كسائر الأسباب.
والحاصل أن الحيض إذا حدث فقد وجد المانع ولا يرتفع إلا بالغسل وهكذا النفاس والوطء فالمانع قد وجد بوجود هذه الاسباب كما أن البول والغائط ونحوهما قد وجد بوجودها المانع من الصلاة ولا يرتفع هذا المانع إلا بالضوء.
وسيأتي الكلام على الحيض والنفاس في باب الحيض إن شاء الله تعالي.
قوله: "والإمناء لشهوة إن تيقنهما أو المنى وظن الشهوة لا العكس".
أقول: لا خلاف في وجوب الغسل بالاحتلام وما يروى عن النخعي من المخالفة في ذلك فما أظنها تصح عنه الرواية ولو صحت لكان قوله مخالفا لإجماع من قبله من المسلمين ومن بعده ولكن الاعتبار هو بوجود الماء أعنى المنى فإذا استيقظ المحتلم ووجد منيا في بدنه أو ثوبه فقد وجب عليه الغسل سواء ذكر أنه حصل ذلك لشهوة أم لا وأما إذا ذكر أنه احتلم لشهوة ولم يجد أثرا للمنى فلا اعتبار بذلك ووجهه ما أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجة من حديث عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما فقال: "يغتسل" وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل فقال: "لا غسل عليه" [أحد "6/256"، أبو دأود "236"، الترمذي "113"، ابن ماجة 612]، وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال خفيف وحديثه يصلح للاحتجاج به.
ويؤيده ما أخرج أحمد والنسائي من حديث خولة بنت حكيم بنحوه وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم سلمة أن أم سليم قالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت قال: "نعم إذا رأت الماء" [البخاري "282"، مسلم "313"]، فأدار صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل على رؤية الماء.
قوله: "وتواري الحسفة في أي فرج".
أقول: للحديث الصحيح "إذا قعد بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" [البخاري "291"، النسائي "191"، ابن ماجة "610"]، وهو ثابت من طريق جماعة من الصحابة في الصحيحين وغرهما وإليه ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم ولا يعارضه ما ورد من الأحاديث المصرحة بأن "الماء من الماء" [مسلم "81/343"، أبو دأود "217"]، فإن هذا أعني أنه لا يوجب الغسل إلا الإنزال للماء كان رخصه في أول الإسلام ثم نسخ بما ورد في إيجاب الغسل

(1/67)


بالتقاء الختانين كما صرح بذلك أبي بن كعب أخرجه أبو دأود ورجاله ثقات وكما في صحيح مسلم عن عائشة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل". [مسلم "88/349"، أحمد "6/47"، الترمذي "108 – 109"].
وأيضا لو قدرنا عدم النسخ لكان الجمع بين هذه الأحاديث ممكن بأن نقال حديث: "الماء من الماء" دل بمفهومه على عدم إيجاب الغسل على من جامع ولم ينزل وحديث التقاء الختانين دل بمنطوقه على وجوبه ودلالة المنطوق أرجح من دلالة المفهوم.
[ فصل:
ويحرم بذلك القراءة باللسان والكتابة ولو بعض آية ولمس ما فيه ذلك غير مستهلك إلا بغير متصل به ودخول المسجد فإن كان فيه فعل الأقل من الخروج أو التيمم ثم يخرج ويمنع الصغيران ذلك حتى يغتسلا ومتى بلغا أعاد ككافر أسلم".
قوله: فصل: "ويحرم بذلك القراءة باللسان".
أقول: حديث علي عند أحمد وأهل السنن وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم "لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة" [أحمد "1/83، 84، 107، 124، 134"، أبو دأود "229" الترمذي "146"، النسائي "265 – 266"، ابن ماجة "594"]، قد صححه جماعة من الحفاظ ولم يأت من تكلم عليه بشيء يصلح لأدنى قدح ومن جملة من صححه الترمذي وابن حبان والحاكم وابن السكن والبغوي وعبد الحق.
وفي لفظ منه للنسائي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه من القرآن شيء ليس الجنابة. [النسائي "265"].
وفي بعض ألفاظ الحديث "كان يقرأ القرآن في كل حال إلا الجنابة".
ولهذا الحديث شواهد تقوية وتشد من عضده وإن كان صالحا للاحتجاج به بدونها ولكن غاية ما يفيده الحديث كراهة القراءة للقرآن من الجنب ولا يفيد التحريم.
نعم أخرج الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر مرفوعا: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن" [الترمذي "131"، ابن ماجة "595"]، يدل على التحريم وتضعيفه بإسماعيل بن عياش مندفع لو روده من طريق غيره وهو أيضا لم يقدح فيه بما يوجب عدم صلاحية حديثه للاحتجاج به قال المنذري في تخريجه لأحاديث المهذب هذا الحديث حسن وإسماعيل تكلم فيه وأثنى عليه جماعة من الأئمة انتهى.
ويؤيده ما أخرجه أبو يعلى من حديث علي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا

(1/68)


من القرآن ثم قال: "هكذا من ليس بجنب فأما الجنب فلا ولا آية" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون انتهى.
وأما ما روى بلفظ: "لا ولا حرفا" فلم يصح رفع ذلك.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لم يرد ما يدل على المنع من الكتابة ولا ما يدل على المنع من مس المصحف إلا ما أخرجه الطبراني في الكبير والصغير من حديث عبد الله بن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون وذكر له شاهدين من حديث حكيم بن حزام وحديث عثمان بن أبي العاص.
قلت حديث حكيم بن حزام أخرجه الدارقطني والطبراني والحاكم والبيهقي مرفوعا بلفظ: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر" وفي إسناده سويد بن إبراهيم العطار وأبو حاتم وهو ضعيف كما قاله بعض الحفاظ وقال ابن معين لا بأس به وقد صحح الحاكم إسناد هذا الحديث وحسنه الحازمي ووثق رواته الدارقطني.
وأخرج مالك في الموطأ والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن حزم بلفظ: "لا يمس القرآن إلا طاهر"
وأخرج الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص بلفظ كان فيما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمس المصحف وأنت غير طاهر".
قوله: "ودخول المسجد".
أقول: حديث عائشة أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجوه أصحابه وبيوتهم شارعة إلي المسجد: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد" [أبو دأود "332"]، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل فيهم رخصة فخرج إليهم فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" وهو حديث صحيح ولا وجه لتضعيف ابن حزم له بأفلت بن خليفة الكوفى فهو معروف مشهور صدوق كما صرح بذلك أئمة الحديث وليس بمجهول كما قال وأيضا قد أخرج هذا الحديث من غير طريقه ابن ماجة والطبراني عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: "إن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض" [ابن ماجة "645"].
وروى هذا الحديث من طرق وله شواهد فالحجة قائمة بذلك وهو يقتضى تحريم المسجد على الجنب والحائض ولا ينافيه جواز المرور فيه لعابر السبيل وهو المجتاز فيه للحاجة كما فسر الآية جماعة من الصحابة منهم أنس وابن مسعود وجابر وابن عباس وقد قيل إنه المسافر.
وعلى كل حال فهذه رخصة لا تنافى مطلق التحريم وأما الحكم بمنع الصغار من دخول المسجد فلا وجه له لأن رفع قلم التكليف عنهم يقتضي أنها لا تنعقد لهم جنابة ولا يجب عليهم غسل فدخولهم المسجد لا يتنأوله دليل المنع ولا هو محظور في نفسه حتى يجب على المكلفين أن يمنعوهم منه وهذا ظاهر واضح لا يخفى.

(1/69)


وأما ما قيل من التعويد والتمرين لهم كما في أمرهم بالصلاة قبل بلوغهم فذلك باب آخر ومن غرائب الأقوال إيجاب الغسل عليهم إذا بلغوا فإن هذا الإيجاب لم يكن له سبب يقتضيه لما قدمنا من أنها لا تنعقد لهم جنابة ولا يتصفون بوصف الاجتناب ما داموا قبل البلوغ والاتفاق كائن على انها لا تتنأولهم الخطابات المشتملة على الأحكام التعبدية فكيف يجب عليهم عند التكليف الغسل لغير سبب شرعي وأما إلزامهم بخطابات الوضع كالجنابات ونحوها فليس ذلك من هذا القبيل فإن ما نحن بصدده لا يقول قائل بأنه من أحكام الوضع ثم يقال لهم إن كان الغسل الأول صحيحا فما وجه إيجاب الغسل عند البلوغ وإن كان غير صحيح فكيف يؤمرون بما لا يصح.
وبالجملة فالتسأهل في إثبات الأحكام الشرعية يأتي بمثل هذه الخرافات ثم قياسهم على كافر أسلم غفلة عظيمة فإن الكافر مخاطب بالشرعيات فأين خطاب الصغار بها ثم لا وجه لإيجاب الغسل على الكافر لأجل اجتنابه حال الكفر فإن الإسلام يجب ما قبله وقد أوجب الشرع عليه الغسل بمجرد الإسلام وذلك تكليف وجب بالإسلام لا بالاجتناب حال الكفر.
[ فصل:
"وعلى الرجل الممنى أن يبول قبل الغسل فإن تعذر اغتسل آخر الوقت فقط ومتى بال أعاده لا الصلاة".
"وفروضه مقارنة أوله بنيته لرفع الحدث الأكبر أو فعل ما يترتب عليه فإن تعدد موجبه كفت نية واحدة مطلقا عكس النفلين والفرض والنفل وتصح مشروطة والمضمضة والاستنشاق وعم البدن بإجراء الماء والدلك فإن تعذر فالصب ثم المسح وعلى الرجل نقض الشعر وعلى المرأة في الدمين".
"وندبت هيئته وفعله للجمعة بين فجرها وعصرها وإن لم تقم وللعيدين ولو قبل الفجر ويصلي وإلا أعاده قبلها ويوم عرفة وليالي القدر ولدخول الحرم ومكة والكعبة والمدينة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعد الحجامة والحمام وغسل الميت والإسلام"].
قوله: "وعلى الرجل الممنى أن يبول قبل الغسل".
أقول: هذا تشريع بغير شرع وإيجاب لما لم يوجبه الله ولا رسوله ولا دل عليه دليل صحيح ولا حسن ولا ضعيف والذي رواه بلفظ: "إذا جامع الرجل فلا يغتسل حتى يبول" لم يكن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من قول أصحابه بل هو كلام مكذوب وباطل موضوع وقياسهم لهذا على بقاء شيء في الرحم من الحيضة إلحاق باطل بباطل وقياس ما لا أصل له على ما لا أصل له.

