السيل
الجرار المتدفق على حدائق الأزهار كتاب الصلاة
مدخل
...
كتاب الصلاة
[ فصل
يشرط في وجوبها عقل وإسلام وبلوغ باحتلام أو
إنبات أو مضي خمس عشرة سنة أو حبل أو حيض
والحكم لأولهما.
ويجبر الرق وابن العشر عليها ولو بالضرب
كالتأديب].
قوله: فصل: "يشترط في وجوبها عقل".
أقول: للإجماع على أن الصلاة وغيرها من الحكام
التكليفية لا تجب على المجنون وحديث "رفع
القلم عن ثلاث" [أبو دأود "4398"، النسائي
"3432"، ابن ماجة "2041"]، قد روى من طرق يقوى
بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فمن لا يكون
عاقلا لا يتوجه إليه خطاب الشرع ما دام غير
عاقل فلا يجب عليه الصلاة فجعل العقل شرطا
للوجوب صحيح وهو مطابق لما ذكره أهل الأصول في
حقيقة الشرط أنه ما يلزم من عدمه عدم المشروط
ولا يلزم من وجوده وجوده لأن الصلاة لا توجد
بوجود نفس العقل وإن وجد مجرد طلبها منه
وإيجابها عليه وهي تنتفي
(1/95)
بانتفاء العقل
أعني الصلاة الشرعية فلا تجب على غير عاقل ولا
تطلب منه.
وأما جعله للإسلام شرطا للوجوب فمخالف لما هو
متقرر عنده وعنده من يقول بخطاب الكفار
بالشرعيات وقد حكى بعض أهل الأصول أن ذلك
إجماع أعني كونها واجبة عليهم وأنهم يعاقبون
على تركها في الآخرة.
وأما جعله البلوغ شرطا للوجوب فحق للأدلة
الدالة على رفع قلم التكليف عن الصبيان
وللإجماع على ذلك وكونه يحصل باحد الأسباب
التي ذكرها صواب أيضا.
واعلم أن الجلال رحمه الله قد جاء في شرحه في
هذه الشروط والعلامات بمناقشات للمصنف خرجت به
إلي خلاف الإجماع في غير موضع بل إلي خلاف ما
هو معلوم بضرورة الشرع فلا نطيل الكلام معه في
ذلك فإن بطلان ما ذكره لا يخفى على عارف وقد
اعترضه الأمير رحمه الله في حاشيته بما يكشف
بعض قناع ما لفقه من الهذيان الذي لم يجر على
شرع ولا عقل.
قوله: "ويجبر الرق وابن العشر عليها ولو
بالضرب كالتأديب".
أقول: أما الرق المحكوم له بالإسلام فإجباره
على فعل الصلاة من باب الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر وسيده أخص الناس بإجباره على ذلك
وقد ورد الشرع بأنه يحده سيده إذا ارتكب ما
يوجب حدا فهكذا يجبره سيده إذا ترك واجبا من
غير فرق بين الصلاة وغيرها.
وأما ابن العشر فقد ورد النص بذلك وأما
الاستشكال بانه كيف يضرب وهو غير مكلف فنقول
المكلف بذلك وليه والشرع قد أباح ضربه لذلك
كما يباح ضربه إذا أراد الإقدام على قتل من لا
يجوز قتله أو أخذ ماله.
وأما قوله: "وكالتأديب" فإن أراد أن التأديب
أصل وإجباره على الصلاة فرع فباطل وإن أراد
تنظير أحد الأمرين بالآخر فلم يرد ما يدل على
كون هذا التأديب مندوبا فضلا عن كونه واجبا.
[ فصل
"وفي صحتها ستة: الأول: الوقت وطهارة البدن من
حدث ونجس ممكني الإزالة من غير ضرر. الثاني:
ستر جميع العورة في جميعها حتى لا ترى إلا
بتكلف وبما لا يصف ولا تنفذه الشعرة بنفسها.
وهي من الرجل ومن لم ينفذ عتقه الركبة إلي تحت
السرة ومن الحرة غير الوجه والكفين وندب للظهر
والهبرية والمنكب.
الثالث: طهارة كل محمولة وملبوسة وإباحة
ملبوسة وخيطه وثمنه المعين وفي
(1/96)
الحرير الخلاف
فإن تعذر فعاريا قاعدا موميا أدناه فإن خشي
ضررا أو تعذر الإحتراز صحت بالنجس لا الغصب
إلا لخشية تلف وإذا التبس الطاهر بغيره صلاها
فيهما وكذا ماءان مستعمل أو نحوه فإن ضاقت
تحرى وتكره في كثير الدرن وفي المشبع صفرة
وحمرة وفي السرأويل والفرو وحده وفي جلد الخز.
الرابع: إباحة ما يقل مساجده ويستعمله فلا
يجزىء قبر وسابله عامره ومنزل غصب إلا لملجىء
أحدهما ولا ارض هو غاصبها وتجوز فيما ظن إذن
مالكه وتكره على تمثال حيوان كامل إلا تحت
القدم أو فوق القامة وبين المقابر ومزاحمة نجس
لا يتحرك بتحركه وفي الحمامات وعلى اللبود
ونحوها.
الخامس: طهارة ما يباشره أو شيئا من محموله
حاملا لا مزاحما وما يتحرك بتحركه مطلقا وإلا
أومأ لسجوده
السادس تيقن استقبال عين الكعبة أو جزء منها
وإن طلب إلي آخر الوقت وهو على المعاين ومن في
حكمه وعلى غيره في غير محراب الرسول صلى الله
عليه وسلم الباقي التحري لجهتها ثم تقليد الحي
ثم المحراب ثم حيث يشاء آخر الوقت.
ويعفى لمتنفل راكب في غير المحمل ويكفي مقدم
التحري على التكبيرة إن شك بعدها أن يتحرى
أمامه وينحرف ويبني ولا يعيد المتحري المخطىء
إلا في الوقت إن تيقن الخطأ كمخالفة جهة إمامه
جأهلا.
ويكره استقبال نائم ومحدث ومتحدث وفاسق وسراج
ونجس في القامة ولو منخفضة.
وندب لمن في الفضاء اتخاذ سترة ثم عود ثم
خط"].
قوله: "وفي صحتها ستة الأول الوقت".
أقول: اعلم أن الأسباب والشروط والموانع من
أحكام الوضع والمرجع في حقائقها إلي ما دونه
أئمة الأصول لأن البحث أصولي وقد ذكر أهل
الأصول في ذلك ما اصطلحوا عليه فقالوا الشرط
ما يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يؤثر وجوده
في وجوه كالوضوء فإنه شرط للصلاة يؤثر عدمه في
عدمها فلا تصح بغير وضوء ولا يؤثر وجوده في
وجودها فإنه لا يؤثر مجرد فعل الوضوء في وجود
الصلاة.
وأما السبب فهو ما يؤثر وجوده في وجود المسبب
وعدمه في عدمه.
وإذا عرفت هذا علمت أن الوقت سبب لا شرط لأنه
يؤثر وجوده في وجود المسبب وهو إيجاب فعل
الصلاة ويؤثر عدمه في عدمه فإنها لا تجب
الصلاة قبل دخول وقتها.
(1/97)
وذكر بعض أهل
الأصول في حقيقة السبب أنه ما يؤثر وجوده في
وجود المسبب ولا يؤثر عدمه في عدمه.
قوله: "وطهارة البدن من حدث ونجس ممكن
الإزالة".
أقول: قد عرفناك ان الشرط هو ما يؤثر عدمه في
عدم المشروط ولا يؤثر وجوده في وجوده فلا يثبت
إلا بدليل يدل على أن المشروط يعدم بعدمه وذلك
أما بعبارة مفيدة لنفي الذات والصحة مثل أن
تقول لا صلاة لمن لا يفعل كذا أو لمن فعل كذا
أو تقول لا تقبل صلاة من فعل كذا أو من لا
يفعل كذا ولا تصلح صلاة من فعل كذا أو من لم
يفعل كذا وأما مجرد الأوامر فغاية ما يدل عليه
الوجوب والواجب ما يستحق فاعله الثواب بفعله
والعقاب بتركه وذلك لا يستلزم أن يكون ذلك
الواجب شرطا بل يكون التارك له آثما وأما أنه
يلزم من عدمه العدم فلا.
وهكذا يصح الاستدلال على الشرطية بالنهي الذي
يدل على الفساد المرادف للبطلان إذا كان النهي
عن ذلك الشيء لذاته أو لجزئه لا لأمر خارج
عنه.
إذا عرفت هذا علمت أن طهارة البدن من الحدثين
شرط الصلاة لوجود الدليل المفيد للشرطية وأما
طهارته من النجس فإن وجد دليل يدل على أنه لا
صلاة لمن صلى وفي بدنه نجاسة أو لا تقبل صلاة
من صلى وفي بدنه نجاسة أو وجد نهى لمن في بدنه
نجاسة أن يقرب الصلاة وكان ذلك النهي يدل على
الفساد المرادف للبطلان صح الاستدلال بذلك على
كون طهارة البدن عن النجاسة شرطا لصحة الصلاة
وإلا فلا وليس في المقام ما يدل على ذلك فإن
حديث الأمر بالإستنزاه من البول وأن عامة عذاب
القبر منه ليس فيه إلا الدلالة على وجوب
الاستنزاه فيكون المصلي مع وجود النجاسة في
بدنه آثما ولا تبطل صلاته.
قوله: "الثاني ستر جميع العورة".
أقول: الأدلة الصحيحة قد دلت على وجوب ستر
العورة في الصلاة وفي غيرها ولكن هذا الدليل
الدال على الوجوب لا يدل على الشرطية كما
عرفناك وأما ما ورد من "أن الله لا يقبل صلاة
حائض إلا بخمار" [أبو دأود "641"، الترمذي
"377"، أحمد "6/150، 218، 259"، ابن
ماجة"655"]، ونحوه قد عورض بما ورد من نفي
قبول صلاة شارب الخمر وصلاة الآبق مع أنها تصح
صلاتهما ولا وجه لهذه المعارضة لأن نفي القبول
يستلزم نفي الصحة فإن ورد دليل يدل على صحة
صلاة من ورد الدليل بأن الله لا يقبل صلاته
كان ذلك مخصصا له فيكون نفي القبول في حقه
مجازا عن عدم توفير الثواب.
قوله: "وهي من الرجل ومن لم ينفذ عتقه الركبة
إلي تحت السرة".
أقول: العورة ينبغي الرجوع في تحقيقها
وتقديرها إلي ما ورد في الشرع فإن ثبت ذلك في
الشرع وجب تقديمه والرجوع إليه لأن الحقيقة
الشرعية مقدمة على غيرها.
وإن لم تثبت في ذلك حقيقة شرعية وجب الرجوع
إلي معناها وتقديرها عند أهل اللغة
(1/98)
لوجوب حمل كلام
الشارع على اللغة إذا لم يتقرر في ذلك عرف
شرعي.
وقد اتفق الشرع واللغة على أن القبل والدبر
عورة من الرجل وزاد الشرع على الفخد فأخرج أبو
دأود وابن ماجة والحاكم والبزاز من حديث علي
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا
تبرز فخذك ولا تنظر إلي فخذ حي ولا ميت" وفي
إسناده ابن جريج عن حبيب بن أبي ثابت ولم يسمع
منه قال أبو حاتم في العلل إن الواسطة بينهما
الحسن بن ذكوان وفيه علة أخرى وهي أن حبيبا
رواه عن عاصم ولم يسمع منه.
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه عن محمد بن جحش
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ
عورة" ورجاله رجال الصحيح غير أبي كثير وقد
روي عنه جماعة وأخرج البخاري هذا الحديث في
صحيحه تعليقا.
وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" [الترمذي
"2796"]، وفي إسناده يحيى القتات وفيه ضعيف.
وأخرج أحمد وأبو دأود والترمذي عن جرهد
الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
"غط فخذك فإن الفخذ عورة" [أحمد "3/478"، أبو
دأود "4014"، الترمذي "2798"]، وصححه ابن حبان
وعلقه البخاري في صحيحه.
فهذه الأحاديث قد دلت على أن الفخذ عورة وإليه
ذهب الجمهور وذهب أحمد ومالك في رواية عنه أهل
الظاهر وابن جرير والإصطخري إلي أن العورة
القبل والدبر وتمسكوا بأحاديث فيها دلالة على
أن الفخذ ليس بعورة وذلك كما روي عنه صلى الله
عليه وسلم أنه كشف فخذه في خيبر وحديث أنه كان
كاشفا لفخذه ثم لما دخل عثمان غطاها ولا يصلح
مثل ذلك لمعارضة هذه الأحاديث.
أما الأول فقد اختلفت فيه الروايات هل هو الذي
حسر الثوب عن فخذه أو انحسر الثوب بنفسه وأيضا
تلك الحالة حالة حرب يغتفر فيها ما لا يغتفر
في غيرها.
وأما الحديث الثاني فيمكن أنه صلى الله عليه
وسلم لم يقصد كشفه ولهذا غطاه وليس بعد
التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن الفخذ
عورة شيء.
ولم يثبت ما يدل على أن الركبة عورة بل ورد ما
يدل على انها ليست بعورة كما في حديث "إذا زوج
أحدكم خادمته عبده أو أجيره فلا ينظرن إلي ما
دون السرة وفوق الركبة" [أبو دأود "4113 و
4114"]، أخرجه أبو دأود وغيره من حديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده.
قوله: "ومن الحرة غير الوجه والكفين".
أقول: قد دل الدليل على أن هذا يجب عليها ستره
من الرجال ولا يجوز لهم النظر إليه وأما كون
صلاتها لا تصح إذا كانت خالية أو مع النساء أو
مع زوجها أو محارمها فغير مسلم وغاية ما ورد
في ذلك حديث "إن الله لا يقبل صلاة حائض إلا
بخمار" كما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة
وأحمد من حديث عائشة فقد أعل بالوقف قال
الدارقطني الوقف أشبه
(1/99)
وأعل أيضا
بالإرسال كما قال الحاكم وغايته أنها لا تصح
صلاتها إلا بستر رأسها لأن الخمار هو ما يستر
به الرأس وليس فيه زيادة على ذلك.
وأما حديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله
عليه وسلم أتصل المرأة في درع وخمار وليس
عليها إزار فقال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي
ظهور قدميها" [أبو دأود "640"]، أخرجه أبو
دأود والحاكم وقد أعل بالوقف قال ابن حجر وهو
الصواب قال أبو دأود روى هذا الحديث مالك بن
أنس وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن
جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحق عن محمد بن زيد
عن أمه عن أم سلمة ولم يذكر واحد منهم النبي
صلى الله عليه وسلم يروونه عن أم سلمة انتهى.
فهذا الحديث لا تقوم به حجة لكونه من قول أم
سلمة ولو سلمنا أن العمل على رواية من رفعه
كما يقوله أهل الأصول فلا أقل من ان يكون هذا
التفرد علة تمنع من انتهاضه للحجية.
قوله: "وندب للظهر والهبربة والمنكب".
أقول: لا دليل على ذلك فإن الندب حكم شرعي لا
يجوز إثباته إلا بدليل وقد استدل على ندب ستر
الظهر والمنكب بحديث أبي هريرة مرفوعا: "لا
يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه
شيء" [البخاري "359"، مسلم "516"، أبودأود
"626"، النسائي 770"]. وهو في الصحيحين
وغيرهما والعاتق هو ما بين المنكبين إلي أصل
العنق فليس فيه دليل على ستر الظهر وأيضا ليس
المقصود من الحديث ستر المنكبين بل المراد منه
أن يأمن من استرخاء الثوب وسقوطه وقد ثبت ما
يفيد هذا المعنى من حديث أبي هريرة عند
البخاري وغيره قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب واحد فليخالف
بطرفيه" [البخاري "360"، أبو دأود "628"]،
فليس المراد بالمخالفة إلا ما ذكرنا لا الستر
للمنكب.
وأيضا قد ثبت من حديث جابر في الصحيحين
وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا صليت في ثوب واحد فإن كان واسعا فالتحف
به وإن كان ضيقا فاتزر به" [البخاري "1/472"،
مسلم "3010"، أب دأود "634"].
ويالله العجب من جعل ستر الهبريتين مندوبا
فإنه لم يكن ذلك من رأي مستقيم فضلا عن أن
يكون عن دليل.
قوله: "الثالث طهارة محموله وملبوسه"
أقول: قد قدمنا لك أن الشرطية التي يستلزم
انتفاؤها انتفاء المشروط لا تثبت إلا بدليل
خاص وهو ما قدمنا في طهارة البدن ولم يأت في
طهارة الثياب حال الصلاة إلا ما غايته الأمر
بالطهارة وذلك لا يستلزم الشرطية أصلا فجعل
طهارة المحمول والملبوس شرطا من شروط الصحة
ليس كما ينبغي.
وأشف ما استدلوا به حديث "أنه صلى الله عليه
وسلم خلع نعله في الصلاة لما أخبره جبريل بأن
فيها قذرا" [أحمد 3/20، 90"، أبو دأود "650"]،
ولا يخفاك أن هذا مجرد فعل يقصر عن الدلالة
على الوجوب فضلا عن الدلالة على الشرطية.
(1/100)
ثم القائل بأن
طهارة الثياب ليست بشرط هو أحق بالإستدلال
بهذا الحديث لأنه يقول إن النبي صلى الله عليه
وسلم خلع نعله وبنى على ما قد فعله من الصلاة
قبل خلعه فلو كان وجود النجاسة والملبوس
والمحمول يوجب بطلان الصلاة لما بنى صلى الله
عليه وسلم على ما قد كان صلى.
قوله: "وإباحة ملبوسه وخيطه وثمنه المعين"
أقول: تخصيص الملبوس باشتراط الحل والإباحة
دون المحمول مبني على اصطلاح وقع للمشتغلين
بالفقه في هذه الديار وهو خطأ وقد بني عليه
الخطأ.
ولا بد من ان يكون ما دخل به المصلى في صلاته
مما يجعله على بدنه كائنا ما كان حلالا فإن
كان مغصوبا أو بعضه فعليه إثم الغصب وأما أنها
لا تصح الصلاة فيه فمبني على ورود دليل يدل
على ذلك نعم قد انضم إلي إثم النصب إثم دخوله
في الصلاة بما هو مأمور بخلافه وإذا صح حديث
ابن عمر الذي أخرجه أحمد بلفظ "من اشترى ثوبا
بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله عز
وجل له صلاته ما دام عليه" [أحمد "98"]، ثم
أدخل إصبعه في أذنيه وقال صمتا إن لم أكن
سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا
على عدم صحة صلاة من كان عليه شيء غير حلال
وأما ما قيل إن ذلك تشديد كسائر ما ورد فيه
الوعيد بنفي القبول من العاصي فمردود بل
الواجب علينا تفسير نفي القبول بالمعنى الظاهر
العربي.
وإذا ورد ما يدل على صحة صلاة من ورد النص
بنفي قبولها منه كان ذلك مخصصا له من العموم
كما تقدم.
قول: "وفي الحرير خلافة".
أقول: من قال بتحريم لبسه مطلقا كان لبسه في
حال الصلاة أحق بالتحريم لأنه دخل في عبادة
الرب سبحانه لابسا ما حرمه وتوعد على لبسه
فعليه إثم فاعل المحرم وعقوبته وأما أن صلاته
تبطل فهذا يحتاج إلي دليل يدل على ذلك ولا يدل
على ذلك إلا ما كان مفيدا لنفي صحة صلاة من
صلى لابسا للحرير كما قدمنا بيان ذلك في أول
هذا الفصل.
قوله: "فإن تعذر فعاريا قاعدا موميا أدناه".
أقول: قد جعل الله في الأمر سعة وفي الشريعة
الواردة باليسر ما يخفف الخطب على هذا الذي لم
يجد ما يستر به عورته إلا ما كان متنجسا فيدخل
في الصلاة على تلك الهيئة المنكرة كاشفا سوءته
ثم يترك بعض أركانها ولا شك أن الصلاة بالثوب
المتنجس أهون من ذلك فتكون الصلاة في هذه
الحالة في الثوب المتنجس عفوا للضرورة وللوقوع
فيما هو أشد مما فر منه وقد جاز أكل الميتة
عند عدم وجود ما يسد الرمق والشريعة مهيمنة
على رعاية المصالح ودفع المفاسد والمعأدلة بين
المفاسد إذا كان ولا بد من الوقوع في واحد
منها.
وهكذا تجوز الصلاة في الثوب المغصوب إذا كان
لا يجد غيره من ثياب ولا شجر يستر عورته وقد
اجاز الله مال الغير لسد الرمق وهذا مع عدم
خشية الضرر فأما مع خشية التلف فالأمر أوضح
ولا وجه للتقيد بخشية التلف وهكذا.
(1/101)
و لا وجه
لقوله: "وإذا التبس الطاهر بغيره صلى فيهما"
بل يكون اللبس مع عدم وجود غيرهما مسوغا
للصلاة بأحدهما للضرورة وأما الصلاة فيهما
فذلك يستلزم مفسدة عظيمة ورد النهي عنها وهو
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلي صلاة في
يوم مرتين" [أحمد "2/19 و 41"، النسائي
"2/114"، أبو دأود "579"]، وقوله: "لا ظهران
في يوم" والحديثان صحيحان.
وأما التباس الماء الطاهر بالمتنجس فيعدل إلي
التيمم لأن عدم تميز الطاهر كعدمه فهو غير
واجد لماء يرفع به الحدث.
قوله: "وفي المشبع صفرة وحمرة".
أقول: هذا المقام من المعارك والحق أنه يتوجه
النهي عن المعصفر إلي نوع خاص من الأحمر وهو
المصبوغ بالعصفر لأن العصفر يصبغ صباغا أحمر
فما كان من الأحمر مصبوغا بالعصفر فالنهي
متوجه إليه وما كان من الأحيمر غير مصبوغ
بالعصفر فليس جائزا وعليه يحمل ما صح عنه صلى
الله عليه وسلم من أنه لبس الحلة الحمراء وقد
أطلنا الكلام في شرحنا للمنتفى على هذا البحث
وذكرنا الأحاديث المختلفة والكلام عليها
والجمع بينها فليرجع إليه.
وأما المشبع صفرة فلا يستدل على المنع عن لبسه
بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من النهي عن
لبس المعصفر لما قدمنا لك من أن المصبوغ
بالعصفر يكون أحمر لا أصفر وهذا معلوم لا شك
فيه ولم يرد ما يدل على تحريم الأصفر دلالة
يجب المصير إليها ولا سيما وقد ثبت أنه صلى
الله عليه وسلم صبغ بالصفرة ووقع التصريح في
بعض الروايات بأنه صبغ بها لحيته وثيابه وكان
ابن عمر يفعل ذلك اقتداء به صلى الله عليه
وسلم.
قوله: "وفي السرأويل والفرو وحده"
أقول: أما السرأويل فقد أخرج أحمد والطبراني
بسند رجاله ثقات من حديث أبي أمامة قال: قلنا:
يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا
يتزرون فقال رسول الله: "تسرولوا واتزروا
وخالفوا أهل الكتاب" [أحمد (5/264)] وفي هذا
الأذن بلبس السرأويل وهو يستر العورة سترا فوق
ستر المئزر وقد وقع الخلاف هل لبسه النبي صلى
الله عليه وسلم أم لا مع ثبوت أنه اشتراه وقد
ذكرت ما ورد في ذلك في شرحي للمنتقى وقد
استدلوا على الكراهة في الصلاة فيه وحده بما
رواه أبو دأود عن بريدة قال: "نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف يتوشح به
وأن يصلي في سرأويل ليس عليه رداء" [أبو دأود
"636"، وفي إسناده أبو نميلة يحيى بن واضح
الأنصاري المروزي وأبو المسيب عبيد الله بن
عبد الله العتكي المروزي وفيهما مقال خفيف جدا
وقد وثقا وأخرجه أيضا الحاكم ورمز السيوطي
لصحته فكان هذا الحديث صالحا للاحتجاج به على
الكراهة في السرأويل وحده.
وأما الكراهة في الفرو وحده فاستدلوا على ذلك
بأنه مظنة لانكشاف العورة ولكن هذه المظنة
ترتفع بأن يربطه بخيط أو يزره بشوكة ولعلهم لا
يخالفون في زوال الكراهة بهذا.
(1/102)
قوله: "وفي جلد
الخز"
أقول: قد أنكر بعض المتكلمين على هذا الكتاب
وجود دابة تسمى الخز وقال إنه بحث في القاموس
وغيره من كتب اللغة وبحث حياة الحيوان فلم يجد
ذلك وفيه نظر فإنه قال في المصباح ما لفظه
الخز اسم دابة ثم أطلق على الثوب المتخذ من
وبرها وقال الشيخ دأود في التذكرة في الطب ما
لفظه الخز ليس هو الحرير كما ذكره ما لا يسع
بل هو دابة بحرية ذات قوائم أربع في حجم
السنانير ولونها إلي الخضرة يعمل من جلدها
ملابس نفيسة يتدأوى بها ملوك الصين حارة يابسة
في الشاتيه ينفع من النقرس والفالج وضعف
الباءة والأمراض البلغمية ووبرها يبرىء الجراح
ويقطع الدم وضعا ويسد الفتوق أكلا ولبسها
يبرىء الجذام والحكة انتهى.
فعرفت بهذا اندفاع الاعتراض على المصنف ولكن
لا وجه للقول بالكراهة لأن الأصل الحل على ما
هو الحق ولا سيما إذا كان هذا الحيوان بحريا
لما ورد في خصوص حيوانات البحر من كون ميتها
حلالا.
قوله: "الرابع إباحة ما يقل مساجده ويستعمله"
أقول: لا شك أن من صلى في مكان مغصوب أو
استعمل شيئا مغصوبا فقد فعل محرما ولزمه إثم
الحرام وأما كون ذلك يمنع من صحة الصلاة فلا
بد فيه من دليل خاص كما قدمنا تحقيقه وما قيل
من انه عصي بنفس ما به أطاع فغير مسلم ولو سلم
لم يكن دليلا على عدم صحة الصلاة المفعولة في
المكان الغصب.
قوله: "فلا يجزىء قبر وسابلة".
أقول: استدلوا على هذا بحديث ابن عمر "أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبعة
مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة
الطريق وفي الحمام وفي أعطان الإبل وفوق ظهر
بيت الله" رواه عبد بن حميد في مسنده والترمذي
["346"]، وابن ماجة ["746"] قال الترمذي
وإسناده ليس بذاك القوي وقد تكلم في زيد بن
جبيرة من قبل حفظة وقد روى الليث بن سعد هذا
الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وقال حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه
وسلم أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد والعمري
ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه انتهى كلام
الترمذي.
قال البخاري وابن معين زيد بن جبيرة متروك
وقال أبو حاتم لا يكتب حديثه وقال النسائي ليس
بثقة وصحح الحديث ابن السكن وإمام الحرمين.
فأما إمام الحرمين فليس من أهل هذا الشأن وأما
ابن السكن فكيف يصحح ما كان في إسناده متروك.
ولكنه قد ورد في القبر ما تقوم به الحجة وأخرج
البخاري ومسلم وغيرهما [مسلم "98/972"، أبو
دأود "3229"، الترمذي "1050"]، من حديث أبي
مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا تصلوا إلي القبور ولا تجلسوا عليها"
وأخرج أحمد ["3/183" و96"]، وأبو
(1/103)
دأود ["492"]،
والترمذي ["317"]، وابن ماجة ["745"]، وابن
خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا
المقبرة و الحمام" وأخرج مسلم ["23/532"]،
وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"
وورد في الحمام غير حديث ابن عمر المشتمل على
السبعة المواطن وهو حديث أبي سعيد المذكور قبل
هذا.
وورد في أعطان الإبل ما أخرجه أحمد ["2/491"]،
والترمذي ["348"]، وصححه من حديث أبي هريرة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا
في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل".
وكان على المصنف ومن تابعه أن يذكروا مع القبر
والطريق بقية تلك المواطن السبعة.
قوله: "ومنزل غصب إلا لملجىء ولا أرض هو
غاصبها".
أقول: قد أغنى عن هذا قوله: "وإباحة ما يقل
مساجده" فإنه يفيد المنع من الصلاة في المنزل
الغصب وفي الأرض الغصب ولا وجه لتقييد أرض
الغصب بكون المصلي هو غاصبها فلا فرق أن
يغصبها هو أو يغصبها غيره لأن جميع ذلك غير
مباح للمصلي ولا حلال له.
وأما جواز الصلاة في الأرض التي يظن إذن
مالكها فليس بصحيح لأن الظن لا يحلل مال الغير
ولا يجوز به استعماله.
قوله: "وتكره على تمثال حيوان كامل".
أقول: قد وردت الأدلة الصحيحة القاضية بتحريم
التصوير والنهي عنه وشدة الوعيد عليه وورد ما
يدل على تغييره وعدم تركه في البيوت ومن ترك
ذلك فقد ترك ما عليه من إنكار المنكر ولزمه من
الإثم ما يلزم تارك المنكر وأما الصلاة عليه
أو في المكان الذي هو فيه فلم يأتنا الشارع في
ذلك بشيء ولعله وجه استثناء ما تحت القدم ما
أخرجه أبو دأود والترمذي من حديث أبي هريرة
"أن جبريل عليه السلام أمر النبي صلى الله
عليه وسلم أن يجعل من القرام الذي في بيت
عائشة وسادتين توطآن" [أحمد "2/305" و
478"،أبو دأود "4158"، الترمذي "2807"].
قوله: "وبين المقابر"
أقول: قد قدمنا الأدلة الصحيحة القاضية بالنهي
عن الصلاة إلي القبر والنهي عن الصلاة في
المقبرة وهي طية بين المقابر ولا وجه للفرق
بين الصلاة على القبر والصلاة بين المقابر
وجعل الأول مما لا يجزىء الصلاة وجعل الثاني
مكروها فقط بل الكل منهي عنه ممنوع منه وإن
كان في الصلاة على نفس القبر زيادة على الصلاة
إليه والصلاة بين المقابر ولكن هذه الزيادة لم
يعتبرها الشارع بل نهى عن الصلاة في المقبرة
وذلك أعم من أن تكون الصلاة على نفس القبر أو
بينه وبين قبر آخر أو إلي قبر إذ يصدق على
الجميع أنه فعل الصلاة في المقبرة.
وإذا عرفت هذا علمت أنه كان يغني المصنف أن
يقول: "ولا يجزىء في مقبرة" ويحذف ذكر بين
المقابر.
(1/104)
قوله: "ومزاحمة
نجس لا يتحرك بتحركه"
أقول: لا وجه للحكم بكراهة ذلك حيث لم يكن مما
يتحرك بتحرك المصلي فإنه منفصل عنه فلا تحريم
ولا كراهة وإن كان متصلا به أو يتحرك بتحركه
فلا وجه لجعله مكروها فقط على مذهب المصنف بل
هو محرم ولا تجزىء الصلاة معه فعرفت بهذا أنه
لا وجه لذكر هذا ولا حاجة إليه على كل تقدير.
قوله: "وفي الحمام".
أقول: قد تقدم أن الحمام أحد السبعة المواطن
التي ورد النهي عن الصلاة فيها وورد أيضا ذكر
الحمام في حديث آخر كما سلف فلا وجه لجعل
الصلاة على القبر وفي الطريق مما لا تجزىء
الصلاة فيه وجعل الحمام مما تكره الصلاة فيه
فقط فإن هذا تلاعب بالأدلة على غير صواب ولم
يرد ما يصرف النهي عن الصلاة في الحمام إلي
مجرد الكراهة حتى يكون ذلك وجها لكلام المصنف.
وينبغي النظر فيما يصدق عليه مسمى الحمام
فالظاهر أنه الذي يغتسل فيه ويوقد عليه فلا
يدخل في ذلك الصلاة في مكان منفرد عنه كالمكان
الذي يسميه الناس المخلع.
قوله: "وعلى اللبود ونحوها".
أقول: ليس على هذا أثارة من علم أصلا ولا
يحتاج إلي التبرع بالأدلة الدالة على خلافه
فإن ذلك إنما يكوى عند أن يكون في المسألة
اشتباه وأما هذه فليست بهذه المنزلة وما هذه
بأولة مسألة لم يدل عليها دليل ومن غرائب
الأكابر من أهل العلم أنه روى ابن أبي شيبة في
المصنف عن سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين
أنهما قالا الصلاة على الطنفسة وهي البساط
الذي تحته خمل محدثة وعن جابر بن زيد أنه كان
يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان ويستحب
الصلاة على كل شيء من نبات الأرض وعن عروة بن
الزبير أنه كان يكره أن يسجد على شيء دون
الأرض وهذه المقالة من هؤلاء لا مستند لها إلا
مجرد الوسوسة والشكوك الخالية عن الدليل.
وأما الإمامية وإن كانوا ليسوا بأهل للكلام
معهم فمنعوا من صحة الصلاة على ما لم يكن أصله
من الأرض
قوله: "الخامس طهارة ما يباشره". الخ.
أقول: جعل المصنف رحمه الله طهارة ملبوس
المصلي ومحموله شرطا مستقلا كما سبق وجعل
طهارة المكان الذي يصلي فيه شرطا آخر كما هنا
وجعل طهارة البدن شرطا مستقلا كما تقدم وهذا
تطويل وتكثير وشغلة للحيز فإنه جعل شروط الصحة
ستة ثم جعل طهارة البدن والملبوس والمكان
ثلاثة منها وكان يغنيه عن هذا كله أن يقول
طهارة بدن المصلى وثيابه ومكانه ويجعل ذلك
شرطا واحدا.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الكلام هنا كالكلام
على طهارة البدن والثياب فإنهم لم يستدلوا
(1/105)
على طهارة
المكان إلا بمثل قوله تعالي: {وَطَهِّرْ
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] الآية
وبقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]
وقد عرفناك أن الشرط لا يثبت إلا بدليل خاص
وأن دليل الوجوب لا يثبت به الشرطية وفيما
أسلفناه كفاية فارجع إليه.
قوله: "السادس: تيقن استقبال عين الكعبة أو
جزء منها".
أقول: قال الله تعالي: {فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
[البقرة: 144]، وشطره سواء كان جهته أو نحوه
أو تلقاءه أو قبله على اختلاف تفاسير السلف
للشطر يدل على أن استقبال الجهة يكفي من
الحاضر والغائب إلا إذا كان حال قيامه إلي
الصلاة معاينا للبيت لم يحل بينه وبينه حائل
إلا إذا كان في بعض بيوت مكة أو شعابها أو
فيما يقرب منها وكان بينه وبين البيت حائل حال
القيام إلي الصلاة فإنه لا يجب عليه أن يصعد
إلي مكان آخر يشاهد منه البيت بل عليه أن يولي
وجهه شطر المسجد الحرام وليس عليه غير ذلك ولم
يأت دليل يدل على غير هذا.
وأما ما أخرجه البيهقي في سننه عن ابن عباس
مرفوعا "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة
لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها
ومغاربها من أمتي" فمع كونه ضعيف الا ينتهض
للاحتجاج به هو أيضا دليل على ما ذكرنا لأن من
كان في المسجد فهو معاين المبيت ولا حائل بينه
وبينه وقد جعل البيت قبلة لأهل الحرم وذلك يدل
على أنه لا يجب على أهل الحرم إلا استقبال
الجهة وأما غيرهم فذلك ظاهر. والمراد ما بين
المشرق والمغرب فإذا توجه إلى جهة التي بينهما
فقد فعل ما عليه لحديث "ما بين المشرق والمغرب
قبلة" أخرجه الترمذي [342,343] و ابن ماجه
[1011] من حديث أبي هريرة وأخرجه ابن ماجه
والحاكم من حديث ابن عمر ولا يحتاج المصلي أن
يرجع في أمر القبلة إلي تقليد أحد من الأحياء
ولا إلي المحاريب المنصوبة في المساجد فمحرابه
ما بين المشرق والمغرب. وكل عاقل يعرف جهة
المشرق والمغرب ولا يخفى ذلك إلا على مجنون أو
طفل.
قوله: "ويعفى لمتنفل راكب"
أقول: قد دلت على هذا الأدلة الصحيحة الثابتة
في الصححيحين وغيرهما إلا أن قوله: "في غير
المحمل" إن كان وقوفا مع النص وهو أن النبي
صلى الله عليه وسلم رخص في الاستقبال لراكب
الدابة إذا أراد أن يتنفل فلا شك أن الأمر
كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر من كان
راكبا في محمل وإن كان يصدق عليه أنه راكب
للدابة وإن كان لكون من في المحمل يمكنهم
الاستقبال فهذا مسلم وغيره مثله فإنه إذا تمكن
الراكب من الاستقبال استقبل سواء كان في محمل
أو في غير محمل وإن كان لا يتمكن من الاستقبال
كان له أن يتنفل إلي غير القبلة سواء كان في
محمل أو في غيره فلا وجه لهذا الاستثناء.
قوله: "ولا يعيد المتحري المخطىء إلا في
الوقت".
أقول: حديث السرية يرد ذلك وهو ما أخرجه أبو
دأود الطيالسي وعبد بن حميد
(1/106)
والترمذي وضعفه
ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم والعقيلي
وضعفه أيضا الدارقطني وابو نعيم في الحلية
والبيهقي في سننه عن عامر بن ربيعة قال كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء
مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار
فيعمل مسجدا فيصلي فيه فلما اصبحنا إذا نحن قد
صلينا إلي غير القبلة فقلنا يا رسول الله
صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله
سبحانه {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ} [البقرة: 115]، فقال: "مضت صلاتكم".
وأخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر
قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية
كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم تعرف القبلة فقالت
طائفة منا القبلة ها هنا قبل الشمال فصلوا
وخطوا خطوطا وقال بعضنا القبلة ها هنا من
الجنوب فصلوا وخطوا خطوطا فلما اصبحوا وطلعت
االشمس اصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما
قفلنا من سفرنا سألنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فسكت فأنزل الله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس بسند ضعيف نحوه
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء نحوه
فهذه الأحاديث تدل على عدم وجوب الإعادة على
المخطىء لا في الوقت ولا بعده وحديث أهل قباء
المتفق عليه [البخاري "403 و 4491 و 4494 و
7151"، النسائي "2/61"، أحمد "2/16، 26، 105"،
الترمذي "341"]، أنهم كانوا في حال الصلاة
مستقبلين بيت المقدس فلما سمعوا خبر المخبر
لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استقبل
الكعبة استداروا إلي الكعبة وقررهم النبي صلى
الله عليه وسلم على ذلك ولم يأمرهم بالإعادة
مع أنهم قد صلوا بعض الصلاة إلي غير القبلة.
قوله: "ويكره استقبال نائم ومحدث ومتحدث".
أقول: استدلوا على ذلك بما رواه في جامع
الأصول عن كتاب رزين من حديث ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا خلف
النيام ولا المتحلقين ولا المتحدثين"، وقد
عرفناك أن ما تفرد به رزين لا يجوز العمل به
ولا يصلح للاحتجاج لأنه جعل كتابه لجمع ما في
الست الأمهات ثم ذكر أحاديث ليست فيها ولا
يعرف من خرجها من غيرهم وقد زعم بعضهم أن هذا
الحديث أخرجه أبو دأود في سننه ["694"]، ولم
يوجد في السنن فينظر ولكنه أخرج الطبراني في
الأوسط عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "نهيت أن أصلي خلف المتحدثين
والنيام" وفي إسناده محمد بن عمرو بن علقمة
وفيه مقال وهو ثقة من رجال الصحيح.
وأخرج ابن عدي من حديث ابن عمر أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن الصلاة خلف النائم قال
ابن حجر في فتح الباري وإسناده واه.
وأخرج البزار من حديث على بن أبي طالب أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي إلي
رجل فأمره أن يعيد الصلاة وفي إسناده عبد
الأعلى التغلبي وهو ضعيف.
هذا حاصل ما في الباب والعلة في الكراهة
اشتغال قلب المصلي إذا كان أمامه شيء مما
(1/107)
في الحديث وفي
النائم قد يخرج منه شيء يؤذي المصلي وقد عرفت
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في
الأنبجانية التي بعث بها إلي بعض الصحابة
"إنها ألهته في صلاته" "البخاري "373"، مسلم
"61، 36/556"]، وهو حديث صحيح وقال في قرام
عائشة "أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال
تصأويره تعرض لي في صلاتي" وهو في الصحيح
[البخاري "1/374"[، ولا جامع بين هذا وبين
الأحاديث الواردة فيما يقطع الصلاة كالكلب
والمرأة الحائض فإن هذا الذي نحن بصدده في
كراهة استقبال الشيء المستقر في قبلة المصلي
وأحاديث القطع في الشيء الذي يمر بين يديه.
ويعارض ما ورد في المنع من استقبال النائم ما
ثبت في الصحيح [البخاري "382"، مسلم "512"
أحمد "6/126"، أبو دأود "712، 714"، النسائي
"1/101 – 102"، ابن ماجة "956"]،من أنه صلى
الله عليه وسلم كان يصلي وعائشة معترضة في
قبلته والظاهر من كونها معترضة أنها كانت
نائمة. ولهذا أورد في لفظ في الصحيحين
[البخاري "512"، مسلم "268/512"]: "فإذا أراد
أن يوتر أيقظني".
ولا شك أن اشتغال قلب المصلي باستقبال المرأة
أكثر من اشتغاله باستقبال الرجل وأما توسيع
دائرة الكلام إلي كراهة استقبال الفاسق
والسراج والنجس فليس كما ينبغي ولو قال المصنف
رحمه الله ويكره استقبال ما يلهي لكان ذلك
أخصر وأشمل وأوفق بالأدلة.
قوله: "وندب لمن في الفضاء اتخاذ سترة" الخ.
