السيل
الجرار المتدفق على حدائق الأزهار كتاب البيع
مدخل
...
كتاب البيع
[ فصل
شروطه أيجاب مكلف أو مميز مختار مطلق التصرف
مالك أو متول بلفظ تمليك حسب العرف وقبول غيره
مثله متطابقين مضافين إلي النفس أو ما في
حكمهما غير مؤقت ولا مستقبل أيهما ولا مقيد
لما يفسدهما ولا تخللهما في المجلس إضراب أو
رجوع في مالين معلومين يصح تملكهما في الحال
وبيع أحدهما بالآخر والمبيع موجود في الملك
جائز البيع ويكفي في المحقر ما اعتاده الناس].
قوله: فصل : "شروطه إيجاب مكلف أو مميز".
أقول : أعلم أن البيع الذي أحله الله سبحانه
وجعله مقتضيا لانتقال الأملاك من مالك إلي
مالك لا يعتبر فيه إلا مجرد التراضي وطيبة
النفس بأي لفظ وقع وعلى أي صفه كان ولو بمجرد
إشارة أو كتابة فإذا حصل هذا المناط وتفرق
البائع والمشتري من المجلس راضيين بالبيع طيبة
به نفساهما فقد انتقل ذلك المبيع من ملك
البائع إلي ملك المشتري إذا كان المبيع مما
أحل الشرع بيعه وجوز التعامل فيه.
(1/475)
وأما اعتبار
كون المالك مكلفا فأمر لا بد منه لأن نفوذ
التصرفات موقوف على بلوغ المتصرف إلي سن
التكليف وهي أول مظنات الرشد وأما من دون
التكليف فقد عرفت أن الله سبحانه أمر الولي
بأن يمل عنه وجعل تصرفاته إليه وإذا أذن له
بالتصرف كان المعتبر هو هذا الإذن الصادر من
الولي لا مجرد تصرف غير المكلف ولعله إن شاء
الله تعالي يأتي في باب المأذون زيادة تحقيق
للمقام.
وأما اشتراط أن يكون مختارا فأمر لا بد منه
لأن المناط هو التراضي وطيبة النفس كما سلف
والمكره لا رضا منه ولا طيبة نفس وأما اشتراط
كون البائع مطلق التصرف فلأن المحجور محبوس عن
التصرف فهو كالمحكوم عليه بعدم التصرف في
المال الذى تنأوله الحجر إذا وقع من متأهل
للحكم وصادف سببا يقتضي الحجر وسيأتي الكلام
إن شاء الله على الحجر وأما كونه ملكا أو
متوليا عن غيره بولاية شرعية فأمر لا بد منه
فإن من لم يكن مالكا ولا متوليا كذلك لا حكم
لبيعه لأن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وقد
قال سبحانه: {وَلا تَأكلوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
وأما كونه بلفظ تمليك إلخ فقد عرفناك أن
المعتبر هو التراضي وطيبة النفس فما أشعر بهما
ودل عليهما فهو البيع الشرعي وهكذا القول
المعتبر فيه ذلك فقط فما أشعر به فهو الشراء
الشرعي فلو قال البائع بعت هذا منك بكذا فأخذه
المشتري ولم يتكلم ولا أشار وتفرقا من المجلس
كان ذلك بيعا شرعيا موجبا لانتقال المبيع من
ملك البائع إلي ملك المشتري وهكذا لو قال
المشتري اشتريت منك هذا بكذا فسلمه البائع
إليه ولم يصدر منه لفظ ولا إشارة وتفرقا من
المجلس كان ذلك كافيا فيما ذكره من التطابق
وما بعده إنما هو مراعاة لجانب الألفاظ ولا
اعتبار لذلك.
وأما قوله: "غير مؤقت" فصحيح لأن اللفظ الدال
على التوقيت قد أشعر بخلاف موجب البيع وهو
مصير البيع إلي ملك المشتري من غير تقييد وأما
قوله ولا مستقبل أيهما فيقال إذا أشعر لفظ
الاستقبال بالرضا وطيبة النفس بانتقال الملك
في الحال فلا يضر كونه مستقبلا ولا يقدح في
الصحة بل لا مانع شرعا ولا عقلا بأن يكون
مرادهما ما دل عليه لفظ الاستقبال فيكون البيع
ناجزا ثابتا عند حصول أول وقت من أوقات
المستقبل وهو اللحظة المتعقبة لما تكلما به
فيكون بيعا صحيحا وتجارة عن تراض وأي مانع من
هذا بل لو قال بعت منك هذا بعد سنة كان بيعا
شرعيا إذا حصل التراضي وطيبة النفس ويخرج من
ملك البائع إلي ملك المشتري بعد مضي السنة
وأما قوله غير مقيد بما يفسدهما وإن كان ذلك
المفسد هو مدلول اللفظ مع تحقق الرضى وطيبة
النفس فلا حكم له وإن كان باعتبار شرط من
الشروط فسيأتي الكلام عليه في باب الشروط
المقارنة للعقد.
قوله: "ولا تخللهما في المجلس إضراب ولا
رجوع".
أقول : وجهه أن الإضراب قد دل على عدم الرضى
وطيب النفس وكذلك الرجوع واعتبار المجلس قد
ورد به الشرع كما سيأتي في الحديث الصحيح:
"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، [البخاري
(1/476)
"4/326"، مسلم
"47/1532"]. وأما اعتبار أن يكون في مالين
معلومين فغير مسلم فإنه إذا حصل الرضى وطيبة
النفس ببيع المجهول تفصيلا المعلوم جملة كان
البيع صحيحا إذا لم يكن في نوع من أنواع الغرر
التى ورد النهي عن البيع مع وجودها كما سيأتي
وأما اعتبار كونهما مما يصح تملكه في الحال
فظاهر لأن الشيء الذي لا يثبت عليه الملك لا
يصح بيعه إذ المانع الشرعي من تملكه مانع من
بيعه لأن البيع مترتب على ثبوت الملك وأثر من
آثاره وهكذا الكلام إذا كان الثمن لذلك المبيع
لا يصح تملكه وسيأتي للمصنف التصريح بأن بيع
كل ذي نفع حلال جائز.
وأما قوله: "وبيع أحدهما بالآخر" فوجهه إخراج
بيع الربا وما فيه مظنة له وسيأتي الكلام عليه
في بابه وأما قوله والمبيع موجود في الملك
فوجهه ما سيأتي من النهي عن أن يبيع البائع ما
ليس عنده وأما قوله جائز البيع فصحيح لأن ما
لا يجوز بيعه يمنع الشرع عنه لا يجوز الدخول
فيه وليس هذا تكريرا لما سبق من قوله يصح
تملكهما فقد يرد النهي عن بيع شيء مع الإذن
بتملكه في بيع الربا فإن كل واحد من المبيع
والثمن يجوز لكل واحد من البائع والمشتري
تملكه مع ورود النهي عن بيع أحدهما بالآخر
وهكذا بيع الرطب بالتمر وأمثال ذلك كثير وليس
فيه أيضا تكرير لقوله وبيع أحدهما بالآخر فإن
التفريق بين ذوي الأرحام المحارم بالبيع غير
جائز مع كونه يصح بيعهم من غير تفريق بما يقع
التراضي عليه من الثمن وهكذا لا يجوز بيع ما
اشتمل على نوع من أنواع الغرر مع كونه يصح
بيعه مع عدم اشتماله على ذلك.
قوله: "ويكفي في المحقر ما اعتاده الناس".
أقول : المناط ما قدمنا لك من التراضي وطيبة
النفس في الحقير والكثير فإذا حصل ذلك صح به
كل بيع وإن لم يوجد ذلك فلا وقد قدمنا لك أن
تلك الشروط التى ذكرها المصنف لا دليل على
غالبها ولكنه لما جعلها شروطا ووجد الناس في
المحقرات يكتفون بمجرد التراضي وإن لم تحصل
تلك الشروط جعل هذه العادة مخصصة لما زعم أنها
شروط شرعية وقد ذكر المتكلمون في الفقه أن
المراد بهذا المحقر هو ما جرت عادة الناس أنهم
لا يعقدون عليه لحقارته لا للتسأهل فيه فخصصوا
العادة ببعض ما يقع من أهلها فكان ذلك ظلمات
بعضها فوق بعض.
[ فصل
ويصحان من الأعمى ومن المصمت والأخرس بالإشارة
وكل عقد إلا الأربعة ومن مضطر ولو غبن فاحشا
إلا للجوع ومن المصادر ولو بتافه ومن غير
المأذون وكيلا ولا عهدة عليه وبالكتابة ولا
يتولى الطرفين واحد أو في حكمه]
(1/477)
قوله: "ويصحان
من الأعمى"
أقول : الأصل صحة تصرف كل مكلف عاقل والأعمى
والمصمت والأخرس من جملتهم والإشعار بالرضى
وطيبة النفس اللذين هما المناط لصحة البيع
وسائر التصرفات الشرعية ممكن منهم أما الأعمى
فظاهر وأما المصمت والأخرس فبالإشارة التي يصح
بها مراده ومن ادعى أن ثم مانعا في أحدهم
فعليه بيان ذلك المانع واعتبار اللفظ عند
معتبريه مخصوص بمن يمكنه النطق فيصح منهم كل
عقد وكل إنشاء كائنا ما كان].
وأما استثناء الأربعة التي أشار إليها المصنف
وهي الشهادة والإقرار بالزنا والقذف ويمين
الإيلاء واللعان فهو عائد إلي المصمت والأخرس
ولهذا أعاد لفظ من لأن الشهادة من الأعمى
صحيحة إلا فيما لا تتم الشهادة فيه إلا
بالرؤية كما سيأتي للمصنف فإن شهادته على ما
لا يفتقر إلي الرؤية صحيحة مقبولة وكذلك سائر
الأربعة تصح منهم الشهادة وأما المصمت والأخرس
فلا تصح منهما الشهادة إلا إذا كانت الإشارة
تقوم مقام النطق لوضوحها وأما الإقرار بالزنا
وإنشاء القذف فهما وإن كان المراد منهما يفهم
بالإشارة لكن لما كان الحد يسقط بالشبهة كان
عدم قدرته على النطق الصريح شبهة له لا سيما
في الإقرار بالزنا عند من يشترط أن يكون
الإقرار أربع مرات ولا تصح منهما اليمين لأنها
لا تكون إلا باللفظ ولا وجه لتخصيص اللعان
والإيلاء بل جميع الإيمان كذلك.
قوله: "ومن مضطر" الخ.
أقول : هذا رد لما ثبت من النهي عن بيع المضطر
ولا فرق بين أنواع الاضطرار بل كل مضطر لا يحل
لمسلم أن يغتنم اضطراره إلي البيع فيشتريه منه
بدون قيمته بل هو بالخيار أما أوفاه قيمته
المتعارفة زمانا ومكانا أو ترك شراءه ومن كان
مضطرا لسد فاقته أو لما يخشاه من نزول الضرر
به من المصادر له فهو مضطر مشمول بالنهي.
قوله: "ويصح من غير المأذون وكيلا ولا عهدة
عليه".
أقول : لا وجه لهذه الصحة ولا يترتب عليها أثر
من آثار البيع بل الاعتبار بحصو الرضى من
المالك فإن رضي بالبيع كان مجرد هذا الرضى هو
البيع الذى أحله الله سبحانه بقوله {تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]، وإن لم يقع الرضى
فلا حكم لبيع الفضولي وإن كان فيه مصلحة
للبائع وأما إذا كان وكيلا فبيع الوكيل صحيح
إذا باع بما يرضى به البائع لأن وقوع التوكيل
قد حصل به المناط الشرعي مع المطابقة كما
سيأتي في كتاب الوكالة إن شاء الله وأما ما
ذكره من صحة البيع بالكتابة فصحيح لأنها من
جملة المشعرات بالرضى وطيب النفس كما قدمنا
وهكذا الإشارة من القادر على النطق.
وأما قوله: "ولا يتولى الطرفين واحد أو في
حكمه" فمبنى على ما قدمه من اشتراط الإيجاب
والقبول وقد عرفناك أن المناط هو الرضى فيصح
أن يتولى ذلك واحد وقد ثبت
(1/478)
عنه صلى الله
عليه وسلم أنه تولى عقد النكاح للزوجين كما
قدمنا تحقيقه والحاصل أن الأصل عدم المانع فمن
إدعى وجود فعليه البيان.
[ فصل
ويلحق بالعقد الزيادة والنقص المعلومان في
المبيع والثمن والخيار والأجل مطلقا لا
الزيادة في حق الشفيع وأول مطلق الأجل وقت
القبض].
قوله: فصل : "ويلحق بالعقد الزيادة والنقص"
الخ.
أقول : هذا صحيح إذا حصل في هذه الزيادة
والنقص المناط المعتبر وهو الرضى ولا وجه لذكر
هذا فإن الزيادة اللاحقة هى تجارة عن تراض
ولكنهم لما جمدوا على اعتبار الألفاظ المقيدة
بتلك القيود وجعلوها عقودا احتاجوا إلي ذكر
مثل هذا مع أن مثل هذا ينقض عليهم بتلك الشروط
والإعتبارات لأنه يقال لهم هذه الزيادة إن
كانت مالا فلا بد فيها مما اشترطموه في المزيد
لأن كل واحد منهما يصدق عليه اسم المال فما
وجه ذكرها ههنا وهكذا النقص لأنه في حكم
الزيادة لما وقع له وإن لم يكن مالا عندكم بأن
يكون مما لا قيمة له فهو خلاف ما تقولونه
فإنكم لا تقيدون ذلك بما لا قيمة له وإن كانت
هذه الزيادة من المحقرات عندكم فلا بد فيها من
مثل ما ذكرتم في المحقرات.
وأما قوله: "والزيادة في الخيار والأجل" فصحيح
لأن مرجع ذلك التراضي ولا حجر على بائع أو
مشتر أن يزيد في الخيار والأجل كما أنه لا حجر
عليه في إبطالهما وليس للتنصيص على مثل هذه
الأمور كثير فائدة لأنها معلومة.
وأما قوله: "لا للزيادة في حق الشفيع" فوجهه
أنها تستلزم لحوق غرم على الشفيع فإذا قال
المشتري للبائع قد زدتك في ثمن المبيع كذا صح
ذلك وملكه البائع ولا يلزم الشفيع من ذلك شيء.
وأما قوله: "وأول مطلق الأجل وقت القبض"
للمبيع فلا وجه له بل الاعتبار بالعقد الذي هو
التراضي وإن تأخر القبض والتأجيل وقع عنده
فالاعتبار بوقته لا بوقت القبض وأما كونه يتلف
من مال البائع قبل القبض فبحث آخر سيأتي
الكلام عليه.
[ فصل
والمبيع يتعين فلا يصح معدوما إلا في السلم أو
في ذمة مشتريه ولا يتصرف فيه
(1/479)
قبل القبض
ويبطل البيع بتلفه واستحقاقه ويفسخ معيبه ولا
يبدل والثمن عكسه في ذلك غالبا والقيمي
والمسلم فيه مبيع أبدا وكذلك المثلى غير
النقدين إن عين أو قوبل بالنقد وإلا فثمن أبدا
كالنقدين].
قوله: فصل : "والمبيع يتعين فلا يصح معدوما".
أقول : هذا وإن كان تكريرا لقوله والمبيع
موجود في الملك ولكنه أراد هنا أن يتوصل بذكره
إلي ذكر ما لا يشترط فيه الوجود وأعلم أن
الشارع قد نهى عن بيع المعدوم على العموم فقال
لحكيم بن حزام لما قال له يا رسول الله يأتيني
الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه
ثم أبتاعه من السوق فقال له صلى الله عليه
وسلم: "لا تبع ما ليس عندك"، أخرجه أحمد
"3/401، 403"، وأهل السنن أبو داود "3503"،
الترمذي "1232"، النسائي "4613" ابن ماجة
"2187"]، وقال الترمذي حسن صحيح وأخرجه ابن
حبان في صحيحه قال الترمذي وقد روي من غير وجه
عن حكيم وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم النهي
عن صور من صور البيع والعلة فيها كونه معدوما
وسيأتي بيان كل منها في موضعه اللائق به وأما
قوله: "إلا السلم"، فسيأتي دليله الخاص به وهو
وإن كان نوعا من أنواع البيع فإن ما ورد في
صحته على الصفة المذكورة فيما سيأتي يكون
مخصصا لعموم النهي عن بيع ما ليس بموجود.
قوله: "أو في ذمة مشتريه".
أقول : هذا الذى في ذمة المشتري هو غير موجود
عند البائع فهو داخل تحت النهي عن بيع المعدوم
فإن كان إخراجه من عموم الدليل بدليل فما هو
فإنه لا دليل ها هنا من كتاب ولا سنة ولا قياس
وهذا على تقدير حضور الثمن أما إذا كان غير
حاضر فهو مندرج أيضا تحت نهي آخر وهو ما أخرجه
الدارقطني والحاكم وصححه على شرط مسلم من حديث
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع الكاليء بالكاليء وهو وإن كان في إسناده
موسى بن عبيدة الربذي فقد شد من عضده ما يحكى
من الإجماع على عدم جواز بيع الكاليء بالكاليء
وقد أخرجه أيضا الطبراني من حديث رافع بن
خديج.
قوله: "ولا يتصرف فيه قبل قبضه".
أقول : لحديث جابر عند مسلم وغيره قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتعت طعأما
فلا تبعه حتى تستوفيه"، وأخرج مسلم "40/1528"،
نحوه أيضا من حديث أبي هريرة وورد النهي على
العموم من غير اقتصار على الطعام فأخرج أحمد
عن حكيم ابن حزام قال قلت: يا رسول الله إني
أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم علي؟
قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه"
وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي إسناده
العلاء بن خالد الواسطي وقد وثقه ابن حبان
وأخرج أبو دأود والدارقطني والحاكم وابن حبان
وصححاه من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى
يحوزها التجار إلي رحالهم وفي الصحيحين
بالبخاري "4/347"، مسلم "38/1527"، وغيرهما من
حديث ابن عمر
(1/480)
قال: كانوا
يبتاعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه
وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع طعأما فلا
يبعه حتى يستوفيه"، قال ابن عباس ولا أحسب كل
شيء إلا مثله وهذا الحسبان من ابن عباس قد دل
عليه حديث حكيم بن حزام وزيد بن ثابت الذى
ذكرناه.
فالحاصل أن بيع الشيء قبل قبضه منهى عنه وليس
في الأحاديث إلا النهي عن البيع فلا يلحق به
سائر التصرفات فلا وجه لقول المصنف ولا يتصرف
فيه قبل قبضه فإن قيل إنها مقاسة عليه فهو
قياس مردود بوجود الفارق وأما قوله ويبطل
المبيع بتلفه فظاهر لأنه إذا تلف لم يبق ما هو
متعلق به وشرط له أو ركن وهكذا استحقاقه لأنه
انكشف أنه ملك لغير بائعه فلا نفوذ لما وقع
منه وأما كونه يفسخ بالعيب فلما سيأتي في
العيوب وأما كونه لا يبدل فلأن التراضي وقع
عليه لا على غيره وذلك بيع آخر وإنما ذكر هذه
الأمور ليبين أن الثمن لا يكون كذلك فالفصل
معقود للفرق بين الثمن والمبيع.
قوله: "والثمن عكسه في ذلك".
أقول : وجهه أنه لم يرد فيه ما ورد من الأدلة
في البيع من النهي عن أن يكون معدوما وان يباع
قبل قبضه وإذا بطل الثمن فالمبيع باق وهو الذى
اعتبروا فيه ما اعتبروا وقيم النقود متسأوية
فإذا عدم شيء منها فمثله موجود بخلاف البيع
فإن الغرض يتعلق بما وقع التراضي عليه وليست
الأعيان المتفقة في الجنس والنوع متسأوية
كتسأوي النقود بل مختلفة غاية التخالف
والأعراض مختلفة فقد يكون قيمة هذه العين مثل
عشر قيمة غيرها مع كون الجنس واحدا والنوع
واحد ثم إن التراضي حال البيع على ثمن هو كذا
من الدراهم أو الدنانير وليس المقصود للبائع
إلا دفع ذلك العدد من ذلك النقد المتعامل به
في البلد ولا يتعلق له عرض بغيره ولا بهذا منه
دون هذا مع الاتحاد وعدم التفأوت ويؤيد هذا ما
أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم
وصححه والبيهقي من حديث ابن عمر قال أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إني أبيع الإبل
بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع
بالدراهم وآخذ الدنانير فقال: "لا بأس أن تأخذ
بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء"، وهو
صريح في جوز البيع بأحد النقدين وأخذ الآخر
عوضا عنه وجواز التصرف بالثمن المسمى قبل
قبضه.
قوله: "والقيمي والمسلم فيه مبيع أبدا".
أقول : اعلم أنه لا مستند لهذا إلا مجرد الرأي
الراجع إلي اصطلاح حادث وعادات جارية والشرع
أوسع من هذا وهكذا لغة العرب فإذا قال أحد
المتبايعين للآخر بع مني هذه العين بهذه العين
فباعها وتراضيا على ذلك كان هذا بيعا شرعيا
ولغويا سواء كانا قيميين في اصطلاح أهل الفروع
أو مثليين أو أحدهما قيميا والآخر مثليا إذا
لم يكونا مما يحرم بيع أحدهما بالآخر مطلقا أو
مشروطا بالتسأوي والمقايضة وقد رتبوا على هذا
الاصطلاح أن المثلى لا يضمن إلا بمثله والقيمي
لا يضمن إلا بقيمته وهو رأي بحت لم يقم به
دليل ومنقوض أيضا بما ثبت في حديث
(1/481)
المصراة الصحيح
المتفق عليه من قوله صلى الله عليه وسلم:
"ردها وصاعا من تمر"، فها هنا قد ضمن المثلي
وهو اللبن بغير مثله ومنقوض أيضا بما ثبت: أن
بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أهدت له
وهو عند عائشة صحفة فيها طعام فكسرتها عائشة
فرد النبي صلى الله عليه وسلم للمهدية صحفة
عائشة [أحمد "6/148" 277"، أبو داود النسائي
3957"]، فها هنا قد ضمن القيمي بمثله لا
بقيمته.
[ فصل
ويجوز معاملة الظالم بيعا وشراء في ما لم يظن
تحريمه والعبد أو المميز فيما لم يظن حجرهما
وهو بالخطر وولي مال الصغير إن فعل لمصلحة وهو
أبوه ثم وصيه ثم جده ثم الإمام والحاكم
ومنصوبهما والقول له في مصلحة الشراء وبيع
سريع الفساد والمنقول وفي الإنفاق والتسليم لا
الشراء من وارث مستغرق باع لا للقضاء وينفذ
بالإيفاء أو الإبراء وبيع كل ذي نفع حلال جائز
ولو إلي مستعمله في معصية غالبا أو واجب
كالمصحف ومن ذي اليد ولا يكون قبضا إلا في
المضمون غالبا ومؤجر ولا تنفسخ إلا أن يباع
لعذر أو من المستأجر أو بإجازته والأجرة
للمشتري من العقد ومجهول العين مخيرا فيه مدة
معلومة وميراث علم جنسا ونصيبا ونصيب من زرع
قد استحصد وإلا فمن الشريك فقط قيل وكامن يدل
فرعه عليه وملصق كالفص ونحوه وإن تضرر غالبا
ويخيران قبل الفصل وصبرة من مقدر كيلا أو وزنا
أو عددا أو ذرعا مستو أو مختلف جزافا غير
مستئنن إلا مشاعا أو مختارا أو كل كذا بكذا
فيخير لمعرفة قدر الثمن أو على أنه مائة بكذا
أو مائة كل كذا بكذا فإن نقص أو زاد في
الآخرتين فسد في المختلف مطلقا وفي غيره بخير
في النقص بين الفسخ والأخذ بالحصة إلا المذروع
في الأولى فبالكل إن شاء وفي الزيادة ردها إلا
المذروع فيأخذها بلا شيء في الأولى وبحصتها في
الثانية أو يفسخ وبعض صبرة مشاعا أو مقدرا ميز
في المختلف قبل البيع وعينت جهته في مختلف
المذروع وكذا إن شرط الخيار مدة معلومة لا
منها كذا بكذا إن نقصت أو كل كذا بكذا مطلقا
فتفسد وتعين الأرض بما يميزها من إشارة أو حد
أو لقب].
قوله: فصل : "ويجوز معاملة الظالم بيعا وشراء
فيما لم يظن تحريمه".
أقول : قد ثبت وقوع المعاملة منه صلى الله
عليه وسلم لمن يفد إلي المدينة من الأعراب
الباقين على الشرك إذ ذاك وهكذا معاملة أصحابه
رضي الله عنهم لهم بمرأى منه صلى الله عليه
وسلم ومسمع وهم في حال جأهليتهم مرتطمون في
المحرمات مرتكبون للظلم وغالب ما في أيديهم
مما يأخذونه قهرا وقسرا
(1/482)
وغضبا من أموال
بعضهم بعضا مع كونهم مستمرين على ربا الجأهلية
الذي هو الربا المحرم بلا خلاف وهكذا كان صلى
الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعاملون اليهود
من أهل المدينة وممن حولها وهم مستحلون لكثير
ما حرمه شرعنا وهكذا كان صلى الله عليه وسلم
يعامل هو وأصحابه أهل مكة قبل الهجرة ومن يرد
إليها من طوائف الكفار ولم يسمع على كثرة هذه
المعاملة وتطأول مدتها أنه صلى الله عليه وسلم
قال: هذا كافر لا تحل معاملته ولا قال أحد من
الصحابة كذلك وإذا كان هذا في معاملة الكفار
الذين هذا حالهم وملكهم فكيف لا تجوز معاملة
من هو من المسلمين مع تلبسه بشيء من الظلم فإن
مجرد كونه مسلما يردعه عن بعض ما حرمه الله
عليه وإن وقع في بعض المحرمات تنزه عن بعضها
فغاية الأمر ما في يده قد يكون مما هو حرام
وقد يكون مما هو حلال ولا يحرم على الإنسان
إلا ما هو نفس الحرام وعينه.
وأما طريقة الورع فلا شك أن الأمر كما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه:
"الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات"
[البخاري "1/126"، 4/290"، مسلم "3330"،
الترمذي "1205"، النسائي "4453"، ابن مكاجة
"3984"]، والمؤمنون وقافون عند الشبهات ولكنه
قال لو كان هذا أعني معاملة الظالم من هذا
القبيل لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفعله أصحابه مع علمه لذلك وتقريره له وإذا
كان هذا في المعاملة بالبيع والشراء ونحوهما
كان في قبول عطائهم وهباتهم كذلك فقد كان
الصحابة بعد انقراض خلافة الخلفاء الراشدين
يقبضون العطاء والجوائز والهبات ممن بعدهم مع
تلبسهم بشيء مما لا يبيحه الشرع وعدم توقفهم
على ما يسوغه الحق ولهذا يقول صلى الله عليه
وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون عأما ثم تكون ملكا
عضوضا".
وأما قوله: "والعبد المميز فيما لم يظن
حجرهما" فوجهه أن الأصل فيما في أيديهما وقوع
الإذن لهما بالتصرف فيه عملا باليد الثابتة
عليه ومع ظن الحجر لهما ينتفي ذلك الأصل وإذا
انكشف أنهما غير مأذونين كان الضمان متعلقا
برقبة العبد ومال الصبي لأنه جناية منهما وهي
مضمونة عليهما ولهذا قال وهو بالخطر فإنه
تحذير للمعامل لهما لأنه قد لا يكون للصبي
المميز مال وقد تكون رقبة العبد قاصرة عن
الوفاء بجنايته وقد تقع أمثال هذه الجناية
والجميع متعلق برقبته فلا يحصل للفرد من
المعاملين له إلا النزر اليسير.
قوله: "وولي مال الصغير إن فعل لمصلحة".
أقول : وجهه أن الحاجة لمثل الصغير والمجنون
قد تدعو إلي بيع شيء من ماله أو شراء شيء له
لحاجة لا عذر عنها وهو صغير لا يصلح لذلك لعدم
بلوغه سن الرشد والمجنون لا يدرك شيئا ولا
يفرق بين المصلحة والمفسدة فلا بد من أن يتولى
التصرف عنهما غيرهما ولكن إن فعل ذلك لمصلحة
وإلا كان تصرفه ردا عليه والمصلحة هى على الحد
الذى ذكره الله سبحانه في أموال اليتامى وأما
قوله وهو أبوه فاعلم أن الله سبحانه قد ذكر
الولي في كتابه العزيز فقال: {فَإِنْ كَانَ
الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ
ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ
هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}
فجعل الأمر في هذا الذي لا يستطيع أن يمل إلي
وليه واكتفى باملاله عنه فكان هذا دليلا من
الكتاب العزيز على أن الولي ينوب عمن لا
يستطيع أن يفعل كما يفعله غيره في
(1/483)
التصرفات
والإقرارات والإنشاءات إلحاقا لغير هذا الفرد
المنصوص عليه بعد لعدم الفارق وتقييد ما في
الآية بقوله بالعدل مرشد إلي ما تقدم من قول
المصنف إن فعل لمصلحة فإن إيقاع الأمر على وجه
العدل هو المصلحة التي ليس وراءها مصلحة وكما
ثبت في الكتاب العزيز ذكر الولي الذي يتصرف عن
غيره ثبت أيضا في السنة ذكر الولي في النكاح
بما صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله:
"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل
باطل باطل"، [أحمد "6/47، 165"، أبو داود
"2083"، ابن ماجة "1879"، الترمذي "1102"، فإن
هذا ولي جعل إليه النبي صلى الله عليه وسلم
عقد النكاح للمرأة وقد كان يعقد نكاح النساء
في زمن النبوءة قرابتهن وكان يقدم الأقرب
فالأقرب فإذا كان الأب موجودا كان ذلك إليه
كما كان من أبي بكر وعمر في تزويجهما عائشة
وحفصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما
كان منه صلى الله عليه وسلم من تزويج بناته
وهكذا كان عمل سائر الصحابة ثم إذا عدم الأب
تولى ذلك الأقرب إلي المرأة فعرف بهذا أن
الولي في النكاح هم القرابة مع تقديم الأقرب
فالأقرب فكان ذلك كالتفسير للولي المذكور في
الآية فيلي أمر الصغير ونحوه أبوه فإن عدم
الأب فالأقرب فالأقرب ممن له عليه مزيد حنو
ورأفة فإن ذلك أقرب إلي رعاية مصلحته وعلى كل
حال فعليه أن يتحرى العدل كما ذكره الله
سبحانه في تلك الآية هذا إذا أردنا معرفة
الولي شرعا فإن ما ذكرناه يدل عليه ومعلوم أن
الأب هو الأقرب والأكثر حنوا ورأفة ويليه الجد
فإنه كالأب في مزيد حنوه ورأفته على ابن ابنه
وقد يزيد على الأب في ذلك ثم الإخوة والأعمام
ثم الأقرب فالأقرب فمهما وجدت القرابة كانت
صالحة لجعلها مناطا لثبوت كون صاحبها وليا مع
عدم وجود من هو أقرب منه ومما يقوي ما ذكرناه
قول الله عز وجل: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال 75]،
فهذه الآية أثبتت بعمومها الأولوية بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب ولو رجعنا إلي اللغة
لدلت على ما ذكرناه فإن الولي القريب والولي
القرب والدنو وقد ذكر أهل اللغة للولي غير هذا
المعنى ولكنه لا يناسب المقام وإذا تقرر لك
هذا فأعلم أنه لا وجه لإثبات الولاية لوصي
الأب ووصي الجد أصلا لأن الموصي إليهما قد
انقطعت ولايته بموته مع كون الحنو والرأفة
اللذين هما سبب جعل الولي وليا معدومين فيهما
وأما الإمام والحاكم فلهما ولاية عامة تشمل
هذه الولاية فمن هذه الجهة العامة لهما ولاية
وأما مع وجود الولي الخاص فهو أقدم منهما
ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذى
قدمناه في النكاح: "فإن اشتجر الأولياء
فالسلطان ولي من لا ولي له"، فجعل ثبوت ولايته
في النكاح مشروطة بأشتجار الأولياء فأفاد ذلك
أنه لا ولاية للإمام والحاكم مع وجود الأولياء
إذا لم يشتجروا.
قوله: "والقول له في مصلحة الشراء وبيع سريع
الفساد والمنقول".
أقول : قد قررنا أن لمن كان وليا على الصفة
التى حررناها ولاية شرعية وموجب هذه الولاية
أن يكون القول قوله في ذلك لأنه متصرف بأمر
الشرع ومأمور بالعدل فلو عاد خصما مخاصما وكلف
البينة على تصرفاته لكان ذلك مخالفا للولاية
الشرعية وأما ما قيل من أن الأصل في الأولياء
عدم الصلاح فمجرد رأى بحت بل الأصل فيهم
الصلاح وفي تصرفاتهم الصحة ومن
(1/484)
ادعى غير ذلك
فهو مدع لخلاف الظاهر فإن جاء ببرهان يقتضي
صحة دعواه فذاك وإلا فلا قبول لمجرد دعواه.
وأما قوله: "وفي الإنفاق" فكذلك أيضا لأن الله
سبحانه قد جعل الأمر في أموال اليتامى مناطا
بالأولياء فلا وجه لعدم قبول قولهم فيما
أنفقوه عليهم لأنهم باشروا ما باشروه منها
بأمر الله عز وجل والمفروض أنهم من أهل
الأمانة ومن المتصرفين بالعدل أما إذا تقرر
أنهم من أهل الخيانة ومن المتصرفين بالجور
منهم لم لا يتوقفوا على ما أمرهم الله به
فيضمنون ما تصرفوا فيه بغير ما أمر الله به.
وأما قوله: "في التسليم" فلا بد من تقييد ذلك
بأمرين.
الأول: أن يكون اليتيم ونحوه حال النزاع قد
بلغ سن الرشد لقوله عز وجل: {فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، فلو لم يكن قد
بلغ تلك السن كان الولي متعديا بتسليم المال
إليه ومع كونه مخالفا لما أمر الله به لا يكون
القول قوله لأن الولاية الشرعية تقتضي أن لا
يدفع إليه ماله إلا مع إيناس الرشد فدعواه أنه
دفعه إليه قبلها يوجب بطلان ولايته والقدح في
عدالته وهو لم يقبل قوله إلا لمجموع الولاية
والعدالة.
الأمر الثاني: أن يشهد على تسليم ماله إليه
كما أمره الله سبحانه بقوله: {فَإِذَا
دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6]، فإذا
لم يشهد فقد أخل بواجب عليه فعليه أن يأتي بما
يصدق قوله أو يصحح دعواه.
وأما قوله: "ولا الشراء من وارث مستغرق باع لا
للقضاء" فإن فعل ذلك عمدا بعد عمله باستغراق
التركة بالدين وأن البائع باع لهما للقضاء
فهذه خيانة منه فلا ينفذ تصرفه وإن فعل ذلك
جأهلا فولايته باقية وعليه الإستدراك بحسب
الإمكان فإن تعذر ذلك فلا ضمان عليه لأنه قد
فعل ما يظنه صلاحا وهو أمين ولم يحسن ولا فرط
وسواء وقع الإيفاء أو الإبراء أو لم يقع واحدا
منهما.
قوله: "وبيع كل ذي نفع حلال جائز".
أقول : قد أراد المصنف بهذا الإشارة إلي ما هو
جائز للبيع وإلي ما لا يجوز بيعه فكل ما كان
يتعلق به منفعة يحلها الشرع فبيعه جائز وكل ما
كان لا منفعة له أصلا وكانت تلك المنفعة غير
جائزة فبيعه غير جائز لأن الوسيلة إلي الحرام
حرام ولكن لا بد أن يكون النفع في ذلك الشيء
لا يكون في حرام على كل حال أما لو كان مما
يمكن أن يكون نفعه حلالا في حالة وحرأما في
حالة أو مما يستعمله هذا في حرام وهذا في حلال
فإن علم البائع أن ذلك المشتري لا يستعمله إلا
في حرام لم يحل بيعه وإن علم أنه يستعمله في
حلال حل بيعه وإن بقي الأمر ملتبسا مع إمكان
استعماله في الحلال والحرام جاز بيعه لأنه لم
يوجد المانع من البيع ومجرد التردد مع عدم
الترجيح لا اعتبار به.