(1/70)


مع اختلاف السبب فإن إيجاب الغسل في الحيض سببه نفس الحيض مع انقطاعه وظهور الطهر وسبب الغسل من الجماع إنزال المنى ثم دعوى بقاء شيء في الرحم من الحيض بعد ظهور الطهر دعوى باطلة ثم لو سلمنا ذلك لكان الباقي بعد ظهور الطهر عفوا كما أن الباقي في الذكر من المنى بعد الإنزال والدفق عفو.
وبالجملة فما هذه بأول غفلة وقعت من المتمسكين بمحض الرأي التاركين للتمسك بأدلة الشرع بل ما هي بأول جرأة اجترؤوا عليها وكلفوا عباد الله بها والدين يسر والشريعة سمحة سهلة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور في الليلة الواحدة على جميع نسائه وهن تسع ويغتسل بعد إتيانه لكل واحدة منهن كما أخرج ذلك عنه الحفاظ الموثوق بهم وبما يروونه ومعلوم أنه لا يتيسر البول بعد كل غسل حتى يبول تسع مرات في الليلة الواحدة وقد ترتب على هذا التشريع البديع ما هو من غرائب التفريع فقال: "فإن تعذر اغتسل آخر الوقت وصلى فقط ومتى بال أعاده لا الصلاة" فيا لله العجب من جري قلم التصنيف بمثل هذه الأمور التي يعرف سقوطها وعدم وجود الدليل عليها اصغر الطلبة لعلم الشرع.
قوله: "وفروضه مقارنة أوله بنيته لرفع الحدث الأكبر".
أقول: أما جعل النية من الفروض فخلاف ما هو الظاهر من دليلها فإنه يدل على أنها شرط كما قدمنا ذلك في نية الوضوء وأما جعل النية لرفع الحدث الأكبر فذلك صواب وقد قدمنا في الوضوء ما يوضح هذا ويقرره.
ولا يعتبر غير نية رفع الحدث فإذا ارتفع فعلى ما شاء ومن العبادات التي يكون الحدث مانعا عنها لأنه قد ارتفع المانع ولا فرق بين فريضة ونافلة لكن إذا كان هذا المانع مرتفعا وأراد أن يفعل الغسل لا لرفع المانع بل لقربة من القرب كغسل الجمعة ونحوه فها هنا لا حدث أكبر تتوجه النية إلي رفعه بل ذلك الغسل لمجرد فعل تلك القربة فلا بد أن ينويها بالغسل وإلا لم يكتب له ثوابها لحديث "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى".
قوله: "والمضمضة والاستنشاق"
أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا متفقا عليه وهو بيان لما أجمله الله سبحانه في كتابه وقد ورد الوعيد على ترك شيء من البدن وورد الأمر ببل كل الشعر وإنقاء البشر وهما حديثان حسنان ولهما شواهد قوية ومجموع ذلك ينتهض للوجوب ومحل المضمضة والاستنشاق وإن لم يكن من ظاهر البدن ففعل النبي صلى الله عليه وسلم لهما في الوضوء والغسل يدل على أن لهما حكم ظاهر البدن.
قوله: "وعم البدن بإجراء الماء والدلك".
أقول: أما تعميم البدن فلا يتم مفهوم الغسل إلا به وأما الدلك فإن ثبت لغة أو شرعا انه داخل في مفهوم الغسل بحيث لا يسمى غسلا إلا به كان ذلك واجبا وفاء بما أوجبه الله من الغسل وقد ذكر نشوان في كتابه شمس العلوم ما يفيد ذلك وهو من أئمة اللغة ويؤيده

(1/71)


حديث وأنقوا البشر فإنه فسر صاحب المصباح الإنقاء بالتنظيف ومعلوم أن التنظيف لا يكون إلا بالدلك وأخرج مسلم من حديث عائشة بلفظ أن اسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال: "تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء" [مسلم "4/16"]، فهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم وفيه الأمر بالدلك للرأس وهو جزء من أجزاء البدن وإن كان يستحق مزيد العناية في غسله لما فيه من الشعر.
قوله: "وعلى الرجل نقض الشعر".
أقول: ليس في هذا دليل صحيح يدل على وجوب ذلك وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا كما أخرجه أبو يعلى من حديث أنس ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج أحمد والبزار عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب بيده على رأسه ثلاثا فقال رجل شعري كثير قال كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأطيب. [أحمد "2/251"]، ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد نحوه وأخرج البخاري في صحيحه من حديث جبير ابن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا" [أحمد "2/132 – 133"، البخاري "254"، ابن ماجة "276"]، وأشار بيديه كليتهما.
وأخرج البخاري أيضا عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيض على رأسه ثلاثا" [البخاري "255"]، وقد ورد أنه كان يفيض الماء على رأسه بعد أن يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر كما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة والأحاديث بنحو هذا كثيرة ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب ذلك على النساء كما في الصحيح من حديث أم سلمة أنها قالت يا رسول الله إني امرأة شديدة عقص الرأس أفأحله إذا اغتسلت؟ قال: "إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات" [مسلم "58/330"، أحمد "6/315"، أبو دأود "251"، الترمذي 105، ابن ماجة "603"، النسائي "1/131"]، والنساء شقائق الرجال فهذا التعليم لأم سلمة يدل على أن حكم الرجال في ذلك حكم النساء ولم ينتهض دليل صحيح يدل على التفرقة بين الرجال والنساء.
وأما ما أخرجه أبو دأود عن ثويان أنه حدثهم أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: "أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله" [أبو دأود "255"]، ففي إسناده محمد بن إسماعيل بن أبي عياش وفيه مقال وقيل إنه لم يسمع من أبيه وفي أبيه المقال المشهور ومع ذلك فلا يدل النشر على النقض لما كان مضفورا بل
غايته نشر الضفائر أو نشر ما لم يكن مضفورا ولا ملبدا وقد كان الضفر والتلبيد قليلين في الصحابة وكما أنه لا دليل صحيح يدل على وجوب نقض شعر الرجل والمرأة في الجنابة لا دليل صحيح أيضا يدل على أنه يجب على المرأة نقضه في غسل الدمين وغاية ما يجب عليها ما تقدم من حديث عائشة من قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء: "ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء".

(1/72)


وأما ما أخرجه الدارقطني في الأفراد والخطيب في التلخيص والطبراني في الكبير البيهقي من حديث أنس مرفوعا: "إذا اغتسلت المرأة من حيضها فقضت شعرها نقضا وغسلته بخطمي وأشنان وإن غسلت من الجنابة صبت الماء على رأسها صبا وعصرته" ففي إسناده مسلم بن صبح اليحمدي وهو مجهول وهو غير أبي الضحى مسلم بن صبح المعروف فإنه أخرج له الجماعة كلهم وأيضا اقترانه بالغسل بخطمي وأشنان يدل على عدم الوجوب فإنه لم يقل أحد بوجوب الخطمي والأشنان.
ثم قد وقع في رواية مسلم من حديث أم سلمة أأنقضه للحيض والجنابة؟ فقال: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين".
والحاصل أنه لا يجب على الرجل ولا على المرأة نقص الشعر لا في الجنابة ولا في الحيض والنفاس فإيجابه في الجنابة على الرجل دون المرأة ثم إيجابه على المرأة في غسل الحيض والنفاس لم يستند كل ذلك إلي ما يعول عليه كما عرفت.
وأشف ما استدلوا به على وجوب نقض المرأة لرأسها في الحيض هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج" [وَأَرْجُلَكُمْ بخاري "317"، مسلم "115/1211"، ابن ماجة "614"]، واختصاص هذا بالحج لا يقتضي بثبوته غيره لا سيما وللحج مدخلية في مزيد التنظيف ثم اقترانه بالامتشاط الذي لم يوجبه أحد يدل على عدم وجوبه ثم لا يقوم على معارضة ما تقدم.
ومما يدل على اختصاص هذا بالحج ما أخرجه مسلم عن عائشة أنه بلغها أن عبد الله ابن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن فقالت يا عجبا لابن عمرو بهذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن أفلا أمرهن أن يحلقن رءوسهن لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
وقد جمع بعضهم بين الأحاديث بأن النقض مندوب فقط وجمع بعضهم بأن النقض يتعين إذا لم يصل الماء إلي أصول الشعر إلا بالنقض.
قوله: "وندب هيأته".
أقول: الواجب غسل البدن من قمة الرأس إلي قرار القدم فإذا قد فعل من وجب عليه الغسل ذلك فقد أتى بما عليه لأن ما فعله يصدق عليه مسمى الغسل لغة وشرعا سواء قدم غسل أسفل البدن على أعلاه أو العكس وسواء قدم الميامن على المياسر أو العكس.
ولكنه ينبغي للمغتسل أن يكون اغتساله على الصفة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الهيئة المروية عنه في الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما المتضمنة تقديم أعضاء الوضوء ثم إفاضة الماء على الرأس ثم على الميامن ثم على المياسر وذلك سنة ثابتة غير واجبة.
قوله: "وللجمعة بين فجرها وعصرها وإن لم تقم".