أقول: هذه السنة ثابتة بالأحاديث الصحيحة
الكثيرة ولا وجه لتخصيص مشروعيتها بالقضاء
فالأدلة أعم من ذلك والكلام على مقدار السترة
ومقدار ما يكون بينها وبين المصلي مستوفى في
كتب الحديث وشرحه وأكثر الأحاديث مشتملة على
الأمر بها وظاهر الأمر الوجوب فإن وجد ما يصرف
هذه الأوامر عن الوجوب إلي الندب فذاك ولا
يصلح للصرف قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه لا
يضره ما مر بين يديه" [أحمد "2/249"، ابن ماجة
"943"]، لأن تجنب المصلي لما يضره في صلاته
ويذهب بعض أجرها واجب عليه.
[ فصل
وأفضل أمكنتها المساجد وافضلها المسجد الحرام
ثم مسجد رسول الله ثم مسجد بيت المقدس ثم
الكوفة ثم الجوامع ثم ما شرف عامره.
ولا يجوز في المساجد إلا الطاعات غالبا ويحرم
البصق فيها وفي هوائها واستعماله ما علا.
وندب توقي مظان الرياء إلا من أمنه وبه
يقتدى].
قوله: فصل: "وأفضل أمكنتها المساجد" الخ.
(1/108)
أقول: أما
المساجد الثلاثة فقد ورد النص على أن الصلاة
فيها أفضل من غيرها مع تفاضلها في أنفسها
فأخرج أحمد ["4/5"]، من حديث ابن الزبير قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في
مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من
المساجد إلا المسجد الحرام فصلاة فيه أفضل من
مائة صلاة في هذا".
وأخرج أيضا ابن حبان بلفظ "وصلاة في ذلك أفضل
من مائة صلاة في مسجد المدينة" قال ابن عبد
البر اختلفوا على ابن الزبير في رفعه ووقفه
ومن رفعه أحفظ وأثبت ومثله لا يقال بالرأي.
وأخرج ابن ماجه ["1406"]،من حديث جابر مرفوعا
صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا
المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من
مائة ألف صلاة فيما سواه ورجال إسناده ثقات
ورواه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء
مرفوعا: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف
صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في
بيت المقدس بخمسمائة صلاة".
قال البزار إسناده حسن.
وفي الصحيحين [البخاري"1132"، مسلم "506/94"]
من حديث أبي هريرة "صلاة في مسجدي هذا خير من
ألف صلاة".
والظاهر أن الصلاة في هذه الثلاثة المساجد
تكون أفضل من الصلاة في غيرها بذلك المقدار
الذي بينه صلى الله عليه وسلم ولا فرق بين
الفرائض والنوافل كما يدل عليه تنكير الصلاة
في هذه الأحاديث فلا يرد ما أورده الجلال في
شرحه من البحث الذي بحثه ولم يثبت زيادة وأفضل
من ذلك كله صلاة الرجل في بيت مظلم حيث لا
يراه أحد إلا الله يطلب بها وجه الله ولكنه
ثبت في الصحيحين [البخاري"731، 6113، 7290"،
مسلم "213/781"] وغيرهما [الترمذي "450"، أبو
دأود "1044"، النسائي "3/197 – 198"، أحمد
"5/182 و 184 و 186"]، من حديث زيد بن ثابت أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلاة
صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" قال الترمذي
وفي الباب عن عمر وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة
وابن عمر وعائشة وعبد الله بن سعد وزيد ابن
خالد وأما سائر المساجد فقد ورد ما يدل على
فضل الصلاة فيها في الجملة كحديث أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ
الرجل فأحسن الوضوء ثم خرج إلي الصلاة لا
يخرجه" أو قال "لا ينهزه إلا إياها لم يخط
خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها
خطيئة" أخرجه الترمذي ["103"]، وقال حسن صحيح.
وأخرج مسلم ["41/251"[، وغيره ["الترمذي "51"،
النسائي "1/89"، ابن ماجة "428"]، من حديث أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع
به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال:
"إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلي
المساجد وانتظار الصلاة فذلكم الرباط فذلكم
الرباط".
(1/109)
وأخرج أبو دأود
["561"]،والترمذي ["223"] عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بشر
المشائين في الظلم إلي المساجد بالنور التام
يوم القيامة".
وورد أيضا "من حافظ على هذه الصلوات حيث ينادى
لها" [مسلم "257/654"، أبو دأود "550"،
النسائي "2/108"، ابن ماجة "777"]، الحديث.
وورد أيضا "لا صلاة لجار المسجد إلا في
المسجد".
وورد أيضا "أن منتظر الصلاة في المساجد في
صلاة" [البخاري "659، 3229"، مسلم "5/166 –
167"، أبو دأود "470"].
وورد أيضا عدم الترخيص لمن سمع النداء في حضور
المسجد الذي ينادى للصلاة فيه وثبت الحث على
بناء المساجد والترغيب في ذلك.
وحديث "أحب البلاد إلي الله مساجدها" [مسلم
"671"].
وهذه أحاديث معروفة مشهورة وهي تدل على مزيد
خصوصية في الفضيلة للمساجد التي يجتمع الناس
إليها وينادى للصلاة فيها وهي أخص من كون كل
بقاع الأرض مسجدا لحديث "جعلت لي الأرض مسجدا"
فهذا هو الوجه لقول المصنف رحمه: "وأفضل
أمكنتها المساجد".
وأما جعل مسجد الكوفة في الشرف بعد الثلاثة
المساجد فلم يثبت ذلك بدليل ولا كان للكوفة
مسجد في أيام النبوة وكان الأولى أن يجعل مكان
مسجد الكوفة مسجد قباء ومسجد عبد القيس بعد أن
يذكر شرف البقاع التي ثبت أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى فيها.
وأما شرف الجوامع فإن كان لكثرة الجماعات فيها
فليس ذلك بمختص بالمساجد بل صلاة الرجل مع
الرجل أزكى من صلاته وحده ثم صلاته مع الرجلين
أزكى من صلاته مع الرجل ثم كذلك كلما كثر
الجمع في الجماعة كانت أزكى كما وردت السنة
بذلك.
وأما قوله: "ثم ما شرف عامره" فليس ذلك بمزية
توجب كون المسجد أفضل من غيره فضلا عن كون
الصلاة فيه أفضل منها في غيره وما اسمج ما قال
الجلال رحمه الله ها هنا من أن الأرض قد جعلها
الله مسجدا على السواء وهو أعظم من كل عظيم
فترجيح وضع العبد على وضع الرب مما لا ينبغي
أن ينسب إلي ذي فهم انتهى.
ولا يخفاك أن المساجد التي جعلها العباد هي
أحد بقاع الأرض التي جعلها الله مسجدا وليست
غيرها ولا خارجة عنها حتى يتم ما قاله وكان
ينبغي للمصنف رحمه الله أن يجعل مكان ما شرف
عامره الصلاة في فلاة من الأرض فإنه قد ورد
أنها بخمسين صلاة وقد ذكرنا في شرح المنتقي
عند ذكر مصنفه لهذا الحديث ما ينبغي الرجوع
إليه لما اشتمل عليه من الفائدة.
قوله: "ولا يجوز في المساجد إلا الطاعات".
أقول: هي التي بينها رسول الله صلى الله عليه
وسلم بقوله: "إنما هي لذكر الله والصلاة"
[البخاري"6025"، مسلم "100/284"، الترمذي
"147"، النسائي "1/175"، ابن ماجة "528"، أحمد
"3/110 – 111"] وفي
(1/110)
لفظ: "إنما
بنيت لذكر الله والصلاة" والحديث في الصحيح
فإن هذا الحصر يدل أنه لا يجوز غير الصلاة
والذكر في المسجد إلا بدليل كما ثبت عنه صلى
الله عليه وسلم أنه أنزل وفد ثقيف في مسجده
قبل إسلامهم وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أنزل
وفد الحبشة في مسجده ولعبوا فيه بحرابهم وهو
ينظر إليهم وفي كلا الفعلين مصلحة ظاهرة عائدة
إلي الإسلام أما إنزال وفد ثقيف فلأجل يشاهدون
عبادة المسلمين وتواضعهم لله وكثرة ذكرهم له
فتلين قلوبهم وأما إنزال وفد الحبشة فلو لم
يكن من ذلك إلا المكافأة لملكهم الصالح الذي
هاجر إليه المسلمون فأحسن جوارهم وفعل بهم تلك
الأفعال الحسنة وقد ثبت أنهم كانوا يتناشدون
فيه الأشعار ولهذا قال حسان لعمر قد كنت أنشد
وفيه يعني المسجد من هو خير منك.
وكان غالب ما يتناشدونه ومدح رسول الله صلى
الله عليه وسلم ومد الإسلام وأهله وذم الكفر
وأهله وفي ذلك مصلحة ظاهرة وبهذه الخصوصية
يمتنع إلحاق غيره من الأشعار به.
ومما يدل على جواز تعلم العلم في المساجد
وتعليمه ما أخرجه أحمد ["2/350، 418، 527"]،
وأبوا دأود وإسناد رجاله ثقات عن أبي هريرة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من
دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان
كالمجاهد في سبيل الله ومن دخل لغير ذلك كان
كالناظر إلي ما ليس له".
ومما ورد المنع منه في المساجد الحد والقصاص
لما أخرجه أحمد ["3/343"]، وأبو دأود
["4490"]، والدارقطني والحاكم وابن السكن
والبيهقي من حديث حكيم بن حزام قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في
المساجد ولا يستفاد فيها" وإسناده لا بأس به.
ومما ورد النهي عنه في المساجد ما في حديث أبي
هريرة عند الترمذي وحسنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أن
يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك
وإذا رأيتم من ينشد الضالة فقولوا لا رد الله
عليك".
والنهي عن إنشاء الضالة ثابت في الصحيح ومن
ذلك حديث واثلة الذي أخرجه ابن ماجه مرفوعا:
"جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم
وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم
وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر"
وإسناده ضعيف ولكن له شاهد عند الطبراني وغيره
بسند فيه العلاء بن كثير الشامي وهو ضعيف من
حديث مكحول عن أبي الورد وأبي أمامة وواثلة من
حديث مكحول عن معاذ وهو منقطع ولابن عدي من
حديث أبي هريرة وفيه عبد الله بن محرر وهو
ضعيف.
وأخرج ابن ماجة ["748"]، من حديث ابن عمر
مرفوعا قال: "خصال لا ينبغين في المسجد لا
يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا يقيض فيه
بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء
ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه من أحد ولا يتخذ
سوقا" وفي إسناده زيد ابن جبير الأنصاري وهو
متروك.
ومن جملة ما ثبت المنع منه في المساجد البصق
فيها كحديث "البصاق في المسجد
(1/111)
خطيئة وكفارتها
دفنها" وهو ثابت في الصحيح ولفظ البخاري
["415"]، ومسلم ["55/552"]: "البزاق في المسجد
خطيئة وكفارتها دفنها" هكذا لفظ حديث أنس
فيهما وفي لفظ لمسلم ["56/552": "التفل" مكان
"البزاق" وفي لفظ النسائي ["2/51"]: "البصاق".
وأخرج مسلم ["57/553"]، من حديث أبي ذر
مرفوعا: "وجدت في مسأوىء أمتي النخاعة تكون في
المسجد لا تدفن".
وأخرج مسلم ["59/552"، عن عبد الله بن الشخير
قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فرأيته تنخع فدلكها بنعله اليسرى وهكذا إذا
كان المسجد غير مفروش فإن كان مفروشا بالحصر
أو نحوها فلا يتيسر الدفن الذي هو كفارة البصق
فيكون خطيئة غير مكفرة.
وقد وردت أحاديث في منع البصق في قبلة المسجد
ووردت أحاديث في أنه يبصق في ثوبه إذا احتاج
إلي ذلك فمن دعت حاجته إلي البصق بصق في ثوبه.
قوله: "وندب توقي مظان الرياء".
أقول: الرياء من معاصي الله العظيمة وهو الشرك
الأصغر فإذا كان له ذريعة وإليه وسيلة فالواجب
قطع تلك الذريعة ودفع تلك الوسيلة فالذريعة
إلي الحرام حرام والوسيلة إلي الحرام حرام
فتوقي مظان الرياء واجب والوقوع فيها حرام
ومدافعة النفس عن مثل هذه المعصية من أوجب
الواجبات الشرعية وتجنب الأسباب التي تفضي
إليها لازم لكل مسلم فلا وجه لجعل ذلك مندوبا
كما قال المصنف رحمه الله.
(1/112)
[
باب الأوقات
اختيار الظهر من الزوال وآخره مصير ظل الشيء
مثله وهو أول العصر وآخره المثلان والمغرب من
رؤية كوكب الليل أو ما في حكمها وآخره ذهاب
الشفق الأحمر وهو أول العشاء وآخره ذهاب ثلث
الليل.
وللفجر من طلوع المنتشر إلي بقية تسع ركعة
كاملة.
واضطرار الظهر من آخر اختياره إلي بقية تسع
العصر وللعصر اختيار الظهر إلي ما يسعه عقيب
الزوال ومن آخر اختياره حتى لا يبقى ما يسع
ركعة وكذلك المغرب والعشاء وللفجر إدراك ركعة
ورواتبها في أوقاتها بعد فعلها إلا الفجر
غالبا.
وكل وقت يصلح للفرض قضاء وتكره الجنازة والنقل
في الثلاثة وأفضل الوقت أوله"].
(1/112)
قوله: "اختيار
الظهر من الزوال" الخ.
أقول: الأحاديث المبينة للأوقات كثيرة جدا
اقوالا وأفعالا وتعليما وحاصلها أن أول وقت
الظهر الزوال وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى
فيء الزوال وهو أول وقت العصر وآخره ما دامت
الشمس بيضاء نقية وأول وقت المغرب غروب الشمس
وغروبها يستلزم إقبال الليل من المشرق وإدبار
النهار من المغرب ويستلزم ظهور النجم الذي
سماه النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهدا" فلا
مخالفة بين هذه العلامات لدخول وقت المغرب
فإنها متلازمة وآخره ذهاب الشفق الأحمر وهو
أول وقت العشاء وآخره نصف الليل ولا وجه لقول
المصنف "وآخره ذهاب ثلث الليل" فإنه قد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم امتداده إلي نصف
الليل كما هو ثابت في الصحيحين
[البخاري"2/51"، [مسلم "222/640"]، وهي زيادة
يجب قبولها ويتعين المصير إليها.
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنه لولا أن
يشق على أمته لأخرها إلي نصف الليل فدل ذلك
على أنها في ذلك الوقت أفضل وأنه وقت لها بل
ورد ما يدل على أنه وقتها إلي أن يذهب عامة
الليل أي أكثره.
وأول وقت الفجر طلوع الفجر وهو يعرفه كل ذي
بصر وآخره طلوع الشمس فهذه الأوقات لا ينبغي
أن يقع في مثلها خلاف لأن الأدلة عليها أوضح
من كل واضح وأظهر من كل ظاهر وقد كرر صلى الله
عليه وسلم الأيضاح وعلمهم ما لا يحتاجون بعده
إلي شيء وجعل هذه الأوقات منوطة بعلامات حسية
يعرفها كل من له بصر صحيح فلا نطيل الكلام في
هذا فإن الإطالة لا تأتي بطائل.
قوله: "واضطرار الظهر".
أقول: الشارع قد بين أول وقت كل صلاة من
الصلوات الخمس وبين آخره حسب ما عرفناك ثم بين
بأقواله الصحيحة ان الوقت لكل صلاة من تلك
الصلوات هو ما بين الوقتين فهذه الأوقات هي
التي عينها الشارع للصلوات الخمس ولم يأت عنه
أن الأوقات منقسمة إلي قسمين وقت اختبار ووقت
اضطرار بل غاية ما ورد عنه في بيان حالة
الاضطرار أن من أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج
وقتها فقد أدركها فمن كان نائما أو ناسيا أو
مغشيا عليه أو نحو ذلك وأدرك من الصلاة ركعة
فقد أدركها أداء لا قضاء وأما من تركها من غير
عذر حتى خرج وقتها الذي عينه النبي صلى الله
عليه وسلم فهو تارك للصلاة وإن فعلها في وقت
صلاة أخرى فكيف إذا تركها حتى خرج وقت الصلاة
الأخرى كمن يصلي الظهر وقت اصفرار الشمس فإنه
لم يصل أصلا ولا فعل ما فرض الله عليه بل جاء
بصلاته في غير وقتها بل في الوقت الذي وصفه
النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وقت صلاة
المنافق.
ولقد ابتلى زمننا هذا من بين الأزمنة وديارنا
هذه من بين ديار الأرض بقوم جهلوا الشرع
وشاركوا في بعض فروع الفقة فوسعوا دائرة
الأوقات وسوغوا للعامة أن يصلوا في غير أوقات
الصلاة فظنوا أن فعل الصلاة في غير أوقاتها
شعبة من شعب التشيع وخصلة من خصال المحبة لأهل
(1/113)
البيت فضلوا
وأضلوا وأهل البيت رحمهم الله براء من هذه
المقالة مصونون عن القول بشيء منها.
ولقد صارت الجماعات الآن تقام في جوامع صنعاء
للعصر بعد الفراغ من صلاة الظهر وللعشاء في
وقت المغرب وصار غالب العوام لا يصلي الظهر
والعصر إلا عند اصفرار الشمس فيا لله
وللمسلمين من هذه الفواقر في الدين.
وسيأتيك الكلام في الجمع الذي جعله هؤلاء
ذريعة إلي هذه المفاسد السارية إلي ترك
الصلوات التي صرح الشارع بأنه "ليس بين العبد
وبين الكفر إلا تركها" [أحمد "3/370، 389"،
مسلم "82"، أبو دأود "4678"، النسائي "1/232"،
الترمذي "2622"، ابن ماجة "1078"].
قوله: "ورواتبها في أوقاتها يعد فعلها إلا
الفجر"
أقول: رواتب الفرائض كثيرة جدا ومنها ما هو
قبل فعل الفريضة ومنها ما هو بعد فعلها فإن
أراد الرواتب التي وردت في الأحاديث الصحيحة
فهي كما عرفناك وإن أراد ما ورد في حديث ابن
عمر المتفق عليه [البخاري "1180 و "1172" و
"1165" و "937"، مسلم "729"، أنه قال حفظت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل
الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب
وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الغداة فهذا
الحديث قد دل على أنه يصلي قبل الظهر ركعتين
فلا يتم قوله إلا الفجر.
وإن أراد حديث أم حبيبة الثابت عند الجماعة
[مسلم ""103/728"، أبو دأود "1250"، الترمذي
"415"، النسائي "1796"، ابن ماجة "1141"]، إلا
البخاري قالت قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة سجدة
سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة".
ثم بينها صلى الله عليه وسلم كما في رواية بعض
الجماعة فقال: "أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها
وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء
وركعتين قبل صلاة الفجر". فهذه فيها أربع قبل
الظهر [أبو دأود "1251"، النسائي "1795"، ابن
ماجة "1161"، الترمذي "424"].
وإن أراد غير هذين الحديثين فمنها ما فيه أربع
قبل الظهر وأربع بعدها ومنها ما فيه أربع قبل
العصر ومنها ما فيه "أن بين كل إذانين صلاة"
[مسلم "838", الترمذي "185", ابن ماجه
"1162"]أي بين الإذان والإقامة في جميع
الصلوات.
وورد في خصوص صلاة المغرب بلفظ: "بين أذاني
المغرب صلاة" وورد: "صلوا قبل صلاة المغرب
ركعتين" [البخاري "1183,7368"] وهو في الصحيح.
وبالجملة فالمصنفون في الفروع في هذه الديار
جعلوا رواتب الفرائض ركعتين بعد الظهر وركعتين
بعد المغرب وركعتين قبل الفجر ولا راتبة عندهم
سوى هذه ولا موجب إلا عدم الإشراف على كتب
السنة وهجرها بالمرة وجعلها من كتب الخصوم
وليسوا بخصوم لأحد من أهل الإسلام بل هم
الجامعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن كانوا خصوما بهذا العمل فالويل لمن كانوا
خصومه.
(1/114)
وأعجب من هذا
أنهم جعلوا الوتر ثلاث ركعات لا يزاد عليها
ولا ينقص منها ولا وتر عندهم إلا ذلك لأنهم لم
يعرفوا ان الوتر إنما هو إيتار صلاة الليل وقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم في غالب حالاته
يوتر بركعة والمراد اشتمال آخر صلاة الليل على
وتر أما بركعة منفردة أو ثلاث أو خمس أو سبع
ولكنه قد ورد النهي عن الإيتار بثلاث كما
أوضحته في شرح المنتقي.
وأما اعتقاد أن الله شرع صلاة ثلاث ركعات
متصلة بعد صلاة العشاء من دون أن يتقدمها صلاة
فليس هذا إلا من الجهل البالغ بما جاءت به
السنة وأقل ما يفعله من كان عاجزا غير راغب في
الأجر أن يصلي ركعتين ويسلم فيهما ثو يوتر
بركعة منفردة فإن هذا يصدق عليه أنه لم يصل من
النافلة في الليل إلا ركعتين ثم أوترها بركعة
وقد كانت صلاته في الليل صلى الله عليه وسلم
تبلغ إلي ثلاث عشرة ركعة بوترها وقد يقتصر على
اقل منها.
قوله: "وكل وقت يصلح للفرض قضاء".
أقول: استدلوا على ذلك بحديث أنس عند الشيخين
[البخاري "597"، مسلم "684"]، وغيرهما [أوب
دأود "442"، أحمد "3/269" و "3/100"، ابن ماجة
"696"، الترمذي "178"، النسائي "1/293، 294"]،
مرفوعا: "من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها
إذا ذكرها" وفي رواية لغيرهما "فوقتها حين
يذكرها" وقد عورض ذلك بالنهي عن الصلاة في
الثلاثة الأوقات وهو ثابت في أحاديث الصحيحين
وغيرهما [مسلم "293/831"، أحمد "4/152"، أبو
دأود\ "3192"، الترمذي "1030"، النسائي
"1/375"، ابن ماجة "1519"]، وقد قيل إن حديث
"من نام عن صلاته" مطلق مقيد بأحاديث النهي عن
الصلاة في الثلاثة الأوقات وهو ممنوع فإنا إذا
سلمنا شمول أحاديث النهي للفرائض المقضية كان
بين هذه الأحاديث عموم وخصوص من وجه فأحاديث
النهي هي أعم من أن تكون الصلاة نافلة أو
فريضة مقضية أو مؤداة.
وحديث: "من نام عن صلاته" هو أعم من أن يكون
قيام النائم وذكر الناسي في هذه الثلاثة
الأوقات أو غيرها إلا أنه لا يخفاك أن الصلاة
التي تركت لنوم أو نسيان هي مفعولة في وقت
القيام من النوم أو الذكر بعد النسيان في
الوقت الذي لا وقت لها سواه فهي أداء لا قضاء
فيتوجه النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات
إلي النوافل لا إلي الفرائض المؤداة وقد ثبت
أن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك فمن أدرك
من العصر ركعة قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر
ومن أدركه ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد
أدرك الفجر وهذه الأحاديث المصرحة بأن من أدرك
من الصلاة ركعة فقد أدركها أخص مطلقا من
أحاديث النهي عن الثلاثة الأوقات وصلاة النائم
والساهي لأن ذلك الوقت وقت الأداء لها فهي
كسائر الفرائض المؤداة ومن زعم أنها مقضية لا
مؤداة فالدليل عليه فقد أخبرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن وقتها حين يذكرها لا وقت
لها سواه.
قوله: "وتكره الجنازة والنفل في الثلاثة"
أقول: الأحاديث الصحيحة قد وردت مصرحة بالنهي
عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وعن
(1/115)
قبر الموتى
فيها ووردت أحاديث صحيحة مصرحة بالنهي عن
الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس وبعد
صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وظاهر النهي
التحريم ولم يرد ما يدل على صرفة عن معناه
الحقيقي وهو التحريم إلي معناه المجازي وهو
كراهة التنزيه ولم يرد ما يدل على تخصيص ذوات
الأسباب من هذا العموم نعم ما ورد فيه دليل
يدل على فعله من غير فرق بين وقت الكراهة
وغيره كتحية المسجد فبينه وبين أحاديث النهي
عموم وخصوص من وجه فيرجع إلي مرجح لأحدهما على
الآخر خارج عنهما فإن كان ترجيح الحظر على
الإباحة من المرجحات المعمول بها كما يدل عليه
حديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم
وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" كان المتعين ترك
تحية المسجد في الأوقات المكروهة وينبغي
للمتحري لدينه تجنب دخول المساجد فيها فإن دخل
لحاجة فلا يقعد.
قوله: "وأفضل الوقت أوله"
أقول: قد كان استمرار رسول الله صلى الله عليه
وسلم على فعل الصلوات في أول أوقاتها وكان ذلك
ديدنه وهجيراه ولا يخالف في ذلك أحد ممن له
اطلاع على السنة المطهرة وورد من أقواله ما
يدل على ذلك كحديث "أفضل الأعمال الصلاة لأول
وقتها" [البخاري "527، 2782، 5970، 7534"،
مسلم "137، 138"، و "139" و "140/85"، أحمد
"1/451، 1/409 – 410" و "1/439"، النسائي
"1/292"، ابن ماجة "173"]. وما ورد في معناه
وجعل قوم الإسفار بالفجر أفضل ولكن كان آخر
الأمرين منه صلى الله عليه وسلم التغليس بها
وورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن
تأخير صلاة العشاء إلي ثلث الليل أو إلي نصف
الليل أفضل وأنه إنما ترك ذلك لئلا يشق على
أمته وورد عنه صلى الله عليه وسلم رخصة
الإبراد بالظهر وعلل ذلك بأن "شدة الحر من فيح
جهنم" [البخارس "536"، مسلم "615"، النسائي
"501"، ابن ماجة "677"، الترمذي "157"، أبو
دأود "402"].
والحاصل أن أفضل الوقت أوله إلا ما خصه دليل
مع بيان أنه أفضل كتأخير العشاء لا مجرد
الترخيص لعذر فإنه لا يعارض أفضلية أول الوقت.
والعجب من استدلال الجلال للرافضة في قولهم
بتأخير صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم لحديث
"لا حتى يطلع الشاهد" [مسلم "292/830"،
النسائي "521"، والشاهد النجم ثم تكميل هذا
الاحتجاج الساقط بقوله ولام النجم للاستغراق
فيا لله العجب من وقوع هذا المحقق في مثل هذه
المضايق التي يتحاشى كل عارف أن يقع في مثلها
وهب أن قول والشاهد النجم ليس بمدرج وأنه من
كلام النبوة فكيف يحمل على الاستغراق فيكون
مدلوله أن تطلع نجوم السماء كلها حتى لا يبقى
نجم وهكذا لو قال قائل لآخر لا اكرمك حتى يأتي
الرجل وهو غير مريد لرجل بعينه كان مدلوله على
ما زعم الجلال امتناع الإكرام حتى يأتي كل رجل
في الدنيا فأي فهم يسبق إلي مثل هذا أو أي علم
يدل عليه ويستفاد منه وقد بالغ النبي صلى الله
عليه وسلم في تعجيل صلاة المغرب حتى صلوها في
يومي التعلم في وقت واحد عند غروب الشمس
وكانوا يفرغون منها بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم مع طول القراءة وإن الرجل ليبصر
مواقع نعله 2 كما دلت على ذلك الأحاديث
الصحيحة وقال: "لا تزال أمتي بخير أو على
الفطرة ما لم يؤخروا صلاة
(1/116)
المغرب حتى
تشتبك النجوم"، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد
["4/147"]، وأبو دأود ["418"، والحاكم في
المستدرك ورجال إسناده ثقات وابن إسحق قد صرح
بالتحديث فيه.
وأخرج ابن ماجه والحاكم وابن خزيمة في صحيحه
هذا الحديث من حديث العباس ابن عبد المطلب
بلفظ: "لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا
المغرب حتى تشتبك النجوم".
ثم أعجب من هذا أن الجلال رحمه الله أيستدل
على استحباب تأخير الصلاة للمغرب بما ورد من
أحاديث: "إذا حضر الطعام" فيا لله العجب أي
دليل في هذا؟ فإن العلة التي صرح الشارع
بتأخيرها لها حضور الطعام ولم يكن ذلك خاصا
بالمغرب بل ورد في جميع الصلوات كما في الحديث
الثابت في الصحيح بلفظ: "لا صلاة بحضرة طعام"
وحاشا مثله أن يوقعه حب الروافض في مثل هذا
التعسف الذي لا يخفى على من له أدنى عرفان ومن
الروافض حتى يتبرع بمذهبهم الباطل بما هو من
الباطل؟ وما كلامهم في هذه المسألة بأول عناد
عاندوا به الشريعة فإنهم يخالفون كل السنن
ويدافعون كل حق.
[ فصل
"وعلى ناقص الصلاة والطهارة غير المستحاضة
ونحوها التحري لآخر الاضطرار ولمن عداهم جمع
المشاركة وللمريض المتوضىء والمسافر ولو
لمعصية والخائف والمشغول بطاعة أو مباح ينفعه
وينقصه التوقيت جمع التقديم والتأخير بإذان
لهما وإقامتين ولا يسقط الترتيب وإن نسي ويصح
التنفل بينهما"].
قوله: "فصل وعلى ناقص الصلاة أو الطهارة غير
المستحاضة ونحوها التحري لآخر الاضطرار".
أقول: هذا رأي فائل واجتهاد عن الحق مائل وقول
عن دليل العقل والنقل عاطل وقد عرفناك فيما
سبق ما هو الحق فيما جعلوه وقت اضطرار والمصنف
ومن قاله بقوله ممن قبله أو بعده قد أوجبوا
على ناقص الصلاة أو الطهارة أن يترك الصلاة
التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها كما
صح بذلك الدليل.
وبيان ما ذكرناه من إيجابهم عليه أن يترك
الصلاة المفروضة هو أنه لم يرد في كتاب الله
سبحانه ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن أحدا من هؤلاء يؤخر الصلاة عن وقتها
المضرب لها جوازا فضلا عن أن يكون ذلك على جهة
الوجوب فضلا عن أن يكون التأخير إلي آخر وقت
الاضطرار حتما فإن من فعل الصلاة في هذا الوقت
لغير عذر يقتضي التأخير فقد فعلها بعد خروج
وقتها المضروب لها ومن فعلها بعد خروج وقتها
المضروب لها فقد تركها ولا تأثير لفعلها بعده.
(1/117)
والأحاديث
الواردة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد
أدركها هي رخصة للمعذورين كالنائم والساهي لا
لهؤلاء فإنهم مأمورون بفعل الصلاة في وقتها
كغيرهم.
فانظر هذه الفائدة التي استفادها المقلد
المسكين من هؤلاء المصنفين في علم الدين.
وأما قياس هؤلاء على المتيمم فقياس باطل ودعوى
كون صلاة الجميع بدلية مصادرة على المطلوب لأن
ذلك هو محمل النزاع.
ثم لو قدرنا صحة القياس تنزلا لكان الأصل
المقيس عليه وهو التيمم والمتيمم ممنوعا فإنه
ليس على كونه يؤخر الصلاة إلي آخر الوقت أثارة
من علم بل ذلك خلاف الأدلة الدالة على أن
المتيمم كغيره يصلي في أول الوقت كما يصلي
غيره.
وقد قدمنا في باب التيمم ما فيه كفاية فلا أصل
ولا فرع ولا عقل ولا شرع.
ثم انظر كيف تلون الكلام في هذه الأحكام فإنه
استثنى من ناقص الصلاة والطهارة المستحاضة
ونحوها ثم أثبت لمن عداهم جمع المشاركة وهذا
كله ظلمات بعضها فوق بعض وخبط يتعجب منه
الناظر فيه إذا كان له أدنى تمييز.
والحاصل أن هذا القول لم يسمع في أيام النبوة
وقد كان فيهم الزمني وأهل العلل الكثيرة وفيهم
من قال له صلى الله عليه وسلم: "صل قائما فإن
لم تسطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب"
[البخاري "1117"، النسائي "3/224"، أبو دأود
"952"، الترمذي "372"، ابن ماجة "1223"]، ولم
يسمع بأنه أمر احدا منهم بتأخير الصلاة عن
وقتها ولا جاء في ذلك حرف واحد لا من كتاب ولا
من سنة وهكذا لم يسمع شيء من ذلك في عصر
الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم ولا في
عصر من بعدهم من التابعين وتابعيهم ولم يقل
بذلك أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا من سائر
أهل الأرض فمثل هذه المسائل من عجائب الرأي
الذي اختص به أهل أرضنا هذه.
اللهم غفرا.
قوله: "وللمريض المتوضىء والمسافر ولو لمعصية"
الخ.
أقول: أما الجمع للمسافر فقد ثبت بالأحاديث
الكثيرة أما جمع التأخير فأحاديثه في الصحيحين
[البخاري"1112"، مسلم "46/704"] وغيرهما وأما
جمع التقديم فهو ثابت بأحاديث حسان مع مقال
فيها ومع معارضتها لما في الصحيحين من أنه صلى
الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس قبل أن
يرتحل صلى الظهر ثم ركب.
وأما الجمع للمريض والخائف وفي المطر فلم يرد
في ذلك دليل يخصه إلا ما يفهم من قول الرواة
لحديث الجمع بالمدينة فإنهم قالوا من غير خوف
ولا سفر ولا مطر. [مسلم "49/705"،
البخاري"543"، أبو دأود "214"، الترمذي "187"،
النسائي "1/290"].
وقد استدلوا على جواز الدجمع لهم بقياسهم على
المسافر وليس بقياس صحيح ولو كان صحيحا لجاز
لهم قصر الصلاة وقد مرض النبي صلى الله عليه
وسلم ولم ينقل إلينا أنه جمع بين الصلوات
وكذلك ما نقل إلينا أنه سوغ لأحد من المرضى
جمع الصلوات.
(1/118)
وأما ما ذكره
المصنف من جواز الجمع للمشغول بطاعة فليت شعري
ما هي هذه الطاعةالتي يجوز تأثيرها على الصلاة
التي هي رأس الطاعات وهي أحد أركان الإسلام
والتي ليس بين العبد وبين الكفر إلا مجرد
تركها.
وأعجب من هذا وأغرب تجويز الجمع للمشغول بمباح
ينفعه وينقص في التوقيت فإن جميع الناس إلا
النادر يدأبون في أعمال المعاش العائد لهم
بمنفعة وإذا وقتوا فقد تركوا ذلك العمل وقت
طهارتهم وصلاتهم ومشيهم إلي المساجد فعلى هذا
هم معذورون عن التوقيت طول أعمارهم ولهم جمع
الصلاة ما داموا في الحياة وهذا تفريط عظيم
وتسأهل بجانب هذه العبادة العظيمة وإفراط في
مراعاة جانب الأعمال الدنيوية على الأعمال
الأخروية وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في
أيام الرسول صلى الله عليه وسلم يشتغلون
بالأعمال التي يقوم بها ما يحتاجون إليه فمنهم
من هو في الأسواق ومنهم من هو في عمل الحرث
ونحوه ومنهم من هو في تحصيل علف ماشيته ولم
يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عذر
أحدا منهم عن حضور الصلاة في أوقاتها ولا
بلغنا ان أحدا منهم طلب من رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يرخص له لعلمهم بأن مثل ذلك لا
يسوغه.
وأما التمسك بحديث جمعه صلى الله عليه وسلم في
المدينة فهذا وقع مرة واحدة وتأوله كثير من
الرأوين للحديث وحمله بعضهم على الجمع الصوري
لتصريح جماعة من رواته بذلك.
وقد افردنا هذا البحث برسالة مستقلة وذكرنا في
شرح المنتقي ما ينتفع به طالب الحق رحم الله
الحافظ الترمذي فإنه صرح بأن جميع ما في كتابه
معمول به إلا حديثين هذا أحدهما.
والحال أن كتابه قد اشتمل على ذكر ألوف مؤلفة
من الأحاديث.
والحاصل أن الكلام في مثل هذا البحث يطول جدا
وقد وقع فيه الخبط البالغ والخلط العجيب وتكلم
الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضوع
بما هو حقيق بأن يضحك منه وتارة ويبكي منه
أخرى بل حقيق بأن يعد في لغو الكلام وسقطه
وغلطه.
قوله: "بذان لهما وإقامتين".
أقول: يدل على هذا ما في حديث جابر الطويل عند
مسلم ["147/1218"، أبو دأود "1905"، النسائي
"1/290". ابن ماجة "3074"، صلى الظهر ثم اقام
فصلى العصر.
وأخرج أبو دأود ["1930 و 1931"]، ما يخالف هذا
ابن عمر قال جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين
المغرب والعشاء يجمع بإقامة واحدة لكل صلاة
ولم يناد في الأولى وفي رواية [أبو دأود
"1928"]: "لم يناد بينهما ولا على إثر واحدة
منهما إلا بالإقامة".
وفي البخاري [أحمد "1/375"]، عن ابن مسعود:
"أنه صلاهما بإذان وإقامتين" وأخرج الدارقطني
في قصة جمعه بين المغرب والعشاء فنزل فأقام
الصلاة وكان لا ينادي لشيء من الصلاة في
السفر.
(1/119)
والراجح حديث
جابر فإنه حكاه عن النبي صلى الله عليه وسلم
بخلاف ما روي عن ابن مسعود فإنه موقوف عليه
فيكون ما ذكره المصنف رحمه الله هنا موافقا
لما هو الراجح.
(1/120)
[
باب الإذان
والإقامة
على الرجال في الخمس فقط وجوبا في الأداء ندبا
في القضاء ويكفي السامع ومن في البلد إذان في
الوقت مكلف ذكر معرب عدل طاهر من الجنابة ولو
قاضيا أو قاعدا أو غير مستقبل.
ويقلد البصير في الوقت وفي الصحو]
قوله: "على الرجال"
أقول: هذه العبادة من أعظم شعائر الإسلام
وأشهر معالم الدين فإنها وقعت المواظبة عليها
منذ شرعها الله سبحانه إلي أن مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ليل ونهار وسفر وحضر
ولم يسمع أنه وقع الإخلال بها أو الترخيص في
تركها وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر أمراء
الأجناد في الغزو أنهم إذا سمعوا الإذان كفوا
وإن لم يسمعوه قاتلوا وناهيك بهذا الحديث
يجعله صلى الله عليه وسلم علامة للإسلام
ودلالة على التمسك به والدخول فيه ومع هذه
الملازمة العظيمة الدائمة المستمرة فقد أمر به
صلى الله عليه وسلم غير مرة ومن ذلك حديث مالك
بن حويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم" وهو في
الصحيحين [البخاري "628"، مسلم "674"]،
وغيرهما [أحمد "5/53"، أبو دأود "589"،
الترمذي "205"، النسائي "634"، ابن ماجة
"979"]. وفي لفظ البخاري ["630"]: "فأذنا
وأقيما"، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم
لعثمان ابن أبي العاص: "اتخذ مؤذنا لا يأخذ
على أذانه أجرا" عند أحمد ["4/21، 217"]، وأهل
السنن [أبو دأود "531"، الترمذي "1013"،
النسائي "2/23"، ابن ماجة "714"]، وهو حديث
صحيح.
ومنها أمره صلى الله عليه وسلم لبلال: "أن
يشفع الإذان ويوتر الإقامة" وهو في الصحيحين
[البخاري "605"، مسلم "2/378"، وغيرهما [أبو
دأود "508"، الترمذي "1013"، ابن ماجة "730"،
أحمد "3/103"].
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد
الله بن زيد "إنها لرؤيا حق إن شاء الله" ثم
أمر بالتأذين وهو حديث صحيح صححه الترمذي
["1/359"]، وغيره.
ومنها حديث أبي الدرداء قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة لا
يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم
الشيطان" أخرجه أحمد ["5/196" و "6/446"]،
وأبو دأود ["547"، والنسائي ["2/106 – 107"]،
وابن حبان وقال صحيح الإسناد.
والحاصل أنه ما ينبغي في مثل هذه العبادة
العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها فإنها أشهر
(1/120)
من نار على علم
وأدلتها هي الشمس المنيرة وما اسمج ما شكك به
الجلال على الوجوب فقال ولو كان وجوبه للصلاة
لزم كونه شرطا أو ركنا الخ.
وأقول: يا لله العجب أي قائل قد قال إن جميع
ما وجب للصلاة لا يكون إلا شرطا أو ركنا فإن
الصلاة لها شروط وأركان وفروض لا شروط ولا
أركان.
وهذا مما لا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهو
قائل به وتصرفه في كتابه هذا مناد بذلك بأعلى
صوت.
ثم هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعة بل لكل
مصل عليه أن يؤذن ويقيم لكن من كان في جماعة
كفاه إذان المؤذن لها وإقامته.
ثم الظاهر أن النساء كالرجال لأنهن شقائق
الرجال والأمر لهم أمر لهن ولم يرد ما ينتهض
للحجة في عدم الوجوب عليهن فإن الوارد في ذلك
في أسانيده متروكون لا يحل الاحتجاج بهم فإن
ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك وإلا فهن
كالرجال.
قوله: "ويكفي السامع ومن في البلد".
أقول: يمكن الاستدلال لهذا بقوله صلى الله
عليه وسلم: "فليؤذن لكم أحدكم" فإن هذا يدل
على أنه يكفي إذان واحد من الجماعة وأما كونه
يكتفي به من في البلد فيدل على ذلك أنه صلى
الله عليه وسلم أمر باتخاذ المؤذن كما في حديث
"واتخذ مؤذنا لا يأخذ على إذانه أجرا" والظاهر
أنه يؤذن في البلدة التي هو فيها وأيضا عدم
أمره لمن لم يسمع إذان مؤذنيه في المدينة بأن
يؤذن دليل على عدم وجوبه على سامعه وإنما يشرع
له المتابعة فقط.
قوله: "في الوقت".
