السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار

كتاب العتق
مدخل
...
كتاب العتق
[ فصل
يصح من كل مكلف ملك حاله لكل مملوك ولو كافرين ولا تلحق الإجازة إلا عقد ولا الخيار إلا الكتابة].
قوله: "فصل: ويصح من كل مكلف".
أقول : وجهه ظاهر لأن تصرف الصبي والمجنون غير نافذ وأما اعتبار قيد الملك فمعلوم لأن عتق غير المالك وجوده كعدمه وأما كونه يصح لكل مملوك فلعدم المانع مع وجود المقتضي.
وأما قوله: "ولو كافرين" فهذا مخالف لما قرروه في الأبواب التي هي قرب أنها لا تصح من الكافر ومعلوم أن المصنف هنا إنما يريد الصحة وأما ثبوت الثواب فلم يرد إلا في عتق المسلم للمسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "5/146"، مسلم "22/1509"]، وغيرهما [أحمد "2/420، 422، 429، 430، 431، 525"، الترمذي "1541"]، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه"، وكما في حديث أبي أمامة مرفوعا: "أيما أمريء مسلم أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزيء كل عضو منه عضوا منه"، أخرجه الترمذي "1547"، وصححه وأخرجه أيضا النسائي "8/163"، وابن ماجه 2522"، بإسناد صحيح وفي لفظ منه: "أيما امريء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانا فكاكه من النار يجزيء كل عضو منهما عضوا منه"، وأخرج أحمد "4/113، 386"، من حديث كعب بن مرة أو مرة بن كعب السلمي نحوه زاد فيه: "وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزيء بكل عضو من أعضائها عضوا من أعضائها"، وفي الباب أحاديث فالكافر ليس له

(1/665)


من الأجر الحاصل بالعتق شيء إلا إذا أسلم من بعد كما في حديث: "أسلمت على ما أسلفت من خير" وهو في الصحيحين [البخاري "1436"، مسلم "194/120"، وغيرهما [أحمد "3/402"]، من حديث حكيم بن حزام وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود قال قلنا يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر"، ففيه أن الإساءة في الإسلام موجبة للمؤاخذة بأعمال الجاهلية كما أن حديث حكيم بن حزام يدل على أن الإسلام يوجب لصاحبه أن يكتب له ما عمل من أعمال الخير في الجاهلية.
وأما قوله: "ولا تلحق الإجازة إلا عقده" فقد عرفناك غير مرة أنه لا اعتبار بما فعله الفضولي وأن الحكم ثبت بإجازة المالك وأما كونه لا يلحقه الخيار فلكون المالك مفوضا في ملكه فلا وجه لإثبات الخيار له إلا في عتق الكتابة لكونها معاوضة.
[ فصل
وله ألفاظ وأسباب فصريح لفظه ما لا يحتمل غيره كالطلاق نحويا حر وأنت مولاي أو ولدي فإن أكذبه الشرع وثبت العتق لا النسب والعقل بطلا وكنايته ما احتمله غيره كأطلقتك وهو حر حذرا من القادر كالوقف إلا الطلاق وكنايته وبيعك لا يجوز وأنت لله وأسبابه موت السيد عن أم ولده ومدبريه مطلقا وعن أولادهما الحادثين بعد مصيرهما كذلك ولهم قبله حكم الرق غالبا ومثول المالك به بنحو لطم فيؤمر وإن لم يرافع فإن تمرد فالحاكم والولاء للسيد وملك ذي الرحم المحرم لجميعه أو بعضه فيضمن لشريكه إن اختار التملك موسرا بغير إذنه وإلا سعى العبد وانقضاء حيضتي أم ولد الذمي بعد إسلامها إن لم يسلم فيهما وتسعى ودخول عبد الكافر بغير أمان دارنا فأسلم قبل أن يؤخذ أو بأمان لا بإذن سيده أو أسلم وهاجر لا بإذن قبل إسلام سيده وبأمان وإذن بيع ورد ثمنه].
قوله: "فصل: وله ألفاظ" الخ.
أقول : قد عرفناك غير مرة أن اعتبار ألفاظ خاصة وجعل بعضها صريحا وبعضها كناية كلام لا يوافق التحقيق وليس المراد إلا مجرد الدلالة على ما يريده المتكلم ويدل على أنه قد رضى بما أراده من معاوضة بينه وبين غيره أو مجرد صدور شيء عنه لا عن معاوضه ولو كان ذلك الدال إشارة من قادر على النطق ولا بد في المحتمل للعتق وغيره من الألفاظ أن يريد به العتق ويكون القول قوله إذ لا يعرف إلا من جهته فلا حاجة بنا إلى إطالة الكلام على ما ذكره المصنف من الألفاظ.

(1/666)


قوله: "وأسبابه موت السيد عن أم ولده ومدبره".
أقول : مراده أن هذا السبب سبب نجاز العتق لأم الولد والمدبر وأما السبب الذي تعلق به العتق فهو الاستيلاد في أم الولد وإيقاع التدبير في المدبر وقد تقدم الكلام في بيع أم الولد مستوفى في كتاب البيع وسيأتي الكلام في جواز بيع المدبر مستوفى في باب التدبير.
وأما قوله: "وعن أولادهما الحادثين بعد مصيرهما كذلك" فلا يخفاك أن هؤلاء الحادثين حدثوا بعد وجود سبب تعلق العتق بهما لا بعد وجود سبب نجاز العتق فالأولاد إذ ذاك أولاد من لم ينجز عتقه وينقذ تحريره فإذا مات السيد لم يكن نجاز عتقهما مقتضيا لعتق أولادهما لأنهم وجدوا قبل هذه الحالة ولم يرد ما يدل على هذا الحكم الذي ذكره المصنف بل لهم قبل الموت وبعده حكم الرق.
قوله: "ومثول المالك به" الخ.
أقول : إذا كانت المثلة بقطع شيء من أعضائه فقد ثبت الدليل الصحيح في العبد الذي جبّ سيده مذاكيره وجدع أنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اذهب فأنت حر" [أبو داود "4519", ابن ماجه "2680", أحمد "2/182"] وإن كانت المثلة باللطم أو الضرب فقد ثبت في صحيح مسلم ["30/1658"] و غيره [أبو داود "5168", أحمد "2/45, 61"] من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه"، فدل هذا على أن تكفير ذلك اللطم أو الضرب يكون بالعتق وليس فيه دلالة على أن العتق حتم على السيد ولا أنه يعتق بنفس المثلة وقد قيد الضرب بما في صحيح مسلم بلفظ: "من ضرب غلاما له حدا لم يأته فإن كفارته أن يعتقه" فأفاد هذا أن الضرب الذي كفارته العتق هو ما بلغ حدا لما ورد من أنه لا يحل الجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ومما يؤيد عدم تحتم العتق في اللطم والضرب ما ثبت في صحيح مسلم "31/1658"، وغيره أبو داود "5167"، الترمذي "1542"، من حديث سويد من مقرن كنا بني مقرن على عهدرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أعتقوها"، وفي رواية أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا خادم لبني مقرن غيرها قال: "فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها"، فأفاد عدم تحتم العتق في الحال وأفاد أنه لا عذر منه عند الاستغناء ولكنه حكى النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض أنه قال أجمع العلماء أنه لا يجب إعتاق العبد بشيء مما يفعله سيده من مثل هذا الأمر الخفيف يعني الضرب الخفيف واللطم قال واختلفوا فيما كثر وشنع من ضرب مبرح منهك أو حرقه بنار أو قطع عضوا له أو أفسده أو نحو ذلك فذهب مالك والأوزاعي والليث إلى عتق العبد على سيده بذلك يكون له ولأولاده ويعاقبه السلطان على فعله وقال سائر العلماء لا يعتق عليه انتهى فإذا صح هذا الإجماع كان صارفا للأمر المذكور في حديث سويد بن مقرن من الوجوب إلى الندب فيكون الموجب للعتق من المثلة هو ما كان بقطع أو جدع أو تحريق وما عدا ذلك فإن شنع وأنهك فالأمر باق فيه على معناه الحقيقي ووقوع الإجماع على أنه لا يوجب العتق فلا صارف للأمر عن المعنى الحقيقي.