(1/73)


أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قاضية بالوجوب كحديث "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" [البخاري "2/858"، مسلم "5/846"، أبو دأود "341"، النسائي "3/93"، ابن ماجة "1089"]، وحديث "إذا جاء أحدكم إلي الجمعة فليغتسل" [البخاري "877"، مسلم "844"، الترمذي "492"، النسائي"]، ونحوهما كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام" [البخاري "898"، مسلم "849"].
ولكنه ورد ما يدل على عدم الوجوب وهو ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن ماجه وابن خزيمة من حديث الحسن البصري عن سمرة مرفوعا: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" [أحمد "5/8، 11، 16، 22"، أبو دأود "354"، النسائي "1380"، الترمذي "497"]، فإن دلالة الحديث على عدم الوجوب ظاهرة واضحة وقد أعل بما وقع من الخلاف في سماع الحسن من سمرة ولكنه قد حسنه الترمذي.
ويقوي هذا الحديث أنه قد روي من حديث أبي هريرة وأنس وأبي سعيد وابن عباس وجابر كما حكى ذلك الدارقطني قال الترمذي وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأخرجه البيهقي من حديث ابن عباس وأنس وأبي سعيد وجابر.
ويقويه أيضا ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم أتى في الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلي الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" [مسلم "27/857"، ابن ماجة "1090"، أبو دأود "1050"، الترمذي "498"، أحمد "2/424"]، فإن اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الوضوء في هذا الحديث يدل على عدم وجوب الغسل فوجب تأويل حديث "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" بحمله على أن المراد بالوجوب تأكيد المشروعية جمعا بين الأحاديث وإن كان لفظ واجب لا يصرف عن معناه إلا إذا ورد ما يدل على صرفه كما فيما نحن بصدده لكن الجمع مقدم على الترجيح ولو كان بوجه بعيد.
قال الترمذي في جامعه بعد أن أخرج حديث سمرة المذكور والعمل على هذا عند أهل العلم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم اختاروا الغسل يوم الجمعة ورأوا أنه يجزىء الوضوء عن الغسل انتهى.
واعلم أن حديث: "إذا جاء أحدكم إلي الجمعة فليغتسل" يدل على أن الغسل لصلاة الجمعة وأن من فعله لغيرها لم يظفر بالمشروعية سواء فعله في أول اليوم أو في وسطه أو في آخره ويؤيد هذا ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما مرفوعا "من أتى إلي الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل" زاد ابن خزيمة "ومن لم يأتها فليس عليه غسل"
قوله: "وللعيدين ولو قبل الفجر ويصلي به وإلا أعاده قبلها".
أقول: ليس في ذلك إلا حديث الفاكه بن سعد عند أحمد وابن ماجه والبزار "أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر" [أحمد "4/78"، ابن ماجة "1316"]، وأخرج نحوه ابن

(1/74)


ماجه من حديث ابن عباس وأخرج نحوه أيضا البزار من حديث أبي رافع وفي أسانيدها ضعف ولكنه يقوي بعضها بعضا إلا أن جعل غسل العيدين للصلاة وغسل الجمعة لليوم من الرأي الجاري على عكس ما ينبغي وعلى خلاف ما يقتضيه الدليل.
قوله: "ويوم عرفة".
أقول: قد استدل على ذلك بما أخرجه ابن ماجه قال حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا يوسف بن خالد حدثنا أبو جعفر الخطمي عن عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكهه بن سعد عن جده الفاكهه ابن سعد وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويم النحر ويوم عرفة وكان الفاكهه يأمر أهله بالغسل هذه الأيام انتهى.
وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي وهو كذاب وضاع ونسبه ابن معين إلي الزندقة فالعجب من ابن ماجه كيف يروي في سننه عن مثل هذا.
وأخرج في مسند الفردوس عن أبي هريرة مرفوعا: "الغسل في هذه الأيام واجب يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة" وإسناده مظلم.
وذكر في جامع الأصول عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه ولطوافه بالبيت ولوقوفه بعرفة وقال ذكره رزين انتهى.
وهذه الأحاديث التي ذكرها لا يعرف أصلها ولا من خرجها فلا عمل عليها ولا تقوم بها الحجة.
وأخرج مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة ولوقوفه بعرفة انتهى وهذا فعل صحأبي لا تقوم به حجة.
قوله: "وليالي القدر".
أقول: ليس على هذا أثارة من علم لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قياس صحيح ولا من قول صحأبي وما قيل من قياسه على الجمعة إن كان لمجرد الشرف لزم القول باستحباب الغسل لكل ماله شرف من الأيام والليالي والأقوال والأفعال وهذا خرق للأجماع بل خرق للقواعد الشرعية بل تلاعب بالأحكام الدينية.
وإن كان لجماع غير الشرف فلا ندري ما هو وقد استدل لذلك بعض من لا يفرق بين الغث والسمين بأنه صلى الله عليه وسلم كان يعتزل النساء في ليالي القدر ويغتسل وهذا لايصح بوجه من الوجوه.
قوله: "ولدخول الحرم".
أقول: لم يثبت مشروعية ذلك أصلا ولعل المصنف رحمه الله يريد بقوله لدخول الحرم فعل الإحرام فقد أخرج الترمذي وحسنه والدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث زيد بن ثابت "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لأهلاله واغتسل" [الترمذي "830"]،وفي إسناد الترمذي عبد الله بن يعقوب المدني لم يتكلم فيه بجرح ولا تعديل ولكن تحسين الترمذي له يدل على أنه قد عرف حاله

(1/75)


وقد تابعه الأسود بن عامر شإذان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه مثله والأسود ثقة من رجال الصحيحين.
ويؤيد هذا الحديث ما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى على البيداء أحرم بالحج وفي إسناده يعقوب بن عطاء بن أبي رياح المكي وقد ضعفه أحمد وقال أبو حاتم ليس بالقوي وقال ابن معين ضعيف لكنه وثقة ابن حيان.
قوله: "ومكة"
أقول: وجهه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك" [البخاري "1573"، مسلم "227/ 1259"].
قال ابن المنذر الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية وقال أكثرهم يجزئ عنه الوضوء.
قوله: "والكعبة والمدينة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم"
أقول: لا يخفاك أن الحكم بكون الشيء مندوبا هو حكم شرعي لا يستفاد من غير الشرع فإذا لم يكن في الشرع ما يفيد ذلك فهو من التقول على الله سبحانه بما لم يقل ومن التشريع للعباد بما لم يشرعه الله لهم ومن توسيع دائرة الشريعة المطهرة بمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة وليت شعري ما الحامل على هذا وما المقتضى له فإن القول بذلك ليس من الخطأ في الاجتهاد فإن هذا إنما يكون عند تعارض الأدلة وتخالف القرائن المقبولة ثم مجرد دعأوى القياس على ما في إثبات الأحكام الشرعية بغالب مسالكه من عوج لا يتم إلا بوجود أصل وفرع بعد تسليم الأصالة والفرعية ثم أمر جامع بينهما جمعا لا يدخله دفع ولا نقض ولا معارضة وما كان بدون ذلك فلا يعجز أحد أن يدعيه ويقول به ولو كان مثل ذلك سائغا لقال من شاء بما شاء وكيف شاء.
ثم كان على المصنف أن يذكر من هذه التي ذكرها دخول بيت المقدس ودخول مسجد قباء ودخول قبور الأنبياء ودخول كل ما له شرف.
وسبحان الله ما يفعل التسأهل في إثبات الأحكام الشرعية من الفواقر التي يبكى لها تارة ويضحك لها أخرى.
قوله: "وبعد الحجامة والحمام".
أقول: أما بعد الحجامة فقد استدل لذلك بما أخرجه أحمد وابو دأود والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغتسل من أربع من الجمعة والجنابة والحجامة وغسل الميت" [أحمد "6/52"، أبو دأود "3160"، ولفظ أبي دأود "كان يغتسل" الخ وصححه ابن خزيمة وقال الدارقطني في إسناده مصعب بن شيبة وليس بالقوي ولا بالحافظ وقال النسائي

(1/76)


منكر الحديث ووثقه ابن معين وأخرج له مسلم وأهل السنن.
وقد عورض هذا الحديث بما أخرجه الدارقطني من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يزد على غسل محاجمه وفي إسناده صالح بن مقاتل وليس بالقوي.
والجمع ممكن بحمل الغسل على الندب ولا ينافي الندب الترك في بعض الأحوال.
وأما الغسل بعد الحمام فليس عليه أثارة من علم ولا وجه لذكره في الأغسال المشروعة.
قوله: "وغسل الميت".
أقول: استدلوا على ذلك بما أخرجه أحمد وأهل السنن والبيهقي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ" [أحمد "3/433، 454، 472"، أبو دأود "3162"، ابن ماجة "1413"، الترمذي "993"].
وفي إسناده صالح مولى التوأمة وفيه مقال ولكنه قد روي من طريق غيره فأخرجه البزار عن أبي هريرة من ثلاث طرق ولهذا حسنه الترمذي وصححه اب حبان وابن حزم وقال ابن دقيق العيد رجاله رجال مسلم وقال ابن حجر هو لكثرة طرقه اسوأ أحواله أن يكون حسنا وذكر المأوردي أن بعض أهل الحديث ذكر له مائة وعشرين طريقا.
ويؤيد هذا الحديث الذي تقدم قبله أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يغتسل من أربع".
وقد ورد ما يدل على أن هذا الأمر محمول على الندب كما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه إن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم"، وقد حسنه ابن حجر.
وكما أخرجه الخطيب من حديث عمر كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل وقد صحح ابن حجر إسناده.
وكما أخرجه الموطأ والبيهقي أن اسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنه غسلته ثم قالت لمن حضر من المهاجرين إن هذا يوم شديد البرد فهل على من غسل فقالوا لا.
قوله: "والإسلام".
أقول: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم بأن يغتسل لما أسلم كما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة وصححه ابن السكن ووقع منه صلى الله عليه وسلم الأمر لثمامة بأن يغتسل لما أسلم كما أخرجه أحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال ولكن فيهما أنه اغتسل والظاهر الوجوب ولا وجه لما تمسك به من قال بعدم الوجوب من أنه لو كان واجبا لأمر به صلى الله عليه وسلم من اسلم لأنا نقول قد كان هذا في حكم المعلوم عندهم ولهذا أن ثمامة لما أراد الإسلام ذهب فاغتسل كما في الصحيحين والحكم يثبت على الكل بأمر البعض ومن لم يعلم الأمر بذلك لكل من اسلم لا يكون عدم علمه حجة له.