أقول: الإذان هو دعاء إلي الصلاة ولهذا اشتمل
على ألفاظ الدعاء التي منها: "حي على الصلاة
حي على الفلاح" فلا يفعل في غير الوقت بل ذلك
بدعة ظاهر وأما إذان بلال في ذلك الوقت الخاص
فقد وضحت فيه العلة بقوله صلى الله عليه وسلم:
"ليوقظ نائمكم ويراجع قائمكم". كما ثبت في
الصحيح فلم يبق ما يستدل به على جواز الإذان
لنفس الصلاة قبل دخول وقتها وليس هنا ما يقتضي
التعارض والترجيح.
قوله: "من مكلف".
أقول: هذا هو الظاهر لأن الإذان عبادة شرعية
لا تجزىء إلا من مكلف بها وقد استدل الجلال في
شرحه لهذا الكتاب على جواز إذان الصبي بإذان
أبي محذورة للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال
وهو صبي ولا شيء في الروايات أنه كان صبيا بل
الذي في الروايات أنه كان صيتا أو قوي الصوت
فلعله تصحف على الجلال الصيت بالصبي فجزم بأنه
كان صبيا.
(1/121)
وقد وقع في بعض
روايات هذا الحديث أنه كان غلأما ولفظ الغلام
يطلق على الكبير والصغير قالت ليلى الأخيلية
في مدح الحجاج:
شفاها من الذى العضال الذب بها ... غلام إذا
هز القناة سقاها
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أنا الغلام القرشي المؤتمن ... أبو حسين
فاعلمن والحسن
وقال الأزهري سمعت العرب يقولون للمولود غلام
وسمعتهم يقولون للكهل غلام.
ومما يدل على أنه كان رجلا ما وقع في رواية
النسائي ["633"]، قال أبو محذورة خرجت عاشر
عشرة من مكة فسمعناهم يؤذنون بالصلاة فقمنا
نؤذن نستهزىء بهم فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن
الصوت" فأرسل إلينا فأذنا رجلا رجلا وكنت
آخرهم الحديث.
فقوله رجلا يدل على أنه كان رجلا وقال السهيلي
إنه كان أبو محذورة في أول إذانه في ست عشرة
سنة.
قوله: "ذكر".
أقول: الإذان إعلام بدخول الوقت ودعاء إلي
الصلاة فلا يكون إلا برفع الصوت والمرأة
مأمورة بالستر ولم يسمع في ايام النبوة ولا في
الصحابة ولا فيمن بعدهم من التابعين وتابعيهم
أنه وقع التأذين المشروع الذي هو إعلام بدخول
الوقت ودعاء إلي الصلاة من امرأة قط.
وأما إذان المرأة لنفسها أو لمن يحضر عندها من
النساء مع عدم رفع الصوت رفعا بالغا فلا مانع
من ذلك بل الظاهر أن النساء ممن يدخل في
الخطاب بالإذان كما قدمنا ذلك.
قوله: "معرب".
أقول: الإذان عبادة شرعية فينبغي أن يكون على
الصفة الواردة عن الشارع ومعلوم أنه كان يؤدى
معربا على ما تقتضيه لغة العرب فمن جاء به على
غير تلك الصفة فهو لم يفعل ما أمر به كسائر
الأذكار الواردة عن الشارع.
قوله: "عدل"
أقول: قد عرفت أن الإذان إعلام بدخول الوقت
للصلاة ودعاء إليها ومن كان غير عدل ولا يؤمن
على الوقات ولا يقبل إذا أخبر بدخولها فيفوت
المقصود من جعله مؤذنا.
ويؤيد هذا ما أخرجه أبو دأود ["590"]، وابن
ماجه ["726"]، من حديث ابن عباس قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ليؤذن لكم خياركم"،
وفي إسناده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي وفيه
مقال لا يوجب عدم الاحتجاج بحديثه.
وأخرج أحمد وابو دأود وابن حبان وابن خزيمة عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد
الأئمة واغفر للمؤذنين".
(1/122)
وروى أيضا من
حديث عائشة قال أبو زرعة حديث أبي هريرة أصح
من حديث عائشة وصحح الحديثين جميعا ابن حبان.
وقد أطلت الكلام على الحديثين في شرحي للمنتقي
فليرجع إليه.
ووصفه صلى الله عليه وسلم للمؤذن بأنه مؤتمن
يدل على أنه لا بد أن يكون عدلا لأن من ليس
بعدل ليس بمؤتمن.
قوله: "طاهر من الجنابة".
أقول: لم يأت ما تقوم به الحجة لا في كون
المؤذن طاهرا من الحدث الأكبر ولا من الحدث
الأصغر لأن ما هو مرفوع في ذلك لم يصح وما هو
موقوف على صحأبي أو تابعي لا تقوم به الحجة
وإن كان التطهر للمؤذن من الحدثين هو الأولى
والأحسن فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم أن
يرد السلام وهو محدث حدثا اصغر حتى توضأ كما
في رواية وتيمم كما في أخرى والإذان أولى بذلك
من مجرد رد السلام.
قوله: "ولو قاضيا أو قاعدا أو غير مستقبل".
أقول: لا شك أن الإذان من المذكورين يجزىء
ولكنه في القاعد وغير المستقبل مخالف للهيئة
المشروعة الثابتة
قوله: "ويقلد البصير في الوقت في الصحو".
أقول: ليس هذا من التقليد في شيء بل هو من باب
قبول الرواية لأن المؤذن العدل العارف بمداخل
الأوقات ومخارجها إذا أذن فهو بإذانه مخبر
بدخول الوقت ولا سيما إذا كان في محل مرتفع
كالمنارة وأما مع الغيم فهو مانع من صحة
الرواية لأنه يحول بين المؤذن وبين العلامات
التي يستدل بها على دخول الأوقاف فلم يكن
لروايته بالإذان صحة يتعين عندها القبول.
[ فصل
"ولا يقيم إلا هو متطهرا فتكفي من صلى في ذلك
المسجد تلك الصلاة ولا يضر إحداثه بعدها وتصح
النيابة والبناء للعذر والإذن"].
قوله: فصل: "ولا يقيم إلا هو متطهرا".
أقول: حديث: "من أذن فهو يقيم" [الترمذي
"199"]، لم يتكلم عليه إلا بأن في إسناده عبد
الرحمن ابن زياد بن أنعم الإفريقي وقد وثقه
جماعة ولم يقدح فيه بما يوجب عدم الاحتجاج
بحديثه لكنه قد أخرج أحمد ["4/42"]، وأبو دأود
["512"] عن عبد الله بن زيد صاحب رؤيا الإذان
أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برؤياه
قال: "القه على بلال" فألقاه عليه فأذن بلال
فقال عبد الله أنا رأيته وأنا كنت أريده قال
له صلى الله عليه وسلم: "فأقم أنت" وفي إسناد
هذا الحديث ومتنه خلاف.
(1/123)
والحديث الأول
متأخر لأن هذا كان عند رؤيا عبد الله بن زيد
للإذان وقيل إن هذا الحديث يدل على أن تولي
المؤذن للإقامة إنما هو على طريق الندب فقط.
وأما كون المقيم متطهرا فلم يرد ما يدل على أن
ذلك حتم وغايته ان تكون الإقامة مثل الإذان
وقد تقدم الكلام فيه.
قوله: "فيكفي من صلى في ذلك المسجد تلك
الصلاة".
أقول : مشروعية الإقامة لم تختص بشخص دون شخص
ولم يرد فيها ما ورد في الإذان مما يدل على
أنه يكفي إذان الواحد في البلد أو في المسجد
كما قدمنا فإن ورد دليل يدل على أن إقامة
الواحد تكفي غيره وتسقط بها المشروعية على كل
من صلى في ذلك المسجد فلا بأس وإلا فالظاهر أن
مشروعية الإقامة ثابتة على كل شخص سواء كان
وحده أو في جماعة وسواء أقام غيره أو لم يقم.
وأما كونه لا يضر إحداثه بعدها فظاهر لأنه قد
أقام وهو متطهر بل لا يضر إحداثه حالها لعدم
ورود ما يدل على أن الطهارة واجبة على المقيم.
وأما كون غير المؤذن ينوب عنه في الإقامة
فالظاهر أنها تجوز النيابة إذا قد حصل الرضا
من المؤذن لأن تخصيصه بالإقامة إنما هو لكونه
الأولى بذلك فإذا وقع الإذن جاز للغير أن يقيم
سواء كان له عذر أو لا وأما البناء فإنما يكون
للعذر لأن وقع الإقامة من اثنين مع عدم العذر
بدعة فلو قال المصنف وتصح النيابة للإذن
والبناء للعذر لكان صوابا.
[ فصل
وهما مثنى إلا التهليل ومنهما حي على خير
العمل والتثويب بدعة وتجب نيتهها ويفسدان
بالنقص والتعكيس لا بترك الجهر ولا الصلاة
بنسيانهما.
ويكره الكلام حالهما وبعدهما والنفل في المغرب
بينهما].
قوله: فصل : "وهما مثنى إلا التهليل".
أقول : قد ثبت تشفيع الإذان وإيثار الإقامة
إلا لفظ الإقامة في الصحيحين [البخاري "605"،
مسلم "2/378"]، وغيرهما [أبو دأود "508"،
الترمذي "193"، ابن ماجة "730"، أحمد
"3/103"]. وثبت تربيع التكبير في أول الإذان
من طرق حسنها البعض وصححها البعض وثبت التربيع
في الشهادتين في صحيح مسلم ["6/379"، وغيره
[أبو دأود "502"، الترمذي "193"،ابن ماجة
"709"، النسائي "2/4"، أحمد "3/409"]. وروي من
وجه صحيح تشفيع جميع ألفاظ الإقامة.
وورد في الإقامة من وجه صحيح ما يدل على
إيتارها إلا التكبير في أولها وآخرها و"قد
قامت الصلاة" فإن ذلك يكون مثنى مثنى.
(1/124)
وروي أيضا
التثويب في صلاة الصبح من وجه صححه بعض الحفاظ
وتكلم فيه آخرون فإن عملنا بأصح ما ورد فهو
تشفيع الإذان مع الترجيع في الشهادتين وإيتار
الإقامة إلا لفظ قد قامت الصلاة والتكبير في
أولها وآخرها.
وإن سلكنا طريقة الجمع فيتعين العمل بالزيادة
الخارجة من مخرج صحيح فيكون التكبير في أول
الإذان أربعا وتكون الشهادتان مع الترجيح
ثمانيا وسائر الألفاظ في الإذان مرتين مرتين
إلا قول المؤذن "لا إله إلا الله" في آخره
فإنه مرة واحدة ويزاد في صلاة الصبح لفظ
التثويب وهو أن يقول المؤذن "الصلاة خير من
النوم".
وتكون الإقامة مثنى مثنى إلا قول المقيم لا
إله إلا الله في آخرها فإنها مرة واحدة فهذا
حاصل ما ورد في الإذان والإقامة وقد ذهب جماعة
من أهل العلم إلي أن الكل سنة وأيها فعله
المؤذن والمقيم فقد فعل ما هو حق وسنة قال أبو
عمر بن عبد البر ذهب أحمد بن حنبل وإسحق بن
راهويه ودأود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلي
إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير
قالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي صلى
الله عليه وسلم جميع ذلك وعمل به أصحابه فمن
شاء قال: "الله أكبر" في أول الأذان أربعا ومن
شاء ثنى ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها
إلا قوله: "قد قامت الصلاة" فإن ذلك مرتان على
كل حال انتهى.
وهذا الذي قالوه صواب كما قيل في التشهدات
والتوجهات ولكن ذلك لا ينافي أن يختار الإنسان
لنفسه أصح ما ورد أو يأخذ بالزائد فالزائد قال
ابن القيم في الهدي ذاهبا إلي ما ذهب إليه
أولئك الأئمة ومشيرا إلي ما اشرنا إليه ما
لفظه أنه سن التأذين بترجيع وغير ترجيع وشرع
الإقامة مثنى وفرادى لكن صح عنه تثنيه كلمة
الإقامة قد قامت الصلاة ولم يصح عنه أفرادها
ألبتة وكذلك صح عنه تكرر لفظ التكبير في أول
الإذان ولم يصح عنه الاقتصار على مرتين وأما
حديث أمر بلال أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة
فلا ينافي الشفع بأربع وقد صح التربيع صريحا
في حديث عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب وأبي
محذورة.
وأما أفراد الإقامة فقد صح عن ابن عمر استثناء
كلمة الإقامة فقال إنما كان الإذان على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين
والإقامة مرة مرة غير أنه يقول قد قامت الصلاة
قد قامت الصلاة.
وفي البخاري عن أنس أمر بلال أن يشفع الإذان
ويوتر الإقامة وصح في حديث عبد الله بن زيد
وعمر في الإقامة "قد قامت الصلاة قد قامت
الصلاة".
وصح في حديث أبي محذورة تثنية كلمة الإقامة مع
سائر كلمات الإذان.
وكل هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة فيها وإن
كان بعضها أفضل من بعض انتهى.
وبما أوضحناه لك في هذا البحث ترتفع عنك
الإشكالات في هذه المسألة فقد طالت ذيولها
وتشعبت طرائقها.
(1/125)
قوله: "ومنهما
حي على خير العمل".
أقول : هذا اللفظ قد صار من المراكز العظيمة
عند غالب الشيعة ولكن الحكم بين المختلفين من
العباد هو كتاب الله وسنة رسول فما جاءنا
فيهما فسمعا وطاعة وما لم يكن فيهما فإن وضح
فيه وجه قياس بمسلك من المسالك المقبولة التي
لا ترفع ولا تنقض كالنص على العلة أو دلالة
الدليل على ثبوت الحكم في المسكوت عنه بفحوى
الخطاب كان للمتمسك بذلك أن يقول به على ما
فيه من خلاف.
وهكذا إذا صح الإجماع على حكم ولكن دون تصحيح
الإجماع مفأوز متلوية وطرائق متشعبة وعقاب
شامخة كما أوضحنا ذلك في إرشاد الفحول إلي
تحقيق الحق من علم الأصول.
وإذا كان اختلاف المختلفين في حكم ثابت من
السنة فالمرجع دوأوينها التي وضعها علماء
الرواية وهي الأمهات وما يلتحق بها من
المسانيد ونحوها ولم يثبت رفع هذا اللفظ إلي
رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب
الحديث على اختلاف أنواعها وغاية ما يروى في
ذلك ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن بلال أنه
كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكانها
"الصلاة خير من النوم" وترك "حي على خير
العمل" وفي إسناده عبد الرحمن بن عمار بن سعد
وهو ضعيف وقد قال البيهقي بعد إخراجه هذا
اللفظ لم يثبت فيما علم النبي صلى الله عليه
وسلم بلالا وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه
انتهى.
ومع هذا ففي هذا التصريح بأن النبي صلى الله
عليه وسلم أمر بلالا أن يترك ذلك فلو قدرنا
ثبوته لكان منسوخا.
قوله: "والتثويب بدعة".
أقول : قد رويت فيه أحاديث منها ما هو صحيح
ومنها حسن ومنها ما هو ضعيف فلا وجه للقول
بأنه بدعة وهو مختص بصلاة الفجر وذلك بأن يقول
المؤذن بعد قوله: "حي على الفلاح" "الصلاة خير
من النوم".
ولقد وقع للجلال في شرح هذا الكتاب في هذا
البحث وفي بحث "حي على خير العمل" من التكلف
والتعسف والخروج عن طريق الحق ما يعجب الناظر
فيه من قائله خصوصا إذا كان ممن يدعي الإنصاف
في مسائل الخلاف وتأثير الأدلة على القيل
والقال ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قوله: "وتجب نيتهما"
أقول : لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وما ورد
في معناه وقوله عز وجل: {مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ} [الأعراف: 29، يونس: 22، العنكبوت:
65، لقمان: 32، غافر: 14، 65، البينة: 5].
فوجه مشروعيته النية في الإذان والإقامة هو
هذا لأن الأعمال المذكورة في الحديث تشمل
الأقوال والأفعال.
وأما ما ذكره الجلال في شرحه لهذا الكتاب من
أن النية تجب لما كان يقع على وجوه كثيرة
(1/126)
لا ما كان يقع
على وجه واحد فليس ذلك إلا مجرد رأي محض
والدليل قد دل على مشروعية النية على العموم
لأنه وقع التعبد بها في كل عمل كما نطق به
الدليل فينوي المؤذن والمقيم أن هذا القول
الذي قصد له هو ما تعبده الله به وشرعه له
وبهذه النية يخلص من كل وجه من الوجوه التي لم
يقصدها الشارع ولا شرع الفعل لها.
وأما ما ذكره المصنف من أن الإذان والإقامة
يفسدان بالنقص فوجهه أن الذي نقص بعض ألفاظ
الإذان والإقامة لم يأت بالمشروع منهما فهو
كمن لم يعقل ذلك وهكذا من عكس ألفاظهما.
وأما ما ذكره من أنهما لا يفسدان بترك الجهر
فهذا إذا أذن لنفسه أوله ولمن هو حاضر لديه
يسمع إسراره وأما إذا كان المؤذن داعيا إلي
الصلاة معلما بدخول وقتها فهو لم يفعل ما هو
المقصود من نصبه للتأذين وإن كان قد فعل
المشروع له بخصوصه من الإذان لنفسه.
وأما عدم فساد الصلاة بنسيانهما فهو واضح
لأنهما عبادة خارجة عن الصلاة التي تحريمها
التكبير وتحليلها التسليم لا شرط من شروط
كالوضوء فلا تفسد الصلاة يتركهما عمدا فضلا عن
نسيانهما ولكن التارك لهما عمدا قد أخل
بواجبين عليه كما قدمنا من أن الأدلة قد دلت
على وجوبهما.
وأما كراهة الكلام حالهما فواضح لأنه اشتغال
حال العبادة بما ليس منها وكذا الكلام بعدها
لأن الإقامة للصلاة دعاء إليها بعد الدعاء
بالإذان فالاشتغال بعد ذلك بغير الصلاة مما لا
جدوى فيه من الكلام يخالف ما هو مدلول لفظ
الإقامة لا سيما قول المقيم قد قامت الصلاة قد
قامت الصلاة فإن ذلك متضمن للإخبار بقيامها
ففعل شيء بعدها من كلام أو غيره يخالف هذا
الإخبار وينافيه.
وأما ما ثبت في الصحيح ["624، 643"، أحمد
"3/182، 205، 232"]، من حديث أنس قال أقيمت
صلاة العشاء فقال رجل للنبي صلى الله عليه
وسلم لي حاجة فقام إليه يناجيه فهذا هو من
قضاء حوائج المسلمين لا من الاشتغال بما لا
يغني من الكلام الذي ذكر المصنف كراهته وقد
تكون هذه الحاجة التي طلب ذلك الرجل من النبي
صلى الله عليه وسلم قضاءها مما لا ينبغي
تأخيره ولو بمجرد ظنه صلى الله عليه وسلم كذلك
عند قول القائل لي حاجة وقد يكون هذا الرجل من
المؤلفين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم
فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتألفه بقضاء
حاجته في ذلك الوقت.
قوله: "والنفل بينهما".
أقول : هذا دفع في وجه الأدلة الصحيحة ورد
للسنة التي هي أظهر من شمس النهار فإنه قد ثبت
مشروعية النفل بين الإذان والإقامة في جميع
الصلوات كحديث: "بين كل إذانين صلاة" ثم ثبت
مزيد لخصوصية النفل بين إذان المغرب وإقامته
فورد بلفظ: "بين إذاني المغرب صلاة" وورد
بلفظ: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين" وكرر ذلك
ثلاثا وقال في الثلاثة "لمن شاء" وهو في
الصحيحين [البخاري "1183، 7368"، مسلم "838"]،
وغيرهما. وقال الرأوي معللا
(1/127)
لقوله صلى الله
عليه وسلم: "لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس
سنة يعني سنة لازمة لا يجوز تركها.
وقد ثبت أن الصحابة كانوا إذا أذن المؤذنون
للمغرب قاموا يصلون هذه النافلة حتى يظن من
دخل المسجد أن الصلاة قد صليت لما يرى من كثرة
ما يصلي هذه النافلة.
وأما الاستدلال للكراهة بما تقدم من حديث أبي
أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم
يؤخروا المغرب" فليس في ذلك ما يدل على كراهة
هذه النافلة فإن المقصود التأخير عن الوقت
الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها
فيه وهو الذي أرشد الأمة إلي فعل هذه النافلة
وأكد ذلك عليهم بالتكرير فنصب هذا الحديث في
مقابلة الأحاديث التي ذكرناها ليس كما ينبغي
ولا يفعله من له ملكة في الاستدلال ومعرفة بما
جاءت به السنة.
(1/128)
[
باب صفة الصلاة
"هي ثنائية وثلاثية ورباعية"
فصل وفروضها نية يتعين بها الفرض مع التكبيرة
أو قبلها بيسير ولا يلزم للأداء والقضاء إلا
للبس ويضاف ذو السبب إليه.
قال المؤيد بالله تكفي صلاة إمامي حيث التبس
أظهر أمر جمعة فقط والمحتاط آخر ما علي من كذا
والقاضي ثلاثا عما علي مطلقا وركعتان ممن لا
قصر عليه لا الأربع غالبا ثم التكبير قائما لا
غيره وهو منها في الأصح ويثنى للخروج والدخول
في أخرى ثم القيام قدر الفاتحة وثلاث آيات في
أي ركعة أو مفرقا ثم قراءة ذلك كذلك سرا في
العصرين وجهرا في غيرهما.
ويتحمله الإمام عن السامع وعلى المرأة أقله من
الرجل وهو إن يسمع من بجنبه ثم ركوع بعد
اعتدال ثم اعتدال تام وإلا بطلت إلا لضرر أو
خلل طهارة ثم السجود على الجبهة مستقرة بلا
حائل حي أو يحمله إلا الناصية وعصابة الحرة
مطلقا والمحمول لحر أو برد وعلى الركبتين
وباطن الكفين والقدمين وإلا بطلت ثم اعتدال
بين كال سجودين ناصبا للقدم اليمنى فارشا
لليسرى وإلا بطلت.
ويعزل ولا يعكس للعذر ثم الشهادتان والصلاة
على النبي وآله قاعدا والنصب والفرش هيئة ثم
التسليم على اليمين واليسار بانحراف مرتبا
معرفا قاصدا للملكين ومن في
(1/128)
ناحيتها من
المسلمين في الجماعة وكل ذكر تعذر بالعربية
فبغيرها إلا القرآن فيسبح لتعذره كيف أمكن.
وعلى الأمي ما أمكنه آخر الوقت إن نقص ويصح
الاستملاء لا التلقين والتعكيس وتسقط عن
الأخرس لا الألثغ ونحوه وإن غير.
ولا يلزم المرء اجتهاد غيره لتعذر اجتهاده].
قوله: "وفروضها نية يتعين بها الفرض مع
التكبيرة" الخ
أقول : حديث: "إنما الأعمال بالنيات" وفي لفظ:
"لا عمل إلا بنية " قد دل على أن النية شرط من
شروط الصلاة لوجود دليل الشرطية القاضي بعدم
المشروط عند عدم الشرط فإنه إن قدر أن الذات
الشرعية لا تكون إلا بالنية كما هو المعنى
الحقيقي انتفت تلك الذات الشرعية بانتفاء
النية وهذا هو معنى الشرط.
وهكذا إن قدرت الصحة التي هي أقرب المجازين
إلي الحقيقة أفاد انتفاء الصحة بانتفاء النية
ولا يصار إلي تقدير الكمال إلا بدليل لأنه
مجاز بعيد.
إذا عرفت هذا علمت أن النية شرط من شروط الصحة
وأنه لا صلاة لمن لم ينو وليست بفرض كما قال
المصنف فإن الفرض لا يؤثر عدمه في عدم ما هو
فرض فيه إلا إذا كان ركنا فإن الركن يؤثر عدمه
في عدم ما هو ركن فيه لعدم وجود الذات
المطلوبة على الصفة المقصودة إلا أن يدل دليل
على أن عدم ذلك الركن لا يقدح في تلك الذات
المطلوبة ولا يوجب انعدامه انعدامها.
وقد تكلم الجلال ها هنا بما هو نوع من الهذيان
لأنه لم يجر على مقتضى الرواية ولا على أسلوب
الرأي وهكذا لا وجه لقول المصنف ولا يجب
للأداء والقضاء إلا للبس فإن وجوب النية ليس
لمجرد رفع اللبس بل لورود التعبد بها في كل
عبادة سواء كانت مما يلتبس بغيره أم لا ولا
فرق بين الصلوات الخمس وبين غيرها كالجمعة
والعيد والجنازة لأن جميع ذلك عمل ولا عمل إلا
بنية.
والمراد بالنية قصد تأدية تلك العبادة التي
شرعها الله سبحانه لعباده على الوجه المطلوب
منهم فلا يصح أن تكون مترددة ولا مجملة ولا
مشروطة.
وبهذا تعرف الكلام على ما حكاه المصنف عن
المؤيد بالله.
قوله: "ثم التكبير".
أقول : اعلم أن الله سبحانه أمرنا بالصلاة في
كتابه العزيز أمرا مجملا فقال: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ} [البقرة: 43، 83، 110، النساء: 77،
103، الأنعام: 72، العراف: 29، يونس: 87،
الحج: 78]، وهذا أمر فما وقع في بيانه منه صلى
الله عليه وسلم فهو بيان لمجمل واجب فيكون
واجبا.
فهذا الدليل بمجرده قد دل على وجوب جميع ما
وقع منه صلى الله عليه وسلم في الصلاة سواء
كان
(1/129)
ركنا أو ذكرا
أو شرطا ثم زاد هذا الدليل تأكيدا قوله صلى
الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"
[البخاري "6008"، مسلم "24/392"، أبو دأود
"589"، الترمذي "205"، النسائي "2/77"، ابن
ماجة "979"]، فكان هذا دليلا على وجوب جميع ما
فعله في صلاته أو قاله فيها فلا يخرج عن
الوجوب شيء منها إلا بدليل يدل على عدم وجوبه
وذلك كحديث "المسيء صلاته" [البخاري "6251"،
مسلم "397"]، فإنه اقتصر في تعليمه على البعض
مما كان صلى الله عليه وسلم يفعله في الصلاة
وكان ذلك دليلا على أن ما لم يذكر فيه ليس
بواجب ومن جملة ما هو مذكور فيه تكبير
الافتتاح فتقرر بهذا أنه من واجبات الصلاة
وزاد ذلك تأكيد قوله صلى الله عليه وسلم:
"تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" [أحمد
"1/129"، أبو دأود "618"، الترمذي "3"، ابن
ماجة "275"]، فإنه قد بين في هذا الحديث أن
للصلاة تحريما وتحليلا فكان ذلك دليلا علي
وجوبهما لوجوب ما هما تحريم له وتحليل.
وأما المعارضة بأنه قد وقع في حديث المسيء
اشياء غير واجبة فليس مجرد هذه المعارضة قادحة
في وجوب ما دلت الأدلة على وجوبه لأن ذلك هو
مجرد إلزام لمثل مصنف هذا الكتاب ومن قال
بقوله.
وقد استكثر الجلال من التمسك بمجرد هذه
المعارضة في شرحه لهذا الكتاب وأسقط بها فرائض
جاءت الأوامر بها وثبتت في حديث المسيء وليس
هذا من داب أهل الإنصاف بل مجرد مجأدلة
ومخاصمة في الحق ولا يوجب وقوع المعارضة أو
المناقضة لطائفة ذهاب الحق الذي شرعه الله
لعباده وهم إذا التزموا ذلك واعترفوا فالحق من
وراء إلزامه لهم واعترافهم له.
ونحن نقول له ما عارضتهم به أو ناقضتهم
باعتبار ما قالوه وما صرحوا به هو عندنا ملتزم
ونحن نقول بوجوبه حتى يدل دليل على عدم وجوبه
وحينئذ يصفو مشرب الحق وترتفع ظلمة الجدال
وينجلي قتام الخصام.
فيا طالب الحق خذ هذه الكلية واجعلها على ذكر
منك تنتفع بها في كثير من المباحث التي صارت
بالتمسك بالطرائق الجدلية ظلمات بعضها فوق بعض
ولم يستفد منها كثير من المطلعين عليها إلا
مجرد الحيرة وعدم الاهتداء لوجه الصواب.
وقد جمعت جميع طرق حديث المسيء في شرحي
للمنتقي وذكرت جميع ألفاظه المختلفة فاحكم
لجميع ما اشتمل عليه بالوجوب لما قدمنا من
كونه بيانا لمجمل واجب ولأمره صلى الله عليه
وسلم بأن نصلي كما رأيناه يصلي ولاقتصاره في
تعليم المسيء على ما اشتمل عليه حتى يأتي دليل
يخص بعضه بعدم الوجوب فإنك بهذا الصنع قاعد في
مقعد الإنصاف قائم في مقام الحق الذي لا
تزحزحه شبهة ولا يدفعه جدال ولا يضره قيل ولا
قال.
إذا عرفت هذا فاعلم أن تكبير الافتتاح من قعود
أو بغير اللفظ الذي ثبت عن الشارع بدعة وكل
بدعة ضلالة فما لنا وللتعرض لمثل هذا وأنه قد
قال به فلان أو عمل به فلان وجعل ذلك ذريعة
إلي الاعتراض على من قال بالحق ودان بالصواب.
قوله: "والقيام قدر الفاتحة".
(1/130)
أقول : القيام
ركن من أركان الصلاة التي لا تتم إلا به ولا
ينبغي أن يقع في مثله خلاف فهو فرض ركني له
مزيد خصوصية على مجرد الفرضية لتأثير عدمه في
عدم الصلاة.
وأما تقدير المصنف لما هو الواجب من القيام
بأنه قدر الفاتحة وثلاث آيات فهذا مجرد رأي
محض ليس عليه دليل ولا شبهة دليل.
وأعجب من هذا وأغرب أنه يكفي القيام هذا القدر
في ركعة من الركعات ولا يستقر في قيامه في
سائر الركعات إلا قدر سبحان الله فإن هذه ليست
الصلاة التي جاءت بها الشريعة وعلمها رسول
الله صلى الله عليه وسلم الصحابة منذ فرض الله
الصلاة إلي أن قبضه الله إليه.
ويا لله العجب من التجرؤ على مثل هذه العبادة
التي هي رأس الدين وأساسه بمثل هذه الخزعبلات
والترهات
قوله: "ثم قراءة ذلك كذلك".
أقول : قد ورد الأمر بالقراءة في الكتاب
العزيز ثم بينت السنة بأنه "لا صلاة لمن لا
يقرأ بأم القرآن" [البخاري "822"، مسلم
"34/394"، أبو دأود822"، الترمذي "247"،
النسائي "2/137"، ابن ماجة "837"، أحمد
"5/314"]، وفي لفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ
فيها بأم القرآن".
وقوله: "لا صلاة" يدل أن ترك قراءة الفاتحة
تبطل به الصلاة لأن المراد لا صلاة شرعية فما
وقع من الصلاة لم يقرأ فيه بأم القرآن فهو غير
صلاة شرعية وهذا يكفي في الاستدلال على فرضية
القراءة بفاتحة الكتاب بل استلزم عدمها لعدم
الصلاة وهو زيادة على مجرد الفرضية وعلى فرض
ورود دليل يدل على أن هذا النفي لا يتوجه إلي
الذات فقد قدمنا لك أن تقدير الصحة هو أقرب
المجازين إلي الذات فيتعين تقدير الصحة.
هذا على فرض أنه لم يرد ما قدمنا بلفظ: "لا
تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" فكيف وقد
ورد وثبت فإن ذلك يقطع النزاع ويرفع الخلاف
ويدفع في وجه من زعم أن الذي ينبغي تقديره ها
هنا هو الكمال.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ورد في حديث المسيء
من وجه صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه
أن يقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن يقرأ ثم
قال له: "اصنع ذلك في كل ركعة" [أحمد "4/340"،
أبو دأود "857، 858، 859، 861"، النسائي
"2/193"]، وهذا دليل قوي على وجوب الفاتحة في
كل ركعة وقد أخرجه أحمد وابن ماجه في حديث
المسيء من رواية رفاعة بن رافع بأسناد صحيح
وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي بإسناد صحيح.
فتقرر لك بهذا فرضية قراءة الفاتحة في كل ركعة
بالأدلة الصحيحة فدع عنك القيل والقال
والمجادلة بما لا يتفق من المقال عند فحول
الرجال فإن كل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع.
قوله: "سرا في العصرين وجهرا في غيرهما".
أقول : أما قراءته صلى الله عليه وسلم في
الصلوات المفروضة فقد تبين أمرها وعرف ما كان
يجهر فيه منها وما كان يسر فيه لكنه لم يرد في
تعليم المسيء أنه صلى الله عليه وسلم قال له:
اقرأ في صلاتك كذا جهرا وفي
(1/131)
صلاتك كذا سرا,
بل أمره بالقراءة وهي أعم من أن يأتي بها سرا
أو جهرا فيكون فعله للجهر في بعض الصلوات وهي
الفجر والمغرب والعشاء والإسرار في البعض
الآخر وهما الظهر والعصر كالبيان لذلك الأمر
للمسيء فيتم حينئذ القول بوجوب الجهر فيما جهر
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسرار
فيما أسر فيه لا بدليل كون فعله بيانا للمجمل
ولا بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" بل بما
في حديث المسيء.
قوله: "ويتحمله الإمام عن السامع"
أقول : قوله تعالي: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وقوله صلى الله
عليه وسلم: "وإذا قرأ فأنصتوا" [أحمد "2/420"،
أبو دأود "604"، النسائي "2/141"، ابن ماجة
"846"، مسلم "63"]، يدل على أن الإمام يتحمل
القراءة عن السامع.
وعلى تقدير ما قيل من عدم دلالة الآية على
المطلوب وعدم انتهاض الحديث للاستدلال به فقد
أغنى عن ذلك الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله
عليه وسلم: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب"
[أحمد "5/316"، أبو دأود "823"، الترمذي
"311"].
وإن هذا الحديث قد أفاد فائدتين الأولى النهي
عن القرآن خلف الإمام والثاني وجوب قراءة
الفاتحة خلفه وهذا ظاهر واضح لا ينبغي التردد
في مثله لصحته ووضوح دلالته.
قوله: "وعلى المرأة أقله من الرجل".
أقول : لم يرد دليل يدل على هذا إلا مجرد
ملاحظة ما هو اقرب إلي الستر وأبعد من الفتنة
وأقل الجهر إذا كان مجزئا للرجال فهو مجزىء
للنساء بالأولى.
قوله: "ثم ركوع بعد اعتدال ثم اعتدال تام وإلا
بطلت إلا لضرر أو خلل طهارة".
أقول : فرضية الركوع والاعتدال منه معلوم
بالضرورة الشرعية وبطلان صلاة من لم يفعل ذلك
أصلا أو لم يفعله حتى يطمئن معلوم بالأدلة
الصحيحة كحديث المسيء فإنه صرح فيه بقوله: "ثم
اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل
قائما" الحديث، مع قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها ظهره" وهو
حديث صحيح [الترمذي "265"، أحمد "4/122"، ابن
ماجة "870"]، وورد عند أحمد ["4/22"]، وغيره
بلفظ: "لا ينظر الله إلي صلاة عبد لا يقيم
صلبه بين ركوعه وسجوده" وقد قال للمسيء "ارجع
فصل فإنك لم تصل".
وأما الاستدلال على عدم البطلان بقوله للمسيء
بعد تعليمه: "إذا انتقصت من ذلك شيئا فقد
انتقصت من صلاتك" فلا دلالة له على ذلك لأن
انتقاصه من صلاته بترك ركن من أركانها يخرجها
عن الصورة المطلوبة للشارع وقد قال لهذا
المسيء نفسه "ارجع فصل فإنك لم تصل" فوجب حمل
هذا الانتقاص على الإسقاط المبطل للصلاة جمعا
بين الروايتين.
ولأهل الرأي في عدم إيجاب الطمأنينة كلام يعرف
فساده من يعرف الاستدلال ويدري بكيفيته وقد
أفضى ذلك إلي أن يصلي غالب عامتهم وبعض خاصتهم
صلاة لا ينظر الله إلي
(1/132)
صاحبها ولا
تجزئه كما نطق بذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم فكانت هذه الرؤية النازلة بهم هي ثمرتهم
المستفادة من تقليدهم.
قوله: "ثم السجود على الجبهة مستقرة".
أقول : قد ثبت في حديث المسيء أنه صلى الله
عليه وسلم أمره بأن يمكن جبهته من الأرض وأخرج
الترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد أمكن
جبهته وأنفه الأرض وقال حسن صحيح وأخرج
النسائي ["1113"]من حديث ابن عباس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد
على سبعة لا اكف الشعر ولا الثياب الجبهة
والأنف واليدين والركبتين والقدمين"، وأخرجه
مسلم بلفظ ["231/490"]: "على سبع ولا أكف
الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف" الحديث وفي
لفظ الصحيحين [البخاري "812"، مسلم "230/490"،
أبو دأود "890"، الترمذي "273"، النسائي
"1093"]، من حديث ابن عباس اقتصر علي ذكر
الجبهة دون الأنف، وقد ثبت في ألفاظ الأحاديث
في الصحيحين وغيرهما بلفظ أمرنا النبي صلى
الله عليه وسلم أمرنا أمر النبي صلى الله عليه
وسلم. [البخاري"809"].
وبهذا البيان يتضح لك ان رواية ذكر الجبهة مع
الإشارة إلي الأنف لبيان أن السجود على الجبهة
لا يكون تأما كاملا إلا بوضع الأنف معها.
ومع هذا فقد أغنانا على ذلك ذكرهما معا في
الأحاديث كما اشرنا إليه وقد اجتمع في السجود
على الجبهة والأنف البيان للسجود المأمور به
في القرآن المعلوم وجوبه بالضرورة الشرعية
بالقول والفعل فكان ذلك كافيا في فرضية السجود
على تلك الأعضاء من غير انضمام أمر الأمة بذلك
فكيف وقد ثبت كما ذكرناه لك وحينئذ تعرف أنه
لا وجه لما ذكره الجلال من تلك المقأولات التي
هي بمعزل عن التحقيق.
واعلم أن الأمر بالسجود على هذه الأعضاء لا بد
أن يكون على الأرض أو على ما هو عليها من حصير
أو نحوه فلا يجعل المصلي بين هذه الأعضاء وبين
ذلك حائلا لا من حي ولا من غيره فإن فعل خالف
ما أمر به مع كون ذلك بيانا لمجمل القرآن
ولهذا حكم المصنف على من لم يسجد على هذه
الأعضاء بلا حائل بينها وبين الأرض بالبطلان
لسجدته ولكنه ربما يقال إن الذي سجد على هذه
الأعضاء مع حائل قد سجد عليها وفعل ما أمر به
فإنه يصدق عليه لغة وعرفا وشرعا أنه قد سجد
عليها فكون الحائل مانعا من صحة السجود
الموجود في الخارج يحتاج إلي دليل فإن جاء به
صافيا عن شوب الكدر صالحا للحجية فبها ونعمت
وإلا فلا نسلم أن ذلك السجود الموجود في
الخارج كلاسجود مع كونه على الأعضاء التي وقع
الأمر بالسجود عليها.
ومما يؤيد هذا ما في الصحيحين [البخاري "385"،
مسلم "191/620"] وغيرهما من حديث [النسائي
"116"]، من حديث أنس قال كنا نصلي مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم
يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه
فسجد عليه.
(1/133)
قوله: "ثم
اعتدل بين كل سجودين".
أقول : هذا فرض ركني لا ينبغي أن يقع في مثله
خلاف وهو بيان للسجود المأمور به في القرآن
وصح في حديث المسيء في الصحيحين وغيرهما بلفظ
"ثم ارفع حتى تطمئن جالسا".
فيا عجبا لمن لم يقل بفرضية هذا الركن وتلاعب
به في صلاته وترك ما هو الشرع الواضح والركن
الذي لا صلاة لمن لا يأت به فيها.
قوله: "ثم الشهادتان".
أقول : لا وجه للاقتصار على مجرد الشهادتين
لأنهم استدلوا على وجوبها بما وقع من الأوامر
عنه صلى الله عليه وسلم بالتشهد فينبغي إيجاب
أحد التشهدات بنفس الدليل الذي استدلوا به على
وجوب الشهادتين
وحاصل ما استدل به الموجبون للتشهد ما وقع من
امره صلى الله عليه وسلم مع قول ابن مسعود
وكنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد فإن هذا
يدل على أنه فرض عليهم ولم يأت القائلون بعدم
وجوبه بحجة مقبولة إلا قولهم إنه لم يذكر في
حديث تعليم المسيء وصدقوا لم يذكر في حديث
المسيء لكن إذا تقرر أن حديث تعليم المسيء
متأخر عن مشروعية التشهد أما إذا كان حديث
المسيء متقدما فلا مانع من أن يتجدد إيجاب
واجبات لم يشتمل عليها فإن جهل التاريخ كان
القول بالوجوب أرجح لأنه قد وجد ما يقتضي
الوجوب ولم يتيقن ما يصرفه عن ذلك فوجب على
الوجوب عملا بدليله.
لا يقال إن الأصل البراءة للذمة لأنا نقول لا
براءة بعد وجود الدليل الدال على الوجوب إلا
بوجود ما يصرفه عن حقيقته.
قوله: "والصلاة على النبي وآله".
أقول : أدلة وجوب ذلك في الصلاة دون أدلة وجوب
التشهد وقد عرفناك ما في ذلك ووجهه أن التشهد
قد صرحت الأحاديث بمحله وأين يقال وأما
الأحاديث الواردة بتعليم كيفية الصلاة فليس
فيها ذكر إيقاع ذلك في التشهد.
وأما ما ورد في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود عند
ابن حبان وابن خزيمة والحاكم والبيهقي وصححوه
والدارقطني أنهم قالوا كيف نصلي عليك في
صلاتنا فليس فيه أن ذلك في التشهد بل هو مطلق
في جنس الصلاة ومع هذا فلم يذكر الصلاة في
حديث المسيء الذي هو مرجع الواجبات.