فإن قلت وما الدليل الذى دل على المنع مما
نفعه حرم قلت ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
في
(1/485)
الصحيحين
[البخاري "2236"، مسلم "1581"، وغيرهما [أحمد
"3/324، 326"، أبو داود "3486"، الترمذي
"1297"، النسائي "7/309، 310"، ابن ماجة
"2167"]، من حديث جابر قال إنه سمع النبي صلى
الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم بيع الخمر
والميتة والخنزير والأصنام"، فقيل: يا رسول
الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن
ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس, فقال:
"لا هو حرام"، فصرح صلى الله عليه وسلم بأن
بيع ذلك حرام مع بيانهم لوجوه الانتفاع به ثم
قال بعد ذلك: "قاتل الله اليهود إن الله لما
حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه"
وأخرج أحمد وأبو دأود بإسناد رجاله ثقات من
حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم
فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على
قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"، فصرح صلى الله
عليه وسلم بأن الحرمة مانعة من البيع والتحريم
كما يكون في أعيان الأشياء يكون أيضا في
منافعها ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا تبيعوا القينات المغنيات ولا
تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن
وثمنهن حرام"، فجعل صلى الله عليه وسلم ثمنهن
حرأما لأن الغالب أنهن لا يبعن إلا للغناء مع
كون الانتفاع بهن في غيره ممكنا كالوطئ
والخدمة أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وقال
غريب انتهى ولكن له شواهد تقويه.
فالحاصل أنه إذا كان الغالب في الانتفاع
بالمبيع هو المنفعة المحرمة فلا يجوز بيعه
وكانت هذه الغلبة توجب حصول الظن للبائع بأن
المشتري ما أراد بشرائه لتلك العين إلا تلك
المنفعة المحرمة وأما إذا لم تكن ثم غلبة
فالأمر كما قدمنا ومن هذا بيع العنب والتمر
إلي من يغلب على الظن أنه يتخذه خمرا وبيع
آلات الملاهي إلي من يلهو بها فإن ذلك غير
جائز لأن تلك المنفعة حرام وكل حرام يحرم بيعه
والمنفعة هى المقصودة لا مجرد العين من غير
نظر إلي وجه من وجوه الانتفاع بها فما كان
للمصنف أن يقول ولو إلي مستعمله فإن البيع
إليه مع العلم والظن بأنه يستعمله في معصية لا
يجوز لما تقدم بل يحرم مثلا بيع الحمار الأهلي
إذا علم البائع أو ظن أن المشتري اشتراه
ليأكله لأن هذا البيع وسيلة إلي الحرام وذريعة
إلي ما لا يحل ووسائل الحرام حرام وقد أخرج
الطبراني والبيهقي من طريق محمد بن أحمد بن
أبي خيثمة عن بريدة مرفوعا: "من حبس العنب
آيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو من نصراني
أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة"
زاد البيهقي: "أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرا"
وحسنه ابن حجر في بلوغ المرام.
قوله: "أو واجب كالمصحف".
أقول : المصحف هو آكد لتلأوة القرآن وأما تعلم
ما يجب على الإنسان تعلمه فلا دخل للمصحف في
ذلك لأنه يتعلمه من المعلم كالفاتحة وسورة فإن
العامي لو أخذ المصحف وأراد أن يتعلم ذلك لم
يدر ما يقول حتى يتعلم ذلك مشافهة وأما ما روي
عن بعض السلف من المنع عن بيع المصحف فليس
عليه أثاره من علم وأي شراء أطيب من شراء من
يستعمل تلك العين المشتراة في طاعة الله
سبحانه كالمجاهد يشتري السيف ليقاتل به الكفار
ويجاهد به في سبيل الله ومعلوم أن الجهاد أعظم
فرائض الإسلام فلو كان بيع الشيء الذي يستعمله
مشتريه في
(1/486)
واجب غير جائز
كما قال ذلك البعض لحرم ببيع ما يحتاجه
المجاهد للجهاد وما يتجهز به للحج وما يلبسه
للصلاة وما يتسحر به للصيام وما ينفقه على ما
يجب عليه انفاقه.
قوله: "ومن ذي اليد" الخ.
أقول : إذا ما حصل مناط البيع وهو التراضي
المذكور في الكتاب العزيز صار ذلك المبيع ملكا
للمشتري وليس هذا من بيع البائع لما ليس عنده
حتى يدخل في النهي المتقدم قريبا بل يد الأمين
يد من أئتمنه ويكفي المشتري ما وقع من التراضي
فإنه قد سلطه بذلك على قبض العين التى لديه
وأما إذا كانت العين في يد غاصب لها ممتنع من
ردها فقد يندرج ذلك تحت بيع البائع لما ليس
عنده فيدخل تحت النهي لأن الغاصب قد حال بينه
وبينها باستيلائه عليها عدوانا فلا بد من
قبضها منه ثم بيعها إليه.
والحاصل أن إيجاب تحديد القبض والفرق بين
المضمون وغير المضمون من غرائب الرأي وعجائب
الاجتهاد وليس ذلك بمستنكر من الجامدين على ما
وجدوه في كتب الفروع.
قوله: "ومؤجر ولا تنفسخ إلا أن يباع لعذر"
الخ.
أقول : إذا أخرج المالك تلك العين من ملكه فقد
بطل ما فعله من التأجير فيها لأن إجارته إنما
تصح ما دام مالكا للعين وبعد خروجها عن ملكه
قد صارت ملكا للمشتري وهو بالخيار أما رضي
بتأجيرها من ذلك المستأجر أو نزعها من يده
فكونه لا ينفذ له تصرف بالبيع في ملكه مع
تأجير منافعها لا يصلح مانعا لأن تسليط
المستأجر على الانتفاع بالعين هو إلي مقابل
أجرة وقد اختار المالك أن يخرجها عن ملكه وهو
محكم في ملكه ولم يرد ما يدل على أن هذا
التأجير من موانع البيع حتى يقال اقتضى ذلك
الدليل وعلى فرض ورود ما يدل على لزوم
الاستمرار على ما اقتضاه عقد الإجارة فهو مقيد
ببقاء الملك ولم يبق ها هنا فالظاهر جواز بيع
العين المؤجرة سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر
وسواء كان من المستأجر أو غيره وسواء رضي
المستأجر أم لم يرض ومع هذا فكل بائع لا يبيع
العين المؤجرة إلا وقد وجد البيع أنفع له من
الاستمرار على التأجير وهذا عذر وأيضا هو
بالبيع قد زال الغرض الذى كان له في عقد
الإجارة وسيأتي أن من أسباب انفساخ الإجارة
الصحيحة العذر الزائل معه الغرض بعقدها وهذا
قد زال غرضه من الإجارة بترجيح جانب البيع.
قوله: "ومجهول العين مخيرا فيه مدة معلومة".
أقول : وجه الصحة أن الخيار في الاختيار رافع
للجهالة باعتبار الانتهاء وإن كان مجهولا في
الابتداء فلا غرر حينئذ عند انجاز البيع وهو
وقت الاختيار ومن منع من ذلك نظر إلي أنه وقع
البيع لشيء مجهول وإرتفاع الجهالة من بعد لا
يقتضي الصحة والقول بالصحة أرجح لأن المانع
منها مع التخيير لا يصلح للمانعية وقد ثبت في
الصحيحين [البخاري "4/326، 4/327"، مسلم
"43/1531"]، وغيرهما [أبو داود "3454، 3455"،
الترمذي "1245"، النسائي "7/248، 249"، ابن
ماجة "2181"، من حديث ابن عمر أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما
لم يتفرقا
(1/487)
أو يقول أحدهما
لصاحبه اختر"، وربما قال: "أو يكون بيع
الخيار" وفي لفظ لهما: "أو يخير أحدهما الآخر
فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب
البيع" وفي لفظ لهما أيضا: "كل بيعين لا بيع
بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار" ولا يخفاك
أن بيع مجهول العين مع التخيير داخل في ذلك
وفي الباب أحاديث.
قوله: "وميراث علم جنسا ونصيبا".
أقول : لا شك ولا ريب أن قول القائل مثلا بعت
منك نصيبي مما ورثته من فلان وهو الثلث أو
الربع أو نحوهما من الأراضي أو الدور أو البقر
أو الغنم أو نحو ذلك مجهول الكمية والكيفية
وما كان كذلك فهو مجهول الكنه.
ومن جملة ما يصدق عليه بيع الغرر الذى ورد
النهي عنه في الأحاديث الصحيحة بيع المجهول
بأي نوع من أنواع الجهالة كما يفيد ذلك أقوال
أئمة اللغة فالعلم بالجنس والنصيب لا يرفع
الجهالة فلا يكون ذلك مسوغا للبيع.
والحاصل أن أدلة النهي عن بيع الغرر قد تنأولت
هذا وما فوقه في الجهالة وما هو دونه فلا يخرج
عن ذلك إلا ما خصصه الدليل من هذا العموم كبيع
الغائب وبيع الجزاف كما سيأتي ولا وجه لقول
المصنف وميراث بل كل شيء معلوم الجنس والنصيب
الكلام فيه كالكلام فى الميراث المعلوم جنسا
ونصيبا.
قوله: "ونصيب من زرع قد استحصد".
أقول : وجهه ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من
حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة وما
أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجه وابن
حبان والحاكم وصححه من حديث أنس قال: نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى
يسود وعن بيع الحب حتى يشتد ولكن هذين
الحديثين إنما يدلان على النهي من البيع إذا
كان الزرع قد سنبل حتى يبيض وإذا كان الزرع قد
صار حبا حتى يشتد وأما بيعه قبل أن يسنبل
ويظهر فيه الحب وهو الذى يقال له بيع القصيل
فقال ابن رسلان في شرح سنن أبي دأود واتفق
العلماء المشهورون على جواز بيع القصيل بشرط
القطع وخالف سفيان الثوري وابن أبي ليلى فقالا
لا يصح بيعه بشرط القطع قال وقد اتفق الكل على
أنه لا يصح بيع القصيل من غير شرط القطع وخالف
ابن حزم الظاهري فأجاز بيعه من غير شرط القطع
انتهى ولا يصدق على بيع القصيل أنه بيع
المخاضرة الذى ورد النهي عنه لأن في كتب اللغة
ما يدل على أن بيع المخاضرة بيع الثمار قبل
بدو صلاحها والثمار هى حمل الشجر فلا يتنأول
الزرع كما في كتب اللغة أيضا وقد قسر بعض أهل
العلم المحاقلة ببيع الزرع قبل أن يغلظ سوقه
فإن صح ذلك كان دليلا على المنع وإلا كان
الظاهر ما قاله ابن حزم من
(1/488)
جواز بيع
القصيل مطلقا ولا وجه لقول المصنف وإلا فمن
الشريك فقط لأنه تخصيص للحديثين المذكورين
بغير مخصص وأما توهم أن الشريكين لا يقسمان
الزرع إلا عند الحصاد فغير صحيح فإنه قد يتعلق
لهما غرض بالقسمة قبل ذلك على أن مثل هذا لو
صح لم يصح مخصصا لجواز تلف الزرع قبل بلوغ وقت
الحصاد وذلك هو العلة في النهي عن البيع.
قوله: "قيل: وكامن يدل فرعه عليه".
أقول : إن كانت هذه الدلالة بحيث تتميز عند
البائع والمشتري ويعرفان كيفيته وكميته كان
ذلك خارجا عن بيع الغرر المنهى عنه وإن كانت
هذه الدلالة قاصرة عن ذلك فلا يحل بيعه حتى
يخرج ذلك الكامن من الأرض ويحصل الإطلاع عليه
ومعرفته بالكنه ومن جوز ذلك مستدلا بما جرت
عليه عادة الناس فلم يصب فإن مثل ذلك لا يصلح
لتخصيص الأدلة وأما قوله وملصق كالفص ونحوه
فإن كان مجرد الإلصاق لا يوجب الجهالة فالبيع
صحيح وإلا فلا لأنه من بيع الغرر وأما الفصل
للفص فمرجعه تراضيهما فإن تراضيا على ذلك صح
سواء حصل التضرر أم لم يحصل وأما تخييرهما قبل
الفصل فوجهه أنه إذا كان في الفصل مضرة على
الملصق أو الملصق به ولم يحصل التراضي عليه
كان ذلك في حكم تعذر تسليم المبيع وسيأتي أنه
من الخيارات المذكورة في باب الخيارات.
قوله: "وصبرة" إلي قوله: "جزافا".
أقول : جاز بيع الجزاف بالدليل الذى خصصه من
أحاديث النهي عن بيع الغرر وهو ما ثبت في
الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال كانوا
يبتاعون الطعام جزافا على السوق فنهاهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه
قال ابن قدامة يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم
فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها
انتهى.
وإنما قلنا إن الدليل الوارد بجواز بيع الجزاف
مخصص لأحاديث النهي عن بيع الغرر لأن في بيع
الجزاف غررا في الجملة إذ الجزاف هو ما لم
يعلم قدره على التفصيل.
وأما قوله: "غير مستثن إلا مشاعا" فوجهه أن
الاستثناء يزيد في الجهالة الكائنة في الصبرة
زيادة على الجهالة التى خصصها الدليل فلا يدخل
بعد هذه الجهالة في التخصيص وأما إذا كان
المستثنى جزءا مشاعا فلا بأس به فإنه لا يوجب
مزيد جهالة وهكذا مع الاختيار لما قدمنا
قريبا.
وأما ما ذكره من قوله: "أو كل كذا بكذا" أو ما
بعده من الصور فإن كان وقوع ذلك يرفع من مطلق
الجهالة شيئا فهو وإن كان بيع جزاف لكنه قد
توصل إلي تفصيله من وجه والتخيير لمعرفة مقدار
الثمن صحيح لأنه عند هذا التفصيل جهل المشتري
ما يلزمه من الثمن وأما الصورة الثانية
والثالثة فالأولى عدم الحكم بالفساد مع
الزيادة والنقص بل مجرد إثبات الخيار يكفي
كالصورة الأولى وبهذا تعرف عدم الحاجة إلي
الكلام على بقية ما في هذا الفصل فإن ما
ذكرناه يبصرك بما ينبغي أن يقال في كل ذلك.
(1/489)
[ فصل
ولا يجوز مطلقا بيع الحر فيؤدب العالم ويرد
القابض إلا الصبي ما أتلف فأن غاب منقطعة
فالمدلس ويرجع وإلا فلا ولا أم الولد والنجس
وماء الفحل للضراب وأرض مكة وما لا نفع فيه
مطلقا].
قوله: "فصل : ولا يجوز مطلقا بيع الحر".
أقول : تحريم هذا من قطعيات الشريعة وإجماع
أهل الإسلام على التحريم معلوم ولا يحتاج إلي
الاستدلال على مثله والتعرض بما يستحقه الفاعل
لهذا الحرام غير مناسب للمقام بل الذى يستحقه
من العقوبة هو سخط الله عليه وغضبه وأليم
عقابه ولم يرد على ذلك في الشريعة عقوبة معينة
في الدنيا ولا هو من الأمور التى يجب الحد على
فاعلها فقول المصنف فيؤدب العالم كلام في غير
موضعه وعلى غير قانون الشرع وأما كونه يرد
البائع ما قبضه من قيمة الحر فواضح لا يحتاج
إلي ذكره.
وقوله: "إلا الصبي ما أتلف" فلا يخفى أن ذلك
جناية منه على المشتري والصبي يضمن ما جناه
لأن ذلك من أحكام الوضع لا من أحكام التكليف
فلا وجه لإسقاط الضمان عنه سواء باع نفسه أو
غيره.
وأما قوله: "فإن غاب منقطعة فالمدلس" فكان
الأولى أن يقول فإن لم يمكن الرجوع عليه فعلى
المدلس ولا وجه للتنصيص على مجرد الغربة
الموصوفة بالانقطاع فإن افتقاره وموته ولا مال
له كذلك ووجه تضمين المدلس أنه مشارك بتدليسه
في الجناية الواقعة من البائع.
قوله: "ولا أم الولد".
أقول : استدل المانعون بحديث ابن عباس عن ابن
ماجه والدارقطني والبيهقي قال ذكرت أم إبراهيم
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أعتقها ولدها"، وفي إسناده حسين بن عبدالله
الهاشمي وهو ضعيف قال البيهقي وروى عن ابن
عباس من قوله ورواه البيهقي من حديث ابن لهيعة
عن عبيدالله بن أبي جعفر أن رسول الله صلى
الله عليه وآله سلم قال لأم إبراهيم: "أعتقك
ولدك"، وهو معضل ورواه ابن حزم من طريق قاسم
بن أصبغ عن محمد بن مصعب عن عبيدالله بن عمرو
عن عبدالكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس
فذكره وقال صح هذا بسند رواته ثقات يعني هذا
السند الذى ذكره وتعقبه ابن القطان بأن قوله
عن محمد بن مصعب خطأ وإنما هو عن محمد وهو ابن
وضاح عن مصعب وهو ابن سعيد المصيصي وفيه ضعف.
وأخرج أحمد وابن ماجة والحاكم والبيهقي عن
حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عند دبر
منه"، وفي إسناده حسين بن عبدالله الهاشمي وهو
ضعيف كما تقدم ورجع جماعة وقفه وأخرج
الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد
وقال: "لا يبعن ولا يوهبن
(1/490)
ولا يورثن
يستمتع بها السيد ما دام حيا وإذا مات فهي
حرة"، قال البيهقي وعبدالحق والصحيح وقفه على
عمر وقد رواه مالك في الموطأ والدارقطني من
طريق أخرى عن ابن عمر عن عمر ورواه أحمد في
مسنده عن الخطاب بن صالح عن أمه قالت حدثتني
سلامة بنت معقل قالت كنت للحباب ابن عمرو ولي
منه غلام فقالت لي امرأته الآن تباعين في دينه
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك
له فقال: "من صاحب تركة الحباب بن عمرو؟"
قالوا: أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو فدعاه
فقال: "لا تبيعوها وأعتقوها فإذا سمعتم برقيق
قد جاءني فأتوني أعوضكم"، ففعلوا واختلفوا
فيما بينهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال قوم: أم الولد مملوكة لولا ذلك لم
يعوضكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال
قوم: هي حرة قد أعتقها رسول الله صلى الله
عليه وسلم ففي كان الاختلاف وقد أخرجه أبو
دأود بإسناد صالح وذكر البيهقي أنه أحسن شيء
في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم
فهذا جملة ما استدل به المانعون من البيع ولا
احتمال في حديث سلامة بنت معقل لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قد أمرهم بإعتاقها ونهاهم عن
بيعها وذلك هو محل الاستدلال وأما ما وعدهم به
من العوض فذلك من حسن أخلاقه الشريفة ومن كرمه
الفياض وجمله ما ذكرناه من الأحاديث يقوي
بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فينتهض للاستدلال
به على عدم جواز بيع أمهات الأولاد ويؤيد ذلك
ما ثبت في اصحيح البخاري وغيره عن أبي سعيد
قال جاء رجل من الأنصار فقال يا رسول الله إنا
نصيب سبيا فنحب الأثمان فكيف ترى في العزل
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنكم
لتفعلون ذلك لا عليكم أن لا تفعلوا"، الحديث
فإن قول السائل ونحب الأثمان فيه إشارة إلي
أنهن إذا ولدن لم يجز بيعهن وأما ما أخرجه
أحمد وابن ماجه والشافعي والبيهقي عن جابر أنه
قال كنا نبيع أمهات أولادنا والنبي صلى الله
عليه وسلم حتى لا نرى بذلك بأسا وما أخرجه أبو
دأود وابن حبان والحاكم عن جابر أيضا قال بعنا
أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا
فأنتهينا فليس في حديثه هذا المروي من
الطريقين عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
أطلع على ذلك وقد حكى ابن قدامة إجماع الصحابة
على المنع وقد حكى القول بالجواز عن علي وابن
عباس وابن الزبير وروى عنهم الرجوع كما حكى
ابن رسلان في شرح السنن وأخرج عبد الرزاق عن
علي بإسناد صحيح أنه رجع عن الجواز إلي المنع
وإلي المنع ذهب الجمهور من أهل العلم وقد قيل
أنه إجماع وهو غير مسلم.
قوله: "والنجس".
أقول : أراد المصنف بهذا ما هو عنده نجس كما
تقدم في النجاسات فيشكل مثل الكلب والخنزير
والخمر والنجاسة العينية كالعذرة وماله حكمها
وقد جاءت الأدلة الصحيحة في تحريم بيع أمور
أما لكونه نجسا في نفسه أو لكونه يحرم
الانتفاع به فمن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما
من حديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة
والخنزير والأصنام"، وفي الصحيحين [البخاري
"4/424"، مسلم "71/1581"]، وغيرهما من حديث
أبي جحيفة أنه اشترى حجأما فأمر فكسرت محاجمه
وقال: إن
(1/491)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم حرم ثمن الدم وثمن الكلب وكسب
البغي وفي الصحيحين [البخاري "4/426"، مسلم
"39/1567"، وغيرهما [أبو داود "3481"، الترمذي
"1267"، النسائي "7/309"، ابن ماجة "2159"،
أحمد "4/118، 119، 120"]، أيضا من حديث أبي
مسعود البدري عقبة بن عمر وقال نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي
وحلو ان الكاهن وأخرج أحمد وأبو دأود بإسناد
رجاله ثقات عن ابن عباس قال نهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وقال: "إن جاء
يطلب ثمن الكلب فملأ كفه ترابا"، وفي صحيح
مسلم وغيره عن جابر أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور وقد نقل ابن
المنذر وغيره الإجماع على تحريم بيع الخمر
وحكى صاحب فتح الباري الإجماع على تحريم بيع
الخنزير وذهب الجمهور إلي تحريم بيع الكلب وهو
الحق وأما استثناء كلب الصيد فقد استدل له بما
أخرجه النسائي من حديث جابر قال: نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب
صيد قال في الفتح: ورجال إسناده ثقات إلا أنه
طعن في صحته انتهى وفي إسناده الحسن بن أبي
جعفر قال يحيى بن معين ليس بشيء وضعفه أحمد
وقال ابن حبان لا أصل له وأخرج نحوه الترمذي
من حديث أبي هريرة وفي إسناده أبو المهزم وهو
ضعيف بل متروك فلم يصح الاستثناء بدليل تقوم
به الحجة وإذا عرفت هذا فبيع تلك الأعيان
المنصوص عليها في الأحاديث حرام باطل ومن جادل
في ذلك وألزم بإلزامات مذهبية فهو منتصب للرد
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا
ولكون فلان لم يعمل بكذا أو ترك العمل بكذا
فلزمه كذا فإن هذه المباحثة بالجهل أشبه منها
بالعلم واستعمال القواعد الجدلية عند الكلام
على الأدلة الشرعية من التلاعب الذى لا يرضاه
متدين وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ولم يضع
أهل العلم تلك القواعد الجدلية المذكورة في
علم المناظرة إلا لتدريب أذهان المتنازعين في
علم الرأي ورياضة أفهامهم ولا يستجيز مسلم أن
يثبت بها أحكام الشرع أو يبطلها ومن زعم خلاف
هذا فمن قصوره أتي ومن تفريطه أصيب وأما تحريم
بيع العذرة وماله حكمها من النجاسات فهو مجمع
عليه.
قوله: "وأما الفحل للضراب".
أقول : لما في اصحيح البخاري "4/461"، وغيره
[أبو داود "3429"، الترمذي "1273"، النسائي
"7471"، أحمد "2/14"]، من حديث ابن عمر قال:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل
ولما في مسلم وغيره من حديث جابر: أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ضراب الفحل وفي
الباب أحاديث والنهي حقيقة في التحريم وإلي
التحريم ذهب الجمهور وهو الحق وأما ما أخرجه
الترمذي من حديث أنس أن رجلا من بني كلاب سأل
النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل فنهاه
فقال: يا رسول الله إنا نطرق الفحل فنكرم فرخص
له في الكرامة قال الترمذي: حديث حسن غريب
فغاية ما فيه أنه يجوز لصاحب الفحل أن يقبل ما
أهدي إليه من غير اشتراط ولا مبايعة فلا ينافي
أحاديث النهي ولا يصرفها عن معناها الحقيقي.
(1/492)
قوله: "وأرض
مكة".
أقول : أعلم أن الأصل في كل شيء أنه يجوز
للمالك أن يتصرف فيه بما شاء من أنواع
التصرفات كما يفيده قوله عز وجل: {هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً} [البقرة: 29]، وإذا كانت هذه
الأعيان المخلوقة الموجودة في الأرض لنفع
الناس جاز لهم تملكها والتصرف فيها كيف شاؤا
حتى يقوم الدليل الصحيح الناقل عن حكم الأصل
فيجب الرجوع إليه والعمل به ولم يستدل
المانعون من بيع أرض مكة إلا بقوله عز وجل:
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:
25]، وهذه الآية محتملة لأمرين أحدهما أن يراد
المسجد فلا يكون فيها دليل للمستدل والأمر
الثاني أن يراد ما هو أعم من ذلك والمحتمل لا
يصلح الاستدلال به ولا تقوم به الحجة لا سيما
مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
المتفق عليه [البخاري "1588، 2058، 4282"،
مسلم "439، 440/1351"]، أن أسامة بن زيد قال
للنبي صلى الله عليه وسلم أين تنزل غدا يا
رسول الله؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع"
فلو كان البيع باطلا لأبطله صلى الله عليه
وسلم ولم ينفذه.
والحاصل أن البيع هو الذى كان عليه عمل أهل
الجأهلية ثم عمل عليه أهل الإسلام بعدهم حتى
قيل إن الجواز أمر مجمع عليه بين الصحابة لا
يختلفون فيه فالقائلون بعدم الجواز إن جاؤا
بدليل ينتهض للاحتجاج ويخلص عن شائبة الاحتمال
فذاك ولكنهم لم يأتوا بشيء وأما ما يروى من
نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع رباع مكة وعن
إجارتها فعلى المستدل به أن يصححه وإلا كان
وجوده كعدمه ومع ما ذكرنا مع أن البيع كان
عليه عمل أهل الجأهلية الذي ثبت عنه صلى الله
عليه وسلم تقريره وعدم إنكاره وعمل الصحابة
رضي الله عنهم في عصره صلى الله عليه وسلم
وبعد عصره فهو أيضا الذي عليه العمل من أهل
الإسلام قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر فكيف يقبل
في مثل هذا الأمر ما لا تقوم به الحجة ولا
ينتهض لمعارضته ما هو دون ذلك بمسافات.
قوله: "وما لا نفع فيه مطلقا".
أقول : هذا قد أغنى عنه ما تقدم من قوله وبيع
كل ذي نفع حلال جائز ولكنه أراد هنا أن يستوفي
بيان ما لا يجوز بيعه مع أنه أخل بأشياء كثيرة
وردت بالمنع من بيعها الأدلة الصحيحة ثم وجه
عدم جواز بيع ما لا نفع فيه مطلقا هو كونه من
أكل أموال الناس بالباطل ومن إضاعة المال وقد
ورد النهي عن الأول في الكتاب العزيز وورد
النهي عن الثاني في الأحاديث الصحيحة
والاعتبار بالغالب فإن كان الغالب من الناس لا
ينتفع بتلك العين لم يبعها فإن قلت قد تدعو
حاجة البائع إلي البيع وحاجة المشتري إلي
الشراء في الشيء الذى لا نفع فيه عند غالب
الناس؟ قلت: قد صار بهذه الحاجة إلي بيعه
وشرائه ذا نفع فيجوز بيعه وليس في هذا من
الدور الذى زعمه الجلال في شرحه شيء لأن جواز
البيع ترتب على الحاجة ولم تترتب الحاجة على
جواز البيع وهكذا ترتب عدم جواز بيعه على عدم
نفعه ولم يترتب عدم نفعه على عدم جواز بيعه
ومعلوم أن الدور هو عدم تناهي التوقفات في
أمور متناهية وأين هذا منها.
(1/493)
[ فصل
ولا يصح في ملك لا قيمة له أو عرض ما منع بيعه
مستمرا كالوقف أو حالا كالطير في الهواء ولا
في حق أو حمل أو لبن لم ينفصلا أو ثمر قبل
نفعه أو بعده قبل صلاحه قيل إلا بشرط القطع
ولا بعدهما بشرط البقاء ولا فيما يخرج شيئا
فشيئا ويصح استثناء هذه مدة معلومة والحق
مطلقة ونفقه مستثنى اللبن على مشتريه ويمنع
إتلافه ولا ضمان إن فعل إلا في فعل إلا في
مستثنى الثمر ولا في جزء غير مشاع من حي ولا
في مشترى أو موهوب قبل قبضة أو بعده قبل
الرؤية في المشترك إلا جميعا ومستحق الخمس
والزكاة بعد التخلية إلا المصدق ومتى انضم إلي
جائز البيع غيره فسد إن لم يتميز ثمنه].
قوله: "ولا يصح في ملك لا قيمة له".
أقول : إن كان مع كونه لا قيمة له لا نفع فيه
فقد دخل فيما تقدم وإن كان فيه نفع فلا يصح
قوله لا قيمة له لأنه كل ذي نفع يتعلق به
الغرض وما تعلق به الغرض فلا بد أنه يبذل صاحب
الغرض المتعلق به فيه من القيمة ما يقابله
ويسأويه وإن كان ذلك يسيرا فليس لذكر مثل هذه
الصورة فائدة.
قوله: "أو عرض ما منع بيعه مستمرا كالوقف".
أقول : إنما سمي الوقف وقفا لكونه يبقى ولا
يخرج عن المصرف الذى صرف فيه فما هية الوقف
بذاتها تدل على عدم جواز التصرف فيه ببيع أو
نحوه ومع هذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
في الصحيحين [البخاري "2737"، مسلم "1632"،
وغيرهما [أبو داود "2878"، الترمذي "1375"،
النسائي "3599"، ابن ماجة "2396"، أحمد "2/12،
13،55، 125"]، أن عمر قال له: يا رسول الله
أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي
منها فما تأمرني؟ قال: "إن شئت حبست أصلها
وتصدقت بها" ومن هذا أنه صلى الله عليه وسلم
قال: "من يشتري بئر رومه فيجعل دلوه فيها مع
دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة"،
فاشتراها عثمان وجعلها كذلك أخرجه البخاري
تعليقا والنسائي والترمذي وقال حديث حسن ومن
ذلك حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء
صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد يدعو له"،
أخرجه مسلم "13/2682"، وغيره أبو داود "2880"،
الترمذي "1376"، أحمد "2/372"، ووصف هذه
الصدقة بأنها جارية لا تنقطع يدل على أن الوقف
كذلك ولو جاز بيعه لكان خلاف موجبه وقد ثبت في
رواية للدارقطني مرفوعة في وصف الوقف: "أنه
حبيس ما دامت السموات والأرض" وفي رواية
للبيهقي مرفوعة: "تصدق بثمره وحبس أصله لا
يباع ولا يورث" ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين
[البخاري "1468"، مسلم ط11/983"، وغيرهما [أبو
داود "1623"، النسائي "2464"، أحمد "2/322"]،
من قوله صلى الله عليه وسلم: "أما خالد فقد
حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله"، والأمر في
هذا أوضح من أن
(1/494)
نطول الكلام
فيه وأما تسويغ بيعه لأصلح منه أو عند خشية
تلفه أو عند الانتفاع به فسيأتي الكلام عليه.
قوله: "أو حالا كالطير في الهواء".
أقول : قد ثبت بالأحاديث الصحيحة النهي عن بيع
الغرر وهذا من أعظم أنواعه وقد أثبت صلى الله
عليه وسلم الغرر فيما هو دون هذا فأخرج أحمد
"3/541"،من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "لا تشتروا السمك في الماء
فإنه غرر" ، وشراء العبد الآبق من جملة أنواع
الغرر وقد ورد النهي عنه في حديث أبي سعيد عند
أحمد "3/42"، وابن ماجه "2196"، والبزار
والدارقطني وفي إسناده مقال ولكن هو مندرج تحت
الأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهي عن بيع الغرر
لأن ما كان يتعذر تسليمه حال البيع أو الاطلاع
على كنهه فهو غرر كثير وقد نقل صاحب نهاية
المجتهد انفاق الفقهاء على أن الغرر الكثير في
المبيعات لا يجوز على أن القليل يجوز.
قوله: "وفي حق".
أقول : المنافع المتعلقة بالأعيان لا وجود لها
مستقر بل هى معدومة فبيع مجرد المنفعة دون ما
هى متعلقة به وهو الذي يقال له في عرف الفقهاء
الحق وهو مندرج تحت بيع المعدوم الذى تقدم
النهي عنه فلا يصح بيعه إلا بدليل يخصه وقد
ورد تجويز الإجارة وهي في الحقيقة متعلقة
بالحق ولكن هذا التخصيص للعموم يقصر على محله
ويبقى النهي عما عداه كما هو شأن العام والخاص
على تقدير دخول هذا الخاص تحت النهي عن بيع
المعدوم وهو غير مسلم فإن الإجارة باب من
أبواب المعاملات كالبيع فالعجب ممن جعل ما ورد
في تجويز الإجازة مخصصا لبيع المعدوم ثم ألحق
بيع سائر الحقوق بها وجعل ذلك أصلا يقاس عليه
وهذا خبط وجوابه ما قدمناه وحاصله أنا نمنع
دخول الإجارة تحت النهي عن بيع المعدوم حتى
يقال أنها مخصصة بدليلها منه ثم نمنع ثانيا
جواز إلحاق بيع الحقوق بهذا الفرد المخصوص على
تسليم الدخول والتخصيص فإن هذا إهمال لدلالة
العموم بمجرد الخيار المختل.
قوله: "أو حمل أو لبن لم ينفصلا".
أقول : المنع من هذا قد دخل تحت أدلة النهي عن
بيع الغرر وهذا منه لأنه لا يحاط بكنههما قبل
خروجهما وقد دخلا أيضا تحت بيع المعدوم لأنهما
معدومان وقد دخل أيضا المنع من بيع الحمل تحت
الأحاديث المصرحة بالنهي عن بيع الملاقيح
والمضامين ودخلا جميعا تحت حديث أبي سعيد عند
أحمد وابن ماجة والبزار والدارقطني قال نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون
الأنعام حتى تضع وعن بيع ما في ضروعها إلا
بكيل ودخل اللبن تحت حديث ابن عباس عند
الطبراني والدارقطني والبيهقي نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يباع صوف على ظهر أو
لبن في ضرع ولو لم يرد في المنع من بيع هذين
وأمثالهما إلا الأحاديث الصحيحة في النهي عن
بيع الغرر وفي النهي عن بيع المعدوم لكان في
ذلك ما يغني عن غيره فليت شعري ما هو الحامل
للجلال على التلاعب بالأدلة والتكلف لردها بما
هو سراب بقيعة وهباء في الهواء
(1/495)
فإن كان ذلك
لمحبته للاعتراض على ما قد وقع تدوينه في هذا
الكتاب فهذا أمر لا يعجز عنه أحد ولكن الرزية
كل الرزية أنه صدر نفسه للتكلم على أدلة
الكتاب والسنة المتعلقة بهذه المسائل ثم تجرأ
على درها بما هو أوهن من بيت العنكبوت وخبط
وخلط وركب الشطط وجاء بأقبح الغلط فكان ذلك
جناية على الشرع والشارع اللهم غفرا.