(1/667)


قوله: "وملك ذي الرحم المحرم".
أقول : قد ورد من المرفوع بلفظ: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر"، [أبو داود "3949"، الترمذي "1365"، ابن ماجة "2524"، أحمد "5/20"]، ما يشهد بعضه لبعض ويقوي بعضه بعضا وعلل ذلك بعلل لا تنافي التعاضد ولا سيما وقد صحح جماعة من الأئمة هذا اللفظ الذي ورد به الحديث فلم يبقى بعد ذلك معذرة عن العمل به فكان ملك ذي الرحم لرحمه أحد أسباب العتق الثابتة شرعا وما ذكره المصنف من ضمان الشريك لشريكه صحيح فإن كان معسرا أو ملكه بغير اختياره سعى العبد فقد ثبت أصل السعاية بالحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "5/132"، مسلم "3/1503"]، وغيرهما [أبو داود "3938"، الترمذي "1348"، ابن ماجة "2527"، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق شقصا له من مملوك فعليه خلاصه في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدله ثم استسعي في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه".
قوله: "وانقضاء حيضتي أم الولد" الخ.
أقول : هذه المستولدة يسعها ما كان يسع من أسلم من العبيد والإماء في أيام النبؤة فإنهم كانوا يصيرون أحرارا بمجرد إسلامهم ولا يبقى لمن هم في ملكه عليهم يد ولا يخاطبون بسعاية ولا غيرها فكيف بهذه المستولدة التي حصل لها قبل إسلامها سبب من أسباب العتق فالعجب من إيجاب السعاية عليها لكافر بعد أن عصمها الله بالإسلام ذاتا ومالا وأطلقها من ريقة الرق.
قوله: "ودخول عبد الكافر بغير أمان دارنا" الخ.
أقول : وجه هذا أن أموال أهل الحرب على الإباحة من سبق إلى شيء منها ملكه فدخول العبد بغير أمان يكون به ملكا لمن سبق إليه فإذا أسلم قبل أن يؤخذ صار حرا بمجرد الإسلام لما قدمنا وأما إذا كان دخوله بأمان بإذن سيده فالأمان عصمة تمنع من أن يتملكه أحد لكنه إذا أسلم صار حرا بإسلامه وسيأتي تمام هذا البحث في كتاب السير إن شاء الله وكان على المصنف أن يجعل الإسلام سببا من أسباب العتق مطلقا.
[ فصل
وإذا التبس بعد تعيينه في القصد عم الأشخاص فيسعون بحسب التحويل إن لم يفرط كحر بعبد إلا في الكفارة ويصح تعليق تعيينه في الذمة ويقع حين التعيين على الأصح فإن مات قبله عم وسعوا كما مرة وإن مات أو عتق أو استولد أو باع أحدهما تعين الآخر ويتقيد بالشرط والوقف ويقع بعدهما م حالهما والمعلل كالمطلق].
قوله: "فصل: وإذا التبس بعد تعيينه" الخ.
أقول : هذه المسألة مبنية على محض الرأي وهو أن كل واحد قد صار محتملا لوقوع

(1/668)


العتق عليه فثبت له بذلك حق فمن هذه الحيثية عمهم العتق جميعا ويمكن معارضة هذا الرأي برأي أنهض منه فيقال الأصل عدم وقوع العتق فيتوقف على هذا الأصل ولا يثبت للواحد حق فيه إلا بيقين ولا يقين وهو مال الغيير معصوم بعصمة الإسلام فلا يخرج عن ملكه بمجرد الإحتمال وهذا أصل متفق عليه بخلاف من وقع العتق على جزء منه بيقين فإنه قد صار بعضه حرا وذلك حيث يعتق أحد الشريكين في العبد نصه وقد دلت الأحاديث على أن الشريك المعتق إذا كان موسار غرم قيمة نصيب شريكه وإن كان معسرا فقد اختلفت الأحاديث في ذلك ففي بعضها أنه يعتق من العبد ما قد عتق وهو نصيب الشريك ويبقى نصيب الآخر رقا وفي بعضها أن العبد يسعى فإن قلت إذا كانت هذه المسألة التي ذكرها المصنف هنا مبنية على الرأي وقد عارضته برأي أنهض منه فهل من مخلص عن هذين الرأيين بما فيه رائحة دليل يصلح للتمسلك به قلت قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته وليس له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق اثنين وأرق أربعة كما في حديث ابن عمر عند مسلم "56/1668"، وغيره أبو داود "3958"، الترمذي "1364"، النسائي "1958"، وابن ماجة "2345"، وكما في حديث أبي زيد الأنصاري عند أحمد "15/186"، وأبي داود "3960"، والنسائي "3804"، بإسناد رجاله رجال الصحيح فهذه القرعة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستة أعبد قد وقع عتق المالك على كل واحد منهم ثم لما لم ينفذ إلا الثلث كان كل واحد منهم قد عتق ثلثه بيقين ثم حكم الصادق المصدوق بالقرعة فأرق من أرق وأعتق من أعتق على حسب ما اقتضاه الإقراع بينهم وهذا شرع واضح جاء به الذي جاءنا بما شرعه الله لنا وليس بيد من أنكر العمل بالقرعة إلا التشبث بالهباء وتأثير الآراء الرجال على الشريعة الواضحة التي ليلها كنهارها وكيف لا يثبت مثل هذا الحكم فيمن هو دون هؤلاء الستة الأعبد في استحقاق العتق وهو من كان واحدا من جماعة وقع عليه العتق ثم التبس بهم فلم يعرف من هو الذي وقع عليه العتق فإن كل واحد منهم ليس له إلا مجرد احتمال أن يكون العتق واقعا عليه فإن الرجوع إلى القرعة في مثل هذا ثابت بالفحوى ومن ترك العمل بمثل هذه السنة الواضحة زاعما بأنها مخالفة للأصول فليس لهذه الأصول وجود وليست إلا مجرد قواعد لم تدل عليها رواية ولا شهدت لها دراية على أن الرجوع إلى القرعة والعمل بها قد وقع من الشارع في مواضع أخرى ومن ذلك أنه كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ومن ذلك ما فعله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجماعة المتنازعين في ولد الأمة المشتركة بينهم فقرره صلى الله عليه وسلم واستحسنه وقد تقدم فعرفت بهذا أن القرعة شرع ثابت واضح تنقطع به الشبه وتثبت به الحقوق وإذا تقرر لك هذا عرفت عدم صحة ما تفرع عن كلام المصنف من إيجاب السعاية وما بعدها.
قوله: "ويصح تعليق تعيينه في الذمة" الخ.
أقول : وجهه أنه أوقع العتق مجملا وعلق التعيين بوقت مستقبل فلا يعرف من وقع عليه العتق على التعيين إلا بالتعيين فهذا هو معنى كونه يقع حين التعيين وإن كان الإيقاع سابقا له ولكن لا حكم لهذا الإيقاع المجمل أي لا يترتب عليه شيء من أحكام الحرية.