وقد أطلنا البحث في هذا في شرح المنتقى فليرجع
إليه.
قوله: "والنصب والفرش هيئة".
أقول : أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه
وسلم وأكثر ما روى هو أن يتورك [أحمد "5/424"،
أبو دأود "730"، الترمذي "304"، النسائي
"3/34"] المصلي عند قعوده لهذا التشهد وقد ورد
النصب [البخاري "828"، أبو دأود "734، 967"]،
والفرش ورودا يسيرا بالنسبة إلي التورك وورد
صفة ثالثة هي
(1/134)
أنه صلى الله
عليه وسلم كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه
الأيمن وساقه [مسلم "112/ 579"]، فلا وجه
لاقتصار المصنف على هيئة واحدة وتأثيرها على
ما هو أصح منها.
قوله: "ثم التسليم على اليمين واليسار".
أقول : أشف ما استدل به القائلون بالوجوب هو
حديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم فإن
هذا الحديث يدل على أنهما جزاءان للصلاة وعلى
تسليم دلالة هذا على الوجوب فإنما يتم ذلك لو
قدرنا تأخره عن حديث المسيء فإنه لم يذكر فيه
السلام.
وقد عرفناك أن واجبات الصلاة قد انحصرت فيه
الا أن يأتي ما يدل على الوجوب ويثبت تأخره عن
حديث المسيء لما تقرر أن تأخير البيان عن وقت
الحاجة لا يجوز.
وأما الخلاف في التسليم هل هو واحدة أو اثنتان
أو ثلاث فالأدلة الصحيحة الكثيرة قد دلت على
تسليمتين [أبو دأود "997"، أحمد "4/316"]،
والدليل الدال على كفاية الواحدة على تقدير
صلاحيته للحجية لا يعارض أحاديث التسليمتين
لأنها مشتملة على زيادة غير منافية للمزيد ولم
يرد في مشروعية الثلاث شيء يعتد به.
وأما ما ذكره المصنف رحمه الله من الأنحراف
فلا يتم السلام المشروع إلا بالانحراف وهكذا
لا يكون سلأما مشروعا إلا بالتعريف لأنه الصفة
الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
وأما قصد الملائكة فلم يدل دليل على ذلك.
قوله: "وكل ذكر تعذر بالعربية فبغيرها".
أقول : دل على هذا ما وقع في رواية من حديث
المسيء بلفظ: "فإن كان معك قرآن وإلا فأحمد
الله وكبره وهلله" [أبو دأود "861"]، ووقع في
حديث ابن أبي أوفى عند أحمد ["4/353" و
"4/356"]،وأبي دأود ["832"]، والنسائي
"2/143"]، وغيرهم أن رجلا قال للنبي صلى الله
عليه وسلم لا استطيع شيئا من القرآن فقال له
صلى الله عليه وسلم: "قل سبحان الله والحمد
لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا
قوة إلا بالله" وفي إسناده مقال لا يوجب سقوط
الاستدلال به فمن لم يقدر على قراءة الفاتحة
وما تيسر من القرآن عدل إلي هذا الذكر مع
إيجاب التعلم عليه وتضييقه حتى يحفظ الفاتحة
وقرآنا معها فبصلي بذلك ما فرضه الله عليه
وهكذا من كان مستعجم اللسان وتعذر عليه شيء من
أذكار الصلاة بالعربية كالتشهد والتوجه فله أن
يأتي بمعنى ذلك بلسانه حتى يتعلم ذلك الذكر
الذي تعذر عليه حال وجوب الصلاة عليه وقد جعل
الله في الأمر سعة لكن مع تحتم تعلم ما شرعه
الله لعباده من اذكار الصلاة خصوصا الفاتحة
وما يتيسر معها من القرآن لما قدمنا من الأدلة
الدالة على أنها لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها
بفاتحة الكتاب بل لا تجزىء ركعة لا يقرأ فيها
بفاتحة الكتاب.
وأما إيجاب التأخير إلي آخر الوقت فليس على
ذلك دليل وقد قدمنا الكلام على هذا في قوله:
"وعلى ناقص الصلاة أو الطهارة التحري لآخر
الاضطرار"
قوله: "ويصح الاستملاء لا التلقين والتعكيس".
(1/135)
أقول : قال
الله سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ} وقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
فالذي لا يحفظ القرآن يستملي من المصحف ويتلقن
من الغير ويقرأ ما يقدر عليه ولو غير بعض
تغيير.
وإن كان أخرس لا يقدر على النطق ولا يسمع ما
يقال له ولا يتعلم بالإشارة فليس عليه شيء فما
كلف الله العباد إلا بما يدخل تحت طاقتهم ولا
يكلف أحدا منهم بما لا يطيقه.
قوله: "ولا يلزم المرء اجتهاد غيره لتعذر
اجتهاده"
أقول : إن كان مجتهدا فهو لا يحتاج إلي اجتهاد
غيره قط ولا يتعذر عليه الاجتهاد من كل وجه
أصلا وأقل الأحوال أن يرجع إلي البراءة
الأصلية عند اشتباه الأمر ثم أقل أحوال
المجتهد أن يكون مستحضرا للمرجحات التي يحتاج
إليها عند تعارض الأمور أو التباس راجحها من
مرجوحها.
نعم إذا كان هذا المجتهد ممن يجوز للمجتهد أن
يقلد غيره ولم يطق في الحال خلوصا عما ورد
عليه ولا مخرجا مما نابه إلا بالعمل بقول
الغير كان له ذلك ولكن ليس هذا الذي هذه صفته
هو المجتهد المطلق بل هو مجتهد المذهب وهو
مقلد وليس بمجتهد وهكذا من ظن أنه قد صار
مجتهدا في بعض المسائل دون بعضها فإنها قد
تتخبط عليه الأمور وتضطرب عليه المسائل ولكن
هذا ليس هو المجتهد المطلق بل هو إلي المقلدين
أقرب وبهم أشبه:
فإن لم يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه
بلبانها
[ فصل
وسنتها التعوذ والتوجهان قبل التكبير وقراءة
الحمد والسورة في الأوليين سرا في العصرين
وجهرا في غيرهما والترتيب والولاء بينهما
والحمد أو التسبيح في الأخريين سرا كذلك
وتكبير النفل وتسبيح الركوع والسجود والتسميع
للإمام والمنفرد والحمد للمؤتم وتشهد الأوسط
وطرفا الأخير والقنوت في الفجر والوتر عقيب
آخر ركوع بالقرآن.
وندب المأثور من هيئة القيام والقعود والركوع
والسجود.
والمرأة كالرجل في ذلك غالبا].
قوله: "فصل وسننها التعوذ والتوجهان قبل
التكبيرة".
أقول : من له حظ من علم السنة المطهرة ورزق
نصيبا من إنصاف يعلم أن جميع الأحاديث الواردة
في التعوذ والتوجهان مصرحة بأنه صلى الله عليه
وسلم كان يفعل ذلك بعد تكبير الافتتاح وهذا
مما لا يكاد أن يشك فيه عارف أو يخالط فيه ريب
وكان يتوجه بعد التكبيرة ويتعوذ بعد التوجه
قبل
(1/136)
قبل افتتاح
القراءة وقد ثبت عنه ألفاظ في التعوذ أيها فعل
المصلي فقد فعل المشروع وثبت عنه توجهات أيها
توجه به المصلي فقد فعل السنة ولكنه ينبغي
للمتحري في دينه أن يحرص على فعل أصح ما ورد
في التوجهات وأصحها حديث أبي هريرة في
الصحيحين [البخاري "2/227"، مسلم "147/598"]،
وغيرهما [أبو دأود "78"، ابن ماجة "805"،
النسائي "60"، أحمد "2/231 و 494"]، قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في
الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة فقلت: يا رسول
الله بأبي أنت وامي أرأيت سكوتك بين التكبير
والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد
بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق
والمغرب اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء
والبرد اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب
الأبيض من الدنس" فهذا أصح ما ورد في التوجهات
حتى قيل إنه قد تواتر لفظه فضلا عن معناه ثم
فيه التصريح بأنه كان يتوجه بهذا في صلاته ولم
يقيد بصلاة الليل كما ورد في بعض التوجهات
فالعمل عليه والاستمرار على فعله هو الذي
ينشرح له الصدر وينثلج له القلب وإن كان جميع
ما ورد من وجه صحيح يجوز العمل عليه ويصير
فاعله عاملا بالسنة مؤديا لما شرع له.
وأصح ما ورد في التعوذ حديث أبي سعيد عند أحمد
["3/50"]، والترمذي ["242"]، وأبي دأود
["775"]، والنسائي ["2/132"] عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلي الصلاة
استفتح ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان الرجيم من همزة ونفخه ونفثه".
واعلم أن المصنف ومن قال بقوله قد قسموا
التوجه إلي توجهين كبير وصغير وجاءوا بما ورد
في الكتاب العزيز هربا من أن يقع في الصلاة ما
ليس من القرآن فكان حاصل ما اختاروه المخالفة
لجميع ما جاءت به السنة.
أما ما جعلوه توجها صغيرا فلم يثبت ذلك عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قط وهو {وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ
وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:
111]، فهذا هو في القرآن هكذا وليس هو من
التوجهات ولو كان التوجه جائزا بكل ما فيه
دعاء في القرآن لكان التوجه غير مختص بما
ذكروه بل بكل ما فيه دعاء أو حمد أو توحيد أو
عبادة أو استعاذة.
وأما التوجه الكبير فقالوا هو أن يقول وجهت
وجهي للذي فطر السمأوات والأرض حنيفا مسلما
وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك امرت
وأنا من المسلمين وهذا وقد ورد التوجه به من
حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند مسلم
["6/57"، وأحمد ["2/727"، والترمذي ["266"]،
وغيرهم [أبو دأود "760"، النسائي "2/897"]،
ولكن مع زيادة وهو قوله بعد "وأنا من المسلمين
اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت" إلي آخر
الحديث بطولة فكان الأولى لهم أن يتوجهوا بكل
ما ورد في حديث على مع أنه مقيد في صحيح مسلم
بصلاة الليل وإن اطلقه غيره فحمل المطلق على
المقيد متعين.
ومع هذا فالحديث قد وقع التصريح فيه في سنن
أبي دأود أنه كان إذا قام إلي
(1/137)
الصلاة كبر ثم
قال ففي هذا التوجه الذي أخذوا ببعض الفاظه
وجعلوها توجها ما يدفع قولهم إنه قبل تكبير
الافتتاح.
قوله: "والحمد والسورة في الأوليين"
أقول : هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه
وسلم ثبوتا متواترا لا يكاد أن يقع فيه اختلاف
أنه كان يقرأ في كل واحدة من الركعتين
الأوليين الفاتحة وسورة وقد يقرأ سورتين وقد
يقرأ سورة طويلة.
ولكن قد عرفناك أن الأدلة قد دلت على وجوب
الفاتحة في كل ركعة دلالة بينة واضحة ظاهرة.
وما ذكره من كون القراءة تكون سرا في العصرين
وجهرا في غيرهما فذلك هو الثابت عنه صلى الله
عليه وسلم ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة وقد قدمنا
ما يفيد هذا.
قوله: "والولاء بينهما"
أقول : لم يأت في هذا دليل يخصه وقد كان صلى
الله عليه وسلم بعد فراغه من قراءة الفاتحة
يسكت سكتة طويلة ثم يقرأ السورة وهذا مما يدفع
كون الموالاة من غير فصل سنة ثم السكوت بين
الفاتحة والسورة للدعاء وإن طال الفصل لا
يخالف السنة فقد ندب الشارع إلي الدعاء في
الصلاة مطلقا ومقيدا ببعض مواضعها فلا وجه
لإدخال هذا في مسنونات الصلاة.
ولو جعل المصنف مكانه إطالة الركعتين الأوليين
وتخفيف الركعتين الأخريين فقد ثبت عنه أنه كان
يطيل القيام في الركعتين الأوليين من الظهر
ويقوم في الأخريين على النصف من قيامه في
الأوليين ثم يقوم في الأوليين من العصر قدر
نصف قيامه في الأوليين من الظهر وفي الأخريين
من العصر على النصف من وقوفه في الأوليين
منهما وكان ينبغي له أن يذكر في هذا الفصل
المشتمل على ذكر سنن الصلاة السنة العظمى
والخصلة الكبرى التي هي أشهر من شمس النهار
وهي العلم الذي في رأسه نار وذلك سنة الرفع
عند افتتاح الصلاة فإنه قد ثبت من طريق خمسين
من الصحابة منهم العشرة المبشرة بالجنة.
ثم سنة الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه ثم
سنة ضم اليد اليمنى على اليسرى فإن هذه سنن
ثابتة بأحاديث متواترة منها ما هو عن طريق
عشرين من الصحابة ومنها ما هو اكثر من طريق
عشرين ومنها ما هو من طريق نحو العشرين.
ثم سنة التأمين الثابتة بالأحاديث المتواترة
هذا على فرض أنه سنة فقط وإن كانت الأحاديث
مصرحة بوجوبه.
ثم سنة طول البقاء عند الاعتدال من الركوع
والإتيان بذلك الدعاء الوارد فيه ثم سنة طول
البقاء عند الاعتدال بين السجودين والإتيان
بذلك الدعاء الوارد فيه لا سيما وقد ثبت عنه
صلى الله عليه وسلم أنه كان قيامه فركوعه
فاعتداله من الركوع فسجوده فاعتداله بين
السجدتين فسجوده قريبا من السواء فإن هذه
ونحوها سنن ينبغي الاعتناء بشأنها وإرشاد
الأمة إلي فعلها وترغيبهم فيها وترهيبهم من
تركها والتصريح لهم بأن المحروم من حرمها
(1/138)
فدع عنك نهبا
صيح في حجراته ... وهات حديثا ما حديث الرواحل
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا
سعد الإبل
قوله: "والحمد أو التسبيح في الأخريين".
أقول : هذا التخيير العجيب والتشريع الغريب
عبرة للمعتبرين ومغربة خبر للناظرين فإنه قد
علم كل من يعرف السنة المطهرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يجعل هذا التسبيح عوضا
عن فاتحة الكتاب في شيء من صلاته المنقولة
إلينا التي اشتملت عليها مجاميع السنة على
اختلاف أنواعها ولا ثبت عنه أنه شرع لأحد من
أمته أن يجعل هذا التسبيح عوضا عن الفاتحة أو
أنه خيرهم بين الفاتحة وبينه لا في حديث صحيح
ولا حسن ولا ضعيف وغاية ما ورد ما قدمنا في
حديث المسيء صلاته أنه إذا لم يستطع القراءة
سبح وهذا أمر آخر لأنه مشروط بعدم القدرة على
القراءة ثم هو رخصة في حالة التعذر مع أنه غير
معذور من تعلم ما يقرأ به في صلاته فما لنا
وللتخيير بينه وبين الفاتحة التي هي أشرف سورة
بالنص في أشرف عبادة وهي الصلاة مع ما ورد من
الأدلة الدالة على وجوب الفاتحة في كل ركعة
فانظر إلي هذه المجازفة التي يتبرأ عنها قلم
كل من له وزن خردلة من إنصاف.
وأما القول بأن التسبيح أفضل من الفاتحة فأغرب
وأعجب ولا يأتي التطويل في رده بفائدة لوضوح
بطلانه لكل ناظر في علم الأدلة.
والعجب من الجلال في شرحه لهذا الكتاب فإنه
جعل معظم مقصده الانتصار لنفاة الأذكار كالأصم
وابن علية الذين خالفوا قطعيات الشريعة
الثابتة في هذه العبادة بالأدلة التي هي
الجبال الرواسي.
فما لك والتلدد نحو نجد ... وقد غصت تهامة
بالرجال
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قوله: "وتكبير النقل".
أقول : هذه السنة ثابتة من فعله صلى الله عليه
وسلم ثبوتا متواترا لا يشك في ذلك من له اطلاع
على كتب السنة المطهرة وما وقع من ترك الجهر
بة أو تركه بالمرة فمن ترك السنن وظهور البدع.
قوله: "وتسبيح الركوع والسجود"
أقول : وهذه السنة متواترة من فعله صلى الله
عليه وسلم والتسبيح المشروع هو "سبحان ربي
العظيم" في الركوع "وسبحان ربي الأعلى" في
السجود وأقل ما يفعله المصلي من ذلك ثلاث
تسبيحات في الركوع وثلاث تسبيحات في السجود
ويختمها بقوله "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك
اللهم اغفر لي" [البخاري "4968"، مسلم
"217/484"، أبو دأود "877"، ابن ماجة "889"]،
وقد ورد أنه يقول المصلي "سبحان ربي العظيم
وبحمده" في الركوع وسبحان ربي الأعلى وبحمده
في السجود من طرق ضعيفة.
(1/139)
فالاقتصار على
ما ذكرناه هو الأولى وأما من قال إن التسبيح
في الركوع هو أن يقول المصلي سبحان الله
العظيم وبحمده وفي السجود سبحان الله الأعلى
وبحمده فلا أصل لذلك وقد وردت الأحاديث
الصحيحة في الأدعية التي تقال في الركوع
والسجود والاعتدال من الركوع والاعتدال بين
السجودين وهي ثابتة ثبوتا متواترا ومن منع
الأدعية في الصلاة فقد خالف السنة مخالفة
ظاهرة فإن مجموع ما وردت مشروعيته من الأدعية
في الصلاة لا يفي به إلا مؤلف مستقل ولكن هجر
كتب السنة يوقع في مثل هذا.
قوله: "والتسميع للإمام والمنفرد والحمد
للمؤتم".
أقول : قد ورد ما يدل على أنه يجمع بين
التسميع والحمد كل مصل إمأما كان أو مأموما أو
منفردا وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقي والزيادة
مقبولة.
قوله: "والتشهد الأوسط"
أقول : الأوامر بالتشهد لم تخص التشهد الأخير
بل هي واردة في مطلق التشهد فما قدمنا في
التشهد الأخير من الاستدلال على وجوبه فهو
بعينه دليل على وجوب التشهد الأوسط ومع هذا
فالتشهد الأوسط مذكور في حديث المسيء الذي هو
مرجع الواجبات ولم يرد ذكر التشهد الأخير في
حديث المسيء فكان القول بإيجاب التشهد الأوسط
أظهر من القول بإيجاب الأخير.
وأما الاستدلال على عدم وجوب الأوسط بكون
النبي صلى الله عليه وسلم تركه سهوا ثم سجد
للسهو فهذا إنما يكون دليلا لو كان سجود السهو
مختصا بترك ما ليس بواجب وذلك ممنوع.
قوله: "وطرفا الأخير".
أقول : الأدلة التي ثبت بها وجوب التشهد هي
مشتملة على الطرفين فإيجاب البعض بها دون
البعض تحكم يأباه الإنصاف ولم يرد ما يدل على
تخصيص وسط التشهد الأخير بالوجوب دون طرفيه
قط.
قوله: "والقنوت في الفجر والوتر عقيب آخر ركوع
بالقرآن".
أقول : إثبات هذا في سنن الصلاة لم يأت دليل
يدل عليه فإن الأحاديث الواردة في هذا مصرحة
باختصاصه بالنوازل وأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يفعله إذا نزلت بالمسلمين نازلة
فيدعو لقوم أو على قوم ولم يثبت غير هذا إلا
الدعاء المروي عن الحسن ابن علي [أحمد
"1/199"، أبو دأود ""1425"، الترمذي "464"،
الترمذي 1745"، ابن ماجة "1178"] مرفوعا بلفظ:
"اللهم اهدني فيمن هديت" إلخ فإن ذلك دعاء
علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله
في الوتر فهو من جملة الأدعية الواردة في
الصلاة وينبغي فعله فإنه حديث قد صححه جماعة
من الحفاظ ولا مقال فيه بما يوجب قدحا ولا
يفعل هذا الدعاء إلا في هذا الموضع لا كما
يفعله طائفة بعد الركوع في الركعة الثانية من
صلاة الفجر فإنه لم يدل على ذلك دليل.
والحاصل أنه قد ورد الدعاء في النوازل في جميع
الصلوات وفي بعضها وقبل الركوع وبعده.
(1/140)
وأما قوله:
"بالقرآن" فلم يرد في هذا شيء قط وإنمكا قال
به من قال لأنه سمع أن في صلاة الفجر قنوتا مع
كونه يمنع الدعاء في الصلاة إلا بالقرآن فتحصل
له من هذا أن يقول بما قال.
قوله: "وندب المأثور من هيئات القيام والقعود
والركوع والسجود".
أقول : هذه الهيئات الواردة في هذه الأركان
بالأحاديث الصحيحة حكمها حكم ما ثبت بأفعاله
صلى الله عليه وسلم إن لم يرد فيها إلا مجرد
الفعل ولها حكم ما ورد من أقواله إن ثبتت
بالقول وإذا اجتمع في شيء منها القول والفعل
كان حكمها حكم ما ثبت بالقول والفعل ولا وجه
للحكم على جميعها بأنها مندوبة فقط لأن الندب
في الاصطلاح الحادث لأهل الأصول والفروع هو
رتبة قاصرة عن رتبة ما يقولون فيه إنه مسنون
ثم تخصيص هيئات هذه الأربعة الأركان بالذكر
دون ما عداها من الأركان والأذكار لا وجه له.
والحاصل أن المقال في هذا المقال أن واجبات
الصلاة إذا كانت منحصرة في حديث المسيء صلاته
إلا ما ورد فيه دليل يدل على وجوبه بعده فما
عدا ذلك ليس بواجب فإن ثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه فعله أو أرشد إليه كان ذلك سنة
ثابتة وطريقة نبوية فإن لازمه أو إرشدا إليه
مؤكدا كان ذلك سنة لها مزيد خصوصية بما وقع
لها من اعتنائه صلى الله عليه وسلم بشأنها
فاحفظ هذا لتسلم به من تخليطات المخلطين
وتخبطات المتخبطين الذين خلطوا الشرع الصافي
بالاصطلاحات الحادثة المتواضع عليها بين طائفة
من الناس.
قوله: "والمرأة كالرجل في ذلك غالبا".
أقول : النساء شقائق الرجال فما شرعه الله
للرجال من هذه الشريعة فالنساء مثلهم إلا أن
يأتي دليل على إخراجهن من ذلك الشرع العام كان
ذلك مخصصا لهن وسواء كان التخصيص متضمنا
للتخفيف وذلك ما اختص وجوبه بالرجال من
الأحكام كالجهاد أو متضمنا لتغليظ عليهن
كالحجاب.
وبهذا تعرف أنه لا وجه لتخصيص هذا الموضع
بالذكر لهن فإن غالب الأبواب قد تختص النساء
فيه بما يخالف الرجال ولو نادرا.
[ فصل
"وتسقط عن العليل بزوال عقله حتى تعذر الواجب
وبعجزه عن الإيماء بالرأس مضطجعا وإلا فعل
ممكنه ومتعذر السجود يومىء له من قعود وللركوع
من قيام فإن تعذر فمن قعود ويزيد في خفض
السجود ثم مضطجعا ويوجه مستلقيا ويوضئه غيره
وينجيه منكوحه ثم جنسه بخرقة ويبنى على الأعلى
لا الأدنى فكالمتيمم وجد الماء"].
قوله: فصل : "وتسقط عن العليل بزوال عقله".
(1/141)
أقول : لا وجه
للتقييد بالعليل بل مجرد زوال العقل موجب
لسقوط الصلاة وغيرها إذ لا يتعلق بمن لا عقل
له شيء من التكاليف الشرعية وقد أورد الجلال
ها هنا إشكالات زائفة ساقطة لا يرد شيء منها
والعجب العجيب أنه جعل النتيجة التي تنحل بها
تلك الإشكالات حمل أمر النائم والناسي والحائض
بالقضاء على الندب فجاء بما يخرق الإجماع خرقا
لا يرقع وبما يخالف الأدلة التي هي أوضح من
شمس النهار وهكذا يقع في مثل هذه المضايق من
جعل أوهام ذهنه وغلطات فكره بالمنزلة التي
جعلها فيها هذا المحقق.
قوله: "وبعجزه عن الإيماء بالرأس مضطجعا".
أقول : قوله سبحانه وتعالي: {فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]،
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر
فاتوا منه ما استطعتم" يدلان على أنه إذا
أمكنه الايماء بعينيه أو بحاجبيه كان ذلك حتما
عليه ولا يسقط عنه بمجرد عجزه عن الإيماء
برأسه فقد تصيب الإنسان علة يعجز عندها عن
الايماء برأسه كما يقع في الأمراض العصبية مع
ثبات عقله وقدرته على الايماء بعينيه وحاجبيه.
وأما اختيار المصنف رحمه الله لهيئة الاضطجاع
وتقديمها على غيرها فمدفوع بما ثبت في البخاري
["1117"]، وهو عند أحمد ["4/426"]وأهل السنن
[أبو دأود "592"، الترمذي "302"، النسائي
"1660"، ابن ماجة "1223" الأربع وغيرهم أن
عمران بن الحصين كان به بواسير فسأل النبي صلى
الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: "صل قائما فإن
لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب" وفي
رواية للنسائي "فإن لم تستطع فمستلقيا" ، {لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}
[البقرة: 286].
وهذا الحديث الصحيح يغني عن غيره من الأحاديث
الواردة في هذا الباب فإنها لا تخلو من مقام
ومعلوم أن من صلى على جنب أو مستلقيا لا يتمكن
إلا من مجرد الايماء فلا حاجة إلي الاستدلال
على لزوم الايماء فإن هذا الحديث الصحيح يفيد
ذلك ويقتضيه.
قوله: "ويوضئه غيره وينجيه منكوحه".
أقول : إذا بلغ المرض بصاحبه إلي هذا الحد فقد
جعل الله له فرجا ومخرجا بالتيمم قال الله
سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية وقد قدمنا الكلام
على التقيد بقوله تعالي: {فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً}
قوله: "ويبنى على الأعلى لا الأدنى فكالمتيمم
وجد الماء"
أقول : لا دليل على هذا أصلا والواجب عليه أن
يفعل ما يمكنه فإذا كان مقعدا وأمكنه القيام
أتم صلاته قائما ولا يرفض ما قد فعله فقد نهى
الله سبحانه عن إبطال الأعمال فقال {وَلا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].والقياس
على المتيمم مختل لما عرفناك فيما سبق في باب
التيمم أن الأدلة قد دلت على أنه لا يعيد من
صلى بالتيمم ثم وجد الماء لا قبل الفراغ من
الصلاة ولا بعده.
(1/142)
[ فصل
"وتفسد باختلال شرط أو فرض غالبا وبالفعل
الكثير كالأكل والشرب ونحوهما وما ظنه لاحقا
به منفردا أو بالضم أو التبس ومنه العود من
فرض فعلي إلي مسنون تركه ويعفى عن اليسير وقد
يجب كما تفسد الصلاة بتركه.
ويندب كعد المبتلي الأذكار والأركان بالأصابع
أو الحصى.
ويباح كتسكين ما يؤذيه ويكره كالحقن والعبث
وحبس النخامة وقلم الظفر وقتل القمل لا إلقائه
وبكلام ليس من القرآن ولا من أذكارها ومنهما
خطابا بحرفين فصاعدا.
ومنه الشاذة وقطع اللقطة إلا لعذر وتنحنح
وأنين غالبا ولحن لا مثل له فيهما أو في القدر
الواجب ولم يعده صحيحا والجمع بين لفظتين
متباينتين عمدا والفتح على إمام قد أدى الواجب
أو انتقل أو في غير القراءة أو في السرية أو
بغير ما أحصر فيه وضحك منع القراءة ورفع الصوت
إعلأما إلا للمار أو المؤتمين وبتوجه واجب خشي
فوته كإنقاذ غريق أو تضيق وهي موسعة قيل أو
أهم منها عرض قبل الدخول فيها وفي الجماعة
والزيادة من جنسها بما سيأتي إن شاء الله
تعالي"]
قوله: فصل : "وتفسد باختلال شرط".
أقول : هذا صواب إذا قد تقررت الشرطية بدليلها
الذي يفيدها حسبما قدمنا ذلك ولتعلم أن هذا
الحكم منا بعدم المشروط عند عدم شرطه ليس هو
بمجرد ما ذكره أهل الأصول في حقيقة الشرط بل
للأدلة الدالة على انعدام الذات أو صحتها
بانعدام ذلك الشرط ولهذا جزمنا فيما تقدم بأن
ما ورد فيه دليل يفيد هذا المفاد فهو شرط ولا
يشكل على هذا حديث "من قاء أو رعف أو مذى
فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته" [ابن ماجة
"1221"]، ووجه إشكاله أن يقال قد بطل الوضوء
وهو شرط بالدليل الصحيح ولم يؤثر عدمه في عدم
المشروط لقوله: "وليبن على صلاته" لأنا نقول
هذا الحديث لا تقوم به حجة لأنه لم يصح رفعه
إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح
بذلك جماعة من الأئمة منهم الشافعي وأحمد وأبو
زرعة ومحمد بن يحيى الذهلي وابن عدي وأبو حاتم
الرازي والدارقطني والبيهقي وفي إسناد المرفوع
من لا تقوم به الحجة وأصح من هذا الحديث وأرجح
حديث طلق بن علي أو علي ابن طلق عند أحمد
["1/86"[، وأهل السنن [أبو دأود "205"،
الترمذي "1166"]، وغيرهم: "إذا فسا أحدكم في
الصلاة فلينصرف فليتوضأ وليعد الصلاة" وصححه
ابن حبان ولا يضر تفرد جرير بن عبد الحميد
بالزيادة وهي قوله وليعد الصلاة فإنه إمام
ثقة.
ولا يشكل على هذا أيضا حديث ذي اليدين ووجه
الإشكال أنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الصلاة فأخبره ذو اليدين بأنه صلى ثلاثا
فقط فقال: "أحق ما يقول ذو اليدين؟" لأنا نقول
هذا
(1/143)
الخروج والكلام
الواقع منه صلى الله عليه وسلم هو حال اعتقاده
لتمام الصلاة وعدم نقصها فالبناء على ما مضى
منها هو لهذا والدليل وإن دل على أن الكلام
مبطل للصلاة فهو كلام العامد لا كلام من كان
ساهيا أو في حكم الساهي.
قوله: "أوفرض"
أقول : الحق أن الفروض لا توجب فساد الصلاة بل
يأثم تاركها وتجزئه صلاته لأن الأدلة الدالة
عليها إنما اقتضت وجوبها ولم تقتض أن الصلاة
تنعدم بانعدامها ولو اقتضت ذلك لما كنت فروضا
بل تكون شروطا.
وأما إذا كان الفرض ركنا من الأركان كالركوع
والسجود فالركن يختل صورة ما هو ركن فيه
باختلاله فالصورة المطلوبة بكمالها غير موجودة
فإن تركه عمدا بطلت الصلاة وإن تركه سهوا فعله
ولو بعد الخروج من الصلاة كما فعل النبي صلى
الله عليه وسلم الركعة الرابعة بعد أن سلم من
ثلاث ركعات في حديث ذي اليدين.
قوله: "وبالفعل الكثير" الخ.
أقول : قد خبط المفرعون في هذا المقام خبطا
طويلا واضطربت آراء جماعة من الجتهدين
العاملين بالأدلة المؤثرين لما صح من الرواية.
والحق الحقيق بالقبول أن يقال إن الصلاة بعد
انعقادها والدخول فيها لا تفسد إلا بمفسد قد
دل الشرع على أنه مفسد كانتقاض الوضوء ومكالمة
الناس عمدا أو ترك ركن من أركانها الثابتة
بالضرورة الشرعية عمدا.
فمن زعم أنه يفسدها إذا فعل المصلي كذا فهذا
مجرد دعوى إن ربطها المدعي بدليلها نظرنا في
الدليل فإن أفاد فساد الصلاة بذلك الفعل أو
الترك فذاك وإن جاء بدليل يدل على وجوب ترك
الفعل كحديث "اسكنوا في الصلاة" [مسلم
"87/119"]، فإنه حديث صحيح فيقال له هذا أمر
بالسكون وغاية ما فيه وجوب السكون وترك ما لم
يكن من الحركات الراجعة إلي ما لا يتم الإتيان
بالصلاة إلا به فمن فعل ما ليس كذلك من
الأفعال كمن يحرك يده أو رأسه أو رجله لا
لحاجة فقد أخل بواجب عليه ولزمه إثم من ترك
واجبا.
وأما أنها لا تفسد به الصلاة فلا.
فإن قلت هل يمكن الإتيان بضابط يعرف به ما لا
يفسد الصلاة وما يفسدها من الأفعال قلت لا بل
الواجب علينا الوقوف موقف المنع حتى يأتي
الدليل الدال على الفساد.
ومما يصلح سندا لهذا المنع ما ثبت في الصحيحين
[البخاري "516"، "5996"، مسلم "543"]، وغيرهما
[أبو دأود "917، 918،919، 920"، النسائي "711،
1204، 1205"، أحمد "5/295، 296"]، من حديث أبي
قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت النبي صلى
الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها
وفي رواية لمسلم وأبي دأود بينا نحن ننتظر
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو
العصر وقد دعاه بلال إلي الصلاة إذ خرج علينا
وأمامه بنت أبي العاص بنت بنته
(1/144)
على عاتقه فقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه وقمنا
خلفه وهي في مكانها الذي هي فيه فكبر وكبرنا
حتى إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من
سجوده وقام أخذها فردها في مكانها فما زال
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ذلك في
كل ركعة حتى فرغ من صلاته.
وهذا الحديث الصحيح إذا سمعه المقلد الذي قد
تلقن أن الفعل الكثير من مفسدات الصلاة وتلقن
أن تحريك الإصبع مثلا ثلاث حركات متوالية لا
حق بالفعل الكثير موجب لفساد الصلاة خارت قواه
واضطرب ذهنه فإن هذه الصبية لا تقدر على أن
تستمسك على ظهره صلى الله عليه وسلم إلا
وعمرها ثلاث سنين فصاعدا فأخذها من الأرض
ووضعها على الظهر وكذلك إنزالها ووضعها على
الأرض يحتاج إلي مزأولة وأفعال تحصل الكثرة
لدى هذا المقلد بما هو ليس من ذلك بكثير.
ثم مما يصلح أيضا أن يكون سندا للمنع حديث أنه
صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر وكان إذا
أراد السجود نزل عنه إلي الأرض فسجد ثم يعود
وفعل كذلك حتى فرغ من صلاته والحديث في
الصحيحين وغيرهما فإن كان ولا بد من تقدير
الفعل الكثير المخالف لمشروعية السكون في
الصلاة فليكن ما زاد على ما وقع منه صلى الله
عليه وسلم في هذين الحديثين فإنه فعل هذه
الأفعال في صلاته الفريضة والمسلمون يصلون
خلفه وهو القدوة والأسوة وإنما فعل ذلك لبيان
جوازه وأنه لا ينافي ما شرعه الله في الصلاة
ومن قال بخلاف هذا فقد أعظم الفرية وقصر بجانب
النبوة وأوقع نفسه في خطب شديد والهداية بيد
الله سبحانه.
وبهذا تعرف أن ما جعله المصنف كثيرا بذاته أو
بانضمام غيره إليه وإلحاق الملتبس بالكثير
وذكره للعفو عن الفعل اليسير وإيجاب تارة وندب
أخرى وكراهته التنزيهية في حالة وإباحته في
أخرى لا مستند له إلا مجرد الرأي المحض فلا
نطيل الكلام على ذلك.
قوله: "وبكلام ليس من القرآن ولا من أذكارها".
أقول : في الصحيحين [البخاري "1199"، مسلم
"538"] وغيرهما من حديث ابن مسعود قال كنا
نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في
الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي
سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال: "إن في الصلاة
شغلا" ولفظ أبي دأود ["924"]، والنسائي
["3/19"]: "إن الله عز وجل يحدث من امره ما
شاء وإن الله سبحانه وتعالي قد أحدث ألا
تكلموا في الصلاة" وأخرجه عبد بن حميد وأبو
بعلي وفيه: "وإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا
تكلموا".
وأخرج البخاري ["1217"، مسلم ["36/540"]
وغيرهما ]ابن ماجة "1018"، النسائي "1189"،
أحمد "3/334"] من حديث جابر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "إنما منعني أن أرد عليك أني
كنت أصلي"، وكان على راحلته متوجها إلي
القبلة.
وأخرج البخاري ["200"]، ومسلم ["539"]،
وغيرهما [أحمد "4/368"، أبو دأود "949"،
(1/145)
الترمذي "405"،
النسائي "3/18"]،عن زيد بن أرقم قال إن كنا
لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
[البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن
الكلام.
فقد اجتمع في هذه الأحاديث الأمر بترك الكلام
والنهي عن فعله في الصلاة قال ابن المنذر أجمع
أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو
لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة.
واختلفوا في كلام الساهي والجأهل وقد ذكرت
الخلاف في ذلك وما استدلوا به في شرحي
للمنتقى.
ومما يستدل به على المنع من الكلام في الصلاة
حديث معأوية بن الحكم السلمي عند مسلم
["33/537"] وغيره [أبو دأود "931"، النسائي
"3/14 – 18"، أحمد "5/447، 448"] بلفظ: "إن
هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس
إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" وفي
لفظ لأحمد: "إنما هي التسبيح والتكبير
والتحميد وقراءة القرآن".
والمراد بقوله: "لا يصلح فيها شيء من كلام
الناس" أي من تكليمهم ومخاطبتهم هذا هو المعنى
العربي الذي لا يشك فيه عارف وليس المراد ما
زعمه المانعون للدعاء في الصلاة من أن المراد
لا يصلح فيها شيء مما هو من كلام الناس الذي
ليس من كلام الله فإن هذا خلاف ما هو المراد
وخلاف ما دلت عليه أسباب هذه الأحاديث الواردة
في منع الكلام وخلاف ما ثبت في الصلاة من
ألفاظ التشهد ونحوها وخلاف ما تواتر تواترا لا
يشك فيه من لديه أدنى علم بالسنة من الأحاديث
المصرحة بمشروعية الدعاء في الصلاة بألفاظ
ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبألفاظ
دالة على مشروعية مطلق الدعاء كقوله صلى الله
عليه وسلم: "وليتخير من الدعاء أعجبه إليه"
[أحمد "1/437"، النسائي "163"].
وبالجملة فالمنع من الدعاء في الصلاة لا يصدر
إلا ممن لا يعرف السنة النبوية ولا يدري بما
اشتملت عليه كتبها المعمول بها والمرجوع إليها
في جميع الأقطار الإسلامية وفي كل عصر وعند
أهل كل مذهب.
ومن عجائب الغلو وغرائب التعصب قولهم إن
القراءة الشاذة من جملة ما يوجب فساد الصلاة
وجعلوها من كلام الناس وأنه لا يكون من كلام
الله إلا ما تواتر وهي القراءات السبع.
والحق أن القراءات السبع فيها ما هو متواتر
وفيها ما هو آحاد وكذلك القراءات الخارجة عنها
وقد جمعنا في هذا رسالة حافلة ونقلنا فيها
مذاهب القراء وحكينا إجماعهم المروي من طريق
أهل هذا الفن أن المعتبر في ثبوت كونه قرآنا
هو صحة السند مع احتمال رسم المصحف له
وموافقته للوجه العربي وأوضحنا أن هذه المقالة
أعني كون السبع متواترة وما عداها شإذا ليس
بقرآن لم يقل بها إلا بعض المتأخرين من أهل
الأصول ولا تعرف عند السلف ولا عند أهل الفن
على اختلاف طبقاتهم وتباين أعصارهم.
قوله: "وتنحنح وأنين".
(1/146)
أقول: ليس هذا
من كلام الناس ولا من التكلم في الصلاة ولا
تشمله الأحاديث المشتملة على النهي عن الكلام
ولا يحتاج إلي الاستدلال على الجواز بل الدليل
على من زعم أن التنحنح والأنين من جملة
المفسدات ولا دليل أصلا ولكن إذا فعله المصلي
لا لسبب يقتضيه من عروض إنسداد في الصوت كما
في التنحنح ولا من زيادة من الخشوع والتدبر
كما في الأنين فهو لم يعمل بقوله صلى الله
عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا" [الترمذي
"3/12"، ابن ماجة "2708"، أحمد "2/40"، وقد
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تنحنح في
صلاته وثبت عنه أنه كان يصلي وفي صدره أزيز
كأزيز المرجل من البكاء. [أحمد "4/25، 26"،
أبو دأود "904"، النسائي "3/13"].
قوله: "ولحن لا مثل له فيهما"
أقول : الإتيان بالقراءة على الوجه العربي
والهيئة الإعرأبية هو المتعين على كل قارىء
سواء كان في الصلاة أو خارجها وأما أن ذلك
يوجب فساد الصلاة فلا.
فإنه لا بد من دليل يدل على الفساد كما عرفناك
غير مرة.
وهكذا الجمع بين لفظتين متباينتين عمدا فإنه
لا يوجب فسادا أصلا وإن كان على غير ما ينبغي
أن تكون عليه القراءة وقد خرج النبي صلى الله
عليه وسلم على جماعة ما بين أسود وأبيض وعربي
وعجمي وهم يقرأون القرآن فسره ذلك وقال:
"اقرأوا فكل حسن" أحمد "5/132"، الترمذي
"2944"]، وقال لمختلفين في آيات القرآن من
الصحابة مثل ذلك ونهاهم عن الاختلاف.
فدعوى كون اللحن أو الجمع بين لفظين من مفسدات
الصلاة دعوى عاطلة عن البرهان خالية عن
الدليل.
قوله: "والفتح على إمام" الخ.