(1/77)


[ باب التيمم
فصل
سببه تعذر استعمال الماء أو خوف سبيله أو تنجيسه أو ضرره أو ضرر المتوضيء من العطش أو غيره محترما أو مجحفا به أو فوت صلاة لا تقضى ولا بدل لها أو عدمه مع الطلب إلي آخر الوقت إن جوز إدراكه والصلاة قبل خروجه وأمن على نفسه وماله المجحف مع السؤال وإلا أعاد إن انكشف وجوده.
ويجب شراؤه بما لا يجحف وقبول هبته وطلبها حيث لا منة لا ثمنه.
والناسي للماء كالعادم]
قوله: فصل: "سببه تعذر استعمال الماء".
أقول: تعذر استعمال الماء كعدمه لأن وجوده مع تعذر استعماله لا يفيد شيئا فالواجد له مع تعذر استعماله غير واجد لماء يمكنه التطهر به فهو داخل تحت قوله تعالي: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة 6]، إذ ليس المراد وجود مجرد ذات الماء ولو في قعر بئر لا يمكن الوصول إليه فإنه لا يقول بذلك أحد.
ولا فرق بين أن يكون تعذر استعمال الماء لمانع في نفس الماء أو لمانع في المكلف فإن ذلك بمنزلة عدم الماء.
قوله: "أو خوف سبيله".
أقول: إذا خشي الضرر على نفسه أو ماله فقد جعل الله له من استعمال ذلك الماء فرجا ومخرجا فالدين يسر والشريعة سمحة سهلة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، و "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" [مسلم "1337"، النسائي "5/110، 111"].
قوله: "أو تنجيسه".
أقول: إذا كان استعماله للماء على تقدير يوجب تنجيسه حتى يخرج بذلك عن كونه طهورا فليست هذه صورة مستقلة ولا هذا سببا من أسباب التيمم مستقلا بل هو داخل تحت قوله تعذر استعمال الماء لأن هذا قد تعذر عليه استعمال الماء على الوجه المجزيء فوجود ذلك الماء كعدمه.
قوله: "أو ضرره"
أقول: إذا كان استعمال الماء يحدث للمتوضيء علة يحصل بها الضرر عليه كان ذلك موجبا لترك استعمال الماء والعدول إلي التيمم.
أخرج أبو دأود وابن ماجه والدارقطني من حديث جابر قال خرجنا في سفر وأصاب رجلا

(1/78)


منا حجر فشجه في رأسه ثم أحتلم فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل تجدون له رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده" [أبو دأود "336"، ابن ماجة "3"]، وقد تفرد به الزبير بن حريق وليس بالقوي وقد صححه ابن السكن وله طريق أخرى من حديث ابن عباس.
ومما يدل على جواز التيمم لخوف الضرر حديث عمرو بن العاص أنه احتلم في ليله باردة فتيمم ثم بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال ذكرت قول الله عزوجل {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، فضحك صلى الله عليه وسلم ولم يقل له شيئا وهو حديث صحيح [أحمد"4/203".
قوله: "أو ضرر المتوضيء من العطش".
أقول: لا وجه لأفراد هذا بالذكر فإن خشية الضرر يشمل قوله أو ضرره وقوله أو ضرر المتوضيء وإذا عرفت أن تعذر استعمال الماء أو خوف تنجيسه يدخلان تحت قوله أو عدمه فكان يغنيه عن ذكر هذين السببين ما سيذكره من سببية عدم الماء لما قدمنا وعرفت أن خشية الضرر يغنى عن الضررين اللذين جعلهما سببين بل ويغني عن قوله أو خوف سبيله لأنه إذا كأن يحصل بالخوف ضرر كان مسوغا للتيمم وإلا فلا فكان يكفيه أن يقول وسببه عدم الماء أو خشية الضرر فإن الاقتصار على هذين السببين يقوم مقام الستة الأسباب.
وإذا أراد زيادة الأيضاح قال سببه عدم الماء أو نحوه أو خشية الضرر.
ويدخل أيضا تحت خشية الضرر قوله أو مجحفا به فإن الإحجاف ضرر عظيم ويدخل أيضا تحت عدم الماء قوله: أو فوت صلاة لا تقضى ولا بدل لها لأن وجود الماء في تلك الحال كعدمه لعدم الانتفاع به فرجعت هذه الاسباب التي ذكرها كلها إلي سببين.
واعلم أن كون فوت الصلاة المذكورة سببا من أسباب التيمم لا دليل عليه بخصوصه لكن إذا نظرنا إلي قوله تعالي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" كان ذلك مسوغا للتيميم عند خشية فوت الصلاة بخروج وقتها سواء كانت تقضى أو لا تقضى وسواء كان لها بدل أو لا بدل لها ولا سيما مع قوله سبحانه: {إذا قُمْتُمْ إلي الصَّلاةِ} ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة: 6].
ويمكن أن يقال إن الله سبحانه لم يتعبد المكلف بالإتيان بالصلاة المفروضة إلا بشرطها المعتد وإذا فاته الأداء وجب عليه القضاء ولا سيما إذا لم يتركها إلي ذلك الوقت الذي خشى قوتها فيه باستعمال الماء اختيارا وتعمدا كالنائم والساهي وأما إذا كانت تلك الصلاة لا تقضى ولا بدل لها فيقال لا يجب عليه الدخول فيها مع وجود الماء إلا بعد أن يأتى بالوضوء فإذا ضاق الوقت عن ذلك فلا وجوب عليه في الصلاة الواجبة كصلاة الجنازة ولا استحباب له في

(1/79)


غير تلك الصلاة بالوضوء فهو لا يستطيع فقد عمل بقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
قوله: "أو عدمه مع الطلب إلي آخر الوقت".
أقول : ظاهر الآية الكريمة وهي قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو عَلَى سَفَرٍ أو جَاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6]، أن عدم وجود الماء قيد للمرض والسفر والمجىء من الغائط والملامسة على ما هو الراجح من أن القيد الواقع بعد جمل يعود إلي جميعها ولا يختص ببعضها إلا بدليل ولكن لما كان السبب الموجب للطهارة الصغرى هو المجىء من الغائط وما في معناه والموجب للطهارة الكبرى هو الملامسة للنساء وما في معناه من غير فرق بين مريض ومسافر وحائض كان ذلك دليلا على أن حرف التخيير في قوله: {أو جَاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بمعنى الوأو وقد ورد ذلك كثيرا في لغة العرب وذهب إليه جماعة من أئمة العربية.
فيكون معنى الآية على هذا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاد أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فكان الحاصل من هذا أن المريض الذي حصل له أحد سببي الطهارة وهي المجىء من الغائط أو الملامسة لا يتيمم إلا عند عدم الماء وكذلك المسافر.
لكنه قد ورد ما يدل على أن المرض سبب مستقل لجواز التيمم وإن كان الماء موجودا لما في حديث صاحب الشجة المتقدم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم" الخ ونحوه فيكون قيد عدم وجود الماء راجعا إلي المسافر وهو مجمع عليه أعني كون المسافر لا يتيمم إلا إذا لم يجد الماء ويدل عليه قصة عمرو بن العاص المتقدمة فإنه لما لم يغتسل مع وجود الماء أنكر عليه أصحابه ولم يقرره صلى الله عليه وسلم إلا حيث ذكر ما يدل على أنه خشى الضرر على نفسه واستدل بقوله تعالي: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29].
ويدل على ذلك أن رخصة التيمم نزلت في السفر لما أقاموا لطلب عقد عائشة كما في الصحيحين وغيرهما وفيه أنها قالت: "وليسوا على ماء وليس معهم ماء" [البخاري "1/334"، مسلم "367"، أبي دأود "317"، النسائي "310"]، الحديث.
فإن قلت إذا كان القيد المذكور في الآية راجعا إلي المسافر فمإذا يكون في الصحيح الحاضر؟.
قلت لم يكن في الآية تعرض لذلك لما قررناه لكنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تيمم في الحضر كما في الصحيحين وغيرهما ووردت الأدلة الدالة على مشروعية التيمم سواء كان حاضرا أو مسافرا صحيحا أو مريضا كما في حديث "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو إلي عشر سنين" [أبو دأود "332 و 333"، النسائي 1/171"، الترمذي "124"، أحمد "5/146، 155"]، أخرجه

(1/80)


أأهل السنن وغيرهم من حديث أبي ذر وصححه أبو حاتم والحاكم وابن حيان وابن السكن وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح وقد أخرجه مسلم أيضا وروي من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح.
وكما في حديث "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" [البخاري "335، 438، 3124"، مسلم "521"]، وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ لمسلم "وتربتها طهورا" [مسلم "4/522"، أحمد "5/383"]، وقد ثبت اعتبار عدم الماء في السفر بالآية المذكورة فاعتباره في الحضر ثابت بفحوى الخطاب فإن السفر مطنة المشقة والتعب ولهذا شرع الله له قصر الصلاة وترك الصيام مع كون المسافر في الغالب غير عارف بمواطن الماء كما يعرفها الحاضر في وطنه وبلد إقامته.
وأما إيجاب الطلب إلي آخر الوقت فلم يدل عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع.
فإن قلت فما المعتبر في عدم وجود الماء؟.
قلت إذا قام المصلى إلي الصلاة ولم يكن عنده ماء ولا كان قريبا منه يمكنه إدراكه ويصلي الصلاة لوقتها جاز له التيمم لأن الله سبحانه وتعالي ذكر القيام إلي الصلاة فقال: {إذا قُمْتُمْ إلي الصَّلاةِ} [المائد: 6] ثم ذكر بعد ذلك رخصة التيمم مع عدم وجود الماء فالمعتبر عدم حضور الماء عند القيام للصلاة وعدم علم المصلي بوجوده في المواضع القريبة منه وحد القرب أن يمكنه الوصول إلي الماء والتطهر به ويصلي الصلاة لوقتها فمن كان هكذا فهو واجد ومن لم يكن هكذا فهو عادم.
ويدل لهذا حديث أبي سعيد قال خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعادا أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال الذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" [أبو دأود "338"، النسائي "433 – 434"]، أخرجه أبو دأود والنسائي.
وهذا الحديث يرد على أن من أوجب الإعادة إذا وجد الماء في الوقت وما ذكره من أنه يجب عليه شراء الماء وقبول هبته فلا بأس بذلك لم أراد أكمل الطهارتين وأما أنه يجب وجوبا شرعيا فلا دليل عليه وإذا لم يجب قبول الهبة فكيف يجب الطلب لها فإن الظاهر تحريم السؤال على كل حال ولهذا عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا حتى كان يسقط سوط أحدهم وهو على راحلته فينزل له ولا يسأل غيره أن ينأوله وذلك ثابت في الصحيح.
وما ذكره المصنف رحمه الله من أن الناسي للماء كالعادم فهو صواب لرفع الخطاب عن الناسي وعدم المؤاخذة له بنسيانه ولا يكلف الإنسان بما لا يعلمه فإذا ذكر بعد فعل الصلاة بالتيمم فقد أجزأته صلاته ولا إعادة عليه كما تقدم في العادم.