(1/669)


وأما قوله: "فإن مات قبله عم" فلا وجه له بل الحق أنه يقرع ويعتق من عينته القرعة ولا سعاية.
وأما قوله: "وإن مات" فوجهه أنه لم يبق محلا للتعيين إلا الحي وهكذا إذا أعتق أحدهما أو أستولده أو باعه فإن صدور أحد هذه الثلاثة الأمور تدل على اختياره لتعيين العتق فيمن لم يعتقه أو لم يبعه أو لم يستولده وأما كونه يتقيد بالشرط والوقت فظاهر لأن المالك محكم في ملكه ولا حجر عليه ولا يقع إلا بعد حصول الشرط أو حضور الوقت لأن ذلك هو نفاذ اللفظ وأما كون المعلل كالمطلق فظاهر لأنه لم يكن في التعليل ما يشعر بالتقييد.
[ فصل
فمن قال اخدم أولادي في الضيعة عشرا ثم أنت حر بطل ببيعه أحدهما إلا الورثة وإلا عتق بمضي ما عرف تعليقه به من المدة أو خدمتهم قدرها ولو في غير الضيعة ومفرقة ومن مات فأولاده فقط وإن جهل قصده فبالمدة فيغرم أجره ما فوت وقيل بالخدمة فيعتق بهبة جميعها لا بعضها لكن يحاص في الباقي وحكم الرق باق للواهب حتى يستتم فإن مات قبله أخذ كسب حصته وإذا أعتقه منهم موسر غرم قيمته ومعسر سعى العبد والأيام للأسبوع وأكثرها لسنة وأياما لعشر وقليلة لثلاث وكثيرة لسنة وكل مملوك لمن لم ينفذ عتقه وأول من تلد لأول بطن وله نيته في كل لفظ احتملها بحقيقته أو مجازه].
قوله: فصل : "ومن قال أخدم أولادي في الضيعة عشرا ثم أنت حر" الخ.
أقول : قد أوقع العتق مرتبا على فعل الخدمة ففي صحة بيعه منه نظر لأن هذا العبد قد صار له حكم المكاتب وسيأتي في الكتابة أن العوض يصح أن يكون مؤجلا ولا فرق بين تعليق العتق بتسليم مال أو بمنفعة لأن القصد قد تعلق في كل واحد من العتقين بعوض فالمكاتب لا يعتق إلا بتسليم مال الكتابة وهذا لا يعتق إلا بالخدمة ولا يصح أن يقال إن هذا من باب الوصية والرجوع عنها قبل الموت صحيح لأنا نقول هذا عتق معلق على حصول عوض فصار للعبد به حق وعلى تسليم أنه يقصر حكمه عن حكم الكتابة لإيقاع الكتابة في الحال فليس هذا بمنزلة دون منزلة المدبر فإنه علق عتقه بالموت وثبت له بذلك حق يمنع من بيعه إلا لفسق أو ضرورة كما سيأتي.
وأما قوله: "لا الورثة" فوجهه أن ذلك التعليق قد نفذ بموت المالك كما تنفذ الوصية بموت الموصي بناء على أن لهذا العتق حكم الوصية وفيه ما قدمنا.

(1/670)


وأما قوله: "وإلا عتق بمضي ما عرف تعليقه من المدة" فلا وجه له لأن تلك المدة إنما هي ظرف للخدمة والمقصود هو الخدمة ولكن في ذلك الزمان وذلك المكان فلا يعتق إلا بإيقاع الخدمة عشر سنين في تلك الضيعة وليس هذا من الأوصاف الطردية فإنه ربما تعلق به غرض للمعتق يوجب اعتباره إلا أن يعرف من قصده أنه لا يريد إلا مجرد إيقاع الخدمة قدر تلك المدة في أي مكان وأما كون نصيب من مات من الأولاد لورثته فظاهر لأنهم يستحقون كل ما كان لمورثهم من الأموال والحقوق.
وأما قوله: "فإن جهل قصده فبالمدة" فلا وجه له وكيف يجهل قصده بعد تصريحه بالخدمة في المدة المقررة في المكان المعين قصده وهو ما أفاده كلامه هذا فيجب الحمل عليه حتى يظهر من قصده ما يخالفه وهذا يغنيك عما ذكره المصنف إلى آخر البحث والأصل في هذا البحث حديث سفينة قال: "أعتقتني أم سلمة وشرطت علي أن أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش"، أخرجه أحمد "5/221"، والنسائي "4481"، وابن ماجه "2526"، وأبو داود "3832"].
قوله: "والأيام للأسبوع"،
أقول : أفعال هو من مجموع القلة فيصدق بثلاثة أيام وتعريفه يدل على عهد ذهني أو خارجي فإن كان كذلك كان العمل على ما هو معهود للمتكلم وإن لم يكن كذلك فلا وجه لحمله على الأسبوع إلا إذا قصده المتكلم.
وأما قوله: "أياما" فظاهر أنه يصدق على ثلاثة أيام لغة والظاهر عدم الزيادة كما هو شأن جموع القلة فلا وجه لقوله وقليله لثلاث لأن هذا هو مدلول اللفظ من غير وصف له بالقلة.
وأما قوله: "وكثيره لسنة" فالظاهر أن هذا الوصف يصدق بمجرد وجود الزيادة على ثلاثة أيام الذي هو مدلول هذا الجميع فإن قصد المصنف رحمه الله ما تدل عليه لغة العرب فهو ما ذكرنا وإن كان بصدد بيان أعراف فإن ثبت للمتكلم عرف حمل كلامه عليه وإلا فلا.
قوله: "وكل مملوك لمن لم ينفذ عتقه".
أقول : هذا هو ظاهر هذا اللفظ العام لصدقه على كل من يصدق عليه أنه مملوك ولكن الظاهر أن القائل بهذه المقالة لا يقصد من قد حصل له سبب من أسباب عتقه.
وأما قوله: "وأول من تلد لأول بطن" فالظاهر أنه لا يتناول إلا أول من وضعته إذا كان في بطنها أكثر من واحد فإن الثاني لا يصدق عليه لفظ أول إلا أن يكون له قصد فالعمل على القصد.
وأما قوله: "وله نيته في كل لفظ" الخ فظاهر لأن النية هي التي تدور عليها الأحكام ولا بد مما ذكره المصنف من الاحتمال لأنه لو ادعى ما لا يحتمله لفظه لكان مدعيا خلاف الظاهر فلا يقبل بمجرد الدعوى.