أقول : جعل هذا من المفسدات من جمود المفرعين
وقصور باعهم وعدم اطلاعهم على الأدلة فلو
قدرنا عدم ورود دليل يدل على مشروعيته لكان من
التعأون على البر والتقوى فكيف وقد ورد ما يدل
على مشروعيته فمن ذلك حديث "من نابه شيء في
صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء" وهي في
الصحيحين البخاري "2690"، مسلم "102/421"]
وغيرهما [أبو دأود "941"، النسائي "2/82، 83"،
أحمد "5/332"، 333"]، وثبت في الصحيحين
[البخاري "1203" مسلم "106"، 107، 422"وغيرهما
[النسائي "1207، 1208، 1209، 1210"، ابن ماجة
"1034"، الترمذي "369"، أبو دأود "939"، أحمد
"2/261"]، أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" وأخرج أبو
دأود وابن حبان والأثرم عن المسور بن يزيد
المالكي قال قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم
فترك آية فقال له رجل يا رسول الله آية كذا
وكذا قال: "فهلا أذكرتنيها" وإسناده لا بأس به
وأخرج أبو دأود والحاكم وابن حبان من حديث ابن
عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة
فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي هل
كنت معنا قال نعم قال فما منعك ورجال إسناده
ثقات وأخرج الحاكم عن أنس قال كنا نفتح على
الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن حجر قد صح عن أبي عبد الرحمن السليمي
أنه قال: قال علي: إذا استطعمك الإمام فأطعمه.
(1/147)
وأما ما أخرجه
أبو دأود عن علي قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "يا علي لا تفتح على الإمام في
الصلاة" فهذا في إسناده من رمى بالكذب ومع ذلك
ففيه انقطاع ولو كان هذا صحيحا ما صح عن علي
ما ذكرنا من قوله: إذا استطعمك الإمام فأطعمه
وقد ثبت في الصحيح [البخاري "684"، مسلم
"102/421"]، في قصة صلاة أبي بكر بالناس أنهم
لما شاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
صفقوا لأبي بكر ولم يثبت أن النبي صلى الله
عليه وسلم أمرهم بالإعادة مع انهم فتحوا على
أبي بكر بما هو غير مشروع للرجال.
والحاصل أن الفتح على الإمام بالآية التي
نسيها وبالتسبيح إذا وقع منه السهو في الأركان
ستة ثابتة وشريعة مقدرة فالقول بأنه من
المفسدات للصلاة باطل وأبطل من هذا ما ذكره
المصنف من تقييده للفساد بهذه القيود التي هي
مجرد خيال مختل أو رأي معتل.
قوله: "وضحك منع القراءة".
أقول : قد قدمنا في الوضوء أن حديث الأعمى
الذي روي أنه تردى فضحك بعض من كان يصلي خلف
النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بإعادة
الوضوء والصلاة لا تقوم به الحجة ولا يصلح
للاستدلال به وذكرنا هنالك ما ورد أن الضحك
يبطل الصلاة وذكرنا من قال به فارجع إلي ما
ذكرناه هنالك.
قوله: "ورفع الصوت إعلأما إلا للمار أو
المؤتمين".
أقول : لا دليل يدل على أن هذا من مفسدات
الصلاة أصلا ثم مشروعية التسبيح للرجال عند
الفتح على الإمام هو من رفع الصوت إعلأما بلا
شك ولا شبهة وهكذا الفتح على الإمام بالآية
التي أحصر فيها هو من رفع الصوت إعلأما وقد
قدمنا لك الأدلة الدالة على هذا ثم استثناء
المار والمؤتمين يدل على أنه لا بأس عند
المصنف ومن قال بقوله برفع الصوت إعلأما إذا
كان فيه مصلحة فهو يفيد جوازه في كل ما فيه
مصلحة عائدة على الواحد والجماعة من المصلين
فلا وجه للفرق على ما يقتضيه كلام المصنف.
والحاصل أن غالب هذه الأمور التي جعلها المصنف
من مفسدات الصلاة ليس لها مستند إلا مجرد
الدعأوي والشكوك والوسوسة وما بمثل هذه
الخرافات تثبت الأحكام الشرعية التي تعم بها
البلوى والله المستعان.
قوله: "وبتوجه واجب خشي فوته كإنقاذ غريق".
أقول : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما
عمادان من أعمدة الشريعة المطهرة قد دل عليهما
كتاب الله عز وجل في كثير من الآيات ودلت
عليها السنة المطهرة في الأحاديث المتواترة
التي لا شك فيها بل هذان العمادان هما أعظم
أعمدة الدين ثم أعظم أنواع هذين العمادين هو
ما يرجع إلي حفظ نفوس المسلمين فمن ترك مسلما
يغرق وهو يقدر على إنقاذه واستمر في صلاته فقد
ارتكب أعظم المنكرات وترك أهم المعروفات فلا
هو عمل بالأدلة الواردة في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ولا عمل بما ورد في حق
المسلم على المسلم
(1/148)
ومنها أن يحب
له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه ومنها
أن: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"
[البخاري "2442"، مسلم "2580"، أبو دأود
"4893"، الترمذي "1426"]، وأي إسلام له أعظم
من تركه يموت غرقا وهو بمرأى منه ومسمع وأين
عمل هذا المصلي الذي آثر الاستمرار في صلاته
على أخيه الذي صار في غمرات الموت بأحاديث
المحبة منها "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة
حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا". [مسلم
"54"، أبو دأود "5193"، الترمذي "2688"، ابن
ماجة "3692"].
فالحاصل أن هذا المصلي قد ترك أعظم الواجبات
وارتكب أعظم المحظورات المنكرات واستمراره في
صلاته منكر عظيم وقبيح شنيع فإن الله سبحانه
قد طلب منه ما هو أهم من ذلك وأعظم وأقدم وهو
يؤدي صلاته إذا كان في الوقت سعة وإذا ضاق
عنها ولم يدرك شيئا منها فقد جعل الله القضاء
لمن فاته الأداء بل يجب على المصلي ترك الصلاة
والخروج منها فيما هو دون هذا بكثير وذلك نحو
أن يرى من يريد فعل منكر كالزنا وشرب الخمر
وهو يقدر على منعه والحيلولة بينه وبين ما هم
به من المعصية وهو إذا استمر في صلاته تم لذلك
العاصي فعل تلك المعصية فالواجب عليه الخروج
من الصلاة وإنكار ذلك المنكر.
والحاصل أن هذه الشريعة المطهرة مبنية على جلب
المصالح ودفع المفاسد والموازنة بين أنواع
المصالح وأنواع المفاسد وتقديم الأهم منها على
ما هو دونه ومن لم يفهم هذا فهو لم يفهم
الشريعة كما ينبغي والأدلة الدالة على هذا
الأصل من الكتاب والسنة كثيرة جدا لا يتسع لها
هذا المؤلف.
وقد ذكر الجلال ها هنا أبحاثا ساقطة البنيان
مهدومة الأركان ليس في الاشتغال بدفعها إلا
تضييع الوقت وشغلة الحير وإذا قد عرفت ما
ذكرناه فيه تعرف الكلام على قوله: "أو تضيق
وهي موسعة" وعلى قوله: "قيل أو أهم منها عرض
قبل الدخول فيها".
ومما يؤيد ما حررناه لك في هذا البحث حديث
جريج الثابت في الصحيح [البخاري"2350"، أحمد
"2/385"]، أنها دعته أمه وهو يصلي فقال اللهم
أمي وصلاتي وتردد أيهما أقدم فعوقب تلك
العقوبة والحال أن إجابته لأمه وقضاء حاجتها
لا تفوت باستمراره في صلاته وإكمالها فكيف إذا
كان الاستمرار في الصلاة يحصل به هلاك مسلم
وكان الخروج منها محصلا لحياته.
وهذا وإن كان من شرع من قبلنا فقد حكاه لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ما
يخالفه في شرعنا فكان شرعا لنا كما تقرر في
الأصول.
(1/149)
[
باب والجماعة سنة
مؤكدة
إلا فاسقا أو في حكمه وصبيا ومؤتما غير متخلف
بغيرهم وامرأة برجل والعكس إلا
(1/149)
مع رجل والمقيم
بالمسافر في الرباعية إلا في الأخريين
والمتنفل بغيره غالبا وناقص الطهارة أو الصلاة
بضده والمختلفين فرضا أو أداء أو قضاء أو في
التحري وقتا أو قبلة أو طهارة لا في المذهب
فالإمام حاكم.
وتفسد في هذه على المؤتم بالنية وعلى الإمام
حيث يكون بها عاصيا.
وتكره خلف من عليه فائتة أو كرهه الأكثر صلحاء
والأولى من المستويين في القدر الواجب الراتب
ثم الأفقه ثم الأورع ثم الأقرأ ثم الأسن ثم
الأشرف نسبا.
ويكفي ظاهر العدالة ولو من قريب].
قوله: "باب والجماعة سنة مؤكدة".
أقول : هذا هو الحق فإن الأحاديث المصرحة
بأفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفرادى منادية
بأعلى صوت بأن الجماعة غير واجبة وموجبة
لتأويل ما ورد مما استدل به على وجوبها.
ومن هذه الأحاديث القاضية بعدم الوجوب ما
أخرجه البخاري ["651"، ومسلم ["662"]، وغيرهما
من حديث أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إن أعظم الناس أجرا في الصلاة
أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم والذي ينتظر الصلاة
حتى يصليها الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها
ثم ينام".
ومنها حديث أبي بن كعب عند أحمد ["5/140"]،
وأبي دأود ["554"]، والنسائي ["843"]، وابن
ماجه ["790"]، مرفوعا بلفظ: "صلاة الرجل مع
الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين
أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلي
الله عز وجل".
ومن ذلك حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة
الفذ بسبع وعشرين درجة" وهو في الصحيحين
[البخاري "645"، مسلم "249، 650"]وغيرهما
[أحمد "2/65"].
ومنها حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته
في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وهو
في الصحيحين وغيرهما
وأخرج البخاري ["646"]، وغيره [ابن ماجة
"788"، أحمد "3/55"، أبو دأود "560"]، عن أبي
سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين
درجة".
فهذه الأحاديث وما ورد في معناها تدل على أن
صلاة الفرادى صحيحة مجزئة مسقطة للوجوب وكل ما
ورد مما استدل به على الوجوب فهو متأول
والمصير إلي التأويل متعين.
وقد ذكرنا في شرح المنتقي ما لا يبقى بعده ريب
لمرتاب فليرجع إليه ولكن المحروم من حرم صلاة
الجماعة فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين
صلاة لا يعدل عنها إلي صلاة ثوابها جزء من
سبعة وعشرين جزءا منها إلا مغبون ولو رضي
لنفسه في المعاملات الدنيوية
(1/150)
بمثل هذا لكان
مستحقا لحجره عن التصرف في ماله لبلوغه من
السفه إلي هذه الغاية والتوفيق بيد الرب
سبحانه.
قوله: "إلا فاسقا أو في حكمه".
أقول : الفاسق من المسلمين المتعبدين
بالتكاليف الشرعية من الصلاة وغيرها فمن زعم
أنه قد حصل فيه مانع من صلاحيته لإمامة الصلاة
مع كونه قارئا عارفا بما يحتاج إليه في صلاته
فعليه تقرير ذلك المانع بالدليل المقبول الذي
تقوم به الحجة وليس في المقام شيء من ذلك أصلا
لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح فعلى
المنصف أن يقوم في مقام المنع عند كل دعوى
يأتي بها بعض أهل العلم في المسائل الشرعية.
وما استدل به على المنع من تلك الأحاديث
الباطلة المكذوبة فليس ذلك من دأب أهل الإنصاف
بل هو صنع أرباب التعصب والتعنت فإياك أن تغتر
بما لفقه الجلال في هذا البحث وجمع فيه بين
المتردية والنطيحة وما أكل السبع فإن هذا دأبه
في المواطن التي لم ينتهض فيها الدليل.
ومن تتبع شرحه لهذا الكتاب عرف صحة ما ذكرناه.
وإذا عرفت هذا فلا تحتاج إلي الاستدلال على
جواز إمامة الفاسق في الصلاة ولا إلي معارضة
ما يستدل به المانعون فليس هنا ما يصلح
للمعارضة وإيراد الحجج وبيان ما كان عليه
السلف الصالح من الصلاة خلف الأمراء المشتهرين
بظلم العباد والإفساد في البلاد.
نعم يحسن أن يجعل المصلون إمامهم من خيارهم
كما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم
خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" وفي
إسناده سلام بن سليمان المدائني وهو ضعيف.
وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه صلى
الله عليه وسلم: "إن سركم أن تقبل صلاتكم
فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين
ربكم".
ولكن ليس محل النزاع إلا كونه لا يصلح أن يكون
الفاسق ومن في حكمه إمأما لا في كون الأولى أن
يكون الإمام من الخيار فإن ذلك لا خلاف فيه.
قوله: "وصبيا".
أقول : الأحاديث الواردة في أن الأولى
بالإمامة الأقرأ أو من كان أكثر قرآنا شاملة
للصبي ومنها حديث ابن عمرو بن سلمة الثابت في
اصحيح البخاري ["631"]، وغيره [أبو دأود
"589"، النسائي "781"، مسلم "674"، الترمذي
"205"، ابن ماجة "979"] أنه أم قومه وهو ابن
ست سنين أو سبع أو ثمان وذلك أنه لما وفد أبوه
على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما قال
له: "وليؤمكم أكثركم قرآنا"، وكان الصبي عمرو
بن سلمة أكثرهم قرآنا لأنه كان يسأل من يمر
بهم من الوفد عن حال رسول الله صلى الله عليه
وسلم وما جاء به فيحفظ ما يروونه له من
القرآن.
وقد ورد ما يدل على أنه وفد مع أبيه كما رواه
الدارقطني وابن منده والطبراني.
(1/151)
وعلى تقدير أنه
لم يفد مع أبيه فقد كانت إمامته مع وجود رسول
الله صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل عليه ولا
يقع التقرير مع نزول الوحي على ما لا يجوز.
وقد استدل أهل العلم على جواز العزل بحديث
جابر وأبي سعيد بأنهم فعلوا ذلك على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ولو كان منهيا عنه لنهى
عنه القرآن.
وعلى كل حال فالصبي داخل تحت العموم فمن ادعى
أن فيه مانعا من الإمامة فعليه الدليل وقد صحت
الصلاة جماعة بصبي مع الإمام كما في حديث ابن
عباس [البخاري "859"، مسلم "184، 763"، أبو
دأود "610"، النسائي "842"، الترمذي "232"]:
"أنه قام يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم
فوقف على يساره فجذبه وأقامه عن يمينه" وإذا
انعقدت صلاة الجماعة مع الإمام فقط فلتنعقد
صلاة الجماعة به وهو الإمام ورفع الوجوب عنه
لا يستلزم عدم صحة صلاته.
وقد صحت صلاة معاذ [البخاري "700"، مسلم 180"،
أبو دأود "599"‘ 600"، الترمذي 583"] بقومه
بعد صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو متنفل وهم مفترضون فصحت إمامته ولا وجوب
عليه إذ قد أدى الصلاة الواجبة عليه.
قوله: "ومؤتما غير مستخلف".
أقول : أما في حال كونه مؤتما فظاهر لحديث
"إنما جعل الإمام ليؤتم به" [البخاري "2/208"،
مسلم "414"]، وحديث "لا تختلفوا على أئمتكم"
ومعلوم أن كون الإمام مؤتما تصير له أحكام
الإمام وأحكام المؤتم فيؤدي ذلك إلي الاختلاف
على إمامه يما يجب عليه الاقتداء به فيه.
وأما ما ورد من ائتمام الناس بأبي بكر
وائتمامه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي
قاعدا في مرضه وما ورد أنه يأتم بالمتقدمين من
بعدهم فالمراد أنهم يركعون بركوعهم ويسجدون
بسجودهم لأنهم مطلعون على ركوع الإمام وسجوده
واعتداله لقربهم منه وقد يخفى ذلك على من هو
بعيد منه فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا
بمن هو متقدم عليهم من صفوف الجماعة.
وأما المؤتم اللاحق بالإمام إذا قام لتمام
صلاته منفردا فلا بأس بأن يأتم به غيره من
المؤتمين الذين لم يدركوا إلا بعض الصلاة
وعليه عند ذلك نية الإمامة وعليهم نية
الائتمام ولا مانع من هذا والأدلة الدالة على
مشروعية الجماعة تشمله.
ومن ادعى أنه لا يصلح للإمامة فعليه الدليل
والتعليل بكون النية المتوسطة لا تصلح ليس
بشيء.
قوله: "وامرأة برجل أو العكس".
أقول : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
في جواز إمامة المرأة بالرجل أو الرجال شيء
ولا وقع في عصره ولا في عصر الصحابة والتابعين
من ذلك شيء وقد جعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم صفوفهن بعد صفوف الرجال وذلك لأنهن عورات
وائتمام الرجل بالمرأة خلاف ما يفيده هذا ولا
يقال الأصل الصحة لأنا نقول قد ورد ما يدل على
أنهن لا يصلحن لتولي شيء من الأمور وهذا
(1/152)
من جملة الأمور
بل هو أعلاها وأشرفها فعموم قوله: "لا يفلح
قوم ولوا أمرهم امرأة" كما في الصحيحين
[البخاري "709"، وغيرهما [أحمد "5/47، 51"،
الترمذي "2262"، النسائي "8/227"]، يفيد منعهن
من أن يكون لهن منصب الإمامة في الصلاة
للرجال.
وأما كون الرجل يؤم المرأة وحدها فلم يرد ما
يدل على المنع من ذلك وقد صح أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر النساء بحضور المساجد
والدخول في جماعة الرجال وإذا جاز ذلك مع
الرجال جاز أن يؤم الرجل بمرأة واحدة من
محارمه ومن يجوز له النظر إليه.
وقد أخرج أبو دأود والنسائي وابن ماجه عن أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ
امرأته فإن أبت نفخ في وجهها الماء. رحم الله
امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن
أبى نفخت في وجهه الماء" ، وإسناده ثقات
وظاهره أعم من أن يصليا جماعة أو فرادى.
وأصرح من هذا ما أخرجه أبو دأود ["1309،
1451"]، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استيقظ من
الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين جميعا كتبا من
الذاكرين الله كثيرا والذاكرات".
وأخرج الإسماعيلي في مستخرجه عن عائشة أنها
قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من
المسجد صلى بنا وقال إنه حديث غريب ولكن
غرابته لا تنافي صحته فإن الإسماعيلي إنما ذكر
في مستخرجه ما هو على شرط الصحيح.
وثبت في اصحيح البخاري ]"2/184"] في ترجمة باب
إنه كان يؤم عائشة عبدها ذكوان من المصحف.
وأما كون المرأة تؤم النساء فالظاهر أنه لا
منع من ذلك وقد أخرج أبو دأود من حديث أم ورقة
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل
دارها وفي إسناده عبد الرحمن ابن خلاد وهو
مجهول الحال ولكن ذكره ابن حبان في ثقاته وقد
رواه معه غيره ففي رواية لأبي دأود ["591"]،
قال عن عثمان عن وكيع عن الوليد بن جميع قال
حدثتني جدتي وعبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة
بنت نوفل فذكره.
قوله: "والمقيم بالمسافر في الرباعية إلا في
الأخريين".
أقول : ما أحسن ما قيل في هذا إن المسافر إذا
صلى مع المقيم أتم لما أخرجه أحمد في مسنده عن
ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين
إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم قال تلك
السنة وفي لفظ لأحمد ["1/337"]: "أنه قال له
موسى بن سلمة إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا
فإذا رجعنا ركعتين قال تلك سنة أبي القاسم صلى
الله عليه وسلم"، قال في خلاصة البدر إن
إسناده على شرط الصحيح انتهى قال في البدر
وأخرجه الطبراني في الكبير بإسناد رجاله كلهم
محتج بهم في الصحيح.
وأصله في مسلم ["7/688"]، والنسائي ["3/119""]
بلفظ قلت لابن عباس كيف أصلي إذا
(1/153)
كنت بمكة إذا
لم أصلي مع الإمام قال ركعتين سنة أبي القاسم
صلى الله عليه وسلم.
قوله: "والمتنفل بغيره".
أقول : أما صلاة المتنفل بالمتنفل فمما لا
ينبغي أن يقع في صحتها خلاف لما ثبت من ائتمام
غير النبي صلى الله عليه وسلم به في كثير من
النوافل وهي أحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين
وغيرهما.
وأما ائتمام المفترض بالمتنفل فحديث صلاة معاذ
[البخاري "700"، مسلم "465"]، بقومه بعد صلاته
مع النبي صلى الله عليه وسلم وتصريحه هو وغيره
أن التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم هي
الفريضة والتي صلاها بقومه نافلة لهو دليل
واضح وحجة نيرة وما أجيب به عن ذلك من أنه قول
صحأبي لا حجة فيه فتعسف شديد فإن الصحأبي
أخبرنا بذلك وهو أجل قدرا أن يروي يروي بمجرد
الظن والتخمين وقد وقع هذا في عصره صلى الله
عليه وسلم والقرآن ينزل فلو كان غير جائز لما
وقع التقرير عليه.
ومما يؤيد ذلك ما وقع منه صلى الله عليه وسلم
في صلاة الخوف [البخاري "4136"ن مسلم "843"]،
فإنه صلى بكل طائفة ركعتين فهو في إحدى
الصلاتين متنفل وهو مفترضون.
وأيضا الأصل صحة ذلك والدليل على من منع منه.
وأما الاستدلال بحديث: "لا تختلفوا على
إمامكم" فوضع الدليل في غير موضعه فإن النهي
على فرض شموله لغير ما هو مذكور بعده من
التفصيل لا يتنأول إلا ما كان له أثر ظاهر في
المخالفة من الأركان والأذكار وفعل القلب لا
يدخل في ذلك لعدم ظهور اثر المخالفة فيه ولو
قدرنا دخوله لكان مخصوصا بدليل الجواز.
قوله: "وناقص الصلاة أو الطهارة بضده".
أقول : الدليل على من منع من ذلك لأن الأصل
الصحة وقد استدلوا على منع إمامة ناقص الصلاة
بضده بالحديث الصحيح المصرح بالنهي عن
الاختلاف على الإمام وفيه "وإذا صلى قاعدا
فصلوا قعودا" [البخاري"722"، مسلم "86/414"،
أبو دأود "603"]، ولكن هذا لا يدل على أن كل
ناقص صلاة لا يؤم بغيره كالأعرج والأشل مع
كونهم يجعلونهما وأمثالهما ناقصي صلاة ثم مع
هذا قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه
في مرض موته وهي آخر صلاة صلاها بهم وكان
قاعدا وكانوا قيأما فإن حمل هذا على اختصاصه
به صلى الله عليه وسلم كان ذلك خلاف الظاهر
وإن جعل ناسخا لم يصح الاستدلال بحديث "وإذا
صلى قاعدا فصلوا قعودا" هكذا ينبغي أن يقال في
ناقص الصلاة.
وأما ناقص الطهارة فلا دليل يدل على المنع
أصلا فيصح أن يؤم المتيمم متوضئا ومن ترك غسل
بعض أعضاء وضوئه لعذر بغيره ونحوهما ولا يحتاج
إلي الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته
بأصحابه بالتيمم وهو جنب فإن الدليل على
المانع كما عرفت والأصل الصحة.
قال في المنتقي وقد صح عن عمر أنه صلى بالناس
وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا وكذلك
عثمان وروي عن علي رضي الله عنهم من قوله
انتهى.
(1/154)
وروى الأثرم عن
ابن عباس أنه صلى بجماعة من الصحابة منهم عمار
بن ياسر فلما فرغ من الصلاة ضحك وأخبرهم أنه
اصاب من جارية له رومية فصلى بهم وهو جنب
متيمم.
وأخرج البخاري ["694"] وغيره من حديث أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا
فلكم وعليهم".
قول: "والمختلفين فرضا"
أقول : قد ذكرنا أن الدليل على من زعم أن ثم
مانعا من الصحة ولكن أما مع اختلاف الفرضين
فمدعي الصحة يحتاج إلي دليل على ذلك ولم يثبت
أصلا ولا سمع في ايام النبوة بمثل هذا.
فالحاصل أن الفريضة إن كانت واحدة فالأصل صحة
الائتمام والدليل على من ادعى عدم الصحة أما
إذا كانا مفترضين فريضة فظاهر وهكذا إذا كانا
متنفلين وقد قدمنا أن الأدلة على ذلك كثيرة
جدا.
وأما إذا كان الإمام مفترضا والمؤتم متنفلا
فلحديث "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه"
أخرجه أبو دأود ["574"]، والترمذي ]"220"]،
وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم فإن
الخطاب لجماعة قد صلوا فريضتهم.
وأما إذا كان الإمام متنفلا والمؤتم مفترضا
فلحديث معاذ المتقدم وما ورد في معناه.
وأما مع الاختلاف أداء وقضاء مع اتفاق الفريضة
فلم يثبت شيء من هذا في أيام النبوة ولا في
أيام الصحابة.
وأما مع الاختلاف وقتا فلا يحل لمن لم يكن
عنده أن ذلك الوقت وقت للصلاة أن يدخل فيها لا
إمأما ولا مؤتما فإن فعل فقد عصى وصلاته باطلة
وإذا كان إمأما فقد صحت صلاة المؤتم به الذي
يعتقد دخول الوقت لحديث "وإن أخطأ فلكم
وعليهم".
وأما مع الاختلاف في القبلة فلا يحل من اعتقد
أن القبلة في غير جهة إمامه أن يأتم به.
وأما استثناء الخلاف في المذهب فلا بأس بذلك
لكن لا يجوز أن يخالفه فيما نص عليه حديث "لا
تختلفوا على إمامكم".
من ذلك التفصيل وإذا عرفت هذا علمت أن قوله:
"وتفسد على المؤتم بالنية وعلى الإمام حيث
يكون بها عاصيا" لا ينبغي أن يؤخذ كليا فإن
الفساد لا يكون إلا لفوات ما دل الدليل على أن
الصلاة لا تكون صلاة إلا به وقد قدمنا تحقيق
هذا.
ولا وجه لقوله: "وتكره خلف من عليه فائتة"
لعدم وجود الدليل على ذلك والكراهة حكم شرعي
لا يجوز القول به مجازفة وعلى تقدير كون
التراخي عن قضاء الفائتة معصية فذلك لا يستلزم
عدم صلاحيته للإمامة كما تقدم.
قوله: "وكرهه الأكثر صلحاء".
أقول : ما ورد فيمن أم قوما وهم له كارهون من
الوعيد متوجه إلي الإمام ولم يرد في
(1/155)
المؤتمين شيء
من ذلك بل الأحاديث القاضية بأن الأئمة في
الصلاة إن اصابوا فللمؤتمين بهم ولهم وإن
أخطأوا فللمؤتمين وعليهم يدل على أن صلاة
المؤتمين صحيحة وأن الإمام الذي أم قوما وهم
له كارهون يكون خطؤه عليه لا عليهم وظاهر
الأحاديث الواردة في وعيد من أم قوما وهم له
كارهون أن صلاته غير مقبولة كحديث عبد الله بن
عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة من تقدم
قوما وهم له كارهون" الحديث أخرجه أبو دأود
["593"] وابن ماجه ["670"] وفي إسناده عبد
الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وضعفه خفيف
لا يسقط الاعتبار بحديثه.
وأخرج الترمذي ["360"]، في حديث أبي أمامة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا
تجأوز صلاتهم آذانهم" وفيه: "إمام أم قوما وهم
له كارهون" قال الترمذي حديث حسن غريب انتهى
وفي إسناده أبو غالب الراسبي البصري قال أبو
حاتم ليس بالقوي وقال النسائي ضعيف لكنه قد
صحح له الترمذي ووثقه الدارقطني وعدم قبول
صلاته لا يستلزم عدم قبول صلاة المؤتمين لما
تقدم فذلك عليه لا عليهم والإثم راجع إليه لا
إليهم.
وقد أخرج الترمذي ["358"]، عن أنس مرفوعا
بلفظ: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة
رجلا أم قوما وهم له كارهون الحديث قال
الترمذي حديث أنس لا يصح لأنه قد روي عن الحسن
عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وفي إسناده
أيضا محمد بن القاسم الأسدي قال الترمذي يتكلم
فيه أحمد بن حنبل وضعفه وليس بالحافظ وضعفه
أيضا البيهقي.
وأخرج ابن ماجه["971"] عن ابن عباس عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترتفع
صلاتهم فوق رءوسهم شبرا رجل أم قوما وهم له
كارهون" الحديث قال العراقي إسناده حسن.
وأخرج الطبراني في الكبير عن طلحة سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما رجل أم
قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه" ، وفي
إسناده سليمان بن ايوب الطلحي قال أبو زرعة
عامة أحاديثه لا يتابع عليها وقال الذهبي في
الميزان صاحب مناكير وقد وثق.
وأخرج البيهقي عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ:
"ثلاثة لا تجأوز صلاتهم رؤوسهم رجل أو قوما
وهم له كارهون" الحديث. قال البيهقي هذا
إسناده ضعيف.
قوله: "والأولى من المستويين في القدر
الواجب".
أقول : ثبت في صحيح مسلم ["673"،]، وأحمد
["3/24"]، والنسائي ["2/77"] من حديث أبي سعيد
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا
كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة
اقرأهم".
وثبت في صحيح مسلم ["673"]، وغيره من حديث أبي
مسعود عقبة بن عمرو قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله
فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن
كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا
في الهجرة سواء فأقدمهم سنا" وفي رواية:
"فأقدمهم سلما" أي إسلاما "ولا يؤمن الرجل في
سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا
بإذنه".
(1/156)
وفي الصحيحين
[البخاري "630"، مسلم "674"، وغيرهما [أبو
دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "2/77"]
من حديث مالك بن الحويرث قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لي ولصاحب لي: "إذا حضرت
الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما".
ولمسلم ["674"، وأحمد "3/436"، "وكانا
متقاربين في القراءة".
فهذا الترتيب النبوي هو الذي ينبغي اعتماده
والعمل عليه ولم يرد شيء في تقديم الراتب على
غيره وما قيل إنه قد ثبت له سلطان لكونه راتبا
فذلك مجرد دعوى فإن السطان أمره بالمعروف لغة
وشرعا.
نعم إذا كان الرجل في بيته فقد ثبت في صحيح
مسلم ["291/673"]، وغيره أبو دأود ""582"]:
"لا يؤم الرجل الرجل في أهله".
وهكذا لم يرد في تقديم الأورع شيء يخصه وأما
حديث ابن عباس الذي رواه الدارقطني قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم
خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" فلا
تقوم به الحجة لضعف إسناده.
وهكذا لا دليل على تقديم الأشرف نسبا
والاستدلال بمثل حديث "الناس تبع لقريش" [مسلم
"1819"، أحمد "3/379"]، ونحوه وضع الدليل في
غير موضعه.
وأما قوله: "ويكفي ظاهر العدالة ولو من قريب"
فمبنى على اعتبار العدالة في إمام الصلاة وقد
قدمنا ما فيه كفاية.
[ فصل
وتجب نية الإمامة والائتمام وإلا بطلت أو
الصلاة على المؤتم فإن نويا الإمامة صحت فرادى
والائتمام بطلت وفي مجرد الاتباع تردد].
قوله: "فصل ويجب نية الإمامة والائتمام" الخ.
أقول : صلاة الجماعة عمل لأن لها وصفا زائدا
على صلاة الفرادى بالاجتماع والمتابعة وقد صح
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما
الأعمال بالنيات" وصح عنه أنه قال: "لا عمل
إلا بنية" فلا يكون الإمام إمأما ولا المؤتم
مؤتما إلا بالنية فإذا لم ينويا جميعا لم تكن
جماعة وصحت صلاة الجميع فرادى ومجرد الانتظار
والمتابعة لا يوجبان البطلان.
وهكذا إذا نويا الائتمام لم يكن ذلك موجبا
لبطلان صلاتهما لأن نية الإمامة قد تضمنت نية
أصل الصلاة مع نية أمر زائد عليها وهو التجميع
فإذا بطل كونها جماعة لم يبطل كونها صلاة
(1/157)
ومن ادعى خلاف
ذلك فعليه الدليل فكهذا ينبغي أن يكون الكلام
في هذا المقام فدع عنك التسرع إلي الحكم
بالبطلان فأمر الشرع لا يثبت بالترهات
والخزعبلات كما وقع هنا في شرح الجلال رحمه
الله من المجادلة لعدم وجوب النية من الأصل.
[ فصل
ويقف المؤتم الواحد أيمن إمامه غير متقدم ولا
متأخر بكل القدمين ولا منفصل وإلا بطلت إلا
لعذر إلا في التقدم والاثنان فصاعدا خلفه في
سمته إلا لعذر أو لتقدم صف سامته ولا يضر قدر
القامة ارتفاعا وانخفاضا وبعدا وحائلا ولا
فوقها في المسجد أو في ارتفاع المؤتم لا
الإمام فيهما.
ويقدم الرجال ثم الخناثا ثم النساء ويلي كلا
صبيانه ولا تخلل المكلفة صفوف الرجال مشاركة
وإلا فسدت عليها وعلى من خلفها أو في صفها إن
علموا.
ويسد الجناح كل مؤتم أو متأهب منضم إلا الصبي
وفاسد الصلاة فينجذب من بجنب الإمام أو في صف
منسد لا اللاحق غيرهما].
قوله: "فصل ويقف الواحد أيمن إمامه" الخ.
أقول : هذا الموقف للمؤتم الواحد هو الثابت
ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة وأما الحكم على من
تقدم بكل القدمين أو تأخر بهما أو انفصل
بقدرهما ببطلان صلاته فليس على ذلك دليل ولا
شك أن تسوية الصف والتراص والزاق الكعاب
بالكعاب سنة ثابتة وشريعة مستقرة ولكن البطلان
لا يكون إلا بدليل يدل عليه ويفيده وإلا
فالأصل الصحة بعد الدخول في الصلاة.
قوله: "والاثنان فصاعدا خلفه".
أقول : الثابت عنه صلى الله عليه وسلم هو هكذا
كما في صحيح مسلم ["3010"، وغيره أبو دأود
"634"]، من حديث جابر أنه أقامه النبي صلى
الله عليه وسلم عن يمينه ثم جاء آخر فقام عن
يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى
الله عليه وسلم بأيديهما فدفعهما حتى أقامهما
خلفه.
وأخرج الترمذي من حديث سمرة بن جندب قال:
أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة
أن يتقدم أحدنا قال ابن عساكر في الأطراف إنه
حديث غريب فاجتمع القول والنقل على أن موقف
الاثنين خلف الإمام هو الثابت في عصره صلى
الله عليه وسلم في عصر الصحابة بعده أو عصر من
بعدهم.
وأما ما روي عن ابن مسعود أنه دخل عليه الأسود
بن يزيد وعلقمة فأقام أحدهما عن يمينه والآخر
عن يساره فهو موقوف عليه كما في صحيح مسلم
["26/534"] وغيره [الترمذي "1/453"، أبو دأود
"868"، النسائي "2/183، 184"].
(1/158)
ووقع عند أحمد
["1/414، 451، 455، 459"]، وأبي دأود ["868"،
والنسائي ["2/49، 50"]، أن ابن مسعود قال هكذا
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع إذا كانوا
ثلاثة وفي إسناد هذه الزيادة هارون بن عنترة
وفيه مقال معروف قال ابن عبد البر هذا الحديث
لا يصح رفعه والصحيح عندهم أنه موقوف على ابن
مسعود وعلى تقدير صحة الرفع فقد ذكر جماعة من
الحفاظ أنه منسوخ قالوا وإنما تعلم ابن مسعود
ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلما
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تركه
ومن زعم أن هذه الزيادة المقتضية للرفع في
صحيح مسلم فقد أخطأ.
وأما اعتبار أن يكونا في سمته فهو معنى كونهما
في خلفه وأنهما لو وقفا في جانب خارج عن سمته
لم يكونا خلفه وإذا عرض مانع يمنعهما من
الوقوف خلفه في سمته جاز لهما الوقوف في أي
مكان فلا يجب عليهما إلا ما يدخل تحت
إمكانهما.
قوله: "ولا يضر قدر القامة" الخ.
أقول : لا يضر قدر القامة ولا فوقها لا في
المسجد ولا في غيره من غير فرق بين الارتفاع
والانخفاض والبعد الحائل ومن زعم أن شيئا من
ذلك تفسد به الصلاة فعليه الدليل ولا دليل إلا
ما روي عن حذيفة أنه أم الناس بالمدائن على
دكان فأخذ أبو مسعود البدري بقميصه فجذبه فلما
فرغ من صلاته قال له أبو مسعود ألم تعلم أنهم
كانوا ينهون عن ذلك قال بلى قد ذكرت حين
مددتني أخرجه أبو دأود ["597"]وصححه ابن خزيمة
وابن حبان والحاكم وفي رواية للحاكم التصريح
برفعه ورواه أبو دأود ["598"]، من وجه آخر
وفيه أن الإمام كان عمار ابن ياسر والذي جبذه
حذيفة ولكن فيه مجهول لأنه من رواية عدي بن
ثابت الأنصاري قال حدثني رجل أنه كان مع عمار
بن ياسر في المدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار
وقام علي وكان يصلي والناس من اسفل منه فتقدم
حذيفة فأخذ على يديه فأتبعه عمار حتى أنزله
حذيفة فلما فرغ عمار من صلاته قال حذيفة ألم
تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا
أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من
مكانهم" أو نحو ذلك قال عمار لذلك تبعتك حين
أخذت على يدي هكذا ساقه أبو دأود ["1/399،
400"]وفي إسناده الرجل المجهول الذي ذكرناه
ورواه البيهقي أيضا.
ففي هذا الحديث والحديث الأول دليل على منع
الإمام من الارتفاع على المؤتم ولكن هذا النهي
يحمل على التنزيه لحديث صلاته صلى الله عليه
وسلم على المنبر كما وقع في الصحيحين وغيرهما
ومن قال إنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك
للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك
لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو
جائز في غيره ولا يصح القول باختصاص ذلك
بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة جوابا عن
سؤال بعض الأعلام فمن أحب تحقيق المقام فليرجع
إليها
قوله: "وتقدم الرجال". الخ.
أقول : أما تقديم الرجال على النساء فهو
الثابت في جماعاته في مسجده صلى الله عليه
وسلم وكذلك
(1/159)
ثبت عنه ذلك في
صلاته في غير المسجد كما في حديث فصففت أنا
واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا وهو في
الصحيحين وغيرهما من حديث أنس.
وأخرج أحمد ["5/298"]، وابو دأود ["677"] من
حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يجعل الرجال قدام الغلمان والغلمان
خلفهم والنساء خلف الغلمان فأفاد هذا تقديم
الرجال على الغلمان وتقديم الغلمان على النساء
وأما الخناثى فلم يرد فيهن شيء ولا وجد هذا
الجنس في زمن النبوة ولا ورد ما يفيد تقديمه
على النساء وإنما لما كان له نسبة إلي الرجال
ونسبة إلي النساء كان متوسطا بين الجنسين.
قوله: "ولا تخلل المكلفة صفوف الرجال مشاركة
لهم وإلا فسدت عليها وعلى من خلفها" الخ.
أقول : إذا لم تقف المرأة في موقفها الذي عينه
رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وهو وقوفها
في صف النساء أو وقوفها وحدها بعد الرجال فقد
صارت بذلك عاصية.
وأما فساد صلاتها بذلك فلا دليل يدل عليه
وهكذا لا دليل يدل على فساد صلاة الرجال لأن
غاية الأمر دخول الأجنبية معهم ونظرهم إليها
وذلك لا يوجب فساد الصلاة بل يكون من وقف
بجنبها مختارا لذلك أو نظر إليها عاصيا وصلاته
صحيحة وأما من لم يقف بجنبها ولا نظر إليها
فليس بعاص فضلا عن كون صلاته تفسد بمجرد
دخولها معهم في الصلاة ومشاركتها لهم في
الإئتمام بإمامهم.
والحاصل أن هذا التسرع إلي إثبات مثل هذه
الأحكام الشرعية بمجرد الرأي الخالي عن الدليل
ليس من دأب أهل الإنصاف ولا من صنيع
المتورعين.
قوله: "ويسد الجناح كل مؤتم أو متأهب منضم إلا
الصبي وفاسد الصلاة"
أقول : أما استثناء الصبي فمصادم للدليل
الصحيح الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث
أنس أنه صف هو واليتيم خلف النبي صلى الله
عليه وسلم ووقفت العجوز أم سليم خلفهما ومصادم
لما ثبت في الصحيحين [البخاري "859"، مسلم
"184/763"]، وغيرهما [أبو دأود "610"،
والنسائي "842"، الترمذي "232"، من صلاة ابن
عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم وحده بعد أن
وقف عن يساره فأداره إلي يمينه
ومصادم لما أخرجه النسائي في الخصائص أن عليا
كان يصلي إلي جنب النبي صلى الله عليه وسلم
قبل بلوغه.
وأما استثناء فاسد الصلاة فليس على ذلك دليل
والأصل الصحية وغاية ما هناك أن يكون فاسد
الصلاة بمنزلة السارية المتخللة في وسط الصف
ولم يصب من ادعى أن بينهما فرقا.
قوله: "فينجذب من بجنب الإمام"
أقول : أما مشروعية انجذاب من بجنب الإمام
فيدل على ذلك ما تقدم في صحيح مسلم وغيره من
حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامه
عن يمينه فجاء آخر فوقف عن يسار النبي صلى
الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم
بأيديهما فدفعهما حتى أقامها خلفه.