(1/81)


[ فصل
وإنما يتيمم بتراب مباح طاهر منبت يعلق باليد لم يشبه مستعمل أو نحوه كما مر. وفروضه التسمية كالوضوء ومقارنة أولة بنية معينة فلا يتبع الفرض إلا نفله أو ما يترتب على أدائه كالوتر أو شرطه كالخطبة وضرب التراب باليدين ثم مسح الوجه مستكملا كالوضوء ثم أخرى لليدين ثم مسحهما مرتبا كالوضوء ويكفي الراحة الضرب.
وندب ثلاثا وهيأته].
قوله: "فصل وإنما يتيمم بتراب"
أقول: استدلوا لذلك بقوله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قالوا الصعيد الطيب هو التراب وهذا هو مسلم فإنه قال في المصباح إن الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره قال الزجاج لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في ذلك انتهى وحكى في الكشاف عن الزجاج مثل ذلك.
واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا" [مسلم "4/522"]، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره.
ويجاب عنه بأنه من التخصيص بموافق العام فإن مفهوم اللقب لا يخصص به على ما ذهب إليه الجمهور ولكنه يقوى هذا قوله تعالي: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، فإنه لا يتيسر المسح ببعض الحجر ولا ببعض الشجر فتعين أن يكون الممسوح به ترابا.
ولا يعارض هذا تيممه صلى الله عليه وسلم من الحائط فإنه لم يرو أنه كان معمورا من الحجر بل الظاهر أنه معمور من الطين وإذا كان كذلك فالضرب فيه لا يبعد ان يعلق باليد من تربته ما له أثر يمسح به ولا سيما وقد أخرج الشافعي أنه حته أي الحائط الذي تيمم منه بعصا وقد أخرج هذه الزيادة البيهقي من طريق الشافعي ثم قال وفي إسنادها يعني هذه الزيادة إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي عن أبي الحويرث وهو متكلم فيهما عن الأعرج عن أبي الصمة وهو يعني الأعرج لم يسمع منه.
ومما يعين التراب ويفيد أنه المراد أن جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس وغيره فسروا الصعيد بالتراب أو بما صعد على وجه الأرض فجعلوا التراب أحد معنيي الصعيد.
والروايات المصرحة بالتراب هي معينة لأحد معنيي الصعيد.
ثم قد ورد ذكر التراب في غير حديث فأخرج أحمد والبيهقي من حديث على مرفوعا بلفظ "وجعل التراب لي طهورا" [أحمد "1/98"]، وقد حسن إسناده في مجمع الزوائد وكذلك الحافظ ابن حجر في الفتح وصححه السيوطي.
وقد كان التيمم في زمن النبوة بالتراب لا يعرف غير ذلك فالتعويل على ما هو محتمل من اللفظ لا ينبغي لمصنف.

(1/82)


قوله: "مباح"
أقول: استدلوا على ذلك بقوله سبحانه: {صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6]، وأجيب بأن الطيب المذكور مشترك بين معنيي الطهارة عن النجاسة والحل والأليق بالمقام المعنى الأول لا الثاني وأولى من هذا الجواب أن يقال المعنى الحقيقي للطيب هو الطاهر وأما الحلال فمجاز له لا حقيقة كما يفيد ذلك ما ذكره الزمخشري في أساسه.
ولكنه يغني عن الاستدلال بالآية ما ورد في الكتاب والسنة من تحريم ما ليس بحلال فلا يحتاج إلي الاستدلال بدليل آخر فالآية قد دلت على اعتبار كون التراب طاهرا وأدلة تحريم ما للغير قد دلت على اعتبار كون التراب مباحا حلالا.
قوله: "منبت يعلق باليد".
أقول: أما كونه منبتا فلم يدل على ذلك دليل أصلا بل المراد ما يصدق عليه اسم التراب وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه تيمم من الحائط وصح عنه أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا".
فكل تراب يحصل به مقصود التيمم يرفع الحدث وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال أطيب الصعيد تراب الحرث كما أخرجه عنه البيهقي وغيره فلم يشترط القرآن ولا السنة أطيب الصعيد ولا يستلزم كون أطيب الصعيد تراب الحرث أنه لا يجزىء في التيمم إلا هو وغايته أن التيمم به أحب من غيره لكونه الأطيب وقد دل أفعل التفضيل أن غيره طيب فحصل به مقصود التيمم وقد ثبت أن المدينة سبخة وقد كانوا يتيممون منها ولم ينقل أنهم طلبوا ترابا للتيمم وهكذا كانوا يتيممون عند حضور وقت الصلاة مع عدم الماء بما يجدونه من التراب.
وأما اشتراط كون التراب يعلق باليد فوجهه قوله سبحانه وتعالي: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، وقد قدمنا ذلك.
وأما اشتراط كونه لم يشبه مستعمل فليس على عدم كون المستعمل طهورا دليل صحيح لا في الماء ولا في التراب وقد أوضحنا ذلك في الوضوء فليرجع إليه.
قوله: "وفروضه التسمية ومقارنة أوله بنية معينة".
أقول: الكلام في التسمية والنية هنا كالكلام في الوضوء وأما كون النية هنا لا بد أن تكون معينة وأنه لا يتبع الفرض إلا نفله أو شرطه فمبنى على أنه لا يجوز بالتيمم إلا فريضة واحدة وأنه يبطل بالفراغ منها واستدلوا على ذلك بما روى عن ابن عباس أنه قال من السنة أن لا يصلي بالتيمم إلا مكتوبة ثم يتيمم للأخرى كما أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك مجمع على تركه وقد روى عن غيره نحو ذلك من قوله غير مرفوع منها عن علي وفي إسناده ضعيفان وهما الحارث الأعور والحاج ابن أرطأة ومنها عن عمرو بن العاص وابن عمر ولا يقوم شيء من ذلك حجة.
والعجب ممن قال إنه ينجبر ما فيها بالإجماع فإن المرفوع باطل والموقوف لا حجة فيه.

(1/83)


فالحق أن يستباح بالتيمم ما يستباح بالوضوء وأنه طهارة جعلها الله سبحانه بدلا عن الوضوء عند عدم الماء وللبدل حكم المبدل إلا ما خصه الدليل ولم يكن هذا مما خصه الدليل.
قوله: "وضرب التراب باليدين".
أقول: قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وعلمه غيره كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنما يكفيك" وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه. [البخاري "338"، مسلم "112/368"، أبودأود "322"، النسائي "312و316"، ابن ماجة "569"].
والحاصل أن جميع الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا ضربة واحدة للوجه والكفين فقط وجميع ما ورد في الضربتين أو كون المسح إلي المرفقين لا يخلو من ضعف يسقط به عن درجة الاعتبار ولا يصلح للعمل عليه حتى يقال إنه مشتمل على زيادة والزيادة يجب قبولها.
فالواجب الاقتصار على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وما ذكره المصنف رحمه الله من انه يجب مسح الوجه مستكملا كالوضوء إن أراد أنه يجب تمييم الوجه بالمسح فذلك متعين وإن أراد أنه يجب تخليل الشعر فليس ذلك من شأن المسح ولا لتخليل الشعر مدخلية فيه بل المراد التعبد بمسح الشعر ما كان يجب غسله بالماء ويصيب ما أصاب ويخطىء ما أخطأ.
وكذا ما ذكره في مسح اليدين إن أراد به مجرد إيقاع المسح عليهما فلا بد من ذلك ولكن إلي الرسغين إلي المرفقين وإن أراد التخليل ونحوه فليس ذلك من شأن المسح ولا هو داخل في مفهومه.
وأما ما ذكره من أنها بندب هيأة التيمم فلا هيئة له إلا ما اشتمل عليه حديث عمار الذي ذكرناه.
[ فصل:
وإنما يتيمم للخمس آخر وقتها فيتحرى للظهر بقية تسع العصر وتيممها وكذلك سائرها وللمقضية بقية تسع المؤداة ولا يضر المتحري بقاء الوقت.
وتبطل ما خرج وقتها قبل فراغها فتقضى].
قوله: فصل: "وإنما يتيمم للخمس آخر وقتها".
أقول: الأوقات المضروبة للصلاة لا تختص بطهارة دون طهارة فطهارة التراب كطهارة الماء في أن كل واحدة منهما تؤدى بها الصلاة في الوقت المضروب لها ومن زعم أن ذلك يختص بالصلاة المؤداة بالطهارة بالماء فعليه الدليل ولا دليل أصلا.
ثم قد ورد الترغيب في تأدية الصلاة لأول وقتها بأحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما حتى وقع التصريح منه صلى الله عليه وسلم "بأن أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" فمن زعم أن ذلك يختص

(1/84)