(1/671)


[ فصل
ويصح بعوض مشروط فلا يقع إلا بحصوله ومعقود لا عن صبي ونحوه فيقع بالقبول أو ما في حكمه في المجلس قبل الإعراض فإن تعذر العوض وهو منفعة أو غرض فقيمة العبد أو حصة ما تعذر وبتمليكه جزءا من المال إن قبل لا عينا إلا نفسه أو بعضها وبالإيصاء له بذلك أوله وللغير منحصرا أو حصته وبشهادة أحد الشريكين على الآخر به قيل إن ادعاه ويصح في الصحة مجانا ولو علق بآخر جزء منها وله قبله الرجوع فعلا لا لفظا وينفذ من المريض ولو مستغرقا ومن غير المستغرق وصية ويسعى حسب الحال فيهما].
قوله: "فصل: ويصح بعوض مشروط" الخ.
أقول : هذا مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف وقد كان السلف يعتقون مماليكهم على هذه الصفة فيقول أحدهم لعبده إن فعلت كذا فأنت حر إن أدركت كذا أنت حر إن لم يفتك كذا وبالجملة سواء كان العوض مالا أو منفعة فالأصل الصحة وأما الصبي ونحوه فقد عرفت أنه لا يصح تصرفهما ولا تصرف الولي عنهما إلا لمصلحة وإذا تعذر العوض المجعول في مقابلة العتق فإن عرف من القصد أن المراد تسليمه أو ما يماثله أو قيمته كان الرجوع إلى المثل أو القيمة هو الواجب وإن لم يعرف ذلك لم يقع العتق إلا بالعتق المعين ويبطل بتعذره.
قوله: "وبتمليكه جزءا مشاعا من المال ".
أقول : عتقه بهذا السبب ظاهر لأنه من المال فإذا ملكه جزءا منه فقد ملكه جزءا من نفسه وبتملكه جزءا من نفسه يصير مالكا لبعضه فيسري العتق إلى البعض الآخر منه كما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه وما ذكره من اعتبار القول لا بد منه لأنه لا ينتقل الملك من مالك إلى مالك إلا بوقوع التراضي منهما.
وأما قوله: "لا عينا" فلا حاجة إليه إذا كانت العين غيره لأنه لا يكون ذلك عتقا ولا يقول به قائل ولا سبق إليه فهم وأما إذا كانت العين نفسه فلا حاجة إلى ذكر ذلك أيضا لأنه إذا عتق بتمليكه نفسه أو بعضها كان ذلك ثابتا بفحوى الخطاب وهكذا يعتق بالإيصاء له بالجزء المشاع أو بتمليكه نفسه أو بعضه كما لو دبره بعد موته ولكن لا بد أن يكون السيد عالما بأن هذا التمليك أو الإيصاء يحصل به العتق للعبد أما لو لم يكن عالما بذلك فلا يعتق أصلا لما عرفناك غير مرة من أن الرضا معتبر في كل معاملة ولا رضا ممن يجهل ما يستلزمه لفظه.
قوله: "وبشهادة أحد الشريكين على الآخر به".
أقول : هذا لا وجه له من شرع ولا عقل ولا رواية ولا دراية بل لا بد من كمال المناط

(1/672)


الشرعي وذلك بأن يشهد معه شاهد آخر أو يكمل المدعي للعتق بيمينه وكون الشريك شهد بما يضره لا يستلزم أن يقبل فيما يضر شريكه على أنه لا ضرر عليه ها هنا لأن القيمة ستلزم شريكه أو يسعى بها العبد وإلا فقد عتق من العبد ما عتق كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة والحاصل أنه لا وجه لجعل هذه الشهادة بمجردها سببا من أسباب العتق وكان على المصنف أن يذكر هذا السبب والذي قبله في أسباب العتق التي تعرض لذكرها في أول هذا الكتاب.
قوله: "وينفذ في الصحة مجانا".
أقول : وجهه ظاهر لأنه تصرف مالك في ملكه مع وجود المقتضى وعدم المانع وهذا من الظهور بمكان يغني عن تدوينه في المختصرات وهكذا يصح التعليق بآخر جزء من أجزاء صحته ولا وجه لصحة الرجوع لا فعلا ولا لفظا لأنه قد أوقع العتق ومجرد تعليقه لا يصلح مسوغا للرجوع عنه وليس هذا من باب الوصية حتى يقال فيه ما قيل فيما تقدم في فصل خدمة الأولاد وأما كونه ينفذ من المريض فظاهر لأن ملكه لم يخرج عنه فله أن يتصرف به كيف شاء ما لم يجاوز الثلث فإن جاوزه رد إلى الثلث كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق ستة أعبد لم يكن له من المال سواهم وقد تقدم ومعلوم أن هذا العبد المعتق حال المرض إذا كان يخرج كله من الثلث أو يخرج بعضه منه صار حرا بذلك وأما على تقير أن التركة مستغرقة بالدين فذلك مانع من تصرف المالك فيها بوجه من الوجوه لأنه بمثابة الحجر له إلا أن يرضى أهل الدين بالسعاية من العبد.
[ فصل
ولا يتبعض غالبا فيسري وإلى الحمل لا الأم ويسعى لشريك المعتق إلا أن يعتقه موسر ضامن ومن أعتق أم حمل أوصى به ضمن قيمته يوم وضعه حيا فقط إلا للشريك في الأم فيتداخلان].
قوله: "فصل: ولا يتبعض".
أقول : اختلفت الأحاديث في هذا ففي بعضها في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه العبد قيمة عدل فأعطى شركاه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق"، فهذا الحديث يدل على أن السراية إلى نصيب الشريك إنما تثبت مع وجود مال الشريك المعتق يمكن منه غرامة قيمة نصيب الشريك وإذا لم يكن له مال فلا سراية ويعتق نصيب المعتق ويبقى نصيب شريكه رقا وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "5/150"، وغيرهما أبو داود "3947"، من هذا الحديث: "من أعتق عبدا بينه وبين آخر قوم عليه في ماله قيمة عدل لا وكس ولا شطط ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرا"، وفي الصحيحين ألفاظ مصرحة بتقييد وقوع العتق بكون الشريك موسرا

(1/673)