(1/160)
وأما مشروعية
انجذاب من في الصف المنسد لمن لحق ولم يجد من
ينضم إليه فلم يثبت ما يدل على ذلك بخصوصه ولا
يصح الاستدلال بما أخرجه أبو دأود في المراسيل
بلفظ: "إذا انتهى أحدكم إلي الصف وقد تم فليجذ
إليه رجلا يقيمه إلي جنبه" لأنه مع كونه مرسلا
في إسناده مقاتل بن حيان وفيه مقال ولم يثبت
له لقاء أحد من الصحابة فثم انقطاع بينه وبين
الصحأبي فهو مرسل معضل.
ولا يصح الاستدلال أيضا بما أخرجه الطبراني عن
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أمر الآتي وقد تمت الصلاة بأن يجذب إليه رجلا
يقيمه إلي جنبه فإن في إسناده بشر بن إبراهيم
وهو ضعيف جدا.
وهكذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي
عن وابصة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لرجل صلى خلف الصف: "أيها المصلي هلا دخلت
في الصف وجررت رجلا من الصف أعد صلاتك" فإن في
إسناده السري بن إسماعيل وهو متروك وقد رواه
أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق اخرى ولكن
فيها قيس بن الربيع وهو ضعيف ورواه ابن أبي
حاتم في علله من طريق ثالثة وفي إسنادها ضعف.
ولكن الانجذاب معأونة على البر والتقوى فيكون
مندوبا من هذه الحيثية.
[ فصل
وإنما يعتد اللاحق بركعة أدرك ركوعها وهي أول
صلاته في الأصح ولا يتشهد الأوسط من فاتته
الأولى من أربع ويتابعه ويتم ما فاته بعد
التسليم فإن أدركه قاعدا لم يكبر حتى يقوم.
وندب أن يقعد ويسجد معه ومتى قام ابتدأ وأن
يخرج مما هو فيه لخشية فوتها وأن يرفض ما قد
أداه منفردا ولا يزد الإمام على المعتاد
انتظارا وجماعة النساء والعراة صف وإمامهم
وسط].
قوله: فصل : "وإنما يعتد اللاحق بركعة أدرك
ركوعها".
أقول : هذا مذهب الجمهور وخالفهم جماعة من أهل
العلم وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة
بحثت فيها مع بعض أهل العلم المائلين إلي مذهب
الجمهور ثم ذكرت في شرحي للمنتقي خلاصة البحث
بما لا يحتاج الناظر إلي غيره فلا نطيل الكلام
في هذا المقام فإن رجوع الطالب للحق إلي ما
ذكرناه يغنيه.
قوله: "وهي أول صلاته في الأصح".
(1/161)
أقول : هذا
القول الراجح والمذهب الصحيح وقد صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد عبد الرحمن بن
عوف ودخل معه صلى الله عليه وسلم في الركعة
الثانية فلما سلم عبد الرحمن قام النبي صلى
الله عليه وسلم فصلى ركعة ثم سلم وهو في
الصحيحين [البخاري"182"، مسلم "105/274"]،
وغيرهما [أبو دأود "149"، أحمد "4/251"]، وثبت
في الصحيحين [البخاري "2/117"، مسلم "151،
152، 153،"]، وغيرهما [الترمذي "327"] أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فما أدركتم
فصلوا وما فاتكم فأتموا" فالأمر بالإتمام يدل
على أن ما أدركه مع الإمام أول صلاته.
وأما ما ورد في رواية مسلم بلفظ: "وما فاتكم
فاقضوا" فقد حكم مسلم على الزهري بأنه وهم في
هذا اللفظ فلا متمسك لمن تمسك بهذا اللفظ الذي
وقع فيه الوهم.
وأيضا لو قدرنا عدم الوهم لكان تأويل هذا
اللفظ الذي خالف الروايات الكثيرة الصحيحة
بحمل القضاء على الإتمام فإنه أحد معانيه
متعينا وقد ورد به الكتاب العزيز قال الله عز
وجل: {فَإذا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}
[البقرة: 200] أي أتممتموها وقال الله عز وجل:
{فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:
10]الآية.
وبهذا تعرف أنه ليس في المقام ما يصلح لمعارضة
الأمر بالإتمام وتعرف صحة ما قاله المصنف من
أنه لا يتشهد الأوسط من فاتته الأولى من أربع
وأنه يتم ما فاته بعد التسليم.
وأما قوله: "فإن أدركه قاعدا لم يكبر حتى
يقوم" فليس على هذا دليل بل ظاهر أمر المؤتم
بالسجود إذا أدرك الإمام ساجدا أنه يكبر ويعتد
بتلك التكبيرة لصلاته ولا يعتد بتلك السجدة
ولفظ الحديث في سنن أبي دأود هكذا "إذا جئتم
إلي الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا
ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" وقد صححه
ابن خزيمة.
وهكذا حديث: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام
على حاله فليصنع كما يصنع الإمام" أخرجه
الترمذي وقال حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده
إلا ما روي من هذا الوجه والعمل على هذا عند
أهل العلم انتهى وفي إسناده الحجاج ابن أرطاة
وفيه مقال قال ابن حجر في الفتح وينجبر ضعفه
بما رواه سعيد بن منصور عن أناس من أهل
المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من
وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على
الحالة التي أنا عليها".
قوله: "وأن يخرج مما هو فيه لخشية فوتها".
أقول : جعل المصنف هذا الخروج مندوبا وقيده
بقوله لخشية فوتها وظاهر الحديث الصحيح عند
مسلم ["36/71"]، وأحمد ["517"]، وأهل السنن
[أبو دأود "1266"، النسائي "2/116"، الترمذي
"421"، ابن ماجة "1151"]، وغيرهم أن الخروج
واجب إذا سمع إقامة الصلاة إن كان المراد
بقوله في الحديث "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة
إلا المكتوبة" نفس الإقامة وهي قول المؤذن قد
قامت الصلاة.
وإن كان المراد القيام إلي الصلاة كان الواجب
عليه إذا عاين قيامه إلي الصلاة أن يخرج لأن
ظاهر قوله: "فلا صلاة" نفي ذات الصلاة الشرعية
فالمتنفل عند إقامة الصلاة قد بطلت صلاته فإذا
(1/162)
استمر فيها فقد
استمر في صلاة غير شرعية وخالف ما جاء عن
الشارع.
وإن كان المراد المعنى المجازي في قوله: "فلا
صلاة" فقد قدمنا لك أن نفس الصحة هو أقرب
المجازين إلي الحقيقة فيجب الحمل عليه لأنه
يستلزم انتفاء صحة الصلاة.
وبهذا تعرف أنه لا وجه للتقييد بقوله لخشية
فوتها ولا لجعل الخروج مندوبا فقط.
قوله: "وندب أن يرفض ما قد أداه منفردا".
أقول : قول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، يدل بعمومه على
أنه لا يجوز إبطال عمل من الأعمال كائنا ما
كان والذي قد صلى منفردا إذا رفض صلاته فقد
أبطل عمله فلا يجوز المخالفة لما يقتضيه هذا
العموم إلا بدليل وقد دل الدليل على أن من صلى
في بيته ثم وصل إلي جماعة فإنه يدخل معهم في
الجماعة ثم اختلفت الروايات أيهما النافلة هل
التي قد صلاها أو التي دخل فيها مع الجماعة
وثم مرجح لكون النافلة هي الأخرى وهي الأحاديث
الواردة أنها "لا تصلي صلاة في يوم مرتين"
[أبو دأود "579؟"، النسائي "860"، أحمد
"2/19"]، وأنه لا ظهران في يوم فلو كانت
الثانية هي الفريضة لكان قد أبطل عمله وصلى
الصلاة في يوم مرتين وهذا مرجح قوي لكون
الثانية نافلة والأولى فريضة ومع هذا فالحديث
الذي فيه أن الأولى نافلة والثانية فريضة حديث
ضعيف لا تقوم به الحجة.
ويقوي ما ذكرناه من كون الفريضة هي الأولى ما
تقدم في حديث معاذ أنه كان يصلي بقومه ويجعلها
نافلة وكذلك حديث "ألا رجل يتصدق على هذا"
فيصلي معه وقد قدمنا أنه حديث صحيح.
فهذان الحديثان في الجملة يدلان على مشروعية
النافلة مع الجماعة.
ويؤيد ما ذكرناه أيضا أحاديث الصلاة مع أمراء
الجور فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بالدخول في جماعتهم ويجعلها الذي قد صلى في
بيته نافلة.
وأظهر مما ذكرناه حديث يزيد بن الأسود في قضية
الرجلين اللذين لم يصليا مع النبي صلى الله
عليه وسلم وأتي بهما ترعد فرائصهما فقالا قد
صلينا في رحالنا فقال لهما: "إذا أتيتما مسجد
الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة" [أبو
دأود "575، 576"، النسائي "2/112، 113"]، هو
حديث صحيح.
قوله: "ولا يزيد الإمام على المعتاد انتظارا".
أقول : انتظار اللاحق ليدرك إمامه هو من باب
قوله تعالي: {وَتَعَأونُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، فلا يحتاج إلي
الاستدلال عليه بدليل يخصه بل يكفي هذا العموم
ثم حديث أمر الإمام بالتخفيف لا يعارض هذا
العموم إلا إذا حصل بالانتظار تطويل وهو غير
مسلم فإن التطويل والتخفيف من الأمور النسبية
نعم إذا كان الانتظار يحصل به تضرر من
المؤتمين فإنه يخصص عموم الآية وهذا على تقدير
أنه لم يرد في انتظار اللاحق دليل يخصه وقد
ورد ما يخصصه وهو ما أخرج أحمد ["4/356"]،
وأبو دأود ["802"]، والبزار عنه صلى الله عليه
وسلم: "أنه كان ينتظر في
(1/163)
صلاته حتى لا
يسمع وقع قدم" وفي إسناده رجل مبهم ولكنه قد
بين هذا الرجل المبهم المزني في الأطراف فقال
إنه روى هذا الحديث أبو إسحق الخميسي عن محمد
ابن حجارة عن كثير الحضرمي عن ابن أبي أوفى
فذكره وكثير هذا ثقة من ثقات التابعين وذكر
النووي في شرح المهذب أن بعض الرواة سمى هذا
الرجل فقال طرفة الحضرمي صاحب ابن أبي أوفى
وذكر في التقريب أنه مقبول من الخامسة.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يطيل الركعة الأولى من صلاة الظهر
وهكذا في صلاة الصبح وفي رواية لأبي دأود
["759"] أنه كان يطول في الركعة الأولى ما لا
يطول في الركعة الثانية وهكذا في صلاة العصر
وهكذا في صلاة الغداة.
وفي رواية لعبد الرزاق وابن خزيمة أنه قال
الرأوي ظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس
الركعة الأولى.
قوله: "وجماعة النساء والعراة صف وإمامهم
وسط".
قول أما جماعة النساء فقد تقدم الكلام عليها
وأما جماعة العراة فالظاهر أنهم يصلون جماعة
كما يصلي غيرهم من الرجال ويتقدم الإمام
ويصفون خلفه ولهم عذر ظاهر وهو كونهم عراة
وعليهم غض أبصارهم.
[ فصل
ولا تفسد على مؤتم فسدت على إمامه بأي وجه إن
عزل فورا وليستخلف مؤتما صلح للابتداء وعليهم
تجديد النيتين ولينتظر المسبوق تسليمهم إلا أن
ينتظروا تسليمه.
ولا تفسد عليه بنحو إقعاد مأيوس فيبنى ويعزلون
ولهم الاستخلاف كما لو مات أو لم يستخلف].
قوله: فصل : "ولا تفسد على مؤتم فسدت على
إمامه بأي وجه".
أقول : هذا صواب فإن الفساد لا بد من قيام
دليل يدل عليه ومجرد تعليق صلاة المؤتم بصلاة
الإمام بنية الائتمام به هي ما دام الإمام
إمأما فإذا بطلت صلاته فلا وجه لفساد صلاة
المؤتم ثم إيجاب نية العزل عليه لا فائدة فيه
لأنه قد صار بمجرد بطلان صلاة إمامه منفردا إذ
لا ائتمام إلا بإمام ولا إمام فلا وجه للحكم
بفساد صلاته إذا لم ينو العزل وهذا إذا كان
الذي فسدت به صلاة الإمام لا اختيار له فيه
كمن يحدث غير متعمد للحدث أما إذا كان الفساد
وقع باختياره بسبب منه فقد قدمنا أن الإمام
إذا اصاب فله وللمؤتمين به وإن أخطأ فعليه لا
عليهم فلا وجه للحكم بفساد صلاة المؤتم على كل
تقدير.
قوله: "وليستخلف مؤتما" الخ.
(1/164)
أقول : أما كون
هذا واجبا على الإمام فلم يدل عليه لأن صلاته
قد بطلت فلم يبق إمأما وصلاة المؤتمين به إذا
لم يتقدم أحدهم قد صحت فرادى.
وأما حديث ائتمام الناس بأبي بكر لما ذهب رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلي بني عمرو بن عوف
ليصلح بينهم ثم تقدم النبي صلى الله عليه وسلم
وتأخر أبي بكر لما وصل رسول الله صلى الله
عليه وسلم كما ثبت هذا في الصحيح [البخاري
"684، 1201، 1218، 234، 2690، 2693، 790"،
مسلم "421"، أبو دأود "940، 941، 942، النسائي
"2/77، 78"]، فغايته الدلالة على أنه إذا لم
يحضر إمام الصلاة جاز للمؤتمين أن يؤمروا من
يصلي بهم وإذا رجع الإمام وهم في الصلاة كان
لللإمام الأول المفضول أن يتأخر ويتقدم الإمام
الفاضل فيتم بهم الصلاة.
وهكذا صلاة أبي بكر في مرضه صلى الله عليه
وسلم ثم خروج النبي صلى الله عليه وسلم وقعوده
جنب أبي بكر فكان أبو بكر يقتدي بصلاة النبي
صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي
بكر.
فغاية ما فيه الدلالة على ما دل عليه الحديث
الأول وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على وجوب
الاستخلاف من الإمام الذي بطلت صلاته وأنه لا
دليل على تجديد النية من الإمام والمؤتمين به
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم في
تين الصلاتين بتجديد النية ولو كان ذلك واجب
لأمرهم به.
وأما عدم فسادها على الإمام بعروض إقعاد مأيوس
فظاهر ولا يحتاج إلي ذكره ولا فرق بين الإمام
والمؤتم والمنفرد أما كونهم يعزلون صلاتهم فلا
وجه لذلك وقد تقدم حديث: "وإذا صلي قاعدا
فصلوا قعودا" وهذا عذر عارض في وسط الصلاة فلا
يكون حكمه حكم من دخل في الصلاة قاعدا.
وأما كون للمؤتمين أن يستخلفوا من يتم بهم
الصلاة فلا مانع من ذلك كما تقدم والحاصل أن
هذه التفريعات لم تكن مبنية على رواية مقبولة
ولا رأي صحيح.
[ فصل
ويجب متابعته إلا في مفسد فيعزل أو جهر فيسقط
إلا أن يفوت لبعد أو صمم أو تأخر فيقرأ].
قوله: "فصل ويجب متابعته". الخ.
أقول: هذا صحيح وقد دل عليه حديث "إنما جعل
الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع
فاركعوا" الحديث وهو في الصحيحين [البخاري
"734"، مسلم "414"،وغيرهما [أبو دأود "603،
604"] النسائي "921، 142، 922"، ابن ماجة"846"
من حديث أبي هريرة.
وأخرج البخاري ["733"] عن أنس قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام
ليؤتم به فلا تركعوا حتى يركع ولا ترفعوا حتى
يرفع".
(1/165)
وأخرج مسلم
["112/426"]، من حديث أنس أيضا قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إني
إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا
بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف".
فهذه الأحاديث ونحوها تدل على وجوب المتابعة
مع ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى
أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله
رأسه رأس حمار أو يحول صورته صورة حمار".
وأما كونه يعزل في المفسد فقد قدمنا في الفصل
الذي قبل هذا ما فيه.
وأما كونه يسكت إذا جهر الإمام فذلك فيما عدا
فاتحة الكتاب وأما هي ففرض عليه قراءتها في كل
ركعة كما تقدم تحقيقه.
[ فصل
ومن شارك في كل تكبيرة الإحرام أو في آخرها
سابقا بأولها أو سبق بها أو بآخرها أو بركنين
فعليين متواليين أو تأخر بهما غير ما استثني
بطلت أحدهما].
قوله: فصل: "ومن شارك إمامه في كل تكبيرة
الإحرام".
أقول : ليس في هذا ما يوجب الفساد وهكذا إذا
شاركه في أولها وسبق بآخرها وأما إذا سبقه
بالتكبيرة كلها أو سبقه بأولها فهذا قد خالف
ما أمر به من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما
جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا".
أما كون صلاته تفسد فلا وتعليلهم بأنه دخل في
الصلاة قبل دخول إمامه علة عليلة لا ينبغي
جعلها مقتضية للفساد فإن الفساد لا بد له من
دليل خاص يدل عليه يوجب انتفاء الصلاة بانتفاء
ما تركه أو انتفاءها بفعل ما فعله.
وأما الحكم بالبطلان بتقدم المؤتم على الإمام
بركنين فعليين متواليين أو تأخره عليه بهما
فلا شك أن الفاعل لذلك قد اثم وخالف ما هو
واجب عليه لما قدمنا من الأدلة في الفصل الذي
قبل هذا فإنها قاضية بالمنع من ذلك في الركن
الواحد فضلا عن الركنين.
وأما كون ذلك مبطلا للصلاة فلا دليل عليه يوجب
البطلان وقد تابع الصحابة النبي صلى الله عليه
وسلم في الركعة الخامسة حيث صلى بهم خمسا وهي
مشتملة على أركان وأذكار ولم يأمرهم بالإعادة
وهكذا في حديث ذي اليدين وأن النبي صلى الله
عليه وسلم سلم من الرباعية على ثلاث ثم تكلم
وتكلموا ثم قام فكبر وصلى بهم ركعة واحدة وسلم
وفي كثير من الروايات أنه سلم على ركعتين ثم
قام فصلى ركعتين.
وهذا مما يفيدك أن حكم أهل الفقه بالفساد في
كثير من المواضع ليس على ما ينبغي ثم كان
يلزمهم أن يوجبوا الفساد بمجرد التقدم بركن
واحد فإنه يصدق على الفاعل لذلك إذا كان
(1/166)
متعمدا أنه قد
خالف حديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" وحديث:
"فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام
ولا بالقعود ولا بالانصراف" ويصدق عليه حديث
"أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن
يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول الله صورته
صورة حمار".
(1/167)
[ باب سجود
السهو
يوجبه في الفرض خمسة: الأول: ترك مسنون غير
الهيئات ولو عمدا.
الثاني: ترك فرض في موضعه سهوا مع أدائه قبل
التسليم على اليسار ملغيا ما تخلله وإلا بطلت
فإن جهل موضعه نبي على الأسوأ ومن ترك القراءة
أو الجهر أو الإسرار أتى بركعة.
الثالث: زيادة ذكر جنسه مشروع فيها إلا كثيرا
في غير موضعه عمدا أو تسليمتين مطلقا فتفسد.
الرابع: الفعل اليسير وقد مر ومنه الجهر حيث
يسن تركه.
الخامس: زيادة ركعة أو ركن سهوا كتسليمة في
غير موضعها].
باب سجود السهو
قوله: فصل : "يوجبه في الفرض خمسة".
أقول : قد اجتمع في مشروعية سجود السهو أقوال
وأفعال وفي أقواله وأفعاله ما هو بصيغة الأمر
فكان بهذا واجبا ولكن إذا كان المتروك سنة من
السنن التي ليست بواجبة فالسجود لها مسنون لأن
الفرع لا يزيد على أصله.
قوله: "الأول نرك مسنون غير الهيئات"
أقول : اعلم أن تسمية بعض ما ثبت من فعله صلى
الله عليه وسلم سنة وبعضه هيئة هو مجرد اصطلاح
لأهل علم الفروع وليس مثل ذلك حجة بل ما تقرر
ثبوته من فعله صلى الله عليه وسلم مع المدأومة
عليه فهو سنة وهكذا ما ثبت من قوله صلى الله
عليه وسلم مقترنا بقرينة تدل على عدم الوجوب
وهكذا ما خرج عن حديث "المسيء صلاته" فإن
النبي صلى الله عليه وسلم علمه صفة الصلاة
وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إلا ما
ورد بعد تعليم المسيء بدليل يدل على وجوبه
فإنه مقبول معمول به فلا يصرف حديث المسيء عن
الوجوب إلا ما كان من الأقوال والأفعال في
الصلاة ثابتا قبل تعليم المسيء.
إذا تقرر لك هذا علمت أن جعل بعض أفعال الصلاة
وأقوالها سنة يسجد فيها للسهو وبعضها هيئة لا
يسجد فيها للسهو لا ينبغي الالتفات إليه ولا
العمل به.
وقد سجد صلى الله عليه وسلم لذلك التشهد
الأوسط فكان ذلك دليلا للسجود لترك مسنون ولكن
قد
(1/167)
قدمنا لك أن
التشهد الأوسط مذكور في حديث المسيء فكان ذلك
دليلا على وجوبه فلا يتم هذا الاستدلال ولكن
يستدل على السجود بترك المسنون بحديث ثوبان
عند أبي دأود وابن ماجة [ابن ماجة "1219"، أبو
دأود "1038"، أحمد "5/280"]، قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لكل سهو سجدتان"
وقد قيل إن في إسناده انقطاعا لأنه مروي عن
طريق عبد الرحمن ابن جبير بن نفير عن ثوبان
ولم يدركه عبد الرحمن.
ويجاب عن هذا بأنه رواه أبو دأود من طريق شيخة
عمرو بن عثمان الحمصي عن عبد الرحمن بن جبير
بن نفير عن أبيه عن ثوبان فلا انقطاع.
وأما تضعيف الحديث بأن في إسناده إسماعيل بن
عياش فالمقال الذي فيه لا يوجب طرح حديثه.
ويؤيد هذا الحديث ما رواه البيهقي من حديث
عائشة بلفظ: "سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة
ونقصان".
وقد قدمنا أن السجود لترك مسنون لا يكون واجبا
لئلا يزيد الفرع على أصله فغايته أن يكون
مسنونا كأصله ولم يرد في ترك المسنون ما يدل
على وجوب سجود السهو له كما عرفت بل يختص
الوجوب بما ورد الأمر به كالأحاديث التي فيها:
"وليسجد سجدتين" وليس ذلك في ترك المسنون.
وأما إيجاب السجود لمن ترك المسنون عمدا فهو
عكس ما يدل عليه عنوان هذا الباب فإنه قال:
"باب سجود السهو"
وأما تعليلهم بأنه إذا وجب السجود للسهو
فوجوبه للعمد أولى فليس ذلك بشيء ها هنا فإن
مشروعية السجود قد عللها الشارع بأن في السجود
ترغيما للشيطان وأن السجدتين مرغمتان والمتروك
عمدا ليس من جهة الشيطان بل من جهة المصلى
نفسه.
قوله: "والثاني ترك فرض في موضعه سهوا".
أقول : يدل على هذا سجوده صلى الله عليه وسلم
على ركعتين كما في بعض الأحاديث وعلى ثلاث كما
في بعض أخرى وسجوده لما صلى خمسا وهي أحاديث
صحيحة وهي كلها تدل على وجوب السجود لمثل ذلك.
وأما قوله: "مع أدائه قبل التسليم على اليسار
ملغيا ما تخلل وإلا بطلت" فمردود بما صح عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال فصلى ما تركه
بتكبير وتسليم مع عدم الإلغاء لما كان قد صلاه
وهذا دليل أوضح من الشمس ثابت في حديث ذي
اليدين وغيره ولم يرد في هذه الشريعة ما يخالف
ذلك قط ولكن أبى كثير من المفرعين إلا ترجيح
رأيهم المعكوس واجتهادهم المنكوس بلا برهان.
وهكذا يصنع المتعمدون في إثبات الأحكام
الشرعية على الرأي دون الرواية وإنها لرزية في
الدين وفاقرة من فواقر المفرعين.
(1/168)
فإن قلت قد
تبين بفعله صلى الله عليه وسلم أن تارك الركعة
أو الركعتين يأتي بهما بعد تسليمه الذي وقع
منه سهوا فما حكم من ترك مثلا سجدة.
قلت حكمه أن يأتي بها قبل أن يسلم إن ذكرها
وإن لم يذكر إلا بعد التسليم كبر وسجد وسلم
اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم فيما تركه
والسجود هو جزء من الركعة وللجزء حكم الكل.
وما أبعد هذا من أذهان المقلدين وأنفر طبائعهم
عنه.
قوله: "ومن ترك القراءة أو الجهر أو الإسرار
أتى بركعة".
أقول : هذا رأي بحث ليس عليه أثارة من علم
والعجب ممن يتجارأ على إثبات مثل هذا ويكلف
الناس به ويزعم أنه الشرع الذي شرعه الله
ورسوله لعباده وهو يعلم أنه ليس في ذلك حرف
واحد من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح.
فإن قلت فمإذا لديك في مثل هذا؟.
قلت أما من ترك القراءة فقد قدمنا من الأدلة
الصحيحة الكثيرة ما يدل على أنه لا صلاة إلا
بفاتحة الكتاب بل قدمنا ما يدل على انه لا
ركعة إلا بفاتحة الكتاب وهذا الدليل يفيد أن
وجود تلك الصلاة التي لم يقرأ فيها المصلي
أصلا باطلة وجودها كعدمها.
وأما من ترك الجهر أو الإسرار فالأمر يسير ليس
هنا ما يوجب بطلان الصلاة وغايته على تقدير
ثبوت ما يدل على الوجوب أنه ترك واجبا وصلاته
صحيحة وعليه أن يسجد للسهو.
قوله: "الثالث زيادة ذكر جنسه مشروع فيها".
أقول : هذه دعوى مجردة بل شريعة متبوعة
فالصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما هي
التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" [مسلم
"537"]، فمن جاء بتسبيحة أو تسبيحات أو تكبيرة
أو تكبيرات في الموضع الذي شرع جنسها فيه فهو
زيادة في ثوابه ومضاعفة لحسناته وإن كرر ما لم
يشرع فيه إلا المرة الواحدة كتكبيرة النقل إذا
كبر عند الانتقال من ركن إلي ركن تكبيرتين أو
ثلاثا فقد خالف السنة بذلك ولا سجود عليه لعدم
الدليل على ذلك لا من قول ولا فعل.
وهكذا إذا سبح في موضع التشهد ونحو ذلك.
وأما الجمع بين سورتين أو سور في ركعة فقد
وردت به السنة من أنكر ذلك فهو الجاني على
نفسه بتركه لعلم السنة فإن قرأ في غير موضع
القراءة فقد ورد النهي عن القراءة في الركوع
والسجود ففاعل ذلك عمدا آثم ولا دليل يدل على
أنه يسجد من فعل ذلك للسهو لأنه متعمد وعلى
فرض أنه فعل ذلك سهوا وأن حديث: "لكل سهو
سجدتان" يشمله فلا يلحق به إلا فعل ما هو منهي
عنه في غير موضعه لا ما كان في موضعه وليس هذا
مراد المصنف.
وأما قوله: "إلا كثيرا في غير موضعه" فقد
قدمنا الكلام في الفعل الكثير فليرجع إليه.
وأما إيقاع التسليمتين في غير موضعهما فإن كان
سهوا فلا يفسد به ما تقدمهما من الصلاة لما
تقدم في حديث ذي اليدين وما ورد في معناه بل
صلاته قبل التسليم سهوا صحيحة ويقوم يأتي بما
فاته بتكبير مستأنف.
(1/169)
وأما كونه
خروجا من الصلاة فالأمر كذلك ولو كان سهوا
ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم فكبر وصلى
بهم ما بقي ولو لم يكن خروجا من الصلاة ما
استأنف النبي صلى الله عليه وسلم التكبير
للدخول في تأدية ما تركه.
وأما إذا سلم عمدا عالما بانه ترك ركعة أو
ركنا فق خرج من الصلاة قبل الفراغ منها متعمدا
ولم يرد البناء على ما قد فعله قبل التسليم
إلا في الناسي فقط فلا يلحق به المتعمد لوجود
الفارق بينهما.
قوله: "الرابع الفعل اليسير".
أقول : لم يرد في هذا شيء بل الوارد يخالفه
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في
صلاته أفعالا هي عند الفقهاء كثيرة فضلا عن أن
تكون يسيرة ثم كان لا يسجد سجود السهو فمن ذلك
صلاته على المنبر ونزوله منه للسجود ثم رجوعه
إليه ومن ذلك حمله أمامه في صلاته ثم وضعها
إذا سجد وردها إلي ظهره إذا رفع ثم أمره
للمصلي بأن يقاتل الحية وهو باق في صلاته ثم
حمله للحسن على ظهره ثم ما وقع منه من إدارة
من يقف عن يساره إلي يمينه ودفعه للرجلين
اللذين وقفا عن يمينه ويساره إلي خلفه وكذلك
اتقاؤه بيده وتأخره ولعنه للشيطان لما جاء له
في صلاته بسعفه من نار.
والحاصل أن هذا الباب إذا تتبع حصل منه الكثير
ولم يسجد في شيء من ذلك.
وأما ما أخرجه مسلم ["89/ 572"، وغيره
[البخاري""401"، أبو دأود "1020"]، من حديث
ابن مسعود قال: صلينا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإما زاد أو نقص علينا فقلنا: يا
رسول الله حدث في الصلاة شيء؟ قال: "لا" فقلنا
له الذي صنع فقال: "إذا زاد الرجل أو نقص
فليسجد سجدتين" فينبغي حمل هذه الزيادة أو
النقصان على الزيادة التي سجد لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهي زيادة الركعة الخامسة
وعلى النقصان الذي سجد له وهو التسليم على
ركعتين أو ثلاث أو ما يشابه ذلك لا لكل زيادة
أو نقص لأمرين أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم
لم يسجد في هذه الزيادة أو النقص في حديث ابن
مسعود بعد اأن نبهوه على ذلك الأمر.
الثاني: ما ذكرنا من الأحاديث التي وقعت منه
صلى الله عليه وسلم ولم يسجد لها.
قوله: "الخامس زيادة ركعة أو ركن سهوا".
أقول : هذا صحيح أما زيادة الركعة فلسجوده صلى
الله عليه وسلم لما صلى خمس ركعات وأما زيادة
الركن فلكونه جزءا من الركعة فيكون حكمه حكمها
ويجبر الجميع بسجود السهو.
[ فصل
لا حكم للشك بعد الفراغ فأما قبله ففي ركعة
يعيد المبتدىء ويتحرى المبتلى ومن لا يمكنه
يبني على الأقل ومن يمكنه ولم يفده في الحال
ظنا يعيد وأما في ركن
(1/170)
فكالمبتلي
ويكره الخروج فورا ممن يمكنه التحري قيل
والعادة تثمر الظن ويعمل بخبر العدل في الصحة
مطلقا وفي الفساد مع الشك ولا يعمل بظنه أو
شكه فيما يخالف إمامه وليعد متظنن تيقن
الزيادة ويكفي الظن في أداء الظني ومن العلم
في أبعاض لا يؤمن عود الشك فيها].
قوله: فصل : "ولا حكم للشك بعد الفراغ".
أقول : الأصل صحة الصلاة التي فرغ منها فلا
يعمل بما يعرض من الشكوك فإن الشك الاصطلاحي
الذي هو استواء الطرفين هو مجرد تردد والتردد
لا يمكن العمل بأحد طرفيه لأنه لا ترجيح
لأحدهما على الآخر وإذا لم يكن العمل بأحد
طرفيه فلا يحتاج فيه إلي أن يقال لا حكم له
لأنه ينفي حكم ما يمكن العمل به لا ما لا يمكن
العمل به من الأصل فإنه لم يثبت بحال حتى
ينفي.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا يجوز العمل
بالشك بمعنى إذا تردد في شيء ما كان لتردده
معنى وفائدة لا بعد الفراغ من الصلاة ولا قبل
الفراغ منها ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
في الأحاديث الصحيحة الأمر باطراح الشك
والبناء على اليقين وفي بعضها البناء على
الأقل وورد في بعضها الأمر بتحري الصواب
والجمع بين هذه الروايات ظاهر واضح وهو أن من
عرض له الشك إن أمكنه تحري الصواب وذلك بأن
ينظر في الأمور التي تفيده معرفة الصواب كان
ذلك واجبا عليه فإن لم يفده التحري وجب عليه
البناء على اليقين وهو البناء على الأقل ويجب
عليه السجود لمجرد عروض هذا الشك كما صرحت به
الأحاديث الصحيحة ولم يعد المصنف عروض الشك من
اسباب السجود مع أنه السبب الذي ثبت ثبوتا
أوضح من الشمس وذكر أسبابا قد قدمنا تزييف
أكثرها فما كان أحقه بذكر هذا السبب الصحيح.
وأما الفرق بين المبتدىء والمبتلي وبين الركعة
والركن فليس بشيء ولا يعول على مثله من له
دراية بالرواية والكل سواء في إيجاب تحري
الصواب عليهم أولا ثم البناء على اليقين الذي
هو الأقل ثانيا بعد اطراح الشك وعدم الالتفات
إليه وللركن حكم الركعة فإنه إذا وجب اطراح
الشك في الركعة كان وجوب اطراحه في الركن
ثابتا بفحوى الخطاب.
قوله: "ويكره الخروج فورا".
أقول : الأولى أن يقال ويحرم الخروج على كال
حال ووجه ذلك أن الشارع قد عرفه أنه يتحرى
الصواب فإن لم يفده التحري بنى على اليقين
والبناء على الأقل ممكن لكل أحد إذا كان صحيح
العقل لأنه إذا تردد هل صلى ثلاثا أو أربعا
أمكنه أن يبني على الثلاث.
ولو قدرنا أنه اختلط عليه الأمر حتى لم يدركم
صلى ولم يهتد إلي مقدار أصلا فعليه أن يبني
على أنه في الركعة الأولى لأنه قد صار مصليا
ولا أقل من ان يكون في الركعة الأولى وليس
عليه غير ذلك فإنه هو الذي أمر به الشارع من
البناء على اليقين والبناء على الأقل.
(1/171)
واطراح الشك
هذا إذا كان المصلي من جنس العقلاء فإن كان قد
انسلخ من العقل وصار مجنونا فقد رفع الله عنه
قلم التكليف في الصلاة وغيرها.
قوله: "قيل والعادة تثمر الظن".
أقول : هب أن العادة تثمر الظن فكان مإذا فإن
المقام مقام العمل باليقين ومقام البناء على
الأقل فليس لمجرد الظن ها هنا فائدة يستد بها
ولا يجوز العمل به فيما نحن بصدده وهكذا العمل
بخبر العدل إن لم يحصل به اليقين الذي أمر به
الشارع فلا اعتبار به ويغني عنه البناء على
الأقل وهو ممكن كل عاقل.
قوله: "ولا يعمل بظنه أو بشكه فيما يخالف
إمامه".
أقول : هذا صواب ولو قال المصنف رحمه الله في
هذا الفصل ولا يعمل بالظن والشك مطلقا أي قبل
الفراغ من الصلاة وبعده وفي صلاته منفردا أو
مع الإمام لكان ذلك صوابا مغنيا عن جميع ما في
هذا الفصل على مقتضى ما هو الحق كما عرفناك.
قوله: "ولبعد متظنن تيقن الزيادة".
أقول : الذي تقتضيه الأدلة أنه إذا تيقن
الزيادة عمل على اليقين كما تيقن أنه صلى خمسا
وليس عليه إلا سجود السهو كما فعله صلى الله
عليه وسلم لما اخبروه أنه صلى خمسا فإنه سجد
للسهو فقط ولم يعد الصلاة ولا أمرهم بالإعادة
ولا اعتبار بكونه زاد تلك الزيادة متظننا فإنه
لا عمل بالظن في مثل هذا ولا تأثير له على أن
من صلى الخامسة لا بد له من حامل على ذلك من
جهة نفسه وأقل ما يحمله على ذلك ما يحصل له من
الظن أنها أربعة مثلا وقد عرفنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأنه ليس عليه إلا سجود السهو.
قوله: "ويكفي الظن في أداء الظني".
أقول : جاء بهذه القاعدة الكلية وهي غير
مقبولة لأن الحكم الشرعي الثابت بدليل ظني قد
كلف به من وجب عليه وثبت في ذمته يقينا وإن
كان دليله ظنيا فكيف يكفي ظن المكلف في تأدية
ما هو ثابت عليه بيقين وأين هذا الظن من ظنية
دلالة الدليل على وجوب الحكم مع تعلقه بالمكلف
بيقين.
وإذا تقرر لك هذا في الظن فهو فيما هو أعلى
منه أولى.
[ فصل
"وهو سجدتان بعد كمال التسليم حيث ذكر أداء أو
قضاء إن ترك وفروضهما النية للجبران والتكبيرة
والسجود والاعتدال والتسليم وسننهما تكبير
النفل وتسبيح السجود والتشهد.
(1/172)
ويجب على
المؤتم لسهو الإمام أولا ثم لسهو نفسه قيل
المخالف إن كان ولا يتعدد لتعدد السهو إلا
لتعدد أئمة سهوا قبل الاستخلاف وهو في النفل
ولا سهو لسهو ويستحب سجوده بنية وتكبيرة لا
تسليم أحدها شكرا واستغفارا ولتلأوة الخمس
عشرة آية أو لسماعها وهو بصفة المصلي غير مصل
فرضا إلا بعد الفراغ ولا تكرار للتكرار في
المجلس"].
قوله: فصل : "وهو سجدتان بعد التسليم".
أقول: هذه المسألة قد طال فيها الخلاف وقد
استوفيت الكلام في المذاهب وما استدل به لكل
مذهب في شرح المنتقى وذكرت فيها ثمانية مذاهب
ولاح لي ما ينبغي أن يعد مذهبا تاسعا وهو أنه
يسجد لما سجد له رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبل السلام كذلك ولما سجد له بعد السلام كذلك
وللسهو الخارج عن المواضع التي سجد فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم يكون المصلي مخيرا إن
شاء سجد قبل السلام وإن شاء بعده لأن الكل قد
ثبت وهذا قول حسن وجمع جامع بين الأدلة.
وأما قوله: "حيث ذكر أداء أو قضاء إن ترك عمدا
فالناسي يسجد عند الذكر ويكون أداء وإن خرج
وقت الصلاة التي سها فيها".
ولا وجه لتقييده بالعمد فلا فرق بين العمد
والسهو.
وإن كان التارك عمدا قد أثم بالتراخي عن تأدية
ما يجب عليه.
قوله: "وفروضهما النية للجبران".
أقول : قد قدمنا أن في الأدلة الدالة على
النية ما يفيد أنها شرط يؤثر عدمها في عدم
المشروط وأما كونها للجبران فلكونه قد لحق
الصلاة بالنقص منها أو الزيادة فيها ما هو نقص
ولهذا وجب سجود السهو فلا وجه لما قيل أن
الزيادة ليست بنقص فتجبر.
وأما فرضية التكبير فلما تقدم لأن سجود السهو
قد صار كالصلاة المستقلة لتحريمه بالتكبير
وتحليله بالتسليم.
وأما فرضية السجدتين فلكونهما هما والاعتدال
أركانا لسجود السهو.
وأما فرضية التسليم فلما تقدم في تسليم
الصلاة.
وأما كون تكبير النقل وتسبيح السجود سنة
فلكونهما في الصلاة كذلك.
وأما جعل التشهد سنة فلا وجه له بل حكمه حكم
تشهد الصلاة وقد تقدم الكلام في ذلك في صفة
الصلاة لكنه إذا كان السجود قبل التسليم فلا
تشهد بل يغني عنه تشهد الصلاة وهكذا يكفي
السلام الواحد تحليلا لصلاة الفريضة ولسجود
السهو لأنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه
وسلم سلم تسليمتين ولا تشهد تشهدين فيما سجد
له قبل التسليم وأما ما سجد له بعد التسليم من
الصلاة فلا بد من التشهد والتسليم.
وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم تشهد في سجود
السهو فأخرج أبو دأود ["1039"]، والترمذي
["395"]،
(1/173)
والترمذي وابن
حبان والحاكم عن عمران بن حصين أن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم
تشهد ثم سلم قال الترمذي حسن غريب صحيح وقال
الحاكم صحيح على شرط الشيخين
وقد ورد في التشهد في سجود السهو غير هذا
الحديث وهو ما أخرجه أبو دأود ["1028"]،
والنسائي عن ابن مسعود وأخرجه البيهقي عن
المغيرة وفي إسنادهما ضعف ولكن الحديث الأول
على انفراده تقوم به الحجة.
قوله: "ويجب على المؤتم لسهو الإمام أولا".
أقول : هذا صحيح لورود الأمر بمتابعة الإمام
وإن كان نقص صلاته لا يسري إلي صلاة المؤتم
لما تقدم في الحديث الصحيح "أنه إذا أصاب فله
وللمؤتمين وإن أخطأ فعليه لا عليهم"
وأما إيجاب السجود على المؤتم لما عرض له من
السهو في صلاته فذلك صواب لأن أدلة سجود السهو
تتنأوله ولم يرد ما يدل على ان مجرد سجوده مع
الإمام لسهو الإمام يسقط عنه السجود لسهو
نفسه.
والحاصل أنه إذا كان سهو الإمام في فعل أو ترك
قد تابعه المؤتم في ذلك الفعل أو الترك سهوا
فسجوده مع الإمام يكفي وإن كان قد وقع منه سهو
غير سهو الإمام فعليه أن يسجد له لدخوله بهذا
السجود في جملة الأدلة الواردة في سجود السهو.
فقول المصنف قيل المخالف إن كان هو أصوب من
قول القائل إنه يسجد مطلقا.
قوله: "ولا يتعدد بتعدد السهو".
أقول : أحسن ما يستدل به لهذا أنه لم ينقل عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من
أصحابه أنهم كرروا السجود لتكرر السهو مع أن
تكرر السهو ممكن من كل مصل وأما الاستدلال على
عدم التعدد بأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم
على ركعتين وتكلم وسلم.