بالصلاة المؤداة بالطهارة بالماء فعليه الدليل ولا دليل أصلا ثم قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتيمم الذي وجد الماء بعد أن فرغ من صلاته ولم يعد الطهارة ولا الصلاة إنه قد أصاب السنة والخير كل الخير في إصابة السنة فلو كان التيمم آخر الوقت واجبا مفترضا لم يكن مصيبا للسنة لأنه صلى بالتيمم تلك الصلاة لوقتها ولم يؤخرها إلي آخر الوقت وقد وجد الماء في الوقت ولم يعد.
والحاصل أنه لا دليل على ما ذكره في هذا الفصل بل هو خلاف الدليل وأعجب من هذا قوله في آخر الفصل وتبطل ما خرج وقتها قبل فراغها فتقضى فإن الأحاديث الصحيحة ناطقة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها فأي دليل دل على أن هذه الصلاة المؤداة بالتيمم لا تدرك بإدراك ركعة منها ولكن المصنف رحمه الله لما ظن أن خروج الوقت من نواقض التيمم وقع في هذا المضيق وليس على ذلك أثارة من علم بل ليس عليه أثارة من رأي مستقيم فلا رواية ولا رأي يوقعان عباد الله في مثل هذه التكاليف الشديدة وهذا الحرج العظيم اللهم غفرا.
[ فصل:
ومن وجد ماء لا يكفيه قدم متنجس بدنه ثم ثوبه ثم الحدث الأكبر أينما بلغ في غير أعضاء التيمم وتيمم للصلاة ثم الحدث الأصغر.
فإن كفى المضمضة وأعضاء التيمم فمتوضىء وإلا أثرها ويمم الباقي وهو متيمم وكذا لو لم يكف النجس ولا غسل عليه.
ومن يضر الماء جميع بدنه تيمم للصلاة مرة ولو جنبا فإن سلمت كل أعضاء التيمم وضأها مرتين بنيتهما.
وهو كالمتوضىء حتى يزول عذره وإلا غسل ما أمكن منها بنية الجنابة ووضأه للصلاة ويمم الباقي وهو متيمم فيعيد غسل ما بعد الميمم معه ولا يمسح ولا يحل جبيرة خشي من حلها ضررا أو سيلان دم].
قوله: فصل: "ومن وجد ماء لا يكفيه قدم متنجس بدنه".
أقول: لعل وجه ذلك تحريم التلوث بالنجاسة وورود الوعيد الشديد على ذلك وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ في غسله بإزالة النجاسة من فرجيه وكذلك جادت الشريعة بإزالة أثر الخارج من الفرجين بالماء أو الأحجار قبل الوضوء.
ولعل الوجه في تقديم غسل متنجس الثوب على رفع الحدثين أن لهما بدلا وهو التيمم ولا بدل لستر العورة.
ولعل وجه تقديم الحدث الأكبر عند من يقول إن الطهارة الصغرى تدخل تحت الطهارة

(1/85)


الكبرى أن الغسل يغني عن الوضوء وأما من يقول بذلك فوجهه أن الحدث الأكبر مانع من رفع الحدث الأصغر ولكن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه كان يقدم الوضوء على الغسل إلا غسل الرجلين فيؤخره إلي بعد الفراغ من الغسل وقد تقدم ذلك.
ويمكن أن يقال إن هذا لا يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن النزاع إنما هو حيث وجد من الماء ما لا يكفي لرفع الحدثين وفعله صلى الله عليه وسلم إنما كان مع وجود ما يكفي لرفع الحدثين وقد يقال إن التأثير مع السعة ووجود ما يكفي لرفع الحدثين يدل على تأثير ما أثره مع عدم وجود ما يكفي لهما وفيه ما فيه
قوله: "فإن كفى المضمضة وأعضاء التيمم فمتوضىء" الخ.
أقول: قد جعل الله عز وجل رخصة التيمم ثابتة لمن لم يجد ماء يتوضأ به فمن وجد ماء يتوضأ به الوضوء الذي ورد به الشرع ويستوفى غسل أعضاء الوضوء فلا يحل له العدول إلي رخصة التيمم وإذا وجد من الماء ما يكفي بعض أعضاء الوضوء دون البعض فهو في حكم العادم لما يكفي للوضوء ولا حكم لوجود ما يكفي لبعض الوضوء فإن فاعل ذلك لا يسمى متوضأ ولا يصدق عليه أنه قد فعل ما أمره الله من الوضوء فالواجب عليه ترك غسل ذلك البعض الذي لم يجد من الماء إلا ما يكفيه ويعدل إلي التيمم ولم يرد ما يدل على خلاف هذا وهكذا من وجد ما يكفيه لغسل بعض بدنه عدل إلي التيمم وتيمم مرة واحدة وصلى ما شاء حتى يجد الماء أو يحدث ولا يغسل بعض بدنه ويترك بعضا.
وهكذا من يضر الماء بدنه إذا غسل به فإنه يترك الغسل بالماء ولا يغسل شيئا منه ويعدل إلي التيمم فيتيمم مرة واحدة ويصلي ما شاء حتى يحدث أو يجد الماء وإذا وجد الماء في الوقت فليس عليه إعادة ولا غسل لأن الجنابة قد ارتفعت وكذا إذا وجده بعد الوقت فلا يغتسل لهذه الجنابة التي قد تيمم لها لأنها قد ارتفعت بالتيمم.
والدليل يدل على ما ذكرناه كحديث "والتراب كافيك ولو إلي عشر حجج" وحديث "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا".
وأما ما ورد في بعض الروايات بلفظ: "إذا وجد الماء فليمسه بشرته" فليس المراد به إلا أنه إذا وجد الماء اغتسل لما يتجدد عليه من الموجبات بعد وجوده لا لما مضى فإنه قد ارتفع ولو سلمنا الاحتمال فهو لا يصلح للاستدلال.
وأيضا قد ورد في هذه الرواية "فإن ذلك خير لك" يدل وهذا يدل على عدم وجوب الغسل للحدث الماضي حيث قد فعل التيمم المشروع.
فإن قيل قد أخرج البخاري في صحيحه في باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء من حديث عمران بن حصين ما حاصله أنه نودي بالصلاة فصلى صلى الله عليه وسلم بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم فقال: "ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم" فقال: أصابتني جنابة ولا ماء قال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" ثم سار صلى الله عليه وسلم فلما

(1/86)


وجد الماء أعطى الرجل الذي أصابته الجنابة إناء من ماء فقال: "اذهب فأفرغه عليك" وهذا ظاهر في أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها.
وأخرجه البيهقي عن عمران بن حصين بلفظ: فقال للرجل: "ما منعك أن تصلي؟" قال: يا رسول الله أصابتني جنابة قال: "فتيمم بالصعيد فإذا فرغت فصل فإذا أدركت الماء فاغتسل" وهذا أأصرح من الحديث الذي قبله في أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها.
وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار العطاردي قد ضعفه جماعة ولكنه قال الذهبي في المغني حديثة مستقيم انتهى والحديث الأول يشهد له ويقويه.
وأخرج الطبراني في الكبير حديث أسلع خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصابته جنابة فأمره صلى الله عليه وسلم بالتيمم فتيمم ثم مروا بماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسلع! هذا أمس هذا جلدك" وهو كالحديث الأول في الدلالة على أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها.
قلت ليس في الحدثين ما يفيد ان الأمر بالغسل للجنابة التي قد تيمم لها كما ذكرت ولو كان كذلك لأمره بإعادة الصلاة التي قد فعلها بالتيمم ولم يثبت ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ولو سلمنا ما ذكرت لكان معارضا لحديث عمرو بن العاص الصحيح أنه احتلم فصلى بأصحابه بالتيمم فشكوه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صليت بأصحابك وأنت جنب؟" فقال سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، فقره على ذلك ولم يأمره بالغسل.
وأيضا قياس الجنابة على الوضوء يدل على عدم وجوب غسل الجنابة بعد التيمم لها لما تقدم في حديث الرجلين وقوله صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد: "أصبت السنة" فإذا قوي التيمم على رفع الحدث الأصغر قوي على رفع الحدث الأكبر لاشتراكهما في منع كل واحد منهما من الصلاة.
ويؤيد هذا ما تقدم من العمومات الصحيحة ومع التعارض يرجع إلي الأصل وهو أن التيمم طهارة شرعها الله عوضا عن الماء فيرتفع بها ما يرتفع بالماء.
وقد يجمع بين الأدلة بأن أمره صلى الله عليه وسلم للجنب بأن يغتسل عند وجود الماء ليس لرفع الجنابة فإنها قد ارتفعت بالتيمم بل لغسل ما يتلوث به البدن من آثار الجنابة لا سيما المحتلم فإنه لا بد أن يصيب المني بعض بدنه في الغالب.
[ فصل:
ولعادم الماء في الميل أن يتيمم لقراءة ولبث في المسجد مقدرين ونفل كذلك وإن كثر قيل ويقرأ بينهما ولذي السبب عند وجوده والحائض للوطء وتكرره للتكرار].
قوله: فصل: "ولعادم الماء في الميل أن يتيمم لقراءة ولبث في المسجد مقدرين".