وهي تفيد أنه إذا كان معسرا فلا يعتق إلا نصيب الموقع للعتق وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق شقصا له من مملوك فعليه خلاصة في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعي في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه"، فأفاد هذا الحديث أنه إذا كان الشريك الذي أوقع العتق معسرا عتق العبد كله وسعى العبد في نصيب الشريك الآخر فالجميع بين هذه الأحاديث الثابتة في الصحيحين وما ورد في معناها خارج الصحيحين أن الشريك الموقع للعتق إن كان موسرا ضمن قيمة نصيب الشريك من ماله وإن كان معسرا فإن كان العبد قادرا على السعاية واختار ذلك عتق جميعه وسعى وإن لم يكن قادرا على السعاية أو أبى أن يسعى فقد عتق منه ما عتق وهو نصيب الذي أعتقه ويبقى نصيب الآخر رقا وليس في هذا ما يقتضي المنع منه من شرع ولا عقل وإنما قلنا إنه يعتبر رضاء العبد بالسعاية جميعا بين حديث السعاية وبين حديث: "وإلا فقد عتق منه ما عتق"، فإذا رضي العبد ببقاء بعضه قنا ثم يجبر على خلاص نفسه بالسعاية عليه لأن ذلك أمر نفعه له فإذا اختار تركه لم يجبر عليه كما تدل عليه قواعد الشرع ولا سيما وهو يتمسك ها هنا بسنة صحيحة ثابتة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وإلا فقد عتق منه ما عتق"، ومن شك في ثبوتها فشكه مدفوع مرفوع بترجيح الأئمة من الرواة لثبوتها ورفعها وقد أوضحت الكلام فيما قاله الحفاظ في زيادة وإلا فقد عتق منه ما عتق وفي زيادة ذكر الاستسعاء للعبد في شرحي للمنتقي فليرجع إليه.
قوله: "وإلى الحمل".
أقول : لا دليل يدل على هذه السراية فإن كان الدليل القياس على سراية عتق الجزء المشاع إلى الباقي فليس هذا كذلك فإن هذا جزء منفصل وإن كان إيقاع العتق على الأم متصلا فاتصاله إنما هو الإيصال الكائن بين الظرف والمظروف وليس لذلك اعتبار وعلى هذا فلا حاجة إلى قوله ومن أعتق أم حملالخ.

(1/674)


[ باب والتدبير
يصح من الثلث بلفظه كدبرتك وبتقييد العتق بالموت مطلقا مفردا لا مع غيره إن تعقب الغير قيل فوصية تبطل بالاستغراق].
قوله: "باب: والتدبير يصح من الثلث".
أقول : وجه هذا المدبر حر من الثلث ولكنه لم يثبت دفعه من طريق يقوم بها الحجة والحفاظ قد جزموا بأنه موقوف والموقوف لا حجة فيه ويمكن أن يقال إن التدبير لما كان مضافا إلى ما بعد الموت كان له حكم الوصية وهي في هذه الصورة نافذة من الثلث وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلث والثلث كثير"، [البخاري "1295"، مسلم "5/1628"، أبو داود "2864"، الترمذي

(1/674)


"2116"، النسائي "6/241، 242"، ابن ماجة "2708"، أحمد "1/179"]، ويؤيد ذلك حديث الأعبد الستة المتقدم ذكره فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفذ عتق الثلث منهم بالقرعة حيث لم يكن للمعتق مال سواهم.
قوله: "بلفظه كدبرتك أو أنت مدبر".
أقول : هذا ظاهر وهكذا تقييد العتق بالموت مطلقا لأنه معنى التدبير فلا فرق بينه وبين قوله دبرتك وأما إذا قيده بموته وحصول شيء آخر معه وتأخر ذلك الآخر فجزم المصنف بأنه لا يصح ذلك لأنه قد صار ملكا للورثة بموته ولا وجه لهذا فإن هذا وصية بالعتق وله حكمها عند المصنف وغيره وكان عليه أن يقرر هذا ويختاره كما قرره فيما سبق وقد قدمنا ما يرشد إلى ما هو الصواب.
[ فصل
ولا تبطله الكتابة وقتل مولاه ويحرم بيعه إلا لفسق أو ضرورة فيطيب للشريك حصته ولو موسرا فإن زالا وفسخ بحكم أو قبل التنفيذ حرم ويسري إلى من ولد بعده ويوجب الضمان فمن دبره اثنان ضمنه الأول إن ترتبا وإلا سعى لمن تأخر موته وله قبل الموت حكم الرق إلا في البيع].
قوله: "فصل: ولا تبطله الكتابة".
أقول : قد صار العبد مستحقا للحرية بالتدبير وهو عتق مقيد بالموت فليس للسيد أن يجبره على الكتابة فإن اختار ذلك فمن نفسه لأنه رضي بحمل مؤنة مال الكتابة وقد كان عنها في سعة وحينئذ يعتقه بالسبب الأسبق وقد أخرج البخاري في التاريخ عن محمد بن قيس ابن الأحنف عن أبيه عن جده أنه أعتق غلاما له عن دبر وكاتبه فأدى بعضا وبقي بعض ومات مولاه فأتوا ابن مسعود فقال: ما أخذ فهو له وما بقي فلا شيء لكم.
وأما قوله وقتل مولاه فوجهه ظاهر لأن القتل لا يرفع التدبير الذي وقع عليه واستحق الوفاء به والمعصية بالقتل لا تبطل ذلك كما لم تبطله سائر المعاصي والقياس على الميراث قياس مع الفارق.
قوله: "ويحرم بيعه إلا لفسق أو ضرورة".
أقول : استدل القائلون بتحريم بيعه بما أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا: "المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث"، وفي إسناده عبيدة ابن حسان وهو منكر الحديث والحفاظ يقفونه على ابن عمر وقال الدارقطني في العلل الأصح وقفه وقال العقيلي لا يعرف إلا بعلي بن ظبيان وهو منكر الحديث وقال أبو زرعة الموقوف أصح وقال ابن القطان المرفوع ضعيف وقال البيهقي الصحيح موقوف وقد روى عن علي ونحوه موقوفا

(1/675)


عليه وعن أبي قلابة مرسلا أن رجلا أعتق عبدا له عن دبر فجعله النبي صلى الله عليه وسلم من الثلث ولا يخفاك أن مثل هذا لا ينتهض للاستدلال به على التحريم للبيع لأن المرفوع لم يصح والموقوف لا حجة فيه لكن لما كان السيد قد أوقع العتق للعبد مقيدا بموته كان هذا هو المانع من البيع لأنه قد أخرجه عن ملكه إخراجا مقيد بوقت فليس له أن ينقض ما أبرمه وأما تسويغ بيعه للفسق فليس في هذا إلا ما أخرجه الشافعي والحاكم والبيهقي عن عائشة أنها باعت مدبرتها التي سحرتها وهذا لا تقوم به حجة لأنه فعل صحابي وأيضا السحر كفر فتلك المدبرة قد صارت كافرة بما فعلته من السحر وأما جواز بيعه للضرورة فلما ثبت في الصحيحين [البخاري "2534"، مسلم "58/997"]،وغيرهما [أبو داود "3955"، ابن ماجة "2513"، النسائي "5/69، 80"]، من حديث جابر أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يشتريه مني؟"، فاشتراه نعيم بن عبدالله بكذا وكذا فدفعه إليه فهذا دليل على جواز البيع للحاجة ومما يدل على أن البيع لأجلها تولي النبي صلى الله عليه وسلم للبيع فإن ذلك يفيد أن المدبر للعبد قد أنهى الأمر إليه وشكا إليه حاجته إلى بيعه ولكنه شك في الجواز مع التدبير فأستفتي النبي صلى الله عليه وسلم فباعه ولولا ذلك لم يبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا ما وقع في رواية للنسائي من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم باعه بثمانمائة درهم فأعطاه فقال: "اقض دينك وأنفق على عيالك"، فإن هذا يدل على أن البيع لحاجة قضاء الدين والنفقة على العيال فلا يجوز إلحاق البيع لغير حاجة بالبيع لحاجة لوجود الفارق وقد ذهب إلى عدم جواز البيع مطلقا الجمهور كما قال النووي ونقله البيهقي في المعرفة عن أكثر الفقهاء والحديث يرد عليهم.
وأما قوله: "وتطيب للشريك حصته ولو موسرا" ففيه نظر فإن تسويغ البيع للشريك المحتاج لا يستلزم تسويغه للشريك الموسر لكن لما كان عتق الشريك يسري إلى نصيب شريكه بالأدلة المتقدمة وكان ضمان السراية على الشريك إن كان موسرا وإلا سعى العبد كان الأمر هنا هكذا فلا يطيب له ما يدفعه المشتري بل يطيب له ما يغرمه الشريك أو سعى به العبد.
وأما قوله: "فإن زالا" الخ فصحيح لأن العبد المدبر قد عدم المقتضي لبيعه ووجد المانع منه.
وأما قوله: "ويسري إلى من ولد بعده" فليس على هذا دليل يدل عليه لا من رواية ولا من دراية كما قدمنا, أما قوله: "فمن دبره اثنان..." فصحيح لأن السابق بالتدبير قد أوقع العتق مقيدا فيضمن للشريك إن كان موسرا ويسعى العبد إن كان معسرا إذا اختار العبد ذلك على ما تقدم تقريره وهكذا من دبره اثنان ضمنه الأول إن ترتبا وإلا سعى العبد لمن تأخر موته لأنه عتق بموت الأول لكن ينبغي أن يقال إن الأول موتا يضمن من تركته فإن كان فقيرا سعى العبد إن اختار ذلك وإلا فلا يعتق إلا نصيب من تقدم موته ويبقى نصيب الآخر رقا حتى يموت فيعتق جمعا بين الأدلة كما تقدم وأما كون للمدبر قبل الموت حكم الرق فوجهه ظاهر لأنه لم يجعل عتقه مقيدا بالموت إلا لأجل الانتفاع به قبل الموت وأما استثناء البيع فللدليل المتقدم وهكذا سائر التصرفات.