قوله: "أو ثمر قبل نفعه أو بعده قبل صلاحه".
أقول : الأدلة المصرحة بالنهي عن بيع الثمار
قبل صلاحها ثابتة في الصحيحين [البخاري
"4/394"، مسلم "49/1534"، وغيرهما [أبو داود
"3367"، الترمذي "1226"، النسائي "4519"، ابن
ماجة "2214"، ثبوتا أوضح من شمس النهار حتى
وقع التأكيد لهذا النهي بزيادة لفظ نهى البائع
والمبتاع ثم ورد بيان الصلاح عن الشارع في
حديث أنس في الصحيحين [البخاري "2197، 2198"،
مسلم "1555"]: أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الثمرة حتى تزهى قالوا وما تزهى
قال: "تحمر"، ثم أكد ما ورد من النهي بما وقع
في حديث أنس هذا في الصحيحين [البخاري
"4/404"، مسلم "15/1555"]، من قوله صلى الله
عليه وسلم: "إذا منع الله الثمرة فبم تستحل
مال أخيك"، فجاء بهذا الاستفهام المتضمن
للتقريع والتوبيخ للبائع وأنه يستحل مال أخيه
إذا باع قبل الصلاح ومنع الله الثمرة بغير ما
يحل به وما قاله الدارقطني من أن هذه الزيادة
مدرجة من قول أنس مردود بأنه قد ثبت من حديث
جابر عند مسلم "14/1554": "إن بعت من أخيك
ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه
شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق"، وقد أوضحت
هذا في الشرح المنتقى وكل هذا ظاهر في أن
النهي للتحريم وأما مشروعية وضع الجوائح فباب
آخر لأن وضع الجائحة عند وقوعها لا ينافي ما
دلت عليه هذه الأحاديث من تحريم المبايعة
وتحريم الدخول فيها قبل الصلاح.
وأما قوله: "قيل إلا بشرط القطع" فلا وجه له
لأن مثل هذا لا يرفع التحريم الثابت بالأدلة
وأما قوله: ولا بعدهما بشرط البقاء, فلم يرد
ما يدل على أن هذا الشرط مانع من البيع الذى
أذن فيه الشارع وجعله غاية للنهي ومجرد الشرط
لا يوجب ذلك ولا يقتضيه وقد ثبت في الصحيحين
[البخاري "5/49"، مسلم "80/1543"،]، وغيرهما
أبو داود "3433"، الترمذي "1244"، النسائي
"4636"، ابن ماجة "2211"، أحمد "2/9، 82،
150"]، عنه صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع
نخلا قبل أن يؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن
يشترط المبتاع"، فإذا كان هذا الشرط غير مؤثر
في بيع النخل فكذا في بيع الثمر.
قوله: "ولا فيما يخرج شيئا فشيئا".
أقول : لا وجه لإطلاق المنع بل يجوز بيع
الخارج الأول بعد صلاحه إلا أن يتعذر ذلك بوجه
من الوجوه أو يتداخل الحاصل بحيث لا يتميز ما
قد صلح منه مما لم يصلح فإنه بيع ذلك لا يصح
لوجهين الأول أنه من بيع الغرر المنهى عنه كما
قدمنا والثاني أنه لم يحصل شرط صحة بيع الثمار
وهو الصلاح لعدم تميز الصالح.
(1/496)
وأما قوله:
"ويصح استثناء هذه" يعني ما تقدم من قوله:
"وفي حق" إلي هنا ووجه ذلك أن الاستثناء هو
تبقيها في ملك بائعها وذلك يصح لعدم ورود ما
يدل على منعه لأنها كانت للبائع قبل بيع ما هي
متعلقة به وبقيت بالاستثناء على ملكه وإنما
احتاجت إلي الاستثناء لئلا يقال قد دخلت تبعا
للمبيع ومما يدل على صحة الاستثناء في الجملة
ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع نخلا
بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط
المبتاع ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا
أن يشترط المبتاع"، وأخرج نحوه ابن ماجه
"2213"، وعبدالله بن أحمد في زوائد المسند من
حديث عبادة بن الصامت وفي إسناده انقطاع.
وأما قوله: "مدة معلومة والحق مطلقا" فوجه
التقييد بكون المدة معلومة في غير الحق تتسبب
عنها الخصومة والاختلاف وأما جواز الاستثناء
في الحق مطلقا فلكون استثنائه لا يؤدي إلي ذلك
بل يصير للبائع مطلقا وهذا الفرق بين الحق
وغيره معقول ولكن الشأن في كون ما يؤدي إلي
الخصومة يكون سببا وأما مجرد الشرط فسيأتي في
الشروط المقارنة ما يصح منها وما لا يصح.
وأما قوله: "ونفقة مستثنى اللبن على مشتريه"
فظاهر لأنه المالك للعين وهكذا ويمنع اتلافه
لأنه سيتلف بإتلاف ما هو له شيئا مستحقا
لغيره.
وأما قوله: "ولا ضمان إن فعل" فلا وجه له بل
يجب عليه ضمان مقداره إلي وقت انقضاء المدة
المعلومة كما في مستثنى الثمر وما أدعوه من
الفرق بين الأعيان والمنافع فهو مجرد رأي ليس
عليه دليل فالذي أتلف الدابة التي لبنها مستحق
لغيره إلي مدة معلومة قد جنى جناية توجب
الضمان كما لو أتلف الثمر المستثنى إلي مدة
معلومة.
وأما قوله: "ولا في جزء غير مشاع من حي" فوجهه
أنه لا يوقف على مقداره فيكون ذلك من بيع
الغرر المنهى عنه كما تقدم.
قوله: "ولا في مشترى أو موهوب قبل قبضه".
أقول : أما في الطعام فالأحاديث في ذلك كثيرة
في الصحيحين وغيرهما وقد قدمنا بعضا من ذلك
وأما في غيره فأخرج أحمد والطبراني في الكبير
عن حكيم ابن حزام قال: قلت: يا رسول الله إني
أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم على؟
قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه"
وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي وقد وثقه
ابن حبان وأخرج أبو دأود والدارقطني والحاكم
وابن حبان وصححاه من حديث زيد بن ثابت أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع
حيث تبتاع حتى يجوزها التجار إلي رحالهم فهذان
الحديثان يكفيان في التعميم على أن قياس سائر
المبيعات على الطعام يكفي لعدم الفارق وأما
ذكر المصنف للموهوب مع المشتري فلعله يخصصه
بما إذا كانت الهبة بمعنى البيع كما سيأتي في
الهبات وإلا لزمه إلحاق مثل التمليك والنذر
والصدقة
(1/497)
قوله: "أو بعده
قبل الرؤية في المشترك إلا جميعا".
أقول : عللوا ذلك بتفريق الصفقة بالبيع على من
يريد الفسخ بخيار الرؤية وليس هذا مانعا شرعيا
ولا ورد ما يدل على منع أحد الشركاء من البيع
في مثل هذه الصور فللمالك أن يتصرف بملكه كيف
شاء ولغيره من الشركاء أن يرد نصيبه بخيار
الرؤية وسيأتي للمصنف في الخيارات كلام في
الاختلاف بين المشركين في الشرك إذا رده بخيار
الرؤية بعضهم دون بعض والكل مبني على مجرد
الرأي وليس عليه أثارة من علم.
قوله: "ومستحق الخمس والزكاة" الخ.
أقول : هذا التضرب من المصنف رحمه الله عجيب
فإنه أولا ذكر المشتري والموهوب ثم قيده بذلك
القيد الذى لا دليل عليه ثم خصص ها هنا مستحق
الخمس والزكاة ولا وجه لهذا التخصيص إلا مجرد
الاعتماد على الرأي البحت الذي لا تأثير له
والذي يحسن من مثله أن يقف على ما يقتضيه
الدليل من تخصيص ذلك بالمبيع قبل قبضه أو
يعتمد على القياس لسائر أسباب الملك بالبيع
فيشترط القبض في جميعها وإن كان هذا القياس
غير معمول به ها هنا ولكنه صار يعتمد على ما
هو دون هذا ثم تخصيص المصدق بأن التخلية إليه
تكفي هو من ذلك الرأي الذى ذكرنا لك وقد
عرفناك غير مرة أن المصنف رحمه الله في هذا
الكتاب مقصوده جمع ما دونه المذاكرون من
المسائل الفقهية على أي صفة كان ذلك والعجب من
مثل الجلال في شرحه لهذا الكتاب فإنه إذا رأى
المصنف قد دل على كلامه الدليل زحلفة بالرأي
وإن رآه قد جاء بكلام لا دليل عليه بل هو مجرد
رأي بحت مشى في الغالب معه وقد يعارضه برأي
مثل ذلك الرأي وتأمل هذه المسائل في هذا الفصل
فقط حتى يتضح لك ما ذكرناه وغالب عمله في شرح
هذا الكتاب هكذا.
قوله: "ومتى انضم إلي جائز البيع" الخ.
أقول : لا وجه لهذا الفساد إلا مجرد الرجوع
إلي رأي قائل واجتهاد عن طريق الحق مائل والحق
أنه يصح بيع ما يصح بيعه لأنه تجارة عن تراض
فقد وجد المصحح وهو التراضي ولم يوجد مانع
شرعي ووجود المانع في أحد العينين لا يستلزم
وجوده في الأخرى والتعليل باستلزام الصحة فما
يصح والبطلان فيما يبطل لتفريق الصفقة تعليل
عليل مبني على رأي كليل.
[ فصل
وعقد غير ذي الولاية بيعا وشراء موقوف ينعقد
قيل ولو فاسدا أو قصد البائع عن نفسه مع بقاء
المتعاقدين والعقد بإجازة من هى له حال العقد
غالبا أو إجازتها بلفظ أو فعل يفيد التقرير
وإن جهل حكمه لا تقدم العقد ويخير لغبن فاحش
جهله قبلها قيل ولا
(1/498)
تدخل الفوائد
ولو متصلة ولا يتعلق حق بفضولي غالبا وتلحق
آخر العقدين وينفذ في نصيب العاقد شريكا
غالبا].
قوله: "فصل وعقد غير ذي الولاية" الخ.
أقول : البائع لمال غيره بغير إذنه لا يسمى
بيعه شرعيا ولا هو البيع الذي أذن الله به
بقوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النسائ:
29]، بل هو واقع على صورة تدخل تحت قوله
سبحانه: {وَلا تَأكلوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، فإذا
وقعت الإجازة له كانت هي على ما قد عرفناك أنه
التراضي وطيبة النفس وأنه لا يعتبر غير ذلك
وأما الاستدلال بشراء عروة البارقي فمن وضع
الدليل في غير موضعه فإن مأذون بالشراء وقد
فعل وزاد خيرا وأما ما نحن بصدده فلا إذن فيه
من المالك أصلا وغاية ما يدل عليه حديث عروة
أنه يجوز للوكيل المأذون أن يطلب ما فيه مصلحة
إذا كان يعرف أن المالك يرضى بذلك ومعلوم أن
كل عاقل يرضى بمثل هذا العمل الواقع من عروة
ويطلبه إن أمكن لأنه أرجع الثمن وجاءه
بالمطلوب مع كونه مأذونا له في الجملة وبهذا
تعرف أن عقد الفضولي لا يصح من أصله لأن رضاه
ليس هو الرضا المعتبر في قوله: {تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]، فكان فعله كالعدم
ووقوع البيع عند حصول الرضا من المالك المدلول
عليه بالأجازة وقد قدمنا لك أنه لا يعتبر شيء
من تلك الألفاظ التي جعلوها شروطا للبيع.
وأما قوله: "ولو فاسدا أو قصد البائع عن نفسه"
فمن التصلب في التفريع على ما هو باطل من أصله
ومردود من أوله وأما قوله مع بقاء المتعاقدين
والعقد فلا يخفاك أنه لا عقد ولا متعاقدين بل
البيع لم يحصل بشيء مما وقع بغير إذن المالك
لعدم وجود الرضا المعتبر في تلك الحالة وعند
وجوده بالإجازة هو البيع الشرعي.
وأما قوله: "بإجازة من هى له حال العقد" فقد
عرفناك أن هذه الإجازة هى العقد الشرعي الذي
جاء به القرآن ولا حكم لشيء مما تقدمها لوقوعه
على غير ما أعتبره الشرع وهذا الكلام الذي
قررناه وإن كانت أذهان المقلدين تنبو عنه فهو
الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة فإذا وقع من
البائع لفظ أو فعل يشعر بالرضا فقد وقع منه
البيع الشرعي فإن وقع الرضا بذلك من المشتري
فقد وقع منه الشراء الشرعي وأما قوله وإن جهل
حكمه فلا وجه له بل لا بد أن يعلم أن قوله هذا
وفعله هو الذي يخرج له المبيع عن ملكه بذلك
الثمن الذي وقع التراضي عليه وإلا كان من أكل
أموال الناس بالباطل وهكذا.
قوله: "لا تقدم العقد" لا وجه له بل مجرد وقوع
المشعر بالرضا منه هو البيع الشرعي والعقد
المتقدم وجوده كعدمه سواء علمه أو جهله وأما
قوله ويخير لغبن فاحش جهله قبلها فقد عرفناك
أن البيع الشرعي هو الإجازة فلا بد أن يعلم
بمقدار الثمن عندها حتى تكون تجارة عن تراض
وأما ما ذكره من عدم دخول الفوائد للمالك ولو
يقع منه البيع ولا حكم لعقد الفضولي ولا يؤثر
في خروج الفوائد ولا في دخولها وقد حكم النبي
صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين
(1/499)
وغيرهما من
حديث ابن عمر: أن من ابتاع نخلا بعد أن يؤبر
فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن
ابتاع عبدا فما له للذي باعه إلا أن يشترط
المبتاع.
وأما قوله: "ولا يتعلق حق بفضولي" فصحيح لأنه
لا حكم لما وقع منه فلا يتعلق به شيء ولا
يترتب على فعله فائدة على ما قررناه.
وأما قوله: "وتلحق آخر العقدين" فهي كما
عرفناك و عرفت لا تلحق أولها ولا آخرهما.
وأما قوله: "وينفذ في نصيب العاقد شريكا"
فصحيح لأنه قد حصل منه المناط الشرعي وهو
الرضا ولم يحصل من شريكه فمتى حصل من شريكه
كان هو البيع لا ما وقع من بيع الشريك عنه.
[ فصل
والتخلية للتسليم قبض في عقد صحيح غير موقوف
ومبيع غير معيب ولا ناقص ولا أمانة مقبوض
الثمن أو في حكمه بلا مانع من أخذه في الحال
أو نفعه ويقدم تسليم الثمن إن حضر المبيع ويصح
التوكل بالقبض ولو للبائع ولا يقبض بالتخلية
والمؤن قبل القبض عليه كالنفقة والفصل والكيل
لا القطف والصب ولا يجب التسليم إلي موضع
العقد غالبا أو منزل المشتري إلا لعرف ولا
يسلم الشريك إلا بحضور شريكه أو إذنه أو
الحاكم وإلا ضمن إن أذن والقرار على الآخر إن
جنى أو علم ولا ينفذ في المبيع قبل القبض إلا
الوقف والعتق ولو بمال ثم إن تعذر الثمن
فللبائع فسخ ما لم ينفذ واستسعاؤه في النافذ
بالأقل من القيمة أو الثمن ويرجع على المعتق
ومن أعتق ما اشتراه من مشتر ولم يقبض صح إن
أعتقه بعد القبض بأذن الأولين أو الثاني موفرا
للثمن وإلا فلا وما اشترى بتقدير وقع قبل
اللفظ أعيد لبيعه حتما إلا المذروع ويستحق
القبض بإذن البائع مطلقا أو توفير الثمن في
الصحيح فلا يمنع منه إلا ذو حق كالمستأجر
لاالغاضب والسارق].
قوله: "والتخلية للتسليم" الخ.
أقول : هذه التخلية بين المشتري وبين ما باعه
البائع منه هي غاية ما يجب على البائع لعدم
ورود دليل يدل على أنه يجب عليه زيادة على ذلك
فإذا أتلف المبيع بعد ذلك تلف من مال المشتري
لأن البائع قد أخرجه عن ملكه وفعل ما يجب عليه
من تخليته للمشتري وعلى المشتري إذا أراد أن
يبيعه أن ينقله للأدلة التى ذكرناها عند قوله:
"ولا يتصرف فيه قبل قبضه" فالحاصل أن التخلية
قبض باعتبار سقوط الضمان على البائع ولا يكون
قبضا يجوز للمشتري التصرف في المبيع بعدها إلا
مع النقل وأما اشتراط أن يكون العقد صحيحا
فكلام لا يترتب عليه
(1/500)
فائدة عند من
لم يعتبر ما يعتبرونه من الألفاظ ونحوها لأن
المراد التراضي المدلول عليه بأي دلالة فإذا
قد حصل كان البيع صحيحا وترتب عليه أحكامه وإن
لم يحصل فلا بيع وما ذكره من أشتراط أن يكون
غير موقوف لا وجه له لأن الإجازة قد حصلت من
مالكه فهي البيع لما قدمنا وإن لم يحصل فلا
بيع ولا حكم للتخلية أصلا ولا يترتب عليها حكم
قط.
وأما قوله: "في مبيع غير معيب ولا ناقص" فإن
لم يعلم بذلك المشتري فهو من بيع الغرر وهو
باطل والرضا المتقدم لا حكم له لأنه رضي بما
لم يعلم بعيبه ولا نقصه فلم يصح البيع من
الأصل فضلا عن أن تصح التخلية وأما قوله ولا
أمانة فلا وجه له لأن البائع إذا باع من
المشتري عينا هى أمانة عند المشتري انتقلت
بالبيع إلي ملك المشتري وكونها في يده يغني عن
المقابضة ولكن هذه من المصنف وأمثاله دندنة
حول قواعد فرعية هي على شفا جرف هار لم ترتبط
بدليل شرعي ولا عقلي وهكذا قوله مقبوض الثمن
أو في حكمه فإنه لا وجه له لأن مجرد التراضي
على المعاوضة هو المصحح الشرعي فإذا قد وقع
بريء البائع من عهده الضمان بالتخلية بين
المشتري وبين العين وإن أمهله بالثمن زمانا
طويلا.
وأما قوله: "بلا مانع من أخذه في الحال" فصحيح
لأن وجود المانع من القبض يقتضي عدم ثبوت حكمه
فلا يتبرأ البائع من عهدة الضمان بذلك.
قوله: "ويقدم تسليم الثمن إن حضر المبيع".
أقول : إذا تشاجرا في التقديم فلا شك أن
المبيع في ملك البائع فلا يجب عليه تسليمه إلا
بعد قبض عوضه وهو الثمن والمشتري مالك الثمن
فلا يجب عليه تسليمه إلا بتسليم العوض وهو
المبيع وليس أحدهما بأولى من الآخر في تقديم
تسليم ما يملكه قبل أن يسلم الآخر ما يملكه
فلم يبق وجه للترجيح وحينئذ ينبغي أن يكون
الحكم بينهما بأن يكون التسليم من كل واحد
منهما عند التسليم من الآخر وتكون المقابضة
يدا بيد في المنقولات وتكون في غيرها بأن يقر
البائع عند الشهود أن تلك الأرض أو الدور قد
باعها من المشتري بالثمن المقبوض عند ذلك
الإقرار.
وأما قوله: "ويصح التوكل بالقبض" فصحيح لأنه
لم يمنع من ذلك مانع شرعي ولا عقلي فهذه
الصورة مندرجة تحت أدلة الوكالة.
وكذلك قوله: "ولو للبائع" ويكون التغاير
باعتبار جهتي البيع والشراء اعتباريا وقد تقدم
ما شهد لهذا من توليه صلى الله عليه وسلم
لطرفي عقد النكاح وقد قدمنا هناك أيضا عند
قوله ولا يتولى الطرفين واحد ما يقوي هذا وأما
قوله ولا يقبض بالتخلية فتخصيص بغير مخصص
منقول ولا معقول.
وأما قوله: "والمؤن قبل القبض عليه" فلا وجه
له لأنه إذا قد حصل المناط في البيع وهو
التراضي فقد صار المبيع ملكا للمشتري ولكن
البائع لا يخرج عن عهدة الضمان إلا بالتسليم
إلي المشتري أو التخلية الصحيحة وأما أنه
يلزمه أن ينفق عليه أو يقوم بسائر مؤنه فلا
إلا أن يكون
(1/501)
التراخي في
التسليم من جهته مع طلب المشتري لذلك فإنه
كالجاني على نفسه بذلك وأما ذكره من مؤنة
الفصل والكيل والفرق بينهما وبين القطف والصب
فهذا شيء لم يبن على شرع بل على عرف فقط
والأعراف مختلفة فيتبع في كل جهة عرفها في هذا
وأمثاله لأن العرف الجاري المستمر الذي يعلم
به البائع والمشتري هو في حكم التراضي عليه
وإن لم ينطقا به ولا ذكراه ولهذا قال ولا يجب
التسليم إلي موضع العقد أو منزل المشتري إلا
لعرف.
وأما قوله: "ولا يسلم الشريك إلا بأذن شريكه"
الخ فصحيح إذا كان لا يمكنه تمييز نصيبه عن
نصيب الشريك فإنه حينئذ يصير بالتسليم لنصبيه
مسلما لنصيبه شريكه وذلك جناية على الشريك فلا
بد من حضوره أو إذنه أو إذن الحاكم وإلا ضمن
نصيب الشريك إذا أتلف بهذا التسليم لأن ذلك
منه جناية على مال الشريك ولا يكون ذلك إلا مع
العلم بأن في ذلك المبيع نصيبا لغيره لا إذا
كان جأهلا لذلك فإنه لا يكون بالتسليم جانيا
وأما لو جهل ثبوت الضمان عليه بالتسليم مع
علمه بأن فيه نصيبا للغير فلا تأثير لهذا
الجهل في سقوط الضمان.
قوله: "ولا ينفذ في المبيع قبل القبض إلا
الوقف والعتق".
أقول : الأدلة التى ذكرناها عند قوله ولا
يتصرف فيه قبل قبضه ليس فيها إلا المنع من
البيع وليس في شيء منها المنع من غيره من سائر
التصرفات فالوقف والعتق وغيرهما باقيان على
أصل الإباحة وإلحاقهما بالقياس على البيع قياس
مع الفارق لما في البيوعات للأشياء الربوية من
مظنة الربا ولهذا كان أكثر النصوص الدالة على
المنع من البيع قبل القبض واردة في الطعام كما
تقدم.
وأما قوله: "فإن تعذر الثمن فللبائع فسخ ما لم
ينفذ" فلا وجه له لأن البائع أحق بمبيعه إذا
أفلس المشتري عن الثمن ولو كان نفذ قبضه
المشتري فكيف لا يكون أحق به وهو باق لديه لم
يقبضه المشتري وقد دلت السنة الصحيحة بأن من
وجد سلعته عند مفلس فهو أحق بها ولا حكم للعتق
والوقف الواقعين من المشتري لأنه لم يتم له
الملك ولا فرق بين النافذ وما لم ينفذ ولا يجب
على العبد شيء بل هو باق في ملك بائعه وكل هذه
التفاريع وما بعدها منهارة لم ترتبط بدليل نقل
ولا عقل.
قوله: "وما اشترى بتقدير وقع قبل اللفظ أعيد
لبيعه حتما".
أقول : وجه هذا ما أخرجه ابن ماجة والدارقطني
والبيهقي عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان
صاع البائع وصاع المشتري وأعل هذا الحديث بأن
في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى
الفقيه أحد الأعلام وهو ضعيف الحفظ ولكنه قد
روي من طريق غير هذه منها عند البزار عن أبي
هريرة بإسناد حسن وعن أنس وابن عباس عند ابن
عدي بإسنادين ضعيفين جدا كما قال ابن حجر
ومعنى الحديث أن من أراد بيع الطعام الذى
يملكه فلا بد أن يكيله عند البيع ويكيله
المشتري عند الشراء وأخرج أحمد "1/62، 75"،
وعبد الرزاق والشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي
عن عثمان قال: كنت أبتاع
(1/502)
التمر من بطن
من اليهود يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه بربح
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا
عثمان إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل"، قال في
مجمع الزوايد إسناده حسن انتهى وقد أخرج
البخاري "4/343، 344"، منه كلام النبي صلى
الله عليه وسلم بغير إسناد ومعنى الحديث هذا
من اشترى طعأما بكيل ثم أراد أن يبيعه فلا
يكفيه الكيل الواقع عن شرائه بل لا بد أن
يكيله عند بيعه منه إلي مشتر يشتريه منه وسبب
هذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم المخافة من
الوقوع في مظنه الربا إذا وقع البيع بعد البيع
وكان مثلا من بيع الطعام بالطعام لتجويز النقص
بأي سبب وأيضا مجرد تجويز النقص من غير نظر
إلي مظنة الربا يكفي لأنه يصير جزءا من بيع
الغرر ولهذا وجب على نفس المتبايعين أن يكيله
كل واحد منهما وإن لم يبعه إلي آخر كما في
الحديث الأول وقد ذهب الجمهور إلي أن من اشترى
شيئا مكايلة وقبضه ثم باعه إلي غيره لم يجز
تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه
ثانيا.
وأما قوله: "إلا المزروع" فإن كانت العلة هى
تجويز النقص فذلك كائن في المذروع كما هو كائن
في المكيل وإن كان التجويز في المكيل أكثر وإن
كانت العلة مظنة الربا فلا وجود لها في
المذروع والقياس الوقوف على محل النص وهو
المكيل لعدم وجود ما يقتضي الإلحاق بالقياس
إلحاقا صحيحا.
قوله: "ويستحق القبض بإذن البائع" الخ.
أقول : يستحق القبض بوقوع المناط الشرعي وهو
التراضي لأنه بذلك قد خرج عن ملك بائعه ودخل
في ملك مشتريه ولكن للبائع حبسه بيده حتى
يستوفي ثمنه ولا وجه للتفرقة بين صحيح وفاسد
فإن المعتبر المناط المذكور.
وأما قوله: "ولا يمنع منه إلا ذو حق" فقد
عرفناك فيما تقدم أن الإجارة تبطل البيع.
وأما قوله: "لا الغاصب والسارق" فيدهما يد
عدوان وعليهما رده إلي يد من قد استقر الملك
له.
(1/503)
باب الشروط المقارنة للعقد
[ فصل
يفسده صريحها لا الحالي ومن عقدها ما أقتضى
جهالة في البيع كخيار مجهول المدة أو صاحبه أو
في البيع كعلي إرجاحه أو كون البقرة لبينا
ونحوه أو في الثمن كعلي إرجاحه ومنه على حط
قيمة كذا من الصبرة لا كذا من الثمن وعلى أن
ما عليك من خراج الأرض كذا شرطا لا صفة فخالف
ومنه شرط الإنفاق من الغلة ولو لمعلومين أو
رفع موجبه غالبا
(1/503)
كعلي أن لا
تنتفع ومنه بقاء المبيع ولو رهنا لا رده وبقاء
الشجرة المبيعة في قرارها مدتها وعلى أن يفسخ
إن شفع أو علقه بمستقبل كعلي أن تغل أو تحلب
كذا لا على تأدية الثمن ليوم كذا وإلا فلا بيع
أو لا تعلق له به كشرطين أو بيعين في بيع
ونحوهما مما نهي عنه غالبا].
قوله: "باب : الشروط المقارنة للعقد فصل يفسده
صريحها لا الحالي".
أقول : كون الشرط مفسدا للبيع للواقع عن تراض
لا بد فيه من دليل عليه ولم يثبت في ذلك إلا
حديث عبدالله بن عمرو عند أحمد وأبي دأود
والنسائي والترمذي أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في
بيع"، الحديث قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن
خزيمة والحاكم ومعنى هذا الحديث هو أن يقول
البائع بعت منك هذا بكذا إن كان نقدا وبكذا إن
كان نسيئة ووجه كون هذا الشرط لا يحل ما
يستلزمه من عدم استقرار البيع والتردد بين
الطرفين.
ومن هذا القبيل حديث النهي عن الثنيا إلا أن
تعلم أخرجه النسائي "3879"، 3880"، والترمذي
"1290، 1313"]، وصححه وأصله في صحيح مسلم
"85/1536"، بلفظ نهي عن الثنيا ومعناه أن يقول
بعت منك كذا واستثنى بعضه فإن كان ذلك البعض
معلوما كان البيع صحيحا وإن لم يكن معلوما لم
يصح البيع للنهي عنه وهذا وإن لم يكن بلفظ
الشرط فوقوع الثنيا التى لم تعلم تفيد عدم
الاستقرار للبيع والتردد فيما هو داخل في
المبيع وخارج عنه وذلك نوع من أنواع الغرر
المنهي عنه ومما يستلزم الجهالة وإذا عرفت أنه
لم يرو إلا هذان الحديثان فينبغي الحكم لما دل
عليه بعدم الصحة ويلحق بهما ما له تأثير في
الغرور والجهالة وما عدا هذا فلا تأثير له هذا
على فرض أنه لم يرد في الشروط الخارجة عما
ذكرناه دليل فكيف وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما
من حديث جابر: أنه كان يسير على جمل قد أعيا
فأراد أن يسيبه قال: ولحقني النبي صلى الله
عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر
مثله فقال: "بعنيه" ، فقلت: لا ثم قال:
"فبعنيه" فبعته واستثنيت حملانه إلي أهلي وفي
لفظ لأحمد والبخاري: وشرطت ظهره إلي المدينة
فهذا الحديث يدل على أن الشروط الواقعة من جهة
البائع صحيحة إذا لم تستلزم الغرر والجهالة
ومن ذلك حديث بريرة المشهور كما في الصحيحين
وغيرهما من حديث عائشة أنها أرادت أن تشتري
بريرة للعتق فاشترطوا ولاءها فذكرت عائشة ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اشتريها
وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا
مائة شرط"، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر
وأبي هريرة نحو حديث عائشة ففي هذا الحديث
دليل على عدم تأثير الشروط المخالفة لما يوجهه
العقد ويقتضيه وأنها باطلة في أنفسها لا تصح
بوجه ومما ورد في الشروط الجائزة حديث ابن عمر
في الصحيحين [البخاري
(1/504)
"4/337"، مسلم
"1533"، وغيرهما أبو داود "3500"، النسائي
"4484"، أحمد "5036، 5405، 5271، 5515، 5561،
5854"]، قال: ذكر رجل لرسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه يخدع في البيوع, فقال: "ما
بايعت فقل: لا خلابة"، فإن هذا وإن لم يكن
بلفظ الشرط ففيه معنى الشرط فيصح هذا الشرط
ولا يبطل به البيع فعرفت بمجموع ما ذكرناه أن
الشروط الواقعة في العقد لا تقتضي الفساد بل
هي أما باطلة في نفسها لكون ذكرها كعدمها أو
صحيحة معمول بها هي والعقد إلا ما كان منها
مقتضيا للوقوع في الغرر الذي يحصل عنده التردد
وعدم العلم بالحقيقة فإن ذلك لا يتحقق معه
التراضي الذي هو المناط في المعاملات الشرعية
وليس عدم الصحة لمجرد الشرط بل لاقتضائه
الوقوع في بيع الغرر المنهي عنه حسبما قدمنا.
وبهذا تعرف أن لا فرق في الشروط بين صريحها
ومستقبلها وحاليها وعقدها فإن كل ما سلم منها
من الجهالة الموقعة في بيع الغرر فهو غير مؤثر
في المناط الذى هو التراضي ولا منع من أن يحصل
التراضي على انتقال الملك من ملك البائع إلي
ملك المشتري بعد شهر أو سنة أو أكثر إذا كان
مما لا يجوز فيه المصير إلي صفة غير الصفة
التي كان عليها عند التراضي كالأراضي ونحوها
من الأعيان التى لا تتغير بمضي مدة من الزمان
عليها فإن هذا تجارة عن تراض أباحها الشرع ولم
يرد ما يدل على المنع منها لا من شرع ولا عقل
وهذا التحقيق يبصرك في جمع ما ذكره المصنف
رحمه الله من الصور والأمثلة فما كان منها
مستلزما للجهالة في المبيع الموجبة لبيع الغرر
فهو ممنوع وما لم يكن كذلك فلا اعتبار به بل
هو أما باطل في نفسه غير مؤثر في البيع
كالشروط المستلزمة لرفع موجب العقد المخالفة
لما يقتضيه كما يفيد ذلك حديث بريرة أو هو
صحيح في نفسه مع صحة العقد وهو ما يرجع إليه
منها إلي حديث جابر وحديث ابن عمر في شرط عدم
الخداع فلا نطول الكلام على هذه الصورة التي
ذكرها المصنف فإن في هذا البحث ما يغني عن
ذلك.
قوله: "كشرطين في بيع أو بيعتين في بيع".
أقول : أما الشرطان في بيع فقد قدمنا ما ورد
في النهي عنه وأما البيعتان في بيع فلحديث أبي
هريرة عند أحمد "2/432، 475"، 503"]، وأبي
دأود "3461" والنسائي "4632"، والترمذي
"1231"، وصححه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "من باع بيعتين في بيعة فله أو
كسهما أو الربا"، وفي لفظ: نهى النبي صلى الله
عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.
وأخرج أحمد بإسناد رجاله ثقات كما قال في مجمع
الزوائد من حديث ابن مسعود قال نهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة قال سماك
الراوي للحديث: هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو
بنسا بكذا أو ينقد بكذا وقد وافق سماك على هذا
التفسير أحمد والشافعي فيكون معنى البيعتين في
بيعة والصفقتين في صفقة هو معنى الشرطين في
بيع كما قدمنا وقد روي عن الشافعي تفسير آخر
فقال هو أن تقول بعتك ذا العبد بألف على أن
تبيعني دارك بكذا ووجه الفساد هو ما قدمنا في
شرطين في بيع من استلزام ذلك للجهالة الموجبة
للغرر.
(1/505)
[ فصل
ويصح منها ما لم يقتضي الجهالة من وصف للبيع
كخيار معلوم أو للمبيع كعلى أنها لبون أو تغل
كذا صفة في الماضي ويعرف بأول المستقبل مع
انتفاء الضار وحصول ما تحتاج إليه أو للثمن
كتأجيله أو يصح أفراده بالعقد كأيصال المنزل
ومنه بقاء الشجرة مدة معلومة وما سوى ذلك فلغو
وندب الوفاء ويرجع بما حط لأجله من لم يوف له
به].
قوله: "ويصح منها ما لم يقتضي الجهالة".
أقول : هذا صحيح لما قدمنا وما ذكره من
الأمثلة صحيح أيضا وكذلك قوله وما سوى ذلك
فلغو ووجه كونه لغوا هو ما قدمناه في أول
الباب هذا وأما قوله وندب الوفاء فالظاهر من
دليل مطلق الشروط حيث قال صلى الله عليه وسلم:
"المؤمنون عند شروطهم"، أبو داود "3594"ن أحمد
"2/366"]، أنه يجب الوفاء بها جميعها إلا ما
استثناه الحديث من قوله: "إلا شرطا أحل حرأما
أو حرم حلالا"، وأما كونه يرجع بما حط لأجله
من لم يوف له به فظاهر لأن ذلك الحط مقيد
بحصول الشرط.
(1/506)
باب الربويات
[ فصل
إذا اختلف المالان ففي الجنس والتقدير بالكيل
والوزن يجوز التفاضل والنساء وفي أحدهما أو لا
تقدير لهما التفاضل فقد إلا الموزون بالنقد
فكلاهما ونحو سفرجل برمان سلما فإن اتفقا فيها
اشترط الملك والحلول وتيقن التسأوي حال العقد
والتقابض في المجلس وإن طال أو انتقل البيعان
أو أغمى عليهما أو أخذ رهنا أو إحالة أو كفالة
ما لم يفترقا إلا المتدرك وما في الذمة
كالحاضر والحبوب أجناس وكذلك الثمار واللحوم
أجناس وفي كل جنس أجناس والألبان تتبع اللحوم
والثياب سبعة والمطبوعات ستة فإن اختلف
التقدير اعتبر بالأغلب في البلد فإن صحب إحدى
المثلين غيره ذو قيمة غلب المنفرد ولا يلزم إن
صحبهما ولا حضور المصاحب ولا المصاحبين
غالبا].