(1/87)


أقول: قد عرفناك أن التيمم يرفع الحدث أما مطلقا أو إلي وقت وجود الماء فإذا تيمم لصلاة جاز له أن يفعل ما يفعله المتوضىء حتى يحدث وهكذا إذا تيمم لغير صلاة فإنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم تيمم لرد السلام وهو مجرد ذكر من الأذكار فالتيمم للقراءة ولدخول المسجد أولى وأحق فإذا تيمم لشيء من ذلك بعينه فقد ارتفع الحدث بذلك التيمم فيجوز له أن يفعل غير ما سماه حتى يحدث لأنه قد صار في حكم المتوضىء وقد قدمنا في الوضوء ما يزيدك في هذا بصيرة وليس هذا الحكم مختصا بعادم الماء بل هو ثابت لكل من يجوز له التيمم.
وأما تقيدد الجواز بالعدم في الميل فهو مبني على ما تقدم من وجوب الطلب في الميل وقد قدمنا دفعه وهكذا لا وجه لقوله مقدرين لما عرفت من أن الحدث قد ارتفع ولا فائدة لذكره هنا للنفل ولذوات الأسباب فإنها صلوات يشرع لها التيمم كما شرع للصلوات الخمس.
وما ذكره من أن الحائض تتيمم للوطء فذلك صواب لأن الله سبحانه يقول: {فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، والتطهر يصدق على طهارة التراب عند عدم الماء كما يصدق على طهارة الماء.
[ فصل:
وينتقض بالفراغ مما فعل له وبالاشتغال بغيره وبزوال العذر ووجود الماء قبل كمال الصلاة وبعده يعيد الصلاتين إن أدرك الأولى وركعة بعد الوضوء وإلا فالأخرى إن أدرك ركعة وبخروج الوقت ونواقض الوضوء].
قوله: فصل: "وينتقض بالفراغ مما فعل له" الخ.
أقول: قد عرفناك غير مرة أن الطهارة بالتراب كالطهارة بالماء يفعل بها المتيمم ما يفعل بها المتطهر بالماء ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك لا من كتاب ولا من سنة ولا من رأي صحيح فلا ينتقض إلا بما تنتقض به الطهارة بالماء فدعوى انتقاضه بالفراغ مما فعل له ليس بشيء وكذلك دعوى انتقاضه بالاشتغال بغيره ليس عليه أثارة من علم.
وأما دعوى انتقاضه بوجود الماء وإيجاب الأعادة للصلاة فدفع في وجه الدليل ورد لما هو الحق بالصدر والنحر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الذي لم يعد عند وجوب الماء قد أصاب السنة والخير كل الخير في إصابة السنة وليس وراء ذلك إلا البدعة.
وأما قوله للذي أعاد: "لك الأجر مرتين" فذلك لكون الله سبحانه لا يضيع عمل عامل وقد تيمم وتوضأ وصلى مرتين ولا يستلزم ثبوت الأجر له إصابته فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت لمن أخطأ في اجتهاده أجرا فقال فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله

(1/88)


أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" [البخاري "7352"، مسلم "1716"، أبو دأود "3574"، أبو دأود "3574"، ابن ماجة "2314"]، فصرح بثبوت الأجر مع الخطأ في الاجتهاد.
وهذا الذي أعاد الوضوء والصلاة قد أخطأ في اجتهاده وثبت له الأجر كما ثبت للحاكم المخطىء في اجتهاده.
وأما دعوى انتقاض التيمم بخروج الوقت فلا أصل له يرجع إليه ولا دليل يدل عليه والصواب الاقتصار في هذا الفصل على قوله: "ونواقض الوضوء" وفيه ما يغني عن تكليف عباد الله ما لم يشرعه لهم بلا خلاف شرعه لهم فان هذا الكتاب وضعه المصنف رحمه الله لبيان ما ورد به الدليل لا لبيان القال والقيل.

(1/89)


[ باب الحيض
هو الأذى الخارج من الرحم في وقت مخصوص والنقاء المتوسط بينه جعل دلالة على أحكام وعلة في أخر.
وأقله ثلاث وأكثره عشر وهي أقل الطهر ولا حد لأكثره ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة وقبل أقل الطهر وبعد أكثر الحيض وبعد الستين وحال الحمل.
وتثبت العادة لمتغيرتها والمبتدأة بقرئين فإن اختلفا فيحكم بالأقل ويغيرها الثالث المخالف وتثبت بالرابع ثم كذلك].
قوله: باب الحيض: "هو الأذى الخارج من الرحم في وقت مخصوص".
أقول: قد نظر المصنف رحمه الله في هذا الحد إلي ما وقع في القرآن من قوله عز وجل {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222]، وإلي ما ذكره أهل اللغة.
قال الأزهري والهروي وغيرهما الحيض جريان دم المرأة في أوقات معلومة من رحمها بعد بلوغها.
وقد نوقش المصنف في هذا الحد بما يرد عليه فإن المراد التعريف بالوجه لا بالكنه.
قوله: "وأقله ثلاث وأكثره عشر".
أقول: لم يأت في تقدير أقل الحيض وأكثره ما يصلح للتمسك به بل جميع الوارد في ذلك أما موضوع أو ضعيف لمرة والذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تمكث إحداهن الليالي ذوات العدد لا تصلي"، وغاية ما ثبت في ذلك العدد ما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة قال الترمذي حسن صحيح وقال الترمذي عن أحمد والبخاري أنهما صححاه وكذلك نقل ابن المنذر عنهما من حديث حمنة بنت جحش قالت كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم

(1/89)


الحديث وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله كما تحيض النساء".
فلو قيل إن أكثر الحيض سبعة أيام لكان لذلك وجه.
قوله: "ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة".
أقول: قد استدل على تعذره قبل دخول المرأة في التاسعة بالإجماع وكذلك استدل بالإجماع على تعذره قبل أقل الطهر بعد أكثر الحيض.
وأما تعذره بعد الستين فاستدل عليه بأنه أكثر ما قيل في مدة الإياس فكان إجماعا.
والحاصل أنه لا دليل على هذه الثلاث الحالات التي يتعذر عندها الحيض لا من كتاب ولا سنة وليس إلا مجرد الاستقراء وذلك أنه لم ينقل أن امرأة حاضت حيضا شرعيا قبل تسع سنين ولا بعد ستين سنة.
وأما أقل الطهر بعد أكثر الحيض فلا خلاف في ذلك بين القائلين بتقدير مدة أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر وكل على أصله.
وأما من لم يقل بذلك التقدير وجعل الاعتبار بصفات الدم لمن لم تتقرر عادتها فهو خارج عن هذا الإجماع المدعي.
وأما الحالة الرابعة وهي حالة الحمل فهي محل الخلاف وقد استدل كل قائل لقوله بما لا يلزم خصمه وقد يقع لبعض النساء الحيض في أيام حملها ولكن القائل بأنها حالة تعذر لا يقول بأن ذلك حيض بل يجعله لفساد عرض للحامل في طبيعتها ولا يخفاك أنه إذا كان متصفا بصفات دم الحيض التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في دم الحيض "إنه أسود يعرف" [أبو دأود "286و304"، النسائي "1/123" و "1/185"]، كان الظاهر مع من يقول إنه دم حيض وقد سمعنا في عصرنا بوقوع ذلك لكثير من النساء ولا يلزم من القول بأنه دم حيض أن تعتد بالحيض فإن الدليل الخاص قد دل على أن عدة الحامل بوضع الحمل ولا يلزم من ذلك أيضا أن لا يكون الحيض معرفا لخلو الرحم عن الحمل في الاستبراء لأنا نقول هو معرف إذا لم تظهر قرائن الحمل فإن ظهرت لم يكن معرفا لأن كونه معرفا قد عورض بشيء آخر.
وهذه المسألة من المضائق لما يترتب عليها من ترك صلاة المرأة وصيامها على القول بأن ذلك حيض أو فعل الصلاة والصيام واعتدادها بذلك وعدم قضاء الصيام على القول بأنه ليس بحيض وليس في المقام من الأدلة الشرعية ما تسكن إليه النفس سكونا تاما.
قوله: "وتثبت العادة لمتغيرتها" إلي آخره.
أقول: استدلوا على ثبوت العادة بالقرائن بما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة من حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها" [أبو دأود "297"، الترمذي "126"، ابن ماجة"].
وقد تكلم في إسناد الحديث بما لا يوجب سقوطه عن درجة الاعتبار وله شواهد تقويه

(1/90)


قالوا فأمرها بالرجوع في العادة إلي أقرائها والثلاثة الأقراء وإن كانت أقل الجمع عند الجمهور لكن قالوا إن الثلاثة الأقراء غير معتبرة إجماعا فبقي قرآن.
قلت ومما يدل على اعتبار العادة ما أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة أن أم حبيبة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم قالت عائشة فرأيت مركنها ملآن دما فقال لها رسول الله: "امكني قدر ما كانت حيضتك تحبسك ثم اغتسلي" [مسلم "65/334"، أحمد "6/187"، النسائي "1/121"، أبو دأود "279"]، فهذا وما قبله يدلان على رجوع المستحاضة إلي العادة وأنها معتبرة وأما أنهما يدلان على أن العادة تثبت بقرائن فلا.
لكن قد تقرر في كتب اللغة أن العادة مأخوذة من عاد إليه يعود إذا رجع فدل ذلك على أنه لا يقال عادة إلا لما تكرر وأقل التكرر يحصل بمرتين.
[ فصل:
ولا حكم لما جاء وقت تعذره فأما وقت إمكانه فتحيض فإن انقطع لدون ثلاث صلت فإن تم طهرا قضت الفائت وإلا تحيضت ثم كذلك غالبا إلي العاشر فإن جأوزها فأما مبتدأة عملت بعادة قرائبها من قبل أبيها ثم أمها فإن اختلفن فبأقلهن طهرا وأكثرهن حيضا فإن عدمن أو كن مستحاضات فبأقل الطهر وأكثر الحيض.
وأما معتادة فتجعل قدر عادتها حيضا والزائد طهرا إن أتاها لعادتها أو في غيرها وقد مطلها فيه أو لم يمطل وعادتها تتنقل وإلا فاستحاضه كله].
قوله: فصل: "ولا حكم لما جاء وقت تعذره" الخ.
أقول: قد تقدم ما يفيد هذا وهو قوله ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة إلخ وإذا كان الحيض متعذرا في تلك الحالات كان الخارج غير حيض وما كان غير حيض فلا تثبت له أحكام الحيض وهكذا لا فائدة لقوله فأما وقت إمكانه فتحيض لأن هذا الباب أعني باب الحيض إنما يراد منه ذكر أحكام ما جاء من الحيض في وقت إمكانه وذلك معلوم أنه حيض وله أحكام الحيض وهكذا لا يحتاج إلي قوله فإن انقطع لدون ثلاث صلت وما بعده لأن هذا قد عرف من قوله فيما سبق فصل وأقله ثلاث.
قوله: "فإن جأوزها فأما مبتدأة عملت بعادة قرائبها من قبل أبيها" الخ.
أقول: استدلوا على ذلك بحديث حمنة الذي قدمنا ذكره وهو حديث صحيح وفيه "فتحيضي ستة ايام أو سبعة أيام في علم الله كما تحيض النساء".
قالوا وقرابتها أحق من غيرهن برجوعها إلي عادتهن واعلم أنه قد ورد ما يدل على