(1/676)


باب الكتابة
قوله: "باب الكتابة"
أقول : ذهب الجمهور إلى أنها غير واجبة وذهبت الظاهرية إلى أنها واجبة ونقله ابن حزم عن مسروق والضحاك وزاد القرطبي معهما عكرمة وهو قول للشافعي واختاره ابن جرير الطبري وحكاه المصنف في البحر عن عطاء وعمرو بن دينار وقال اسحق بن راهويه إنها واجبة إذا طلبها العبد.
احتج القائلون بالوجوب بقوله سبحانه: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33]، وأجاب الجمهور عن الاستدلال على الوجوب بهذه الآية بأجوبة منها ما قاله الإصطخري إن القرينة الصارفة للأمر المذكور في الآية هو الشرط المذكور في آخرها وهو قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فإنه وكل الاجتهاد في ذلك إلى المولى ومقتضاه أنه إذا رأى عدمه لم يجبر عليه فدل على أنه غير واجب ومنها ما قال غيره إن الكتابة عقد غرر فكان الأصل أن لا يجوز فلما وقع الإذن فيها كان أمرا بعد منع والأمر بعد المنع للإباحة ومنها ما قاله القرطبي إنه لما ثبت أن رقبة العبد وكسبه ملك لسيده دل على أن الأمر بالكتابة غير واجب لأن قوله خذ كسبي وأعتقني يصير بمنزلة أعتقني بلا شيء وذلك غير واجب اتفاقا وقد أجيب بأجوبة غير هذه والحق أن الآية قد دلت على وجوب الكتابة مع علم السيد بالخير في عبده وقد عمل بهذه الآية عمر بن الخطاب كما في صحيح البخاري عن موسى بن أنس أن سيرين سأل أنس بن مالك المكاتبة وكان كثير المال فأبى فانطلق إلى عمر فقال كاتبه فأبى فضربه بالذرة وتلى عمر: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33].
[ فصل
يشترط في المكاتب التكليف وملك في الرقبة والتصرف وفي المملوك التمييز وفيها لفظها والقبول في المجلس بالتراضي وذكر عوض له قيمة وإلا بطلت معلوم كالمهر يصح تملكه مؤجل منجم لفظا ولو عجل وإلا فسدت فيعرض للفسخ ويعتق بالأداء وتلزم القيمة].
قوله: "يشترط في المكاتب التكليف".
أقول : وجه ذلك أنها عقد معاوضة والصبي والمجنون غير جائزي التصرف وهكذا يشترط كونه مالكا للرقبة لأن صحة العتق وقبض العوض غير مترتبه على صحة الملك.
وأما قوله: "وفي المملوك التمييز" فلا وجه له بل لا بد أن يكون مكلفا جائز التصرف وأما ما ذكره من القبول في المجلس فالتراضي لا بد منه وهو المناط في ثبوت ذلك ولا يشترط

(1/677)


المجلس بل لو رضي أحدهما بعد مدة والآخر باق على الرضا كان ذلك معاملة صحيحة وتصرفا شرعيا وأما اشتراط ذكر عوض له قيمة فوجهه أنه لا يوجد معنى الكتابة إلا بذلك وإلا لم تكن مكاتبة وهو معنى ما ذكره المصنف من البطلان وهكذا لا بد أن يكون مال الكتابة مما يصح تملكه فإن كان لا يصح تملكه فوجوده كعدمه وحينئذ لا توجد معنى الكتابة.
قوله: "مؤجل منجم لفظا".
أقول : لم يثبت شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا وهو الحجة لا ما وقع من أفعال بعض الصحابة أو أقوالهم على أنهم يختلفون في ذلك فإنه أخرج الدارقطني عن أبي سعيد المقبري قال اشترتني امرأة من بني ليث بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم ثم قدمت فكاتبتني على أربعين ألف درهم فأذهبت إليها عامة المال ثم حملت ما بقي إليها فقلت هذا مالك فاقبضيه فقالت: لا والله حتى أقبضه منك شهرا بشهر وسنة بسنة فخرجت به إلى عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له فقال عمر ارفعه إلى بيت المال ثم بعث إليها هذا مالك في بيت المال وقد عتق أبو سعيد فإن شئت فخذي شهرا بشهر وسنة بسنة قال فأرسلت فأخذته وأخرجه أيضا البيهقي وإذا عرفت عدم وجود دليل على لزوم النتجيم فلا يتم ما ذكره المصنف من الفساد ولا ما رتبه عليه.
[ فصل
ويملك بها التصرف كالسفر والبيع وإن شرط تركه لا التبرع كالنكاح والعتق والوطء بالملك وله ولاء من كاتبه إن عتق بعده وإلا فلسيده ويرده في الرق اختياره ولا وفاء عنده ولو كسوبا وعجزه لا بفعل السيد عن الوفاء للأجل بعد أمهاله كالشفعة فيطيب ما قد سلم إلا ما أخذه عن حق فلأهله ويصح بيعه إلى من يعتقه برضاه وإن لم يفسخ وإذا أدخل معه غيره في عقد لم يعتقا إلا جميعا ولا يعتق ما اشتراه ممن يعتق عليه لا بعتقه ولو بعد الموت بأن خلف الوفاء أو أوفى عنه وله كسبه لا بيعه ومتى أسلم قسطا صار لقدره حكم الحرية فيما يتبعض من الأحكام حيا وميتا ويرد ما أخذ بالحرية إن رق ولا يستتم إن عتق ويسري كالتدبير وتوجب الضمان ويستبد به الضامن إن عجز وله قبل الوفاء حكم الحر موقوفا غالبا].
قوله: "فصل: ويملك بها التصرف كالسفر والبيع وإن شرط تركه".
أقول : هذا يقتضيه عقد الكتابة فليس للسيد المنع منه وهكذا ليس له المنع من التبرع كالنكاح والعتق والوطء بالملك لأنه لم يبق للسيد إلا ما جعله عليه من المال فإن وفى به كان