قوله: "باب: الربويات إذا اختلف المالان في
الجنس والتقدير بالكيل والوزن يجوز التفاضل
والنساء".
أقول : قد أشار المصنف ها هنا إلي ثبوت الربا
في كل مالين اتفقا جنسا وتقديرا ثم خص
(1/506)
التقدير بالكيل
والوزن وهذا هو أحد الأقوال في تعيين العلة
التى تقتضي الربا مع الاتفاق في الجنس وقد قيل
إنه قال بهذا العترة جميعا وحكى عن أبي حنيفة
واصحابه واستدلوا على ذلك لذكر النبي صلى الله
عليه وسلم للوزن كما في حديث أبي سعيد عند
مسلم "77/1584"، وغيره أحمد "2/53، 61" بلفظ:
"لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا
وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء"، ومثل هذا
عند مسلم "91/1891"، وغيره "أحمد 2/262"،
النسائي "4569"، من حديث أبي هريرة قال فيه:
"الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة
بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل"، وهكذا في حديث
فضالة بن عبيد بن مسلم وغيره قال: "لا تبيعوا
الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن"، وورد ذكر الكيل
في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن
يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا
وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان
زرعا أن يبيعه بكيل طعام وورد في حديث آخر:
"لا صاعين بصاع" ولا يخفاك أن ذكره صلى الله
عليه وسلم للكيل والوزن في الأحاديث لبيان ما
يتحصل به التسأوي في الأجناس المنصوص عليها
فكيف كان هذا الذكر سببا لإلحاق سائر الأجناس
المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة
في الأحاديث وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك وأي
مناط استفيد منها مع العلم أن الغرض بذكرها هو
تحقيق التساوي كما قال: "مثلا بمثل سواء
بسواء" وقال الشافعي ومن وافقه إن العلة هي
الاتفاق في الجنس والطعام واستدلوا على ذلك
بما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث معمر بن
عبد الله قال كنت اسمع النبي صلى الله عليه
وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل"، وكان
طعامنا يومئذ الشعير وأقول: ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم الطعام فكان ماذا وأي دليل دل
على أنه أراد بهذا الذكر الإلحاق وأي فهم يسبق
إلي كون ذلك هو العلة المعدية حتى تركب على
ذلك القناطر وتبنى عليه القصور ويقال هذا دليل
على أن كل ما به طعم كان بيعه ما به طعم
متفاضلا ربا مع أن أول ما يدفع هذا الاستدلال
ويفت في عضده الذهب والفضة اللذان هما أول
منصوص عليه في الأحاديث المصرحة لذكر الأجناس
التى يحرم فيها الربا ومما يدفع القولين جميعا
أنه قد ثبت في الأحاديث أن النبي صلى الله
عليه وسلم ذكر العددي كما في حديث عثمان عند
مسلم بلفظ لا تبيعوا الدينار بالدينارين وفي
رواية من حديث أبي سعيد: "ولا درهمين بدرهم"
ولم يعتبر العدد أحد من أهل هذين القولين ولا
من غيرهم وقد وافقت المالكية الشافعي في
الطعام وزادت عليه الإدخار والاقتيات فوسعوا
الدائرة بما ليس بشيء.
والحاصل أنه لم يرد تقوم به الحجة على إلحاق
ما عدا الأجناس المنصوص عليها بها ولكنه روى
الدارقطني والبزار عن الحسن بن عبادة وأنس بن
مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما
وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل فمثل
ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به"، وقد ذكره
ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه وفي إسناده
الربيع بن صبيح قال أحمد لا بأس به وقال يحيى
بن معين في رواية عنه: إنه ضعيف وفي أخرى ليس
به بأس ربما دلس وقال ابن
(1/507)
سعد والنسائي
ضعيف وقال أبو زرعة شيخ صالح وقال أبو حاتم
رجل صالح انتهى ولا يلزم من وصفه بالصلاح أن
يكون ثقة في الحديث وقال في التقريب صدوق سيء
الحفظ ولا يخفاك أن الحجة لا تقوم بمثل هذا
الحديث لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم فإنه
حكم بالربا الذى هو من أعظم معاصي الله سبحانه
على غير الأجناس التى نص عليها رسول الله صلى
الله عليه وسلم وذلك يستلزم الحكم على فاعله
بأنه مرتكب لهذه المعصية التى هى من الكبائر
ومن قطعيات الشريعة ومع هذا فإن هذا الإلحاق
قد ذهب إليه الجمع والجم والسواد الأعظم ولم
يخالف في ذلك إلا الظاهرية فقط.
وأعلم أن من أعظم الربا وأشده ربا الجأهلية
الذى وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلت
عليه الأحاديث الصحيحة وثبت إجماع الأئمة
جميعا على تحريمه وهو أن يحضر أجل الدين فلا
يرده من هو عليه فيزيد عليه من هو له شيئا
ويمهله إلي أجل آخر فهذا ربا ثابت وإن لم يكن
التبايع الكائن في تلك الأجناس المنصوص عليها
ثم أعلم أنه لا ينافي ثبوت ربا الفضل في تلك
الأجناس ما ثبت في الصحيحين [البخاري "2187"،
مسلم "101، 102، 103/1596"] وغيرهما [النسائي:
"4580، 4581"، ابن ماجة "2257"، أحمد
"5/200"]، من حديث أسامة بن زيد مرفوعا بلفظ:
"إنما الربا في النسيئة" زاد مسلم في رواية عن
ابن عباس: "لا ربا فيما كان يدا بيد" لأنه وقع
الاختلاف في الجمع بين هذا الحديث وبين
الأحاديث المصرحة بالربا في الأجناس المنصوص
عليها إذا لم يكن مثلا بمثل سواء بسواء فقيل
إن حديث أسامة هذا منسوخ ولكن النسخ لا يثبت
بالاحتمال ولعل القائل بالنسخ لما بلغه رجوع
ابن عباس عن العمل به ظن أنه منسوخ وقيل معنى
قوله إنما الربا في النسيئة الربا الأغلظ
الشديد التحريم فيكون من الحصر الادعائي وهو
خلاف الظاهر والأولى أن يقال إن حديث: "إنما
الربا في النسيئة" دل بمفهومه على نفي ربا
الفضل في الأجناس المنصوص عليها وفي غيرها
وأحاديث ربا الفضل المنصوص عليه في الأجناس
المنصوص عليها مخصصة لهذا العموم وأيضا
الأحاديث الدالة على تحريم ربا الفضل تدل على
ذلك بمنطوقها ودلالة المنطوق أرجح من دلالة
المفهوم.
وأما رواية مسلم عن ابن عباس بلفظ: "لا ربا
فيما كان يدا بيد" فلم يثبت ذلك من قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولو كان ثابتا لبقي
عليه ابن عباس ولم يرجع عن قوله وقد روى
الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع
عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على تحريم
ربا الفضل وقال حفظا من رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما لم أحفظ ولو سلمنا ثبوت تلك
الزيادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان
عمومها المدلول عليه بالنكرة الواقعة في سياق
النفي مخصص بأحاديث ربا الفضل في تلك الأجناس
المنصوص عليها ولو سلمنا التعارض تنزلا لكانت
الأحاديث المصرحة بربا الفضل أرجح لثبوتها في
الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة
قال الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي سعيد المصرح
بالأجناس المثبت لربا الفضل وفي الباب عن أبي
بكر وعمر وعثمان وأبي وهشام بن عامر والبراء
بن أرقم
(1/508)
وفضالة بن عبيد
وأبي بكرة وابن عمر وأبي الدرداء وبلال وبما
ذكرناه يرتفع الإشكال على كل تقدير وقد وقع
للجلال في هذا المقام من شرحه لهذا الكتاب من
الهذيان الذى جرت به عادته ما لا يخفي بطلانه
إلا على فاقد الفهم غير نافذ العرفان ولا ناقد
لزائف الكلام.
قوله: "وفي أحدهما أولا تقدير لهما التفاضل
فقط".
أقول : أما الأجناس الربوية إذا اختلف فيدل
على جواز التفاضل فيها دون النساء ما أخرجه
مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت عن النبي
صلى الله عليه وآله س وسلم قال: "الذهب بالذهب
والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير
والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء
بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا
كيف شئتم إذا كان يدا بيد"، وفي لفظ لأبي دأود
والنسائي وابن ماجة: وأمرنا أن نبيع البر
بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا
والإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا
اختلفت هذه الأصناف"، الخ يدل على أنه يجوز
فيها مع الاختلاف التفاضل دون النساء فلا يجوز
مثلا بيع الطعام بالدراهم إلا إذا كان يدا بيد
وقد استدل من جوز ذلك بما صح في الصحيحين
وغيرهما من حديث عائشة قالت اشترى رسول الله
صلى الله عليه وسلم من يهودي طعأما بنسيئة
وأعطاه درعا له رهنا ولا معارضة بين هذا وبين
حديث عبادة لإمكان الجمع بأن هذا مخصص لاشتراط
التقابض بمثل هذه الصورة إذا سلم المشتري رهنا
في الثمن وقد استدل بعضهم بالإجماع على جواز
ذلك من غير تقابض إذا كان الثمن نقدا فإذا صح
هذا الإجماع كان حجة عند من يرى حجيته.
وأما قول الجلال إنها زيادة تفرد بها عبادة
فليس من جنس كلام أهل العلم فإن الزيادة
الخارجة من مخرج صحيح مقبولة بالإجماع وتفرد
الصحأبي بالرواية حجة عند جميع المسلمين كيف
وقدمنا حديث ابن عمر الثابت عند أحمد وأهل
السنن مع تصحيح الحاكم له أنه قال للنبي صلى
الله عليه وسلم إني أبيع بالدنانير وآخذ
الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فقال:
"لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا
وبينكما شيء"، وأخرجه ابن حبان والبيهقي ولم
يأت من أعله بحجة مقبولة وسماك إمام حجة وأما
جواز التفاضل فيما لا تقدير له بكيل أو وزن
فقد ثبت عند أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث
جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا
بعبدين وثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس
أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية بسبعة
أرؤس من دحية الكلبي وما أظنه يخالف في جواز
التفاضل في هذا إذا كان يدا بيد أحد من أهل
العلم.
وأما جواز النساء فيه فقد أخرج أحمد وأبو دأود
والدارقطني من حديث عبدالله ابن عمر وقال
أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث
جيشا على إبل كانت عندي قال فحملت الناس عليها
حتى نفدت الإبل وبقيت بقية من الناس وقلت: يا
رسول الله الإبل قد نفدت وقد بقيت بقية من
الناس لا ظهر لهم فقال لي: "ابتع علينا إبلا
بقلائص من إبل الصدقة
(1/509)
إلي محلها حتى
تنفذ هذا البعث" فلما جاءت إبل الصدقة أداها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إسناده محمد
بن إسحق وهو إمام وإن كان قد تكلم فيه بعض أهل
العلم فذلك بغير حق وقد رواه البيهقي من غير
طريقه وقوى ابن حجر في الفتح إسناد هذا الحديث
ولكنه قد عارض هذا الحديث ما أخرجه أحمد وأهل
السنن وصححه الترمذي وابن الجارود من حديث
الحسن عن سمرة قال نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ورجال
إسناده ثقات إلا ما هو مشهور من الخلاف في
سماع الحسن من سمرة وأخرج عبدالله بن أحمد في
زوائد المسند من حديث جابر بن سمرة مثله وأخرج
البزار والطحأوي وابن حبان والدارقطني من حديث
ابن عباس نحو حديث سمرة قال في الفتح ورجاله
ثقاة إلا أنه اختلف في وصله وإرساله فرجح
البخاري وغيره إرساله وقد ذهب الجمهور إلي
جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلا
مطلقا وشرط مالك أن يختلف الجنس ومنع من ذلك
مطلقا مع النسيئة أبو حنيفة وأحمد بن حنبل
وحمل الشافعي المنع على النسئية من الطرفين
لأنه من بيع الكاليء بالكاليء وهو لا يصح عند
الجميع وعلى فرض عدم إمكان الجمع فأحاديث
النهي أرجح واصح ولم يصب من حمل النهي على
المضامين وهي ما في بطون الأنعام كما فعل
الجلال فإنه حمل الأحاديث على أندر صورة وقد
ورد النهي عن بيع الملاقيح والمضامين على حدته
وهو أعم من أن تشتري بنقد أو عرض ولكن محبة
الإغراب تأتي بمثل هذا العجاب.
وأما قوله المصنف: "إلا الموزون بالنقد
فكلاهما" فقد قدمنا الكلام عليه قريبا.
وأما قوله: "ونحو سفرجل برمان سلما" فليس ها
هنا ما يدل على المنع من بيع السفرجل بالرمان
على أي صفة كان ولا مدخل للربا في ذلك بوجه
لكونهما لم يكونا من الأجناس التي نص عليها
الشارع ولا اتفق التقدير فيهما بالكيل أو
الوزن ولا اعتبار عند المصنف بالعدد ولا عند
غيره.
قوله: "فإن اتفقا فيهما اشترط الملك" الخ.
أقول : هذا كله صحيح وأما اشتراط الملك فلكون
التصرف في مال الغير بغير إذنه من أكل أموال
الناس بالباطل لا من التجارة عن تراض وأما
اشتراط الحلول فللأحاديث المصرحة باشتراط أن
يكون يدا بيد ولحديث: "إنما الربا في النسيئة"
وأما تيقن التسأوي حال العقد فللأحاديث
المصرحة باشتراط أن يكون مثلا بمثل سواء بسواء
وأما التقابض في المجلس فلقوله يدا بيد ونحو
ذلك وإن كان قد أغنى عن هذا القيد قوله الحلول
فإنه عدم التأجيل ولا يتحقق عدم التأجيل إلا
بالتقابض وأما قوله وإن طال فما دأما في
المجلس فلا فرق بين أن يقفا فيه وقوفا طويلا
أو قصيرا.
وأما قوله: "أو انتقل البيعان" فمشروط بأن لا
يتفرقا أما لو انتقلا متفرقين فقد انقضى
المجلس الأول وهما غير متقابضين فلم يكن ذلك
القبض الواقع في المجلس الآخر مما يدخل تحت
قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا يدا بيد".
وقوله: "إلا هاء وهاء".
(1/510)
وأما قوله: "أو
أغمى عليهما أو على أحدهما" فصحيح لأن ذلك عذر
مسوغ.
وأما قوله: "أو أخذ رهنا أو إحالة أو كفالة"
فباطل مخالف للأدلة مدفوع بها إن أراد أن أحد
هذه الأمور يغني عن القبض وإن أراد أنه يكفي
ذلك ما دأما في المجلس كما يفيده قوله ما لم
يفترقا فلا حاجة إلي هذه الأمور مع البقاء في
المجلس لأن التقابض فيه يكفي من غير توسيط هذه
الأمور والتعرض لذكر مفارقة المستدرك لهما مما
لا حاجة إله ولا مدخل له.
قوله: "وما في الذمة كالحاضر".
أقول : هذه الكلية وإن كان ظاهرها المخالفة
للأدلة المشروطة للتقابض المحقق فيمكن أن
يستشهد لصحتها بالقرض فإن المستقرض دفع مثل
الثابت في ذمته مع عدم وجوده حال القضاء فكان
ما في ذمته كأنه حاضر ولكن لا بد أن يكون ما
في الذمة باعتبار أحد المتبايعين والمقابل له
حاضر وإلا كان من بيع الكاليء بالكاليء كما
تقدم.
وأما قوله: "والحبوب أجناس" إلي قوله: "فإن
اختلف التقدير" فلا يخفاك أنه لا بد أن يصدق
على ما قيل بجنسيته أن أهل اللغة يطلقون عليه
ذلك الاسم أو يثبت أنه جنس عند أهل الشرع وأما
مجرد الأعراف والاصطلاحات فلا يتعلق ببيانها
كثير فائدة ولا يترتب عليها ثمرة إلا في مثل
الأيمان وما يلتحق بها فإن كل حالف أو متكلم
بكلام لا يقصد في الظاهر إلا عرف قومه واصطلاح
أهل بلده والمقام مقام ثبوت الربا أو عدمه فلا
يتكل فيه على ما لا يسمن ولا يغني من جوع.
قوله: "فإن اختلف التقدير اعتبر بالأغلب في
البلد".
أقول : هذا العرف الغالب لا يثبت به شيء من
الأمور الشرعية مثلا لو جرى عرفهم أن الذهب
والفضة يكالان لم يكن الكيل مصححا لبيع الجنس
بجنسه حتى يقع الوزن لأن النبي صلى الله عليه
وسلم يقول: "الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل
والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل"، وهكذا لو
جرى عرفهم أن البر أو الشعير يوزنان لم يجز
بيع الجنس بجنسه حتى يعرف التسأوي بينهما
بالكيل ومن قال إن الاتفاق في التقدير بالكيل
والوزن موجب لثبوت الربا كما سبق لم يكن مجرد
كيل بلد أو وزنها مقتضيا لذلك لأنه قد رتب على
هذا أمر شرعي ولو كان مثل ذلك مسوغا لإثبات
الأحكام الشرعية لكان الربا في الشيء ثابتا في
بلد وغير ثابت في أخرى وإنما يثبت بذلك حمل ما
يصدر من أهل البلد في المجأوزة عليه لأنه الذي
يتعلق به القصد لهم وأما مثل صاع الفطرة
وأوساق الزكاة فالاعتبار بمكيال المدينة في
المكيل وهكذا الاعتبار في مثل قوله صلى الله
عليه وسلم: "في خمس أواق صدقة"، وفي الدية
ونصاب السرقة ونحو ذلك بميزان مكة لما أخرجه
أبو دأود والنسائي والبزار وابن حبان
والدارقطني وصححاه من حديث ابن عمر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "المكيال مكيال أهل
المدينة والوزن وزن أهل مكة"، ورواه أيضا أبو
دأود من حديث ابن عباس وأخرجه أيضا الدارقطني
عن ابن عباس من طريق أبي أحمد الزبيري عن
سفيان عن خنظلة عن طأوس عنه وأخرجه عنه ومن
طريق أبي نعيم عن الثوري عن حنظلة عن سالم بدل
طأوس قال الدارقطني أخطأ أبو أحمد فيه.
(1/511)
وإذا تقرر لك
أن الاعتبار في الأمور الشرعية بمكيل المدينة
ووزن مكة عرفت أنه لا اعتبار بما يخالف ذلك
وأن أطبق عليه الأكثر أ والأغلب بل يعتبر في
الأمور العرفية ما جرى به العرف في البلد فإن
اختلف كان الاعتبار بالأغلب لما تقدم فكلام
المنصف لا يصح إلا من هذه الحيثية وبهذا
الاعتبار فمن حلف مثلا لا أكل موزونا لم يحنث
إلا بما هو موزون في بلدة لأنه المقصود له عند
حلفه ولا يتصور غيره.
قوله: "فإن صب أحد المثلين إلي آخر الفصل".
أقول : هذا المسائل التي يسمونها مسائل
الاعتبار مردودة مدفوعة بالنسبة الصحيحة
الصريحة دفعا أظهر من شمس النهار وأجل من عمود
الصباح أما أولا فبالأحاديث المتواترة
المشتملة على أن تلك الأجناس لا تباع إلا مثل
بمثل سواء بسواء فانضمام ما ليس من جنس واحد
المتسأويين إلي أحدهما لا يسوغ أن يكون الجنس
المقابل له أكثر قدرا منه ولو بلغ في القيمة
ما بلغ ووصل في النفاسة وارتفاع الجنس إلي
أبلغ غاية وأما ثانيا فحديث القلادة الذى
أخرجه مسلم وغيره وصححه جماعة من الأئمة من
حديث فضالة بن عبيد قال اشتريت قلادة يوم خيبر
بأثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت
فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يباع حتى يفصل"،
وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
حتى تميز بينه وبينه"، فقال: إنما أردت
الحجارة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا
حتى تميز بينهما"، وقد أخرجه الطبراني في
الكبير من طرق كثيرة جدا يدل أبلغ دلالة على
أن هذه المسائل مخالفة للشريعة المطهرة مضادة
لها وتنادى بأعلى صوت أن مثلها يستلزم تحليل
ما حرم الله من الربا الذى توعد عليه بالحرب
منه واتفق المسلمون على تحريمه وأنه من كبائر
الذنوب والعجب ممن يزعم من أهل الإنصاف
كالمقبلي أنها إذا طابت أنفس المتعاملين لذلك
ورضيا به كان من البيع المأذون فيه فإن هذه
غفلة عظيمة للعلم لأن الله سبحانه لم يجعل
للتراضي فيما هو ربا أو وسيلة إلي الربا حكما
يحلل هذا الحرام البحت والكبيرة العظيمة وأما
تأويل حديث القلادة هذا بأنه وجد فيها ذهبا
أكثر من شرائها به فلم يكن المنفرد غالبا كما
فعل الجلال في شرحه لهذا الكتاب فتأويل زائف
وقد ذهب إلي العمل بحديث القلادة كثير من
السلف الصالح وإليه ذهب مالك والليث وأحمد
وإسحق وغيرهم وهو الحق الذى لا شك فيه ولا
شبهة.
[ فصل
ويحرم بيع الرطب والتمر والعنب بالزبيب
ونحوهما والمزابنة إلا العرايا وتلقي الجلوبة
واحتكار قوت الآدمي والبهيمة الفاضل عن كفايته
ومن يمون إلي الغلة مع الحاجة
(1/512)
وعدمه إلا مع
مثله فيكلف البيع في القوتين فقط والتفريق بين
ذوي الأرحام المحارم في الملك حتى يبلغ الصغير
وإن رضي الكبير والنجش والسوم على السوم
والبيع على البيع بعد التراضي وسلم أو سلف
وبيع وربح ما اشترى بنقد غصب أو ثمنه وبيع
الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء وبأقل
مما شرى به إلا من غير البائع أو منه غير حيلة
أو بغير جنس الثمن الأول أو بقدر ما انتقص من
عينه وفوائده الأصلية].
قوله: "ويحرم بيع الرطب بالتمر".
أقول : وجهه ما أخرجه أحمد "1/175"، وأهل
السنن أبو داود "3359"، الترمذي "1225"،
النسائي "4545، 4546"، ابن ماجة "2264"، وصححه
الترمذي "3/528"، وابن خزيمة والحاكم كلهم
وصححه أيضا قبلهم ابن المديني من حديث سعد بن
أبي وقاص قال سمعت أن النبي صلى الله عليه
وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال لمن
حوله: "أينقص الرطب إذا يبس؟"، قالوا: نعم
فنهى عن ذلك.
وأما قوله: "والعنب بالزبيب" فلما سيأتي في
الحديث المتفق عليه من تحريمه صلى الله عليه
وسلم لبيع الكرم بالزبيب والمراد بالكرم العنب
ولا علة للمنع من ذلك إلا تجويز النقص وكونه
في شجرة لا تأثير له فكان محرما بالنص لا
بالقياس على التمر بالرطب وأما قوله ونحوهما
فالمراد به كل جنس ربوي إذا كان بعضه أخضر
وبعضه يابسا أو بعضه مبلولا وبعضه غير مبلول
لعدم العلم بالتساوي فمنعه داخل تحت النصوص
المصرحة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا مثلا
بمثل سواء بسواء".
قوله: "والمزابنة إلا العرايا".
أقول : المزابنة بيع التمر في النخل بالتمر
كما وقع تفسيرها بذلك في الصحيحين [البخاري
"4/384"، مسلم "72/154"]، وغيرهما أبو داود
"3361"، النسائي "7/266"، ابن ماجة "2265"،
أحمد "2/5"، بلفظ: "وهي بيع التمر على رؤوس
النخل كيلا وبيع الكرم بالزبيب كيلا"، وهذا
التفسير إن صح رفعه قامت به الحجة في تفسير
المزابنة وإن كان مدرجا كما قيل فهو يدل على
معناه ما في الصحيحين [البخاري "5/50"، مسلم
"70/81540"]، وغيرهما أحمد "4/140"، من حديث
رافع بن خديج وسهل ابن أبي حثمة أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن المزابنة بيع الثمر
بالثمر إلا أصحاب العرايا والثمر بالثاء
المثلثة وقوله بالتمر بالتاء المثناة الفوقية
والمراد بالثمر بالمثلثة هو ما كان في النخلة
فلا يقال له ثمرا إلا ما دام فيها وهكذا في
الصحيحين وغيرهما من غير حديثهما وقد صرح بذلك
مسلم في رواية له فقال ثمر النخلة وفي
الصحيحين أيضا في حديث ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة أن يبيع
الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن
كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن
يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله فتقرر بهذا أن
المزابنة بيع ثمر النخلة ما دام فيها ومثل ذلك
بيع العنب في أصوله وبيع الزرع قبل قطعه
بأجناس هذه الثلاثة الأجناس التي قد جفت ويبست
فإن كل ذلك مزابنة ووجه المنع عدم العلم
بالتساوي في الجنس الربوي وأما العرايا فأصلها
أن العرب كانت تتطوع على من لا ثمر له كما
(1/513)
يتطوع صاحب
الشاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون
الرقبة قال الجوهري في الصحاح العرية هي
النخلة التى يعريها صاحبها رجلا محتاجا بأن
يجعل له ثمرها عأما من عراه إذا قصده انتهى
فرخص صلى الله عليه وسلم لمن لا نخل لهم أن
يشتروا الرطب على النخل بخرصها تمرا كما وقع
في الصحيحين [البخاري "4/387، مسلم "67/1540"،
وغيرهما أبو داود "3663"، الترمذي"1303"،
النسائي "7/268"، من حديث سهل بن أبي حثمة
وكذا في البخاري وغيره من حديث زيد بن ثابت
وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "4/377، مسلم
"61/1539"]، من حديثه: "رخص في العرية يأخذها
أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا"، وفي
لفظ لهما من حديثه: "ولم يرخص في غير ذلك"
فهذا جائز والذي أخبرنا بتحريم الربا ومنعنا
من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا والكل
حق وشريعة واضحة وسنة قائمة ومن منع من ذلك
فقد تعرض لرد الخاص بالعلم ولرد الرخصة
بالعزيمة ولرد السنة بمجرد الرأي وهكذا من منع
من البيع وجوز الهبة كما روى عن أبي حنيفة
ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق
والوسقين والثلاثة والأربعة كما وقع في حديث
جابر عند الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن
حبان والحاكم فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك.
قوله: "وتلقي الجلوبة".
أقول : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما
ثبت في الصحيحين [البخاري"4/373"، مسلم
"15/518"[، وغيرهما [أحمد "1/430"، ابن ماجة
"2180"، الترمذي "1220"]، من حديث ابن مسعود
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع
وفي لفظ من حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب
فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة بالخيار
إذا ورد السوق والنهي ثابت في الصحيحين أيضا
من حديث ابن عمر وابن عباس وقد اختلف أهل
العلم هل هذا البيع صحيح أم باطل واستدل من
قال بأنه صحيح بإثبات الخيار المذكور في
الحديث فإنه يدل على انعقاد البيع وقالوا أيضا
النهي هنا لأمر خارج لا لعين البيع ولا لوصفه
ونقول هذا التلقي حرمه الشارع على فاعله بنهيه
الثابت بلا خلاف فمن زعم أن ما ترتب على هذا
الحرام صحيح فقد خالف مقاصد الشرع بمجرد رأي
حرره أهل الأصول لا يستند إلي ما تقوم به
الحجة وأما إثبات الخيار فهو دليل على أن هذا
البيع موكول إلي اختيار صاحبه إن أمضاه مضى
وإن لم يمضه فوجوده كعدمه فهو حجة عليهم لا
لهم لأن هذا الإمضاء هو الذي وقع به التجارة
عن تراض وما تقدم منه من الرضا فقد أبطله
انكشاف الأمر على غير ما وقع من تغرير المتلقي
وليس المراد بقوله سبحانه: {تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ} [النساء: 29]، مثل هذا الرضا الناشيء
عن التغرير والتلبيس بل الرضا المحقق بلا
تغرير وطيبة النفس الصحيحة.
قوله: "واحتكار قوت الآدمي والبهيمة".
(1/514)
أقول: لما ثبت
في صحيح مسلم "129/1605"، وغيره [أبو داود
"3447"، الترمذي "1267"، ابن ماجة "2154"،
أحمد "6/400"]، من حديث معمر بن عبدالله
العدوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يحتكر إلا خاطيء"، ولحديث معقل بن يسار عند
أحمد والترمذي قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين
ليغليه عليهم كان حقا على الله أن يعقده بعظم
من النار يوم القيامة"، ورجاله رجال الصحيح
كما قال في مجمع الزوائد إلا زيد بن مرة أبو
المعلا قال ولم أجد من ترجمة ولحديث ابن عمر
عند ابن ماجه وإسحق بن راهويه والدارمي وأبي
يعلى والعقيلي والحاكم بلفظ: "الجالب مرزوق
والمحتكر معلون" وفي إسناده ضعف ولحديث ابن
عمر عند أحمد وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى
والحاكم بلفظ: "من احتكر الطعام أربعين يوما
فقد برئ من الله وبرئ الله منه" وفي إسناده
أصبغ بن زيد وكثير بن مرة والأول مختلف فيه
والثاني كذلك وقد وثق الأول النسائي ووثق
الثاني أو سعيد وفي الباب أحاديث والاحتكار
والحكرة قد فسرا بحبس السلع عن البيع وهذا يدل
على تحريم الاحتكار لكل ما تدعو إليه حاجة
الناس ويؤيد هذا حديث: "من دخل في شيء من
أسعار المسلمين" فإنه يعم كل ما له سعر فلا
يكون التنصيص على الطعام في بعض الأحاديث
مقتضيا لتخصيص تحريم الاحتكار لأن ذلك من
التنصيص على بعض أفراد العام وأيضا إذا كانت
العلة الإضرار بالمسلمين فهو يشمل كل ما
يتضررون باحتكاره وتدعو حاجتهم إليه وإن كان
التضرر باحتكار الطعام أكثر لمزيد الحاجة إليه
ويدخل في ذلك قوت الدواب.
وأما قوله: "الفاضل عن كفايته ومن يمون إلي
الغلة" فقد حكى ابن رسلان في شرح السنن
الإجماع على جواز ذلك فقال ولا خلاف في أن ما
يدخره الإنسان من قوت وما يحتاجون إليه من سمن
وعسل وغير ذلك جائز لا بأس به انتهى ويدل على
ذلك ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يعطي كل واحدة من أزواجه مائة وسق من خيبر قال
ابن رسلان في شرح السنن وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنتهم من تمر
وغيره.
وأما قوله: " مع الحاجة" فهذا القيد لا بد منه
لأن إدخار ما لا حاجة للناس إليه لا يضربهم
إلا إذا كان فعله لذلك يقضي إلي الغلاء فإنه
يتنأوله قوله صلى الله عليه وآله و سلم:
"ليغليه عليهم".
قوله: "فيكلف البيع".
أقول : هذا صحيح لأنه فاعل لما هو من محرمات
الشريعة مع مزيد أن فيه إضرارا بالمسلمين فلا
يجوز تقريره على الحرام ولا يجوز ترك المسلمين
يتلهفون من الجوع صيانة لهذا المحتكر الخاطيء
المضار للمسلمين ولهذا عاقبة أمير المؤمنين
علي رضي الله عنه بتحريق طعامه وأما قول
الجلال ها هنا إلي المنكر هو ما كان دليله
قطعيا بحيث لا خلاف فيه فمن ساقط الكلام
وزائفه فإن إنكار المنكر لو كان مقيدا بهذا
القيد لبطل هذا الباب وانسد بالمرة وفعل من
شاء ما شاء إذ لا محرم من محرمات الشريعة في
الغالب إلا وفيه قول لقائل أو شبهة من الشبه
وسيأتي في هذا الكتاب في السير أنه لا إنكار
في مختلف فيه على ما هو مذهب وهو أيضا باطل من
القول وإن كان أقل مفسدة من هذا الكلام.
(1/515)
قوله: "إلا
التسعير في القوتين".
أقول : يدل على عدم جواز التسعير القرآن
الكريم قال الله عز وجل: {تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ} [النساء: 29]، فمن وقع الإجبار له أن
يبيع بسعر لا يرضاه في تجارته فقد أجبر بخلاف
ما في الكتاب وهكذا يدل على عدم جواز التسعير
قوله سبحانه وتعالي: {وَلا تَأكلوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
[النساء: 29]، فإن من أكره على بيع ماله بدون
ما يرضى به فقد أكل ماله بالباطل وهكذا يدل
على عدم جواز التسعير قوله صلى الله عليه
وسلم: "لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من
نفسه"، ويدل على عدم جوازه على الخصوص ما
أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجه
والدارمي والبزار وأبو يعلى وصححه الترمذي
وابن حبان من حديث أنس إن السعر غلاء فقالوا
يا رسول الله سعر لنا فقال: "إن الله هو
المسعر القابض الباسط وإني لأرجو أن ألقى الله
وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال"،
قال ابن حجر وإسناده على شرط مسلم.
ويدل على عدم جوازه على الخصوص أيضا ما أخرجه
أحمد وأبو دأود من حديث أبي هريرة قال جاء رجل
فقال: يا رسول الله سعر, فقال: "بل أدعو الله"
ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله سعر فقال: "بل
الله يخفض ويرفع" قال ابن حجر وإسناده حسن.
ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه ابن ماجة والبزار
والطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد بنحو
حديث أنس قال ابن حجر وإسناده حسن أيضا قال
وللبزار نحوه من حديث علي وعن ابن عباس في
الطبراني في الصغير وعن أبي جحيفة في الكبير
وأغرب ابن الجوزي فأخرجه في الموضوعات عن علي
وقال إنه حديث لا يصح انتهى وظاهر هذه الأدلة
عدم الفرق بين القوتين وغيرهما لأن الكل يتأثر
عنه عدم طيبة النفس ويقع على خلاف التراضي
المعتبر ولا فرق بين أن يكون في التسعير الرد
إلي ما يتعامل به الناس أو إلي غيره فإن الفرق
بمثل هذا الفرق هو مجرد رأي وملاحظة مصلحة في
شيء يخالف الشرع وقد أشار صلى الله عليه وسلم
في حديث أنس السابق إلي ما يفيد أن في التسعير
مظلمة فلا خير ولا مصلحة في مظلمة بل الخير كل
الخير والمصلحة كل المصلحة في العمل بما ورد
به الشرع.
قوله: "والتفريق بين ذوي الأرحام والمحارم".
أقول : لحديث أبي أيوب عند أحمد والترمذي
وحسنه والدارقطني والحاكم وصححه قال سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين
والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم
القيامة"، ولحديث أبي موسى عند ابن ماجه
والدارقطني بإسناد لا بأس به قال: لعن رسول
الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد
وولده وبين الأخ وأخيه ولحديث علي عند أبي
دأود والدارقطني أنه فرق بين جارية وولدها
فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد
البيع وقد أعله أبو دأود بالانقطاع ولكنه
أخرجه الحاكم وصحح إسناده ورجحه البيهقي
لشواهده ولحديث علي أيضا عند ابن ماجه
والدراقطني وصححه ابن خزيمة وابن الجارود
(1/516)
وابن حبان
والحاكم والطبراني وابن القطان قال أمرني رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين
فبعتهما وفرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي صلى
الله عليه وسلم فقال: "أدركهما فارتجعهما ولا
تبعهما إلا جميعا"، ولحديث أنس أيضا عند ابن
عدي بلفظ: "لا يولهن والد عن ولده"، وفي
إسناده مبشرين عبيد وهو ضعيف ورواه من طريق
أخرى فيها إسماعيل ابن عياش عن الحجاج بن
أرطاه وقد تفرد به إسماعيل وهو ضعيف في غير
الشاميين ولحديث أبي سعيد عند الطبراني بلفظ:
"لا توله والدة بولدها"، وأخرجه البيهقي.