ففيه أن الكلام وقع بعد الخروج من الصلاة
بالتسليم ثم التسليم هو الذي تبين به أنه وقع
السهو فإن قيل إنه في حكم المصلي لبنائه على
ما قد فعل فيجاب عنه أنه لو كان ذلك صحيحا
لكان للكلام الواقع منه في تلك الحالة حكم
الكلام الواقع قبل الخروج من الصلاة.
وأما قوله: "إلا لتعدد أئمة سهوا قبل
الاستخلاف" فلا وجه له لأن الصلاة واحدة
والأئمة المتعددون كالإمام الواحد فكما لا
يتعدد السجود لسهو الإمام الواحد كذلك لا
يتعدد لتعدد سهو الأئمة وسهوهم بعد الاستخلاف
يخصهم لأنهم لم يكونوا أئمة في حال السهو.
قوله: "وهو في النفل نفل".
أقول : قد اختلف أهل الأصول في لفظ الصلاة إذا
لم يقيد هل إطلاق الصلاة على الفريضة والنافلة
من باب الاشتراك اللفظي أو المعنوي وإلي
الثاني ذهب جمهورهم وإلي الأول ذهب الرازي
والظاهر الأول فتكون الأحاديث التي ذكر فيها
السجود لمن سها في صلاته شاملة للفريضة
والنافلة ويكون عدم وجوب النافلة صارفا لما
تدل عليه الأحاديث من الوجوب فلا يرد الاشكال
الذي أورده الجلال.
(1/174)
قوله: "ولا سهو
لسهوه"
أقول : سجود السهو قد قدمنا أنه صار كالصلاة
المستقلة لوجود خاصيتها فيه وهو كون تحريمهه
التكبير وتحليله التسليم.
وقد اتفق الجميع أنه يبطل بمبطلات الصلاة
كالحدث ونحوه فلو صح ما قالوه من لزوم التسلسل
لكان الحدث غير مبطل له.
وإذا عرفت هذا فالسهو فيه كالسهو في الصلاة
بشمول أحاديث السهو له لأنه صلاة.
وأما ما قاله بعض أئمة النحو من أن المصغر لا
يصغر فهو بمعزل عن علم الفقه في الدين.
قوله: "ويستحب سجود بنية وتكبيرة لا تسليم
أحدها شكرا".
أقول : قد وردت أحاديث كثيرة بعضها صحيح
وبعضها حسن وبعضها فيه ضعف ومجموعها مما تقوم
به الحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد
سجود شكر في مواضع ولم يرد في ذلك غير فعله
صلى الله عليه وسلم فلم يكن واجبا ولم يرد في
الأحاديث غير فعله صلى الله عليه وسلم للسجود
ولم يرد أنه كبر ولا أنه سلم فالمشروعية تتم
بمجرد فعل السجود.
فإن قلت لم يرد في الأحاديث ما كان يقوله صلى
الله عليه وسلم في سجود الشكر فمإذا يقول
الساجد للشكر.
قلت ينبغي أن يستكثر من شكر الله عز وجل لأن
السجود سجود الشكر.
فإن قلت نعم الله على عباده لا تزال واردة
عليه في كل لحظة؟
قلت المراد النعم المتجددة التي يمكن وصولها
إلي العبد ويمكن عدم وصولها ولهذا أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يسجد إلا عند تجدد تلك
النعم مع استمرار نعم الله سبحانه وتعالي عليه
وتجددها في كل وقت.
قوله: "واستغفارا"
أقول : لم يرد في هذا شيء وليس في حديث ابن
عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص"
وقال: "سجدها دأود توبة ونسجدها شكرا"
[النسائي "957"]، ما يدل على مشروعية السجود
للاستغفار لأن ذلك هو بيان لمشروعية سجدة
التلأوة في صلي الله عليه وسلم وأن دأود عليه
السلام فعلها للتوبة ولم يفعلها النبي صلى
الله عليه وسلم للتوبة بل قال: "ونسجدها شكرا"
فلم يقرر النبي صلى الله عليه وسلم سجود
التوبة من دأود بل خالفه فليس ذلك من شرع من
قبلنا كما زعمه البعض لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يقرره وغاية ما في الحديث أنه يحسن
السجود في صلي الله عليه وسلم شكرا عند تلأوة
الآية أو سماعها.
ولكنه قد ورد أن السجود هو مقام القرب من الرب
سبحانه كما في الحديث الصحيح "أقرب ما يكون
العبد من ربه وهو ساجد" [مسلم "482"]، فمن قصد
إيقاع دعائه في هذا المقام أو استغفاره فقد
وفق للصواب وتعرض لنفحات الرحمن في المقام
الذي أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه
وسلم أن العبد أقرب إلي ربه فيه من سائر
المقامات التي يكون العبد عليها كالقيام
والقعود والاضطجاع فمن فعل السجود عند دعائه
قاصدا به هذا المقصد مريدا به هذه الأرادة
فنعم ما فعل.
(1/175)
قوله: "ولتلاوة
الخمس عشرة آية".
أقول : سجود التلأوة سنة ثابتة وشريعة قائمة
حتى ذهب أبو حنيفة ومن تابعه إلي وجوبه
والأحاديث في ذلك كثيرة.
وأما اشتراط أن يكون الساجد بصفة المصلي فليس
على ذلك دليل ولا حجة فيما يروي عن بعض
الصحابة.
وأما قول المصنف غير مصل فرضا فدفع في وجه
الدليل الصحيح ورد للسنة الثابتة ولو لم يكن
من ذلك إلا ما في الصحيحين [البخاري "766"،
،"1074"، مسلم "578"، وغيرهما أبو دأود
"1408"، النسائي "2/162": أن النبي صلى الله
عليه وسلم سجد في الصلاة لما قرأ {إذا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الإنشقاق: 1].
قوله: "ولا تكرار للتكرار في المجلس".
أقول : هذا التكرار لنفس الآية التي وقع
السجود عند قراءتها إن كان من القارىء الذي
قرأها أولا لا لفرض بل لما فرغ من السجود لها
ابتدأ بها فلا سجود وإن كان من قارىء آخر أو
من هذا القارىء نفسه لا لقصد التكرار كأن يقرأ
سورة الانشقاق في جملة ما يتلوه ثم يقوم فيصلي
بها فلا وجه لإسقاط السجود.
(1/176)
[
باب والقضاء
يجب على من ترك إحدى الخمس أو ما لا يتم إلا
به قطعا أو في مذهبه عالما في حال تضيق عليه
فيه الأداء غالبا.
وصلاة العيد في ثانيه فقط إلي الزوال إن تركت
للبس فقط.
ويقضي كما فات قصرا وجهرا وعكسهما وإن تغير
اجتهاده لا من قعود وقد أمكنه القيام والمعذور
كيف أمكن وفوره مع كل فرض فرض.
ولا يجب الترتيب ولا بين المقضيات ولا
التعيين.
وللإمام قتل المتعمد بعد استتابته ثلاثا
فأبى].
قوله: "باب: والقضاء على من ترك إحدى الخمس".
أقول : لفظ الترك يشمل الترك عمدا والترك سهوا
أو نسيانا أو لنوم والأدلة الثابتة عنه صلى
الله عليه وسلم لم ترد إلا في السهو والنسيان
والنوم وقال صلى الله عليه وسلم فيها: "فوقتها
حين يذكرها لا وقت لها إلا ذلك" وهذا يفيد أن
ذلك وقتها أداء.
(1/176)
إذا لا قضاء
فتكون هذه الأحاديث مخصصة لما ورد من توقيت
الصلاة وتعيين أوقاتها ابتداء وانتهاء فيقال
إلا الصلاة التي نام عنها المصلي أو سها عنها
فإن فعلها عند الذكر هو وقت أدائها ولو بعد
خروج الوقت المضروب لتلك الصلاة.
وأما العمد فلا تشمله هذه الأحاديث الواردة في
النوم والسهو والنسيان ولا يدخل تحتها ولا يصح
قول من قال إنه ثبت القضاء مع السهو والنسيان
والنوم ثبت مع العمد بفحوى الخطاب لأنا نقول
ليس تأدية الصلاة التي نام عنها أو نسيها من
باب القضاء بل من باب الأداء فلا يتم القياس
من هذه الحيثية.
ثم لا نسلم أن ذلك أولى لأن التارك عمدا قد
أثم بالترك بالإجماع فإيجاب القضاء عليه لا
يرفع عنه هذا الإثم.
فإن قلت قد زعم قوم كدأود الظاهري وابن حزم
وابن تيمية ومن تابعهم أنه لا قضاء في العمد
وأنه لم يرد بذلك دليل فهل هذا صحيح؟
قلت نعم لم يرد في قضاء الصلاة المتروكة عمدا
دليل يدل على وجوب القضاء على الخصوص ولكنه
وقع في حديث الخثعمية الثابت في الصحيح
[البخاري"1513، 1854، 1855، 4399، 6228"، مسلم
"1334، 1335"، أبو دأود "1809"، النسائي
"2635، 2641"، الترمذي "928"، ابن ماجة
"2909"]، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لها: "دين الله أحق أن يقضى" والتارك للصلاة
عمدا قد تعلق به بسبب هذا الترك دين الله وهو
أحق بأن يقضيه هذا التارك.
وأما قول من قال إن دليل القضاء هو دليل
الأداء فليس ذلك إلا مجرد دعوى ادعاها بعض أهل
الأصول.
وما ذكره المصنف رحمه الله من أن ترك ما لا
يتم الصلاة إلا به كتركها وذلك كترك شرط من
شروط صحتها أو نحو ذلك فهذا مسلم.
وأما قوله: "أو في مذهبه عالما" فهذا وإن قبله
المقلدون فلا بد أن يكون ذلك المتروك مما
يستلزم بطلان الصلاة شرعا وإلا فلا اعتبار
بالأقوال المخالفة للحق وإن قال بها من قال.
وأما اعتبار أن يكون الترك في حال تضيق عليه
فيه الأداء فذلك لإخراج من لا وجوب عليه
كالمجنون والحائض وقد أخرج النائم والساهي
والناسي بقوله غالبا.
قوله: "وصلاة العيد في ثانيه فقط".
أقول : هذا قد دل عليه الحديث الصحيح الذي
أخرجه أحمد ["9/265"، بوأبو دأود ["1157"،
والنسائي ["1557"، وابن ماجه ["1653"]، وابن
حبان عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من
الأنصار قالوا: غم علينا هلال شوال فأصبحنا
صيأما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال
بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن
يخرجوا لعيدهم من الغد، وصححه ابن حبان وابن
المنذر وابن السكن وابن حزم والخطأبي وابن حجر
في بلوغ المرام.
(1/177)
فهذا فيه
التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن
يفطروا وأمرهم بالخروج لعيدهم من الغد والناس
هم الموجودون إذ ذاك في المدينة وقد كان ترك
الإفطار في ذلك لكون الهلال قد غم على أهل
المدينة مع كون ذلك الوقت مظنة لظهوره فكان
الترك من هذه الحيثية للبس عرض لهم في ذلك
اليوم ثم تبين لهم الصواب.
وبهذا يندفع ما وقع الاعتراض به على المصنف.
وأما كون القاضي يقضي كما فات فذلك ظاهر ولكنه
إذا تغير اجتهاد المجتهد قبل فعله للقضاء كان
العمل على اجتهاده الآخر لا كما قال المصنف
لأنه إنما انتقل عن الاجتهاد الأول لدليل قد
ظهر له يجب العمل عليه ولم يكن قد فعل القضاء.
وأما قوله لا من قعود وقد أمكنه القيام فصحيح
لأنه قد صار قادرا على القيام قبل القضاء فوجب
عليه أن يقوم لزوال عذره ومع بقاء العذر يفعل
ما بلغته استطاعته.
قوله: "وفوره مع كل فرض فرض".
أقول : هذه دعوى مجردة بل فوره أن يفعل ما
يقدر عليه وهو يقدر على أن يأتي بصلاة الأيام
المتعددة في بعض يوم.
قوله: "ولا يجب الترتيب ولا بين المقضيات".
أقول : يريد أنه لا يجب الترتيب بين المقضية
والمؤداة ولا بين المقضيات نفسها لأن الجمع قد
تعلق بمن عليه القضاء ولا دليل يدل على خلاف
هذا حتى يتعين المصير إليه وأما من ترك الصلاة
لنوم أو نسيان فقد عرفناك أن فعلها في وقت
الذكر هو أداء لا قضاء.
قوله: "وللإمام قتل المتعمد" الخ.
أقول : قد دل على هذا كتاب الله عز وجل قال
الله سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وصح عنه صلى الله
عليه وسلم في الصحيحين [البخاري"25"، مسلم
"36/22"]، وغيرهما من طرق "أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا
الصلاة" الحديث.
وصح عنه في الصحيحين [البخاري "4094"، مسلم
"1064"]، وغيرهما [أحمد "3/4"] أن خالد بن
الوليد قال له في الرجل الذي قال للنبي صلى
الله عليه وسلم يا رسول الله اتق الله ......,
يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال صلى الله
عليه وسلم: "لا لعله يصلي".
وصح في صحيح مسلم ["134/82"]، وغيره أبو دأود
"4678"، الترمذي "2618"، ابن ماجة "1078"،
أحمد "3/370، 389"]، من حديث جابر قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل
وبين الكفر ترك الصلاة".
وثبت عند أحمد ["5/346"]، وأهل السنن [الترمذي
"2621"، ابن ماجة "1079"]، من حديث بريدة قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها
فقد كفر"، وصححه النسائي والعراقي وأخرجه ابن
حبان والحاكم.
(1/178)
وثبت إجماع
الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة
وهي عديلة الصلاة بل الصلاة أدخل في الركنية
للإسلام منها.
فالحاصل أن تارك الصلاة عمدا كافر يستحق القتل
ويجب على إمام المسلمين قتله لا كما قال
المصنف وللإمام قتل المتعمد فيقال له صل فإن
أبى قتل ولا وجه لتأخيره عن القتل ثلاثة ايام
بل مجرد امتناعه يقتل.
[ فصل
ويتحرى في ملتبس الحصر ومن جهل فائتته فثنائية
وثلاثية ورباعية يجهر في ركعة ويسر في أخرى.
وندب قضاء المؤكدة].
قوله: "فصل ويتحرى في ملتبس الحصر" الخ.
أقول : إذا تيقن انها فاتته إحدى الصلوات
الخمس والتبس أيها الفائتة ولم يفده التحري
فلا تحصل له البراءة إلا بفعل الخمس الصلوات
جميعها يقول في كل واحدة إن كانت هي فقضاء
وإلا فنافلة وصحت النية المشروطة هنا للضرورة
وتوقف البراءة عليها.
قوله: "وندب قضاء المؤكدة".
أقول : ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنها فاتته
الركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر وثبت
عنه أنه أمر من فاته وتره بالليل أن يقضيه
بالنهار وثبت عنه فيمن فاته ورده بالليل أن
يقضيه بالنهار وهذا إذا لم يترك تلك النافلة
المؤكدة لغرض المرض أو نحوه.
أما إذا تركها لذلك فقد ورد أن الله يكتب له
ثوابها.
(1/179)
[
باب صلاة الجمعة
تجب على كل مكلف ذكر حر مسلم صحيح نازل في
موضع إقامتها أو يسمع نداءها وتجزىء ضدهم وبهم
غالبا.
وشروطها اختيار الظهر وإمام عادل غير مأيوس
وتوليته في ولايته أو الاعتزاء إليه في غيرها
وثلاثة مع مقيمها ممن تجزئه ومسجد في مستوطن
وخطبتان قبلها مع عددها
(1/179)
متطهرين من عدل
متطهر مستدبر للقبلة مواجها لهم اشتملتا ولو
بالفارسية على حمد الله تعالي والصلاة على
النبي وآله وجوبا.
وندب في الأولى الوعظ وسورة وفي الثانية
الدعاء لإمام صريحا أو كناية ثم للمسلمين
وفيهما القيام والفصل بقعود أو سكتة ولا يتعدى
ثالثة المنبر إلا لبعد سامع والاعتماد على سيف
أو نحوه والتسليم قبل الإذان والمأثور قبلهما
وبعدهما وفي اليوم ويحرم الكلام حالهما.
فإن مات أو أحدث فيهما استأنفتا ويجوز أن يصلي
غيره].
قوله: "تجب على كل مكلف".
أقول : الأدلة المصرحة بأنها حق واجب على كل
مسلم وبأنها واجبة على كل محتلم وبالوعيد
الشديد على تاركها وبهمه صلى الله عليه وسلم
بإحراق المتخلفين عنها يقتضي أنها واجبة على
الأعيان.
وأما ما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم قد هم
بإحراق المتخلفين عن الجماعة ولم يثبت بذلك
وجوبها على الأعيان فنقول قد ورد الصارف في
صلاة الجماعة وهي الأدلة القاضية بصحة صلاة
الفرادى ولم يرد في صلاة الجمعة ما يصرف ذلك.
وأما ما قيل من أن مسجده صلى الله عليه وسلم
كان يضيق عن أن يصلي فيه جميع أهل المدينة
فهذه الدعوى من ضيق العطن أما أولا فالأدلة
إذا قضت بالوجوب على الأعيان فلا يصرفها مثل
هذا وأما ثانيا فإقامتها خارجة ممكنة وأما
ثالثا فقد ورد أن الجمعة كانت تقام في غير
مسجده صلى الله عليه وسلم.
ثم ليس بعد الأمر القرآني المتنأول لكل فرد من
قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إلي ذِكْرِ اللَّهِ}
[الجمعة: 9]، حجة بينة واضحة.
وزحلقة دلالة هذه الآية عن الوجوب العيني تعصب
يأباه الإنصاف.
وأما استثناء من استثناه المصنف فيدل على ذلك
ما أخرجه أبو دأود من حديث طارق ابن شهاب أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة حق
واجب على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو
امرأة أو صبي أو مريض"، وقد وقد صححه غير واحد
من الأئمة.
وما قيل من أن طارق بن شهاب لم يسمع من النبي
صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه قد لقي النبي
صلى الله عليه وسلم قال العراقي فإذا قد ثبتت
صحبته فالحديث صحيح وغايته أن يكون مرسل صحأبي
وهو حجة عند الجمهور إنما خالف فيه أبو إسحق
الإسفراييني على أنه قد اندفع الإعلال
بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي
موسى.
ويؤيده ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث
جابر بلفظ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فعليه الجمعة إلا امرأة أو مسافرا أو عبدا أو
مريضا" وفي إسناده ضعف.
وفي الباب عند الطبراني في الأوسط وعن مولى
لآل الزبير عند البيهقي وعن أم عطية عند
(1/180)
ابن خزيمة وعن
أبي هريرة ذكره صاحب مجمع الزوائد وصاخب
التلخيص وفيه ضعف وعن تميم الداري عند العقلي
والحاكم وفي إسناده ضعف.
وأما إيجاب الجمعة على المسافر إذا كان نازلا
في الموضع الذي تقام فيه الجمعة أو يسمع
النداء لها فهو تخصيص لقوله في الحديث: "أو
مسافرا" بغير مخصص.
وأما قوله: "وتجزىء ضدهم" فصواب لأن مجرد
الترخيص لهؤلاء لا يدل على عدم صحة الجمعة
منهم إذ الرخصة ما خير المكلف بين فعله وتركه
مع بقاء سبب الوجوب والتحريم كما تقرر في
الأصول وهكذا قوله وتجزىء بهم لأن صلاتهم
صحيحة.
قوله: "وشروطها اختيار الظهر".
أقول : قد جعل المصنف الوقت هنا شرطا كما جعله
في أول كتاب الصلاة وقد قدمنا الكلام على ذلك
هنالك فلا نعيده.
واعلم أن الأحاديث الصحيحة قد اشتمل بعضها على
التصريح بإيقاع صلاة الجمعة وقت الزوال كحديث
سلمة بن الأكوع في الصحيحين [البخاري "4168"،
مسلم "860"]، وغيرهما [أبو دأود "1085"،
النسائي "1391"، ابن ماجة "1100"]، قال كنا
نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
زالت الشمس وبعضها فيه التصريح بإيقاعها قبل
الزوال كما في حديث جابر عند مسلم ["29/858"]،
وغيره [أحمد "6/38‘ 39"]، أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلي
جمالهم فيريحونها حين تزول الشمس وبعضها محتمل
لإيقاع الصلاة قبل الزوال وحاله كما في حديث
سهل بن سعد في الصحيحين [البخاري "2/427"،
مسلم "30/859"]، وغيرهما [أحمد "5/336"، أبو
دأود "1086"، الترمذي "525"، ابن ماجة
"1099"]، قال ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد
الجمعة وكما في حديث أنس عند البخاري وغيره
قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم
الجمعة ثم نرجع إلي القائلة فنقيل.
ومجموع هذه الأحاديث يدل على أن وقت صلاة
الجمعة حال الزوال وقبله ولا موجب لتأويل
بعضها.
وقد وقع من جماعة من الصحابة التجميع قبل
الزوال كما أوضحناه في شرح المنتقي وذلك يدل
على تقرير الأمر لديهم وثبوته.
قوله: "وإمام عادل" الخ.
أقول : ليس على هذا الاشتراط أثارة من علم بل
لم يصح ما يروى في ذلك عن بعض السلف فضلا عن
أن يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم
ومن طول المقال في هذا المقام فلم يأت بطائل
قط ولا يستحق ما لا أصل له أن نشتغل برده بل
يكفي فيه أن يقال هذا كلام ليس من الشريعة وكل
ما ليس هو منها فهو رد أي مردود على قائله
مضروب في وجهه.
قوله: "وثلاثة مع مقيمها".
أقول : هذا الاشتراط لهذا العدد لا دليل عليه
قط وهكذا اشتراط ما فوقه من الأعداد.
(1/181)
وأما الاستدلال
بأن الجمعة أقيمت في وقت كذا وعدد من حضرها
كذا فهذا استدلال باطل لا يتمسك به من يعرف
كيفية الاستدلال ولو كان هذا صحيحا لكان
اجتماع المسلمين معه صلى الله عليه وسلم في
سائر الصلوات دليلا على اشتراط العدد.
والحاصل أن صلاة الجماعة قد صحت بواحد مع
الإمام وصلاة الجمعة هي صلاة من الصلوات فمن
اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة
فعليه الدليل ولا دليل وقد عرفناك غير مرة أن
الشروط إنما تثبت بأدلة خاصة تدل على انعدام
المشروط عند انعدام شرطه فإثبات مثل هذه
الشروط بما ليس بدليل أصلا فضلا عن أن يكون
دليلا على الشرطية مجازفة بالغة وجرأة على
التقول على الله وعلى رسوله وعلى شريعته
والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد حتى
بلغت إلي خمسة عشر قولا وليس على شيء منها
دليل يستدل به قط إلا قول من قال إنها تنعقد
جماعة الجمعة بما تنعقد به سائر الجماعات.
قوله: "ومسجد في مستوطن".
أقول : وهذا الشرط أيضا لم يدل عليه دليل يصلح
للتمسك به لمجرد الاستحباب فضلا عن الشرطية
ولقد كثر التلاعب بهذه العبادة وبلغ إلي حد
تقضي منه العجب.
والحق أن هذه الجمعة فريضة من فرائض الله
سبحانه وشعار من شعارات الإسلام وصلاة من
الصلوات فمن زعم أنه يعتبر فيها ما لا يعتبر
في غيرها من الصلوات لم يسمع منه ذلك إلا
بدليل وقد تخصصت بالخطبة وليست الخطبة إلا
مجرد موعظة يتواعظ بها عباد الله فإذا لم يكن
في المكان إلا رجلان قام أحدهما يخطب واستمع
له الآخر ثم قأما فصليا صلاة الجمعة.
ولقد تضرب الجلال في هذه الشروط تضربا يأباه
الإنصاف بل يأباه التحقيق ومال مع الخوارج في
بعضها كما جرت عادته بالقيام في المواطن
المبتدعة والأقوال المخترعة.
قوله: "وخطبتان قبلها" الخ.
أقول : قد ثبت ثبوتا متواترا يفيد القطع بأن
النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الخطبة في
صلاة الجمعة قط فالجمعة التي شرعها الله
سبحانه هي صلاة الركعتين مع الخطبة قبلها وقد
أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إلي
ذكر الله والخطبة من ذكر الله إذا لم تكن هي
المرادة بالذكر فالخطبة فريضة.
وأما كونها شرطا من شروط الجمعة فلا.
وأما قوله: "مع عددها" فقد عرفت ما فيه وهكذا
اشتراط طهارتهم وطهارة الخطيب فليس على ذلك
دليل بل يصح أن يخطب وهو محدث وهم محدثون ثم
يقوم ويقومون فيتطهرون ويصلون صلاة الجمعة.
وهكذا اشتراط عدالة الخطيب لا دليل عليه وأما
استدبار الخطيب للقبلة واستقباله للحاضرين
فهذه هيئة حسنة كان يفعلها رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويفعلها من بعده من الخلفاء
الراشدين ومن بعدهم ولكن لا دليل يدل على
الوجوب فإن تأدية الذكر المأمور بالسعي إليه
ممكنة بدون ذلك.
(1/182)
وأما اشتمال
الخطبة على حمد الله والصلاة على رسوله فهكذا
كانت خطبته صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا
استفتاحا للخطبة المقصودة ومقدمة من مقدماتها
والمقصود بالذات هو الوعظ والتذكير وهو الذي
يساق إليه الحديث ولأجله شرع الله هذه الخطبة
ولم يشرعها لمجرد الحمد لله والصلاة على رسوله
فجعل المصنف للوعظ مندوبا وللحمد والصلاة على
رسول الله واجبا ليس كما ينبغي وكان عليه أن
يضم إلي الحمد والصلاة الشهادتين فإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لازمهما في خطبته كما
لازم الحمد وغيره فلا وجه لإيجاب بعض ما لازمه
رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بعض فإن ذلك
تحكم لا ينبغي من منصف وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتلو شيئا من القرآن وقد يأتي
في خطبته بسورة كاملة والمقصود الموعظة
بالقرآن وإيراد ما يمكن من زواجره وذلك لا
يختص بسورة كاملة.
والحاصل أن روح الخطبة هو الموعظة الحسنة من
قرآن أو غيره وقد خلط المصنف خلطا عظيما
بإيجابه للبعض وإهماله للبعض والقول بندبية
البعض وكان عليه أن يثبت لما ثبت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حكما واحدا وإذا أراد
تخصيص البعض بحكم آكد من غيره فليجعل ما هو
المقصود والمراد من الخطبة وهو الوعظ آكد من
غيره وأدخل في المشروعية.
والقيام في الخطبتين مع القعود بينهما هو
الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف
ذلك بدعة
والسكتة مع عدم القعود لم تثبت ولا فعلها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون
بل كانوا يقعدون بين الخطبتين.
وأما قوله: "ولا يتعدى ثالثة المنبر إلا لبعد
سامع" فلم يرد في هذا شيء فذكره في مندوبات
الخطبة لا وجه له
وأما الاعتماد على سيف أو نحوه فقد روي ذلك عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عنه أيضا
التسليم على الحاضرين قبل الشروع في الخطبة من
طرق يقوي بعضها بعضا.
قوله: "وندب المأثور قبلهما وبعدهما وفي
اليوم".
أقول : قد اشتملت السنة المطهرة على ذلك فمن
جملة ما اشتملت عليه الإتيان إلي الجمعة
بالسكينة والوقار وعدم تخطي الرقاب وترك
الجلوس في مجلس قد سبق إليه سابق والتطيب بعد
الاغتسال وصلاة ركعتي التحية ولو في حال
الخطبة وصلاة اربع ركعات بعد الفراغ من الصلاة
والتكبير إلي الجمعة وترك الاحتباء حال الخطبة
وترك العبث بالحصى والتحول من المحل الذي نعس
فيه إلي غيره.
ومن المشروعات في اليوم الاستكثار من الدعاء
لأن فيه الساعة التي لا يرد فيها الدعاء
والاستكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
قوله: "ويحرم الكلام حالهما".
أقول : هذا هو مقتضى الأدلة كحديث أبي هريرة
في الصحيحين [البخاري "394"، مسلم "851"]،
وغيرهما [أبو دأود "1112"، الترمذي "511"،
النسائي 3/104"، ابن ماجة "1110"]، أن
(1/183)
النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة
أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"، وأخرج هذا
الحديث أحمد ["6/62"، وأبو دأود "1051"]، وأبو
دأود من حديث علي وزاد فيه "ومن لغا فلا جمعة
له" وفي إسناده رجل مجهول ولكنه قد أخرج معنى
هذه الزيادة أحمد ["1/230"]، وابن أبي شيبة
والبزار والطبراني في الكبير من حديث ابن عباس
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من
تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار
يحمل أسفارا والذي يقول له أنصت ليس له جمعة"،
وفي إسناده مجالد بن سعيد وفيه مقال خفيف.
وأخرج أحمد ["21184"]، والطبراني من حديث أبي
الدرداء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا
سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ"، وفي الباب
أحاديث.
وأما الخطيب فيجوز له أن يجيب سؤال من سأله
ويأمر من ترك ما ينبغي فعله بأن يفعله كما
وردت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وأما قوله: "فإن مات أو أحدث استؤنفتا" فلا
وجه للاستئناف إذا عرض ما يمنع من تمام الخطبة
بل يبني الآخر على ما قد فعله الأول إذا لم
يكن قد فعل ما هو مشروع.
وقد قدمنا أنه لا دليل على اشتراط كون الخطيب
متطهرا لأن المقصود من الخطبة يحصل من المحدث
كما يحصل من المتطهر وما قيل من أنها بمنزلة
ركعتين فلا أصل لذلك بل هي ذكر من الأذكار
وموعظة من المواعظ.
وأما قوله: "ويجوز أن يصلي غيره" فذلك خلاف ما
جرت به السنة فإنه صلى الله عليه وسلم كان
يخطب ثم يصلي بالناس مدة حياته ثم كذلك
الخلفاء الراشدون ومن بعدهم بل كان هذا هو
الأمر المستمر عند أمراء الأمصار فضلا عن
الخلفاء.
[ فصل
ومتى اختل قبل فراغها شرط غير الإمام أو لم
يدرك اللاحق من أي الخطبة قدر آية متطهرا أتمت
ظهرا وهو الأصل في الأصح والمعتبر الاستماع لا
السماع وليس لمن حضر الخطبة تركها إلا
المعذورين غالبا ومتى أقيم جمعتان في دون
الميل لم يعلم تقدم إحداهما أعيدت فإن علم
أعاد الآخرون ظهرا فإن التبسوا فجميعا وتصير
بعد جماعة العيد رخصة لغير الإمام وثلاثة.
وإذا اتفق صلاة قدم ما خشي فوته ثم الأهم].
قوله: "فصل ومتى اختل قبل فراغها شرط غير
الامام" الخ.
أقول : قد عرفت ما أسلفنا أنه لم يصح شيء من
تلك الشروط وأن إطلاق إسم الشروط عليها لم يدل
عليه دليل يثبت به الوجوب فضلا عن الشرطية إلا
الخطبتان فقد قدمنا أن دليلهما قد يدل على
وجوبهما وبعد هذا كله تعلم أنه لا يضر اختلال
شيء مما جعله مشروطا ثم حكمه على
(1/184)
بعض الشروط
بأنه يضر اختلاله قبل الفراغ وبعضها بأنه لا
يضر بعد حكمه على الجميع بالشرطية تحكم يأباه
الإنصاف فإن الشرط هو ما يؤثر عدمه في العدم
فكيف كان بعض الشروط مؤثرا وبعضها غير مؤثر
فهذا كونه تحكما مخالف لاصطلاح أهل الأصول
والفروع.
وأعجب من هذا كله أنه لا دليل بيده يدل على ما
ذكره لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل إيجاب رفض
الجمعة وتتميمها ظهرا مخالف للدليل وهو ما
أخرجه النسائي ["1425"]، من حديث أبي هريرة
بلفظ: "من أدرك من الجمعة فقد أدرك الجمعة"
ولهذا الحديث اثنا عشر طريقا صحح الحاكم منها
ثلاثا وقال في البدر المنير هذه الطرق الثلاث
أحسن طرق هذا الحديث والباقي ضعاف.
وأخرج النسائي ["557"، وابن ماجه
"1123"]،والدارقطني من حديث ابن عمر نحوه وله
طرق قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده صحيح
وقوى أبو حاتم إرساله وأخرج الطبراني في
الكبير من حديث ابن مسعود بلفظ: "من أدرك من
الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى ومن فاتته
الركعتان فليصل أربعا"، قال في مجمع الزوائد
وإسناده حسن.
فهذه الأحاديث تقوم بها الحجة ويندفع بها ما
قاله المصنف ويدل على ما دلت عليه هذه
الأحاديث ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من
أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"، فإن
صلاة الجمعة داخلة في هذا العموم ولا تخرج عنه
إلا بمخصص ولا مخصص.
قوله: "وهو الأصل في الأصح".
أقول : الواجب يوم الجمعة الجمعة فريضة من
الله عز وجل فرضها على عباده فإذا فاتت لعذر
فلا بد من دليل على وجوب صلاة الظهر وقد قدمنا
في القولة التي قبل هذه من حديث ابن مسعود
بلفظ: "ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا" فهذا
يدل على أن من فاتته الجمعة صلى ظهرا فإن كانت
الأصالة من هذه الحيثية فذاك.
وأما ما ذكره أهل الفروع من فوائد الخلاف في
هذه المسألة فلا أصل لشيء من ذلك.
قوله: "والمعتبر الاستماع لا السماع".
أقول : هذا صحيح فمن وقف حيث ينتهي به الوقوف
وكان لا يسمع أو كان أصم أو كان صوت الخطيب
خفيفا فالمستمع كالسامع.
قوله: "وليس لمن حضر الخطبة تركها"
أقول : وجه هذا أنه قد ورد النهي عن الخروج من
المسجد بعد سماع الدعاء إلي الصلاة والحاضر
حال الخطبة داخل تحت هذا النهي وهذا يشمل
المعذورين وغيرهم لأنهم قد حضروا إلا إذا
كانوا يتضررون بالوقوف إلي وقت انقضاء الصلاة
فما جعل الله في الدين من حرج.
قوله: "ومتى اقيم جمعتان في دون الميل" الخ.
(1/185)
أقول : هذه
المسألة قد اشتهرت بين أهل المذاهب وتكلموا
فيها وصنف فيها من صنف منهم وهي مبنية على غير
أساس وليس عليها أثارة من علم قط وما ظنه بعض
المتكلمين فيها من كونه دليلا عليها هو بمعزل
عن الدلالة وما أوقعهم في هذه الأقوال الفاسدة
إلا ما زعموه من الشروط التي اشترطوها بلا
دليل ولاشبهة دليل.
فالحاصل أن صلاة الجمعة صلاة من الصلوات يجوز
أن تقام في وقت واحد جمع متعددة في مصر واحد
كما تقام جماعات سائر الصلوات في المصر الواحد
ولو كانت المساجد متلاصقة ومن زعم خلاف هذا
فإن كان مستند زعمه مجرد الرأي فليس ذلك بحجة
على أحد وإن كان مستند زعمه الرواية فلا
رواية.
قوله: "وتصير بعد جماعة العيد رخصة لغير
الإمام وثلاثة".
أقول : ظاهر حديث زيد بن أرقم عند أحمد
["4/372"، وأبي دأود "1070"، والنسائي "1591"
وابن ماجه "1310" بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم
صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال: "من شاء أن
يصلي فليصل" يدل أن الجمعة تصير بعد صلاة
العيد رخصة لكل الناس فإن تركوها جميعا فقد
عملوا بالرخصة وإن فعلها بعضهم فقد استحق
الأجر وليست بواجبة عليه من غير فرق بين
الإمام وغيره وهذا الحديث قد صححه ابن المديني
وحسنه النووي وقال ابن الجوزي هو أصح ما في
الباب وفي إسناده إياس بن أبي رملة قال ابن
القطان وابن المنذر هو مجهول ولكنه يشهد له ما
أخرجه أبو دأود ["1073"، وابن ماجه "1311"]،
والحاكم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان
فمن شاء أجزأه عن الجمعة فإنا مجمعون"، قال في
البدر المنير وصححه الحاكم وأخرج نحوه ابن
ماجه من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف وأخرج أبو
دأود ["1071"، والنسائي "1592"،]، والحاكم عن
وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن
الزبير فأخر الخروج حتى تعالي النهار ثم خرج
فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصلى ولم يصل للناس
يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس قال: أصاب
السنة, ورجاله رجال الصحيح.
وأخرجه أيضا أبو دأود ["1072"]،عن عطاء بنحو
ما قاله وهب بن كيسان ورجاله رجال الصحيح
وجميع ما ذكرناه يدل على أن الجمعة بعد العيد
رخصة لكل أحد ولا ينافي ذلك قوله صلى الله
عليه وسلم: "فإنا مجمعون" فقد دلت أقواله على
أن هذا التجميع منه صلى الله عليه وسلم ليس
بواجب.
قوله: "وإذا اتفق صلوات قدم ما خشي فوته ثم
الأهم".
أقول : إن كانت الصلوات متفقة في كونها جميعا
واجبة كصلاة جمعة وجنازة أو متفقة في كونها
جميعا غير واجبة كصلاة الكسوف والاستسقاء
فيقدم ما خشي فوته ثم الأهم أما إذا كان بعضها
واجبا وبعضها غير واجب فعليه أن يأتي بالواجب
عليه فإن أمكن فعل غير الواجب بعده فعله وإلا
فهو معذور عن فعله باشتغاله عنه بما هو واجب
عليه لأن من الجائز أن يعرض له ما يمنعه عن
فعل الواجب الذي أخره وفعل ما خشي فوته من غير
الواجب.
(1/186)
[
باب ويجب قصر
الرباعي
"إلي اثنتين على من تعدى ميل بلده مريدا أي
سفر بريد حتى يدخله مطلقا أو يتعدى في أي موضع
شهرا أو يعزم هو ومن يريد لزامه على إقامة عشر
في أي موضع أو موضعين بينهما دون ميل ولو في
الصلاة وقد نووا القصر لا العكس غالبا أو لو
تردد"].
قوله: "باب ويجب قصر الرباعي إلي اثنتين".
أقول : لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في
جميع أسفاره إلا القصر وذلك في الصحيحين
وغيرهما وأظهر الأدلة على الوجوب الحديث
الثابت عن عائشة في الصحيحين [البخاري "3935"،
مسلم "685"]، وغيرهما [أحمد "3/272"، النسائي
"1/255"]، بلفظ: "فرضت الصلاة ركعتين فأقرت
صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر" ، فهذا اخبار
بأن صلاة السفر أقرت على ما فرضت عليه فمن زاد
فيها فهو كمن زاد على أربع في صلاة الحضر ولا
يصح التعلق بما روي عنها أنها كانت تتم فإن
ذلك لا تقوم به الحجة بل الحجة في روايتها لا
في رأيها.
وهكذا لم يثبت ما روي عنها أنه روت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه أتم وقد وافقها على
هذا الخبر الذي أخبرت به ابن عباس فأخرج مسلم
["687"]، عنه أنه قال: "إن الله عز وجل فرض
الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على
المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا والخوف
ركعة".
ومن ذلك ما أخرجه أحمد ["1/37"، والنسائي
"3/11"، وابن ماجه "1064"]، عن عمر قال صلاة
السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر
ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام من غير قصر
على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله رجال
الصحيح.
وأخرج النسائي ["3/117"] وابن حبان وابن خزيمة
في صحيحيهما عن ابن عمر قال إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أتانا ونحن ضلال فعلمنا كان
فيما علمنا أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي في
السفر ركعتين.
فهذه الأدلة قد دلت على أن القصر واجب عزيمة
غير رخصة وأما قوله تعالي: {وَإذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ
أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
[النساء: 101]، فهو وارد في صلاة الخوف
والمراد قصر الصفة لا قصر العدد كما ذكر ذلك
المحققون وكما يدل عليه آخر الآية ولو سلمنا
أنها في صلاة القصر لكان ما يفهم من رفع
الجناح غير مراد به في ظاهره لدلالة الأحاديث
الصحيحة على أن القصر عزيمة لا رخصة.
ولم يرد في السنة ما يصلح لمعارضة ما ذكرناه
من الأدلة الصحيحة.
قوله: "على من تعدى ميل بلده مريدا أي سفر
بريدا".
أقول : هذه المسألة قد اضطربت فيها الأقوال
وكثرت فيها مذاهب الرجال وقد ثبت في الصحيحين
من حديث أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه
وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصليت معه العصر
بذي الحليفة ركعتين.
(1/187)
وهذا يدل على
أن الخارج لسفر يقصر الصلاة إذا خرج من بلده
قدر ما بين المدينة وذي الحليفة وهو ستة أميال
ولكن هذا لا يدل على عدم القصر فيما دون هذه
المسافة لما ثبت في صحيح مسلم ["691"]، وغيره
[أبو دأود "1201"]، عن أنس أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو
ثلاثة فراسخ صلى ركعتين.
وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر
فرسخا يقصر الصلاة.
والحاصل أن هذه التقديرات لا تدل على عدم جواز
القصر فيما دونها مع كونها محتملة أن يكون
قاصدا لسفر هو خلف ذلك المقدار وأن يكون ذلك
هو منتهى سفره.
فالواجب الرجوع إلي ما يصدق عليه أنه سفر وأن
القاصد إليه مسافر ولا ريب أن أهل اللغة
يطلقون اسم المسافر على من شد رحله وقصد
الخروج من وطنه إلي مكان آخر فهذا يصدق عليه
أنه مسافر وأنه ضارب في الأرض ولا يطلقون اسم
المسافر على من خرج مثلا إلي الأمكنة القريبة
من بلده لغرض من الأغراض فمن قصد السفر قصر
إذا حضرته الصلاة ولو كان في ميل بلده وأما
نهاية السفر فلم يرد ما يدل على أن السفر الذي
يقصر فيه الصلاة هو أن يكون المسافر قاصدا
لمقدار كذا من المسافة فما فوقها.