(1/678)


حرا وإن عجز عنه عاد عبدا وقد وقع منه ما وقع في وقت ملكه للتصرف فلا يمنع من شيء من ذلك وإن انتهى الحال إلى دخول نقص على السيد بما فعله العبد من التبرعات فهو فعل ذلك بإذن سيده له بإيقاع به المكاتبة له ولا ينافي هذا حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد "2/184"، وأبي داود "3927"، والترمذي "1260"، وابن ماجه "2519"، والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأدها إلا عشر أوقيات فهو رقيق"، وفي لفظ لأبي داود "3926"، "المكاتب رقيق ما بقي عليه من مكاتبته درهم"، وقد أثبت المصنف أن للمكاتب ولاء من كاتبه أن عتق بعده وهذا يدل على جواز تصرفاته قبل الوفاء بمال الكتابة بمثل هذا.
قوله: "ويرده في الرق اختياره".
أقول : ليس ببعيد هذا بعد الدخول في الكتابة والتراضي عليها ولا وجه لقوله ولا وفاء عنده فإن الظاهر عد الجواز مطلقا لأنه تلاعب بما قد تحقق فيه المناط الشرعي وهو التراضي وأما عجزه فظاهر لحديث عمرو بن شعيب المتقدم ولكونه لم يحصل بعد العجز ما هو معنى الكتابة وأما كونه يطيب ما قد سلم فوجهه أن العبد لا يملك وأما من قال إنه يملك فلا يطيب للسيد.
وأما قوله: "ويصح بيعه إلى من يعتقه برضاه" فهو أيضا نقض من جهة السيد لما وقع التراضي عليه فلا يحل ولا ينافي هذا حديث بريرة وإعانة عائشة لها على تسليم ما كوتبت عليه أن ذلك هو تسليم لمال الكتابة من الغير لا بيع من المكاتب للمكاتب إلى الغير لكنه ثبت في رواية في الصحيحين [البخاري "5097، 5279"، مسلم "173/1075، 14/1504"]، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق"، فأفاد هذا جواز بيع المكاتب.
وأما قوله: "وإذا دخل المكاتب معه غيره لم يعتقا إلا جميعا" فوجهه ظاهر لأنه رضي لنفسه بذلك.
وأما قوله: "ولا يعتق ما اشتراه ممن يعتق عليه إلا بعتقه" فوجهه أنه لا يملكه ملكا مستقرا إلا بذلك.
قوله: "ومتى سلم قسطا صار له حكم الحرية" الخ.
أقول : استدل القائلون بهذا التبعيض لما أخرجه أحمد "1/260، 292، 263"، وأبو داود "4581"، والنسائي "4809"، والترمذي "3/560"، بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يؤدي المكاتب بحصه ما أدى دية الحر وما بقي دية العبد"، وبما أخرجه أحمد "1/94"، وأبو داود "4/707"، ومن حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يؤدي المكاتب بقدر ما أدى"، وأخرجه البيهقي أيضا من طرق فقد أثبت الشارع للمكاتب التبعض في هذا الحكم فيلحق به غيره مما يمكن تبعضه ولا ينافي هذا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب رقيق ما بقي عليه درهم"، وقوله: "أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأداها إلا عشر أوقيات فهو رقيق"، فإن هذا إنما

(1/679)


هو باعتبار أنه لا يصير حرا خالصا إلا بالوفاء وليس في حديثي التبعض إلا إثبات حكم الكتابة له قبل الوفاء لا إثبات أحكام الحر الخالص فلا معارضة بين الأحاديث.
وأما قوله: "ويرد ما أخذ بالحرية إن رق" فوجهه ظاهر لأنه انكشف بطلان ذلك المقتضى ووجود المانع ولعن كان مقتضى هذا أنه سيتم إن عتق اعتبار بالانتهاء في الموضعين ولا وجه للحكم عليه بأنه يرد إن رق مع الحكم عليه بأنه لا يستتم إن رق لأنه تغليط عليه فيما هو عليه وتخفيف فيما هو له بلا فارق من رواية ولا دراية.
وأما قوله: "ويسري ويوجب الضمان" فالكلام هنا كما قدمنا في التدبير فليرجع إليه.
وأما قوله: "وله قبل الوفاء حكم الحر" فليس بصواب بل الحق ما قدمنا بأن له قبل الوفاء حكما بين حكمي الحر والعبد إلا في رجوعه في الرق إذا عجز فإن له في ذلك حكم العبد.

(1/680)


[ باب الولاء
إنما يثبت ولاء الموالاة لمكلف ذكر حر مسلم على حربي أسلم على يده وإلا فلبيت المال حتى يكمل وولى العتاق يثبت للمعتق ولو بعوض أو سراية أصلا على من أعتقه وجرا على من أعتقه عتيقه أو ولده ولا أخص منه ولا يباع ولا يوهب ويلغو شرطه للبائع ولا يعصب فيه ذكر أنثى ويورث ويصح بين الملل المختلفة لا التوارث حتى يتفقوا وأن يكون كل مولى لصاحبه وأن يشترك فيه والأول على الرؤوس والآخر على الحصص ومن مات فنصيبه فى الأول لشريكه وفي الآخر للوارث غالبا].
قوله: "باب: الولاء إنما يثبت ولاء الموالاة لمكلف ذكر حر".
أقول : استدل على إثبات التوارث بولاء الموالاة بما أخرجه أحمد "4/102"،وأبو داود "2918"، والترمذي "2112"، وابن ماجه "2752"، عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السنة في الرجل من أهل الشرك يسلم على يد رجل من المسلمين؟ قال: "هو أولى الناس بمحياه ومماته" ، قال الترمذي "4/727"،لا تعرفه إلا في حديث عبدالله بن وهب ويقال ابن موهب عن تميم الداري وقد أدخل بعضهم بين عبدالله بن موهب وبين تميم الداري قبيصة بن ذؤيب وهو عندي ليس بمتصل انتهى وقال الشافعي في هذا الحديث ليس بثابت إنما يرويه عبدالعزيز بن عمر بن ابن وهب عن تميم الداري وابن موهب ليس بالمعروف عندنا ولا نعلمه لقي تميما ومثل هذا لا يثبت عندنا ولا عندك من قبل أنه مجهول ولا أعلمه متصلا وقال الخطابي ضعف أحمد بن حنبل حديث تميم الداري وقال عبدالعزيز رواية ليس هو من أهل الحفظ والاتقان وقال البخاري في الصحيح

(1/680)