وهذه الأحاديث تدل على تحريم التفريق بين
الوالدة وولدها وبين الوالد وولده وبين
الأخوين وقد قيل إنه مجمع على تحريم التفريق
بين الوالدة وولدها ومن عدا من هو مذكور في
هذه الأحاديث فقيل إنه يحرم بطريق القياس
وظاهر الأحاديث أنه يحرم التفريق بالبيع
وغيره.
وأما قوله: "حتى يبلغ الصغير وأن رضى الكبير"
فقد استدل على ذلك بما أخرجه الدارقطني
والحاكم من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "لا
يفرق بين الأم وولدها" قيل: إلي متى؟ قال:
"حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية" وفي إسناده
عبدالله بن عمرو الواقعي وهو ضعيف وقد رماه
علي بن المديني بالكذب ولكن لم يبق بعد البلوغ
ما يحصل به التضرر التام كما في من كان صغيرا
وقد حكى المصنف في الغيث الإجماع على جواز
التفريق بعد البلوغ.
قوله: "والنجش".
أقول : النجش في اللغة تنفير الصيد وإثارته من
مكان ليصاد يقال نجشت الصيد أنجشه وفي الشرع
الزيادة في السلعة فيعطي بها الشيء وهو لا
يريد شراءها ليقتدي به السوام فيعطون بها أكثر
مما كانوا يعطون لو لم يسمعون نجشه وقد ثبت
النهي عن ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي
هريرة ومن حديث ابن عمر وعند مسلم من حديث
عقبة بن عامر وفي الباب غير ذلك وقد نقل ابن
بطال الإجماع على أن الناجش عاص بفعله قال
واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك ونقل ابن
المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع
إذا وقع على ذلك وهو قول أهل الظاهر ورواية عن
مالك وهو المشهور عند الحنابلة وهو وجه
للشافعية قلت وهو الحق لاقتضاء النهي لذلك.
قوله: "والسوم على السوم".
أقول : لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من النهي
عنه من حديث أبي هريرة وغيره كما ثبت النهي عن
السوم على السوم ثبت النهي عن البيع على البيع
في الصحيحين [البخاري "2140"، مسلم "1515"،
وغيرهما أبو داود "3443"، من حديث أبي هريرة
أيضا وثبت في غير الصحيحين من غير حديثه وصورة
السوم أن يأخذ الرجل سلعة ليشتريها فيقول له
قائل رده لأبيعك خيرا منه أو مثله بأرخص منه
أو يقول للبائع رده لأشتريه منك بأكثر وأما
صورة البيع على البيع والشراء على الشراء فهو
أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار أفسخ
لأبيعك بأنقص أو
(1/517)
يقول للبائع:
أفسخ لأشتري منك بأزيد قال ابن حجر في الفتح
وهذا مجمع عليه فعرفت بهذا أن صورة السوم على
السوم غير صورة البيع على البيع وأن تقييد
المنع بكونه بعد التراضي هو الصواب وأما بيع
المزايدة فقد دل على جوازه ما أخرجه أحمد وأبو
دأود والنسائي والترمذي وحسنه من حديث أنس أن
النبي صلى الله عليه وسلم باع
قدحا وحلسا فيمن يزيد وفي لفظ لأبي دأود أن
النبي صلى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس
لبعض أصحابه فقال رجل هما علي بدرهم قال
آخرهما علي بدرهمين وحكى البخاري عن عطاء أنه
قال أدركت الناس لا يرون بأسا ببيع المغانم
فيمن يزيد وقال الترمذي بعد إخراجه لحديث أنس
المذكور والعمل على هذا عند بعض أهل العلم لم
يروا بأسا ببيع من يزيد في المغانم والمواريث
قال ابن العربي لا معنى لاختصاص الجواز
بالغنيمة والميراث فإن الباب واحد والمعنى
مشترك.
قوله: "وسلم أو سلف وبيع".
أقول : قد ثبت النهي عن السلف والبيع بما
أخرجه أحمد وأبو دأود والنسائي والترمذي وقال
حسن صحيح وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم من
حديث عبدالله ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "لا يحل سلف وبيع"، الحديث قال أحمد
هو أن يقرضه قرضا ثم يبايعه عليه بيعا يزداد
عليه وهو فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحأبيه
في الثمن وقد يكون السلف بمعنى السلم وذلك مثل
أن يسلم إليه في شيء ويقول إن لم يتهيأ المسلم
فيه عندك فهو بيع لك وهذه الصورة داخلة تحت
الأحاديث المشتملة على النهي عنه أن يبيع
الإنسان ما ليس عنده وداخلة تحت الأحاديث
المشتملة على النهي عن بيع الشيء قبل قبضه
فهذه الصورة التى ذكرها المصنف قد منع الشارع
عنها وكل ما منع الشارع عنه فهو باطل ولا فرق
بن منع ومنع ولا بين نهي ونهي إلا أن تقوم
قرينة تدل على أن المراد من ذلك مجرد الكراهية
فقط القاصرة عن رتبة التحريم وما اعتل به
الحامدون على الرأي من قولهم هذا نهي عنه
لذاته وهذا نهي عنه لوصفه وهنا نهى عنه لأمر
خارج عنه كما وقع ذلك في كتب الأصول فقد
عرفناك غير مرة أن هذه التفرقة مبنية على رأي
بحت لم تربط بدليل عقل ولا نقل ولا شك أنه لم
يذكر كثيرا من المناهي ولها حكم هذه المذكورة.
قوله: "وربح ما اشترى ينقد غصب أو ثمنه".
أقول : إنما تعرض المصنف لذكر الربح هنا مع
كونه في مناهي البيع لأن ذلك مترتب على الشراء
بنقد الغصب أو ثمنه فهو من ذيول مباحث البيع
والشراء من هذه الحيثية على أن النبي صلى الله
عليه وسلم قد ذكر عدم حل هذا الربح مقترنا
بمناهي البيع كما في حديث عبدالله بن عمرو
بلفظ: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا
ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك"، أخرجه
أحمد وأبو دأود والنسائي والترمذي وصححه أيضا
ابن خزيمة والحاكم وقد تقدم طرف منه قريبا.
قوله: "وبيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل
النسا".
(1/518)
أقول : يمكن
الاستدلال لهذا المنع بما أخرجه أحمد والنسائي
والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع بيعتين
في بيعة فله أوكسهما أو الربا"، وبما أخرجه
أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط عن
سماك عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود عن
أبيه قال نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
عن صفقتين في صفقة قال سماك هو الرجل يبيع
البيع فيقول هو بنسا بكذا وهو ينقد بكذا وكذا
قال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات فهذان
الحديثان قد دلا على أن الزيادة لأجل النسا
ممنوعة ولهذا قال: "فله أوكسهما أو الربا"
والأعيان التي هي غير ربوية داخلة في عموم
الحديثين وقد أفردت هذا البحث في رسالة مستقلة
سميتها شفاء العلل في حكم زيادة الثمن لأجل
الأجل والكلام في المقام يطول وقد ذهب الجمهور
إلي جواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل
النسا ونازعوا في دلالة الحديثين المذكورين
على محل النزاع.
قوله: "وبأقل مما اشترى به" الخ.
أقول : إذا كان المقصود التحيل فلا فرق بين
بيعه من البائع أو غيره وبين أن يكون بجنس
الثمن الأول أو بغير جنسه فالأولى أن يقال
وبأقل مما شرى به حيلة فإن ذلك يغني عن هذا
التطويل الذي ذكره المصنف ووجه المنع من ذلك
ما فيه من التوصل إلي الربا لأن الغالب في مثل
هذا أن يريد الرجل أن يزيد له المستقرض زيادة
على ما أقرضه فيتوصل إلي تحليل ذلك بهذه
الحيلة الباطلة وهي أن يبيع منه عينا بأكثر من
قيمتها ثم يشتريها منه بأقل من ذلك فتبقى هذه
الزيادة في ذمة المشتري وهي في الحقيقة زيادة
في قدر ما استقرضه وهنا البيع هو بيع العينة
الذى ورد الوعيد عليه بما أخرجه أحمد وأبو
دأود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا
بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في
سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى
يراجعوا دينهم"، ولفظ أبي دأود: "إذا تبايعتم
بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع
وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه
حتى ترجعوا إلي دينكم" وأخرجه أيضا الطبراني
وابن القطان وصححه قال ابن حجر في بلوغ المرام
ورجاله ثقات وقال في التلخيص إنه لا يلزم من
كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا لأن الأعمش مدلس
ولم يذكر سماعه من عطاء وعطاء يحتمل أن يكون
هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية
بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر انتهى ولا
يخفاك أن الحديث بعد تصحيح ذلك الإمام والحكم
على رجاله بأنهم ثقات قد قامت به الحجة والأصل
عدم ما ذكره من الاحتمال فلو كان مجرد
الاحتمال الذي في مثل هذا مبطلا للاستدلال
لمذهب شطر السنة بالدعأوى ودفع من شاء ما شاء
والأعمش إمام حافظ ثقة حجة فأقل أحواله أن
يحمل ما يرويه على الصحة حتى يتبين ما يخالف
ذلك ولكنه قال المنذري في مختصر السنن إن في
إسناده إسحق بن أسيد أبو عبدالرحمن الخراساني
نزل مصر لا يحتج بحديثه وفيه أيضا عطاء
الخراساني وفيه مقال انتهى قال الذهبي في
الميزان إن هذا من مناكيره انتهى قال أبو حاتم
في إسحق بن أسيد لا يشتغل به شيخ ليس بالمشهور
وقال ابن عدي مجهول.
(1/519)
وفي التقريب في
ضعيف وأما عطاء الخراساني فقد ضعفه بعض أهل
الحديث ووثقه ابن معين وأبو حاتم وقال ابن حجر
في التقريب صدوق يهم كثيرا ويدلس انتهى قلت
إذا كان كلام ابن حجر في الرجلين هكذا ولم يرو
الحديث من طريق غيرهما فكيف يحكم على رجال
إسناده بأنهم ثقات ولا يخفاك أن عطاء
الخراساني من رجال مسلم قد أخرج له في صحيحه
فجاز القنطرة وقد عقد البيهقي لطرق هذا الحديث
بابا وقال ابن كثير إنه روي
من وجه ضعيف عن عبدالله بن عمر بن العاص
مرفوعا.
ويشهد لحديث الباب ما أخرجه الدارقطني عن أبي
إسحق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة
فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت يا أم
المؤمنين إني بعت غلأما من زيد بن أرقم
بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته منه بستمائة
نقدا فقالت لها عائشة بئس ما اشتريت وبئس ما
شريت إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد بطل إلا أن يتوب.
والحاصل أن مجموع ما في الباب تقوم به الحجة
ولا سيما وهذه حيلة من الحيل الباطلة التى
جاءت الشريعة بإبطالها وأيضا قد استلزمت أن
يرد المستقرض زيادة على ما استقرضه وذلك ربا
مجمع على تحريمه فلو لم يرد في الباب شيء لكان
ما ورد في تحريم هذا الربا كافيا مغنيا عن
غيره قال الجوهري في الصحاح العينة بالكسر
السلف قال في القاموس وغيره أخذ بالعينة
بالكسر أي السلف أو أعطى بها قال والتاجر باع
سلعته بثمن إلي أجل ثم اشتراها منه بأقل من
ذلك الثمن انتهى قال الرافعي وبيع العينة هو
أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلي
المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقدا
أقل من ذلك العقد وقد ذهب إلي عدم جواز بيع
العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم وهو الحق
وجوز ذلك الشافعي وأصحابه واستدلوا بما لا
دلالة فيه على المطلوب.
(1/520)
[
باب الخيارات
هى ثلاثة عشر نوعا لتعذر تسليم المبيع وهو
لهما في مجهول الأمد وللمشتري الجأهل في
معلومة ولفقد صفة مشروطة وللغرر كالمصراة
وصبرة علم قدرها البيع فقط وللخيانة في
المرابحة والتولية ولجهل قدر الثمن أو المبيع
أو تعيينه وهذه على التراخي وتورث غالبا ويكلف
التعيين بعد المدة ولغبن صبي أو متصرف عن
الغير فاحشا وبكونه موقوفا وهما على تراخ ولا
يورثان وللرؤية والشرط والعيب].
قوله: "هى ثلاثة عشر نوعا".
أقول : قد بلغ استقراء المصنف لأسباب الخيارات
إلي هذا المقدار وليس مراده إلا أن
(1/520)
الخيار له
أسباب يضاف إلي كل واحد منها وسنوضح لك إن شاء
الله الكلام في كل واحد منها.
قوله: "لتعذر تسليم المبيع".
أقول : قد قدمنا لك أن البيع والشراء هو حصول
التراضي من البائع والمشتري فالمشتري رضي
بالعين المبيعة والبائع رضي بالثمن المقابل
لها وإذا تعذر تسليم العين المبيعة ارتفع
التراضي المعتبر فلا بيع ولا شراء بل وجود
التراضي المتقدم كعدمه لأنه قد انكشف عدم وجود
متعلقه الذي كان التراضي عليه والثمن إنما
يلزم بعد وجود عين المبيع ومصيرها إلي المشتري
فمثل هذا لا ينبغي أن يجعل من أنواع الخيار بل
ينبغي أن يعد في مبطلات البيع هذا إذا تعذر
تسليمه مطلقا أما إذا تعذر في مدة ثم أمكن فقد
دخل البائع في بيع منهي عنه لأنه باع ما ليس
عنده فكان من هذه الحيثية غير صحيح وإذا لم
يصح التبايع فعند عود المبيع إذا شاء اتبايعا
وإلا فهو باق على ملك البائع الأول ولا حكم
لما وقع منهما من التبايع مع تعذر التسليم
وبهذا تعرف أنه لا فائدة لقوله وهو لهما في
مجهول الأمد وللمشتري الجأهل في معلومة.
قوله: "ولفقد صفة مشروطة".
أقول : هذا نوع من خيار الغرر لأن المشتري لم
يقف على حقيقة المبيع كما ينبغي مع مزيد الغرر
باشتراطه لتلك الصفة في المبيع وانكشاف عدمها
فلا وجه لعدة خيارا مستقلا.
قوله: "وللغرر كالمصراة".
أقول : هذا نوع من أنواع الغرر لأن البائع قد
غرر المشتري بالتصرية فلم يقف على حقيقة
المبيع وما هو الغرض الحامل على شرائه وهذا
النوع قد ثبت النص عليه بالسنة الصحيحة
الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق وفيها أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال في المصراة:
"فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين من بعد
أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها
وصاعا من تمر"، وقد بسطنا القول على هذا
الحديث في شرحنا للمنتقي وبسطنا الكلام في
الرد على من خالفه والمقام لا يتسع لبعض ذلك.
قوله: "وصبرة علم قدرها البائع فقط".
أقول : وهذا أيضا نوع من أنواع خيار الغرر
فإنه إذا لم يقف البائع على قدرها ولا عرف
حقيقتها فبالأولى المشتري والخيار ثابت لهما
جميعا ولا وجه لجعله لأحدهما دون الآخر وقد
قدمنا أن هذا أعنى بيع الصبرة الذى هو نوع من
بيع الجزاف قد خصصه دليله من أحاديث النهي عن
بيع الغرر وما لم يبطل من بيوع الغرر فالخيار
ثابت فيه كما في بيع الصبرة والمصراة ونحوهما.
قوله: "وللخيانة في التولية والمرابحة".
أقول : هذا سبب من أسباب الخيار لأن الخيانة
خديعة وقد ثبت في الصحيحين [البخاري
(1/521)
"4/337"، مسلم
"48/1533"، وغيرهما [أبو داود "3500"، النسائي
"7/252"، أحمد "5036، 5405، 5271، 5515، 5561،
5854"]، من حديث ابن عمر قال ذكر رجل لرسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع
فقال: "من بايعت فقل لا خلابة"، والخلابة
الخديعة فإذا انكشف أن البائع أو المشتري خدع
أحدهما الآخر بنوع من أنواع الخديعة التي من
جملتها الخيانة فالخيار ثابت أما إذا اشترط
أحد المتبايعين ذلك فظاهر وأما إذا لم يشترط
فالبيع مشتمل على الغرر الذى هو المناط الأعظم
في الخيارات وقد ثبت في حديث عند البخاري في
التاريخ وابن ماجه والدارقطني أنه صلى الله
عليه وسلم قال لذلك الرجل الذي كان يخدع في
البيوع: "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها
ثلاث ليال إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على
صاحبها"، فهذا من جملة ما خصص بيع الغرر من
أحاديث النهي مع ثبوت الخيار.
قوله: "ولجهل قدر الثمن أو المبيع".
أقول : هذا أيضا من جملة أنواع الغرر لعدم
الإحاطة بالمجهول من المبيع أو الثمن فإن ورد
دليل يدل على صحة هذا التبايع مع ثبوت الخيار
فذاك وألا فالظاهر أنه بيع باطل لاشتماله على
ما نهى عنه الشرع من الغرر وأيضا التراضي الذى
هو المناط في صحة البيع والشراء ليس بمتحقق مع
الجهالة فلم يوجد ما هو المعتبر في هذه
المعاملة.
قوله: "أو تعيينه".
أقول : الغرر في هذا ظاهر واضح فأن جعل البائع
للمشتري الخيار في الاختيار فقد دلت السنة
الصحيحة أنه يصح كما في حديث: "أو يقول لصاحبه
اختر" في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان
بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه
اختر"، وربما قال: "أو يكون بيع الخيار" وأما
إذا لم يقع الخيار فلا يصح البيع من أصله لأنه
من بيع الغرر المنهي عنه ولكونه لم يتحقق
التراضي الذى هو مناط البيع والشراء.
قوله: "وهذه على التراخي".
أقول : لا وجه لهذا لا من دليل صحيح ولا من
رأي مستقيم أما الدليل فقد دل على أن الخيار
في المصراة وفي الخديعة ثلاثة أيام وخيار
التعيين مطلق حتى يختار وباقي الخيارات
المتقدمة ينبغي أن يكون إلي الوقت الذي يطلع
فيه صاحبه على ما لا بد من الاطلاع عليه فإذا
وقع منه ذلك ولم يفسخ فلا خيار له.
قوله: "ويورث".
أقول : إذا كان الخيار ثابتا للبائع أو
المشتري بدليل شرعي فاخترمته المنية قبل أن
يقع منه الخيار وقبل أن تنقضي مدة الخيار
المؤقت شرعا والمؤقت بتراضي البائع والمشتري
فلا شك أن هذا الحق الثابت يكون حقا لوارثه
فيثبت له ما ثبت له كسائر الحقوق وهكذا سائر
الخيارات الآتية وما قيل فيه بأنه لا يورث
منها فذلك رأي بحت مخالف لما أثبته الكتاب
العزيز والسنة من ميراث الأملاك والحقوق ولم
يأتوا في الفرق بشيء إلا بما هو هباء أو سراب
بقيعة.
(1/522)
قوله: "ويكلف
التعيين بعد المدة".
أقول : قد قدمنا أنه لا يصح البيع مع عدم
التعيين إلا بشرط الخيار فإذا شرطه كان
الاختيار موكولا إلي نظر من له الخيار إن وقع
منه الاختيار نفذ البيع وإن لم يقع منه
الاختيار فلا بيع وبهذا تعرف أنه لا وجه
لتكليفه للتعيين بل يقال له اختر أو اترك فإذا
سكت حتى مضت المدة فلا بيع لأن ذلك ترك
للاختيار وهو يكفي من غير ما ذكره المصنف من
التكليف.
قوله: "ولغبن صبي أو متصرف عن الغير فاحشا".
أقول : خيار الغبن قد أشار إليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بما قدمنا من حديث ابن عمر في
الصحيحين وغيرهما قال ذكر رجل لرسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال: "من
بايعت فقل: لا خلابة"، وأخرجه أحمد "3/217"،
وأهل السنن [أبو داود "3501"، الترمذي "
1250"، النسائي "7/252"، ابن ماجة "2354"
وصححه الترمذي "3/552"، من حديث أنس أن رجلا
على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كان يبتاع وكان في عقدته يعني في عقله ضعف
فدعاه ونهاه فقال: يا رسول الله إني لا أصبر
عن البيع فقال: "إن كنت غير تارك للبيع فقل ها
وها ولا خلابة"، وأخرجه البخاري في تاريخه
وابن ماجه والدارقطني عن محمد بن يحيى بن حبان
قال هو جدي يعني الرجل الذي كان يخدع في
البيوع وكان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت
لسانه وكان لا يدع على ذلك التجارة وكان لا
يزال يغبن فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر
ذلك له فقال: "إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة ثم
أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال إن
رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها".
فظهر بهذا أن من كان غير عارف بحقائق الأمور
قاصر الفكرة عن معرفة مقادير أثمان المبيعات
وما يصلح منها وما لا يصلح فله الخيار حتى
يستشير من له خبرة بذلك وذلك ثلاث ليال فيلحق
به كل من باع شيئا أو اشتراه وهو غير عارف به
وبمقدار قيمته وإن كان مكلفا والنساء في هذا
البيع أكثر وقوعا من غيرهن لنقص عقولهن وعدم
كمال تمييزهن فإذا وقع الاشتراط من الرجل
المتصف بالصفة التى ذكرناها أو من المرأة كما
وقع من حبان بن منقذ فهذا خيار أثبته رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقدر مدته رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو من خيار المغابنة وأما
إذا لم يقع الاشتراط فمعلوم أن البيع الذى
مناطه التراضي لا يتم إلا بالرضا المحقق فإن
كان البائع قد رضي بما دفع إليه من الثمن مع
علمه أن ذلك هو دون ثمن مثله فلا خيار له بعد
ذلك وإن لم يعلم وكان معتقدا أن ذلك هو الثمن
الذى تباع به تلك العين فقد كشف ظهور أن العين
فوق ذلك الثمن أو أن الثمن فوق تلك العين على
أن المشتري أو البائع لم يحصل منهما أو من
أحدهما الرضا المحقق وطيب النفس وذلك موجب
لعدم حصوله المناط الشرعي بلا يتم التبايع
بينهما فإذا حصل الاختلاف فقال البائع قد تبين
له أن قيمة مبيعه أكثر أو قال المشتري قد تبين
له أن الثمن الذي دفعه أكثر من ثمنه وجب على
القاضي أن يرفع الخصومة بينهما بتفويض الأمر
إلي العدول الذين لهم خبرة بذلك المبيع ويعمل
على قولهم.
وأما إذا كان البائع وكيلا للمالك أو وليا
للصبي أو المجنون فالخيار ثابت بطريق الأولى
لكن لا مطلقا بل إذا أخبر العدول بالغبن على
البائع أو المشتري ووجه ذلك واضح لأنه لم
(1/523)
يرض المالك إلا
بما هو المعتاد في الأعيان والأثمان وإذا قال
الصبي بعد تكليفه أو المجنون بعد صحته إنه
مغبون كان على القاضي أن يأمر العدول بتقويم
العين المبيعة وقت بيعها فإن تقرر الغبن ثبت
الخيار لأنه انكشف بالغبن أن الولي لم يتصرف
بالعدل كما قال الله سبحانه فلا حكم لتصرفه
ولا للرضا الواقع منه فلا بد من حصول الرضا
منهما عند زوال المانع من الصغر والجنون ولا
بد أن يكون هذا الغبن مما لم تجر للناس عادة
باختصار مثله والتسأهل في المعاملات به فهذا
هو الغبن الفاحش وذلك يختلف باختلاف الأزمنة
والأمكنة والأشخاص ولا وجه لتقديره بمقدار
معين ولا لحده بحد معلوم.
قوله: "وبكونه موقوفا".
أقول : قد عرفناك فيما سبق أن عقد الفضولي لا
حكم له ولا اعتبار به بل إن أجازه المالك كان
البيع الشرعي بها لأن التراضي المعتبر لم يحصل
إلا عندها وإن لم يجزه كان وجوده كعدمه فليس
هذا من بيع الخيار في شيء فلا فائدة لقوله
وهما على تراخ ولا يورثان لأنه إذا لم يوجد
الأصل وهو الخيار لم يوجد ما هو فرع له ومترتب
عليه.
وأما قوله: "وللرؤية والشرط والعيب" فما أراد
المصنف بذكر هذه الثلاثة على هذه الصفة إلا
تكميل عدد ما أفتتح به الباب من الخيارات
وسنتكلم على كل واحد منها إن شاء الله في
فصله.
[ فصل
فمن اشترى غائبا ذكر جنسه صح وله رده عقيب
رؤية مميزة بتأمل لجميع غير المثلى إلا ما
يعفى ويبطل بالموت والإبطال بعد العقد
وبالتصرف غير الاستعمال وبالتعيب والنقص عما
شمله العقد غالبا وجس ما يحبس وبسكوته عليها
وبرؤية من الوكيل لا الرسول ولبعض يدل على
الباقي ومتقدمة فيما لا يتغير وله الفسخ قبلها
وفرعية ما قبض وإن رد والقول له في نفي
المميزة والبائع في نفي الفسخ].
قوله: "فمن اشترى غائبا ذكر جنسه صح".
أقول : لا يخفاك أنه قد صح النهي أن يبيع
البائع ما ليس عنده كما قدمناه وبيع البائع
للغائب هو من بيع ما ليس عنده وصح أيضا النهي
عن بيع الغرر وهو ما لم يقف المشتري على
حقيقته والغائب عن المشتري الذي لم يكن قد رآه
هو غير واقف على حقيقته فلا بد أن يأتي دليل
يخصص هذا البيع من النهيين ولم يثبت في ذلك
شيء تقوم به الحجة فإن حديث: "من اشترى ما لم
يره فله الخيار" في إسناده من هو مهتم بالوضع
كما قال ابن حجر في التلخيص وقد تفرد بروايته
مرفوعا الدارقطني والبيهقي وقالا المعروف أن
هذا من قول ابن سيرين وأيضا
(1/524)
قد روي من طريق
مرسلة وفيها أيضا من لا يقوم به الحجة فلم يبق
في الباب ما يصلح للتعويل عليه ومع هذا فقد
عرفناك غير مرة أن البيع الشرعي هو التراضي
فعلى تقدير أنهما تراضيا على بيع الغائب فلمن
وجده على غير الصفة التي رضي بها أن يتركه
لإنكشاف عدم الرضى المحقق وهذا هو معنى خيار
الرؤية عند المثبتين له ولكنهم يقولون قد
انعقد البيع بنفس العقد ونحن نقول إن إنكشافه
على خلاف الصفة التي وقع التراضي عليها قد عاد
على التراضي السابق بالنقض فكأنه لم يكن وإذا
حصلت الرؤية وحصل الرضا عندها فهذا هو البيع
والشراء لا ما تقدمه.
وأما قوله: "ويبطل بالموت" فهو غير مستقيم على
قواعدهم التي يعملون عليها لأن الخيار حق ثابت
لصاحبه ومجرد موته لا يصلح سببا لبطلانه على
وارثه والحق كالملك في انتقاله عن الميت إلي
وارثه فلا بد من وجود مخصص لهذه الكلية
الثابتة بعمومات الكتاب والسنة وبالإجماع على
الجملة وأما بطلانه بالإبطال بعد العقد فوجهه
أن حق له وهو مفوض فيه وأما كونه يبطل بالتصرف
فلكونه مشعر بالرضا به ولا وجه للفرق بين
التصرف به والاستعمال لأن كلا منهما مشعر
بالرضا بالمبيع وهكذا لا وجه لبطلانه بالتعيب
والنقص عما شمله العقد إلا أن يكون ذلك بفعل
من له الخيار فإنهما يشعران بالرضا بالمبيع
ولا فائدة لقوله وجس ما يجس لأن ذلك قد دخل
تحت قوله بتأمل لجميع غير المثلى والتأمل هو
كل شيء يجسه وبما يهتدي به إلي معرفته والجس
هو بمعنى التأمل لما يجس.
وأما قوله: "وسكوته عقبها" فوجهه أنه مشعر
بالرضا به وفيه ما فيه كما قدمنا في نظائره
وأما الرؤية من الوكيل لها فلأنه ينكشف بها ما
ينكشف برؤية الموكل إذا كان الوكيل له خبرة
بمثل ذلك المبيع بخلاف الرسول المرسل لقبض
المبيع فإنه غير قاصد للاطلاع على حقيقته ولا
هو مبعوث من مرسله لهذا المقصد وأما ما ذكره
من الرؤية للبعض يدل على الباقي فوجهه أن
الشيء المتفق تقوم رؤية بعض أجزائه مقام
الرؤية لجميعها وهكذا الرؤية المتقدمة فيما لا
يتغير فإن الرائي قد وقف على حقيقته وليس
المراد من الرؤية حال العقد وبعده إلا ذلك.
وأما قوله: "وله الفسخ قبلها" فخبط على غير
قياس فإن المناط عندهم هو أن يوجد المبيع غير
مطابق لغرض المشتري وقبل الرؤية لا حصول لهذا
المعنى.
وأما قوله: "وفرعية ما قبض وإن رد" فلا وجه له
لأن الرد قد كشف أن المبيع باق على ملك البائع
وفوائده تابعة لأصله وما عللوا به لمثل هذا
غير صالح لتسويغ مال الغير بغير طيبة من نفسه.
وأما قوله: "والقول له في نفي المميزة وللبائع
في نفي الفسخ" فوجهه أن الأصل عدم الرؤية وعدم
كونها مميزة وعدم وقوع الفسخ فهذا حاصل ما
ينبغي أن يقال على كلامهم في هذا الفصل تصحيحا
وتسقيما والحق عندنا ما قررناه في أول الفصل
فاعرفه فإنه مشى مع الدليل لا مع القال
والقيل.
(1/525)
[ فصل
ويصح ولو بعد العقد لا قبله شرط الخيار مدة
معلومة لهما أو لأحدهما أو لأجنبي فيتبعه
الجاعل إلا لشرط ويبطل بموت صاحبه مطلقا
فيتبعه المجعول له وبإمضائه ولو في غيبة الآخر
وهو على خياره عكس الفسخ وأي تصرف لنفسه غير
تعرف كالتقبيل والشفع والتأجير ولو إلي
المشتري غالبا وبسكوته لتمام المدة عاقلا ولو
جأهلا حتى انقضت].
قوله: "ويصح ولو بعد العقد لا قبله شرط
الخيار".
أقول : هذا الخيار قد جاءت به السنة الصحيحة
منها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن
عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول
أحدهما لصحابه اختر" وربما قال: "أو يكون بيع
الخيار"، وفي لفظ لهما أنه صلى الله عليه وسلم
قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو
يخبر أحدهما الآخر فإن خير أجدهما الآخر
فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد
أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب
البيع" وفي لفظ لهما أيضا: "المتبايعان كل
واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا
إلا بيع الخيار" ففي هاتين الروايتين قد جعل
الخيار قسيما للتفرق فإذا تفرقا فقد وجب البيع
إلا أن يكون بينهما خيار فإنه لا يجب البيع
إلا بالاختيار وإن تفرقا.
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في هذا
الاستثناء كما أوضحناه في شرح المنتقى على
ثلاثة أقوال وأحسنها ثالثها وهو أن المراد
بهذا الاستثناء أنهما بالخيار ما لم يتفرقا
إلا أن يتخايرا ولو قبل التفرق وإلا أن يكون
البيع بشرط الخيار ولو بعد التفرق قال ابن حجر
في الفتح وهو قول يجمع التأويلين الأولين
انتهى وفي الباب أحاديث كلها تدل على ثبوت
خيار الشرط ومنها قصة حبان بن منقذ التي قدمنا
ذكرها فإنها مصرحة بإثبات خيار الشرط بعد
التفرق.
وأما قوله: "مدة معلومة" فوجهه عدم استقرار
البيع مع جهالة مدة الخيار والظاهر أنه يصح مع
جهالة المدة وإذا تراخى من له الخيار عن
الاختيار كان للآخر مطالبته لذلك وعند ذلك
يستقر البيع أو يبطل.
وأما قوله: "لهما أو لأحدهما أو لأجنبي" فصحيح
لأن الأمر مفوض إليهما أو إلي من له الخيار.
قوله: "ويبطل بموت صاحبه".
أقول : عللوا هذا البطلان بما لا يصلح له فإن
الحق الذي لصاحب الخيار يثبت لوارثه لأنه من
جملة ما ينقل إلي الوارث كما قدمنا وعلى تقدير
أنه لم يطلع على ما يختاره مورثه فله أن يختار
ما يوافقه بحكم الخلافة منه لمورثه وانتقال
الحق إليه.
وأما قوله: "ويبطل بامضائه" فصحيح ولكن جعل
هذا من المبطلات خلاف المعقول فإنه إذا أمضى
البيع فهو معنى ما جعل له من الخيار لأنه
تفويض له أن يختار أحد الأمرين أما
(1/526)
الفسخ أو
الإمضاء أو هذا المبيع أو هذا فهو بالإمضاء قد
فعل ما جعل له ولم يبطله فإن أرادوا أن معنى
بطلان الخيار أنه لا يصح منه أنه يختار الفسخ
بعد اختيار الإمضاء فهذا معلوم ولكنه شيء غير
بطلان الخيار بل معناه أنه قد صح خياره وفعل
أحد الأمرين فليس له أن يرجع عما قد فعله من
الاختيار للإمضاء وما ذكره من الفرق بين
الإمضاء والفسخ من اشتراط كون الثاني في وجه
الآخر دون الفسخ لا وجه له من رواية ولا رأي.
وأما قوله: "وبأي تصرف لنفسه" الخ فوجهه أن
ذلك مشعر باختيار الإمضاء كما قدمنا.
وهكذا قوله: وسكوته لتمام المدة لإشعاره بذلك
على ما في هذا الإشعار من عوج فإن نسبة
الدلالة إلي مجرد السكوت لا يكون إلا عند
عوارض مشعرة بعدم تيسر النطق ولو بمجرد الحياء
كما في قوله صلى الله عليه وسلم: في البكر
"إذنها صماتها".
وأما قوله: "وبردته حتى انقضت" فلا وجه له بل
ينتقل هذا الخيار إلي من ينتقل إليه مال
المرتد.
[ فصل
وإذا انفرد به المشتري عتق عليه وشفع فيه
وتعيب وتلف في يده من ماله فيبطل وإلا فالعكس
والفوائد فيه لمن استقر له الملك والمؤن عليه
وينتقل إلي وارث من لحق وولي من جن وصبي بلغ
ويلغو في النكاح والطلاق والعتاق والوقف ويبطل
الصرف والسلم إن لم يبطل في المجلس والشعفة].
قوله: "وإن انفرد به المشتري عتق عليه".
أقول : المشتري بخيار شرط لا يدخل المبيع في
ملكه إلا باختياره وهو قبل اختياره باق في ملك
بائعه استصحابا للحال أو عملا باليد الأصلية
فلا يعتق عليه ولا شفع ولا يتعيب ويتلف من
ماله وإن كان في يده فهذه اليد غير مستقرة بل
مشروطة بالاختيار للإمضاء وهكذا لا تكون المؤن
عليه بل على البائع حتى يستقر ملك المشتري
وهكذا الفوائد تكون للبائع حتى يستقر ملك
المشتري وإذا استقر كانت له من وقت الاستقرار.