(1/91)


الرجوع إلي عادة النساء كهذا الحديث وورد ما يدل على الرجوع إلي صفة الدم كحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان دم حيض فإنه أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق" أخرجه أبو دأود والنسائي [أبو دأود "304" و "286"، النسائي "1/123" و "1/185"]، وصححه ابن حبان والحاكم وورد ما يدل على رجوع المرأة إلي عادة نفسها كحديث أم حبيبة المتقدم قريبا وفيه "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي".
والجمع بين هذه الأحاديث ممكن بأن يقال إن كانت المرأة مبتدأة أو ناسية لوقتها وعددها فإنها ترجع إلي صفة الدم فإن كان بتلك الصفة التي وصفها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دم حيض وإن كان على غير تلك الصفة فليس بحيض فإن لم يتميز لها وذلك بأن يخرج على صفات مختلفة أو على صفة ملتبسة رجعت إلي عادة النساء القرائب فإن اختلفت عادتهن فالاعتبار بالغالب منهن فإن لم يوجد غالب تحيضت ستا أو سبعا كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا كانت غير مبتدأة بل معتادة عارفة لوقتها وعددها رجعت إلي عادتها المعروفة فإن جأوز عادتها رجعت إلي التمييز بصفة الدم فإن التبس عليها قدر عادتها لعارض عرض لها والتبس عليها التمييز بصفة الدم رجعت إلي عادة النساء من قرائبها فإن اختلفن فكما تقدم في المبتدأة.
وبهذا يرتفع الاشكال ويندفع ما كثر وطال من القيل والقال.
[ فصل:
ويحرم بالحيض ما يحرم بالجنابة والوطء في الفرج حتى تطهر وتغتسل أو تيمم للعذر وندب أو تعاهد نفسها بالتنظيف وفي أوقات الصلاة أو توضأ وتوجه وتذكر الله وعليها قضاء الصيام لا الصلاة].
قوله: فصل: "ويحرم بالحيض ما يحرم بالجنابة".
أقول: قد تقدم في باب الغسل بيان ما يحرم بالجنابة فينبغي الرجوع إليه وقد يحرم بالحيض ما لم يحرم بالجنابة كالصيام فإنه يجوز للجنب أن يصبح صائما ويستمر على ذلك حتى يتطهر وسيأتي تحقيق البحث في الصيام بخلاف الحائض فإنه لا يصح صومها بحال.
قوله: "والوطء في الفرج" الخ.
أقول: هذا معلوم بنص القرآن الكريم قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ولا خلاف في تحريم وطء الحائض وقوله: "حتى تطهر" دل عليه قوله تعالي: {حَتَّى

(1/92)


يَطْهُرْنَ} وقوله: "وتغتسل" دل عليه قوله تعالي: {فَإذا تَطَهَّرْنَ} وقوله: "أو تيمم للعذر" قد قدمنا الكلام عليه.
قوله: "وندب أن تتعاهد نفسها بالتنظيف".
أقول: غسل النجاسة من البدن والثوب بعمومات القرآن كقوله تعالي: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 4 – 5]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّأبينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وورد في السنة ما يؤيد ذلك ويؤكده والحائض من جملة من يشمله الخطاب وأما كونه يندب لها أن تتوضأ فليس على ذلك دليل والوضوء عبادة شرعية فلا يشرع لغير ذلك وأما كونها تذكر الله تعالي فذلك داخل تحت العمومات من الكتاب والسنة القاضية بمشروعية الذكر والحائض داخله تحت عمومات الخطاب ولكنها لا تقرأ القرآن كما تقدم الكلام على ذلك.
قوله: "وعليها قضاء الصيام لا الصلاة"
أقول: هذا معلوم بالأدلة الصحيحة وعليه كان العمل في عصر النبوة وما بعده وأجمع عليه سلف هذه الأمة وخلفها سابقها ولاحقها ولم يسمع عن أحد من علماء الإسلام في ذلك خلاف وأما الخوارج الذين هم كلاب النار فليس هم ممن يستحق أن يذكر خلافهم في مقابلة قول المسلمين أجمعين ولا هم ممن يخرج المسائل الإجماعية عن كونها إجماعية بخلافهم وما هذه بأول مخالفة منهم لقطعيات الشريعة والعجب ممن ينصب نفسه من أهل العلم للاستدلال لباطلهم بما لا يسمن ولا يغني من جوع.
[ فصل:
والمستحاضة كالحائض فيما علمته حيضا وكالطاهر فيما علمته طهرا ولا توطأ فيما جوزته حيضا وطهرا ولا تصلي بل تصوم أو جوزته انتهاء حيض وابتداء طهر لكن تغتسل لكل صلاة إن صلت وحيث تصلي توضأ لوقت كل صلاة كسلس البول ونحوه ولهما جمع التقديم والتأخير والمشاركة بوضوء واحد وينتقض بما عدا المطبق من النواقض وبدخول كل وقت اختيار أو مشاركة].
قوله: فصل: "والمستحاضة كالحائض" الخ.
أقول: قد قدمنا لك قريبا ما يدفع تحير المستحاضة ويقطع عرق شكها ويدفع جميع وسوستها.
وإذا عرفت ذلك حق معرفته علمت أنها لا تكون في بعض أحوالها مجوزة لكون دمها حيضا لكونه غير حيض لأنها إذا لم يحصل لها التمييز لصفة الدم رجعت إلي عادتها إن

(1/93)


كانت قد استقرت لها عادة أو إلي عادة النساء من قرائبها إن لم تكن قد استقرت لها عادة ومع الاختلاف ترجع إلي غالبهن ومع عدم الغالب تحيض ستا أو سبعا كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ فلا تكون متحيرة أبدا بل هي في استحاضتها على بيان من أمرها ووضوح من حالها.
وبهذا تعرف الكلام على قوله: "ولا توطأ فيما جوزته حيضا وطهرا" إلخ وإذا تقرر لك هذا علمت أن إيجاب الغسل على المستحاضة لكل صلاة مبني على ثبوت اللبس عليها ولا لبس.
وقد وردت أحاديث أكثرها في سنن أبي دأود في غسل المستحاضة وقد صرح جماعة من الحفاظ بانها لا تقوم بها الحجة وعلى فرض أن بعضها يشهد لبعض فهي لا تقوى على معارضة ما في الصحيحين وغيرهما من أمره صلى الله عليه وسلم لها بالغسل إذا أدبرت الحيضة فقط.
والحاصل أن مثل هذا التكليف الشاق لا يجوز الثباته بغير حجة أوضح من الشمس فكيف يجوز إثباته بما هو ضعيف لا تقوم به حجة هذا على تقدير عدم وجود ما يعارضه فكيف وقد عارضه ما هو في الصحة في أعلى المراتب مع مطابقته لما بنيت عليه هذه الشريعة المباركة من التيسير وعدم التعسير والتبشير وعدم التنفير كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" [البخاري "4344 – 4345"، مسلم "71/1773"، أحمد "4/409"]، وقال: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة" [البخاري "39"، النسائي "8/121"و "8/122"]، وقال: "بعثت بالشريعة السمحة السهلة".
ومع هذا فإثبات الغسل عليها لكل صلاة أو للصلاتين مبني على التباس الأمر عليها وقد أرشدها الشارع إلي ما يرفعه ويدفعه كما قدمنا فإن أرادت أن تعذب نفسها بالشك والوسوسة فعلى نفسها براقش تجني لأنها مع تمييز دم الحيض من دم الاستحاضة لا تكون إلا حائضا أو غير حائض وعليها ما تستطيع ويدخل في وسعها من تطهير بدنها وثوبها من دم الاستحاضة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وكما أنه ليس في إيجاب الغسل عليها لكل صلاة وللصلاتين ما تقوم به الحجة كذلك لا دليل تقوم به الحجة في إيجاب الوضوء عليها لكل صلاة.
وأما الحكم عليها بأنه ينتقض وضوءها بدخول كل وقت اختيار أو مشاركة فمن التسأهل في إثبات الأحكام الشرعية لمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة.
[ فصل:
والنفاس كالحيض في جميع ما مر وإنما يكون بوضع كل الحمل متخلقا عقيبه دم ولا حد لأقله وأكثره أربعون فإن جأوزها فكالحيض جأوز العشر ولا يعتبر الدم في انقضاء العدة به].

(1/94)


قوله: "فصل والنفاس كالحيض" الخ.
أقول: هذا صحيح وأما اشتراك أن يكون متخلقا عقيبه دم فإن كان النفاس معنى شرعي يفيد هذا الاشتراط فذاك وإن لم يكن له معنى شرعي فالمرجع لغة العرب فإن ثبت فيها ما يدل على ذلك كان لهذا الاشتراط وجه وإلا فلا.
قوله: "وأكثره أربعون يوما"
أقول: قد تعاضدت الأحاديث الواردة بالأربعين وفي بعضها "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت للنساء في نفاسهن أربعين يوما" أخرجه الحاكم وصححه وأخرجه البيهقي من طريق أخرى.
وقد ذكرنا في شرح المنتقى ما ورد في الباب وأما تضعيف من ضعف حديث أم سلمة بمسة الأزدية والقول بأنها مجهولة فلا نسلم جهالة عينها فقد روي عنها كثير بن زياد والحكم بن عتيبة وزيد بن علي بن الحسين بن علي وغيرهم وقد أثنى على حديثها البخاري وصحح الحاكم إسناده فالقول بأن أكثر أيام النفاس أربعون يوما هو أعدل الأقوال وأحسنها فإذا رأت الطهر قبل ذلك طهرت وإن لم تره فهي نفساء حتى تنقضي الأربعون ثم لا حكم لما خرج من الدم بعد ذلك.

(1/95)