وقد صح النهي للمرأة أن تسافر بغير محرم ثلاثة
أيام وفي رواية: "مسيرة يوم وليلة" وفي رواية:
"أن تسافر بريدا" فسمى النبي صلى الله عليه
وسلم كل ذلك سفرا وأقله البريد فكان القصر في
البريد واجبا ولكنه لا ينبغي ثبوت القصر فيما
دون البريد إلا أن يثبت عند أهل اللغة أو في
لسان أهل الشرع أن من قصد دون البريد لا يقال
له مسافر وأما قول المصنف مريدا أي سفر أي
سواء كان السفر طاعة أو معصية فهو صواب لأن
الأدلة الأخرى لم تفرق بين سفر وسفر ومن ادعى
ذلك فعليه الدليل.
قوله: "أو يتعدى في أي موضع شهرا"
أقول : الذي لم يعزم على إقامة مدة معينة لا
يزال يقصر حتى يمضي له قدر المرة التي أقامها
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام
الفتح وفي تبوك.
وقي روي أنه اقام في مكة ثماني عشرة ليلة كما
في رواية أو تسع عشرة ليلة كما في رواية أخرى
أو سبع عشرة ليلة كما في رواية ثالثة.
وروي أنه قام بتبوك عشرين ليلة فإذا مضى
للمتردد الذي لم يعزم على إقامة معينة عشرون
ليلة أتم صلاته.
فإن قلت: ومن أين لنا أن النبي صلى الله عليه
وسلم لو أقام أكثر من هذه المدة لأتم صلاته؟.
قلت: المقيم ببلد قد حط رحله وذهب عنه مشقة
السفر فلولا أنه صلى الله عليه وسلم قصر في
هذه المدة لما كان القصر في ذلك سائغا فعلينا
أن نقتصر على المدة التي قصر فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأطلق
(1/188)
عليه وعلى من
معه فيها اسم السفر فقال: "أتمو يا أهل مكة
فإنا قوم سفر".
وقد أخرج البخاري ["1080"، وغيره [الترمذي
"549"، عن ابن عباس قال لما فتح النبي صلى
الله عليه وسلم مكة اقام فيها تسع عشرة ليلة
فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة ليلة قصرنا
وإن زدنا أتممنا فهذا حبر الأمة يقول هكذا وهو
الحق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
فيما قصر فيه مع الإقامة ورجوعا إلي الأصل وهو
أن المقيم يتم صلاته فيما زاد على ذلك.
قوله: "أو يعزم هو أو من يريد لزامه على إقامة
عشر".
أقول : قد قدمنا لك أن المقيم الذي حط رحل
السفر لا يقصر إلا بدليل وقد ثبت فيمن لم يعزم
على إقامة معينة ما قدمناه وأما من عزم على
إقامة معينة فلم يثبت فيه إلا أن النبي صلى
الله عليه وسلم قصر الصلاة في عام حجه في أيام
إقامته بمكة وهو قدم مكة صبحة رابعة من ذي
الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس
والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن بمكة ثم
خرج إلي منى فقد عزم صلى الله عليه وسلم على
إقامة هذه الأربعة الأيام بمكة وقصر الصلاة
فيها فمن عزم على إقامة أربعة ايام بمكة قصر
وإن عزم على إقامة أكثر منها أتم اقتداء برسول
الله صلى الله عليه وسلم رجوعا إلي الأصل وهو
أن المقيم يتم.
وقد خلط الكلام الجلال في هذا المقام ووهم عدة
أوهام.
[ فصل
"وإذا انكشف مقتضى التمام وقد قصر اعاد تمأما
لا العكس إلا في الوقت ومن قصر ثم رفض السفر
لم يعد ومن تردد في البريد أتم وإن تعداه
كالهائم"].
قوله: فصل: "وإذا انكشف مقتضى التمام وقد قصر
أعاد تماما".
أقول : وجه ذلك عند المصنف أنه انكشف عدم
المقتضى للقصر وهو سفر البريد ووجد المقتضى
للتمام وهو عدم السفر إلي البريد وأما قوله:
"لا العكس" فغير صواب لأنه قد وجد مقتضى القصر
والقائل بأن القصر عزيمة لا يفيده قول من قال
إنه رخصة ولكنه مبني على قاعدة فروعية وهي أن
المختلف فيه لا يقضى إلا في الوقت لا بعده وهو
يخالف قاعدة لهم أخرى وهي أن الاعتبار
بالانتهاء.
وهكذا قوله: "ومن قصر ثم رفض السفر لم يعد"
كأن قياس قواعدهم أن يعيد اعتبارا بالانتهاء
لأن النية غير مؤثرة بمجردها.
وأما قوله: "ومن تردد في البريد أتم"، فإن كان
التردد في البريد مع عدم مجأوزته فلم يحصل
مقتضى القصر وإن كان مع مجأوزته فقد حصل موجبه
فلا وجه لقوله وإن تعداه وقياسه على الهائم
غير صحيح لأن الهائم لم يقصد السفر فهو غير
مسافر وهذا مسافر فإن كان هذا الذي تردد في
البريد هائما فلا وجه لقوله كالهائم لأنه هائم
لا كالهائم.
(1/189)
[ فصل
"والوطن ما نوى استيطانه ولو في مستقبل بدون
سنة وإن تعدد يخالف دار الإقامة بأنه يصير
وطنا بالنية قيل وبأن لا يقصر منه إلا لبريد
وتوسطه يقطعه ويتفقان في قطعهما حكم السفر
وبطلانهما بالخروج مع الإضراب"].
قوله: فصل : "والوطن هو ما نوى استيطانه".
أقول : مصير المكان وطنا بمجرد النية لم يوافق
رواية صحيحة ولا رأيا مقبولا وجعل النية مؤثرة
في دون سنة لا في سنة فما فوقها لا يدري ما
وجهه ولا من أين مأخذه وليس مثل هذا الكلام
القائل والرأي العاطل مما يدون في مثل كتب
الهداية التي هي لقصد إرشاد العباد إلي ما
شرعه الله لهم.
وهكذا ما ذكره من الفرق بين دار الوطن ودار
الإقامة ليس عليه أثاره من علم وكان الأولى
للمصنف أن يجعل مكان هذه الخرافات ما ورد فيمن
تأهل في بلد أنه يتم الصلاة فيها لما أخرجه
أحمد عن عثمان بن عفان أنه صلى بمنى أربع
ركعات فأنكر الناس عليه فقال يا ايها الناس
إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل في بلد
فليصل صلاة المقيم" وفي إسناده عكرمة بن
إبراهيم وفيه ضعف خفيف لا يوجب ترك ما رواه.
(1/190)
[
باب وشرط جماعة
الخوف
"من أي أمر صائل السفر وآخر الوقت وكونهم
محقين مطلوبين غير طالبين إلا لخشية الكر
فيصلي الإمام ببعض ركعة ويطول في الأخرى حتى
يخرجوا ويدخل الباقون وينتظر في المغرب متشهدا
ويقوم لدخول الباقين.
وتفسد بالعزل حيث لم يشرع وبفعل كثير لخيال
كاذب.
وعلى الأولين بفعلها له"].
قوله: باب : "وشروط جماعة الخوف من أي أمر
صائل السفر".
أقول : الظاهر ثبوت مشروعية صلاة الخوف من كل
أمر يخاف منه في السفر والحضر ولا يدل كونه
صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا من خوف خاص
وفي إسفاره على أنها لا تصلى من خوف من غير
آدمي ولا تصلى في الحضر فإن العلة التي شرعت
لها كائنة في الجميع ولا يصح التمسك بأنه صلى
الله عليه وسلم لم يصلها في المدينة مع اشتداد
الملاحمة والمدافعة لأنه صلى الله عليه وسلم
اشتغل هو وأصحابه بمواقعة الأحزاب حتى قال له
عمر يا رسول الله ما كدت اصلي العصر حتى كادت
الشمس
(1/190)
تغرب فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"
، قال جابر فقمنا إلي بطحان فتوضأ النبي صلى
الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا فصلى العصر بعد
ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب هكذا في
البخاري ["596، 598، 4112"، مسلم "631"،
الترمذي "180"، النسائي "3/84"]، من حديث جابر
وفي الموطأ أن الذين فاتهم الظهر والعصر
والمغرب وأنهم صلوا بعد هدوء من الليل.
وأيضا قد أخرج النسائي وابن حبان من حديث أبي
سعيد أن ذلك كان قبل أن ينزل قوله تعالي:
{فَرِجَالاً أو رُكْبَاناً} [البقرة: 239].
وأما اشتراط أن تكون صلاة الخوف في آخر الوقت
فلا دليل عليه بل تفعل في أول الوقت ووسطه
وآخره على حسب ما يقتضيه الحال.
وأما اشتراط كونهم محقين مطلوبين غير طالبين
فلم يرد ما يدل على ذلك وقد صلاها رسول الله
صلى الله عليه وسلم في كثير من المواطن وهو
طالب للكفار غير مطلوب.
قوله: "فيصلي الإمام ببعض ركعة" الخ.
أقول : قد وردت صلاة الخوف على أنحاء مختلفة
وثبت فيها صفات فأيها فعل المصلون فقد أجزأهم
وقد ذكرنا ما ورد فيها من الأنواع في شرحنا
للمنتقي وذكرنا جملة ما صح من ذلك فليرجع إليه
فإن إيراده هنا يحتاج إلي تطويل يخالف ما هو
الغرض لنا من التنبيه على الصواب والإرشاد إلي
الحق.
وهذه الصفة التي ذكرها المصنف هي من جملة
الصفات الواردة ولا وجه للاقتصار عليها فإن
ذلك تضييق لدائرة قد وسعها الله على عباده.
قوله: "وتفسد بالعزل حيث لم يشرع".
أقول : إذا لم يوافق العزل صفة من الصفات
الواردة فغاية ما هناك أنه أتى ببعض صلاته
جماعة وبعضها فرادى وذلك لا يقتضي الفساد.
وأما فسادها بالفعل الكثير للخيال الكاذب فقد
قدمنا في الفعل الكثير ما يغني عن الإعادة.
[ فصل
فإن اتصلت المدافعة فعل ما أمكنه ولو في الحضر
ولا تفسد بما لا بد منه من قتال وانفتال
ونجاسة على آلة الحرب وعلى غيرها تلقى فورا
ومهما أمكن الإيماء بالرأس فلا قضاء وإلا وجب
الذكر والقضاء.
ويؤم الراجل الفارس لا العكس].
قوله: "فصل فإن اتصلت المدافعة فعل ما أمكنه".
(1/191)
أقول: يدل على
هذا قول الله سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:6]، وقوله صلى الله
عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم" ويدل على ذلك ما أخرجه أبو دأود
["1249"]عن عبد الله ابن أنيس قال: بعثني رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلي خالد بن سفيان
الهذلي وكان نحو عرنة وعرفات فقال: "اذهب
فاقتله" قال: وحضرت صلاة العصر فقلت: إني
لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة
فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء يماء نحوه فلما
دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب
بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك,
فقال: إني لفي ذاك فمشيت معه ساعة حتى أمكنني
ثم علوته بسيفي حتى برد.
ومثل هذا من هذا الصحأبي المبعوث في هذا الأمر
المهم لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفيه دليل على أنه يفعل ما أمكنه ولو
بمجرد الايماء وإلي غير القبلة وفيه أنه لا
يشترط ما تقدم من كونهم مطلوبين وفيه أن صلاة
الخوف تصح أن تكون فرادى.
(1/192)
[
باب وفي وجوب صلاة
العيدين خلاف
وهي من بعد انبساط الشمس إلي الزوال ركعتان
جهرا ولو فرادى بعد قراءة الأولى سبع تكبيرات
فرضا يفصل بينهما الله أكبر كبيرا إلي آخره
ويركع بثامنة وفي الثانية خمس كذلك ويركع
بسادسة ويتحمل الإمام ما فعله مما فات
اللاحق].
قوله: باب : "وفي وجوب صلاة العيدين خلاف".
أقول : هذه العبارة لا تفيد السامع ولا يحسن
السكوت عليها لأنه غالب مسائل الفروع هكذا
فيها خلاف ولعله لم يتقرر دليل الوجوب للمصنف
كما ينبغي وكان عليه أن يقف على ما دون الوجوب
ويجزم به كعادته في هذا الكتاب حتى يكون
لكلامه فائدة يستفيدها المقلد.
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لازم هذه
الصلاة في العيدين ولم يتركها في عيد من
الأعياد وأمر الناس بالخروج إليها حتى أمر
بخروج النساء العواتق وذوات الخدور والحيض
وأمر الحيض أن يعتزلن الصلاة ويشهدن الخير
ودعوة المسلمين حتى أمر من لا جلباب لها أن
تلبسها صاحبتها من جلبابها وهذا كله يدل على
أن هذه الصلاة واجبة وجوبا مؤكدا على الأعيان
لا على الكفاية.
ويزيد ذلك تأكيدا أنه صلي الله عليه وسلم أمر
الناس بالخروج لقضائها في اليوم الثاني مع
اللبس كما تقدم، وهذا شأن الواجباتلا غيرها.
قوله: "وهي من بعد انبساط الشمس إلي الزوال".
أقول : قد قدمنا حديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر الناس أن يفدوا إلي مصلاهم لما أخبره
الركب برؤية الهلال.
(1/192)
وأخرج أبو دأود
["1135"وابن ماجه "1317"]، أن عبد الله بن بسر
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر على
الإمام الذي أبطأ بصلاة العيد ورجال إسناده
عند أبي دأود ثقات.
وأخرج أحمد بن الحسن البناء عن جندب في كتاب
الأضاحي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين
والأضحى على قيد رمح هكذا ذكره ابن حجر في
التلخيص ولم يتكلم عليه.
وأخرج الشافعي في حديث مرسل أن النبي صلى الله
عليه وسلم كتب إلي عمرو ابن حزم وهو بنجران أن
عجل الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس.
قوله: "وهي ركعتان جهرا ولو فرادى".
أقول : أصل كل صلاة تصح فرادى كما تصح جماعة
وصلاة العيد صلاة من الصلوات فمن ادعى أنها لا
تصح فرادى كان عليه الدليل ولا يصلح لذلك أنه
صلى الله عليه وسلم ما صلاها إلا جماعة فإن
غاية ما يستفاد من ذلك أن التجميع في العيد
أولى ولا شك في ذلك ومحل النزاع الصحة فمن
نفاها فهو المحتاج إلي الدليل.
وهكذا الجهر هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم
ولكنه لا ينفي صحة الإسرار.
قوله: "بعد قراءة الأولى سبع تكبيرات فرضا".
أقول : لم يصح في كون التكبير بعد القراءة شيء
أصلا بل لم يكن في ذلك حديث ضعيف فضلا عن أن
يوجد فيه حديث صحيح أو حسن وأما تقديم التكبير
في الركعتين على القراءة ففيه حديث عبد الله
بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس
في الأخرى والقراءة بعدهما كلتيهما"، أخرجه
أبو دأود ["1151"]، والدارقطني وأخرجه من غير
ذكر تقديم التكبير على القراءة أحمد ["6/140،
141"]، وابن ماجه ["1279"].
قال العراقي إسناده صحيح وقال الترمذي في
العلل المفردة عن البخاري إنه قال حديث صحيح.
وأخرج الترمذي عن عمرو بن عوف المزني أن النبي
صلى الله عليه وسلم كبر في الأولى سبعا قبل
القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة قال
الترمذي هو أحسن شيء في هذا الباب عن النبي
صلى الله عليه وسلم وأخرجه الدارقطني وابن عدي
والبيهقي وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو
بن عوف عن أبيه عن جده قال الشافعي وأبو دأود
إنه ركن من أركان الكذب وقال ابن حبان له نسخة
موضوعة عن أبيه عن جده قال ابن حجر في التلخيص
وقد أنكر جماعة تحسينه على الترمذي وأجاب
النووي في الخلاصة على المنكرين على الترمذي
فقال لعله اعتضد بشواهد وغيرها قال العراقي في
شرحه للترمذي إن الترمذي إنما تبع في ذلك
البخاري فقال قال في كتاب العلل المفردة سألت
محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال ليس في
هذا الباب شيء أصح منه وبه أقول: انتهى.
وأخرج ابن ماجه ["1277"]، عن سعد القرظ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في
العيدين في
(1/193)
الأولى سبعا
قبل القراءة وفي الأخرى خمسا قبل القراءة وفي
إسناده ضعف.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وتصلح للاحتجاج
بها في كون التكبير قبل القراءة وفي كون
التكبير سبعا في الأولى وخمسا في الثانية.
وقد وردت روايات أخر في عدد التكبير مقوية
لهذه الأحاديث.
قوله: "ويفصل بينهما ندبا الله أكبر" الخ.
أقول : هذا الندب لا يستند إلي كتاب الله ولا
إلي سنة رسول الله ولا إلي قول صحأبي ولا
تابعي ومجرد أنه استحسنه فرد من أفراد العلماء
لا يصلح لإثبات الندب فإن الندب هو أحد
الأحكام الخمسة ولا يثبت إلا بدليل يدل عليه
في هذا التسرع إلي التقول على الشرع بما لم
يكن منه.
والحاصل أن صلاة العيد هي أن يكبر المصلي
للإحرام ثم يكبر في الأولى سبع تكبيرات ثم
يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن ثم يقوم إلي
الركعة الثانية فيكبر خمسا ثم يقرأ الفاتحة
وما تيسر من القرآن وإذا أراد أن يقتدي
بالقراءة التي كان يقرأ بها رسول الله صلى
الله عليه وسلم في صلاة العيد قرأ في الأولى
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي
الثانية بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ} أو قرأ في الأولى بـ {ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} وفي
الثانية بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} فهذا هو المروي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في قراءته في
العيدين.
وأما قوله: "ويتحمل الإمام ما فعله مما فات
اللاحق" فلم يدل على هذا التحمل دليل وقد تقدم
في أدلة قراءة الفاتحة في كل ركعة ما ينبغي
اعتباره هنا وهكذا هذه الأحاديث المذكورة في
تكبير صلاة العيدين يفعلها المؤتم كما يفعلها
الإمام فلا يكون المؤتم مدركا للركعة إلا
بقراءة فاتحتها والإتيان بما شرع فيها من
التكبير.
[ فصل
"وندب بعدها خطبتان كالجمعة إلا أنه لا يقعد
أولا ويكبر في الأولى تسعا وفي آخرهما سبعا
سبعا ومن خطبة الأضحى التكبير المأثور ويذكر
حكم الفطرة والأضحية وتجزىء من المحدث وتارك
التكبير وندب الإنصات ومتابعته في التكبير
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
والمأثور في العيدين"].
قوله: فصل : "وندب بعدها خطبتان كالجمعة".
أقول : هذا أعني كون الخطبتين بعد الصلاة هو
الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث
الصحيحة وأما كونهما مندوبتين فلما أخرجه
النسائي ["1571" وابو دأود "1155" وابن ماجه
(1/194)
"1290"]، من
حديث عبد الله بن السائب قال شهدت مع النبي
صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة
قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس فليجلس ومن
أحب أن يذهب فليذهب"، وهذا الحديث هو من
الأحاديث المسلسلة بيوم العيد وقد رويته
مسلسلا بإسناد إلي النبي صلى الله عليه وسلم
في مجموعي الذي سميته إتحاف الأكابر بإسناد
الدفاتر".
قوله: "إلا أنه لا يقعد أولا".
أقول : هذا صواب لأنه لم يرو عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قعد في خطبة العيد بل كان
يفرغ من الصلاة فيقوم ثم يخطب.
قوله: "ويكبر في الأولى تسعا" الخ.
أقول : لم يرد في ذلك دليل صحيح للتمسك به
وأما ما رواه البيهقي عن عبيد الله بن عبد
الله ابن عتبة أنه قال من السنة أن تفتتح
الخطبة بتسع تكبيرات تترى والثانية بسبع
تكبيرات تترى فإن أراد سنة النبي صلى الله
عليه وسلم فالحديث مرسل وإن أراد سنة الصحابة
فلا تقوم به الحجة إلا أن يكون إجماعا منهم
قال ابن القيم وأما قول كثير من الفقهاء إنه
تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيد
بالتكبير فليس معهم فيها سنة من النبي صلى
الله عليه وسلم ألبتة والسنة تقضي خلافها وهو
افتتاح جميع الخطب بالحمد انتهى.
وأما قوله: "وفي فصول الأولى من خطبة الأضحى
التكبير المأثور" فلم يؤثر في ذلك شيء ألبتة
فإن أراد أنه يستحب في فصول هذه الخطبة تكبير
التشريق الذي سيأتي فهو لم يؤثر في خطبة العيد
قط.
قوله: "ويذكر حكم الفطرة والأضحية".
أقول : أما ذكر حكم الفطرة في خطبة عيد الفطر
فلم يثبت في ذلك شيء ولكنه إذا فعل ذلك الخطيب
فهو من البيان الذي شرعه الله مع كون ذلك مزيد
اختصاص بهذا اليوم.
وهكذا ذكر حكم الأضحية وما يجزىء منها وما لا
يجزىء وبيان وقتها وما ينبغي للمضحي أن يفعله
في أضحيته وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم: "أنه خطب يوم الأضحى فذكر مشروعية النحر
بعد الصلاة وأن من نحر قبل الصلاة فليست
بأضحية".
وأما كون الخطبة تجزىء من المحدث فذلك صواب
لعدم الدليل على أن يكون الخطيب متطهرا.
وأما أنها تجزىء من تارك التكبير فتارك
التكبير ابعد من البدعة من فاعله كما قدمنا.
وأما كون الإنصات مندوبا فلكون سامع الموعظة
ينبغي له أن يفهمها وإذا اشتغل بالكلام ولم
ينصت لم يفهمها فهو إنما يحسن من هذه الحيثية
لا من حيث الدليل فإنه لم يرد في خطبة العيد
ما يدل على ذلك ولا ورد ما يدل على المتابعة
في التكبير ولا ورد ما يدل في خصوص خطبة العيد
على المتابعة في الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم ولكنه ورد ما يدل على مشروعية
الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره وهم
أعم من أن يكون في خطبة العيد أو في غيرها ولم
يخص إلا خطبة الجمعة لوجوب الإنصات فيها.
(1/195)
قوله: "وندب
المأثور في العيدين"
أقول : من المأثور في العيدين أن تكون الصلاة
في الجبانة إلا لعذر من مطر أو نحوه وأن يخالف
الإمام ومن معه الطريق فيرجعون في طريق غير
الطريق التي جاءوا منها ورفع الصوت بالتكبير
والتهليل وتعجيل الخروج لصلاة الأضحى وتأخيره
لصلاة الفطر وأن لا يغدو لصلاة الفطر حتى يطعم
ويخرج لصلاة الأضحى قبل أن يطعم وأن لا يصلي
قبل صلاة العيد ولا بعدها وأن يلبس أحسن ما
يجد ويتطيب بأجود ما يجد وأن يخرج إلي العيد
ماشيا وأن يستكثر من الموعظة للرجال والنساء
ويرغبهم في الصدقة.
[ فصل
"وتكبير التشريق سنة مؤكدة عقيب كل فرض من فجر
عرفة إلي آخر أيام التشريق ويستحب عقيب
النوافل"].
قوله: فصل : "وتكبير التشريق سنة مؤكدة" الخ.
أقول: قد ثبت الأمر بالذكر في الأيام المعدودة
قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرو: 203]، وهي
أيام التشريق وثبت عنه صلى الله عليه وسلم
مطلق التكبير وفي صحيح مسلم ["11/890"]، أنه
صلى الله عليه وسلم قال: "والحُيَّضُ يَكُنَّ
خلف الناس يكبرن مع الناس".
وفي البخاري ["928"]،: أن أم عطية قالت كنا
نؤمر أن نخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم.
وثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يكبر فيكبر من
في المسجد ويكبر بتكبيرهم من في الأسواق وأنه
كان يقع ذلك مرة بعد مرة في دبر الصلاة وغيرها
من الأوقات.
والحاصل أن المشروع في ايام التشريق الاستكثار
من ذكر الله عز وجل خصوصا التكبير والمراد
مطلق التكبير وهو أن يقول الله أكبر ويكرر ذلك
في الأوقات ومن جملتها عقب الصلاة ولا وجه
لتخصيصه بعقب الصلاة ولا لجعل يوم عرفة من
جملة الأيام التي يستحب فيها تكبير التشريق
فإن أيام التشريق هي أيام النحر وهي يوم النحر
ويومان بعده.
وأما يوم عرفة فهو من الأيام المعلومات وهي
عشر ذي الحجة التي قال الله سبحانه فيها:
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وثبت فيها كما في
البخاري ["969"]، وغيره [أحمد "1/224" الترمذي
"757"، ابن ماجة "1727"، أبو دأود "2438"]، من
حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب
إلي الله عز وجل من هذه الأيام"، يعني ايام
العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل
الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل
خرج بنفسه وما له ثم لم يرجع بشيء من ذلك".
وأخرج مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم
عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من
هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل
والتكبير والحمد".
(1/196)
[
باب ويسن للكسوفين
حالهما ركعتان
في كل ركعة خمسة ركوعات قبلها ويفصل بينها
الحمد مرة والصمد والفلق سبعا سبعا ويكبر موضع
التسميع إلا في الخامس.
وتصح جماعة وجهرا وعكسهما وكذلك لسائر الإفزاع
أو ركعتين لها.
وندب ملازمة الذكر حتى ينجلي ويستحب للاستسقاء
أربع بتسلمتين في الجبانة ولو سرا وفرادى
ويجأرون بالدعاء والاستغفار ويحول الإمام
رداءه راجعا تاليا للمأثور].
قوله: باب : "ويسن للكسوفين حالهما ركعتان في
كل ركعة خمس ركوعات قبلها" الخ
أقول : هذا أكثر ما ورد في صلاة الكسوف فالأخذ
به أخذ بالزيادة ولكن أصح ما ورد في صلاة
الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان فإن هذا هو
الثابت في الصحيحين [البخاري "1052"، "مسلم
"17/907"]، وغيرهما [أحمد "1/298، 258، 359"،
النسائي "3/146، 148"]، من طرق ثم دون هذا في
الصحة مع كونه صحيحا في كل ركعة ثلاثة ركوعات
وكذا ركعتان في كل ركعة أربعة ركوعات ثم دون
هذين في الصحةركعتان في كل ركعة خمس ركوعات
وورد ركعتان في كل ركعة ركوع وورد أن صلاة
الكسوف تكون كأحدث صلاة صلوها.
فجملة ما ورد ركوع في كل ركعة وركوعان في كل
ركعة وثلاثة في كل ركعة وأربعة في كل ركعة
وخمسة في كل ركعة وكأحدث صلاة فهذه ست صفات
وقد استشكل كثير من المحدثين وقوع مثل هذا
الاختلاف مع كونه صلى الله عليه وسلم لم يصل
صلاة الكسوف إلا مرة واحدة وذكروا في الجمع
وجوها ليس هذا موضع ذكرها وإذا تقرر لك أن
مخرج هذه الأحاديث متفقا وأن القصة واحدة عرفت
أنه لا يصح ها هنا أن يقال كما قيل في صلاة
الخوف أنه يأخذ بأي الصفات شاء بل الذي ينبغي
ها هنا أن يأخذ بأصح ما ورد وهو ركوعان في كل
ركعة لما في الجمع بين هذه الروايات من التكلف
البالغ.
ثم أعلم أنه قد اجتمع ها هنا في صلاة الكسوف
الفعل والقول ومن ذلك قوله صلى الله عليه
وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله
وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا
رأيتموها كذلك فافزعوا إلي المساجد". البخاري
["1044"].
وفي رواية: "فصلوا وادعوا".
والظاهر الوجوب فإن صح ما قيل من الإجماع على
عدم الوجوب كان صارفا وإلا فلا.
(1/197)
قوله: "ويفصل
بينهما الحمد مرة والصمد والفلق سبعا سبعا".
أقول : كان يغني عن هذا الرأي البحث
والاستحسان الصرف ما ثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم انه كان يقرأ بعد كل ركوع بسورة من
الطوال ولا وجه ها هنا لتكرير الحمد بعد كل
ركوع بل يقرأ بعد الدخول في الصلاة ثم يقرأ
بين كل ركوعين بسورة من الطوال اقتداء برسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "ويكبر موضع التسميع"، فهو خلاف
الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الصحيحين [البخاري "1407"، مسلم "901"]،
وغيرهما [أحمد "6/168"، ابن ماجة "1263"]، من
حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقول عند الارتفاع من الركوع: "سمع الله لمن
حمده ربنا ولك الحمد" وكذلك كان يقول عند
الارتفاع من الركوع الثاني.
وهكذا ينبغي أن يقال عند الارتفاع من سائر
الركوعات لمن أراد أن يأتي بالزيادة على
ركوعين في كل ركعة اقتداء بما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأن الذي في رواية عائشة
في هذا الحديث الذي فيه التسميع والتحميد هو
في صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين في كل
ركعة ركوعان.
قوله: "وتصح جماعة وجهرا وعكسهما".
أقول : الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في هذه
المرة التي صلى فيها صلاة الكسوف أنه صلاها
جماعة وجهر فيها بالقراءة ولكن أمره صلى الله
عليه وسلم بالصلاة يتنأول صلاة الفرادى وصلاة
الإسرار مع أنه ثبت من حديث سمرة عند أحمد
["5/16"]، وأهل السنن [أبو دأود "1184"،
النسائي "3/140"]: "أن النبي صلى الله عليه
وسلم صلى بهم في الكسوف لا يسمعون له صوتا"،
وقد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم ولكن
روايات الجهر أصح وأكثر ورأوي الجهر مثبت وهو
مقدم على النافي.
قوله: "وكذلك لسائر الإفزاع".
أقول : إذا لم تثبت الصلاة لمثل ذلك كان فعلها
لحدوث الأمر المفزع بدعة من هذه الحيثية لا من
حيثية كونها صلاة ولم يثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم في ذلك شيء وما روي عن بعض الصحابة
لم يصح ولو صح لم تقم به الحجة"
قوله: "وندب ملازمة الذكر حتى تنجلي".
أقول : ثبت في الصحيحين [البخاري "1044"، مسلم
"901"]، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
في الكسوف: "فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله
وكبروا وتصدقوا وصلوا" وفي لفظ آخر فيهما
[البخاري "1059"، مسلم "24/912"]، "فإذا رأيتم
شيئا من ذلك فافزعوا إلي ذكر الله ودعائه
واستغفاره"، وفي لفظ لهما [البخاري "1060"،
مسلم "9/904"]: "فإذا رأيتموهما فادعوا الله
وصلوا حتى تنجلي".
قوله: "ويستحب للاستسقاء أربع بتسليمتين".
أقول : لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى
أربعا ولا أرشد إلي صلاة الأربع بل الثابت عنه
أنه صلى ركعتين فقط وثبت عنه أنه خطب بعد
صلاته للركعتين وثبت عنه أنه استسقى في خطبة
الجمعة وثبت أنه خطب قبل صلاة الركعتين والكل
سنة.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه جهر
بالقراءة.
(1/198)
وأما قول
المصنف رحمه الله ولو سرا أو فرادى فذلك رجوع
إلي ما هو أصل كل صلاة أنها تصح سرا وجهرا
وجماعة وفرادى.
ولكن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما
ثبت عنه هو الذي ينبغي اعتماده.
وأما ما ذكره من الجأر بالدعاء والاستغفار فقد
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان
يدعو ويحول وجهه إلي القبلة ويرفع يديه حتى
يرى بياض إبطيه ولا يزال في الدعاء والتضرع".
وما ذكره من تحويل الرداء فقد ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه حول رداءه وحول أصحابه
ولا وجه لتقييد ذلك بحال الرجوع فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم يفعله حال الدعاء والخطبة.
وأما قوله: "تاليا للمأثور" فلم يرد في ذلك
شيء يصلح للتمسك به لا في حال الخطبة والدعاء
ولا في حال الرجوع ولكنه روى سعيد بن منصور في
سننه عن عمر بن الخطاب أنه خرج يستسقي فلم يزد
على الاستغفار فقالوا ما رأيناك استسقيت فقال
لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء ثم قرأ:
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّاراً} الآية.
[ فصل
"والمسنون من النفل ما لازمه الرسول صلى الله
عليه وسلم وأمر به وإلا فمستحب وأقله مثنى وقد
يؤكد كالرواتب ويخص كصلاة التسبيح والفرقان
ومكملات الخمسين.
فأما الترأويح جماعة وصلاة الضحى بنيتها
فبدعة"].
قوله: فصل : "والمسنون من النقل ما لازمه
الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به". الخ.
أقول : مراده أنه قد تبين أن ذلك الذي لازمه
وأمر به نفل بدليل يدل على ذلك ولهذا قال من
النفل فلا يرد عليه باعتبار عبارته شيء ولكنه
يقال له ما لازمه فقط فهو سنة وما أمر به أمرا
لا يراد به المعنى الحقيقي لوجود صارف فهو سنة
وما اجتمع فيه القول والفعل فلا شك أن له مزيد
خصوصية فهو آكد مما لم يرد فيه إلا أحدهما فإن
أراد هذا المعنى فلا وجه لجعل البعض مسنونا
والبعض مستحبا لأن المستحب والمندوب عنده وعند
من يوافقه من أهل الأصول والفروع لهما رتبة
دون رتبة المسنون.
والحق أن الكل يصدق عليه اسم السنة وإن كان
بعضه آكد من بعض لكونه ثابتا بالسنة النبوية
بل السنة تشمل ما ثبت وجوبه بالسنة فإن قلت
هذا اصطلاح ولا مشاحة فيه قلت إذا جرى
الاصطلاح على ما يخالف المعنى الشرعي فهو
مدفوع من أصله.
قوله: "وأقله مثنى".
أقول : أما الإيتار بركعة فقد ثبت ثبوتا
متواترا وذلك واضح ظاهر لكل من له أدنى اطلاع
على السنة المطهرة وقد صح عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه وصف صلاة النفل بالليل والنهار
أنها "مثنى
(1/199)
مثنى" [أحمد
"2/26، 51"، أبو دأود "1295"، الترمذي "597"،
النسائي "1666"، ابن ماجة "1322"، وخص صلاة
الوتر بالزيادة فصلاها أربعا أربعا وورد ما
يدل على جواز الزيادة على أربع متصلة وخصها
أيضا بالنقصان فجوز الإيتار بركعة واجتمع في
ذلك قوله وفعله.
قوله: "وقد يؤكد كالرواتب".
أقول : رواتب الفرائض قد اجتمع فيها القول
والفعل وثبت ذلك ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة فهي
داخلة في المسنون من النفل دخولا أوليا
فأفرادها بالذكر تطويل بلا طائل.
قوله: "وقد يخص التسبيح".
أقول : كأنه لم يرد في النوافل دليل يخصها إلا
هذه التي ذكرها وذلك من أغرب ما يقرع سمع من
يعرف الأدلة فإنه قد ورد في الاثني عشر الركعة
التي هي رواتب الفرائض "أن من صلاها في يوم
وليلة بنى له بيت في الجنة" [مسلم "728"، أبو
دأود "1250"، النسائي "3/261"، الترمذي "415"،
ابن ماجة "1141". وورد في كل راتبة من هذه
الرواتب بخصوصها من الترغيبات ما لا يخفى على
عارف فورد في الأربع قبل الظهر والأربع بعدها
"أن من صلاها حرمه الله على النار" [أحمد
"6/426"، النسائي "1759"]، وقال صلى الله عليه
وسلم: "رحم الله امرأ صلى أربعا قبل العصر"
[أحمد "1/117"، أبو دأود "1271"، الترمذي
"430"]، وقال صلى الله عليه وسلم في الركعتين
قبل الفجر: "إنها خير من الدنيا وما فيها"،
[مسلم "725"، أحمد "6/50"، 51"، الترمذي
"414"، النسائي "1759"، وقال: "لا تدعوا ركعتي
الفجر وإن طردتكم الخيل" [أبو دأود "1258"]،
بل ورد في غالب النوافل في الليل والنهار من
الترغيب بالأحاديث الصحيحة ما لا يخفى على
عارف بل ورد في صلاة الضحى التي جعلها المصنف
بدعة ما أخرجه البخاري ومسلم [البخاري "3/56"،
مسلم "721"]، وغيرهما [أبو دأود "1432"،
الترمذي "760"، النسائي "1677"]، من حديث أبي
هريرة قال: أوصاني خليل صلى الله عليه وسلم
بثلاث بصيام ثلاثة أيام في كل شهر وركعتي
الضحى وأن أوتر قبل أن أنام.
وثبت في الصحيح [مسلم "720"]، "أنه يصبح على
كل سلامي صدقة وأنه يجزىء من ذلك ركعتان
يركعهما من الضحى".
فالعجب من المصنف حيث يعمد إلي صلاة التسبيح
التي اختلف الناس في الحديث الوارد فيها حتى
قال من قال من الأئمة إنه موضوع وقال جماعة
إنه ضعيف لا يحل العمل به فيجعلها أول ما خص
بالتخصيص وكل من له ممارسة لكلام النبوة لا بد
أن يجد في نفسه من هذا الحديث ما يجد وقد جعل
الله في الأمر سعة عن الوقوع فيما هو متردد ما
بين الصحة والضعف والوضع وذلك بملازمة ما صح
فعله أو الترغيب في فعله صحة لا شك فيها ولا
شبهة وهو الكثير الطيب.
قوله: "والفرقان".
أقول : رحم الله المصنف فإن هذه الصلاة التي
جعلها مما خص بالتخصيص مكذوبة
(1/200)
موضوعة لم يثبت
فيها حرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
عن غيره من الصحابة وما روي في ذلك عن علي فلا
أصل له وهكذا الاختيار والانتفاء والانتقاد،
وبالجملة صنع من لا يفرق بين أصح الصحيح وأكذب
الكذب.
قوله: "ومكملات الخمسين".
أقول : لا يعرف في السنة المطهرة استحباب مثل
هذا ولا ثبت في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف
وقد كان صلى الله عليه وسلم يواظب على نوافل
لا يخل بها في غالب الحالات.
فإن أراد المصنف ما كان يواظب عليه صلى الله
عليه وسلم مضموما إلي الفرائض فهو معروف وهو
دون هذا العدد وإن أراد ما أرشد إليه أو كان
يفعله في بعض الحالات فهو أكثر من هذا العدد.
فيا لله العجب حيث يعمد المصنف إلي مثل هذه
الأمور التي لا دليل عليها أصلا فيجعلها مما
خص من النوافل بمزيد مزية على غيرها فإن هذا
صنع من لا يدري بالسنة أصلا.
قوله: "فأما الترأويح جماعة والضحى بنيتها
فبدعة".
أقول : أما صلاة الترأويح فقد ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه صلى في ليال من رمضان
وائتم به جماعة من الصحابة وعلم بهم فترك ذلك
مخافة أن تفترض عليهم وهذا ثابت في أحاديث
صحيحة في الصحيحين [البخاري "2009"، مسلم
"173/759"، وغيرهما [ابو دأود "1371"، النسائي
"4/156"، الترمذي "808"، ابن ماجة "1326"،
أحمد "2/281، 289، 408، 423"]، وبهذا يتقرر أن
صلاة النوافل في ليالي رمضان جماعة سنة لا
بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركها
إلا لذلك العذر وثبت أيضا عند أحمد ["5/159،
160، 163"]، وأهل السنن أبو دأود "1375"،
النسائي ""3/83، 84"، "ابن ماجة 1327"،
الترمذي 806"]، وصححه الترمذي ورجاله رجال
الصحيح عن أبي ذر قال صمنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلم يصل بنا حتى مضى سبع من
الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلثا الليل ثم لم يقم
بنا في السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب
شطر الليل فقلنا: يا رسول الله لو نفلتنا بقية
ليلتنا هذه فقال: "إنه من قام مع الإمام حتى
يتصرف كتب له قيام ليلة" ثم لم يقم بنا حتى
بقي ثلث الشهر فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله
ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح, قلت له:
وما الفلاح؟ قال: السحور.
ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى
بهم في النافلة في ليالي رمضان جماعة فكيف
تكون الجماعة بدعة كما قال المصنف ولم يقع من
عمر إلا أنه لما خرج إلي المسجد فوجد الناس
أوزاعا متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل
فيصلي بصلاته الرهط فقال إني أرى لو جمعت
هؤلاء على قارىء واحد لكان أولى ثم عزم فجمعهم
على أبي ابن كعب. [البخاري "2010"]
فقد كانت الجماعة موجودة في المسجد بعد موت
النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يجمعهم عمر
وبهذا كله تعرف أن التجميع في النوافل في
ليالي رمضان سنة لا بدعة.
وأما ما استحسنه جماعة من أهل العلم من جعل
هذه الصلاة عشرين ركعة وجعل القراءة
(1/201)
في كل ركعة
شيئا معينا فهذا لم يكن ثابتا بخصوصه لكنه من
جملة ما يصدق عليه أنه صلاة وأنه جماعة وأنه
في رمضان.
وأما صلاة الضحى التي جعلها المصنف بنيتها
بدعة فكما قال الشاعر:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد
تورد الإبل
وقد ذكرت في شرحي للمنتقي الأحاديث الواردة
فيها وهي شيء واسع فمن أحب الوقوف على ذلك
فليرجع إليه حتى يتبين له هذا الخبط والخلط
الذي وقع من المصنف فإنه جعل السنن بدعا
والبدع سننا والأمر لله العلي الكبير.
(1/202)
|