أما قوله: "وينتقل إلي وارث من لحق وولي من جن
وصبي بلغ" فصحيح أما وارث من لحق فلما قدمنا
في مواضع من كون الخيار بجميع أقسامه يورث
وأما انتقاله إلي ولي من جن فلقوله سبحانه:
{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ
أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ}
[البقرة: 282].
وأما انتقاله إلي صبي بلغ فلكونه صاحب الحق
على الحقيقة وقد صار صحيح التصرف.
قوله: "وبلغو في النكاح".
أقول : قد صح عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أن أحق ما وفيتم به من الشروط ما
استحللتم به
(1/527)
الفروج" إلا أن
يشترط عليه ما يرفع موجب النكاح ويخالف مقتضاه
وأما في الطلاق والعتاق والوقف فوجه عدم صحة
الخيار في هذه الأمور أنه تقييد لإنشاء فاعلها
والإنشاء لا يتقيد ولا أرى هذا التعليل صحيحا
فإنه إذا قال طلقت فلانة إن اختارت ذلك أو
أعتقت العبد إن اختار ذلك أو وقفت هذا على
فلان إن قبل كان هذا التقييد بالشروط المذكورة
للإنشاء المذكور صحيحا فكيف لا يصح أن يقيدها
فاعلها باختيار نفسه إلي وقت يردد فيه فكره
ويصحح فيه رأيه ولا يصح قياس هذا على نفوذ ما
ينفذ منها من الهازل كما وردت السنة بذلك
حسبما قدمنا لأن الهزل باب آخر والشرط وخياره
باب آخر وقيل إن خيار الشرط لم يثبته الشارع
إلا في البيع فيكون خاصا به لا بسائر
المعاملات والإنشاءات ولكنه يقال إن كانت
العلة المعأوضة لحق بالبيع ما فيه معأوضة وإن
كانت العلة كون البيع فيه وجهتان لحق به ما
كان كذلك ومن أثبت مثل هذا القياس في غير هذا
الموضع فلا عذر له من القول به هنا.
قوله: "ويبطل الصرف والسلم".
أقول : علله المصنف باشتراط التقابض في المجلس
والباب واسع من هذه فإنه قد تقدم في الربويات
فإن اتفقا فيما اشترط الملك والحلول فعلى هذا
أن خيار الشرط يبطل كل ما كان التقابض في
المجلس شرطا فيه مع أن نفس اشتراط الخيار لا
يستلزم عدم التقابض فإذا تقابضا وشرط الخيار
لهما أو لأحدهما لم يكن ذلك مبطلا للصرف
والسلم ولا لما هو في حكمهما في اشتراط
التقابض بل إذا اختار من له الخيار الفسخ رد
كل واحد منهما تلك العين التي قبضها كما هى
أما إذا كان شرط الخيار مضمونا إليه تأخر قبض
أحد البدلين كان باطلا إن لم يبطل في المجلس
وكذلك المعاملة باطلة لما فيها من النسيئة
التي يقول فيها صلى الله عليه وسلم: "إنما
الربا في النسيئة" ، ولكن هذا البطلان ليس
لشرط الخيار بل لتأخير القبض.
وأما قوله: "والشفعة" فمبني على أنها تبطل
بالتراخي وسيأتي إنشاء الله الكلام على هذا في
كتاب الشفعة.
[ فصل
وما ثبت أو حدث في المبيع قبل القبض وبقي أو
عاد مع المشتري وشهد عدلان ذوا خبرة أنه عيب
ينقص القيمة رد به ما هو على حاله حيث وجد
المالك ولا يرجع بما أنفق ولو علم البائع].
قوله: "وما ثبت أو حدث في المبيع قبل القبض"
الخ.
أقول : الأصل في ثبوت خيار العيب والرد به ما
أخرجه أحمد "6/80، 116"، وأبو دأود "3510"،
وابن ماجة "2243"، من حديث عائشة أن رجلا
ابتاع غلأما فاستغله ثم وجد به عيبا
(1/528)
فرده بالعيب
فقال البائع غلة عبدي فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "الغلة بالضمان" وفي لفظ من
حديثهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن
الخراج بالضمان وأخرجه بهذا اللفظ أحمد "6/49،
161، 208، 237"، وأهل السنن [أبو داود "3508"،
الترمذي "1285"، النسائي "7/354، 255"، ابن
ماجة "2242"]، وصححه الترمذي "3/852"، وابن
حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان ومن
جملة من صححه ابن خزيمة كما حكى ذلك الحافظ
ابن حجر في بلوغ المرام وحكي عنه في التلخيص
أنه قال لا يصح وقد ضعفه البخاري وقد ثبت
الحديث بتصحيح هؤلاء الأئمة له وله في سنن أبي
دأود ثلاث طرق اثنتان منهما رجالهما رجال
الصحيح ومعنى قوله: "الخراج بالضمان" أن فوائد
المبيع يملكها المشتري بسبب ضمانه للمبيع إذا
أتلف عنده فالباء سببية وظاهر الحديث أن العيب
الذي حصل به الرد هو عيب كان عند البائع
والاعتبار بكونه عيبا في عرف الناس وعند أهل
الخبرة منهم سواء كان ينقص القيمة أم لا.
وأما قوله: "رد به ما هو على حاله" فالظاهر
أنه يرد به على كل حال وسيأتي الكلام على ذلك
وأما قوله: "ولا يرجع بما أنفق" فوجهه أنه
أنفق على ملكه كما قالوا وفيه نظر لأن البائع
إذا باع ما فيه عيب فقد حصل منه الغرر على
المشتري فهو غرم لحق المشتري بسبب تغريره ولا
سيما إذا كان عالما هو عاص ببيع المعيب مخالف
للشريعة كما في حديث: "لا يحل لمسلم باع من
أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه له"، أخرجه أحمد
وابن ماجة والدارقطني والحاكم والطبراني من
حديث عقبة من عامر قال ابن حجر في الفتح
وإسناده حسن وأخرج أحمد وابن ماجة والحاكم في
المستدرك من حديث واثلة قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا يحل لأحد أن يبيع شيئا
إلا بين ما فيه ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا
بينه"، وفي إسناده مقال وأخرج مسلم وغيره من
حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
مر برجل يبيع طعأما فأدخل يده فيه فإذا هو
مبلول فقال: "من غشنا فليس منا"، وأخرج
الترمذي والنسائي وأبي ماجة وابن الجارود عن
العداء بن خالد بن هوذة قال: كتب لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم كتابا: "هذا ما اشترى
العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم اشترى منه عبدا أو أمة لأداء
ولا غائلة ولا خبثه بيع المسلم المسلم".
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج
بالضمان"، فقد قدمنا أن المراد به ضمان المبيع
إذا تلف فكل ما انتفع به من فوائد المبيع فهو
إلي مقابل هذا الضمان لا إلي مقابل الإنفاق.
[ فصل
ولا رد ولا أرش إن تقدم العلم ولو أخبر بزوال
ما يتكرر أو رضي ولو بالصحيح منه أو طلب
الإقالة أو عالجه أو زال معه أو تصرف بعد
العلم بأي تصرف غالبا أو تبرأ البائع
(1/529)
من جنس عينه أو
قدر منه وطابق لا مما حدث قبل القبض فيفسد].
قوله: "ولا رد ولا أرش" الخ.
أقول : هذا صحيح لأن تقدم علم المشتري بالعيب
وإقدامه على الشراء بعد العلم يدل على أنه قد
رضي به دلالة بينة واضحة.
وأما قوله: "أو أخبر بزوال ما يتكرر" فلا بد
أن يعلم أن ذلك العيب مما يتكرر أو يبين له
البائع ذلك وإلا ثبت له الرد وأما إذا رضي
بالعيب فليس بعد الرضي شيء.
وأما قوله: "ولو بالصحيح منه" فغير مسلم فإن
الرضا بالصحيح دون المعيب لا يستلزم الرضا
بالمعيب ولا يكون تفريق الصفقة موجبا لعدم
الرد وإذا كان على البائع في التفريق ضرر كان
المانع هو هذا لا مجرد تفريق الصفقة فيما لا
ضرر في تفريقه وقد قدمنا عند قول المصنف ومتى
انضم إلي جائز البيع غيره فسد ما قد عرفته.
وأما ما ذكره من طلب الإقالة والمعالجة
والتصرف بعد العلم ففي بطلان الرد الثابت شرعا
بهذه الأمور نظر لأن إشعار هذه بالرضي بالعيب
غير مسلم بل قد بطلت الإقالة محاسنه وطلبا
لرضاء البائع بدون خصومه وقد يعالجه لرجاء أن
يذهب فلا يرده فإذا لم يذهب فهو على حجته
وهكذا التصرف بشيء من فوائده فإن ذلك مما
أباحه له الشرع كما تقدم في الحديث.
وهكذا إذا تصرف بالعين نفسها ثم ردت عليه بذلك
العيب فحقه في الرد ثابت بالشرع ولا يمنع عنه
إلا دليل من الشرع أو الرضا المحقق أو ما يشعر
بالرضا المحقق وهو تقدم العلم بالعيب وهكذا
إذا تبرأ البائع من عيب معين أو من جنس من
أجناس العيوب فإن المشتري إذا قبل ذلك فقد رضي
لنفسه إذا لم يكن العيب الموجود إلا ما تبرأ
منه البائع لا إذا انكشف زائدا عليه ثبت له
الرد بالزيادة.
وأما قوله: "لا مما حدث قبل القبض" فيفسد ففيه
نظر لأن المشتري رضي لنفسه وهو بالغ عاقل
والرضا هو المناط الشرعي في البيع فليس لنا أن
نقول لا حكم لهذا الرضا لأنه منع لمناط شرعي
بغير دليل وأما تعليل ذلك بأنه شرط مقارن
للعقد فيقضي فساد عقد البيع فقد عرفت مما
قدمنا في الشروط ما يندفع به هذا التعليل.
[ فصل
ويستحق الأرش لا الرد بالرضا بتلفه أو بعضه في
يده ولو بعد امتناع البائع عن القبض أو القبول
مع التخلية وبخروجه أو بعضه عن ملكه قبل العلم
ولو بعوض ما لم يرد عليه بحكم وبتعيبه معه
بجناية يعرف العيب بدونها ممن تضمن جنايته وفي
عكسها يخير بين أخذه وأرش القديم أو رده وأرش
الحديث إلا عن سبب قبل القبض فلا شيء فإن زال
(1/530)
أحدهما فالتبس
أيهما تعين الأرش ووطؤه ونحوه جناية وبزيادته
معه ما لا ينفصل بفعله وفي المنفصل يخير بين
أحد الأرش أو القلع والرد فإن تضرر بطل الرد
لا الأرش ولو كان الزائد بها ثمن المعيب قيميا
سليما لم تبطل واستحق قيمة الزيادة كلو تضررت
الزيادة وحدها فيها وأما بفعل غيره فيرده دون
الفرعية مطلقا وكذا الأصلية إلا بحكم فيضمن
تالفها].
قوله: "ويستحق الأرش لا الرد إلا بالرضا بتلفه
أو بعضه في يده".
أقول : أما تلفه فظاهر لأن الأرش هنا غاية ما
يمكن بعد تلف المبيع وأما إذا تلف بعضه فله رد
الباقي وأخذ أرش التالف لأن الشرع قد أثبت له
رد المعيب كله فرد بعضه بالأولى وما عللوا به
من تفريق الصفقة لا وجه له.
وأما قوله: "ولو بعد امتناع البائع عن القبض
أو القبول مع التخلية" فظاهر لأن المشتري قد
استحق الرد مع البقاء والأرش مع التلف فلا فرق
بين أن يكون التلف بعد الرد أو قبله ولا بين
رضا البائع بالرد أو امتناعه.
قوله: "وبخروجه أو بعضه عن ملكه قبل العلم ولو
بعوض".
أقول : إذا خرج عن ملكه قبل العلم بالعيب فهو
على حجته وقد أثبت له الشرع رد المعيب وخروجه
عن ملكه قبل علمه بعيبه لا يبطل حقه الثابت
بالشرع فله استرجاعه ورده بعينه بذلك العيب
ولم يمنع من الرد رواية صحيحة ولا رأى مستقيم
وأما إذا أخرجه عن ملكه بعد العلم بالعيب فإن
رد عليه لذلك العيب فله رده على البائع منه
وأن طولب من المشتري الآخر بالأرش فله أن يرجع
به على البائع منه لأنه غرم لحقه بسببه وإن
رضي به المشتري منه ولم يطالبه برد ولا أرش
فقد صح البيع ولم يلحقه نقص بسبب العيب فلا
يطالب البائع منه بشيء والحاصل أن مثل هذه
المسائل مما يقضي منه العجب لأنها مبنية على
غير أساس وأعجب من هذا من يدعي الإجماع على
مثل هذه الخرافات.
قوله: "وبجناية يعرف العيب بدونها ممن يضمن
جنايته".
أقول : الجناية مضمونة على الجاني سواء كان
المشتري أو غيره وذلك غير مانع من الرد فيرده
للمشتري مع الأرش اللازم وكأنها وقعت الجناية
على المبيع وهو في ملك البائع ولا يكون مثل
هذا مبطلا لحق المشتري الثابت بالشرع وليس ها
هنا رواية ولا رأي صحيح يصلحان للمنع من الرد.
وأما قوله وفي عكسها يخير الخ فهذا صحيح لأن
الحق للمشتري فما رضي به لزمه ولزم البائع
قبوله إلا أن يختار رد المبيع إليه بلا أرش
فله ذلك.
وأما قوله: "إلا عن سبب قبل القبض فلا شيء"
فوجهه أن ذلك التعيب كان لهذا السبب ولا
اختيار للمشتري في لكونه عن السبب المتقدم على
العقد.
وأما قوله: "فإن زال فالتبس أيهما تعين الأرش"
يعني على البائع للمشتري والأولى أن
(1/531)
يقال تعين الرد
للمبيع على بائعه بالدليل الصحيح وإذا نقص عن
قيمته وقت الشراء بسبب من المشتري كان للبائع
المطالبة بأرش النقص إلا أن يختار المشتري
بقاءه لديه وأخذ الأرش فله ذلك.
وأما قوله: "ووطؤه ونحوه جناية" فصحيح ولكنه
إذا أوقع الحمل امتنع الرد لوجود سبب العتق
وله أن يرجع بالأرش لأن المفروض أنه وطيء قبل
العلم بالعيب وأما إذا لم يقع الحبل فله الرد
ويسلم أرش النقص إن حصل بذلك نقص.
قوله: "وبزيادته معه ما لا ينفصل".
أقول : لا وجه لجعل هذه الزيادة مبطلة للرد بل
نقول للمشتري الرد بالدليل المتقدم وهذه
الزيادة مضمونة على البائع لأنه غره ببيع
المعيب منه وإن اختار المشتري الأرش فله ذلك
وأما الزيادة المنفصلة فإن شاء المشتري أخذها
ورد المبيع وإن شاء تركها ورد المبيع وليس له
أن يطالب بالأرش لأن الزيادة ها هنا منفصلة
ولا مانع له من أخذها إلا يكون قد حدث في
المبيع نقص من جهة أخرى فله إذا اختار بقاءه
لديه أن يطالب بالأرش.
وأما قوله: "فإن تضرر بطل الرد لا الأرش" فلا
وجه لبطلان الرد بل المشتري بالخيار إن شاء
رده بزيادة وإن شاء أخذ الأرش إن كان في
المبيع ما يقتضي النقص الموجب للأرش.
وأما قوله: "ولو كان الزائد بها" إلي آخر
الفصل بلا يخفاك أنه خروج عن البحث ولكن
الكلام في هذه الزيادة كالكلام في الزيادة في
المبيع بلا نطول البحث بما لا طائل تحته.
[ فصل
وفسخه على التراخي ويورث وبالتراضي وإلا
فبالحكم بعد القبض ولو مجمعا عليه وهو ينوب عن
الغائب والمتمرد في الفسخ والبيع لتوفير الثمن
أو خشية الفساد وفسخه إبطال لأصل العقد فترد
معه الأصلية ويبطل كل عقد ترتب عليه وكل عيب
لا قيمة للمعيب معه مطلقا أوجب رد جميع الثمن
لا بعد جناية فقط فالأزش فقط وإن لم يعرف
بدونها ومن باع ذا جرح يسري فسرى فلا شيء على
الجارح في السراية به إن علما أو أحدهما
والعكس إن جهلا وتلف أورد بحكم وهو عيب وإذا
تعذر على الوصي الرد من التركة فمن ماله].
قوله: "وفسخه على التراخي"
أقول : وجه ذلك أن الرد بالعيب حق ثابت
للمشتري بالشرع فما دام المعيب موجودا أو
العيب ظاهرا كان الرد ثابت وإن طالت المدة إلا
أن يرضى به أو يسقطه ولا وجه لتقييد مدة هذا
الخيار بثلاثة أيام استدلالا بما في حديث
المصراة وفي حديث حبان بن منقذ لأن الأول من
خيار فقد الصفة والثاني من خيار الخديعة
والغرر وهكذا يورث عنه كما قدمنا غير مرة لأن
ما كان
(1/532)
للمورث فهو
ثابت للوارث ومنتقل إليه بالأدلة الثابتة في
الكتاب والسنة وأما كون فسخه بالتراضي وإلا
فبالحكم فظاهر لأنه إذا حصل التراضي أغني عن
التشاجر وإذا لم يحصل ووقع التشاجر احتاجا إلي
رفع الخلاف ودفع الخصومة بالحاكم ولا فرق بين
أن يكون ذلك قبل القبض أو بعده ولا بين أن
يكون بالعيب مجمعا عليه أو مختلفا فيه وأما
كون الحاكم ينوب عن الغائب والمتمرد في الفسخ
فظاهر لأنه لو لم يكن ذلك له لحصل الإضرار بمن
له الفسخ وهو منكر ودفع المنكر واجب والحاكم
أقدر الناس عليه ولكن كان الأولى أن يقول
المصنف وهو يحكم على الغائب والمتمرد بالفسخ
إذ لا معنى للنيابة ها هنا وسيأتي تكميل
الكلام في باب القضاء.
وكما يحكم عليه بالفسخ يحكم عليه بالبيع
لتوفير الثمن أو لخشية الفساد وأما كون فسخ
الحاكم إبطالا لأصل العقد فصحيح إذا كان الحكم
بوجه الحق ولا وجه للتقييد بقوله ويرد معه
الأصلية بل لا يرد معه الأصلية ولا الفرعية
لأن الخراج بالضمان كما حكم به رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأما كونه يبطل كل عقد ترتب
عليه فظاهر لأن صحة المتأخر مشروطة بصحة
المتقدم.
قوله: "وكل عيب لا قيمة للمعيب معه" الخ.
أقول : هذا كلام قليل الجدوى لأن مجرد وجود
العيب سوغ به رد المبيع وإن لم ينقص به القيمة
كما قررنا فيما سبق أو نقصت به كما تقدم
للمصنف ورد المعيب على كل حال يوجب رد جميع
الثمن.
وأما قوله: "لا بعد جناية فالأرش فقط" فقد
تقدم له في الفصل الذي قبل هذا ما يغني عنه.
وأما قوله: "وإن لم يعرف بدونها" فقد جعله
فارقا بين الكلام ها هنا وبين ما تقدم وليس
لهذا الفرق به ومن منقول ولا من معقول وقد
قدمنا ما هو الصواب.
قوله: "ومن باع ذا جرح يسري فسري" الخ.
أقول : لا يخفاك أن الجاني على ملك الغير قد
لزمه أرش الجناية بالشرع فلا يسقط عنه إلا
بإسقاط لا بمجرد بيع المالك أو شراء المشتري
منه فإن هذا لا يصلح مسقطا لما هو لازم هذا
إذا كان الجاني على ذلك أجنبيا أما إذا كان
الجاني هو المالك الأول ثم باعه إلي آخر وهذا
باعه إلي مشتر فلا شك أن سراية الجناية عيب
ثابت من عند البائع الأول فالرد به ثابت فإن
علم المشتري منه بالسراية واشتراه منه بهو كما
قدمنا في تقدم العلم بالعيب وهكذا إذا علم
المشتري منه بأن مثل هذا الجرح يسري فهو كذلك
فلا رد ولا أرش وإن جهلا كان لكل واحد منهما
الرد بذلك العيب وهو السراية فإن تعذر الرد
بوجه فالأرش وبالجملة فهذه المسائل أكثرها
تطويل بلا طائل مع كون غالبها على شفا جرف هار
وقد تقدم ما يغني عن هذا فإن قوله ولا رد ولا
أرش إن تقدم العلم يشمل كل عيب ومنه الجرح
الذى يسري ويغني عن قوله والعكس إن جهلا وتلف
قوله في الفصل المتقدم قبل هذا ويستحق الأرش
لا الرد بتلفه الخ وكون المسألة مفروضة في
بائعين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أو زيادة
على ذلك لا يقتضي شغله الحيز وإتعاب الطلبة
بإن البحث واحد.
(1/533)
قوله: "وإذا
تعذر على الوصي الرد من التركة فمن ماله".
أقول : لا وجه لهذا من معقول ولا من منقول
فالوصي لا جناية منه ولا تفريط ولا تغرير ولا
تدليس فبأي وجه حل تغريمه بإنه إذا تعذر عليه
الرد من التركة لثمن ما باعه كان صاحب ذلك
الثمن من جملة من يتعلق له حق بتركة الميت
ويصير كأحد الغرماء يصير له من الأسوة بقدر ما
هو له من الثمن إذا لم يمكن أن يوجد في التركة
ما يقوم بجميع الثمن هذا على تقدير أن العين
المبيعة التي اشتراها منه الوصي قد تلفت أما
لو كانت باقية كان أحق بها كما حكم بذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من وجد سلعته
عند مفلس فهو أحق بها"، والميت الذى صارت
تركته مستغرقة بالدين له حكم المفلس ولتركته
حكم ما في يد المفلس.
[ فصل
وإذا اختلف المشتريان فالقول في الرؤية لمن رد
وفي الشرط لمن سبق والجهة واحدة فإن اتفقا
فالفسخ لمن رضي ويلزمه جميعا وله أرش حصة
الشريك].
قوله: "والقول في الرؤية لمن رد".
أقول : وجه ذلك أنه قد ثبت له حق الرد ولا
يلزمه رضا صاحبه وكذلك صاحبه لا يلزمه عدم رضا
شريكه به فكان لمن اختار الفسخ استيفاء حقه
بالرد فإن وافقه الراضي فذاك وإن اختار عدم
الفسخ كان له ذلك إلا أن يكون في رد البعض
وإمساك البعض ضرر على البائع فإنه يجب دفع
الضرر عنه بإجبار الشريكين على الاتفاق أما
فسخا أو رضا وهكذا الكلام في خيار الشرط ولا
وجه للفرق ولا دل عليه دليل عقل ولا نقل
والحكم في السبق والاتفاق منهما واحد لا تأثير
لأحدهما في الترجيح لأحد الجانبين أصلا وهكذا
الكلام في العيب لكل واحد منهما اختياره إلا
فيما يضر بالبائع والحاصل أن هذه المسائل
مبنية على خيالات مختلة وعلل معتلة وما بمثل
هذه الأمور الزائفة تثبت أحكام الله عز وجل.
(1/534)
باب ما يدخل في المبيع
[ فصل
يدخل في المبيع ونحوه للمماليك ثياب البذلة
وما تعورف به وفي الفرس العذار فقط وفي الدار
طرقها وما ألصق بها لينفع مكانه وفي الأرض
الماء إلا لعزف والسواقي
(1/534)
والمساقي
والحيطان والطرق المعتادة إن كانت وإلا ففي
ملك المشتري إن كان وإلا ففي ملك البائع إن
كان وإلا فعيب ونابت يبقى سنة فصاعدا إلا ما
يقطع منه إن لم يشترط من غصن وورق وثمر ويبقى
للصلاح بلا أجرة فإن اختلط بما حدث قبل القبض
قيل بسد العقد لا بعده فيقسم ويبين مدعي
الزيادة والفضل وما استثنى أو بيع مع حقه بقي
وعوض والقرار لذي الأرض وإلا وجب رفعه ولا
يدخل معدن ولا دفين ولا درهم في بطن شاة أو
سمك والإسلامي لقطة إن لم يدعه البائع والكفري
والدرة للبائع والعنبر والسمك في سمك ونحوه
للمشتري].
قوله: "باب: ما يدخل في المبيع وتلفه
واستحقاقه يدخل في المبيع ونحوه للمماليك"
الخ.
أقول : هذا وإن كان ردا إلي مجرد العادة فهي
في مثل هذا متبعة لأنها كائنة في ضمير كل واحد
من المتبايعين فإذا قال بعت منك العبد أو
الأمة فمعلوم لكل واحد منهما أنه لا بد أن
يكون عليهما ما يستر عورتيهما ويواري ما جرت
عادة الناس في مماليكهم بمواراته على اختلاف
في ذلك بين أعراف أرباب بالمناصب والحشمة
والثروة وبين غيرهم فقد يسمح الغني ومن له
رياسة بما لا يسمح به الفقير ومن هو من أهل
الحرف الدنية والأعراف الجارية بين الناس التى
لا يخالف الشرع قد أمر الله سبحانه في كتابه
العزيز بالرد إليها كما في قوله في غير موضع
بالمعروف عل أنه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما
من حديث ابن عمر بلفظ: " ومن ابتاع عبدا فماله
للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع". ولكن الباب
مبني على الأعراف ومن المرجوع إليه في الأعراف
بيع الحيوانات الفرس وغيرهما فما كان متعارفا
به كان في حكم المنطوق به ولا وجه لقول المصنف
وفي الفرس العذار فقط بل المتوجه الرد إلي
العرف كائنا ما كان وعرف أهل بلد لا يلزم أهل
بلد آخر إذا تخالفت أعرافهم.
وأما قوله: "وفي الدار طرقها" فليس دخول
الطرقات لمجرد العرف بل هو للضرورة التى لا
يمكن الانتفاع بالمبيع إلا بها فلو باع الدار
من دون طرقها كان في منع المشتري من الطريق
التى لا يمكن دخول الدار إلا منها إبطال
لفائدة الدار وقد تقدم أن بيع ما لا نفع فيه
لا يصح وهكذا قوله وما ألصق بها لينفع مكانه
فإن ذلك داخل في مسمى الدار لاشتمالها على
جميع أبوابها وطاقاتها ونحوها حال البيع لمن
أدعى أن شيئا من ذلك خارج عن المبيع لم يقبل
منه إلا ببرهان وهكذا قوله وفي الأرض الماء
الخ فإنه وإن كان العقد واقعا على مجرد الأرض
فدخول ما لا يمكن الانتفاع بها إلا به هو من
لوازم البيع ومعلوم أن سواقي الأرض ومساقيها
والماء الذى تشرب منه تابع للأرض وإذا جرت
الأعراف بما يخالف هذا كان ذلك في حكم
الاستثناء لتلك الأمور أو لبعضها وهكذا طرق
الأرض تابعة لها ويتوقف الانتفاع بها عليها
كما
(1/535)
تقدم في الدار
فإن اشترى الأرض ولا طريق لها عالما بذلك فقد
رضي بالعيب ولا رد ولا أرش وإن كان جأهلا كان
له فسخها لأن ذلك عيب من أعظم العيوب بل لم
ينعقد البيع من الأصل لأنه لم يرض بأرض لا
طريق لها فقد كشف عدم وجود الطريق على أن
الرضا السابق كلا رضا فلم يوجد المناط الشرعي
الذى هو قوله عز وجل: {تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ} [النساء: 29]، بلا وجه لقوله ففي ملك
المشتري إن كان وإلا ففي ملك البائع إن كان بل
الأعتبار لما ذكرناه من علم المشتري بعدم
الطريق أو عدم علمه.
قوله: "وثابت يبقى سنة فصاعدا".
أقول : ما كان هكذا فالظاهر أنه داخل في بيع
الأرض غير مستثنى ولهذا ثبت في الصحيحين
وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "من ابتاع نخلا بعد أن يؤبر
فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع"،
فأفاد أن ثمرة النخل قبل أن يؤبر للمشتري وإذا
كان هذا في نفس الثمرة فبالأولى الشجر الثابت
الذى يراد به البقاء فلا يقال إنه دخل بالعرف
بل بنفس العقد على الأرض وأما ما يقتطع منه من
غصن وورق وثمر فينبغي إلحاقه بثمر النخلة فإن
كان قد وقع من البائع فيه عمل كالعمل الواقع
بالتأبير فهو للبائع وإلا فهو للمشتري وإذا قد
فعل فيه البائع عملا كذلك فهو له ويستحق بقاءه
حتى يصلح ولا يلزمه أجرة للمشتري لأن الشرع قد
جعل ذلك له فلا بد من بقائه حتى يصلح لأن ذلك
من تمام كونه له وإذا اختلط هذا الذي قد صار
للبائع بالعمل فيه بغيره مما لا عمل له فيه
كان الرجوع في ذلك إلي أهل الاختيار فإن ميزوا
بينهما فذاك وإن لم يميزوا جعلوا للبائع بقدر
ما يكون في أمثال ذلك المبيع وقت البيع
وللمشتري ما عدا ذلك فإن التبس الأمر من كل
وجه فكما قال المصنف يقسم ويبين مدعي الزيادة.
قوله: "وما استثنى أو بيع من حقه" الخ.
أقول : هذا مرجعه التراضي بين البائع والمشتري
فإن تراضيا على مقدار البقاء لزم ما تراضيا
عليه وإن لم يتراضيا فإن جرى عرف بين أهل
بلدها بالبقاء أو عدمه كان العمل على ذلك وإن
لم يحصل التراضي ولا وجد العرف رفع المستثني
ما استثناه ولا حق له في البقاء وأما ما بيع
مع حقه فيبقى الحق ثابتا للمشتري وإذا تلف فإن
جرت الأعراف باستمرار ثبوتها للمشتري وتعويضها
إذا تلفت أو بعضها كان للمشتري ذلك لأن العرف
معلوم لكل واحد منهما عند العقد وإن لم يكن
منها بل من التي ينتفع بها ما دامت باقية فليس
للمشتري التعويض والأعراف في هذا الباب محكمة
كما قدمنا وأما كون القرار لذي الأرض فشيء
معلوم لا يحتاج إلي النص عليه.
وأما قوله: "وإلا وجب رفعه" فقد عرفت مما
قدمنا أنه لا بد من التفصيل.
قوله: "ولا يدخل معدن".
أقول : وجه هذا أن البائع لو علم به لم تطب
نفسه بالثمن الذى تراضيا عليه فقد كشف ذلك عن
اختلال التراضي الذي هو المناط في نقل الأملاك
وإذا اختل فلا بيع فلا بد بعد
(1/536)
انكشاف المعدن
والدفين ونحوهما من التراضي عن البيع بثمن
تطيب به نفساهما فإن وقع منهما ذلك كان بيعا
جديدا وهكذا الكلام فيما وجد في بطن الشاة
والسمك أنه مستحق للبائع وأما التفصيل بين
كونه إسلاميا أو كفريا فلا دخل له في الباب بل
ذلك حكم أخر يعمل البائع فيه بما يقتضيه الشرع
وهكذا حكم العنبر في سمك ونحوه والحاصل أن من
عرف أن مناط أحكام البيع الشرعية هو التراضي
لم يستبعد هذا ومن خفي عليه فمن نفسه أتي.
[ فصل
وإذا تلف المبيع قبل التسليم النافذ في غير يد
المشتري وجنايته فمن مال البائع قيل وإن
استعمله فلا خراج وإن تعيب ثبت الخيار وبعده
من مال المشتري ولو في يد البائع وإذا استحق
رد لمستحقه فبالإذن أو الحكم بالبية أو العلم
يرجع بالثمن وإلا فلا وما تلف أو استحق منه ما
ينفرد بالعقد فكما مر فإن تغيب به الباقي ثبت
الخيار].
قوله: "وإذا تلف المبيع قبل التسليم النافذ"
الخ.
أقول : أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد
أخبرنا بأنه إذا حصل التفرق من مجلس العقد فقد
وجب البيع ومعلوم أن وجوب البيع يقتضي دخوله
في ملك المشتري وخروجه من ملك البائع وإذا قد
دخل في ملك المشتري صار له غنمه وعليه غرمه
كسائر أمواله فيتلف من ماله ولم يأت دليل يدل
على أنه لا بد من القبض وأنه لا يدخل في ملكه
إلا به ولم ترد الأدلة إلا في نهي البائع عن
أن يبيع ما لم يكن في قبضه وما ليس عنده إذا
تقرر لك أن التفرق من مجلس العقد موجب للبيع
كما صرحت بذلك الأحاديث الثابتة في الصحيحين
وغيرهما وأنه صلى الله عليه وسلم لم يستثن من
ذلك إلا بيع الخيار فكيف يقال إن المبيع يتلف
من مال البائع بعد البيع قبل القبض فإن هذا من
غرائب الأحكام ومع كونه مخالفا للدليل فهو
أيضا مخالف للرأي المستقيم الجاري على نمط
الاجتهاد لأن تلف ما قد صار في ملك لا يتلف
إلا من ملكه وتضمين غير المالك ظلم له.
فالحاصل أنا نمنع أولا كونه يتلف من مال
البائع بعد التفرق من مجلس العقد مسندين هذا
المنع إلي الدليل الناطق بأنه وجب البيع
بالتفرق ثم نمنع ثانيا كون القبض شرطا فلا عذر
للقائل بأنه يتلف من مال البائع أخذا من
الدليل المنتهض لما منعناه فإن قلت قد ثبت فى
صحيح مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "إن بعت من أخيك تمرا
فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا
بم تأخذ مال أخيك بغير حق"، وفى لفظ لأحمد
وأبى دأود والنسائى أن النبي صلى الله عليه
وسلم وضع الجوائح قلت قد ثبت فى الصحيحين
وغيرهما من حديث أنس ما يدل على تقييد هذا
الوضع بما إذا وقع البيع قبل الصلاح ولفظه أن
النبي صلى الله عليه وسلم
(1/537)
نهى عن بيع
الثمرة حتى تزهى, قالوا: وما تزهى؟ قال:
"تحمر" وقال: "إذا منع الله الثمرة فبم تستحل
مال أخيك؟" فهذا الوضع قد ترتب على بيع منهي
عنه وما كان منهيا عنه فهو غير صحيح والكلام
هنا في بيع صحيح وجب بالتفرق وهذا فارق واضح
لا يصح معه القياس ويؤيد هذا ما ثبت في صحيح
مسلم وغيره من حديث أبى سعيد قال أصيب رجل في
ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "تصدقوا عليه" فلم يبلغ ذلك وفاء
دينه، فقال: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك"
ولم يوجب صلى الله عليه وسلم على البائع منه
للثمار أن يرد الثمن الذى قبضه منه ولو سلمنا
تنزلا لكان وضع الجوائح مختصا بما تلف بالآفات
السمأويه كما تقدم فى حديث أنس بلفظ: "إذا منع
الله الثمرة" وأما إذا تلف المبيع بجناية فإن
كانت من المشتري فقد جنى على ماله وأتلفه وإن
كان الجاني غيره كان ضمانة عليه سبب الجناية
سواء كان الجاني هو البائع أو غيره.
قوله: "وإذا استحق رد لمستحقه" الخ.
أقول : هذا أمر قد قضى فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأخرج أحمد وأبو دأود والنسائي من
حديث سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به
ويتبع البيع من باعه"، وفي لفظ أحمد وابن
ماجه: "إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه
فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به ويرجع المشتري
على البائع بالثمن"، ورجال إسناد الحديث ثقات
وهو من سماع الحسن عن سمرة وفيه خلاف ولكن
الحسن إمام لا يروي ما لم يثبت وهذا مبني على
أنه قد حصل التصادق على أنه ملك ذلك المدعي له
أما إذا وقع الخلاف فلا بد من قيام الشهادة
على ذلك ولهذا قال المصنف فبالإذن أو الحكم
بالبينة أو العلم يرجع الثمن وإلا فلا.