واختلفوا في صحة هذا الخبر وقال أبو مسهر عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز ضعيف الحديث انتهى وأقول عبدالعزيز من رجال الصحيحين وقد قال يحيى بن معين إنه ثقة وعبدالله بن وهب وثقه الفسوي وقال في التقريب ثقة ولكن لم يسمع من تميم فلا يتم ما قاله الشافعي من أنه مجهول ولكن علة الحديث أن قبيصة لم يلق تميما ولا يعارض هذا ما أخرجه أحمد "4/131"،وأبو داود "2899، 2901"، والنسائي "6354/1، 6357/4"، وابن ماجه "2738"، والحاكم وابن حبان وصححاه وحسنه أبو زرعة الرازي من حديث المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرث" ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أنه وارث من لا وارث له ومولى الموالاة وارث بالحديث المتقدم عنه صلى الله عليه وسلم فهو أقدم من بيت المال وتؤيد هذا ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له"، ولا يعارض الحديث المذكور أيضا ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث عائشة أن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم خر من عذق نخلة فمات فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل له من نسيب أو رحم؟"، قالوا: لا قال: "أعطوا ميراثه بعض أهل قريته"، لأن هذا منه صلى الله عليه وسلم من باب الصرف لما هو أولى به وذلك جائز وهكذا يحمل على الصرف ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث بريدة قال توفي رجل من الأزد فلم يدع وارثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادفعوه إلى أكبر خزاعة"، وفي إسناده جبريل بن أحمر قال النسائي منكر الحديث وقال أبو زرعة الرازي شيخ وقال يحيى بن معين كوفي ثقة وبهذا تعرف أنه لا معارضة بين هذه الأحاديث وإن زعم ذلك بعض أهل العلم ولا وجه لاشتراط الذكوره لأن المرأة من جملة من يتعلق به أحكام الشرع إلا ما خصها منه دليل ولا يصلح لذلك ما في حديث تميم من قوله: "ما السنة في الرجل من أهل الشرك يسلم على يد رجل من المسلمين" فإن ذكر الرجل خارج مخرج الغالب كما في سائر الخطابات الشرعية وأما اشتراط الحرية والإسلام فصحيح لأن الرق والكفر من موانع الأرث.
وأما قوله: "وإلا فلبيت المال حتى يكمل" فمبني على أنه لا حق لغير المكلف في ولاء الموالاة وفيه نظر وعلى التسليم فلا وجه لانتظار حصول شرط لم يكن حاصلا في الحال سواء كان بلوغ الصبي أو حرية العبد أو إسلام الكافر.
قوله: "وولاء العتاق يثبت للمعتق" الخ.
أقول : هذا ثابت بالأدلة الصحيحة المتواترة وبالإجماع الصحيح ولم يقل أحد شيء يخالف ذلك وأما دعوى العتيق إذا لم يخلف سيده وارثا يرثه فمن أعجب ما يقرع الأسماع مع كونها مخالفة للإجماع وأما الاستدلال لهذه الدعوى الداحضة بمثل حديث: "الولاء لحمة كلحمة النسب"، فقد بينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يباع ولا يوهب"، فإن هذا هو المراد بالتشبيه على أنه لا ملجيء للجواب على هذا لأن المراد به أن هذه الوصلة والوسيلة بالولاء لاحقة

(1/681)


بالنسب فيما أثبته الشرع لها ونفاه عنها فما الدليل على أن الميراث من جملة ذلك وبهذا تعرف أن الاستدلال بهذا الحديث مصادرة عن المطلوب وهكذا الاستدلال بحديث: "مولى القوم منهم" فإنه منهم فيما أثبته له الشرع من الأحكام وأما ما روى أن رجلا مات ولو يترك وارثا إلا غلاما كان أعتقه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه وابن ماجه من حديث ابن عباس وفي إسناده عوسجة مولى ابن عباس وفيه مقال فإن هذا ظاهر في أن الغلام هو الذي أعتق وعلى تقدير الاحتمال فلا حجة في المحتمل وعلى كل حال فللصرف في عتيق من لا وارث له مدخل في ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان هو وارث من لا وارث له له نوع أخصية بصرف ميراثه أو بعضه فيه.
وأما قوله: "ولو بعوض أو سراية" فظاهر وهكذا قوله: "أصلا على من أعتقه" الخ.
وأما قوله: "لا يباع ولا يوهب" فللحديث المتقدم وهو في الصحيح ووجه قوله ويلغو شرطه للبائع أن ذلك يستلزم رفع موجب البيع وقد ثبت أن الولاء لمن أعتق ولا يكون العتق إلا من مالك.
قوله: "ولا يعصب فيه ذكر أنثى".
أقول : ينبغي أن ينظر في دليل هذه الكلية فإنه إذا قد ثبت الأرث به كان له أحكامه ومن أحكامه أنه يعصب فيه الذكر الأنثى ولم يثبت في ذلك ما تقوم به الحجة وأما قول بعض الصحابة فلا يصلح للاحتجاج به ولا يخصص ما تقتضيه الأدلة الواردة على ما تقتضيه قواعد الميراث.
أما قوله: "ويورث به ولا يورث" فمعنى إثبات الإرث فيه ظاهر ومعنى كونه لا يورث أنه يستحقه الأعلى درجة كما لو خلف رجل ولدين وقد كان أعتق عبدا فمات أحد الولدين وخلف ولدا ثم مات العتيق فإن ميراثه لابن المعتق دون ابن ابنه الآخر وهذا لا مستند له إلا ما روى أحمد في المسند عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن مسعود أنهم قالوا الولاء للكبر ولكن الأولى الرجوع إلى ما ثبت مرفوعا فهو الحجة وهو ما أخرجه أحمد "1/241، 424"، وأبو داود "2917"، والنسائي "6348/6، 6349/4"، وابن ماجه "2732"، وصححه ابن المديني وابن عبدالبر عن عمر بن الخطاب أنه تخاصم إليه جماعة في مثل هذا فقال أقضي بينكم بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان".
وأما قوله: "ويصح بين الملل المختلفة" فهو مبني على ما تقدم من صحة إيقاع العتق من الكافر وقد قدمنا ما فيه وأما كونه لا توارث بهذا الولاء حتى يتفقوا في الملة فظاهر للأحاديث المصرحة بأنه لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين وهكذا يصح أن يكون كل واحد مولى للآخر كما لو أعتق الرجل عبدا لم لحق الرجل بدار الحرب فسباه عبده الذي هو عتيق له فأعتقه وهكذا يصح أن يشترك فيه الجماعة وذلك بأن يشترك في عبد جماعة فيعتقونه أو يسلم الكافر

(1/682)


على يد جماعة ويكون ولاء العتاق على قدر الحصص وولاء الموالاة على الرؤوس لأن لكل واحد منهم حقا يساوي حق الآخر.
وأما قوله: "ومن مات فنصيبه" الخ فالظاهر استؤ ولاء العتاق وولاء الموالاة في أن نصيب كل واحد منهم لورثته لا لشريكه كما تقتضيه أدلة الميراث على العموم ولا وجه للفرق بين الولائين إلا مجرد الرجوع إلى رأي وقد قدمنا الكلام على قوله: "ولا يورّث".

(1/683)