وأما قوله: "وما تلف أو استحق.." الخ فإذا
أمكن رد البعض المستحق فهو الواجب وإن تعذر
بوجه من الوجوه اختص به أحدهما وسلم للآخر قدر
نصيبه من القيمة وإن اختلفا قرع بينهما وأما
تلف بعض المبيع قبل التسليم فقد عرفت الكلام
في تلف المبيع قبل التسليم وهو أعم من أن يكون
التالف كله أو بعضه.
[ فصل
ومن اشترى مشارا إليه موصوفا غير مشروط صح
وخير في المخالف مع الجهل فإن شرط فخالف ففي
المقصود فسد وفي الصفة صح مطلقا وخير في
الأدنى مع الجهل وفي الجنس فسد مطلقا وفي
النوع إن جهل البائع وإلا صح وخير المشتري فإن
لم يشر وأعطي خلافه ففي الجنس سلم البائع
المبيع وما قد سلم مباح مع العلم قرض فاسد مع
(1/538)
الجهل وفي
النوع خير في الباقي وترادا في التالف أرش
الفضل مع الجهل وحيث يخير المشتري في الأدنى
وقد بذر جأهلا فله الخيارات].
قوله: "من اشترى مشارا إليه موصوفا" الخ.
أقول : هذا قد تقدم ما يغني عنه وإذا كان
المبيع على غير الصفة التى ذكرها البائع ثبت
للمشتري خيار فقد الصفقة وهو كما قدمنا نوع من
أنواع خيار الغرر وما ذكره من قيد الجهل فلا
بد منه لأنه لو علم كان العلم بكونه على غير
تلك الصفة مبطلا للخيار فلا رد ولا أرش.
وأما قوله: "فإن شرط فخالف ففي المقصود فسد"
فالظاهر أنه لا عقل أصلا ولا اعتبار بالواقع
لأن التراضي الذي هو المناط للبيع وقع مقيدا
بذلك الشرط فمع عدمه انكشف عدم التراضي ولا
فرق بين أن يكون موافقا للمقصود أو مخالفا له
وهذه الفروق لا ترجع إلي دليل ولا شبهة دليل
فلا تشغل نفسك بها وهكذا لا فرق بين جنس ونوع
فالحاصل أن عدم وجود الصفة مع كونها مشروطة
يوجب بطلان البيع ومع عدم الشرط يوجب ثبوت
الخيار إلا أن يعلم بعدمها والإشارة لا تأتي
بفائدة قط ولا يترتب عليها حكم وإثبات الأحكام
بالخيالات يكون هكذا والمقلد المسكين يظن أن
هذه الخرافات في أم الكتاب اللهم غفرا.
(1/539)
باب البيع غير الصحيح
[ فصل
باطله ما اختل فيه العاقد أو فقد ذكر الثمن أو
المبيع أو صحة تملكهما أو العقد والمال في
الأول غصب وفي التاليين كذلك إلا أنه يطيب
ربحه ويبرأ من رد إليه ولا أجرة إن لم يستعمل
ولا يتضيق الرد إلا بالطلب وفي الرابع مباح
بعوض فيصح فيه كل تصرف غالبا وارتجاع الباقي
وفيه القيمة وليس بيعا وفاسده ما اختل فيه شرط
غير ذلك ويجوز عقده إلا مقتضي الربا فحرام
باطل وما سواه فكالصحيح إلا أنه معرض للفسخ
وإن تلف ولا يملك إلا بالقبض بالإذن وفيه
القيمة ولا يصح فيه الوطء والشفعة والقبض
بالتخلية].
قوله: "باطله ما اختل في العاقد".
أقول : قد تقدم للمصنف في شروط البيع وما يجوز
منه وما لا يجوز وما يصح منه وما لا يصح ما
يغني عن أفراده لهذا الباب فكأنه أراد مزيد
الفائدة بالتكرار مع التذكر لما سلف وذكر ما
لكل واحد من الصحيح والباطل والفاسد من
الأسباب وما يترتب على ذلك من الأحكام التى
(1/539)
ذكرها ها هنا
ولا شك أن العاقد إذا اختل باختلال ما هو
معتبر فيه صار وجود العقد منه كعدمه لأنه فاقد
للحقائق إن كان صبيا أو مجنونا فلا يوجد منه
الرضا المعتبر وهكذا إن كان غير مالك للمبيع
ولا مأذون ببيعه فما فعله كالعدم وقد قدمنا في
عقد الفضولي مما فيه كفاية وهكذا إذا لم يذكر
بين المتبايعين ثمن فإنه لا يوجد التراضي
المعتبر لأن البائع لا بد أن يرضى بالعوض
المعلوم من الثمن والمشتري لا بد أن يرضى بذلك
المبيع في مقابلة ما دفعه من الثمن وهكذا إذا
لم يذكر بينهما مبيع معروف فإن ذلك التبايع
منهما إنما هو من باب العبث واللعب وليس لذكر
مثل هذه الأمور فائدة فأنها معلومة للعامي
فضلا عمن لديه نصيب من علم.
وأما قوله: "أو صحة تملكهما" فقد قدمنا الكلام
عليه مستوفى بل وقدمنا الكلام على غيره مما هو
مذكور ها هنا.
قوله: "والعقد".
أقول : هو ما اجتمع فيه عند المصنف ما تقدم في
أول البيع وقد عرفناك أن البيع الذي ثبت في
الكتاب والسنة هو حصول التراضي وكررنا لك هذا
تكريرا كثيرا لدفع ما يذكرونه مما يخالفه
والبيع الذي يسمونه بيع المعاطاة ويجعلونه غير
مملك هو الثمرة المستفادة لهم من تلك التى
دونوها بغير دليل من عقل ولا نقل وهذه
المعاطاة التي تحقق معها التراضي وطيبة النفس
هى البيع الشرعي الذي أذن الله به والزيادة
عليه هي من إيجاب ما لم يوجبه الشرع ولا دليل
عليه وأما الاستدلال لهذا العقد الذي يعتبرونه
على الصفة التى ذكروها بمثل ما ورد في النهي
عن بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة فمن
الغلط البين فإن النهي عن هذه الأمور لكونها
من بيع الغرر ولعدم استقرار البيع معها وعدم
تحقق المناط الشرعي وهو التراضي وهكذا
الاستدلال بمثل ما كان يقع في أيام النبوة من
قول البائع بعت منك هذا أو نحوه فإنا لا ننازع
في دلالة مثل هذا اللفظ على التراضي إنما
ننازع في كونه لا يدل على التراضي إلا ما كان
على تلك الصفات التى ذكروها فإن هذا من تحجر
الواسع وقد قدمنا أن كل مشعر بالتراضي يحصل به
البيع والشراء الشرعيان حصولا لا يخفى على
عارف ولو كان بالإشارة من قادر على النطق أو
بالكتابة أو بمجرد التقابض من غير لفظ أصلا
إذا عرف من ذلك التراضي.
قوله: "والمال في الأول غصب ...." الخ.
أقول : لا بد من تقييد الأول بأن قابض المال
علم أن البائع منه ممن لا يصح بيعه أولا حكم
لمن وقع منه من الرضا فلا يتحقق الاستيلاء على
مال الغير عدوانا الذى هو معنى الغضب عند
المصنف إلا بهذا وأما في الثاني والثالث فإذا
كان القبض مأذونا فيه من جهة مالكه فلا يكون
بطلان البيع مستلزما للغصب بل يكون في يد
القابض كما يكون في يده ما هو مأذون له بقبضه
وأما أنه يطيب له ربحه فلا لأنه مال الغير
والربح ربح ما لم يضمن وقد صح النهي عنه كما
قدمنا وأما كونه يبرأ من رد إليه فذلك لظاهر
اليد الثابتة له وأما كونه لا يتطبق الرد إلا
بالطلب فظاهر لأن الشيء في يده بأذن مالكه
وهكذا عدم لزوم الأجرة له مع عدم الاستعمال
لأن يده ليست يد عدوان.
(1/540)
وأما قوله:
"وفي الرابع ..." الخ فقد عرفنا أن ذلك بيع
شرعي مع وجود المناط فلا وجه لما ذكره.
قوله: "وفاسده ما اختل فيه شرط غير ذلك".
أقول : قد قدمنا أن هذا مجرد اصطلاح تواضعوا
عليه فجعلوا اختلال بعض ما ذكروه في شرط البيع
مقتضيا لبطلانه وبعضها مقتضيا لفساده وكل هذا
تلاعب بالكلام ولكن هذا التلاعب قد رتبوا عليه
أحكاما شرعية فالعجب من ترتيب أحكام الله على
الاصطلاح الذي هو مجرد تلاعب والحاصل أن
الصحيح هو ما أذن الله به من قوله:
{تِجَاْرَةً عَنْ تَرَاْضٍ} ولم ينه عنه
الشارع ولا ثبت عنه ما يدل على عدم جواز
التعامل به وما عدا هذا فهو باطل رد على فاعله
لأنه لم يكن عليه أمر الشارع كما قال كل أمر
ليس عليه أمرنا فهو رد لا يجوز لمسلم أن يدخل
فيه فإن فعل فلا حكم لفعله ولا فرق بين ما
يقتضي الربا وما لا يقتضيه وإن كان ما يقتضي
الربا أشد تحريما وأعظم خطرا.
وأما قوله: "وما سواه فكالصحيح" فمن أغرب ما
يقرع الإسماع له زاجر من ورع فضلا عن وازع من
علم يعلم أن هذه التسوية باطلة هى وما يترتب
عليها من الأحكام المستثناه إلي آخر الفصل
فأياك أن تغتر بشيء منها فإنها سراب بقيعة
وظلمات بعضها فوق بعض.
[ فصل
والفرعية فيه قبل الفسخ للمشتري والأصلية
أمانة وتطيب بتلفه قبلها وبفسخه بالرضا فقط
ويمنع رد عينه الاستهلاك الحكمه هو قولنا:
وقف وعتق وبيع ثم موهبة ... غرس بناء وطحن
ذبحك الحملا
طبخ ولت وصبغ حشو مثل قبا ... نسج وغزل وقطع
كيف ما فعلا
ويصح كل عقد ترتب عليه كالنكاح ويبقى والتأجير
ويفسخ وتجديده صحيحا بلا فسخ].
قوله: "والفرعية فيه قبل الفسخ" الخ.
أقول : الفرعية والأصلية فيه لمالكه وهو
البائع لأن هذا البيع مما لم يأذن الله به فإن
أتلف شيئا ومنها ضمنه ولا يطيب له شيء منها
إلا إذا رضي المالك وطابت به نفسه فذلك محلل
لمال الغير في كل باب.
وأما قوله: "ويمنع رد عينه الاستهلاك الحكمي"
فأقول: قد عرفناك أنه باق على ملك مالكه وأن
البطلان والفساد شيء واحد إذا وقع على غير وجه
الصحة الذي أذن الله به فلا حكم لوقف ما دل
الشرع على أنه غير ملك له ولا لعتقه ولا لبيعه
ولا لهبته ولا لغرسه ولا
(1/541)
لصبغه ولا
لحشوه ولا لنسبحه ولا لغزله ولا لقطعه فإن أذن
له مالكه بشيء من ذلك كان وكيلا له وإذا غرم
رجع بالغرم مع الآذن لا مع عدمه.
وأما قوله: "ويصح كل عقد ترتب عليه" فينبغي أن
يقال ويبطل كل عقد ترتب عليه لأن المترتب على
الباطل باطل.
وأما قوله: "ويصح تجديده صحيحا" فهذا التجديد
هو نفس البيع إذا حصل التراضي فيه وخلا عن
المانع منه.
(1/542)
باب المأذون
[ فصل
ومن أذن لعبده أو صبيه أو سكت عنه في شراء أي
شيء صار مأذونا في شراء كل شيء وبيع ما شرى أو
عومل ببيعه لا غير ذلك إلا بخاص كبيع نفسه
ومال سيده].
قوله: "ومن أذن لعبده أو صبيه أو سكت عنه في
شراء أي شيء صار مأذونا في شراء كل شيء" الخ.
أقول : كل مالك لا يجوز التصرف في أي ملك من
أملاكه إلا بأذن يخصه أو يعمه هو وغيره فمن
أذن للعبد أو الصبي في شراء شيء خاص أو بيع
شيء خاص لم يجز تصرفه في غيره ولا يكون مأذونا
به لا شرعا ولا لغة وهذا ظاهر وهذا واضح في
الإذن الصريح فكيف بالسكوت فإنه يحتمل عدم
الرضا ببيعه والإجازة له وقدمنا في مواضع
المنع من كون السكوت إجازة ومن الإذن العام أن
يدفع إليه سلع التجارة للبيع وبأمره بالاتجار
في جنس أو أجناس ويستمر ذلك وإذا قصره على
الأتجار في جنس لم يجز له أن يتعداه فقد تعرف
أنه يحسن التجارة في هذا الجنس دون هذا فإذا
أذن له إذنا خاص لم يكن ذلك إذنا له في بيعه
ولا في إجارته ولا في تأجير نفسه.
[ فصل
وللمأذون كل تصرف جرى العرف لمثله بمثله وما
لزمه بمعاملة فدين يتعلق برقبته وما في يده
فيسلمها للمالك أو قيمتها ولهم استسعاؤه إن لم
يفده فإن هلك لم يضمنه ولو
(1/542)
بعد تمرده وإن
استهلكه فبغير البيع لزمته القيمة وبه الأوفى
منها ومن الثمن ولهم النقض إن فوته معسرا
وبغصب أو تدليس جناية تعلق برقبته فقط فيسلمها
أو كل الأرش الخيار له ويتعين إن اختارها أو
استهلكها عالما وتلزم الصغير عكس المعاملة
ويستويان في ثمنه وغر ماؤه أولى به من غرماء
مولاه ومن عامل محجورا عالما أو جأهلا لا
لتغرير لم يضمن الكبير في الحال ولا الصغير
مطلقا وإن أتلف].
قوله: "وللمأذون كل تصرف جرى العرف لمثله
بمثله".
أقول : هذا كالتخصيص لما تقدم من كونه يصير
مأذونا في شراء كل شيء فلا يحوز للعبد مثلا أن
يتصرف بما لم يجر للعبيد المأذونين عادة
بالتصرف فيه وكذلك الصبي.
وأما قوله: "وما لزمه بمعاملة فدين يتعلق
برقبته وما في يده" فيقال هذه المعاملة إن
كانت داخله في عموم الإذن له فلا وجه لتعلقها
برقبته بل هى مضمونة على السيد من ماله وإن
كانت غير داخلة فالعبد متعد بالدخول فيها
فتتعلق برقبته ولا وجه لتعلقها بما في يده من
مال سيده ولا من مال غيره لأن الدخول في ذلك
جناية من العبد لم يكن للسيد فيها سبب فلا
يتعلق بغير رقبته ولا معنى لتعلقه بما بيده
أصلا إلي على قول من يقول إن العبد يملك فلا
شك أنه يتعلق بما هو ملك له ثم ليس على السيد
إلا تسليم رقبته وبعد ذلك أهل الدين بالخيار
إن شاؤا صار ملكا لهم يتصرفون به كيف شاءوا
وإن قنعوا باستسعائه وإرجاعه لسيده فلهم ذلك.
وأما كون السيد له أن يفديه ففيه نظر لأنه قد
صار استغراقه بما عومل به جانبا فصاروا أحق به
وهكذا يقال فيما سيأتي في الجنايات.
وأما قوله: "فإن هلك لم يضمنه" فصحيح لأن
الرقبة التي تعلق بها الدين قد تلفت بغير
جناية منه فإن كان ذلك بجناية منه لزمته قيمته
ولا حكم لبيعه له لأنه قدر صار ملكا لأهل
الدين الذي عليه إلا أن يأذنوا له بذلك فإذا
أذنوا كان كالوكيل لهم لا مع عدم الإذن فالبيع
غير صحيح ولا يحتاج إلي نقض بل يقال لهم
استرجاعه من يد المشتري له.
وأما قوله: "وبغصب أو تدليس" الخ فهذان قد
أوجبا تعلق ضمان ما جناه أو دلسه برقبته ولكن
لا فرق بينهما وبين ما أخذه برضا أربابه
معاملة ثم أتلفه فإن الكل قد انتهى إلي التعلق
برقبته كما قدمنا وعند التعلق برقبته يصير أهل
الدين أولى به من سيده فإن قلت ملك السيد
لرقبة العبد متيقن فكيف لم يكن أولى بالتخيير
له بين تسليمه أو قيمته في الطرف الأول وبين
تسليمه أو كل الأرش في هذا الطرف قلت هذه
الأولوية قد ارتفعت بما تعلق برقبة العبد بسبب
جنابته على مال الغير فصار أرباب الأموال
محكمين فيها وقد يكون الغرض لهم بالرقبة أتم
وأكمل فليس للسيد أن يمنعهم من ذلك وأما كونه
ملكه متيقنا فقد تعقبه استحقاق الغير لها
بدينه وإلا فلا معنى للتعلق بالرقبة بهذا تعرف
أن الخيار لا يكون للسيد لما قدمنا ولا لأهل
الدين لأنهم لا يستحقون إلا رقبة العبد وليس
لهم المطالبة بقيمتها وإلا بكل الأرش وتعرف
أنه لا وجه لقوله
(1/543)
ويلزم الصغير
وعكس المعاملة لما قررناه من أن الكل جناية
ولا فائدة في قوله وغرماؤه أولى من غرماء
مولاه لأن رقبته قد خرجت عن ملك مولاه.
قوله: "ومن عامل محجور" الخ.
أقول : إن كان هذا المحجور هو من لا يصح تصرفه
لكونه صغيرا أو مجنونا أو عبدا فلا شك أن
المعامل له قد خاطر بماله ووضعه في مضيعة وأما
إذا كان محجورا لثبوت ديون عليه مع كونه مكلفا
عاقلا فلا يكون مجرد العلم بحجره مبطلا لتعلق
الضمان به بل يكون هذا المال من جملة ديونه
ولصحابه أسوته ما دام المال في يده وإنما
ذكرنا هذا لإطلاق عبارته فإنها تتنأول الحر
المكلف المحجور لأجل ديونه بحجر الحاكم فإن
كان مراد المصنف غير هذا فقد رفعنا ما توهمه
العبارة.
[ فصل
ويرتفع الإذن بحجره العام وبيعه ونحوه وعتقه
وإباقه وغصبه حتى يعود وبموت سيده والجأهل
يستصحب الحال وإذا وكل المأذون من يشتريه عتق
في الصحيح بالعقد وفي الفاسد بالقبض ويغرم ما
دفع الولاء للسيد والمحجور بإعتاق الوكيل إن
شاء ويغرم ما دفع بعده والولاء له].
قوله: "فصل: ويرتفع الإذن بحجرة العام".
أقول : هذا صحيح لأنه قد بطل المقتضي لجواز
معاملته وهو الإذن له بحجرة من كل تصرف وهكذا
البيع لأنه لم يبق للإذن بعد خروجه من ملك
المالك الذي أذن له تأثير إذ قد صار ملكا
للغير وانقطعت العلاقة بينهما وأما العتق فهو
وإن صار بعتقه حرا لكن لا يرتفع به الإذن
السابق لأنه في حكم التوكيل للحر أقوى إلا أن
يجري عرف أن من أعتق عبده رفع يده عن التصرف
بماله كان العرف محكما في مثل هذا وأما إباقة
فوجهه أنه قد صار عاصيا لسيده خارجا عن طاعته
والإذن مقيد بالطاعة وهكذا إذا غصبه الغير
لأنه قد صار محكوما عليه من الغاصب ولم يبق
لسيده قدرة على استنفاذ ذاته فضلا عن أن تكون
له قدرة على ما يتعلق بتلك الذات من التصرفات
وأما عود ما تقدم من الإذن له بعوده من إباقة
أو من يد غاصبه فصحيح لأن الإذن لم يبطل بل
وجب التوقف فيه حتى يزول هذا العارض فإذا زال
فالإذن الأول باق والمانع عارض فلا يكون مانعا
دائما بل ما دام الإباق والغصب.
وأما ارتفاع الإذن بموت سيده فظاهر وقد دخل في
قوله ونحوه لأن الانتقال بالإرث كالانتقال
بالبيع.
وأما قوله: "والجأهل يستصحب الحال" فصواب ولا
سيما مع ما اخترناه سابقا من أن ما
(1/544)
لزم العبد كان
متعلقا برقبته لا بما في يده من مال سيده فلا
بد في كل سبب من هذه الأسباب التى يرتفع بها
الحجر من العلم بحصوله.
قوله: "وإذا وكل والمأذون من يشتريه".
أقول : إن جرى عرف بأن الإذن للعبد بالتصرف
بتنأول التصرف بنفسه فلا بد أن يعلم السيد أن
المشتري للعبد من وكيل للعبد أما إذا كان
الإذن لا يتنأول ذلك أو كان يتنأوله وجهل
السيد أن العبد هو الذى وكل ذلك الوكيل
ليشتريه منه فلا ينفذ هذا البيع بل هو من بيع
الغرر المنهي عنه وهو أيضا لم يقع عن تراض لأن
المالك لم يعلم بأن عبده هو الذى اشترى نفسه
ولا سيما على القول بأنه لا يملك العبد لأنه
إن دفع الثمن بما في يده فهو من مال سيده ولم
يبق له رقبة يتعلق بها قيمته لأن المفروض أنه
قد ملك نفسه فهذا التوكيل الذى وقع من العبد
من المخادعة لسيده والتحيل عليه وذلك ليس من
الشرع في شيء ورضا السيد بخروجه عن ملكه إلي
الغير لا يستلزم الرضا بخروجه إلي يد نفسه
ومصيره حرا بذلك لما فيه من الإضرار به فهو
بهذه الحيلة الباطلة لا يخرج من العبودية فلا
صحة لما تفرع على هذا التعامل.
(1/545)
باب المرابحة
[هى نقل المبيع بالثمن الأول وزيادة ولو من
غير جنسه أو بعضه بحصته وزيادة بلفظها أو لفظ
البيع وشروطها ذكر كمية الربح ورأس المال أو
معرفتهما أو أحدهما إياها حالا تفصيلا أو جملة
فصلت من بعد كبر قم صحيح يقرأ وكون العقد
الأول صحيحا والثمن مثليا أو قيميا صار إلي
المشتري وربح به].
قوله: "باب: المرابحة هي نقل المبيع بالثمن
الأول وزيادة".
أقول : هذا بيع أذن الله سبحانه به بقوله:
{تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]،
وبقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275]، وهذا يشمل
كل بيع كائنا ما كان إذ لم يصحبه مانع شرعي أو
يفقد فيه التراضي فجعل هذا النوع بابا مستقلا
بشروط مستقلة ليس كما ينبغي وأما اشتراط لفظ
المرابحة أو البيع فقد عرفناك أنه لا اعتبار
بالألفاظ ولا بما ذكروه من الصفات المتعلقة
بها بل المعتبر حصول التراضي المدلول عليه بأي
لفظ كان ولو بإشارة من قادر على النطق أو مجرد
مقابضة مشعرة بذلك أو غيرهما مما فيه إشعار
بهذا المناط وأما اشتراط ذكر كمية الربح ورأس
المال الخ فإذا تعرض البائع لذكر ربحه ورأس
ماله وانكشف أن الأمر بخلاف ما قال فللمشتري
الخيار لأنه غره بذلك فإن شاء أمسك وإن شاء
ترك.
وأما قوله: "كون العقد الأول صحيحا" فوجهه ما
قد قرروه أن المبيع في العقود الفاسدة.
(1/545)
إنما يملك
بالقيمة وهذه قاعدة لم تبن على أساس ولا نظر
فيها إلي شيء مما يسوغ به إثبات أحكام الشرع
وأضعف من هذا الاشتراط اشتراط كون الثمن مثليا
أو قيميا قد صار إلي المشتري ورابح به فإنه لا
اعتبار بشيء من ذلك بل إذا ذكر له رأس ماله
وربحه كان ذلك كافيا وإن تفأوت باختلاف
الأزمنة والأمكنة لأن الاعتبار بوقت الشراء
الذي شرى به البائع له الآن فإذا ذكره فقد خلص
عن عهده التغرير والتدليس.
[ فصل
ويبين وجوبا تعيبه ونقصه ورخصه وقدم عهده
وتأجيله وشراه ممن يحأبيه ويحط ما حط عنه ولو
بعد عقدها وتكره فيما اشترى بزائد رغبة ويحوز
ضم المؤن غالبا ومن أغفل الوزن اعتبر في رأس
المال بموضع الشراء وفي الربح بموضعه وهو بين
الشركاء حسب الملك لا الدفع وللكسر حصته].
قوله: "فصل: ويبين وجوبا تعيبه".
أقول : هذا لازم لكل بائع بالسنة الثابتة كما
قدمنا ذلك في خيار العيب وهكذا يجب عليه أن
يبين نقصه وإلا كان من بيع الغرر كما تقدم.
وأما بيان رخصه وقدم عهده فوجه ذلك أنه قد
يشتريه برخص أو في زمان قديم والسعر لذلك
الشيء رخيص وليس لوجوب ذكر مثل هذين وجه صحيح.
وهكذا بيان شرائه ممن يحأبيه وتأجيله وأما
كونه يحط ما حط عنه فصواب لأن ترك ذكر ذلك
تغرير منه وأما كونه تكره المرابحة فيما اشترى
بزائد رغبة فيه فلا وجه للحكم بهذه الكراهة
وأما كونه يجوز ضم المؤن فصحيح لكن مع بيانه
لمقدار المؤن بعد بيانه لمقدار رأس المال وإلا
كان في ذلك غرر وأما كون الربح بين الشركاء
حسب الملك فظاهر.
[ فصل
والتولية كالمرابحة إلا أنها بالثمن الأول فقط
ويجوز ضم المؤن كما مر والخيانة في عقدهما
توجب الخيار في الباقي وفي الثمن والمبيع
والمسأومة كذلك والأرش في التالف].
قوله: "فصل: والتولية كالمرابحة".
(1/546)
أقول : هذا
توسيع لدائرة أحكام الشرع بمجرد فاسد الرأي
وزائف الاجتهاد والحاصل أن المرابحة والتولية
بيع من بيوع الشرع ونوع مما أذن الله سبحانه
به فإن تعرض البائع لذكر رأس ماله فلا بد أن
يكون صادقا في قوله وإلا كان ذلك من بيوع
الغرر وإن يتعرض لذلك كفاه البيع الشرعي ولا
يحتاج إلي ذكر شيء ولو كان الشراء بأحقر ثمن
فالبائع هو الذي أوقع بنفسه في هذا المضيق
بتعرضه لذكر ما اشتراه به كما لو أوقع نفسه في
مضيق وصفه بصفة كما تقدم في خيار فقد الصفة
وأما كون الخيانة في عقدهما توجب الخيار في
الباقي فصحيح لأنه يصير بالتعرض لذكر ذلك مع
عدم المطابقة للواقع مغررا مخادعا خائنا وهكذا
الخيانة في الثمن والمبيع فما كان باقيا رده
وإذا تلف كله أو بعضه فله الرجوع بالأرش لأن
ذلك غاية ما يمكن به استدراك خيانة الخائن ولا
يبعد أن يقال إن الخيانة كشفت عن عدم حصول
المناط الشرعي وهو التراضي فيكون المبيع
المصحوب بها باطلا غير نافذ لعدم وجود المناط
الشرعي فإذا تلف المبيع أو بعضه تلف من مال
البائع الخائن.
(1/547)
[
باب الإقالة
إنما تصح بلفظها بين المتعاقدين في مبيع باق
لم يزد بالثمن الأول فقط ولو سكت عنه ويلغو
شرط خلافه ولو في الصفة وهي بيع في حق الشفيع
فسخ في غيره فلا يعتبر المجلس في الغائب ولا
تلحقها الإجازة وتصح قبل القبض والبيع قبله
بعدها ومشروطة وتولى واحد طرفيها ولا يرجع
عنها قبل قبولها وبغير لفظها فسخ في الجميع
والفوائد للمشتري].
قوله: "باب الإقالة".
أقول : هذا الباب قد ورد الترغيب فيه من
الشارع بحديث أبي هريرة الذي صححه جماعة من
الحفاظ بلفظ: "من أقال نادما" وفي لفظ: "مسلما
أقال الله عثرته يوم القيامة" فكان على المصنف
أن يعنون الباب بما يدل على ندبية الإقالة لا
بما هو سراب بقيعة من قوله: إنما يصح بلفظها
فإن هذا من جنس ما يكرره هو وأمثاله من
الدندنة حول الألفاظ التي لم يرد باعتبارها
شرع ولا عقل فإن مجرد رد الثمن أو طلب رد
البيع إقالة تامة محصلة للأجر مبطلة للتبايع
مع عدم وجود لفظها ولا لفظ آخر يدل عليها وأما
اشتراطه بقاء المتعاقدين أنه إذا مات من يريد
الإقالة لم يوجد من حصل له الندم على تلك
الصفقة ولكن إذا كان وارثه نادما على صفقة
مورثة فله حكمه لوجود السبب الذي لأجله شرعت
الإقالة وأما قوله في مبيع باق فوجهه أنه إذا
كان المبيع قد تلف لم يبق للإقالة معنى إلا أن
يتعلق بذلك غرض للمشتري ينتفع به من غير لحوق
ضرر للبائع.
(1/547)
وأما قوله: "لم
يزد" فلا وجه له لأن الزيادة إن كان يمكن
فصلها فصلها المشتري وأرجع المبيع وإن كان لا
يمكن فصلها فإن رضي البائع بتسليم قدر قيمتها
فذاك وإلا كان المشتري مخيرا بين رد المبيع
بزيادة أو ترك الاستقالة ويدع الندم على
الصفقة وأما قوله بالثمن الأول فقط فوجهه أن
الإقالة لا تكون إلا هكذا ولو كانت بثمن آخر
لكان ذلك بيعا جديدا وأما إذا حصل التراضي
بالزيادة أو النقص بينهما فذلك باب لا يحتاج
إلي ذكره لأن التراضي هو المحلل لأموال بعض
العباد لبعض.
قوله: "وهي بيع في حق الشفيع".
أقول : جعلها بيعا في هذه الصورة الخاصة مما
يقضي منه العجب وأعجب من هذا دعوى الإجماع على
مثل هذه الخرافة كما حكى ذلك عنه وإن كان لم
يذكر في الغيث شرحه لهذا الكتاب إلا قوله لا
يختلف السادة في كونها بيعا في حق الشفيع
انتهى وهو يريد بالسادة المتكلمين منهم في
فروع الزيدية في هذه الديار ولم يرد غيرهم من
السادة في سائر أقطار البلاد الإسلامية فضلا
عن أن يريد إجماع أهل الإسلام على ذلك وأظن
أنه لم يقل بهذه المقالة أحد من علماء الدنيا
لأنها مع كونها لم تبن على رواية هى أيضا لم
تبن على رأي مستقيم فإن كونها بيعا مجرد دعوى
عاطلة عن البرهان بجميع أقسامه ومجرد تخصيص
كونها بيعا في حق الشفيع فقط ترتيب دعوى على
دعوى فهم فضلا عن أدنى علم ثم الفرق بينها
وبين البيع بقوله فلا يعتبر المجلس في الغائب
ولا يلحقها الإجازة الخ من تفريع الباطل على
الباطل ومن التقول على الشريعة المطهرة بما
ليس فيها.
وأما قوله: "والفوائد للمشتري" فوجهه أنها
حصلت في ملكه".
(1/548)
[
باب القرض
إنما يصح في مثلي أو قيمي جماد أمكن وزنه إلا
ما يعظم تفأوته كالجواهر والمصوغات غالبا غير
مشروط بما يقتضي الربا وإلا فسد].
قوله: "باب: القرض إنما يصح في مثلي أو قيمي
جماد أمكن وزنه".
أقول : هذا باب وردت السنة بالترغيب فيه
وتعظيم أجر فاعله ولا خلاف بين المسلمين في
مشروعيته وهذا الترغيب وعموم المشروعية لا
ينبغي قصره على بعض ما ينتفع به الناس ويطلبون
الأجر في قرضه إلا بدليل يدل على ذلك ويقتضي
تخصيص العمومات فإن لم يقم دليل على ذلك لم
يجز لأحد أن يتقول على الشرع ما ليس فيه ويسد
بابا فتحه الله لعباده وجعله نفعا للمحأويج
المستقرضين وأجرا للأغنياء المقرضين وأما مجرد
تعللهم بأن القرض باب من أبواب
(1/548)
البيع فلا يجوز
إلا فيما يجوز فيه فنقول ما بالهم منعوه فيما
هو جائز البيع بلا خلاف وشرطوا أن يكون مثليا
جمادا يمكن وزنه ثم ما بالهم منعوه فيما جوزه
الشرع وثبتت به السنة الصحيحة الصالحة لتخصيص
كل عموم للبيع كما في صحيح مسلم "118/1600"،
وغيره "أبو داود "3346"، الترمذي "1318"،
النسائي "4617"، ابن ماجة "2285"، أحمد
"6/390"، من حديث رافع بن خديج قال استسلف
النبي صلى الله عليه وسلم بكرا فجاءت إبل
الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره فقلت إني لم
أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا قال:
"أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء"،
وهو في الصحيحين [البخاري "4/482"، مسلم
"1601"، وغيرهما الترمذي "1316، 1317"،
النسائي "4618"، من حديث أبي هريرة قال: كان
لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من
الإبل فجاء يتقاضاه فقال: "أعطوه"، فطلبوا سنه
فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال: "أعطوه"، فقال
أوفيتني أوفى الله بك فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "إن خيركم أحسنكم قضاء"، فقد دلت
السنة الصحيحة على جواز قرض الحيوان مع كونه
مما يعظم فيه التفأوت فدل ذلك على أنه لا وجه
لجعل عظم التفأوت مانعا هذا تبرع بالدليل وإن
كان الدليل على من ادعى تخصيص ما دل على عموم
المشروعية كما قدمنا وجواز القرض في الحيوانات
هو مذهب الجمهور.
وأما قوله: "غير مشروط بما يقتضي الربا" فلا
ينافي ما قدمنا عنه صلى الله عليه وسلم من أنه
قضى من أقرضه سنا فوق سنة وأحسن منها لأن ذلك
وقع لا على طريق الشرط بل على طريق التفضل
والإحسان وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث
جابر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان
لي عليه دين فقضاني وزادني فإن قلت قد ورد ما
يدل على أن المقرض لا يقبل من المستقرض هدية
أو نحوها كما أخرجه ابن ماجه من حديث أنس أنه
صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقرض أحدكم قرضا
فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا
يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك"،
قلت في إسناده يحيى بن أبي إسحق الهنائي وهو
مجهول وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد الضبي وهو
ضعيف وقد حققنا البحث في شرح المنتقي فليرجع
إليه.
[ فصل
وإنما يملك بالقبض فيجب رد مثله قدرا وجنسا
وصفة إلي موضع القرض ولا يصح الإنظار فيه وفي
كل دين لم يلزم بعقد وفاسده كفاسد البيع غالبا
ومقبض السفتجة أمين فيما قبضا ضمين فيما
استهلك وكلاهما جائز إلا بالشرط].
قوله: "فصل: وإنما يملكه بالقبض".
أقول : يملكه بقبضه ملكا مستقرا ويملكه أيضا
قبل قبضه إذا وقع التراضي على ذلك فإن
(1/549)
التراضي هو
المناط في نقل الأموال من بعض العباد إلي بعض
وكررنا ذلك في غير موضع وأما كونه يجب رد مثله
قدرا وجنسا وصفة فنعم هذا هو الواجب عند أن
يترك المستقرض التفضل والإحسان بالزيادة فإن
فعل فذلك إليه بما تقدم من الأدلة.
وأما كونه يجب الرد إلي موضع القرض فصحيح لأن
المقرض محسن فعلى المستقرض أن يرد ماله إليه
إلي الموضع الذي قبضه منه فيه.
قوله: "ولا يصح الإنظار فيه".
أقول : المستقرض قبض المال على التأجيل فلا
يجب عليه قضاؤه إلا عند انقضاء الأجل وتمامه
وتأجيل الدين قد ذكره الله سبحانه في كتابه
العزيز فقال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:
282]، وليس فائدة الكتابة إلا حفظ قدر الدين
وقدر أجل تسليمه ومما يدل على لزوم التأجيل
حديث: "المؤمنون عند شروطهم"، [أبو داود
"6594"، أحمد "2/366"]، وقد ورد في الكتاب
العزيز في آيات كثيرة وجوب الوفاء بالعقود وهي
ما يحصل عليه التراضي فليس لمن أقرض قرضا
مؤجلا أن يطلب قضاءه قبل حلول أجله وهكذا في
سائر الديون التي لم تلزم بعقد فإن الدخول في
التأجيل يجب على من وقع من جهته الوفاء به.
وأما قوله: "وفاسده كفاسد البيع" فلا وجه له
في المشبه ولا في المشبه به لما عرفناك أن
مناط البيع وغيره التراضي فإن وقع البيع أو
القرض على غير ما يسوغه الشرع فلا يثبت حكمه
من الأصل.
وأما قوله: "ومقبض السفتجة" الخ فهذا حكم يرجع
إلي باب الأمانة والضمانة والتراضي يسوغ هذا
وغيره فلا فائدة في التكلم على مثله وهو معروف
في أبوابه وإنما ذكره المصنف هنا لئلا يتوهم
أنه من القرض الذي يجر منفعة.
[ فصل
وليس لمن تعذر عليه استيفاء حقه حبس حق خصمه
ولا استيفاؤه إلا بحكم غالبا وكل دينين استويا
في الجنس والصفة تساقطا والفلوس كالنقدين].
قوله: "وليس بمن تعذر عليه" الخ.
أقول : إذا كان الحق ثابتا شرعا قطعا وبتا
وتعذر الوصول إليه من جميع الوجوه إلا من هذا
الوجه وذلك لامتناع من هو عليه عن تأديته
فعمومات الكتاب والسنة قد دلت على جواز ذلك
ولا يعارض هذه العمومات حديث: "أد الأمانة إلي
من ائتمنك ولا تخن من خانك"، أخرجه أبو دأود
والترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي
هريرة وفي الباب عن أنس عند الحاكم مرفوعا وعن
أبي بن كعب عند الدارقطني والطبراني وعن رجل
من الصحابة عند
(1/550)
أحمد "3/414"،
وأبي دأود "3534"، والبيهقي وصححه ابن السكن
وعن الحسن مرسلا عند البيهقي وفي إسناد كل
واحد من هذه مقال حتى قال أحمد هذا حديث باطل
لا أعرفه من وجه يصح وقال ابن الجوزي لا يصح
من جميع طرقه ولا يخفاك أن وروده من هذه الطرق
مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها
وتحسين إمام ثالث منهم لبعضها مما يصير به
الحديث منتهضا للاحتجاج به ولكن خاص بالأمانة
فلا يجوز خيانة من خان إذا كان مال الذي
للخائن عند من وقعت عليه الخيانة أمانة ويؤيد
هذا الكلام أئمة اللغة ويدل على أن الخيانة
إنما تكون في الأمانة كما في القاموس وغيره
والحاصل أن مال المسلم معصوم بعصمه الإسلام
وكذلك دمه وعرضه كما يدل على ذلك القرآن
والسنة وهذا عموم مخصص بما كان على طريقة
المكافأة كما في قوله سبحانه: {وَلَمَنِ
انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41]،
وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقوله: {وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقوله:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
[البقرة: 194]، وهذه الآيات مخصصه بالخيانة في
الأمانة فلا يجوز على طريقة المكافأة وما يؤيد
الجواز الحديث الصحيح المتقدم في إذنه صلى
الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان أن تأخذ
لها ولولدها من مال زوجها ما يكفيهابالمعروف.
وأما قوله: "وكل دينين" الخ فهذا معلوم بالعقل
أنه لا يتعلق بعدم التساقط فائدة فمن ثبت له
دينار مثلا على من كان له عليه دينار تساقط
ولا يحتاج مثل هذا إلي أن يدون في الكتب
العلمية وهكذا قوله والفلوس كالنقدين.
[ فصل
ويجب رد الرهن والقبض والغصب والمستأجر
والمستعار والحق المعجل والمؤجل والكفالة
بالوجه إلي موضع الابتداء غالبا لا المعيب
والوديعة والمستأجر عليه وكل دين لم يلزم بعقد
والقصاص فحيث أمكن ويجب قبض كل معجل مساو أو
زائد في الصفة لا مع خوف ضرر أو غرامة ويصح
التعجيل بشرط حط البعض].
قوله: "فصل: ويجب رد الرهن" الخ.
أقول : وجه أن المقرض محسن وما على المحسنين
من سبيل فلو كان عليه أن يتجشم مشقة لرد قرضه
لكان ذلك منافيا لإحسانه وأما الرهن فليس في
رواية ولا رأي صحيح أنه يكون الوجوب على
أحدهما لأن كلاهما منتفع بالرهن من جهة وأما
الغصب فوجهه أن الغاصب ظالم متعد فعليه رفع
ظلامته عن نفسه أن برد ما غصبه من الموضع الذي
غصبه منه بل وإلي حيث استقرار المغصوب عليه
وإن كان بعيدا عن وضع الغصب وأما المستأجر
فوجهه أنه الطالب للانتفاع بالعين فيردها إلي
الموضع الذي أخذها منه ويمكن أن يقال إن
المؤجر منتفع بالأجرة
(1/551)
كما ينتفع
المستأجر بالمنافع المتعلقة بالعين فلا يكون
المستأجر بالرد إلي موضع الابتداء أولى من
المؤجر وأما المستعير فوجهه أن المعير محسن
كما تقدم في القرض وأما الحق المؤجل والمعجل
فوجهه أن من هو عليه لا يخلص ذمته عما هو عليه
إلا برده إلي يد من هو له ومثل ذلك الكفالة
بالوجه هذا غاية ما يمكن في توجيه كلام المصنف
وكان الأولى له أن يعقد الفصل على وجوب الرد
إلي المالك من غير نظر إلي موضع الابتداء
فيقول مثلا يجب الرد إلي المالك في القرض الخ
حتى يكون ذلك عملا بحديث: "على اليد ما أخذت
حتى تؤديه"، أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي
وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث الحسن عن
سمرة وفي سماع الحسن من سمرة فقال معروف فإن
هذا الحديث يدل على وجوب التأدية لكل ما أخذته
اليد ولا تأدية إلا إذا كانت إلي المأخوذ منه
ومثل هذا الحديث الذي تقدم بلفظ: "أد الأمانة
إلي من ائتمنك"، فإن التأدية في الأمانات لا
يكون إلا بدفعها إلي مالكها وبهذا تعرف أنه لا
وجه لقول المصنف لا المعيب والوديع الخ وأما
كون يجب قبض كل معجل فوجهه أن لمن هو عليه أن
يبريء ذمته بالرد فليس لمن هو له أن يمتنع من
ذلك مع عدم المانع من خوف ضرر أو غرامة.
قوله: "ويصح شرط حط البعض".
أقول : إذا حصل التراضي على هذا فليس في ذلك
مانع من شرع ولا عقل لأن صاحب الدين قد رضي
ببعض ماله وطابت نفسه عن باقيه وهو يجوز أن
تطيب نفسه عن جميع ذلك المال وتبرأ ذمته من هو
عليه فالبعض بالأولى وقد ثبت في الصحيح
[البخاري "471، 457، 2418، 2424، 2710" مسلم
"1558"، أبو داود "3595"، ابن ماجة "2429"،
النسائي "8/244"]، أن النبي صلى الله عليه
وسلم سمع رجلين يتخاصمان في المسجد وقد ارتفعت
أصواتهما وكانت تلك الخصومة في دين لأحدهما
على الآخر فأشرف عليهما النبي صلى الله عليه
وسلم وأشار بيده إلي من له الدين أن يضع الشطر
فكان هذا دليلا على جواز التعجيل بشرط حط
البعض.
[ فصل
ويتضيق رد الغصب ونحوه قبل المراضاة والدين
بالطلب فيستحل من مطل وفي حق الله الخلاف ويصح
في الدين قبل القبض كل تصرف إلا رهنه ووقفه
وجعله زكاة أو رأس مال سلم أو مضاربة وتمليكه
غير الضامن بغير وصية أو نذر أو إقرار أو
حوالة].
قوله: "فصل: ويتضيق رد الغصب ونحوه قبل
المراضاة".
أقول : وجه ذلك أنه مطالب بالرد في كل وقت
فإذا لم يحصل الرضا فوجوب الرد ثابت متضيق
عليه.
(1/552)
وأما قوله:
"والدين بالطلب فيستحل من مطل" فوجهه أنه مع
طلب القضاء قد وجب عليه ذلك إلا كان ظالما إذا
كان متمكنا لما ثبت في الصحيح من قوله صلى
الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجد ظلم يحل عرضه
وعقوبته".
وأما قوله: "في حق الله الخلاف" فهو الخلاف
المعروف في الأصول هل هو على الفور أو التراخي
وفي المسألة طول وليس هذا مقام بسط الكلام
فيها.
وأما قوله: "ويصح في الدين قبل قبضه كل تصرف
إلا رهنه" فوجهه اشتراط التقابض في الرهن وليس
هذا الوجه بوجيه فإنه يصح رهن ما في الذمة
ويقبضه المرتهن عند حلول أجله فيصير رهنا في
يديه وهكذا يصح وقفه و لا مانع من ذلك وهكذا
يصح جعله زكاة رأس مال مضاربة ولا مانع من هذه
الأمور إلا مجرد تخيلات مختلة وعلل معتله وأما
عدم صحة جعله رأس سلم فوجهه أن يكون من بيع
الكاليء بالكاليء وقد قدمنا النهي عنه وهكذا
يصح تمليكه غير الضامن ولا مانع من شرع ولا
عقل ولو بغير وصية أو نذر أو إقرار أو حوالة.
(1/553)
[
باب الصرف
هو بيع مخصوص يعبر فيه لفظه أو أي ألفاظ البيع
وفي متفقي الجنس والتقدير ما مر إلا الملك حال
العقد فإن اختل أحدهما بطل أو حصته فيترادان
ما لم يخرج عن اليد وإلا فالمثل في النقدين
والعين في غيرهما ما لم يستهلك فإذا أرادا
تصحيحه ترادا الزيادة وجددا العقد وما في
الذمة كالحاضر].
قوله: "باب: الصرف هو بيع مخصوص فيعتبر لفظه
أو أي ألفاظ البيع".
أقول : قد عرفت مما قدمنا في البيع أن اعتبار
اللفظ المخصوص لا أصل له وأن البيع المأذون
فيه بقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275]،
هو ما ذكره في قوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}
[النساء: 29]، فإذا حصل التراضي فقد وجد
المناط الشرعي ولو بمجرد المقابضة من غير لفظ
أو أشارة من قادر على النطق.
وأما قوله: "ويعتبر في متفقي الجنس والتقدير
ما مر" فصحيح للأدلة الدالة على تحريم التفاضل
والنساء فيما كان كذلك.
وأما قوله: "إلا الملك حال العقد" فلا بد من
تقييد ذلك بحصول التقابض في محل العقد قبل
التفرق وإلا كان ذلك نساء وهو ربا كما تقدم في
حديث: "إنما الربا في النسيئة"، وفي
(1/553)
حديث: "إذا كان
يحصل يد بيد" وفي حديث: "إذا لم تتفرقا
وبينكما شيء".
وقول المصنف: "فإن اختل أحدهما بطل أو حصته"
صحيح لأنه ربا كما عرفت وإذا حصل التراد ودفع
المثل ففيه استدراك لما فرط منهما من الدخول
في الربا.
قوله: "وما في الذمة كالحاضر".
أقول : هذه الكلية محتاجة إلي دليل يدل على
تخصيص ما ورد من الأحاديث الصحيحة المصرحة
بمثل قوله: "إلا يدا بيد" ومثل قوله: "إلا ها
و ها" وسائر ما ورد في هذا المعنى هذا مع
الاتفاق في الجنس والتقدير ومع الاختلاف
كالذهب بالفضة ونحو ذلك ما ورد في قوله صلى
الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأجناس
فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد"، ولم يثبت
ما يدل على خلاف ذلك فالواجب الوقوف على ما
تقتضيه الأدلة وعدم التخصيص لها بمجرد الرأي
القائل والاجتهاد العاطل وهذا على تقدير أن
أحد البدلين أما لو كانا جميعا في الذمة كان
ذلك من بيع الكاليء بالكاليء وقد تقدم النهي
عنه.
[ فصل
ومتى انكشف في أحد النقدين رديء عين أو جنس
بطل بقدره إلا أن يبدل الأول في مجلس الطرف
فقط والثاني فيه مطلقا أو مجلس الرد إن رد ولم
يكن قد علمه فيلزم أو شرط رده فافترقا مجوزا
له أو قاطعا فيرضى أو يفسخ فإن كان لتكحيل فصل
إن أمكن وبطل بقدره وإلا ففي الكل].
قوله: فصل : "ومتى انكشف في أحد النقدين رديء
عين أو جنس" الخ.
أقول : الأدلة قد أوجبت التقابض في المجلس مع
الاتفاق كالذهب بالذهب والفضة بالفضة من غير
فرق بين جيد ورديء فإذا انكشف لأحد المتصارفين
بعد المجلس رداءة ما صار إليه فله فسخه بخيار
العيب بدليله السابق فيرد القابض للجيد ما
يقابل ذلك الرديء من الجيد الذى قبضه من صاحب
الرديء إذا كان الذى انكشفت رداءته هو بعض ما
صار إليه فإن كان رديئا كله فله رده كله
بالعيب ويرد صاحب الرديء جميع ما قبضه من
الجيد ويبطل الصرف الواقع بينهما هكذا ينبغي
أن يقال في هذا الفصل وبه يتضح ما هو الصواب
وإذا أراد إبدال الرديء بجيد فلا يجوز ذلك إلا
في مجلس الصرف من غير فرق بين رديء العين
والجنس فإن تفرقا وقد قبض صاحب الرديء رديئه
أو بعضه وترك جيده عند المصارف له فقد وقعا في
الربا ولا استدراك إلا بالتراد ثم التصارف
والتقابض في المجلس.
(1/554)
[ فصل
ولا تصححه الجريرة ونحوها إلا مسأوية لمقابلها
ولا يصح في متفقي الجنس والتقدير قبل القبض حط
ولا إبراء ولا أي تصرف ويصح حط البعض في
المختلفين لا التصرف ولا يصح الربا بين كل
مكلفين في أي جهة ولا بين العبد وربه].
قوله: "فصل: ولا تصححه الجريرة".
أقول : هذا صحيح وقد تقدم الكلام عليه عند قول
المصنف فإن صحب أحد المثلين غيره ذو قيمة.
وأما قوله: "ولا يصح في متفقي الجنس والتقدير"
الخ فهذا معلوم لأنه يؤدي إلي صرف الجنس بجنسه
متفاضلا وذلك ربا والاعتبار بالمجلس فلا حكم
لما وقع قبله من حط أو إبراء أو تصرف.
وأما قوله: "ويصح حط البعض في المختلفين" فيدل
عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت
هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا
بيد"، فإنه صلى الله عليه وسلم جوز التفاضل
ومنع النساء وقد قدم المصنف رحمه الله في باب
الربويات ما يغني عن هذا وإنما أعاده تكميلا
لمباحث الصرف.
وأما قوله: "ولا يحل الربا بين كل مكلفين في
أي جهة" فهذا معلوم أما المسلمون فظاهر وأما
الكفار فلما تقدم من أنهم مخاطبون بالشرعيات
أي معذبون على فعل ما يحرم وترك ما يجب ولا
فرق بين دار الحرب وغيرها لأن ما حرمه الله
حرام في كل زمان ومكان وتخصيص دار الحرب
بأحكام لا يقتضي تخصيصها بتحليل الربا فيها.
قوله: "ولا بين العبد وربه".
أقول : هذا الربا غير معقول لأنه إذا أعطى
الفقير درهما عن دراهم تواطئا على أنها في ذمة
الغني المذكر للفقير المصروف إليه فهذه إنما
هى حيلة باطلة ودلسة عاطلة لا نفوذ لها ولا
قبول ومعلوم أنه لو واطأ الفقير على أن يبيع
منه ما في ذمته من الزكاة وهي ألوف مؤلفة
بدرهم واحد أو بدونه لقبل منه ذلك وفي الحقيقة
أنه لم يقع عن الزكاة إلا هذا الدرهم ولا يبعد
أن لا يقع عن الزكاة لما شابه من القصد الباطل
والإضمار المخالف للحق.
(1/555)
[
باب السلم
لا يصح في عين أو ما يعظم تفأوته كالحيوان
والجواهر واللآلئ والفصوص والجلود ومالا ينقل
وما يحرم فيه النساء فمن أسلم جنسا في جنسه
وغير جنسه فسد في
(1/555)
الكل ويصح فيما
عدا ذلك بشروط الأول ذكر قدر المسلم فيه وجنسه
ونوعه وصفته كرطب وعتق ومدته وقشر زيت ولحم
كذا من عضو كذا سمنه كذا وما له طول وعرض ورقة
وغلط بينت مع الجنس ويوزن ما عدا المثلى ولو
أجرا أو حشيشا الثاني معرفة إمكانه للحلول وإن
عدم حال العقد فلو عين ما يقدر تعذره كنسج
محلة أو مكيالها بطل الثالث كون الثمن مقبوضا
في المجلس تحقيقا معلوما جملة أو تفصيلا ويصح
بكل مال وفي انكشاف الرديء ما مر الرابع الأجل
المعلوم وأقله ثلاث ورأس ما هو فيه لآخره وإلا
فلرؤية هلاله وله إلي آخر اليوم المطلق ويصح
التعجيل كما مر الخامس تعيين المكان قبل
التفرق وتجويز الربح والخسران].
قوله: "باب: السلم لا يصح في عين".
أقول : هذا الباب قد وقع إجماع المسلمين إلي
جوازه إلي ما وقع في رواية عن ابن المسيب كما
حكى ذلك في فتح الباري والبحر الزخار للمصنف
وثبت بالسنة الصحيحة كما في الصحيحين [البخاري
"2240، 2241"، مسلم "127/1604"، وغيرهما [أبو
داود "3463"، الترمذي "1311"، النسائي "4616"
ابن ماجة "2280"، أحمد "1/217، 222، 282،
358"]، من حديث ابن عباس قال قدم النبي صلى
الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار
السنة والسنتين فقال: "من أسلف فليسلف في كيل
معلوم ووزن معلوم إلي أجل معلوم"، والسلف
الشرعي بيع موصوف في الذمة ببدل يعطي عاجلا
وقد دل على هذا قوله: "من أسلف فليسلف" فإنه
يدل أن المسلم فيه غير حاضر في ذمة المسلم
إليه ويؤده قوله إلي أجل معلوم والتصريح يكون
المسلم فيه معلوما والأجل معلوما يفيد أنه لا
يصح السلم في غير معلوم ولا يصح أن يكون الأجل
مجهولا قال فتح الباري واتفقوا على أنه يشترط
له ما يشترط للبيع وعلى تسليم رأس المال في
المجلس انتهى ومراد المصنف لقوله لا يصح في
عين أي في حاضر والحديث قد دل على هذا فمن زعم
أنه يصح في حاضر فقد تمسك بغير دليل ولا ينفعه
الاستدلال بما ورد في السلم من غير ذكر
التأجيل لأن المطلق يحمل على المقيد وأيضا لفظ
يفيد ذلك فلا يطلق على ما كان حاضرا.
وهكذا قوله: "أما من يعظم تفأوته" فإن قوله في
الحديث: "في كيل معلوم ووزن معلوم" يدل على
أنه لا يصح السلم فيما يعظم تفأوته لعدم ضبطه
بضابط يصح به وصفه يكون معلوما ومن أدعى أنه
يمكن ضبطه بمضابط فقد أبعد فإن الحيوان
والجواهر واللآلئ والفصوص مختلفة غاية
الاختلاف فمنها ما تكون قيمته الدينار
والدينارين ومنها ما يكون قيمته الألف
والألفين وهكذا لا يصح السلم فيما لا ينقل
كالأراضي والدور لأنه لا يكون إلا حاضرا وهكذا
لا يصح فيما يحرم فيه النساء من الأجناس
الربوية لأنها ربا.
وأما قوله: "فمن أسلم جنسا في جنسه وغير جنسه
فسد في الكل" فمبني على ما تقدم له من أنه إذا
انضم إلي جائز البيع غيره وقد قدمنا ما فيه.
(1/556)
قوله: "ويصح
فيما عدا ذلك بشروط الأول ذكر قدر المسلم فيه
وجنسه" الخ.
أقول : هذا صحيح لأنه لا يكون معلوما إلا بذلك
وقد اشترط الشارع المعلومية كما تقدم
وأما قوله: "الثاني: معرفة إمكانه للحلول"
فوجهه أنه لو ذكر في السلم وصفا يدل على عدم
إمكانه لكان ذلك عائدا على الغرض المقصود من
السلم بالنقص وأما وإن عدم حال العقد فيدل
عليه ما أخرجه أحمد والبخاري عن عبد الرحمن بن
أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا كنا نصيب
المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في
الحنطة والشعير والزيت إلي أجل مسمى قيل أكان
لهم زرع أو لم يكن قالا ما كنا نسألهم عن ذلك
وفي رواية كنا نسلف على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير
والزبيب والتمر وما نراه عندهم أخرجه أحمد
وأبو دأود والنسائي وابن ماجه والسكوت تقرير.
قوله: "الثالث: كون الثمن مقبوضا في المجلس".
أقول : هذا الشرط لا بد منه ولا يتم السلم إلا
به وإلا كان من بيع الكاليء بالكاليء وقد
قدمنا النهي عنه وأما كونه يصح بكل مال فلكون
الأدلة لم تدل إلا على اشتراط أن يكون ثمن
السلم معلوما للمسلم والمسلم إليه وذلك ممكن
في كل الأمور.
وأما قوله: "في انكشاف الرديء ما مر" فوجهه
أنه عيب وقد دل الدليل على أنه يرد على صاحبه
وقد تقدم في خيار العيب وفي الصرف ما يغني عن
الإعادة هنا.
وأما قوله: "الرابع: للأجل المعلوم" فقد دل
عليه الدليل الصحيح المتقدم فلا يصح السلم
بدون تأجيل بل ينقلب بيعا كما قدمنا ولا يصح
بأجل مجهول وأما تعيين أقل مدته أو أكثرها فلم
يثبت فيه ما يصلح للاحتجاج به لكنه إذا لم
يوجد في الأجل المعلوم فقد أخرج مالك في
الموطأ وأبو دأود من حديث ابن عمر أن رجلا
أسلم في نخل فلم يخرج في تلك السنة شيئا
فاختصما إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال صلي الله عليه وسلم: "بم تستحل ماله اردد
عليه ماله" ثم قال: "لا تسلفوا في النخل حتى
يبدو صلاحه"، وفي إسناده رجل مجهول فإن أبا
دأود رواه عن محمد بن كثير عن سفيان عن أبي
إسحق عن رجل نجراني عن ابن عمر فلا يصلح
للاحتجاج به.
وأما قوله: "الخامس: تعيين المكان" فليس على
هذا الشرط دليل لا صحيح ولا عليل وهكذا تجويز
الربح والخسران.
[ فصل
ومتى بطل الفسخ أو عدم جنس لم يؤخذ إلا رأس
المال أو مثله أو قيمته يوم قبض إن تلف ولا
يبتع به قبل القبض شيئا إلا لفساد فيأخذ ما
شاء ومتى توافيا فيه
(1/557)
مصرحين صار
بيعا وإلا جاز الارتجاع ولا يجدد إلا بعد
التراجع ويصح إنظار معدم الجنس والحط الإبراء
قبل القبض غالبا وبعده ويصح بلفظ البيع كالصرف
لا هو بأيهما ولا أيهما بالآخر].
قوله: فصل : "ومتى بطل بفسخ أو عدم جنس لم
يؤخذ إلا رأس المال".
أقول : هذا صحيح لأن المسلم إليه معذور بالفسخ
أو عدم الوجود فلا يطالب بغير رد رأس المال
أما مع الفسخ فظاهر وأما مع عدم الجنس فلعدم
قدرته على إيجاد المعدوم فيرد رأس المال بعينه
وإن كان قد تلف فمثله إن كان مثليا وإلا
فقيمته.
وأما قوله: "ولا يبيع به قبل القبض شيئا"
فوجهه ما تقدم من النهي عن أن يبيع الرجل ما
ليس عنده وفي خصوص السلم حديث أبي سعيد قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم
في شيء فلا يصرفه إلي غيره"، أخرجه أبو دأود
وابن ماجه وفي إسناده عطية العوفي ولا يحتج
بحديثه ولكنه يشهد له ما أخرجه الدارقطني عن
ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من أسلف شيئا فلا يشترط على صاحبه غير
قضائه" وفي لفظ: "من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا
ما أسلف فيه أو رأس ماله".
وأما قوله: "لا لفساد فيأخذ ما شاء" فأقول: قد
عرفناك غير مرة أنه لا وجه للتفرقة بين
البطلان والفساد إلا مجرد الرأي فإذا بطل
السلم بمبطل شرعي بطل حكمه وليس للمسلم إلا
رأس ماله فقط فلا يصح ما رتبه على هذا بقول:
"ومتى توافيا فيه" الخ.
وأما قوله: "ويصح إنظار معدم الجنس" فصحيح لأن
المسلم محكم فيما أسلم فيه إن اختار إرجاع رأس
ماله كان له ذلك وإن اختار الإنظار كأن يمهله
إلي عام آخر كان له ذلك إلي هذا ذهب الجمهور
وهكذا يصح الحط والإبراء قبل القبض وبعده ويصح
للبعض وللكل ولا حجر على فاعله لأنه ملكه
يتصرف به كيف يشاء ولا مانع شرعيا يمنع من
ذلك.
وأما قوله: "ويصح بلفظ البيع" الخ فالحق أنه
يصح بكل لفظ يدل على التراضي كما قدمنا في
البيع والصرف مع ملاحظة كونه معلوما والأجل
معلوما وإذا تقرر لك ما ذكرناه في الباب علمت
أنه لا يعتبر فيه إلا ما صرح به الحديث الصحيح
الذى ذكرناه في أوله.
[ فصل
وإذا اختلف البيعان فالقول في العقد لمنكر
وقوعه وفسخه وفساده والخيار والأجل وأطول
المدتين ومضيها وإذا قامت بينتا بيع الأمة
وتزويجها استعملتا فإن حلفا أو نحوه ثبتت
للمالك لا بينتا العتق والشراء والعتق قبل
القبض وبعده إن أطلقتا وفي
(1/558)
المبيع لمنكر
قبضه وتسليمه كاملا أو مع زيادة وتعيبه وأن ذا
عيب وقبل القبض فيما يحتمل والرضا قبل وأكثر
القدرين لبائع لم يقبض الثمن في نفي إقباضه
وللمسلم إليه في قيمة رأس المال بعد التلف
فأما من جنس المبيع وعينه ونوعه وصفته ومكانه
ولا بينة فيتحالفان ويبطل غالبا فإن بينا
فللمشتري إن أمكن عقدان وإلا بطل وفي الثمن
لمدعي ما يتعامل به في البلد ثم للبائع في نفي
قبضه مطلقا إلا في السلم ففي المجلس فقط وفي
قدره وجنسه ونوعه وصفته قبل تسليم المبيع لا
بعده فللمشتري].
قوله: " فصل : وإذا اختلف المبيعان فالقول في
العقد لمنكر وقوعه".
أقول : هذا قد دل عليه الحديث الصحيح المصرح
بأن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين
وهاهنا المنكر للوقوع القول قوله مع يمينه
وعلى مدعي الوقوع البينة لكن قد أخرج أحمد
وأبو دأود والنسائي من حديث ابن مسعود قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف
البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب
السلعة أو يترادان" وزاد فيه ابن ماجه "والبيع
قائم بعينه"، وذكر معنى هذه الزيادة أحمد
بلفظ: "والسلعة كما هى"، وفي لفظ للدراقطني:
"إذا اختلف البيعان والبيع مستهلك فالقول قول
البائع" ، وفي لفظ لأحمد والنسائي أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر البائع أن يستحلف ثم
يخير المبتاع إن شاء أخذ وإن شاء ترك والحديث
له طرق وقد اختلف فيه على إسماعيل بن أمية ثم
على ابن جريج واختلف أيضا في سماع أبي عبيدة
بن عبد الله بن مسعود من أبيه ولكنه قد رواه
الشافعي عن عون بن عبد الله بن عتبه عن ابن
مسعود وفيه انقطاع لأن عونا لم يدرك ابن مسعود
وقد روى من غير طريقهما عن عبد الله بن مسعود
كما بيناه في شرح المنتقى وأوضحنا طرقه
وألفاظه وقد صحح بعض طرقه الحاكم وابن السكن
وصحح بعضا منها الحاكم وحسنها البيهقي وهذا
الحديث لو سلم من المعارض الناهض لكانت طرقه
يشهد بعضها لبعض ويقوي بعضها بعضا ولكنه عارضه
الحديث الصحيح المتفق عليه "أن البينة على
المدعي واليمين على المدعي عليه"، وبين
الحديثين عموم وخصوص من وجه فيتعارضان في مادة
الاجتماع وهي حيث يكون البائع مدعيا فإن قوله:
"فالقول ما يقول رب السلعة" يدل على أن القول
قوله مع يمينه وحديث: "البينة على المدعي" يدل
على أنه لا يكون القول قوله بل عليه البينة
ومعلوم أن الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما
من طرق أرجح فالمصير إليه متعين ولا تعارض في
مادتي الافتراق وهما حيث يكون البائع منكرا
وحيث يكون غير البائع مدعيا فإن الحديثين
كلاهما يدلان على أن القول البائع المنكر مع
يمينه ويدلان على أن البينة على المدعي الذى
ليس ببائع وبهذا تستريح مما وقع فيه الغير من
التعب والنصب في الجمع بين الحديثين فتقرر لك
بهذا أن القول قول منكر وقوع البيع ومنكر فسخه
ومنكر فساده ومنكر الخيار والأجل ومنكر أطول
المدتين ومضيها مع يمينه والبينة على المدعي
في ذلك كله.
قوله: "وإذا قامت بينتا بيع الأمة وتزويجها
استعملتا".
(1/559)
أقول : وجهه
إمكان الجمع بين الأمرين بأن يزوجها منه أولا
ثم يبيعها ثانيا وإذا لم يكن استعمال البينتين
بأن يضيفا إلي وقت واحد بطلتا ورجع إلي الأصل
وهو بقاء ملك البائع إلا أن يدعي البيع فإنه
ها هنا مقر بخروجها عن ملكه ومدعي النكاح ناف
لملكها فتصير لبيت مال المسلمين لكن إذا كان
البائع مقرا بأستيفاء ثمنها أما إذا كان
مطالبا به فإقراره مشروط بتسليم الثمن فلا
تخرج عن ملكه إلا به وإلا بقيت في ملكه وأما
إذا حلف فقد تضمنت يمين البائع وفي إنكاحها
وتضمنت يمين مدعي التزويج نفي بيعها فتبقى في
ملك البائع إلا أن يكون البائع مع إنكار
إنكاحها مدعيا لبيعها فهو ناف لملكها والكلام
فيه كما تقدم في المبينتين.
وأما قوله: "ولا بينتا العتق والشراء" فالعتق
قبل القبض والشراء بعده فوجهه أن بينة المشتري
قبل القبض ضعيفة بالنسبة إلي بينة العتق لأنها
قوية مع بقاء الأمة في يد معتقها ولا أرى هذا
المرجح راجحا بل ينبغي الترجيح بين نفس
البينتين فإن تسأويا من كل وجه بطلتا وبقيت
الأمة لمالكها هذا إذا أطلقتا كما ذكر المصنف
أو أرختا بوقت واحد وأما إذا اختلف التاريخ
فالحكم للبينة الأولى فإن شهدت بالبيع لم يصح
العتق وإن شهدت بالعتق لم يصح البيع.
قوله: "ولبائع لم يقبض الثمن في نفي اقباضه".
أقول : وجهه أن الأصل عدم قبض المشتري للمبيع
وأما بعد أن يقبض البائع الثمن فلا يكون القول
قوله والظاهر أنه لا فرق بين قبض الثمن وعدمه
وأن بقاء المبيع في يد البائع يوجب أن يكون
القول قوله في نفي الاقباض على كل حال لأن
الأصل عدمه وبقاؤه في يد البائع قرينة مقوية
للأصل.
وأما قوله: "وللمسلم إليه قيمة رأس المال" فلا
وجه له لأنه لا أصالة ها هنا ولا ظهور فينبغي
أن يكون القول قول منكر الزيادة والبينة على
مدعيها.
قوله: "وأما في تعيين جنس المبيع" الخ.
أقول : هذه الأمور الخمسة لا يترجح فيها أحد
الجانبين بل يستويان فمن بدأ بالدعوى منهما
فيها كان هو المدعي وعليه البينة ومن أنكر كان
هو المدعى عليه وعليه اليمين فإن ادعى كل واحد
منهما بأن يقول هو هذا الجنس ويقول الآخر هو
هذا أو هو هذه العين ويقول الآخر هو هذه وكذا
في النوع والصفة والمكان فتطلب من كل واحد
منهما البينة على ما ادعاه ويعمل على ما قامت
عليه وإن بينا جمعيا فقال المصنف إن بينة
المشتري أرجح لأنها خارجة إن أمكن عقدان وإلا
بطل البيع وهذا مسلم مع استواء البينتين وعدم
وجود مرجح يرجح أحداهما على الأخرى بوجه من
وجوه الترجيح الآتية وهكذا إذا تخالفا مع عدم
البينة لأن المفروض أن كل واحد منهما مدع من
جهة ومنكر من أخرى فلا يكون أحدهما أرجح حيث
كانا متفقين على أنه لم يقع المبيع إلا لشيء
واحد.
وأما قوله: "وفي الثمن لمدعي ما يتعامل به في
البلد" فصحيح لأنه السابق إلي الأذهان فالظاهر
مع من ادعاه وأنكر ما سواه وأما كون القول
للبائع في نفي قبض الثمن فوجهه أن الأصل
(1/560)
عدم ذلك وأما
ثمن السلم فلما كان قبضه في مجلس عقده شرطا
لئلا يكون من بيع الكاليء بالكاليء كان القول
قول المنكر قبضه في المجلس لا بعده ولا وجه له
إلا ما يذكرونه من أنه إذا احتمل العقد وجهي
صحة وفساد كان جانب الصحة أرجح ولا أرى هذا
مرجحا بل يتوجه الرجوع إلي حكم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأن على المدعي البينة وعلى
المنكر اليمين.
وأما قوله: "وللبائع في قدره وجنسه ونوعه
وصفته قبل تسليم المبيع" فلا وجه لهذا إلا ما
يذكرونه من أن اليد للبائع قبل التسليم ولا
أرى هذا مرجحا بل القول في القدر لمنكر
الزيادة وأما في الجنس أو النوع أو الصفة فكما
تقدم في المبيع من غير فرق بين أن يكون
الاختلاف قبل تسليم المبيع أو بعده.
(1/561)
|